وَمْضَاتُ نُورٍ
اثنتان وخمسون عظة في مختلف موضوعات الكتاب المقدس
القس . اسكندر جديد
مقدمةأولاً - مواعظ في تمجيد اللهثانياً - مواعظ في وصايا اللهثالثاً - مواعظ في التوبةرابعاً - مواعظ في الوعد بالخلاص وميلاد المسيحخامساً - مواعظ في تعاليم المسيحسادساً - مواعظ في موت المسيح وقيامتهسابعاً - مواعظ في الخلاص بالمسيحثامناً - مواعظ في عناية اللهتاسعاً - مواعظ في الروح القدسعاشراً - مواعظ في الحياة المسيحية١١ - مواعظ في: المسيح معنا في آلام الحياة١٢ - عظة في مجيء المسيح ثانية
مقدمة
كرس القس اسكندر جديد حياته لخدمة المسيح، وقد أشرق رونق محبة الله ونعمته على وجهه، ففتح صبره واكتفاؤه وفرح الرب فيه قلوباً كثيرة لرسالة الرب التي قبلها وآمن بها، وشارك فيها سامعيه.
وفي ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ١٩٨٩ انتقل للأمجاد السماوية، وله من العمر ثمانون سنة، قضى منها أكثر من خمسين سنة في خدمة الرب. أما ما وعظ وكتب فلا زال يتكلم في كل قارات العالم بصوتٍ عالٍ ومسموع.
ويسعدنا أن نصدر هذه العظات الاثنتين والخمسين، من مئات العظات التي ألقاها، تكريماً لرجلٍ خدم الله، ورغبةً في أن ينتفع بها الكثيرون بعد موته، كما انتفع بها كثيرون من الذين سمعوها من فمه.
الناشر
أولاً - مواعظ في تمجيد الله
العظة - ١ «الله محبة» (١ يوحنا ٤: ١٦)
عثر المنقبون عن الآثار في إحدى الخرائب على لوحة حجرية محطمة، فأجروا محاولة لجمع شظاياها وقراءة ما نقش فيها. وبكثير من الجهد توصلوا الى جمع حروف الكلمة الأولى وهي «الله» فراحوا يتساءلون عن مضمون العبارة التالية المفقودة: هل هي كلمة عادل، فتكون الجملة «الله عادل». أجل إن الله عادل، بل هو العدل نفسه. ولكن حين ننظر إلى الله من خلال العدل ترتعب قلوبنا لأننا خالفنا وصاياه، والعدل الإلهي يحكم علينا بالقصاص.
هل الكلمة المفقودة «قدوس»؟ والحق ان الله قدوس بل هو القداسة عينها، وإنما هذه الصفة تحملنا على الهرب من وجهه نظراً لنجاستنا. بقي ان نعرف الصفة التي تقرّبنا إلى الله، وفي ذات الوقت تكمل نص اللوحة.
«الله محبة» قال أحد المتسائلين متذكراً كلمة الرسول المغبوط يوحنا «الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه». قال الرسول بولس « أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة. هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة». لأنه مهما كان الإيمان والرجاء عظيمين فالمحبة أعظم. الايمان بدون المحبة بارد، والرجاء بدون المحبة عابس.
قال أحد الأتقياء: نحن مدعوون لنكون أقوياء في الإيمان، فرحين في الرجاء وكاملين في المحبة. وقد صارت لنا هذه الوصية: البسوا ترس الايمان وخوذة الرجاء، ولكن على جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال.
حين قال يسوع: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» كشف لنا عما في قلب الله من حب عجيب للانسان الساقط. لأنه أحب عالم البشرية الساقطة، ولم يحب عالم الملائكة الساقطين. وإنه لأمر عجيب أن يحب الله عالماً تافهاً كهذا، فيفتديه لنفسه!
صحيح ان كثيرين من عالم البشرية يهلكون، إلا أن الله ببذل ابنه الوحيد أكد بأنه يحب الجميع، لأنه بموت ابنه الكفاري على الصليب قدم للجميع عرضاً عاماً للخلاص. هكذا أحب الله العالم محبة لها طول الأبد، وفقاً لقوله: «محبة أبدية أحببتك، من أجل ذلك أدمت لك الرحمة». ولها عرض اللانهاية، بامتداد ذراعي المصلوب ليضم البشرية جمعاء إلى صدره في قُبْلة المصالحة. ولها عمق الأزل الذي لا يُحدّ، وإنما يُرى في اتضاع المسيح الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شِبْه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. ولها علوُّ السموات، لأنها رفعت المساكين والمنسحقي القلوب الى السماء ليسكنوا مع العلي ساكن الأبد!
الجبال تزول والآكام تتزعزع، أما إحساني فلا يزول وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمك الرب. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة والسيول لا تغمرها، قال سليمان. انها محبة عجيبة بقدر ما الله عجيب في أبّوته للبشر، مما جعل يوحنا الرسول يقول متعجباً: «انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله! من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه».
فليكن اسم الرب مباركاً الى الأبد، لأن محبته تخطت الحواجز ونزلت الينا في يسوع المسيح ليصالحنا. ومن فرط غناها في الرأفة شاءت أن تجعل خلاصنا كاملاً، إذ يبدأ بالخليقة الجديدة ينمو من ملء المسيح ونعمة فوق نعمة، وينتهي الى كل ملء الله.
نسمع أحياناً طفلاً يقول لأمه: «ماما، أرني كم تحبينني» فتضمه الى صدرها في قبلة طويلة. أما نحن فحين نسأل الله كم يحبنا، يشير الى صليب ابنه ويقول: «ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه». وحينئذ يرتفع صوت إشعياء النبي قائلاً: «لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحُبُره شُفينا».
ويليه صوت بولس إذ قال: «الذي لم يشفق على ابنه بل بذله من أجلنا أجمعين». فإن كنت يا أخي لم ترَ محبة الله في الصليب، وإن كنت لم تدرك ما تقوله اليدان المثقوبتان بالمسامير، فالفرصة لم تزل سانحة لك لتسمع صوت ابن الله، الذي قال وهو على الصليب: «يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!» هذه الكلمة أذابت قلب اللص الذي صُلب إلى جوار الرب فقال: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك». وهي ما زالت تذيب قلوب كثيرين وتجذبهم الى صليب الرب:
تقول احدى ترانيمنا:
حب عظيم واسعٌ سامٍ يأتي بعاصٍ جاهلٍ مثلي الى محبٍّ حبّه أفضى الى عذابِ الصلب من أجلي
نعم هذه محبة الله، وقد غفرت إثمنا وسترت خطيتنا وتبنَّتنا لله. وكيف لا نفرح ونهلل والكلمة الرسولية تقول إن المسيح لا يستحي أن يدعونا إخوة. وكيف لا نُسرّ ومحبة الله ترفرف فوق رؤوسنا وتضفي علينا شرفاً وكرامة. أو كما قالت عروس النشيد: «عَلَمه فوقي محبة».
المحبة لا تسقط أبداً، قال الرسول. صحيح إننا نمرّ أحياناً في ظروف غير ملائمة نعايش فيها المستهزئين، فيضعف ولاؤنا للرب، كما كانت الحال مع الابن الضال. ولكن لا توجد وسيلة ولا قوة تستطيع ان تحّوِل حب الله عنا.
كان مسيحي على فراش المرض وحوله نفر من الاخوة يصلّون لأجله، فقال أحدهم: يا رب اشفِ أخانا، فأنت تعلم كم هو يحبك. فقاطعه الأخ المريض قائلاً: لا تصلِّ هكذا يا أخي، لأن ليست محبتنا الضعيفة هي التي تعطينا نِعَم الله، بل حبه الكامل يعطينا كل شيء. فاستدرك المصلي وقال: اذن لأردّد طلبة الرسول بولس من أجل أهل تسالونيكي: «الرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وصبر المسيح».
فلنقل يا رب اهدِ قلوبنا إلى محبة الله وصبر المسيح. وحينما تلوح لنا الأشياء البراقة في هذا العالم ونشعر بالانجذاب إليها، أو حينما تتملقنا الخطية بشهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة، أو حينما تهب عواصف الضيقات، أو حينما يصيبنا فشلٌ أو يأس - لنسأل الله أن يهدي قلوبنا الى محبة الله في صبر المسيح. حينئذ يؤيدنا الله ويعيننا ويعضدنا بيمين بره، ويُخرج ويُجري مثل النور برنا وحقنا مثل الظهيرة. وكم سيحلو لنا عندئذ التسليم الكامل لمشيئة الله الصالحة المرضية الكاملة. قائلين مع يوحنا الحبيب: «ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا». ومرنمين وقائلين:
فكيف أنسى حب ذا الفادي مَنْ مات مِنْ أجلي فأحياني من أجل ذا يحبه قلبي فهو إذن رئيس إيماني
العظة - ٢ «السموات تحدث بمجد الله» (مزمور ١٩: ١)
منذ أيام قليلة كنت ألقي نظرة على أوراق قديمة تحتوي مقتطفات من الصحف، وإذا بنظري يقع على نبأين مفاد أولهما ان مجلة التايم تزعم بأن الله قد مات، والثاني مفاده أن إذاعة موسكو تتحدى الله أن يُثبِت وجوده بصنع معجزة. قرأت هذين التجديفين فتألمت لصفاقة الانسان وغباوة قلبه. ولم ألبث ان تذكرت كلام الله في المزمور الرابع عشر: «قال الجاهل في قلبه: ليس إله!».
صحيح ان أبناء هذا الجيل قد أحرزوا تقدماً في مجالات العلم والاكتشاف، ولكن معظمهم «لم يستحسنوا أن يُبْقوا الله في معرفتهم، فأسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوضٍ، ليفعلوا ما لا يليق». فصرخت غباوتهم في الصحف والإذاعات بتجاديف على اسم الله. صدق القول الالهي: «ان شر الانسان قد كثُر في الأرض وإن تصّور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم». الشرير بشهوات نفسه يهين الله. الشرير حسب تشامخ أنفه يقول أن لا إله.
«العلم ينفخ» قال الرسول بولس، فعلماء ومفكرو عصرنا الذين غزوا الفضاء انتفخوا بنجاحاتهم. ولكن الانتفاخ شرٌّ كريه، وشرُّ ما فيه أنه يقود إلى الحماقة. وهل من حماقة أشد من هذه أن تنعى مجلة التايم الله الأزلي الأبدي خالق كل شيء، وأن تتحداه اذاعة موسكو وتطالبه بإثبات وجوده؟! مع العلم ان الله «عن كل واحد منا ليس بعيداً، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد». ولكن هذه الخطية الخاطئة جداً «أعمت أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة مجد انجيل المسيح». والشهوات الردية طمست على بصائرهم حتى لا يروا «أن السموات تحدّث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه».
لينظر علماء هذا الجيل أقمارهم التي أرسلوها في الفضاء كيف تسقط الواحد تلو الآخر، ولما يمضي على إرساله سوى أشهر معدودة. أما الأقمار التي صنعها الله من بدء الخليقة فما زالت تدور في أفلاكها منذ ملايين السنين.
آه! أبناء هذا الدهر يطلبون آية، ولكن المسيح الذي كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان، يستهزئ بهم، ويردد في مسامعهم ما قاله لليهود قديماً: «جيل شرير وفاسق ويطلب آية، ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الانسان في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال». هذه هي آية الله العظمى: قيامة ربنا يسوع المسيح من الأموات متحدياً الموت والهاوية.
فهذه الآية ما زالت تتكرر منذ عشرين قرناً كل يوم بقيامة الآفٍ من موتى الذنوب والخطايا ليسلكوا في جِدَّة الحياة. نعم هذه هي آية الآيات بالميلاد الثاني وتجديد الروح القدس. بها يصير الكافر مؤمناً، والفاجر قديساً، والشرس حملاً وديعاً، واللص شريفاً، والقاتل إنساناً جديداً صانعاً سلاماً.
أعرف إنساناً كان إلى عهد قريب لا يمتّ إلى المسيح بصلة، تائهاً في الحياة، ضالاً في العالم، بلا مسيح، بلا إله، بلا رجاء في العالم. وكان ينحدر وينحدر الى الهاوية بخطى واسعة سريعة، ولكن فجأة حدث له أمر عجيب: واذا به يقف، ثم يخرج من جب الهلاك ويغتسل مما علق به من أدران الحمأة التي تردّى فيها. وإذا بالوجه المشّوه بالخطية يشعّ بإشراقة نورٍ ليس من هذا العالم، وإذا بالفم المجدف الحالف الكاذب يترنم قائلاً هللويا! «كأس الخلاص أتناول وباسم الرب أدعو».
إنه في لحظة في طرفة عين، عرف الحق والحق حرره من ربقة الباطل، وأرسله في حرية مجد أولاد الله.
كان ميتا ًًفي الذنوب والخطايا فأحياه الله مع المسيح «وأقامه معه وأجلسه في السمٰويات» هذه أعجوبة الدهر الفريدة! وهي تفوق بما لا يُقاس إرسال الأقمار والمركبات الى الفضاء، ولو كره المجدفون. ومع ذلك فأبواق التجديف «لها أعين ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع». ان السماء تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلاماً، وليل إلى ليل يُبدي علماً.
صدق القول الإلهي: «ناظراً كثيراً ولا تلاحظ، مفتوح الأذنين ولا تسمع، شعب منهوب ومسلوب، قد أصطيد في الحفر كله، وفي بيوت الحبوس اختبأوا. صاروا سلباً للضلالات وليس من يقول: رُدّ».
أيها الصم اسمعوا! أيها العمي انظروا!
انظروا لتبصروا أن السمٰوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه.
خرج عالمنا من الحرب العالمية الثانية مقطع الأوصال مضرجاً بالدم. وبالرغم من وعود قادة الأمم والشعوب بإحقاق الحق، وإقامة دعائم السلم، وتوطيد العدالة الاجتماعية، فالعالم لم يستطع حل مشاكل ما قبل الحرب، ولا ما بعدها. بل ان الحالة تتردى أكثر فأكثر، والسبب هو ان البشر لم يتركوا حماقاتهم، فاحتجزتهم حماقاتهم في أهواء الهوان. والخطية الخاطئة جداً أفسدت الناس بفساد مزدوج: فساد الخُلُق وفساد التفكير. فكثر الإثم وبردت محبة الكثيرين، فتركوا الايمان المسلَّم مرة للقديسين، وابتعدوا عن حياة الله ليسلكوا بُبطل ذهنهم. وشر ما ابتلى به جيلنا هو عدد عديد من المفكرين العديمي النزاهة، الذين ابتدعوا آراء ماكرة لتغيير شكل الخطية وجعلها مقبولة لدى البسطاء من الناس. قالوا: ما دام الكذب لا يلحق ضرراً بصاحبه، بل أحياناً ينقذه من مآزق حرجة فلا بأس بممارسته.
ثم ارتاحوا الى الفكرة واذا بهم يقولون: هذا ليس كذباً، بل هو دهاء. وقالوا ما دام المسكر يفتح الشهية للطعام فأضراره الأدبية يمكن التغاضي عنها. ثم أُعجبوا بالفكرة، واذا بهم يقولون: هذه ليست مسكرات بل مشروبات روحية مستخرجة من العنب! وقالوا: ما دام المنكر والقمار يجذبان السياح فلنضع لهما نظاماً ولنسمّ أوكارهما بيوت ملاهي ودور ترفيه. وقالوا: هذا الذي يسميه الناس غشاً ما دام يؤمّن ربحاً جزيلاً فلنتجاوز عنه، وفقاً للمبدأ القائل: الغاية تبرر الواسطة. هذا ليس غشاً بل هو وسيلة شاطرة لزيادة الدخل.
مسكين عالمنا! «انه وُضع في الشرير» والشرير حبس عليه في الظلمة وأرسل أبالسته للاستحواذ على ألسنة وأقلام مفكريه. واذا بهؤلاء يصرخون في وجوهنا: أيها المؤمنون، أين هو إلهكم؟ ما باله لا يحرك ساكناً؟ لماذا لا يثبت وجوده ويصنع آية
يا لموتى الآثام!!! الشمس تشرق كل صباح، وتغرب كل مساء، وهي دليل على عظمة وقدرة وحكمة إلهنا وعنايته. فإن كان العمي لا يتمتعون بنورها فالخطأ يقع على عيونهم التي لا تبصر. الله نور وليس فيه ظلمة البتة، قال الرسول يوحنا، وهذا النور صار جسداً وحل بيننا. ولكن أبناء هذا العالم أحبوا الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة. ولهذا قال النور المتجسد يسوع: «كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي الى النور لئلا تُوبَّخ أعماله».
يقال إننا نعيش في عصر الذرة الذي هو عصر النور. هذا الادّعاء كان ممكناً أن يصير حقيقة لو لم تسرع الخطية وتضع يدها على الذرة وتحولها الى أسلحة قتالة. وأسوأ ما في الأمر هو أن المتسلطين في العالم راحوا يتسابقون في تطوير الأسلحة الذرية وجعلها أشد فتكا وتدميراً. وهم في ذلك يصرفون مبالغ خيالية من الأموال بينما مئات من الملايين يعانون الجوع والمرض والعري. وليس من يسمع صرخة المسيح: «كنت جائعاً فما أطعمتموني. كنت مريضاً فما زرتموني. كنت عرياناً فما كسوتموني». ألا ما أتعس العلماء بدون الله! لأن النور الذي فيهم صار ظلاماً، والظلام الذي فيهم صار موتاً.
في حلكة هذا الظلام وفي غمرة هذه الموجة من الكفر التي غزت مجتمعاتنا، دُعيتم الى تأدية شهادة الملح والنور لتوبخوا أعمال الظلمة والفساد. أنتم ملح الأرض قال ربكم، فإن فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يُطرح خارجاً ويُداس من الناس. أنتم نور العالم. لا تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت.
إن معظم حاملي اسم المسيح قد انحرفوا عن خط دعوة الله العليا في المسيح يسوع، فوضعوا نور المسيح تحت مكيال من سلوكهم الرديء. ولست بمبالغ إن قلتُ إن أكثرية الملحدين المجدفين على الله هم من أصل مسيحي. ومن هنا قامت الضرورة إلى شهود أمناء لإخراج نور الإنجيل من تحت المكيال ووضعه على المنارة. هؤلاء الشهود هم أنتم الذين فداهم الحمل وخلّصهم وقدسهم.
اذكروا وصيته القائلة «فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات».
العظة - ٣ «الرب نوري وخلاصي، ممن أخاف؟» (مزمور ٢٧: ١)
ما قرأت هذه الآية مرة إلا وامتلأت نفسي بالاطمئنان. واطمئناني هذا هو حاصل ثقتي الكاملة في الله، الذي هو نورٌ وخلاص لكل الذين يدعونه بالحق.
رسم فنان لوحة عنوانها «هدوء في قلب العاصفة» فصوَّر بحيرة متلاطمة الأمواج وفي وسطها صخرة كبيرة عالية. وفي تجويف بأعلى الصخرة عش جثم فيه عصفور، مستغرق في النوم. فزئير العاصفة حوله، وهدير الأمواج وقصف الرعود لم تستطع منعه من التمتع بإغفاءة ناعمة. كان هدوء العصفور مرتكزاً على وجود عشه في رأس تلك الصخرة، التي لا تستطيع أعتى الأعاصير أن تزعزعها.
هكذا من كانت طمأنينته مستندة على صخر الدهور ربنا يسوع المسيح، لا تستطيع اضطرابات هذا العالم ولا أرزاؤه أن تزعزع سلامه. هذه الحقيقة أوحت بالترنيمة المجيدة القائلة:
إنْ تطمُ حولي النائبات كاللجّ وسط البحر يدُمْ سلامي في ثبات أساسه في الصخر
يقال إن داود نظم مزمور ٢٧ حين كان جيش شاول الملك يطارده للقضاء عليه. ومع أن المطاردة كانت عنيفة حتى الموت فقد كان داود مطمئناً نتيجة اختباره لأمانة الله الذي اتكل عليه، فامتلأت نفسه بالفرح وراح ينشد: «الرب نوري وخلاصي، ممن أخاف؟ الرب حصن حياتي، ممن أرتعب؟ لما اقترب الأشرار ليأكلوا لحمي، مضايقيَّ وأعدائي عثروا وسقطوا».
فالرب الذي أسقط جليات الجبار في يده لم يتغير، ولم يزل هو هو، سنداً قوياً وحصناً متيناً لكل من يلتجئ اليه. كان يوم الشر موجوداً فعلاً، ولكن ثقته في الله كانت أقوى من اليوم الشرير. كان موقناً كل الإيقان أن الرب سيخبئه في مظلته يوم الشر. فقال: صرت كآبةً لكثيرين، أما أنت فملجأي القوي. أقول للرب ملجأي وحصني إلهي فأتكل عليه.
نحن نعيش في زمن مفعم بالخوف والخطر، لأن شبح الحرب مخيّم دوماً على الناس، ولهذا في المدن الكبرى لا تسمح البلديات لأحد أن يشيد بناء إلا إذا تعهد بإنشاء ملجأ تحت البناء، يصبح حين إنشائه تحت تصرف الدفاع المدني، لوقاية السكان أثناء الغارات الجوية. ولكن هذه الملاجئ مهما بلغت متانتها ليست ضماناً أكيداً للجميع، فقد تُصاب الأبنية بالقنابل الشديدة الانفجار مباشرة فتدمَّر كلياً. وقد لا يصل إليها الجميع في أثناء الغارة.
أما الملجأ الحصين، ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، فهو ضمان أكيد في يوم الشر. قال كاتب سفر الأمثال ١٨ «اسم الرب برج حصين، يركض اليه الصديق ويتمنّع».
«الله لنا ملجأ وقوة عوناً في الضيقات وُجد شديداً. لذلك لا نخشى ولو تزعزعت الأرض ولو انقلبت الجبال الى قلب البحار».
كان سائح يتسلق احدى قمم جبال الألب الشامخة، ولما وصل الى مكان صخوره ملساء، خاف من السقوط. ولكن دليله مدّ يده وقال له: «لا تخف، فهذه اليد القوية ما اتكل عليها إنسان وهلك». فوثق السائح باليد الممدودة وتابع سيره باطمئنان وثقة كاملة. فإن كانت يد بشرية واثقة من قوتها ومرونتها تشيع الاطمئنان في قلب المتكل عليها، فكم بالحري تكون يد القدير التي لم تقصر عن أن تخلص مَنْ أوْلى بالثقة؟
لنذكر وعود الله المقطوعة لنا: «لا تخف لأني فديتك. دعوتك باسمك. أنت لي. إذا اجتزتَ في المياه أنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك، وفي اللهيب فلا يحرقك. لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيمتك، لأنه بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمي. لأنك قلت يا رب ملجأي، جعلت العليَّ مسكنك. إذا نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي»! ولو سئل: لماذا لا يخاف قلبك؟ لأجاب فوراً: لأني جعلتُ الرب متكلي، فهو عن يميني فلا أتزعزع. ترسي هو وقرن خلاصي. الرب ملجأي ومناصي.
فإن قال أحدنا: أنا خائف من جهة خطاياي، يقول له في اشعياء النبي: «هلم نتحاجج يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف. أنا هو الماحي ذنوبك من أجل اسمي، وخطاياك لا أذكرها». وإن قال أنا خائف من الأخطار التي تهدد حياتي، يقول له في المزمور ١٠٣ «أنا أفدي من الحفرة حياتك». وإن قال: أنا خائف من جهة طعامي، يقول له المسيح: «أنتم أفضل من عصافير كثيرة. اتقوا الله يا قديسيه فليس عوزٌ لمتقيه. الأشبال احتاجت وجاعت أما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير». وان قال أنا خائف على مستقبلي، يقول له: «لا تخف. أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية». وإن قال: أنا خائف من أعدائي، يقول له: «من يمسكم يمس حدقة عينه».
«بالرب تفتخر نفسي لأنه من كل مخاوفي أنقذني».
قيل إن الأمير بايارد كان يفتخر بأنه يستطيع أن يسند رأسه الى ركبة أي من رعاياه وينام مطمئناً. فقال له أحد أقربائه: «لك ان تفتخر بولاء رعاياك وتنام مطمئناً في حضن أي منهم. أما أنا ففخري بالرب الذي أستطيع أن أنام مطمئناً في حضن رعايته».
شكراً لله وألف شكر! فهذا الامتياز العظيم مُنح لكل واحد منا، لأن راعي النفوس وأسقفها قال: «من يُقبل إليَّ لا أخرجه خارجاً... تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم».
قد يستطيع العالم الشرير ان يبتلينا بالضيقات وأن يعاملنا أبناؤه بقسوة. ولكن لا توجد قوة ولا خليقة تقدر أن تسلبنا امتيازنا في المسيح. ولا أن تزيل رحمته المحيطة بنا، أو تستأصل محبته التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا.
قال الرسول بولس: «من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟ فإني متيقن انه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، لا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا».
لنا إيمان أيها الإخوة، وإيماننا يغلب ويتزكى، لأن موضوع إيماننا هو المسيح، والمسيح قال: «في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم». ولنا رجاء ينتظر، وسينال ما يرجوه، لأن الله «ولدنا ثانية لرجاءٍ حي بقيامة يسوع من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السمٰوات لأجلنا».
ولنا محبة، والمحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج، لأنها تحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وتصبر على كل شيء وترجو كل شيء.
ويختم المرنم مزموره الرائع بالقول: «انتظر الرب. ليتشدد وليتشجع قلبك وانتظر الرب. ما أحلى انتظار الرب، لأن منتظري الرب يجدّدون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون».
حين علت الأمواج على سفينة التلاميذ وهم في عرض البحر اضطربوا وجزعت قلوبهم. ولكن فيما الخوف يرعبهم اقترب يسوع منهم ماشياً على وجه الماء وقال: «لا تخافوا. أنا هو». ويا لها من كلمة تشيع الاطمئنان في النفس. وقد كتبت في الإنجيل حتى حين نتلوها نذكر أن الفادي الرب الذي انتهر العاصفة وأسكتها، هو أيضاً فادينا. وهو يستطيع أن ينتهر مخاوفنا ويُشيع السلام والطمأنينة في قلوبنا المؤمنة به. وهو يتمم وعده معنا كل الأيام الى انقضاء الدهر. لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار.
العظة - ٤ «كلَّلْتَ السّنة بجودك» (مزمور ٦٥: ١١)
نهاية عام وبداية عام آخر تعني أننا مشينا خطوة أخرى في اتجاه الأبدية، ومن يدري؟ فقد تكون الأخيرة! فماذا أعددنا للرحلة العتيدة من هذه الدنيا الفانية؟ هذا سؤال نترك الجواب عليه لتقدير كل واحد منا!
قال المسيح: وكأنما إنسان مسافر دعا عبيده وسلّمهم أمواله، فأعطى واحداً خمس وزنات، وآخر وزنتين، وآخر وزنة واحدة كل واحد حسب طاقته. وسافر. وبعد زمان طويل أتى سيد أولئك العبيد وحاسبهم. فجاء الذي أخذ الخمس وزنات وقال: يا سيد خمس وزنات أعطيتني، هوذا خمس وزنات أخر ربحتها فوقها. فقال له سيده: نعمّاً أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير ادخل الى فرح سيدك. ثم جاء الذي أخذ الوزنتين، وقال: يا سيد، وزنتين سلمتني. هوذا وزنتان أخريان ربحتهما فوقهما. فقال له سيده: نعمّاً أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير، ادخل الى فرح سيدك. وأخيراً جاء الذي أخذ الوزنة الواحدة وقال: يا سيد عرفتُ أنك انسان قاسٍ، تحصد حيث لم تزرع وتجمع من حيث لم تبذر. فخفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض. هوذا الذي لك. فقال له سيده: أيها العبد الشرير والكسلان، عرفتَ أني أحصد حيث لم أزرع، وأجمع من حيث لم أبذر. فكان ينبغي أن تضع فضتي عند الصيارفة، فعند مجيئي كنت آخذ الذي لي مع ربا. خذوا منه الوزنة وأعطوها للذي له العشر وزنات، لأن كل من له يُعطى فيُزاد، ومن ليس له فالذي عنده يُؤخذ منه. والعبد البطال اطرحوه الى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان!
هل عرفت يا أخي انك مدعو لتقديم الحساب عن الوزنات التي تسلّمتها؟ والوزنة الأولى هي نفسك العزيزة التي هي هبة الله، فإن كنت قد دفنتها في توافه هذا العالم، أخشى ان تلاقي مصيراً رهيباً حين يدين الله سرائر الناس.
وقد تكون وزنتك الثانية أفراد عائلتك الذين تحبهم، فان كانت حياتنا معثرة لهم، أخشى أن تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله.
وقد تكون وزنتك الثالثة سني العمر التي عشتها، ولكنك أمضيتها معرّجاً بين يسوع والعالم.
كنتَ في الكنيسة قريباً من ملكوت الله ولكنك لم تدخله. أفلا تظن أن في هذا استهانةً بلطف الله وإمهاله وطول أناته. ومن يستهين بلطف الله وإمهاله وطول أناته يذخر لنفسه دينونة الله.
السنة الجديدة هي بالنسبة للطريق التي نسير عليها منعطف آخر، جديد، وراءه مناظر جديدة، تختلف عما رأيناه في العام الماضي. وقد تكون هذه السنة مليئة بصعوبات جديدة يجب أن نذللها بالكفاح مع الله. وقد تفتح أمامنا دروباً جديدة وعرة، يجب أن نسلكها. ولكن هذه نستطيع ان نسلكها دون تعثّر إن جعلنا الرب متكلنا وسلمنا كل شيء لإرادته الصالحة المرضية الكاملة.
وفي أي حال فالسنة الجديدة هي دعوة جديدة من الله لنكون أكثر قرباً منه وأكثر طهارة، وأكثر براً، وأكثر حقاً، وأكثر وفاءً، وأكثر أمانةً، وأكثر اعترافاً بفضل الله الذي دعانا دعوة مقدسة.
نقرأ في الرسالة الى كولوسي: «فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفاتٍ ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة، محتملين بعضكم بعضاً، ومسامحين بعضكم بعضاً. وعلى هذه جميعها البسوا المحبة التي هي رباط الكمال، وليملك في قلوبكم سلام الله الذي اليه دُعيتم في جسد واحد، وكونوا شاكرين».
فلنحمل هذه الآيات العزيزة دستوراً لحياتنا في السنة الجديدة. فنشكر المنعم الجواد على حسناته الكثيرة الينا في العام الماضي. ونشكره على حسناته الجزيلة التي نتوقعها في العام الجديد.
كان الرسول بولس شكوراً، وكان الشعار الذي أطلقه من السجن: «كونوا شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع». فلنحمل الشعار الذي أطلقه الرسول الكريم مهما كانت الحال صعبة.
قيل إن أرملة فقيرة لم يكن لها ولولديها الصغيرين أسرّة يضطجعون عليها ولا أغطية دافئة يتدثرون بها. مما حملها في ليلة عاصفة شديدة البرد على خلع باب القبو ووضعه أمام الزاوية التي قبعت فيها مع الولدين لتردّ مجرى الهواء البارد. وفيما هي تشكو دهرها، قال لها أحد الولدين: ماما يجب أن نشكر الله لأن لنا باب قبوٍ يردّ عنا الهواء البارد. وأن نصلي من أجل الذين ليس لهم باب قبو! فهذا الولد مع فقره وبؤسه، وجد سبباً يستوجب الشكر، فكم بالحري نحن الذين لنا كل ما يلزم للراحة، يجب أن نشكر؟!
«باركي يا نفسي الرب وكل في ما باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته، الذي يغفر جميع ذنوبك الذي يشفي كل أمراضك، الذي يفدي من الحفرة حياتك، الذي يكللك بالرحمة والرأفة، الذي يشبع بالخير عمرك فيتجدد مثل النسر شبابك». فلنقتد بالمرنم الحلو، ولنبارك اسم إلهنا ولنقدم له قلوبنا ذبائح شكر.
صحيح ان قلوبنا قاسية والى حد ما دنسة، ولكن الرب يسوع يستطيع ان يلينها بصب زيت الروح القدس، ويطهرها بدمه المبارك من كل إثم. فلننْحَنِ عند قدميه متواضعين وسائلين أن يكمل عمله الصالح في حياتنا.
نعم أيها الأعزاء، إننا في مناسبة تستدعينا أن نقدم الشكر، حتى إذا تلبَّد أفق حياتنا بغيوم الكآبة لا ننحني متذمرين. بل بالحري نردد بركات الرب شاكرين. وحين نترنح على المنحدر تحت ثقل الصليب لا نئن مدمدمين. وحين ينتابنا مصاب لا نحزن كالباقين الذين لا رجاء لهم، بل نذكر ذاك الذي أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها.
علق أحد الافاضل على قول بولس: «اشكروا كل حين على كل شيء» فقال: ان كان الترنيم خير معبر عن الفرح الذي يغمر القلب، فان الشكر من أظهر الأدلة على أن الإنسان مؤمن حقاً، وانه عرف المسيح وذاق حلاوة خلاصه.
فالشكر كان ملازماً للمسيح في كل أدوار حياته وخصوصاً حين كان يتحفَّز للقيام بعمل خطير. فأمام قبر لعازر وقف شاكراً، وفي الليلة التي أسلم فيها شكر على الكأس التي ترمز الى دمه. فإن كان فادينا شكر لأجل كأس الآلام والموت، أفلا يجدر بنا أن نشكر ونشكر من أجل كأس الخلاص؟ أجل يجب أن نشكر الله على كل شيء، على أشواك الحياة كما على ورودها. وأن نحمده على دموع الفشل، كما على ابتسامة النجاح. لنشكره على كل شيء يختاره لنا، لأن ما يختاره لنا خيرٌ مما نختاره نحن لأنفسنا. لنشكره ما دام لنا لسان يستطيع القول: نشكرك أيها الآب لأجل جميع حسناتك.
إن أردنا السير وراء المسيح، والتشبُّه به في لطفه، والتحلي بوداعته وطول أناته، وإن أردنا أن نمتلئ من حبه، فلنمارس الشكر. إن فعلنا هذا لا بد ان تهبّ علينا نسمة معطرة بالفرح في الروح القدس. كم هو جميل ورائع ان ندخل السنة بالفرح المتعبد وفقاً للوصية القائلة: «اعبدوا الرب بفرح، ادخلوا إلى حضرته بترنم».
ثانياً - مواعظ في وصايا الله
العظة - ٥ «كم أحببتُ شريعتك. اليوم كله هي لهجي» (مزمور ١١٩: ٩٧)
الكتاب المقدس رسالة السلام. ولا غرو فالكتاب الإلهي يقدم للعالم يسوع المسيح رئيس السلام، وقد جاء في آياته البينات «سلام، سلام للبعيد وللقريب. قال الرب: سأشفيه». وقال عن الكارزين به: «ما أجمل على الجبال أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخيرات المخبرين بالخلاص». إنه كلمة الحق التي تُحكِّم للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع. انه رسالة البر الذي يعقبه سلام الله الذي يفوق كل عقل، كما هو مكتوب فيه: «فإذ قد تبررنا بالايمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح».
فيه الطريق التي تؤدي بنا إلى الفادي الرب ليردّنا إلى سُبل البر من أجل اسمه. وفيه جاءت البشرى أن الرب يعطي عزاً لشعبه، الرب يبارك شعبه بالسلام. الرب يتكلم بسلامٍ لشعبه ولأتقيائه. وقد قال له المجد: «سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا». انه الكتاب الوحيد، الذي يناسب جميع البشر، لا فرق يبن جنس أو لسان أو لون. يجد الجميع في نصوصه حاجتهم الروحية، إذ يقودهم الى ما هو لسلامهم. إنه يناسب إنسان عصر الذرة كما ناسب من تقدموه في كل العصور، لأن فيه التعليم الإلهي الذي يرفع مستوى البشر روحياً وأدبياً واجتماعياً. ويجعل من كل إنسان يقبله إنساناً نزيهاً صانعاً سلاماً يحب قريبه كنفسه ويحب عدوه كقريبه. وفيه الأخبار السارة عن حب الله العجيب للإنسان. وقد ظهر هذا الحب فعلاً بارتفاع يسوع على الصليب، لفداء الإنسانية من إثم وقصاص الخطية. وفيه يتكلم الله إلى قلب كل إنسان، لا فرق بين عالمٍ وجاهل، قوي وضعيف رفيع ووضيع.
إنه يناسب السود من ساكني الأدغال، إذ سرعان ما ينقلهم من حال الوحشية الى المدنية. كما صار في قبائل الباروتزو أكلة لحوم البشر. فهؤلاء إذ كانوا مظلمي القلوب والأفكار، بعيدين عن حياة الله، نقلهم إلى إنارة مجد المسيح. وسرعان ما نبذوا السحر وأعمال الشعوذة وأبطلوا الولائم التي كان لحم الانسان يُقدَّم فيها. وناسب الكتاب العزيز الصُّفر من سكان جزر الباسفيك، فنقلهم من ظلمة الوثنية وأرجاسها الى نور المسيحية وطهارتها. وترك قنّاصوهم عادة صيد الناس من القبائل الاخرى لنحرهم على مذبح الآلهة كضحايا، ثم التهام لحومهم. ويناسب الكتاب الكريم الشعوب التي لم تستطع حضارتها القديمة رفع مستواها الخلقي.
ففي الصين وبخ الكنفوشيوسية التي تحتقر المرأة وتجعلها متاعاً للرجل، وأدان البوذية والبرهمية اللتين تمارسان البغاء الهيكلي، بتقديم فتيات قاصرات تحت اسم زوجات الآلهة. وهو يناسب الأبيض المتمدن لأنه يعلمه المدنية الحقيقية التي تعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. ويشيع في كل بلد الديمقراطية الصحيحة التي أساسها القاعدة الذهبية القائلة: «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم هكذا أيضاً بهم».
منذ ما يقرب من الخمسين عاماً مرَّ مبشر بجزيرة أوكيناوا وأقام أياماً قليلة في قرية شيما بوكو البالغ عدد سكانها ألف نسمة. وخلال اقامته القصيرة، تجدّد شخصان هما ماموار، حاكم القرية وشوسي كينا، ناظر مدرستها. فعلّمهما المبشر ترنيمتين مطلع الأولى «تّوِجوه ملكاً» ومطلع الثانية «اسمٌ عزيزٌ قد سما» وقبل انصرافه أعطى كلاً منهما كتاباً مقدساً باللغة اليابانية، وطلب إليهما أن يسلكا بحسب تعاليمه. فدرسا الكتاب المقدس معاً ووجدا في شخص يسوع المثال الذي يُحتذى به، فتبعا خطواته وجعلا الوصايا العشر قانوناً مدنياً للقرية، ومن العظة على الجبل دليلاً للسلوك الاجتماعي. وفي المدرسة استعمل الناظر الكتاب الالهي ككتاب قراءة للتلاميذ يتناقلونه من يد إلى يد. وفي مجال العدل جعل الحاكم أحكام الكتاب العزيز مصدراً للتشريع. أما الأهالي فقد أخذوا منه أفكارهم عن الكرامة والحقوق والواجبات الاجتماعية. ونجم عن كل ذلك، أنه منذ ذلك الحين أُغلق باب السجن، وأَقفرت الخمّارة، وهُجر بيت الفسق وبطل الطلاق. وهكذا أحدث الكتاب المقدس في تلك القرية ديموقراطية تحسدها عليها أرقى شعوب العالم.
وقد قيل إن صحفياً أمريكياً، مرَّ في تلك القرية خلال الحرب العالمية الثانية فشاهد أهل القرية مجتمعين في بيت العبادة. وبينما هو يتأمل بساطة العابدين وهم يرنمون، لاحظ وجود ثقب أحدثته شظية قنبلة في جدار البناء خلال المعارك التي حصلت هناك. فقال لمرافقه: إن كان هذا ما يفعله الكتاب المقدس بواسطة رجلين أرادا أن يعيشا مثل يسوع، فلقد أخطأت امريكا في اختيار السلاح لأجل إصلاح العالم. هذا هو كتاب الله أيها الأحباء، إنه كتاب الكتب بلا منازع. قال الرئيس أيزنهاور: «قراءة الكتاب المقدس معناها القيام برحلة الى أرض جميلة فيها تتقوى الروح». وقال شاعر فرنسا الكبير فيكتور هيجو للمسؤولين في بلده: «يا ليتكم تزرعون فرنسا كتباً مقدسة، فتضعون نسخة في كل بيت».
وفوق كل شيء فلكتاب الله خصائص ينفرد بها دون كتب البشر، فهو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر. ليكون إنسان الله كاملاً متأهّباً لكل عمل صالح.
وجاء في الرسالة الى العبرانيين: «إن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيفٍ ذي حدين، وخارقة الى مفارق النفس، ومميّزة أفكار القلب ونيّاته. إنها تخاطب القلب وتهز الوجدان وتُقنع المرء بأن الحاجة إلى واحد، الى يسوع، الذي ليس بأحدٍ غيره الخلاص».
يخبرنا الإنجيل أن تاجراً باع كل ممتلكاته واشترى حقلاً فيه كنز ثمين، وبهذا دلّ على حكمة وفطنة. وأنتَ وأنتِ تصبحان أحكم منه إن اقتنيتما الكتاب المقدس، الذي هو أثمن من كنوز العالم مجتمعة. لاحظوا أن اقتناءه لا يكلف أحداً أن يبيع ممتلكاته. قاطع التدخين يومين يتوفر عندك المبلغ الكافي لشرائه. امتنعي عن السينما مرتين توفرين عندك المبلغ الكافي لشراء نسختك. ليتك تفعلين فتربحي بركة عظيمة لك ولأهل بيتك. إن الذي عنده كتاب مقدس طوباه إن هو قرأه وسلك بموجبه.
في القديم كان ملك حكيم جداً، وهو داود بن يسىّ، يعكف على تلاوة كلمة الله فقال: «كم أحببت شريعتك، اليوم كله هي لهجي. صارت فرائضك لي ترنيمات. شريعة فمك خيرٌ لي من ألوف ذهب وفضة».
كتبت الأديبة اللبنانية سلمى صائغ: «لابنتي عايدة، أُوصي أن تظلي في الطريق التي رسمها يسوع، وأن تقرأي العظة على الجبل مرة في كل أسبوع».
إن المؤمن المبارك هو من قامت الألفة بينه وبين كتابه المقدس، بحيث يقرأ كل يوم ما تيسَّر منه. بذلك يؤمِّن لنفسه القوت الروحي اليومي، لأنه كما قال الرب يسوع: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله».
العظة - ٦ «البر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية» (أمثال ١٤: ٣٤)
الخطية عار وخزي ونجاسة. إنها إثم كبير يجعل الكثيرين ينفرون من مجرد التلفظ بكلمة خطية. ومع ذلك فبعض المفكرين يعيبون على المسيحية قولها: «الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله». وحجتهم في ذلك أن هذا القول يسبّب شعوراً بالإثم عند الأبرياء.
فهل نفهم من هذا القول إن المسيحية تتجنّى على الناس وتصفهم بما ليس فيهم؟ أم انها تقول الحقيقة بلا مواربة؟ وإلا ما معنى قول إشعياء النبي: «كلُّنا كغنم ضللنا، مِلْنا كل واحد إلى طريقه»؟ وما معنى اعتراف داود: «هئنذا بالإثم صُوِّرت وبالخطية حبلت بي أمي»؟ وما معنى صرخة بولس: «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول، إن المسيح جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة الذين أوّلهم أنا»؟
وهل بين الناس أبرياء بالمعنى الصحيح للكلمة بر؟ أنا لا أعتقد ذلك، وأساس اعتقادي قول كلمة الله: «الرب أشرف من السماء على بني البشر لينظر: هل من فاهم طالب الله؟ الكل زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً. ليس ولا واحد». قد يقف أحدهم ويقول رويدكم في الحكم على الخطية لأنها غلطة عابرة يمكن إصلاحها بالتهذيب لا بالتوبيخ. ولكن الخطية ليست غلطة عابرة، بل حالة فساد في القلب والفكر، وهي تحتاج إلى علاج أكثر فاعلية من التهذيب الذي يمارسه الناس. ولماذا لا نعترف بالحقيقة ونقول إن الخطية انحطاط أدبي يقود إلى الموت الروحي؟
قال سليمان الحكيم: «الشرير تأخذه آثامه وبحبال الخطية يُمسَك». إنه يموت من عدم الأدب وبفرط حمقه يتهور. علَّمنا بولس من اختباره الشخصي أن الخطية تخدع وتقتل. وقال الرسول يعقوب إن الخطية إذا كملت تنتج موتاً. وهنا يعترضنا سؤال مهم: ما تأثير الخطية على جسد الانسان؟ والجواب: إن الخطية حين تتغلغل في حياة الإنسان تشّوه كل شيء فيه: سلوكه، تصرفاته، لغته، حتى معالم وجهه.
حين شرع الرسام النابغة ليوناردو دافنشي برسم لوحته الشهيرة «العشاء الرباني» احتاج إلى رجل ذي جمال وجلال فائقين لينقل عن ملامحه صورة تمثل المسيح. وبعد بحث دام عدة أشهر وجد مطلبه في مرنم بإحدى الكنائس اسمه بطرس بنديللي. وبعد فترة من الزمن احتاج إلى نموذج البشاعة لرسم صورة يهوذا الإسخريوطي، فراح ثانية يفتش في شوارع عن سحنة توافق موضوعه. وبعد بحث طويل وجد بغيته في متسوّل رثّ الثياب له سحنة شيطانية. وبعد الاتفاق معه ذهب به إلى مرسمه. ولشد ما اندهش حين علم أن المتسول لم يكن إلا بطرس بنديللي نفسه. وانما الخطية شوَّهت جماله من صورة يسوع إلى صورة يهوذا الخائن. وشرّ ما في الخطية هو أنها تعطل الحواس الأدبية عند ممارسها فيكره الخير ويحب الشر.
هكذا قال ربنا يسوع: «من يفعل السيئات يبغض النور ولا يأتي الى النور، لئلا تُوبَّخ أعماله». الخطية خاطئة وعاقبتها الموت الروحي. كما هو مكتوب النفس التي تخطئ هي تموت. والخطية بالنسبة لأثرها السيء في مركز فاعلها اجتماعياً تسمى شراً، لأنها تلحق الأذى بالغير. وسُميت اعوجاجاً لأنها ضد الاستقامة، وسُميت فساداً لأنها ضد النزاهة. أما بالنسبة لأثرها السيء في اتجاه الله فتُسمى نجاسة لأن الخاطئ يتمرغ في حمأة الرذيلة الدنسة التي هي مكرهة الرب. وهي تفصله عن الله، وفقاً للقول الإلهي: «آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم حجبت وجهه عنكم حتى لا يسمع».
ومن ناحية أخرى أثرها في التزامات الانسان الأدبية تسمى زيفاً وخداعاً، لأن فاعلها يخدع ويغش ويكذب في معاملاته. وقد وصف إشعياء حالة الإنسان من هذه الناحية فقال: «لأنكم قلتم السوط الجارف إذا عبر لا يأتينا، لأننا جعلنا الكذب ملجأنا وبالغش استترنا». ومن ناحية أخرى أثرها في مركز الإنسان العقلي، فهي الجهل وبُطل الذهن، وفقاً لقول بولس في وصف الخطاة: «إذ هم مظلمو الفكر ومتجنّبون عن حياة الله بسبب الجهل الذي فيهم». هذه هي الخطية وتِلْكم أضراراها بانتظار أجرتها التي هو الموت، لأن الكتاب يقول إن أجرة الخطية موت. ومع ان الناس يعرفون أضرار الخطية فهم يقعون فريسة سهلة في براثنها.
ذكر المؤرخون عن عظماء طروادة انهم قرروا في مجلس شورى لهم طرد هيلانة العاهرة التي نجست مدينتهم. ولكن ما ان مثلت أمامهم حتى أُخذوا بجمالها الباهر وكلامها المعسول وسبت قلوبهم فغيَّروا رأيهم وأبقوها. وفي إبقائها تم خرابهم في حرب طاحنة مع ملوك اليونان الذين جاءوا لاستردادها.
إن تاريخ الخطية حافل بالمآسي، فهي منذ البدء تتملق الإنسان وتسلب لبّه بالمتع الجسدية وتشبع غروره. ولكنها في الآخر تتقاضاه ثمناً باهظاً إذ تؤدي به الى الهلاك. تعهدت لآدم وحواء بأمجاد المعرفة التي تجعلهما مثل الله، ولكنها عند الحساب كلفتهما الطرد من فردوس عدن، ثم الشقاء على الأرض التي لُعنت بسبب عصيانهما.
وتراءت لقايين بلذة سفك الدم على مذبح الحسد الحاقد حتى الموت. ولكنها عند الحساب أوقعته تحت طائل غضب الله، فهام على وجهه ملعوناً مطارداً من دم هابيل الذي صرخ إلى الله طالباً النقمة. وجذبت عيسو في لذة الطعام، فباع بكوريته بأكلة عدس. لكنه عند الحساب حُسب مستبيحاً، ولما أراد أن يرث البركة رُفض، إذْ لم يجد مكاناً للتوبة، مع أنه طلبها بدموع.
وتملَّقت شاول بن قيس الذي مُسح ملكاً بشهوة الاستكبار، فانجذب وانخدع من شهوته وحاد عن وصايا الله. ولكن عند الحساب تقاضت الخطية ثمناً باهظاً من فَقْد عقله، ثم من هزيمة جيشه فموته ميتة العار. ومثله أخآب الملك الكبير الذي سبته الخطية على يدي امرأته إيزابيل الفاجرة التي صرفته عن عبادة الله الحي إلى عبادة البعل، فسقط في موت فاجع ولحست الكلاب دمه.
في الأصحاح السابع من رسالته الى أهل رومية شرح بولس الطريقة التي بها تسبي الخطية الإنسان:
١ - تتخذ فرصةً بالوصية لتنشئ الشهوة: «فإني لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشْتَه». وهكذا تقول الأمثال السائرة: كل ممنوع مرغوب، أحب شيء عند الإنسان ما صنع.
٢ - تشل الإرادة: «لست أعرف ما أنا أفعله اذ لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإياه أفعل». أي ان الخطية الخاطئة جداً توقع الإنسان في الذهن المرفوض فيخطئ محكوماً عليه من نفسه. هو لا يجهل الصلاح، وهو يقرّ أعمال البر، ولكنه مغلوب على أمره، ولهذا حين يريد أن يفعل الحُسنى يجد الشر حاضراً عنده. انه يرى شناعة الخطية، ويعترف بجمال القداسة، ولكنه حين يبغي عمل الصالح يصطدم بناموس الشرّ، الذي يحارب ذهنه ليصرفه عن كل فكرة صالحة، ويسبيه الى ناموس الخطية والموت. لأنه مُستعبَد. قال الرب يسوع: «الحق الحق أقول لكم إن من يفعل الخطية فهو عبد للخطية». قال أحد الأتقياء: «إن أشد أنواع الذنوب شراً هو ما استهان به صاحبه. فالقائل لأخيه يا أحمق يستوجب نار جهنم، والقاتل لا ينال عقاباً أشر!». قال الرسول يوحنا: «الخطية هي التعدي». التعدي على حدود الله بقطع النظر عن ضخامتها. فالشتامون والحالفون والسكيرون يساويهم الله بالزناة والخاطفين والظالمين، الذين قال الرسول إنهم لا يرثون ملكوت الله.
قال رجل الله هدسن تايلور: «ليست هناك خطية صغيرة طالما هي ضد الله». ففظاعة الخطية ليست في كبرها أو صغرها، وانما فظاعتها في كونها حالة فساد للإرادة البشرية. انها كنقطة الستركينين، إذا وضعت في جرة ماء تحوّل الماء إلى سم زعاف.
يا ليت المستهين بالخطية يلتفت إلى الجلجثة ويتفرس في المصلوب، ليرى ماذا فعلت الخطية بالقدوس الحق وهو يرفع خطية العالم. ومن يدري عندئذ، إن كان هذا المستهين لا يستفظع شر ما فعل، ويصرخ مع داود: «ارحمني يا الله كعظيم رحمتك!» الحمد لله! فمقابل الخطية عند الإنسان يوجد خلاص عند الله. هناك مخلّص قال الله إنه يسحق رأس الشيطان، حية جهنم، ويخلص الإنسان من خطاياه.
وهذا المخلّص جاء فعلاً عند ملء الزمان مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين هم تحت الناموس، لننال التبني. وهذا المخلّص أخذ حكم الدينونة نيابة عن كل من يؤمن به، فتم القول النبوي: «وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا». وهذا المخلص الإلهي حين رآه آخر أنبياء العهد القديم أشار اليه قائلا: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم». وهذا المخلص الإلهي، قال: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية».
وإنما هذا الخلاص يقتضينا شيئاً ما: لا تخافوا، لا مال ولا قرابين ولا زيارة أماكن مقدسة، ولا نذورات، فقط يقتضينا توبة. أن نتوب عن خطايانا. قال الرسول: ان الله يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل. وبعد التوبة يقتضينا سلوكاً في النور، لأن الرسول يقول: «إن سلكنا في النور كما هو في النور يكون لنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع المسيح يطهرنا من كل خطية».
ثالثاً - مواعظ في التوبة
العظة - ٧ «ويل لي! إني هلكت!» (اشعياء ٦: ٥)
في أحد الأيام كان إشعياء النبي في هيكل الرب، ولم يخطر في باله أن تلك الساعة ستكون حاسمة في حياته، وأن عنصراً جديداً سوف يدخل في خدمته كنبي العلي. كان في بيت الله، أمام المذبح الذي تُقدم عليه ذبيحة المساء، وعلى جانبي قدس الهيكل اصطفت فرقة اللاويين، يرنمون على أنغام الآلات الموسيقية الداودية.
في هذا الجو المشبَّع بالخشوع دخل إشعياء في تأملاته. ولا يدري أحد ما كان يدور في خاطره. ولكن يمكننا أن نخمن انه لم ينشغل بما في الهيكل من أبّهة، ولا بالأصوات التي كان يسمعها، ولا بجماهير العابدين الذين غص بهم الهيكل المقدس. ولكنه أُخذ في رؤيا فرأى السيد الرب جالساً على كرسي عالٍ وأذياله تملأ الهيكل. ورأى السرافيم يسبحونه قائلين: «قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود مجده ملء كل الأرض». وفي لحظة اندمج بالرؤيا المجيدة. ولكن إذ قارن نفسه بأولئك السرافيم، الذين سبحوا بشفاه طاهرة تبكَّت جداً، لأن حضور مجد الله أنار عيني ذهنه فرأى نجاسته، ولم يلبث أن صرخ: «ويل لي! إني هلكت، لأني نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود».
بعد وفاة عزيا الملك تدهور الشعب خلقياً. فحياة البذخ والترف أفسدت القلوب وأبعدتها عن الله، حتى أن سكان مدينة أورشليم رجالاً ونساء أُخذوا ببهارج المدنيّة الزائفة فانساقوا بتيارات الشهوات واستسلموا الى أهواء الهوان. وكذلك القادة انجرفوا بتيار الطمع ومحبة المال التي هي أصل لكل الشرور، فعمّ الفساد واستشرى الفجور.
ولهذا كان ضرورياً أن يقيم الله شهوداً أمناء كإشعياء ليعلنوا الحق. ولكن قبل أن يرسله الله بشيراً ونذيراً الى ذلك الشعب المعّوج والملتوي، وجب أن يجرده من كل ما لا يليق برجل الله، ليدعو الناس الى التوبة.
وعظتُ ذات مرة في جماعة من الناس. وشاء الرب أن تعمل الكلمة في قلب سيدة فتحرك ضميرها. وفي ختام الاجتماع قالت: «آه! لو أن أبي أسمعني شيئاً كهذا في حداثتي، لكنتُ غير ما أنا عليه من ضعف روحي». لعل كثيرين من الأبناء سيقولون ما قالته تلك السيدة، فليْتَ الرب يحرك ضمائر الآباء في كل بلد فيعيدوا النظر في تربية أولادهم الذين يحبونهم. وليت كل أب يتمسك بالامتياز الذي له، ليس فقط أن يكون عائلاً لبيته بل كاهناً أيضاً. ولكن قبل أن يصير أحدنا ما يريد يجب أولاً أن يتطهر من كل دنس، وفقاً لدعوة الله القائلة: «تطهروا يا حاملي آنية الرب». وقبل كل شيء أن نتضع قدام الرب، فنرتمي في التراب لأنه بنسبة استعدادنا للنزول يرفعنا الله، وفقاً لقول المسيح: «من يضع نفسه يرتفع». وفي اعتقادي أن الدعوة الإلهية تستلزمنا الاقتناع بثلاث حقائق:
١ - بحقارتنا: «ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين».
قد تندهش من هذا الاعتراف الصارخ، لأننا حين نقرأ الفصل الخامس من نبوته، ندرك أن هذا النبي كان يمارس خدمته النبوية بغيرة شديدة. ومع ذلك فهذا القديس الذي كان يبدو أطهر رجل في اسرائيل، هو نفسه نزل الى حضيض التواضع. كم يحتاج الأتقياء في زمننا أن يتعلموا هذا الدرس من رجل الله إشعياء، فينكسرون أمام الله، ويعترفون بعدم لياقتهم. هكذا فعل داود، إذ قال: «لأني عارف بمعاصيَّ وخطيتي أمامي دائماً». وهكذا فعل بولس إذ قال: «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول: أن المسيح جاء الى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا».
خدم إشعياء بغيرة شديدة، ولكن الله إذ رآه قادراً على خدمة أفضل، أقنعه بحقارة خدمته الماضية. هذا الاختبار جازه رسول الأمم بولس وقال: «إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتدّ إلى ما هو قدام». ربما قد تركت لك سمعة طيبة، وهذا شيء جميل. ولعلك صرفت سنيناً عديدةً من حياتك في خدمة الكنيسة، وخدمة المجتمع. خدمت المرضى والمساكين والضالين فنلت تقدير الناس. ولكن الله يريد لك خدمة أمجد. يريد ان تنسى ما هو وراء وتمتد الى ما هو قدام. يريد ان يملأك بالروح القدس، الذي يرشدك الى جميع الحق.
في الهيكل رأى اشعياء الملائكة يدعو أحدهم الآخر للتعبد لله، قائلاً: «قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود مجده ملء كل الأرض». فكم هو حلو ورائع أن نتعلم الدرس من ملائكة الله، فندعو أهلنا وأصدقاءنا للحضور الى بيت الله، بدلاً من أن يصرفوا يوم الرب العظيم في مشغوليات هذا الدهر، التي تُضعف غيرتهم للرب ولبيته المقدس.
في أثناء ممارستي الخدمة الرعوية في لبنان، علمت أن سيدة لم تدخل الكنيسة منذ أمدٍ بعيد، لأنها خصصت يوم الأحد لتنظيف البيت ورتق الثياب. فقلت لها: «لديك ستة أيام في الأسبوع للعمل، ويوم واحد للراحة والاشتراك مع شعب الله في العبادة. فلا تتركي ابليس يعيقك عن الذهاب الى بيت الله. لا بتنظيف البيت ولا برتق الثياب. فعدو الخير عمله ان يزين لربات المنازل عدم الذهاب الى بيت الله بإقناعهنّ بأن للأعمال المنزلية قيمة لا تقل عن قيمة الصلاة». هذا كذب هذا بهتان! قال المسيح عن ابليس: «ذاك كان قتّالاً للناس من البدء، ولم يثبت في الحق... متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب». هناك بركة في عبادة الجماعة وابليس يريد ان يحرمك منها فارفضي مشورته.
٢ - الاقتناع بأن الله قريب منا: ورد في تسبيحة السرافيم: «مجده ملء كل الأرض». قد يظن البعض ان هناك أمكنة لا يليق بجلال الله أن يتواجد فيها، ومع ذلك فقد قال السرافيم في محضر الله أن مجده ملء كل الأرض. وهذا ما لا يراه إلا ذو القلب النقي. قال المسيح: «طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله». وكل إنسان يعمر قلبه بالإيمان يستطيع أن يرى مجد الله في كل مكان.
تأكد أن الترانيم التي ترنّ بها أصواتنا دليل على وجود الله معنا، لأن الترنيم دليل الفرح والفرح من ثمار الروح القدس. وكذلك اصغاؤنا الى كلمة الله دليل على وجوده معنا متكلما الى قلوبنا بكلمته التي هي روح وحياة. وهو يتواجد في كل اجتماع ينعقد باسمه، بدليل قوله: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم».
٣ - الاقتناع بحاجتنا الى التوبة والتطهير من خطايانا: بعد أن اقتنع إشعياء بخطيته وأطلق صرخة التائب، طار الملاك وأتى بجمرة من على مذبح الله ومس بها شفتيه ثم قال له: «هذه مسّت شفتيك فانتُزع إثمك وكُفِرّ عن خطيتك». الجمرة من على مذبح الله تمثل شيئين: الدم والنار. ونحن بحاجة الى كلتيهما للتطهير من خطايانا وتقديس حياتنا.
قال الرسول يوحنا: «إن سلكنا في النور كما هو في النور، فلنا شركة بعضنا مع بعض. ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية». وقال كاتب الرسالة الى العبرانيين: «وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة». فلنهرع الى حمل الله، الذي سفك دمه ليطهرنا من خطايانا.
لا تخف من أن تُحسَب متجاسراً في قدومك إلى يسوع، لأن يسوع محبة، ومن أجل محبته الكثيرة، لنضرم نار المحبة في قلوبنا، لتصبح محبتنا من نار لظى الرب.. كل مؤمن بيسوع يذكر يوم تجديده بكلمة الله وروحه القدوس. ولكن بسبب إهمال تزكية محبته خمدت وخبت جذوتها تحت الرماد، وهذا ما عبر عنه يسوع بترك المحبة الأولى، اذ قال: «اكتب يا يوحنا الى ملاك كنيسة أفسس: عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى. فانظر من أين سقطت وتُبْ، واعمل أعمالك الأولى».
لنقرّ بفتورنا الروحي الذي هو علة ضعف محبتنا، وليت الرب يرسل جمرةً من على مذبحه الى كل قلب، والى كل فم والى كل حياة.
العظة - ٨ «أطلب الضال، وأسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح» (حزقيال ٣٤: ١٦)
هذه الكلمات ترسم لنا صورة رائعة للرب الراعي كما ظهرت في رؤى الأنبياء والرسل. ففي تكوين ٤٩ نقرأ عن الراعي صخر إسرائيل الذي يعين شعبه، ويبارك ببركات السماء من فوق. وفي المزمور ٢٣ نقرأ عن الراعي المحب، الذي يقود خرافه الى المراعي الخضراء، ويوردها الى مياه الراحة. وفي المزمور ٨٠ نقرأ عن الراعي القائد الجالس على الكروبيم الذي يخلّص الشعب بجبروته وينير بوجهه عليهم. وفي اشعياء ٤٠ نقرأ عن الراعي الفائق الرأفة الذي بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات. وفي ارميا ٢٣ نقرأ عن راعي الرعاة العظيم الذي يجمع خرافه المطرودة ويردها الى مرابضها فتثمر وتكثر فلا تخاف بعد ولا ترتجف بعد. وفي حزقيال ٣٤ نقرأ عن الراعي المخلص الذي يفتقد غنمه ويخلّصها من جميع الأماكن التي تشتتت إليها في يوم الغيم والضباب. وفي يوحنا ١٠ نقرأ عن الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف. وفي عبرانيين ١٣ نقرأ عن راعي الخراف العظيم الذي يفدي خرافه بدم العهد الأبدي، ويكملها في كل عمل صالح لتصنع مشيئته. هذه بعض من صور راعينا الإلهي الذي بذل نفسه فدية عن كثيرين. وقد لخَّص حزقيال النبي رسالته في أربع كلمات:
١ - أطلب الضال: احتمل عناء السفر من اليهودية الى السامرة لردّ سامريةٍ ضلّت طريقها وسقطت في أوحال الشر، فنبذها المجتمع بقسوة، وجفاها أهلها وذووها ولم يرحمها أحد. ولكن راعي النفوس وأسقفها لم يسقطها من اهتمامه. فهناك على بئر يعقوب دخل معها في حوارٍ حول الماء والدلو وعمق البئر، وحول المكان الذي فيه ينبغي السجود لله.
وكانت غايته أن يقودها بكلماته إلى مياه الراحة التي هو ينبوعها، لتشرب وترتوي، ولا تعود تعطش الى الأبد. ثم أعلن لها بسلطانه الإلهي أن الساجدين الحقيقيين هم الذين يسجدون للآب بالروح والحق. وباختصار، كان حنانه الخلاصي كبيراً بمقدار انه لم يهدأ حتى أخرجها من جب الهلاك ومن طين الحمأة، واضعاً في فمها ترنيمة جديدة تسبيحة لرب الخلاص الذي أحبها فضلاً وشاء أن يغسلها من خطاياها بدمه. فانطلقت إلى قومها وأخبرتهم كم صنع بها الرب ورحمها فكانت أول من بشر بالنعمة المخلصة بيسوع المسيح.
٢ - أسترد المطرود: ردّ لاوي بن حلفي، الذي ترك وظيفته في الهيكل وصار عشاراً. والعشار نجس في اعتبار اليهود، وخصوصاً الفريسيين الذين حسبوا رؤية العشار إثماً ولمسه جريمة. وكان الفريسي يقول في صلاته: «يا رب، إن كان في السماء عشار واحد فلا تسمح بأن أدخلها». ولكن يسوع راعي النفوس وفاديها أدرك لاوي بن حلفي بلطفه ذات يوم، فغيَّر مجرى حياته بقوله «اتبعني». كان لاوياً فصيَّرته الخطية عشاراً، والاعتبارات الفريسية صيرته منبوذاً. ولكن نعمة الله في يسوع المسيح صيَّرته بارّاً ثم كاتباً للإنجيل.
ومتى الإنجيلي ليس سوى واحد من ملايين المطرودين في كل جيل وعصر، الذين استردهم يسوع وردهم الى سبل البر من اجل اسمه. وأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. ليت السيد الرب يُكثر عمليات الاسترداد في زمننا، حتى تشمل الكثيرين من أبناء هذا الجيل، فينالوا نصيباً مع المقدسين. «كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد الى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا».
٣ - أجبر الكسير: قال الرب يسوع في مجمع الناصرة: « روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب. لأنادي للمأسورين بالإطلاق، والعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية». هذا هو لبّ رسالة المسيح الخلاصية، وقد عبّر عنها لوقا الإنجيلي بقصة امرأة زلّت بها القدم فوقعت في أوحال المنكر، وأكلت الخطية اسمها واعتبارها لم تستطع أن تفني أشواقها الشديدة الى بر الله. كانت أشواقها تلك جريئةً بمقدار أنها تحدَّت الفريسية المتعصبة، فدخلت بيت سمعان الفريسي حيث كان يسوع مدعواً لتناول طعام الغداء. ولما تخطت عتبة الباب زحفت على ركبتيها وجثت عند قدمي يسوع بانكسار. وبكت ملتمسة منه جبر خاطرها الكسير بغفرانه. فتحنَّن عليها وأعطاها سؤل قلبها مضاعفاً. لقد طلبت الغفران. أما هو فأعطاها مع الغفران راحة النفس.
ويا له من عطاء كريم! فغافر الذنب غفر ذنبها وساتر العيوب ستر عيوبها، ورئيس الإيمان ومكمله أكرم وأكمل إيمانها. ورب الخلاص قال لها: «إيمانك خلّصك» ورئيس السلام قال لها: «اذهبي بسلام». ويا لها من ساعة في عمر الزمن! تهلل خلالها أهل السماء وفرحوا بخاطئة واحدة تابت أكثر من تسع وتسعين بارّة لا يحتجن الى توبة. وختم يسوع المناسبة بقوله لصاحب البيت: «هذه المرأة أحبت كثيراً فغفر لها كثير!» فشكراً لله لأن هذه القصة صارت إنجيلاً قائماً، فيه دعوة لكل خاطئ وخاطئة لمقابلة يسوع الذي قال: «التفتوا اليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض».
٤ - أعصب الجريح: هللويا شكراً للذي من أجل قلوبنا التي جرحتها الخطية تقبل هو الجراح في بيت أحبائه. كما هو مكتوب في الانبياء: «وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شفينا». شكراً لقلبه الذي طُعن بالحربة ليصنع وقايةً لقلوبنا ضد سهام ابليس الملتهبة. شكراً ليديه المثقوبتين اللتين ما زالتا تمسحان الدموع من عيون الحزانى والمكتئبين. هذا هو الراعي الصالح الذي لا يكتفي بجمع القطيع في المرعى، بل يجوب البراري والمتاهات بحثاً عن الخراف الشاردة. هكذا قيل في الإنجيل إنه يترك ال ٩٩ في البرية ويذهب لأجل الضال. وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً، ويأتي الى البيت ويدعو الأصدقاء والجيران ويقول لهم: «افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال».
حين تقدم الشاب الصيني يام سنغ للمعمودية على اسم يسوع طُرحت عليه عدة أسئلة حول إيمانه واختباراته، وكان من بينها: كيف وجدتَ المخلّص؟ فأجاب مندهشاً: أنا؟! أنا لم أجد المسيح، بل هو الذي وجدني. كنت هالكا وهو جاء ليطلب ويخلّص ما قد هلك. قال يسوع لجماعة من الفريسيين: «الذي يدخل من الباب هو راعي الخراف. ولهذا يفتح البواب، والخراف تسمع صوته فيدعو الخراف بأسمائها ويخرجها». هذا امتياز عظيم! ان يدعونا الراعي الصالح كل واحد باسمه قائلاً: «لا تخف، لأني فديتك. دعوتك باسمك. فأنت اليوم لي».
وأنت يا أخي لا تخف، فالراعي الإلهي يعرف اسمك، ويعرف ظروفك والآلام التي تحّز في نفسك، ويعرف الصعوبات التي في سيرك، والضيقات التي تعانيها في بيتك، والمعاكسات التي تلاقيها في عملك. انه يعرف آمالك وأحلامك، وأشواق قلبك، وحاجتك الى بره. وليس هذا فقط بل تأكد أن عينه عليك، لا يهملك ولا يتركك.
قال رجل الصلاة هدسن تايلر في تعليقه على المزمور ٢٣: «لم يقل داود الرب راعٍ، ولا كان راعياً أو يمكن أن يكون راعياً، أو سوف يكون راعياً، بل قال: الرب راعيّ فلا يعوزني شيء. إنه راعيَّ في وطني وراعيَّ في الصين. انه راعيَّ في الحرب، وراعيَّ في السلم. إنه راعيَّ في أثناء الجوع وراعيَّ في أثناء الشبع. والراعي الصالح. وأعرف خاصتي وخاصتي تعرفني». هذا جميل هذا رائع! فالمعرفة متبادلة بيننا وبين راعينا، وهي تدل على المحبة، والمحبة هي رباط الكمال، ولا تسقط أبداً. ان راعينا الالهي يعرفنا في ضعفاتنا الكثيرة، ونحن نعرفه في قوته التي تكمل ضعفنا. انه يعرفنا في سقطاتنا المتعددة، ونحن نعرفه في قوة قيامته، اذ أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات ليُظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائقة باللطف علينا.
في العهد القديم كانت ألوف الخراف تُقدم ذبائح كفارية عن الرعاة. أما في العهد الجديد عهد النعمة والحق فإن الراعي العظيم نفسه قدم ذاته ذبيحةً للتكفير عن خطايا خرافه. صحيح أن داود لما أخطأ وشهر الملاك المهلك سيفه على الشعب قال متوسلاً إليه بنفس نبيلة: «قد أخطأتُ وأذنبت. أما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟ فلتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي». ولكن يسوع الراعي الصالح لم يتوسل، بل قدم نفسه فدية عن الجميع.
العظة - ٩ «فاستعد للقاء إلهك» (عاموس ٤: ١٢)
هذه آخر عظة كتبها القس اسكندر جديد
نشأ عاموس النبي في بلدة تقوع القريبة من بيت لحم، في القرن الثامن ق م. وعمل في مطلع حياته راعياً للمواشي وقطافاً لثمار الجميز. ثم دعاه الله للنبوة والوعظ. ويقول المؤرخون إن عاموس كان يتردد على مدن إسرائيل لبيع الصوف. وفي أثناء تردده كان يلاحظ التواء أبناء الشعب، وانكبابهم على الشهوة الردية. وتبعاً لذلك، كانت نفسه المؤمنة تتعذب مما يراه من تعدياتهم على وصايا الله. ومع أنه أسمعهم عظات قوية جداً، إلا أنهم لم يعملوا بموجبها.
كان الرب قد أدّبهم بضربات كثيرة ولكنهم لم يتوبوا ولم يعرفوا ما هو لخيرهم وسلامهم، لأن قلوبهم قاسية متحجرة بسبب التمادي في فعل الشر، لذلك جاءهم نبي الله وكلمهم بالاستعداد، لأن يوم المجازاة قريب. وكانت رسالة عاموس تتلخص في ما يلي:
١ - الهيئة الاجتماعية كما أرادها الله مؤسسة على العدل والحق.
٢ - الذين ينالون بركات الرب مسؤولون عن استعمالها.
٣ - الذين لا يستعملون هذه البركات كما يريد الله سيُعاقبون. وأفضل هذه البركات هي معرفة الحق.
٤ - العبادات والطقوس تكون إهانةً للرب إن كانت بلا قلوب طاهرة وسلوك حسب مشيئة الله.
وكان عاموس خشناً في مظهره، قاسياً في توبيخ الخطية، وقد لقَّبه أحد الوعاظ «رعد الله القاصف». أما شعب اليهود فكانوا يعيشون فترة ارتداد عن الله. وكان بينهم عدد عديد من المرائين الذين لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها. يقيمون الفرائض ويؤدّون التقدمات ولِعلَّة يطيلون الصلاة. لذلك كرهت نفس الرب عباداتهم الباطلة، فقال لهم بفم نبيهم الكريم: «أبغضت، كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم. إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت اليها».
لقد اعتبر أولئك القوم الدين وسيلة تتيح للإنسان الحصول على كل ما يريده من الله، وتوهّموا أن كرامة الله مرتبطة بكرامتهم، وبالتالي فالله ملزم بحمايتهم حمايةً لكرامته، وشر ما فعلوا هو أنهم كانوا يسجدون للرب ويسجدون للأصنام. لذلك حمي غضب الله عليهم فأنذرهم بواسطة عاموس النبي إذ قال: «من أجل ذنوب اسرائيل الثلاثة والأربعة لا أرجع عنهم. لأنهم باعوا البار بالفضة وباعوا البائس بنعلين. ويتهممون تراب الأرض على رؤوس المساكين (لأن الدائنين منهم يأخذون أرض المساكين ولا يتركون لهم شيئاً) ويصدّون سبُل البائسين فلا يُسمع صوتهم ولا تُقبل شكواهم. ويذهب رجل وأبوه إلى صبية واحدة حتى يدنسوا اسم قدسي».
ويقول الله في ١ ملوك ١١: ٣٣ «تركوني وسجدوا لعشتروت إلهة الصيدونيون». ويقول مفسرو الكتاب المقدس: إنهم كانوا رجالاً ونساء يمارسون الزنى كفريضة دينية في هياكل عشتروت، لذلك قال الله: «هكذا أصنع بك يا اسرائيل، فاستعد للقاء إلهك». كان الإنذار صريحاً واضحاً وفيه نداء يتيح الفرصة للتوبة، وبالتالي ينال طالب الله خلاصَه من الغضب الآتي. لكنهم أضاعوا الفرصة لأنهم لم يعملوا بالإنذار ويرجعوا عن شر أفعالهم.
منذ مدة خصّصت شركة التلفزيون في لبنان جائزة مالية لمن يقدم تحذيراً في عبارة قصيرة عن أخطار سرعة السيارات، فنال الجائزة رجل قدم التحذير في أربع كلمات: «لا تسرع فالموت أسرع!» ولكن هذه الكلمات مع ما فيها من قوة التحذير لا تفيد شيئاً إن لم يعمل السائقون بموجبها، ويتقيدوا بحرفيتها. لأنه أية وقاية في كلمة «لا تسرع» إن كان السائق لا يكف عن إطلاق العنان لسيارته؟ وأية حماية في كلمة «الموت أسرع» إن كان هواة السرعة لا يقيمون للموت وزناً؟
ما في الصيدليات من أدوية لا يفيد المريض إن لم يتناول الدواء الذي أشار به الطبيب، فالصليب نفسه الذي هو قوة الله وحكمة الله للخلاص، قد يتحول إلى هلاك الإنسان إن لم يقبل خلاص الله في المسيح يسوع وإياه مصلوبا، لأن المصلوب هو وسيط الصلح الأوحد بين الله والناس، كما هو مكتوب «ليس اسمٌ آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص».
«فاستعد للقاء الهك»
هذه كلمة واضحة يفهمها الطفل والشاب والشيخ. ولكن بقدر ما هي بسيطة هي مهمة وعزيزة في تقدير الرب بدليل قوله: «كونوا أنتم أيضاً مستعدين، لأنه في ساعةٍ لا تظنون يأتي ابن الإنسان». ولكن هذه الدعوة مع أهميتها ووجوبها لكل إنسان قلَّ أن يعطيها الناس الأهمية الجديرة بها، لأنهم مرتبكون بهموم هذا العالم وغرور المال وشهوات سائر الاشياء، وقد شبههم المسيح بأناس زمن نوح اذ قال: «لأنه كما كان في أيام نوح كذلك يكون أيضاً في أيام ابن الانسان» كانوا يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزّوجون إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان وأهلك الجميع.
في الحقيقة ليس من غباوة أشد من هذه أن يستعد الناس لكل شيء ما عدا أهم شيء وهو الاستعداد للقاء الله، وكأنهم نسوا حتمية الموت على كل نفس حية. انهم على عكس مفديي الرب الذين شعارهم قول الرسول بولس: «لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح» وقد عُرف بالاختبار ان غير المؤمن يرتعد خوفاً من النهاية المحتومة التي ستؤدي به الى الوقوف أمام الديان العادل، وهو أشد من خوف القاتل المحكوم عليه بالموت حينما يُقال له: استعد فالمشنقة جاهزة. « مخيف هو الوقوع بين يدي الله الحي».
ومن يستطيع أن يقدّر ما تبعثه من الرعب هذه الكلمات التي سيلقيها الرب في وجه الأشرار: «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية». ان رسالة الله تقول: أيها الانسان المستهين باللطف الالهي، لماذا لا توفر على نفسك كل هذه الشقاوات القادمة؟ تأمل في وعود الله تجد ان لك فيها خلاصاً! نعم أنت مدعو لتتبرر مجاناً بنعمة الله بالفداء بدم المسيح، بدون أن تبذل مالاً وجهداً، أو تطوف بمزارات القديسين أو تطلب وساطة رجال الكنيسة. لأن الوسيط واحد والشفيع واحد، وهو الانسان يسوع المسيح. الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع.
كان الموسيقار الشهير بيتهوفن مستعداً للقاء إلهه، وقال قبيل موته: «ها أنا ماضٍ إلى الله حيث سأسمع ألحان السماء». وقال الواعظ الكبير مودي قبيل موته: «إني أرى الأرض تتراجع والسماء تنفتح، والله يناديني». وقال المبشر الأسكتلندي روبرت بروتس لأولاده قبيل انطلاقه: «يا أولادي تغديت اليوم معكم وسأتناول العشاء مع الرب».
هذه المجموعة من هتافات الانتصار تدل على أن المؤمن يغادر هذا العالم محمولاً على أجنحة رجاء مجد الله. لأنه استعد للقاء إلهه في الجهاد الحسن، وأكمل السعي وحفظ الإيمان، للحصول على جعالة دعوة الله العليا.
لا تؤجل توبتك الى الله، لأن الروح القدس يقول: «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم». تصالح مع الله اليوم لأن كل ما يحيط بنا وكل ما في الطبيعة، وكل ما في الكتاب المقدس، وكل نداءات الروح القدس، وكل ما نراه ونسمع به من حوادث الموت يقول: «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم!».
العظة - ١٠ «هكذا يكون فرح في السماء» (لوقا ١٥: ٧)
في الأصحاح الخامس عشر من الإنجيل بحسب لوقا ثلاثة أمثلة تعلمنا معنى التوبة والرجوع الى الله:
١ - الخروف الضائع، وهو يظهر لنا ضعف الخاطئ وغباوته.
٢ - مَثَل الدرهم المفقود، وفيه وصف لحالة الخاطئ الذي توغل في الشر الى أن فقد الحس.
٣ - مثَل الابن الضال، وفيه عرض لمراحل الخطية. التي تبدأ بجذب الانسان وخداعه بالشهوة الردية، وتنتهي بموته روحياً.
كما هو مكتوب: «كل واحد يُجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية اذا كملت تنتج موتاً».
والمدهش في هذه الأمثلة الرائعة انها تظهر لنا قيمة الشيء الضائع ونسبته الى الأشياء الموجودة.
فالخروف الضائع هو واحد من مئة، والدرهم المفقود هو واحد من عشرة، والابن الضال هو واحد من اثنين.
ان خلاصة التعليم في الأمثلة الثلاثة، هي أن الخاطئ مهما توغل في الشر، لا يسقط من عناية الله ولطفه. وما أن يعود إلى الله بالتوبة والإيمان حتى يقبله. ولكن مع سمّو هذا الاعلان عن محبة الله الغنية بالرحمة والغفران، اعترض الكتبة والفريسيون على يسوع قائلين: «هذا يقبل خطاة ويأكل معهم».
طرفان متناقضان، الخطاة والعشارون من جهة، والكتبة والفريسيون من جهة أخرى.
الأولون اقتربوا من المعلم لأنهم وجدوا عنده حباً وتعليماً سماوياً.
والآخرون تذمروا، لأنهم وجدوا في حب يسوع للخطاة طعنة موجّهة إلى برِّهم الذاتي.
كان الأولون مساكين بالروح، فقال يسوع: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات». وكان الآخرون أبراراً عند أنفسهم ويحتقرون الآخرين. فقال لهم يسوع: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تشبهون قبوراً مبيضة تظهر من خارج جميلة، ولكنها من داخل مملوءة عظام أموات».
أي إنسانٍ كان له مئة خروف وأضاع واحداً منها، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال؟
هنا صورة رأفة الله وحكمته في طلب الخاطئ لإنقاذه من الهلاك.
ولست أدري كيف جهل الكتبة والفريسيون أجمل ما في رسالة المسيح. الرسالة التي أعلنها الله بأنبياء العهد القديم، إذ يقول: «روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشرّ المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالاطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية».
إن كان الفريسي يهتم بخروفه الضائع، فكم بالحري الرب من السماء يهتم بإنسان ضائع؟
شيء آخر في هذا المثل يجب أن نلاحظه وهو ان يسوع اختار الخروف ليمثل الخاطئ، لأن الخروف أضعف الحيوانات وأكثرها غباوة.
فقد قيل في قصة شعبية فرنسية ان مغامراً اسمه بانرج جمعته رحلة على سفينة مع تاجر الأغنام راندوا ومعه قطيع من الخرفان. وبينما السفينة تمخر عباب المحيط تخاصم الرجلان ولكي ينتقم المغامر من تاجر الأغنام أخذ خروفاً وألقاه في اليمّ على مرأى من القطيع. وما أن فعل ذلك، حتى راحت الخرفان الأخرى تلقي بنفسها في أشداق الأمواج، الواحد بعد الآخر إلى أن هلك القطيع كله.
هكذا الخاطئ مدفوعاً بغباوته يلقي بنفسه في بحر التهلكة. ولكن لسعادة البشر ان يسوع قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك.
هكذا أفتقد غنمي قال الرب وأخلصها من جميع الأماكن التي تشتتت إليها في يوم الغيم والضباب.
وأخيراً ختم السيد الرب مثله بإعلان من السماء. ومن غيره يستطيع أن يحدّث عما يجري في السماء؟
قال: «فإني اقول لكم، إنه يكون فرح في السماء بخاطئ يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون الى توبة».
ما هي التوبة، وكيف تبدأ؟
قال أحد الأتقياء: «التوبة هي أن أحزن على خطاياي حزناً كافياً يجعلني أتركها. وهي تبدأ باكتشاف الخطية».
ولكن هل تحتاج الخطية الى اكتشاف؟ أليست هي ظاهرة بارزة للعيان؟
لا، إن الخطية لا تظهر لرجل الإثم لأنه غبي، ولأنه يعيش في الظلمة التي أعمت عينيه. يقول الكتاب عنه إنه يخطئ محكوماً عليه من نفسه. وقد نعته الرسول بولس بأنه مبطل الذهن مظلم الفكر غليظ القلب فاقد الحس، أسلم نفسه للدعارة ليعمل كل نجاسة.
إنسان كهذا لا يمكن أن تظهر له الخطية، لأن الخطية تقبع في قلبه كحرباء تتلون وتتنكر فلا يراها. فإن كانت كبرياءً. تلبس ثوب عزة النفس. وإن كانت خداعاً ومكراً تلبس ثوب السياسة الحكيمة. وإن كانت محبة المال، تلبس ثوب الاقتصاد. وإن كانت غشاً تلبس ثوب الشطارة. وإن كان رقصاً خلاعياً، تلبس ثوب الرياضة.
والناس يسهلون لها مهمتها بإعطائها أسماء تقلل من بشاعتها. فعند الشباب اسمها طيش مؤقّت ونزوة عابرة. وعند الكهول اسمها هفوة أو عدم انتباه لا يشكل جرماً. وعند الشيوخ اسمها زلة بسيطة لا يوآخذ عليها الشيخ طيب القلب.
ولكن هذه الأسماء ومن قبلها الثياب التنكرية لا يمكنها أن تغيّر شيئاً من جوهر الخطية، بل تبقى خطية والخطية أجرتها موت.
والله يكرهها لأنها ضد قداسته، ولأنها تهلك الإنسان الذي خلقه على صورته كشبهه. ولكن لله سر عجيب، وهو أنه إن كره الخطية وأعلن غضبه على جميع فجور الناس، فهو لا يكره الخاطي ولا يستطيع ان يكرهه، لأنه محبة، والمحبة لا تصدر عنها كراهية.
المحبة عند الله مشيئته، ومشيئته ان الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون.
إن الله يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا. وعندي وعندك وعندكِ ما يجب ان نتوب عنه.
قال إمام المرنمين داود: «السهوات من يشعر بها؟ من الخطايا المستترة أبرئني».
قد تكون خطيتنا فتوراً في المحبة. فقد قال الرب لكنيسة أفسس: «عندي عليك انك تركت محبتك الأولى. فانظر من أين سقطت وتُبْ، واعمل أعمالك الأولى. وإلا فإني آتيك عن قريب وازحزح منارتك من مكانها».
وقد تكون قصوراً في حياة الصلاة. فقد قال الرب: «ينبغي ان يُصلى كل حين». وقال الرسول لأهل تسالونيكي: «صلوا بلا انقطاع».
وقد تكون هجر الكتاب المقدس. فقد قال الرسول لتيموثاوس: «لاحظ نفسك والتعليم، واعكف على القراءة».
وقد تكون في ميلنا الى العيش بحسب أفكار هذا الدهر، بينما كلمة الله تقول: «فقط عيشوا كما يحقّ لإنجيل المسيح».
وقد تكون في خجلنا من حمل صليب المسيح، بينما المسيح قد وضع حمله شرطاً أساسياً للسير وراءه، وقال: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني».
وقد تكون في ذم الغير فقد قال الرسول: «لا يذم بعضكم بعضاً أيها الإخوة، لأن من يذم أخاه يذم الناموس ويدين الناموس».
أنا متأكد تماماً أن امتحان أنفسنا بمعونة الروح القدس سيُظهر لنا خطايا مستترة. وأن الله الذي يأمر جميع الناس أن يتوبوا يريد الآن أن نتوب عنها، بحيث يصبح التأجيل عصياناً وخيم العاقبة.
أراد وليم الثالث أن يقمع ثورة نشبت في شمال سكوتلاندا، فأرسل إنذاراً إلى الزعماء الثائرين ليستسلموا في ميعادٍ عيّنه لهم وإلا حُسبوا خارجين على القانون، وبالتالي يُحكم عليهم بالإعدام. فاستسلموا جميعاً ما عدا الزعيم مكميلان، فهذا تلكأ. لا تمرداً ولا عصياناً وإنما بسبب الكبرياء. أراد أن يكون آخر من يستسلم من الزعماء ولو بساعات قلائل قبل الوقت المعين. غير انه وهو في طريقه الى الملك هبت عاصفة ثلجية فلم يستطع الوصول إلا بعد أسبوع من الميعاد. فقُبض عليه وعلى قواده ونُفذ فيهم حكم الإعدام.
وكم من النفوس تهلك بسبب تأجيل التوبة وعدم التقيد بقول المسيح: «كونوا مستعدين، لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان».
«اليوم إن سمعتم صوته، فلا تقسّوا قلوبكم».
العظة - ١١ «فمات لعازر، ومات الغني» (لوقا ١٦: ٢٢)
في قصة الابن الضال أظهر الرب يسوع نعمة الإنجيل المشجعة لكل من يعزم على التوبة.
وفي قصة لعازر والغني أظهر الغضب المذخَّر لكل من يرفض خلاص الله، وبالتالي التعزية التي ينالها المسكين بالروح.
كانت القصة موجَّهة الى الفريسيين الذين غرقت ضمائرهم في سُبات نوم الموت. ولكن الروح القدس شاء أن تُدّوَن في الإنجيل لإيقاظنا من غفلتنا. وحين نتأمل هذه القصة بعمق ندرك أن الرب أراد بها أن نتعلم احتمال نكبات هذه الحياة بصبر المسيح، وأن نتسلح بالإيمان ضد التجارب والانغماس في الشهوات الردية.
ونلاحظ في القصة أمرين مهمين جداً:
١ - اختلاف الحال في هذا العالم: بين الغني الشرير المترفّه، وبين الفقير التقي المتسّول. قال الرب يسوع: «كان إنسان غني، وكان يلبس الأرجوان والبزّ» لم يقصد أن كون الانسان غنياً يُدرج اسمه في قائمة الأشرار، ولا لكونه يلبس الأرجوان والبزّ يُحذف اسمه من قائمة الأبرار. بل لكونه جاهلاً بالقول الإلهي: «من يعرف أن يعمل حسناً ولكن لا يعمل فذلك خطية له».
المعروف بالاختبار أن الثروة الطائلة تجربة خطيرة، لأنها غالباً تدفع بصاحبها الى تعظم المعيشة والانغماس في شهوات هذا العالم، فينسى الله والعالم الآخر. أكرر أن خطية هذا الغني لم تكن في ثرائه، ولا في ملابسه، ولا في طعامه. بل كانت في عدم اهتمامه بمسكين بائس مطروح عند باب قصره.
كان المسكين تقياً ورعاً ومحباً لله. ويمكننا أن نستنتج أنه كان في الماضي عاملاً نشيطاً، يأكل خبزه بعرق وجهه. ولكن ذات يوم وصل الى أشد حالات البؤس والشقاء، لأن جسده ضُرب بالقروح فنفر منه الناس ونبذوه. فاضطر لأن يتسول ملتمساً حتى الفتات وما يُطرح بين النفايات. ولم يخطر ببال الجماعة المنتمي اليها أن تعنى به. وهذا ينم عن مقدار الانحطاط الذي وصلت اليه الكنيسة اليهودية في زمنه.
وأي انحطاط أفظع من هذا: أن يُترك تقي يهلك مرضاً وجوعاً. كان لعازر مسكيناً حقاً، وكان مسكيناً بالروح، لا يشكو دهره ولا يتذمر من مصائبه، ولا يدمدم على الذين أهملوا أمره، بل كان يتحمل أوجاعه وفقره المدقع بكل أدب وصمت، وهذا يعني أنه كان رجلاً مؤمناً مُرْضياً لله.
أما الغني فصحيح أن المسيح لم يذكر أنه أهان لعازر أو شتمه أو طرده من قرب قصره. ولكنه لم يشفق على بؤسه. كانت أمامه فرصة لصنع الرحمة ببائس مريض جائع. وكان في بؤس المسكين باعثاً لتحريك عواطفه شفقةً عليه.
ومع ذلك فالغني المترف، لم يبال به، ولم يستدع طبيباً لإسعافه. ولم يصدر أمراً بإدخاله ليقيم في الاسطبل أو في إحدى الغرف الخارجة الملحقة بقصره. كانت الكلاب أرأف به منه، لأنها كانت تأتي وتلحس قروحه مما كان يخفف عنه آلام الحكة.
٢ - اختلاف الحال بين لعازر والغني عند الموت وبعد الموت: مات المسكين، وحملته الملائكة الى حضن ابراهيم. ومات الغني، فذهبت نفسه الى مكان العذاب. مات كلاهما، والموت كأسٌ يشربها جميع الناس، لذلك وجب على الأغنياء والفقراء ان يستعدوا.
هكذا قال عاموس النبي: «استعد للقاء الهك!» وقال الرب يسوع: «كونوا مستعدين لأنكم في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان».
مات المسكين ليستريح من أتعابه، ومات الغني ليذهب الى مكان عذابه.
وفي ظني ان مأتماً كبيراً قد أُقيم للغني، وان خطباء عديدين أبَّنوه بكلمات المديح، وانه شُيّع بموكب فخم. أما لعازر، فلم يذكرالمسيح شيئاً عن دفنه. ولعل جثمانه حُمل وأُلقي في حفرة ما دون أي احتفال. ولكن الملائكة حملته الى حضن ابراهيم. وهذه كرامة تفوق الكرامة التي نالها الغني. لقد حملت الملائكة نفس المسكين الى حضن ابراهيم، وهذا يعني أن روحه لم تمُتْ بموت الجسد، بل عاشت وتذكرت ما عملت وما عُمل لها.. لقد انتقلت الى عالم الأرواح الذي هو عالم الله. أو كما قيل في جامعة ١٢: ٧ عادت الى الله الذي أعطاها.
هذا هو مصير روح الانسان المؤمن المولود من الله. هناك قوة جاذبة ترفعها الى السماء لتكون مع المسيح. بهذا شهد رسول يسوع بولس، اذ قال: «لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح. لي اشتهاء ان أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل جداً».
قيل إن أمازيس ملك مصر كان يجرّ مركبته عدد عديدٌ من الملوك الذين أسرهم في أثناء حروبه. ولكن ما هذا المجد من المجد الذي ناله لعازر محبوب الرب؟
كان إبراهيم رجلاً عظيماً وغنياً في الأرض. مع ذلك ففي السماء لم يستنكف من أن يستقبل لعازر المسكين ويضعه في حضنه. فواعجباً! إن لعازر الذي لم يسمح له بأن يتخطى العتبة الخارجية لقصر أحد أغنياء الدنيا، يُسمح له بأن يدخل إلى سماء المجد ليُقيم في منازل الله. أما الغني نفسه فقد حُمل إلى الهاوية، ومن هناك رفع عينيه وهو في العذاب فرأى إبراهيم ولعازر في حضنه.
إنه لمصير تاعس! فقد صار المتنعم بائساً والسيد شقياً، والغني فقيراً.
لم يكن جديراً بسعادة عالم الأرواح المعدَّة للمساكين بالروح، لأنه لما كان في هذا العالم كرس نفسه ووقته وثروته للتنعم في الملذات العالمية واتخذ أشياء العالم نصيباً له.
في غمرة عذابه الشديد صرخ: يا أبي إبراهيم ارحمني! ارحمني لأني معذب في هذا اللهيب.
فيا للتوسل الذي جاء متأخراً! انه يشكو من عذاب غضب الرب. هذا هو عذاب العقل، وعذاب الندم وعذاب الأسف وعذاب نخس الضمير. ويا له من توسل خائب! فأين السبيل الى الرحمة بعد انتهاء يوم الرحمة، وبعد أن بطل تقديم الرحمة؟
إن ذاك الذي لم يرحم البائس في حياته، ينتظر أن يُرحم! ومتى استرحم لنفسه؟ حين انتهت ساعات يوم الخلاص وأُغلق باب النعمة.
لم يقل: «يا أبي إبراهيم، خذني إلى حضنك وضمني الى صدرك». لأن نفوس الأشرار لا تستسيغ سعادة الأبرار في السماء، لأنها لا تحتمل قداسة الله. ولكنه سأل شيئاً تافهاً. نقطة ماء ليبرد بها لسانه. ولكن ابراهيم لم يعطه سؤله، لأن المحكوم عليهم بالعذاب من الله لا يستطيع أحد، حتى ولا إبراهيم خليل الله، أن يخفف من عذابهم.
الآن وقد عرفنا ما هو معدّ من سعادة للأبرار، ومن تعاسةٍ للأشرار. فلننتهز الفرصة المقدَّمة لنا، ولننتفع من النعمة التي لنا في المسيح يسوع.
والكلمة الرسولية تقول محذرة: «فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره، قد ابتدأ الرب بالتكلُّم به، ثم تثبَّت لنا من الذين سمعوا، شاهداً الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس».
لم يكتف ابراهيم برفض ملتمس الغني المعذب في السعير، بل قال له ما ضاعف عذابه. قال: «اذكر يا ابني انك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزى وأنت تتعذب». والله يقول لنا في هذه الساعة: يا ابني اذكُر أني فديتك بدمٍ كريم بلا عيب، دم المسيح المعروف سابقاً قبل كون العالم. فاقبل فدائي لتنجو من عذاب الدينونة. يا ابني اذكر توسلات رب المجد وهو يقول: «هاأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب أدخل اليه وأتعشى معه وهو معي». يا ابني اذكر كم أنا كريم معك، حتى أعطيتك ابني الوحيد حكمةً وبراً وفداءً. يا ابني تأمل في القصة التي سمعتها اليوم، والتي مفادها أن السماء عزاء وأن جهنم عذاب. ان السماء فرح، وجهنم بكاء وصرير الأسنان.
وأخيراً سأل الغني المعذَّب إبراهيم أن يرسل لعازر الى بيت أبيه ليحذر إخوته. لكن إبراهيم لم يستطع إجابة ملتمسه، لأن ليس له سلطان أن يفعل. وسبب آخر هو أنه في مكان العذاب لا يُستجاب أي طلب.
لذلك أحال أبو المؤمنين طلب التحذير إلى كلمة الله. قال: عند إخوتك شريعة الله التي كتبها موسى والأنبياء. إنهم يستطيعون قراءتها أو أن يسمعوها ويعملوا بها.
اقرأوا كلمة الله وامزجوها بالإيمان. وعندئذ تقبلون الى معرفة الحق. فلا يمكن لرسول أن يقول أكثر مما جاء في الكتب المقدسة. من لا يصدق الكتاب المقدس الموحى به من الله لا تُجدي معه وسائل أخرى للإقناع.
قال الرسول بولس: «كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم، للتقويم والتأديب الذي في البر، ليكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح».
الكتاب العزيز هو إعلانات الله، التي كتبها رجاله القديسون مسوقين من الروح القدس، وليس لنا الحق أن نتوقع أو نصلي كي تعمل فينا نعمة الله بطريقة أخرى أو بوسيلة أخرى غير التي أعلنها الله في كتابه الكريم. لذلك ينبغي أن نعمل بموجب الوصية النبوية القائلة: «الى الشريعة والى الشهادة!».
فالشريعة هي مؤدبنا الى المسيح، والمسيح قال: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية».
والشهادة تقول: «في هذا هي المحبة: أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به».
العظة - ١٢ «وقال لقوم واثقين بأنفسهم أنهم أبرار ويحتقرون الآخرين» (لوقا ١٨: ٩)
لما روى يسوع مَثَل الفريسي والعشار كان يندد بخطية يرتكبها معظم الناس حتى الأتقياء. إنها خطية البر الذاتي، الذي هو نوعٌ من الزهو الديني المقيت، لأن صاحبه يظن أنه وحيد عصره في التّقوى والفضيلة.
قال الرابيّ سمعان بن يوشاي: «لو لم يوجد في الدنيا إلا باران لكانا أنا وأخي. أما لو وُجد بار واحد فقط لكنتُه أنا بدون منازع». فأين هذا المتبجّح من وداعة بولس، الذي قال: «فإني أعلم أنه ليس ساكن فيّ شيء صالح». ولما تكلم عن البر قال: «وليس بري الذي من الناموس، بل البر الذي من الله بالايمان». وقال: «لو كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً».
أنت لست بارّاً مهما ارتفعت حرارة إيمانك، ومهما تصلَّبت عقيدتك. ولكن يمكنك أن تتبرر بالنعمة المجانية بيسوع على وفق قول الرسول: «متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدّمه الله كفارة، لإظهار بره، من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله».
البر الحقيقي هو ما أعطى للمؤمن تجاوباً مع الإيمان العامل بالمحبة، الذي يقودنا إلى التواضع، فنرى خطايانا ونهرع إلى رحمة الله. الإيمان الصحيح لا يتفاخر ولا ينتفخ ولا يطلب لنفسه مجداً من الناس. إنه لا يتظاهر بأعمال بره، ولا يبّوق بالبوق متى صنع صدقة، ولا يتباهى بالتقوى اذا ما نذر صوماً.
المعروف بالاختبار أن البر الذاتي يمجد الأنانية ويقضي على الوداعة والتواضع، وينشئ في المرء تشامخ الروح، وكل هذه مكرهة في عين الرب. البر الذاتي يحرم صاحبه من بركة الشركة مع المتواضعين الذين رفعهم الله. كان إشعياء بن أموص من سلالة الملوك، وكان نبياً عظيماً. ومع ذلك فلم يفاخر بل تواضع. وحين قابل أعمال الانسان بقداسة الله لم يلبث أن قال: «صرنا كلنا كنجس، وكثوبِ عدةٍ كل أعمال برنا». ليس من أعمال كي لا يفتخر ذو جسد قدام الله، لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان، وهذا ليس منكم. هو عطية الله.
اطرق باب النعمة تجد الرحمة، وبالتالي تصيّرك الرحمة وارثاً رجاء الحياة الأبدية.
حضر صديقان اجتماعاً انتعاشياً، وكان أحدهما أوروبياً والآخر هندياً. فلمست كلمة الله قلب الهندي فسلّم حياته ليسوع. أما الأوروبي فمع أنه وقع تحت التبكيت الشديد، إلا أنه لم يحصل على السلام. فذهب الى صديقه وسأله عن سبب التفاوت بينهما. فقال الهندي افترض ان إنسانا شريفاً قدم لك ثوباً جميلاً، فنظرت أنت إلى ثوبك وقلت له: ان ثوبي هذا لا يزال جيداً، وأنا أود الاحتفاظ به لأنه يلائم ذوقي. أما أنا فحين تقدم الشريف نحوي ليهبني الثوب الجميل نظرت الى ردائي فوجدته كريهاً قبيحاً، فطرحته بعيداً وقبلتُ الثوب الجديد بفرح.
هكذا الأمر مع يسوع، إنه يجول في العالم ومعه ثوب البر ورداء الخلاص، ويريد أن يهبهما لكل من يخلع إنسانه العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور.
فيا أيها الساعي لإدراك البر، قف ولا تحاول الظهور أمام الله في هالةٍ من أعمال برك. ولا ترتكب حماقةَ محاولةِ إصلاحِ نفسك قبل المجيء إلى يسوع لئلا تفشل.
شاهد سائحٌ شحاذاً مهلهل الثياب، فأراد أن يصّوِره. وإذ كان قد نسي الكاميرا في الفندق أعطى الشحاذ بعض المال وطلب إليه أن يوافيه إلى الفندق في اليوم التالي ليصوره. ففرح الشحاذ ومنّى نفسه بالحصول على مبلغ محترم من المال. وفي الموعد المحدد جاء وطرق باب غرفة السائح ففتح له، وإذا به أمام رجلٍ في ملابس أنيقة، فاندهش وسأله: من أنت وماذا تريد؟ فقال: أنا هو الشحاذ، وقد اتفقت معي على أن تصّورني. هل نسيت ذلك؟ حينئذ ذُهل السائح وقال: لكني أردت أن أصّور شحاذاً لا مليونيراً!
هكذا قال الرب يسوع: «ما جئت لأدعو أبراراً إلى التوبة، بل خطاةً». وفي عظته على الجبل لم يعظ الشباعى والمرتوين من البر، بل طّوب الجياع والعطاش الى البر، وقال إنهم يُشبعون.
الإنسان لا يستطيع أن يصلح نفسه، لأنه في الطبيعة ابن الغضب، وابن الغضب لا يستطيع أن يجعل من نفسه ابناً للرضى. وإنكم لتلاحظون معي أن المسيح لم يقل للناس تخلّصوا من أتعابكم وتعالو إليّ مرتاحين. بل قال تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. هذه الحقيقة أدركتها شارلوت إليوت، فنظمت ترنيمتها الخالدة التي قالت في مطلعها:
كما أنا، آتي الى فادي الورى مستعجلا إذ قلت نحوي أقبلا يا حمل الله الوديع كما انا، لا برَّ لي أدنو من الفادي العلي عن طلبتي لا تغفل يا حمل الله الوديع
ان التعليم الكتابي عن التبرير يتلخص بكلمة واحدة فاصلة وهي أنه لا يمكن إقامة علاقة مرضية مع الله عن طريق الأعمال. وإنما نصل الى ذلك بالاتحاد مع المسيح بواسطة الولادة من فوق. وهذا العمل الإلهي الخلاق تعدّه النعمة الإلهية بيسوع. وحين نقبل هذه النعمة يحل المسيح بالإيمان في قلوبنا فيؤصّلنا في المحبة. وعندئذ. نتبرر بالايمان ويعتبرنا الله قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة. وحينئذ يتنسَّم الرب رائحة الرضى من ثمار إيماننا العامل بالمحبة. إنه ليس للإنسان بر في ذاته، بل له تبرير من الله. والتبرير هو قلب المسيحية النابض بحب الرب الإله. وأساس التبرير هو صليب ربنا يسوع المسيح الذي مات عن خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا. فلنهتف من أعماق قلوبنا: هللويا مبارك الفادي الرب. الذي بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا صعد الى السماء وجلس عن يمين العظمة معطياً البر الأبدي لكل الذين قبلوه رباً وفادياً. فصارت لنا شهادة الآب السماوي: «وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها». هذا هو عمل النعمة المجانية. انها تبررنا وتقيم السلام بيننا وبين الله، فيعاملنا وكأننا لم نخطئ.
كان توماس هوكر عالماً كبيراً امتاز بحبه للكتاب المقدس. وفي مساء أحد الأيام فيما كان يقرأ رسالة بولس الثانية الى أهل كورنثوس، وقع نظره على الآية القائلة: «لأنه جعل الذي لم يعرف خطيةً خطيةً لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه». وبعد أن تأملها طويلاً، أخذ قلماً وكتب على حاشية الكتاب: «هذا فقط ما أردتُ معرفته: ان الإنسان أخطأ وأن الفادي تألم، وان الله أخذ على نفسه خطية الإنسان».
هذا رجل فهم معنى البر، بر الله وفداء يسوع العجيب الذي يبرر الفاجر. وهذا بالحق هو السبيل الوحيد لإدراك البر، ليس بالمجهود الشخصي بل باللجوء الى النعمة المخلّصة الغنية بالغفران.
هذه الحقيقة تكشَّفت لبطل الإصلاح العظيم مارتن لوثر فيما كان يطالع المزامير، حيث استوقفته صلاة داود حين قال: «خلصني ببرك. هاأنذا قد اشتهيتُ وصاياك. بعدلك أحيني». لأن لوثر كان قبلاً يعتقد بأن بر الله يدين ولا يبرر. أما الآن فقد عرف كيف يخلّصنا بر الله وعدله في المسيح. في اعتقادي ان رؤى داود استطلعت من بعيدٍ سرَّ الفداء، لأنه قال في المزمور ٨٥ : «الحق والرحمة التقيا، البر والسلام تلاثما».
فشكراً لله الذي ألبسنا ثوب البر وكسانا رداء الخلاص اللذين سنظهر بهما أمام الله. وسنسمع الإذاعة السماوية التي وصلت أصداؤها إلى أذني يوحنا الرائي، فرددها في كتاباته: «هؤلاء هم الذين جاءوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وبيّضوها بدم الحمل. من أجل ذلك هم أمام عرش الله يخدمونه نهاراً وليلاً، والجالس على العرش يحل فوقهم. لن يجوعوا ولن يعطشوا، بعد لأن الحمل الذي في العرش يرعاهم، ويقودهم إلى ينابيع ماء حية، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم».
رابعاً - مواعظ في الوعد بالخلاص وميلاد المسيح
العظة - ١٣ «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (متى ١٦: ١٦)
في اتصالاتي بالناس، كثيراً ما تلاقيت بمشككين لا يؤمنون بألوهية المسيح، مع أن الكتب المقدسة مليئة بالآيات التي تشهد أنه الرب من السماء. فداود دعاه بالروح رباً إذ قال: «قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك». وإشعياء النبي اعترف بألوهيته اذ قال: «لأنه يُولد لنا ولد ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه. ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام». وميخا النبي شهد له وقال: «وأنتِ يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل». ويوحنا الإنجيلي شهد له بالروح وقال: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله». وبطرس الرسول شهد له وقال: «يا رب، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك؟ ونحن قد آمنّا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي». وبولس شهد له وقال: «ومنهم المسيح حسب الجسد، الكائن على الكل الهاً مباركاً». وتوما شهد له بعد القيامة إذ سجد له وقال: «ربي وإلهي». ونثنائيل قال له: «يا معلم، أنت ابن الله!».
والمسيح شهد لنفسه معلناً ألوهيته في عدة مناسبات. قال: «أنا والآب واحد. أنا الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي. الذي رآني فقد رأى الآب. صدقوني أني في الآب والآب فيّ. قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن».
وشهد أهل السماء له، فقد قال الملاك جبرائيل لأمه مريم المباركة: «الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك. لذلك القدوس المولود منك يُدعى ابن الله». والآب السماوي والروح القدس شهدا له، ففيما كان يعتمد في نهر الأردن نزل عليه الروح القدس في هيئة حمامة، وسُمع صوتٌ من السماء: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت».
لما كنت طفلاً قيل لي إن المسيح رجل صالح مثل إبراهيم وموسى وايليا. ولما بلغت الرابعة عشرة من عمري أسرّ أحد الشيوخ في أذني أن المسيح أعظم من إنسان. ولكن لما قبلته مخلّصاً وذقتُ حلاوة وجوده في حياتي وُلد فيّ اليقين أنه ربي وإلهي، وأن الكل به وله قد خُلق. وكم تحركت عواطفي تعبّداً لشخصه كل ما قرأت إعلاناته المدّونة في سجلات الوحي.
قال: «أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي... قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن. يا يوحنا اكتب الى الكنائس: أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء. يا بولس اكتب للأجيال في كل الأرض: عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد. وأنت يا مُشكّك، انظر الملايين من كل شعب ولسان وأمة، الذين نظروا إلى يسوع فاستناروا ووجوههم لم تخجل. إنهم يسجدون له ويعبدونه آناء الليل وأطراف النهار. ولو كان مجرد إنسان لاتّهم العالم المؤمنين به أمام الله بكسر الوصية الأولى، وويل لمن يكسر وصايا الله.
حين نتكلم أمام الناس عن أعمال يسوع وتعاليمه التي تدل على ألوهيته، يقول بعضهم: نحن نسلم معكم أن يسوع إنسان صالح. إنه أعظم إنسان عاش على الأرض. أما أن تتخذوه إلهاً فهذا غلو وتجنّ على العزة الإلهية. ولكن الحقيقة تصرخ في وجههم قائلة: إن لم يكن المسيح إلهاً، فلا يجوز القول إنه صالح، لأنه طالب بأمجادٍ لنفسه لا يجوز لغير الله أن يطالب بها. قال: «ليكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب».
أما العقليون فيقولون: ان يسوع، إذ كان إنساناً حالماً، خُيّل له أنه أعظم مما هو، فادَّعى الألوهية. وهذا لا يجعله مضللاً وحسب بل مختل العقل أيضاً. هذه الأقوال ليست حديثة على المسامع بل هي قديمة العهد، بثها الشيطان في نفوس اليهود، فقالوا ليسوع: «أنت مستحق الرجم، لأنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً. حسناً قلنا إنك سامري وفيك شيطان». ولكن هل يمكن لإنسان قرأ سيرة حياة يسوع، وتأمل في تعليمه المؤيد بالعجائب يقول إنه مضلل؟! فلكي يكون الإنسان مضللاً يحب أن تكون له أهداف معينة، فماذا كانت أهداف يسوع؟
يخبرنا الكتاب المقدس أنه جاء ليخدم الإنسانية ويفديها من آثامها. هكذا نقرأ في الإنجيل: «ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين». وفي أيام جسده كان يجول في كل مكان يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس. وقال هو نفسه: ان ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك. فأين هو وجه الضلال في أهدافه؟
ثم نقرأ في الإنجيل هذا التصريح الرائع: «كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضا يحيي من يشاء. أيتها الصبية الميتة، لك أقول قومي! فقامت، وقال لوالديها: اعطوها لتأكل. أيها الشاب الميت وحيد الأرملة المحمول في النعش، لك أقول قُمْ! فقام وسلّمه يسوع لأمه الثكلى. لعازر، أيها الميت منذ أربعة أيام، هلم خارجاً! فسمع الميت صوت ابن الله وقام وخرج من قبره.
لو أن موسى أو إيليا أو اليشع أو أي كائن بشري قال: «ليكرمني الجميع كما يكرمون الآب» لوضع نفسه في مستوى الله، وهذا تجديف يستحق القتل. لاحظوا أن اليهود لما حكموا على يسوع بالموت كانت حجتهم أنه ادّعى بأنه ابن الله، مساوياً نفسه بالله. ونذكر انه قبل إصدار الحكم سأل رئيس الكهنة يسوع وهو يحاكمه: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟ فأجاب يسوع: أنت قلت - وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين الله.
ولو كان يسوع مجرد إنسان لكان اليهود محقّين في صَلْبه حسب ناموسهم، فقد جاء في الناموس أن من يجدف على اسم الله يُقتل. ترجمه كل الجماعة. سُئل رجل تجدد حديثاً: ما هو برهانك على ألوهية المسيح؟ فقال: عجباً، أتسألني برهاناً على ألوهية المسيح وقد أحياني بعد أن كنت ميتاً في الذنوب والخطايا؟ يكفي أن لساني بعد أن آمنت بيسوع قد كف عن التجديف وصار يُسّبح الله! يكفي ان يدي قد كفّت عن السرقة وصارت تشتغل وتعطي خيرات للمحتاج! أليست هذه براهين واضحة على أنه الله القادر على كل شيء؟.
وقال يسوع: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم». لو كان مجرد إنسان، فكيف يستطيع أن يكون معنا الآن، وفي ذات الوقت مع المجتمعين باسمه في الصين والهند وأمريكا وكل بلد تحت الشمس؟
قبيل انطلاقه إلى عرشه السماوي قال المسيح: «دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر». فمن يستطيع أن يقول هذا إلا الله الحي المالئ الوجود، والذي الزمن والأمكنة في سلطانه؟
ومن البراهين الواضحة على ألوهية المسيح قبوله السجود من الكثيرين. فيوحنا يخبرنا أن الأعمى الذي شفاه يسوع لما طُرد من المجمع ووجده يسوع، قال: «أومن يا سيد» وسجد له. يخبرنا متى الإنجيلي أن الذين كانوا في السفينة جاءوا وسجدوا له. ويخبرنا لوقا الانجيلي ان يايرس رئيس المجمع جاء وسجد ليسوع.
فالمسيح الذي شدد على الوصية القائلة: «للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد» لو كان مجرد إنسان، هل كان يقبل السجود لذاته؟ في رؤيا ٢٢ نقرأ شهادة يوحنا: «وأنا يوحنا الذي كان يسمع وينظر، وحين سمعت ونظرت خررت لأسجد أمام الملاك الذي كان يريني. فقال لي انظر لا تفعل، لأني عبد معك ومع إخوتك الأنبياء. اسجد لله!» فالملاك لم يسمح ليوحنا بالسجود له، لأن السجود لله فقط.
العظة - ١٤ «ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» (مرقس ١٠: ١٧)
كان يسوع كعادته صانعاً خيراً ويشفي جميع المتسلّط عليهم إبليس، وإذا بناموسيّ قام ليجربه. والناموسيّ أستاذ في تعليم الشريعة وتفسيرها للناس. فهو إذن ملمّ بالوصية الخاصة بالمحبة، ومع ذلك سمح لنفسه بتجربة المسيح، وفي التجربة خروج على مبدأ المحبة. ويبدو أنه كان قد أعدّ فخاً ليسوع ليمتحنه، فإن كان لديه شيء مهم في الحياة، يتعلمه منه، وإن لم يجد لديه ما يهم، يعرض بتعاليمه على أساس أن لا لزوم لها. ولينجح في غايته استعمل الكياسة والمنطق إذ قال: «يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» كان قصده سيئاً إلا أن سؤاله تضمن حقيقة مهمة وهي أن اليهودية بكل ما فيها من تعاليم وأنظمة تترك الإنسان في شك من جهة خلاص نفسه. فالناموس الموسوي مع كثرة ذبائحه لا يستطيع أن يخلّص أحداً، بل يترك الإنسان في سؤاله الحائر: ماذا أفعل لأرث الحياة الأبدية؟
ومثل اليهودي الهندوسي المتصوف الذي يهيم في مجاهل الحياة قائلاً: أين الطريق؟ ومثله الروماني المثقف، الذي يجول في متاهات الأفكار قائلاً: أين الحق؟ ولكن لما جاء ملء الزمان أتى يسوع وقال للهندوسي وللروماني: أنا هو الطريق والحق والحياة.
يقول ثقات المفسرين إن سؤال الناموسي كان وليد فكرة مادية، أساسها ميراث كنعان الأرضي. وهذه الفكرة ما زالت تملأ تفكير كل يهودي أن يسكن في فلسطين، كأن الحياة لا تبدأ إلا في فلسطين. ولكن علاّم الغيوب وفاحص القلوب، إذ علم بدخيلة ذاك الناموسي، أجابه بسؤال محرج: ما هو مكتوب في الناموس. ماذا تقرأ؟ وكأنه يقول له: ألا تقرأ خلاصة الناموس المكتوبة على صُدرة ثوبك؟ اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد، فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك وتحب قريبك كنفسك. لقد سبق للمسيح أن قال ليهودي آخر إن محبة الله والقريب هي الوصية الأولى والعظمى في الناموس. وقد جعل حفظها شرطاً للحياة، إذ قال: «افعل هذا فتحيا». وبذلك تجاوز تقليد الشيوخ الذي أحله الفريسيون محل شريعة الله وعلق الناموس كله بوصيتين تتضمنان كل الوصايا الأخرى.
١ - تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك، وهذا يعني أن تتّوج الله ملكاً على قلبك، وأن تؤمن بصلاحه وكماله المطلق، وأن تكرس له ذاتك تكريساً كاملاً، وأن تعبر له عن محبتك بالطاعة الكاملة والخدمة المستمرة.
٢ - تحب قريبك كنفسك، هذه الوصية لقبها الرسول يعقوب بالناموس الملوكي، نظراً لسمّوها وفضلها واستحقاقها وثوابها. قال الرسول بولس: لأن لا تزن، لا تقتل، لا تشهد بالزور، لا تشته، وإن كانت وصية أخرى، هي مجموعة في هذه الكلمة «تحب قريبك كنفسك» لأن المحبة لا تصنع شراً للقريب. وقال الرسول يوحنا: «ولنا هذه الوصية منه: أن من يحب الله يحب أخاه أيضاً».
كان جواب المسيح بمثابة مرآة صافية رأى الناموسي نفسه فيها، وإذ هي بعيدة عن الكمال الذي يطلبه الناموس، فخجل ونُخس في ضميره لأنه وهو معلّم الناموس لم يستطع القيام بكل متطلبات الناموس. ولذلك حاول الخروج من المأزق الحرج بسؤالٍ آخر ألقاه على المسيح: من هو قريبي؟ لكأنه أراد التخلّص من الالتزام الذي حثّه المسيح على التقيّد به. ويبدو أن الناموسي طرح سؤاله الأخير باستعلاء مردّه الى البر الذاتي. بدليل قول البشير لوقا: «أما هو فأراد أن يبرر نفسه، قال ليسوع ومن هو قريبي؟».
ونلاحظ انه تحاشى أن يقول شيئاً عن محبة الله لأنه سقط في الامتحان. أما محبة القريب فهي في نظره مقتصرة على أبناء جنسه اليهود. وبما أنه يحبهم توهم أنه وفّى المحبة كل حقها. ولكن المسيح اذ أراد أن يخرجه من أوهامه العنصرية، أورد له مثل السامري الصالح.
وخلاصته أن يهودياً مسكيناً وقع في ظروف أليمة، فأغاثه سامري كريم النفس. كان هذا اليهودي مسافراً من أورشليم الى أريحا فوقع بين لصوص أشرار قساة، لم يكتفوا بسلب أمواله بل جردوه أيضاً من ثيابه. ولكي يمنعوه من اقتفاء أثرهم أثخنوه بالجراح وتركوه بين حي وميت. فعرض أن كاهناً نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابله دون أن يسعفه. وكذلك لاوي أيضاً مرَّ به ونظر إليه ولكن لم يهتم به. كان الاثنان من رجال الدين اليهودي ووظيفتهما تحتم عليهما أن يترفقا بضعيفٍ منكوب، ولكنهما لم يفعلا.
فكم هو محزن أن نرى الذين يجب أن يكونوا أمثلةً للرحمة أمثلةً للقسوة، وأن نرى الذين يجب أن يفتحوا أحشاء الرأفة في الآخرين هم أنفسهم يغلقون أحشاءهم عن الملهوف والمضطر. ولكن ما أحجم عنه الكاهن واللاوي فهذا فعله السامري. يقول البشير إنه تحنن على المنكوب وتقدم وأغاثه. لم تكن شفقته مجرد عاطفة عابرة تكتفي بكلمة أسف ثم تنصرف، بل كانت عملية صدرت من القلب الى اليد. فتقدم اليه وضمد جراحه، ثم حمله على دابته الى أقرب فندق، واستأجر له غرفة. ويُحتمل أنه قضى الليل إلى جانبه. وفي الصباح قبيل انصرافه ترك لصاحب الفندق مبلغاً من المال للإنفاق عليه إلى أن يُشفى. كان هذا اكراماً أكثر مما يتوقع من صديق أو أخ. ومع ذلك فالذي قام به، أجنبي غريب عن رعوية اسرائيل.
هذا المثل الرائع يذكرنا بحب الرب مخلصنا الذي أنقذنا من سلطان الشر. فالشيطان عدو النفوس جذبنا بالشهوة الى الخطية، والخطية سلبتنا الكرامة، وعرّتنا من الفضيلة وطعنتنا بأوجاع مختلفة، وتركتنا أمواتاً في الذنوب. ولكن «الله الذي هو غني في الرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات في الذنوب والخطايا أحيانا مع المسيح».
يظن كثيرون أنهم بأعمال الناموس ينهضون من نوم الموت، ولكن الناموس يشبه الكاهن واللاوي، ينظر إلينا ولكنه لا يترأف ولا يغيث، لأنه رسول انتقامٍ وليس رسول رحمة. انه ينذر كل إنسان: إن النفس التي تخطئ هي تموت. ولكن شكراً لله لأن ناموس روح الحياة في المسيح ليس هكذا. فأمام مأساتنا مثل دور السامري الصالح، فأعتقنا من ناموس الخطية والموت. وشكراً له من فادٍ صالح تحنّن علينا وعصب جراحنا وصبّ عليها، لا زيتاً ولا خمراً، بل دمه الثمين الذي أُريق على الصليب. وهو يعتني بنا، وقد دفع نفقات شفائنا على حسابه وفقاً للقول النبوي: «تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شفينا».
وأخيراً عقّب يسوع على المثل بسؤال الناموسي: «أي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص؟» فقال الناموسي: «الذي صنع معه الرحمة». لم يكن في وسع يهودي متعصب أن يعترف بفضل سامري، وإنما المسيح انتزع هذا الاعتراف من فمه انتزاعاً. ولعله أراد أن يقول للمسيح: انقاذ نفس يهودي من الموت عمل عظيم. ولعله تحاشى أن يتلفظ بكلمة سامري لئلا يتنجس فمه. لم يوبخه المسيح على كبريائه وحقده، وإنما نصحه أن يحذو حذو السامري قائلاً: «اذهب أنت واصنع هكذا».
هذه صورة أخرى للقانون الذهبي الذي وضعه المسيح حين قال: «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم هكذا بهم». وهي رسالة تقول لجميع الناس في كل عصر وجيل وشعب وأمة: «تعلَّموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة». اصنع الرحمة يا أخي بروح سخيّة حتى ولو كان المحتاج ليس من شعبك ولا من طائفتك.
يقدم لنا مثل السامري الصالح درسين مهمين جداً:
١ - الإنسانية في نظر الله لا تتجزأ: فالإنسان أخو الإنسان. لا فرق بين جنس أو لسان أو لون أو دين. ومهما ارتفعت الفوارق وناطحات السحب، فإنها لن تعلو الى السماء، لأن السماء تضحك من الفوارق التي يقيمها الناس. وان للبشر مخلصاً وحيداً اشترك معهم في اللحم والدم ليصير أخاً للجميع. ومات عن الجميع لكي يخلّص الجميع، ليكونوا أمة مقدسة.
٢ - أعمال التضحية خالدة لأنها من وحي الفداء: فإن كان السامري لم يعرف اسمه، فإن عمله العظيم كُتب في إنجيل المسيح بأحرف من نور، وسيبقى ما بقي الزمان.
وكم من مؤسسة خيرية تأسست في العالم بوحيٍ من مَثَل هذا السامري الذي لُقب بالصالح. ولعل صنيعه أبلغ ترجمان للوصية العظمى: «تحب قريبك كنفسك». وهو يعلمنا أن نرى في كل إنسان قريباً، وفي كل قريب أخاً، وفي كل أخٍ حبيباً. ما أحوجنا الى تدريب حواسنا على اكتشاف حاجات الغير لنسدّ أعوازهم فنتمم ناموس المسيح. وليكن معلوماً عندنا أن من يساعد إنسانا معوزاً، أو ينشر شعاعاً من نور على حياةٍ أظلمها المرض أو الحزن أو الخطية هو إنسان الله الكامل. ولنذكر قول ربنا ومخلصنا يسوع: «من سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد باسم تلميذ، فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره».
العظة - ١٥ ولادة المعمدان (لوقا ١)
تمَّت ولادة سابق المسيح، يوحنا المعمدان، في زمن كان اليهود يعيشون فيه في أحلك ظلمة مرّت بهم في تاريخهم الطويل. كانت النبوة قد توقفت منذ أربعماية عام ونيف، أي منذ وفاة ملاخي النبي. وكانت يد روما ثقيلة عليهم فأذلّتهم وداست كرامتهم، وأقامت عليهم حكاماً أشراراً، وتدخلت في شؤونهم الدينية. ففي غمرة هذه الأرزاء كان اليهودي المخلص قابعاً في عُقر داره مترقباً مجيء المسيا المخلّص. إلا أن انتظاره كان ممضّاً لأن أمّته كانت غارقة في الشر. فعامة الشعب كانوا جهلة لا يعرفون لهم رباً ولا نبياً ولا كتاباً.
بيد أنه في تلك الفترة الحالكة السواد ظهر في اليهودية كوكبان لامعان، هما زكريا الكاهن من فرقة أبيا، وامرأته أليصابات من بنات هرون.
يقول الإنجيل المقدس إن الزوجين كانا كلاهما بارين أمام الله. كانا بلا لوم في وسط جيل معوج وملتوٍ، يضيئون بينهم كأنوار متمسكين بكلمة الحياة. ولكن شيئاً كان يحزن قلبيهما، وهو أنه لم يكن لهما ولد، إذ كانت أليصابات عاقراً. ويبدو أنهما بسبب عدم إنجاب الأولاد اعتبرا نفسيهما واقعَينْ تحت غضب الله. ولكن كما قال الرسول: «كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله». فلولا هذا الحزن الذي سمح الله به، لما كانا قد صارا أهلاً لقبول أول إعلان عن اقتراب مجيء المسيا. فالحزن بحسب مشيئة الله يفتح أعيننا ويعّدنا للرؤى داخل الحجاب. إنه يصعدنا إلى جبل الرؤيا، ويكشف لبصائرنا المناظر التي حُجبت عمن أبوا السير في وادي البكاء.
انه يعدّنا لنرى ملاك الله واقفاً بجانب مذبح البخور في ساعة الصلاة، حيث نسمع كلمات لا يسوغ للشفاه البشرية أن تتلفظ بها. والمعروف بالاختبار أن الحزن بحسب مشيئة الله يحملنا على فتح قلوبنا لأولئك الذين حطم الحزن قلوبهم فجاءوا إلينا طالبين التعزية. ولعلنا بعد ذهابهم ندرك أننا أضفنا المسيح في شخص المطرودين من أجل البر. إذن لا تجزع من الحزن يا أخي لأنه الى ليلة قصيرة، وفرح الرب يأتي سريعاً. ولعله يأتي بعد انتظار طويل وبعد صلاة كان يُعتقد أنها فاشلة. قد تخور العزيمة ويضعف الرجاء تحت وطأة الحزن. وقد يبدو أن كل أمل قد تبدد، ولكن كما قال داود: «في الصبح يوصي الرب رحمته». وبالليل ستعرف أن الألم والوحدة وذرف الدموع كانت خطوة ضرورية لانتظار رسول السماء ليؤكد لك أن صلاتك قد سُمعت.
يخبرنا لوقا الإنجيلي انه في يوم من أيام الخريف كانت نوبة زكريا ليبخر في قدس الهيكل. وكان جمهور العابدين يصلّون وقت البخور خارجاً. وفيما زكريا يصلي ظهر له ملاك الرب واقفاً عن يمين المذبح، فارتاع الكاهن القديس واضطربت نفسه فقال له الملاك: «لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سُمعت. امرأتك ستلد ابناً وتسميه يوحنا. وولادته ستُقابل بفرح عظيم وسيكون نذيراً للرب، ومفرزاً عن كل ما يدنس. خمراً ومسكراً لا يشرب. سيمتلئ من الروح القدس من بطن أمه، وسيرث روح ايليا. ويتقدم أمام وجه المسيح ليعّد له الطريق بإرجاع قلوب الآباء الى الأبناء، لكي يهيئ شعباً مستعداً للرب. وجاء يوحنا المعمدان للشهادة للنور لكي يؤمن الكل بواسطته، يهوداً وأمماً. وليضع الأمور في نصابها وبّخ كبرياء اليهود وغطرستهم. إذ قال لهم: «لا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا ابراهيم أباً، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم». وكأنه بتوبيخه هذا أراد أن ينزع البغضاء المتأصّلة في قلوب اليهود من نحو الأمم. وفي هذا تمهيد للأمم لكي يُقبلوا الى معرفة الحق في انجيل المسيح الآتي.
سمع زكريا كلمات الملاك باستغراب ،ويبدو انه لم يصدق. وسأل: كيف أعلم هذا؟ إني شيخ، وامرأتي متقدمة في أيامها. صحيح أن زكريا وأليصابات صلّيا طويلاً وطلبا من الله نسلاً ليرفع العار عنهما، إلا انهما كفّا عن هذا الطلب لأن السماء لم تعطهما أية علامة بأن صلاتهما قد استُجيبت. ولكن ملاك الله إذ رأى ارتياب زكريا قال: «أنا جبرائيل الواقف قدام الله، وقد أرسلني لأكلمك وأبشرك بهذا. وبما انك لم تصدق كلامي، الذي سيتم في وقته، ها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم الى اليوم الذي يكون فيه هذا».
كان المصلّون في الدار الخارجية مندهشين من إبطاء زكريا، لأن العادة أن لا يبقى الكاهن طويلاً داخل القدس. فلما خرج أحنوا رؤوسهم ليتلو عليهم آية البركة المعتادة. واذا به صامت يومئ اليهم، ففهموا انه رأى رؤيا. ولعلنا نجد في صمت رجل الله وايماءاته صورة العهد القديم الذي برموزه وإشاراته لم يستطع أن يكمل الذي يخدم. وقد يكون من حقنا أن نرى في صمت زكريا وعجزه عن تلاوة البركة، سبباً لأن نردد قول بولس: ان ما عتق وشاخ ينبغي ان يتوارى أمام جلال العهد الجديد. عهد إنجيل المسيح باعجازه واقتداره.
بعد برهة من الزمن تحققت أليصابات أن الله بدأ يحقق الوعد، اذ أحست بالجنين يتحرك في أحشائها، فاعتزلت الناس وأخفت نفسها خمسة أشهر. ولعلها لزمت بيتها لتتعبد لله شاكرة لانه افتقدها ونزع عارها. وهناك سبب آخر لانزوائها، وهو أن لا تمس نجساً طالما كانت حاملة ابنها نذير الرب. وأخيراً تمت أيامها لتلد فولدت ابناً. وسمع الجيران والأقارب أن الرب عظّم رحمته لأليصابات ففرحوا معها. وفي اليوم الثامن جاءوا ليختنوا الصبي وفقاً للناموس، واقترحوا ان يسمّوه زكريا تيمُّناً باسم أبيه. فاعترضت الأم وقالت: لا بل يُسمى يوحنا. وقال الأهل إنه اسم لم يتسمَّ به أحدٌ من العشيرة! ثم التفتوا الى الأب وسألوه: ماذا يريد أن يُسمّى الصبي؟ فإذ كان أبكماً تناول لوحاً وقلماً وكتب اسمه «يوحنا». وما أن فعل حتى حُلت عقدة لسانه فتكلم وبارك الله. ثم امتلأ من الروح القدس وتنبأ قائلا: «مبارك الرب إله إسرائيل، لأنه افتقد شعبه وصنع لهم فداءً وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه».
كان زكريا قد شُحنت روحه بعواطف مقدسة، والآن أتته الفرصة ليبديها. ولكننا نلاحظ أنه لم يذكر شيئاً عن شؤون أسرته كنزع العار عنها بولادة الطفل، بل حصر نشيده في أمجاد المسيا الآتي والبركات التي سُتعطى للعالم به. لقد بارك الله من أجل مجيئه في المسيا لافتقاد شعبه بعد هجر طويل. قديماً افتقدهم الله فأخرجهم من بيت العبودية في مصر. ثم افتقدهم في الجوع وأعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا.
أما الآن فهو آتٍ بنفسه لزيارتهم وافتقادهم وفدائهم. وهل من امتياز كهذا أن يأتي الله ليصير في عمانوئيل الله معنا؟! ويفتدي المبيعين تحت الخطية.
نعم، هكذا أُقيم للبشر قرن خلاص بالمسيح الذي يشهد له جميع الأنبياء أن ليس بأحدٍ غيره الخلاص. ويلقي زكريا نظرة حنان على طفله، ثم يرفع صوته بالتسبيح محلقاً كالنسر في الفضاء فيقول: وأنت أيها الصبي نبيَّ العليّ تُدعى، لأنك تتقدم أمام الرب لتعدّ طريقه، لتعطي شعبه معرفة الخلاص بغفران الخطايا، بأحشاء رحمة إلهنا المشرق من العلاء، ليضيء للجالسين في الظلمة وظلال الموت.
وهكذا كشف عن بصيرة زكريا فرأى أمجاد الفادي الآتي باسم الرب. ورأى ابنه يوحنا يمهد الطريق بإعداد الناس لقبول إنجيل النعمة المخلصة من الخطايا.
فقد كانت حالة الناس سيئة جداً بسبب الخطية، ولهذا كانت مهمة يوحنا كسفيرٍ للمسيح أن يوبخ الخطية، مع التأكيد أن الغفران ممكنٌ بأحشاء ورحمة إلهنا. هذه الرحمة افتقد العالم بها يسوع المُشرق من العلاء، والذي وصفته الكتب المقدسة: بكوكب الصبح المنير وبشمس البر المشرقة والشفاء في أجنحتها.
كان الإنجيل الذي قال داود إنه سراجٌ لأرجلنا ونورٌ لسبيلنا آتٍ سريعاً. ولكن ليس حرفاً مكتوباً، بل إلهاً متجسداً باسم عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا. وهذا الإله المتجسد يهدي أقدامنا في طريق السلام. ولا غرو بذلك فهو رئيس السلام الذي يثبت مملكته ويعضدها بالحق والبر. فلنسبّح الرب الإله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة. لأنه أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع.
ولنهلل لعمانوئيل الذي صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملؤاً نعمة وحقاً. ولنعبده باطمئنان مقدس لأن الله محبة، ولا خوف في المحبة، لأن المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج. ولنعبده ببر وقداسة متممين قصد الإنجيل الذي قال: إرادة الله قداستكم. لكي يعيد لنا الرب المسيح صورة الله التي فقدناها بسبب السقوط.
والمناسبة تدعونا لأن نخلع من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، ونتجدد بروح ذهننا، ونلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق. ولنعبده كل أيام حياتنا بفرح، ولندخل الى حضرته بترنم. مرددين كلمات المرنم: «واحدةً سألتُ من الرب وإياها ألتمس: أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي. لكي أنظر جمال الرب وأتفرس في هيكله».
العظة - ١٦ «اسمه عمانوئيل» (اشعياء ٧: ١٤)
قال يوحنا الإنجيلي: «في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله... والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيدٍ من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً». هذه هي رسالة التجسد: الله أتى الى عالمنا في يسوع المسيح وكلم البشر، فصار يسوع كلمة الله وفكر الله مسموعاً عند الناس. اسمه «عمانوئيل» ومعناه: الله معنا.
قال الشاعر الإرلندي بيتس: ان البحث عن الله ينتهي بالتأمل في شخص يسوع المسيح، لأننا نرى فيه صورة الله غير المنظور. وهو يعطي نفسه للأنقياء القلب فيعاينون الله في وجهه.
وفي كتاباتهم الموحى بها، أشار رجال الله القديسون إلى سرٍّ إلهي اشتهت الملائكة أن تطلع عليه، بقي مكتوماً خلال أحقاب ما قبل التجسد، إلى أن أعلن في ملء الزمان أن المسيح فينا رجاء المجد. وأن الخلائق الساقطة ستجد في تجسد المسيح كنز معرفة الخلاص، وأن في صليب المسيح كنز الفرح والتسبيح.
منذ القديم رأى الناس في النور المنبعث من مذود بيت لحم مجد التواضع. وتعلموا من هناك أنه ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه عن أحبائه. حين نتأمل في شخص يسوع من خلال الانجيل، نرى انه يعكس مجد الله في التواضع بحيث نشعر بقربه منا.
قال له المجد: «الكلام الذي أكلمكم به، لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال». فعَيْن فادينا المبارك تفيض علينا حياة الآب ونعمة فوق نعمة. وعن طريق فادينا المبارك تعود هذه إلى الآب وتسبيحة فوق تسبيحة.
يخبرنا الكتاب المقدس أن الرب أعلن ذاته لموسى على جبل حوريب وقال له: «قل للشعب أهيه الذي أهيه أرسلني إليكم». أما بالنسبة لنا، فقد شاء أهيه الذي أهيه نفسه أن يأتي الينا ليكشف لنا سرَّ التقوى بظهوره في الجسد. وكانت اعلاناته لنا: «أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف. أنا هو خبز الله النازل من السماء، الواهب حياة للعالم. أنا هو الباب. إن دخل بي أحدٌ فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى. أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي. أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة. أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا. أنا هو ابن الله وقد صرت ابن الإنسان، وأتيت الى العالم لكي أخدم ولأبذل نفسي عن كثيرين».
وكما أن رئيس الكهنة في العهد القديم كان يخلع حُلته الكهنوتية الفاخرة ليخدم في ثوب بسيط، هكذا يسوع فادينا أخلى نفسه وأخذ صورة خادم بسيط. وقدم نفسه ذبيحةً للتكفير عن خطايانا، فكان لنا الكاهن والذبيحة. وبذلك تم القول النبوي: «وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شُفينا» نعم هكذا عومل الرب المتجسد بالمعاملة القاسية التي كنا نستحقها، لنُعامل نحن بالمعاملة السعيدة التي كان هو يستحقها. هكذا دِين لأجل خطايانا التي لم يشترك فيها، لنتبرر ببره الذي نشترك فيه. هكذا قاسى الآلام المريرة التي كانت مُعدَّة لنا، لننال نحن الحياة التي كانت له في ميراث النور.
ويا لها من نعمة فاقت كل عقل وتجاوزت كل فهم، ان الله لكي يؤكد لنا عهد سلامه بصورة لا تنقص، أعطانا ابنه الوحيد فارتبط معنا برباط النسب، الذي صيّرنا أولاد الله واخوة المسيح. هذا الامتياز العجيب الذي أُعطي لإنسان العهد الجديد تصوره زكريا النبي فقال: ما أجوده! ما أجمله! وكذلكم يوحنا الانجيلي، فمع انه من أبناء عهد النعمة إلا أنه اندهش من الاعلان، فقال: انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله.
لقد ظل اليهود أحقاباً طويلة ينتظرون مجيء المخلص. وركزوا على هذا المجيء أبهج آمالهم وأعظم انتظاراتهم. في تسبيحاتهم ونبواتهم وفي طقوس هيكلهم وفي عباداتهم العائلية كانوا يقدسون اسمه. ومع ذلك فلما جاء في ملء الزمان لم يقبلوه كقدوس، بل امتهنوه وحقروه. وكان في نظرهم تلك الصورة التي رسمها اشعياء النبي حين قال: «كعِرْقٍ من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال فننظر اليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمستَّر عنه وجوهنا. محتقرٌ فلم نعتدّ به».
ركّز أبناء هذا الشعب (الذين وصفهم بولس بقساة الرقاب) كل آمالهم وانتظاراتهم في الماديات التي في أرض كنعان والتي تفيض لبناً وعسلاً. ومنذ أن دخلوا هذه الكنعان حادوا عن وصايا الله، وعبثاً أنذرهم الله بأنبيائه، وعبثاً ضربهم بالحروب مع شعوب الأرض. فبعد كل إصلاح، كانوا يوغلون في الارتداد عن الله. والمؤسف جداً هو أن اليهود إذ تركوا الله القدوس غاب عنهم مغزى عبادتهم الطقسية التي تشير رموزها إلى المسيح.
فحاول الكهنة ملء الفراغ الناشئ بمضاعفة مطالب الناموس. ولكن بقدر ما زادوا من الصرامة قلّت محبتهم لله. وراحوا يقيسون قداسة حياتهم بنسبة برهم الذاتي، الأمر الذي قادهم الى الكبرياء واحتقار الآخرين، كما أخبرنا لوقا الإنجيلي. ومع كثرة الوصايا التي وضعها الربيون انصرفوا عن حفظ الناموس. ولهذا وبخهم المسيح قائلاً: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تعشّرون النعنع والشبث والكمون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والايمان».
نفهم انهم بسبب هذه الأمور لم يفهموا مهمة المسيا على حقيقتها. فبدلاً من أن يطلبوا الفداء من الخطية طلبوا التحرّر من نير الرومان. فتصّوروا المسيا قائداً فاتحاً آتياً ليسحق روما الظالمة، ويرفع من شأن الشعب اليهودي ويجعل سلطانه شاملاً. هذه التصورات التي لا شك أنها من ابتداع الشيطان مهّدت لرفض المسيا، وبالتالي لصلبه كمجرم أثيم.
صحيح انهم ما انفكوا عن درس النبوات، ولكنهم كانوا يدرسون بلا فهم روحي. ونجم عن ذلك إغفال النبوات التي تشير الى اتضاع المسيح في مجيئه الأول. وبسبب تعصبهم العنصري فسروا النبوات بما يتفق مع رغائبهم القومية.
يعيش المسيحيون في جو المجيء، وفي هذه الفترة يتعبد المؤمنون ويتأملون في تنازل رب المجد واتخاذه جسداً بشرياً في بيئة وضيعة جداً. لكنه شاء أن يحجب مجده حتى لا يستدعي جلاله اهتمام الناس، وهكذا يجتذب اليه قلوبهم بجمال الوداعة والتواضع، فيقتادهم الى خلاص الله بالفداء الذي أكمله. وقبل صعوده الى مجده الأسمى وعد بأنه سوف يعود ثانية لفداء أجسادنا. وبانتظار ذلك أمر بالسهر والاستعداد. قال: «لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسُرُجكم موقدة، وأنتم مثل أناسٍ ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس». وقد علّمنا في مثل العذارى ان هناك أموراً لا يمكن الحصول عليها في اللحظة الأخيرة. لانه كما أن العذارى الجاهلات لم يستطعن اقتراض الزيت من العذارى الحكيمات، هكذا في العلاقة مع الله لا يستطيع أحد أن يستعير هذه العلاقة، بل ينبغي أن يمتلكها الانسان شخصياً.
والحق ان هذا المثل كان نبعاً فياضاً لعظات كثيرة لشرح مأساة الفرصة الضائعة. ويا لها من مأساة تثير الدموع! فيا جميع المنتظرين الرب يسوع اذكروا أنكم تنتظرون الله الآن. انظروا أن تعملوا هذا كأناسٍ ينتظرون الرب من السماء. تأكدوا أن الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم في وجه يسوع المسيح من أقوى روابط اتحاد المؤمنين التي أُعطيت في كل أحقاب التاريخ. وتأكدوا أن الرب آتٍ ليتمجد في قديسيه الذين افتداهم، وهو سيأخذهم الى منازل الآب كما سبق ووعد قائلاً: «حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً».
فإذا أردت أن تعرف كيف تنتظر فاديك عليك أن تعيش منذ الآن في انتظار روحي لله، لأن الله وحده قادر أن يهبك الحياة الروحية العميقة التي تليق بمؤمن ينتظر الرب، ويقول مع العروس: «آمين تعال أيها الرب يسوع».
العظة - ١٧ «سلامٌ لك أيتها المنعَم عليها» (لوقا ١: ٢٨)
منذ القديم القديم والناس يبتهجون بالأنباء السارة ويحتفلون بها تعبيراً عن سرورهم وابتهاجهم. ففي الفردوس ابتهج الأبوان الأولان حين أعلن الله أن نسل المرأة «يسحق رأس الحية». وفي أثناء الطوفان ابتهج نوح حين عادت الحمامة الى الفلك ومعها غصن الزيتون الذي ينبئ بارتفاع غضب الله.
ولكن كل تلك الأخبار السارة كانت عابرة وفرحها مؤقتاً، وأيامها لا تُحسب شيئاً بالنسبة لذلك اليوم العظيم، الذي جاء فيه ملاك الرب وزفَّ أسعد بشرى سُمعت في الأرض منذ تكوينها: «أيتها العذراء المباركة، ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى. وأنت يا يوسف بن داود، لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم». نعم هذا هو اليوم العظيم الذي صنعه الرب وهو عجيب في أعيننا. لأن فيه أُعطينا المنقذ الرب لنعبده بقداسة وبر جميع أيام حياتنا. فلينظر الناس الى المشرق من العلاء ليضيء عليهم بوجهه ويمنحهم سلامه. ليقبلوه فادياً ومخلّصاً فيبدل ذلّهم بالعز وأسْرهم بالحرية وضعفهم بالقوة.
وكيف لا يبتهج الجميع ويسبحون الله لأن عمانوئيل جاء يحقق الآمال، بعد أن كانت خلال الأجيال الطويلة مجرد وعد يثير الابتهاج في قلوب رجال الله؟ فابراهيم سُرّ حين قيل له: وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأمم. ويعقوب في لحظاته الأخيرة استنار وجهه بفرح سماوي وتلفظت شفتاه بنبوة عن مجيء شيلون المرسَل من الله. وموسى اغتبط بأن يخبر عنه حين قال لشعبه: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من إخوتك مثلي، له تسمعون». وداود سبح الله بقيثارة ذات عشرة أوتار قائلاً: «ويكون اسمه الى الدهر. قُدّام الشمس يمتد اسمه. ويتباركون به». وإشعياء النبي ارتاع في الهيكل حين رأى مجده وسمع السرافيم يسبحون له قائلين: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده مِلْء كل الأرض». ودانيال تهلل حين أعلن له الآتي بالبر الأبدي لختم الرؤيا والنبوة ومسح قدوس القدوسين المسيح الرئيس. وحزقيال تهلل حين رآه راعياً يفتقد غنمه المشتتة في يوم الغيم والضباب ويخلصها.
وانه لأمر مدهش ان تُختم نبوات العهد القديم عنه في ملاخي٤: ٢ بلقب شمس البر، وأن يفتحها العهد الجديد بلقب المشرق من العلاء ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت.
أيها الأحباء: فتشوا الكتب فتروا أن النبوات المقدسة صرحت بأنه في ملء الزمان سيظهر المخلّص العظيم ليهدي أقدامنا في طريق السلام، وتدركوا ان رسالة الكلمة الذي صار جسداً هي إنقاذ جميع الذين ارتهنهم ابليس في سجن الخطايا. ولكن أكثر ما يدهشنا أن ملاك الرب لم يأتِ الى احدى العواصم الكبرى ليعلن النبأ السار، ولا الى ملكة متوجة. بل أتى الى قرية صغيرة والى عذراء فقيرة من عامة الشعب، فبادرها بتلك التحية المجيدة: «سلام لك أيتها المنعَم عليها. الرب معك. مباركة أنت في النساء. قد وجدتِ نعمة عند الله». وما أمجدها من تحية، لا تساويها الهتافات للملوك! وهي تعظم الفضيلة وتكرم أنقياء القلب وتؤثرهم على أصحاب التيجان.
كان اليهود يخبرون أبناءهم بأن المسيا الآتي سيكون ملكاً عظيماً مقتدراً يستعمل قدرته الفائقة في حربٍ ضد أعداء الأمة، ويُعيد لشعب اسرائيل أمجاده الغابرة. وهذا الفكر كان محركاً لكل ثوراتهم وانتفاضاتهم ضد الرومان المستعمرين.
ولكن مجيء ملاك الله الى عذراء فقيرة ليبشرها بأنها ستكون أماً للمسيح. وضع حداً لأوهامهم، وأبان ان المسيح المنتظر آتٍ ليخلص شعبه من خطاياهم. وانه آتٍ باتضاع ليخزي المستكبرين.
فيا له من أمر عجيب! أن يتواضع رب المجد لأنه وهو القدير كان في وسعه ان يتجسد في قصر وليس في مذود. ولكنه أراد وسُرّ بأن يفتقر وهو الغني ليغنينا بفقره. وأن يتواضع وهو الغني ليعطينا أن نرث معه في مجده. ولعله أراد أن يعلم البشر أن أفكار الله غير أفكارهم، وتقديره غير تقديرهم! نحن نعظم أصحاب الجاه والسلطان والنفوذ بغض النظر عن صفاتهم الأدبية. أما الله فلا ينظر الى الانسان من خلال هالة مجده أو مركزه المرموق، بل بالحري ينظر اليه من خلال وداعته واتضاعه. بحسب أفكار البشر كان في أورشليم مئات الفتيات أجدر من مريم لحمل ملك الملوك. ولكن بحسب أفكار الله لم تكن ثمة فتاة بطهارتها ونقاوة قلبها. فاختارها الله متمماً ما قيل في المزامير:
«اسمعي يا بنت وانظري وأميلي اذنك وانسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيدك فاسجدي له». وفي يقيني أن حُسن العذراء الذي نال نعمة عند الله هو جمال قلبها النقي زينة الروح الوديع الهادي الذي هو عند الله كثير الثمن.
كم من أتقياء أفاضل لا عيب فيهم سوى أنهم فقراء. وكم من أشرار يُجلون ويكرمون ولا مزية عندهم سوى انهم أغنياء! ولكن هكذا صارت المسرة أمام الله، انه اختار فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه.
هكذا قال إشعياء النبي: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا». وهكذا قال ملاك الرب: «فستلد العذراء ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم». ونفهم من هذا الإعلان ان يسوع منذ البدء أعدَّ نفسه لفداء الخاطئ. وهذه الحقيقة ملأت قلب العذراء فرحاً في الرب، فاطلقت لسانها بالتسبيح قائلة: «تعظّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلّصي. لأنه نظر إلى اتّضاع أمته، فهوذا من الآن جميع الأجيال تطوبني، لأن القدير صنع بي عجائب واسمه قدوس، ورحمته الى جيل الأجيال».
فلنسبح الله ولنبتهج بإله خلاصنا، لأن مخلّصنا يقدر ان يخلّص إلى التمام كل الذين يتقدمون به الى الله الحي. وهو يريد ان يُلبسنا ثياب البر ويكسونا رداء الخلاص! قد يندهش الانسان الطبيعي من أن الاله العزيز المقتدر الذي تعدَّينا على شريعته يتواضع هكذا من أجلنا ليخلّصنا، وخصوصاً ان خلاصنا اقتضاه الهبوط الى دنيانا والاشتراك معنا في أتعابنا وآلامنا.
ولكن الدهشة لا بد أن تزول حين نذكر أن إلهنا غني في الحب والرحمة والغفران. وانه من أجل محبته الكثيرة يتغاضى عن التعديات التي اقترفناها في أزمنة جهلنا. فلنشكره دائماً ولنعظم اسمه القدوس ولنباركه على خلاصه. «هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى». ولكن عظمته في سبيل خلاصنا لم ترَ ضيراً في أن تحتجب برداء الجسد. فتم ما قيل بالنبي القائل: «وكمستَّر عنه وجوهنا، محتقَر فلم نعتدَّ به».
والواقع أن أبناء جيله احتقروه وقالوا: «حسناً قلنا إنك سامري وبك شيطان». وكيف يحسبه أبناء جيله عظيماً «وهو القائل: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، أما ابن الانسان فليس له أين يسند رأسه؟» وكيف يحسبه أبناء جيله عظيماً وهو قد تحمل منهم أن يبصقوا في وجهه ويلطموه ويصفعوه ويجلدوه ويصلبوه؟! وكيف يحسبه أبناء جيله عظيماً وقد ترك السماء والأرض ليُعلَّق على الصليب؟!
ولكن هلاّ علمنا أن كل الحقارات والمذلات التي لحقت به كانت فعل طاعةٍ لأجل فدائنا! هكذا قال كاتب الرسالة الى العبرانيين: «مع كونه ابناً تعلّم الطاعة مما تألم به، واذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي».
ألم يقل لبطرس: إن في وسعه استدعاء جيوشاً من الملائكة لإبادة أعدائه؟ ولكن المبارك ابن المبارك جاء من الله حباً فادياً لا غضباً منتقماً. جاء ليصالحنا مع الله وفقاً لقول الرسول: «الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم».
منذ عشرين قرناً جاء المسيح إلى دنيانا وعاش فيها ردحاً من الزمن. ثم صعد في المجد الى حيث كان عند الآب. وسيأتي في مجد ليدين الأحياء والأموات. وكما انتظر قديسو الله مجيئه بشوق وحيّوا المواعيد التي أُعطيت به وصدقوها وعاشوا على رجائها كغرباء ونزلاء في العالم، هكذا نحن الذين صارت إلينا فوائد مجيئه الأول يجب أن نقضي أيام غربتنا في استعداد لمجيئه الثاني، أو ليوم ذهابنا اليه. وذلك طاعة لأمره القائل: «كونوا مستعدين، لأنكم في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان». وما أجدرنا أن نضع أمام أعيننا قول رسوله المغبوط بطرس: «أي أناسٍ يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى، منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب. وإذ أنتم منتظرون هذا اجتهدوا لتوجَدوا عنده بلا دنس ولا عيب في سلامه، واحسبوا أناة ربنا خلاصاً. احترسوا من أن تنقادوا بضلال الأردياء فتسقطوا من ثباتكم. ولكن انموا في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، له المجد الآن وإلى يوم الدهر. آمين».
العظة - ١٨ «وعلى الأرض السلام» (لوقا ٢: ١٤)
منذ ما يقرب من الألفي سنة أطلّ الله على الدنيا في شخص عمانوئيل، فكانت إطلالته أبهج هدية للأرض منذ تكوينها. ولعل أجمل ما في الهدية أن السماء فاجأت بها الأرض فيما الأرض غافلة ساهية. فكانت أجمل تعبير عن اهتمام السماء بالأرض.
كانت الأرض ساعتئذ قد خلعت عنها حلة النهار الموشحة بالنور وارتدَت سربال الليل المنسوج من خيوط العتمة، ونامت على فراشها تراودها الأحلام. وما أن جُن الليل وساد السكون، حتى اقتربت السماء من الأرض ووضعت بين يديها الطفل الإلهي يسوع. وقبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، جاءت فرقة من ملائك الله لتوقظ سكان الأرض بعذب نشيدها، قائلة: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة».
وتسمع الأرض نشيد المجد، فتهب من رقادها لتستلم هدية فريدة.
هيهات أن يأتي الزمان بمثلها إن الزمان بمثلها لضنينُ
مفاجأة سعيدة طربت لها قلوب الرعاة القريبين، وانتعشت بها نفوس ملوك الشرق البعيدين. فقال الرعاة:
هلمَّ بنا معشر المؤمنين إلى بيت لحم نسِرْ منشدين
وقال ملوك المشرق: لقد وُلد رئيس ملوك الأرض «ورأينا نجمه في المشرق فهلمَّ نسجد له».
مفاجأة سارة ابتهجت لها قلوب الشيوخ المنتظرين، فسبح زكريا الكاهن الشيخ قائلاً: «مبارك الرب إلهنا لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه».
وسبّح سمعان الشيخ قائلاً: «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد رأتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب».
في البدء عصى آدم ربه فغوى وهوى الى حضيض البؤس. فتبدل بأسه يأساً، وصارت ابتسامته عبوساً، وتحول ترنيمه إلى أنين ملتهب صاعد نحو السماء. فتحنن رب السماء على الإنسان الذي سقط من كماله. ومن حنان رب السماء صار وعدٌ بمخلص يأتي من نسل المرأة، ليبرر الإنسان ويعيد له اعتباره كمخلوقٍ على صورة الله. ولما جاء ملء الزمان ودقت الساعة لمجيئه كانت الأرض سكرى بكأس الترنح، كأس عصارة خطاياها التي صارت فاصلة بينها وبين الله. ولم يكن في الأرض سوى نفرٍ من أتقياء اليهود وحكماء الأمم، يتوقعون مجيء الآتي باسم الرب. كانت هذه الجماعة القليلة عائشة فوق جبل التأمل، فلمحت من بعيد أشعةً ضئيلة من النور تنعكس فوق أطباق الغيوم، فتوقّعت أن يأتي الموعود مشتهى كل الأمم على صورةٍ ما.
ولكن الصورة التي جاء فيها لم تخطر على بال أحد، فقد توقّع الجميع من أتقياء اليهود وحكماء الأمم أن يأتي محاطاً بالمجد والقوة. وإذا به يأتي طفلاً وديعاً يحتاج الى العطف والرعاية. كانت أورشليم آنئذ للعالم بمثابة الروح للجسد، باعتبار كونها مركز السجود الحقيقي لله. فتوقع رجال أورشليم ان تضع السماء هديتها في حضن مدينتهم المقدسة.
وكانت روما للعالم بمثابة القلب للجسد لأنها كانت عاصمة القوة، فظنَّ قادتها أن السماء ستتوج هامة مدينتهم بالهدية العظمى.
وكانت أثينا بمثابة العقل للجسد لأنها كانت مهد الفكر، فظنَّ فلاسفتها أن السماء ستكافئ مدينتهم بالهدية المنتظرة.
ولكن السماء تخطت أورشليم المقدسة، وروما القوية وأثينا المتفلسفة، فانتبذت بهديتها مكانا قصياً. فهناك في بيت لحم أفراتة المدينة الصغرى بين ألوف يهوذا وضعت الهدية التي لا يُعبّر عنها، ليس في قصر منيف، بل في أحقر منزل يستعمل مربطاً للماشية. وفي أحقر مظهر، في طفل وديع. وفي أحقر مهد، في المذود. هكذا صارت المسرة في عيني الرب لتوجه الأنظار إلى الهدية نفسها، وليس إلى ما يحيط بالهدية من جلال ومجد.
هذا هو عمانوئيل الذي أهدته السماء العليا الى الأرض الدنيا، فسمعت الأرض يوم تجسده خبراً عجيباً غريباً أن أمه الطهور حبلت به دون أن يمسها بشر. فتحيَّرت العقول في أمره، والعقل متى تحيّر بحث، ومتى بحث تدبّر، ومتى تدبر سلَّم بأن فكر الله في التجسد كان فوق البشر. وعندئذ يقول الإنسان مع المرنم: «من قِبَل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا».
والواقع ان يسوع كان عجيباً في ميلاده، عجيباً في حياته، عجيباً في تعليمه ومبادئه، عجيباً في أعماله. في أيام جسده كانت الأمَّة التي وُلد فيها مستعبدة للرومان، فتوقع قادة الأمَّة أن يحرض الشعب ويعبئ قواه لقص جناحي النسر الروماني. واذا به يفاجئهم بتعليم خيَّب كل انتظاراتهم، إذ قال: «لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً. ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين».
وحين أراد ان يختار صحبه لم يأخذهم من أغنياء الأمَّة ولا من أقويائها ولا من فقهائها، بل اختارهم من فقراء وعامة الشعب. وبهذا انتزع القوة من الأقوياء ووضعها في الضعفاء. وانتزع الحكمة من قلوب الفهماء وسكبها في قلوب الأطفال.
والمسيح عجيب في تسلطه على التاريخ البشري، فهو لم يكن مجرد شخصية أسطورية قدمتها الأرض للسماء، بل هو حقيقة تاريخية شهدت بها كتب السماء وكتب الأرض. وليس أدل على هذه الحقيقة من سلطانه العجيب الذي بسطه على التاريخ. فمع انه حُقِّر وصُلِب وتركه خلصاؤه، وظن أعداؤه انه سيصبح نسياً منسياً، فبعد قليل من الزمن تحكم بالتاريخ وأمسك بقرون الزمن. وصار يوم مولده ختماً لكل وثيقة تُكتب في العالم. لم يؤلف كتاباً في حياته، ولكن ملايين الكتب تفيض بذكراه الفريدة. لم ينظم قصيدة في حياته، ولكن نوابغ الشعراء قدموا روائعهم سكيباً عند قدميه. ولعل أجملهم قولاً ما نظمه أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
وُلد الرِّفق يوم مولد عيسى والمروءات والهدى والحياء وازدهى الكون بالوليد وضاءت بسناه من الثرى الأرجاء وسَرَتْ آية المسيح كما تسري من الفجر في الوجود الضياء تملأ الأرضَ والعوالم نوراً فالثرى مائج به وضّاء لا وعيدٌ لا صولة لا انتقام لا حسامٌ لا غزوة لا دماء ملك جاور التراب فلما ملّ نابت عن التراب السماء
لم يرسم لوحة في حياته لكن جبابرة الفن تسابقوا في تخصيص روائعهم لشخصه المبارك. لم يؤلف لحناً موسقياً في حياته، لكن عباقرة الموسيقى وضعوا أروع ألحانهم لتمجيد اسمه العظيم.
خامساً - مواعظ في تعاليم المسيح
العظة - ١٩ «أنا هو نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢)
في القديم كان اليهود يوقدون مصابيح كبيرة من ذهب ويضعونها على مناير ذهبية عالية في الهيكل. وكان الناس أثناء الأعياد يرقصون حولها مترنمين بمزامير وتسابيح. وذلك تذكاراً لعمود النار الذي قاد الشعب ليلاً في أثناء ارتحالهم في القفر. فذات يوم وقف يسوع في دار النساء في الهيكل حيث توجد اثنتان من تلك المناير وقال: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة». ولعله قال هكذا ليحول أنظار الناس عن المناير الذهبية ويوجّهها إلى شخصه المبارك. كأنه يقول: «أيها الناس، آن لكم ان تنتقلوا من الرمز الى الحقيقة ومن الظل الى الجوهر».
إن عمود النار الذي ترمزون إليه بالمناير كان يضيء أمام فئة من الناس ولمسافة قصيرة بين مصر وكنعان فحسب، أما أنا فإني نور العالم بأسره في كل جيل وعصر ومكان. أنا أنا هو شمس البر والشفاء في أجنحتها. «أنا قد جئت نوراً للعالم، حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة». ومع أن تصريح يسوع جاء موافقاً لإعلانات السماء على لسان الأنبياء، إلا أن الفريسيين اعترضوا عليه. قالوا: «أنت تشهد لنفسك. شهادتك ليست حقاً». هذا مع العلم بأنهم كانوا يقرأون الكتب المقدسة كل يوم، وهي مليئة بالشهادات على أن المسيا الآتي هو بهاء مجد الله ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته.
«فتِّشوا الكتب (قال لهم يسوع) لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي... تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله». ولكن هو التعصب الخاطئ جداً قد أعمى عيونهم، فتم فيهم قول إشعياء النبي: «ناظر كثيراً ولا يلاحظ».
قال أحد فلاسفة الصين: بدلاً من أن تسب الظلام أَوقِدْ شمعة. هذه حكمة رائعة يا أخي فماذا يمنعك أن تعمل بموجبها؟ أهو ضباب الشك الذي يحجب وجه المخلص عنك فلا تتمتع بنوره وبدفء محبته؟ وبالتالي لا تستطيع أن تتحول أنت نفسك إلى شمعة لإنارة سبل الآخرين؟ إن ضباب الشك لا يستطيع الوقوف في ضوء وجهه الباهي، وإنما آثامنا هي التي صارت فاصلة بيننا وبين إلهنا، وخطايانا حجبت وجهه عنا حتى لا نسمع.
أما إذا أردت تأييداً لشهادة ابن الله عن نفسه فإنك تجدها في أقوال رجال الله الذين كتبوا شهاداتهم مسوقين من الروح القدس منهم:
- داود بن يسى الذي تمتع بنور خلاصه اذ يقول في المزمور ٢٧: «الرب نوري وخلاصي ممَّن أخاف»؟
- وإشعياء النبي الذي رأى مجده في الهيكل، كتب لنا شهادته عن المسيا الآتي باسم عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا إذ قال: «لكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق، كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب الساكن في الظلمة أبصر نوراً عظيماً. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور».
- وزكريا الكاهن إذ أعلن له سر الله عن الفداء تهلل وتنبأ بالروح القدس أن ابنه سيعد الشعب لقبول الآتي «المشرق من العلاء ليضيء على الجالسين في الظلمة».
هذه الشهادات ليست سوى ومضات من نور ظهورات السيد رب الجنود في مناسبات عدة. فقديماً ظهر لموسى في نار عليقة على جبل حوريب، والعليقة لم تكن تحترق. وحين خرج شعب اسرائيل من مصر ظهر لهم في عمود من نار وقادهم عبر البرية الموحشة. وفي العهد الجديد تجلى في يسوع لبطرس ويعقوب ويوحنا على الجبل، حيث ظهر في مجده، فأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه كالنور. وظهر لشاول الطرسوسي على طريق دمشق في بهاء من نور ساطع خطف منه البصر ثلاثة أيام. وظهر ليوحنا الحبيب في جزيرة بطمس في لمعان شديد بهر عينيه. يقول الرائي الملهم: «وكانت عيناه كلهيب نار، ووجهه كالشمس وهي تضيء في قوتها».
هذا هو يسوع نور العالم، وكل الذين نظروا إليه استناروا ووجوههم لم تخجل. ورسالته لنا اليوم هي ترديد لقوله: «آمِنوا بالنور لتصيروا أبناء النور». «اسلكوا كأولاد نور، لأن ثمر الروح هو في كل بر وصلاح وحق».
وقال رسوله المحبوب يوحنا: «إن سلكنا في النور كما هو في النور، لنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع ابنه يطهرنا من كل خطية». «من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة». وقوله المبارك هذا يذكرني بالزهرة التى تدعى دوارة الشمس، والتي منذ أن تفتح كمائمها تحني عنقها في اتجاه مشرق الشمس، فتصبح أجزاؤها معرضة لنور الشمس ولأشعتها المحيية. فليتنا نتعلم الدرس من دوارة الشمس (عبّاد الشمس)، فنتجه كلياً الى شمس ربنا ومخلصنا يسوع المسيح. نتجه اليه بخضوع وتسليم مرددين الترنيمة الحلوة القائلة:
خُذْ بيدي وقُدْني كما تشاء حتى أرى في ليلي نورَ السماء
وأولاد النور يتتبعون خطوات الفادي في عطاء مغبوط يذهب الى حد بذل النفس. هذا ما فعلته ممرضتان كانتا تعملان في الجيش البريطاني أثناء معركة دنكرك سنة ١٩٤٠ ، لما كان جنود الحلفاء يخوضون معركة الانسحاب من فرنسا. تقول التقارير إن البحر كان يومئذ مكتظاً بالسفن التي جاءت لنقل الجنود البريطانية من دنكرك الى دوفر، وكانت الطائرات المعادية تصب حممها بغزارة هنا وهناك، وكلٌّ يسعى لنجاة نفسه... ما عدا الممرضتين اللتين صممتا على اتباع خطوات يسوع في العناية بالمصابين، فراحتا تعملان بجد ونشاط فأنقذتا جرحى عديدين من أشداق الموت. وحين تفاقم الخطر طلب إليهما قائد العمليات الصعود على إحدى السفن، فاعتذرتا، قائلتين: لقد صممنا على أن لا نبرح المكان قبل تضميد جراح آخر مصاب. وهكذا حملتا مشعل الرحمة والحنان الى النهاية، لمجد ذلك الذي قال: «أطلب الضال، وأسترد المطرود وأجبر الكسير، وأعصب الجريح». انه لمثال رائع يُقتدى به في الشهادة ليسوع الذي قال: «أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل ولا يوقدون سراجا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت. فليضىء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات».
وقال بولس: «كونوا أولادا لله بلا عيب في وسط جيل معوجٍ وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوار في العالم».
«أنا هو نور العالم»
وشكراً له لأنه لم يأت لشعب دون شعب، لأنه «النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان» دون تمييز بين جنس وجنس وبين لون ولون. فقد ألقى نوراً وهاجاً على المرأة التي لم يكن لها شأن عند الشعوب قديماً، وأكرمها وقدسها بولادته من امرأة تحت الناموس. وأرسل أشعة عنايته على الأطفال الذين لم يكن أحد يعتدّ بهم، فرفع من شأن الطفولة حين قال: «دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله». ونشر نور خلاصه على الخطاة الساقطين الذين نبذهم المجتمع، فأعاد اليهم اعتبارهم حين قال: «لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاةً إلى التوبة».
وأشرق شمس شفقته وحنانه على السائل والمحروم وابن السبيل والمريض والسجين، إذ دعاهم إخوته قائلاً: «بما أنكم فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم». وأرسل نور عطفه على الحزانى المتألمين فحمل آلامهم بصيرورته رجل أوجاع ومختبر الحزن. وسيأتي يوم فيه سيمسح كل دمعة من عيونهم. وهل عجيب أن يرسل عمانوئيل الذي هو الله معنا شمسه على الجميع أشراراً وصالحين وأبراراً وظالمين؟
في هلة إنجيله قدم لنا يوحنا شخصية فذَّة شهدت للنور، هو يوحنا المعمدان. قال: «كان إنسان مرسَل من الله اسمه يوحنا. هذا جاء للشهادة ليشهد للنور». ويوحنا المعمدان، الذي قال عنه يسوع إنه أعظم من نبي لم تكن حياته مجرد أيام أو ساعات يطويها الزمن. بل كانت شهادة حية ناطقة للنور. صحيح أن النور لا يحتاج إلى شهادة أحد، لأن الضياء خير شاهد للنور. وانما الشعب الذي جاء يسوع لكي يفديه كان يقبع في الظلمة التي أعمت عينيه، فلم يبصر رب المجد الذي جاء لكي يخلصه.
قال يوحنا الانجيلي: الكلمة الذي كان في البدء عند الله وصار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب مملؤاً نعمة وحقاً. والكلمة أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. لهذا كان من الضروري أن يتقدمه رسول الله يوحنا المعمدان ليتمم ما قيل في ملاخي النبي: «هاأنذا أرسل ملاكي، فيهيئ الطريق أمامي». كان في العالم وكّوِن العالم به، ولم يعرفه العالم. الى خاصته جاء وخاصته لم تقبله. ولهذا جاء يوحنا المعمدان للشهادة للنور لكي يؤمن الكل به. فنادى في الشعب: «أنا صوتُ صارخٍ في البرية: أعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة. توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله. اصنعوا أثماراً تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا ابراهيم أباً. لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم. والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار. أنا أعمدكم بماءٍ للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحلّ سيور حذائه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار».
وأنت يا أخي المسيحي حيثما كنت يجب أن تتمثل بيوحنا المعمدان فتشهد للنور: في البيت، في مكان عملك، في المجتمع، وفي الكنيسة.
أن تسلك كابن نور: في معاملاتك مع جميع الناس. في أمانتك فكراً وقولًا وعملاً. في محبتك للغير بدون تمييز، في التضحية في حمل الصليب.
العظة - ٢٠ «كنت أعمى والآن أبصر» (يوحنا ٩: ٢٥)
إنسان وُلد أعمى ولم يتمتع بجمال الأشياء التي حوله، ولعله سأل أمه بلغة الشعراء:
يا أم ما شكل السماء وما الضياء وما القمر؟ بجمالها تتحدثون ولا أرى منها الأثر! هل هذه الدنيا ظلامٌ في ظلامٍ مستمر؟
كان أعمى، والأعمى يمثل العالم الشرير قبل أن يجيء المسيح. لأنه كما أن الأرض كانت في البدء خربة وخالية وفوق الغمر ظلمة، هكذا كان العالم قبل مجيء المسيح يتخبط في دياجير الظلام.
وفي أحقاب التاريخ البعيدة عبد الناس مئات الآلهة الباطلة، التي صيَّرتهم مظلمي الفكر جهلة ومتجنّبين عن حياة الله. فغلظت قلوبهم، وإذ فقدوا الحس أسلموا نفوسهم للدعارة ليعملوا كل نجاسة في الطمع. وبقي الناس هكذا في الظلمة وظلال الموت، الى أن جاء المُشرق من العلاء وسمع الناس نداءه: «أنا قد جئت نوراً للعالم، حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة».
أما المولود أعمى فهنيئاً له لأن يسوع المسيح تحنن عليه، وقبل أن يهبه نعمة البصر كشف عن سر عجيب في حياة المؤمن.
فحين سأله تلاميذه: «من أخطأ، هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى؟» أجاب: «لا هذا ولا أبواه، ولكن لتظهر أعمال الله فيه». ففي جواب الرب تصحيح لما كان يعتقد به اليهود بأن البلايا تأتي قصاصاً على الذنوب والخطايا. ونفهم من اعلان المسيح هذا ان الله يسمح أحياناً ببلاء المؤمنين لخيرهم الروحي وتهذيبهم في مدرسة الآلام.
فأيوب الذي شهد له الرب بأنه بار، ابُتلي بسلسلة من المصائب القاسية، لا لأن الرب كان يكرهه إنما ليمتحن إيمانه تمهيداً لإشراكه في قداسة الله.
قال يوحنا فم الذهب: «لو لم يُضرب أيوب بالضربات الأليمة لما ظهرت أشعة ايمانه الصابر. ولو لم يجلس في الرماد ما عرفنا شيئاً من غناه في الروحيات». وقد صار المولود أعمى أداةً استخدمها الله لإظهار مجده في يسوع المسيح، ليفهم الشعب المعاند ان الله قد تجسد في يسوع ليصير «الله معنا».
قال الرسول يعقوب: «احسِبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة، عالمين ان امتحان إيمانكم ينشئ صبراً. وأما الصبر فليكن له عمل تام، لكي تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء».
قال أحد الصدّيقين إن الله يسمح بأن نتألم لتُعرف قيمتنا. وضرب لذلك مثلاً فقال: خُذ قطعة حديد ثمنها خمسة دولارات، فإذا صنعت منها حدواتٍ للخيل تتجاوز قيمتها العشرة دولارات. ولكن إن صنعت منها إبراً للخياطة تصبح قيمتها ثلاثماية دولار. وإن صنعت منها شفراتٍ للحلاقة يبلغ ثمنها أربعة آلاف دولاراً. وإن صنعت منها رقاصات للساعة يصبح ثمنها ثلاثماية ألف دولاراً. أما السر في ارتفاع قيمتها على هذا النحو فيعود إلى تحمُّلها ضربات المطرقة، أو الصهر في أتون النار. هكذا المؤمن يتهذب بالآلام ويتزكى باحتمال الضيقات والمحن. بولس جاز في هذا الاختبار إذ تحمل أشد أنواع الضيقات، ولكنه قال: «في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا».
تفل يسوع على الأرض وصنع طيناً وطلى به عيني الأعمى، وقال له: «اذهب اغتسل في بركة سلوام». فمضى واغتسل وصار بصيراً.
لعل أطباء عصرنا يتعجبون من هذا المرهم الذي صنعه يسوع من تراب الأرض! ولكن لِمَ العجب؟ أليس يسوع هو الخالق العظيم الذي جبل آدم من تراب الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حية؟ فكيف نتعجب إن استخدم المادة نفسها ليصنع عينين للمولود أعمى؟
أما المدهش فهو اسم البركة «سلوام» لأن معناه مرسَل. وهذا الاسم يوجّه أنظارنا الى قول المسيح: «روح الرب عليَّ... لأنه أرسلني لأنادي للعمي بالبصر». كلنا عمي، أو على الأقل كنا عمياً روحياً، ولكن لسعادتنا أن يسوع مرسَل ليهبنا البصيرة الروحية. هل أتاك نداؤه القائل: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة»؟ والعجيب في الأمر أن حياة المولود أعمى تغيّرت حالما اغتسل في مياه سلوام، فصار في المسيح خليقة جديدة. حتى أن الجيران راحوا يتساءلون: أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي؟!
فاغتسل بالمعين المتدفق من جراح المسيح، فيصيّرك الغسل انساناً جديداً صانعاً سلاماً.
نعم انه هو الذي كان يجلس ويستعطي، وكانت حياته مأساة أعمى وفقير. والفقر تجربة قاسية، وقد صار في العالم نتيجة لعصيان آدم، لأن الأرض لُعنت بسببه وصارت تنتج شوكاً وحسكاً. الفقر امتحان قاسٍ للإيمان، وقد نشر ضباب الشك في نفوس كثيرة فراحت تتساءل: لماذا يسمح الله بمآسٍ كهذه؟ غير عالمين أن لله حكمةً في وجود الألم على الأرض.
فلعلنا لو تمتعنا في الأرض بكل ما نشتهي، ينعدم تفكيرنا في ما وراء هذه الحياة. وقد تكون حكمة الله في الألم أن تفتح عقولنا لمعرفة أعمق لشخصه، لنراه من خلال دموعنا، ونقول مع أيوب الذي رفعته الآلام فوق كل الماديات: «بسمع الأذن سمعت عنك، والآن رأتك عيني، لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد».
وهناك حقيقة يجب أن ندركها، وهي أن مسؤولية زيادة حالات العوز تقع على البشر أنفسهم لأسباب عديدة منها: جشع الأغنياء وأنانيتهم، وخلو قلوبهم من الرحمة.
قيل إن ناسكاً سمع بالتجارب التي تعصف بالناس من جراء الفقر، فترك صومعته وذهب ليخدم المجرَّبين بقدر ما له من طاقات. وفيما هو يتجول شاهد إنساناً يضع يديه على معدته متألماً، فسأله ما لك أيها الأخ؟ فقال: مضى عليّ ثلاثة أيام دون طعام، وأنا أشعر بألم عنيف يعضني في أحشائي. فناوله الناسك كسرة خبز وانصرف، ولكنه لم يذهب بعيداً حتى شاهد إنساناً آخر يشد على معدته ويتلوى ألماً . فسأله عن علّة ألمه فقال: أكثرتُ من طعامٍ دسم فاتَّخمت وأُصبت بعسر الهضم. عندئذ رفع الناسك عينيه الى فوق وصرخ: وأسفاه عليكِ أيتها البشرية العمياء! فلو أن هذا المتوجع من كثرة الشبع أعطى بعضاً من طعامه لذاك الجائع، لما شكا المتخم ولما شكا الجائع!
يخبرنا يوحنا الإنجيلي أن المولود أعمى الذي شُفي كان شجاعاً وثائراً، لأنه أبى الخضوع لتحذير الفريسيين الذين أنذروه بالطرد من المجمع لأنه أقام صلةً مع يسوع. ورغم كل المحاذير شهد ليسوع جهاراً وقال: «إنسان يُدعى يسوع فتح عينيَّ». وكلمة «إنسان» كما صيغت هنا تتضمن الإنسانية الكاملة من رجولة وشهامة ومروءة. وفي هذا توبيخ لقادة اليهود، كأنه يقول لهم: إنسان يُدعى يسوع فتح عينيَّ، أما أنتم فليس لكم من الإنسانية إلا القشور. هذا هو الوفاء الشجاع وقد دفع بهذا الشاب الذي نال نعمة أن يشهد لواهبها.
وأنت يا أخي الذي وُهب لك كل ملء المسيح، أليس من الوفاء أن تؤدي له الشهادة؟ قد يعرضك هذا الأمر لمضايقات، تشفق على نفسك منها. ولكن اذكر أن الشهادة ليسوع فَرْضٌ يجب أداؤه، فقد أمر مختاريه في كل جيل وعصر بأن يحدثوا بفضائله، اذ قال: «وتكونون لي شهوداً في أورشليم واليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض».
حين نتأمل في شهادة هذا الأعمى الذي شُفي، نرى أنه تدرَّج في أدائها: أولاً، قال إنه إنسان يُدعى يسوع، ثم صعد درجة فقال إنه نبي، ثم ارتقى فقال إنه من الله، وأخيراً وصل الى القمة فاعترف بأنه ابن الله.
اشهد يا أخي المؤمن وحدّث من يومٍ إلى يومٍ بخلاصه. أنت سفير عنه، كأن الله يعظ بك طالباً عن المسيح: تصالحوا مع الله. اذكر ان الناس يرمقونك أكثر مما تتصور، سواء كنت مبشراً أم مجرد عضو في كنيسة المسيح. وان طبيعة رسالتك في المجتمع تطالبك أن تكون رسالة المسيح المكتوبة بروح الله والمقروءة من جميع الناس. وقد عُرف بالاختبار أن معظم الناس يحكمون على المسيح وفقاً لما يرونه من سلوك الذين ينادون باسمه.
وكذلك نرى في المولود أعمى الذي شُفي، ذلك المؤمن الذي ثبت رغم الاضطهاد. لقد تصدى له الكهنة والفريسيون وشتموه ثم طردوه، ولكن لسعادته أن يسوع وجده.
فلا تبتئس يا أخي إذا طُردت من أجل البر، لأن يسوع ملاذُ كل مطرود. إنه يقول كل يوم: «ها أنذا أفتش عن غنمي وأجمعها... أطلب الضال، وأسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح».
ولعل أشد ما آلم الشاب أن والديه تَنكَّرا له. يا لتنكّر الوالدين! ما أمضّه!
هذا اختبار مررتُ به في حداثتي حين تنكر لي والداي، ولكن يسوع سرعان ما وجدني وحمل آلامي ومسح الدمعة من عيني وضمني إلى خاصته. فصار لي الله أباً، وكنيسة المسيح أماً، ومختارو الله إخوة وأخوات.
لا تحزن يا أخي المطرود من أجل البر. يكفيك ان المسيح قال: «طوبى للمطرودين من أجل البر، لأن لهم ملكوت السموات».
إن رسالة الله تهيب بنا أن نلاحظ دعوتنا التي دُعينا بها بكل تواضع ووداعة وطول أناة، متحملين بعضنا بعضاً بالمحبة. لقد دُعينا لنسلك كأولاد نور، لأن ثمر الروح هو في كل صلاح وبر وحق، مختبرين ما هو مرضيٌّ عند الرب.
العظة - ٢١ «أنا هو الباب» (يوحنا ١٠: ٩)
يحاول الناس في زمننا بلوغ السعادة من أبواب متعددة، ولكن ما أكثر الذين يخطئون فلا يعرفون الباب الحقيقي المؤدي اليها. مَثَلهم كالأعمى الذي يدخل المطبخ بينما كان يبغي دخول الحمام. وهذا ليس بغريب، لأنه أعمى، والأبواب من طبيعتها أن تستجيب لفاتحيها. بيد أنه مع تعدد الأبواب وعماهة الناس فالكثيرون استطاعوا بلوغ السعادة، لأنهم عرفوا الباب المؤدي الى الحياة. هذا الباب هو يسوع المسيح الذي به يدخل المؤمن إلى فرح الله، وقد قال له المجد: «اقرعوا يُفتح لكم». أجل إن من يقرع يُفتح له ويجد استقبالاً يختلف عن الاستقبال المعدّ للداخلين من غير الباب.
كلمتُ ذات يوم شاباً مدمناً على الخمر عن مضار المُسكِرات مادياً وأدبياً وروحياً. فقال: «قل ما تشاء في هذا الأمر، ولكنك لن تقنعني بأن تناول الخمرة خطية. ألم يقل المسيح: قليل من الخمر يفرح قلب الإنسان؟». ولما أكدت له أن المسيح لم يقل شيئاً كهذا، بل قاله رسله الكرام: ان السكيرين لا يدخلون ملكوت السموات، قال: «لا بأس! يمكننا أن نتسلق الحائط». وفي الواقع إن متسلقي الحائط كثيرون، ولكن هؤلاء سُرّاق ولصوص، والسارقون لا يدخلون ملكوت السموات. ولا يستطيعون أن يدخلوا لأنهم يختارون طرقاً وأبواباً مغايرة لأفكار الله، كأنهم لا يثقون بالذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة، لا يقدر أحد أن يأتي إلى الآب إلا بي».
ولهذا راحوا يطرقون الأبواب المختلفة. فبعضهم راح ينشد السعادة من باب العلم، ظناً ان العلم يحقق السعادة. فقالوا تعلَّمْ يا فتى فالجهل عار، ولا يرضى به إلا الحمار! والعلم كما يقولون نور، هو ينير العقول ويصقل الأفكار، ويكتشف وسائل كثيرة تساعد في ازدهار الإنسانية. ...ولكن العلم لا ينير القلب وبالتالي لا يستطيع ان يقود صاحبه الى خلاص الله، الذي بدونه لا سعادة. بل في أحيان كثيرة يدفع بصاحبه الى حماقة الزهو والغرور الذي هو مكرهة في عين الرب. وقديماً قال الرسول بولس: «العلم ينفخ أما المحبة فتبني». وقد يقود العلم الى ما هو شر من الحماقة والجهل كما نرى في حالة كثيرين من علماء هذا الدهر، الذين إذ عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي، وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء. وأية حماقة أشد من أن يحّول عالِمٌ ثمرةَ اختباراته الطويلة الى أسلحةٍ مدمرة تهدد العالم بالفناء؟ وأي جهلٍ أشد من أن يكرس مفكر قلمه لنشر أفكار الإباحية والفجور.
إن أكبر نكبة مُني بها جيلنا هي هذا النفر الذي لا يتقي الله من كُتّاب ملحدين إباحيين أغرقوا السوق بالكتب الخليعة الفاجرة، التي انكبّ أبناء الجيل على مطالعتها بكل نهم، فتدنّت عندهم الأدبيات واستهانوا بالمقدسات، وظن بعضهم انهم يبلغون السعادة في الثراء الواسع، فكانت محبة المال المحبة الخاطئة جداً، التي اقتادت في الطمع الكثيرين إلى خطايا شائنة، كالربا الفاحش والاحتكار والاغتصاب. الطمع من أكبر بلايا الإنسانية، وهو علة الخصومات إذ يحتكر الخيرات لنفسه، فتنشب الخلافات بين الأفراد والجماعات.
قال الرسول يعقوب: «من أين الحروب والخصومات بينكم؟ أليست من لذاتكم المحاربة في أعضائكم؟ تشتهون ولستم تمتلكون. تقتلون وتحسدون ولستم تقدرون أن تنالوا. تخاصمون وتحاربون ولستم تمتلكون لأنكم لا تطلبون. تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبون ردياً كي تنفقوا في لذاتكم». محبة المال أصلٌ لكل الشرور، إن ابتغاه قومٌ ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة. ويقول المسيح كل يوم: «أنا هو الباب. ان دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى». وينادي كل يوم: «تعالوا اليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم». ويؤكد كل يوم قائلاً: «من يُقبل اليَّ فلا أخرجه خارجاً». ومع كل هذا يذهب الكثيرون ويقرعون أبواباً أخرى وراءها الفشل والخيبة واليأس.
جاء رجل الى طبيب نفساني وقال له: أنا مصاب بانقباض النفس، وقد مللت الحياة وسئمت الوجود. إنني بائس فهل تستطيع شيئاً من أجلي؟ فهدأ الطبيب روعه بلطيف الكلام ثم أعطاه عنوان مهرّج اشتهر بإضحاك الناس وإثارة المرح في نفوسهم. وقال له: احضر حفلات هذا المهرج مدة أسبوع، وأنا كفيل بتحسّن حالتك. فهز الرجل رأسه بأسى وقال: ويحي أنا الشقي فأنا هو المهرج، وقد استطعت أن أُضحك الناس فعلاً، ولكني لم أستطع إضحاك قلبي الكئيب!
مسكين هو الإنسان، فمهما حاول إسعاد نفسه يبقى شقياً تاعساً، إن لم يعرف الباب المؤدي الى الحياة. وسيبقى فارغ النفس متبرماً بالحياة إن لم يتمتع بحياة الشركة مع الله في فرح الروح القدس. وسيبقى حائراً مضطرباً إن لم يتبرر بالإيمان ويصير له سلام مع الله بربنا يسوع المسيح.
في العظة على الجبل كشف الرب يسوع عن سر السعادة، وكانت أولى كلماته: «طوبى للمساكين». فأوضح بأن السعادة لا تُنال لا بالعلم ولا بالجاه العريض ولا بالثراء الواسع. فهذه كلها مهما عظمت واتسعت لا تضمن لصاحبها سلام الله، ولا توفّر له سكينة النفس، فانه متى كان لإنسان كثير فليست حياته من أمواله. لا تتكلوا على الظلم ولا تصيروا باطلاً في الخطف. إن زاد الغنى فلا تضعوا عليه قلباً. بل ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟؟
يا إخوتي، عبثاً تحاول أفكار العالم بفلسفاتها ونظرياتها إقناعنا بأنه في وسع الناس أن يعيشوا سعداء بدون الله. وماذا عملت الفلسفات العصرية لجيلنا الذي ربته إلا هذا العدد العديد من السكيرين والمدمنين على المخدرات والمنحرفين جنسياً؟ أوَلَم يتميز عصرنا بكثرة الزيجات الفاشلة والبيوت المحطمة والنفوس الحائرة؟؟
ماذا في الصحف؟
- فتاة من عكار انتحرت بالديمول لأنها استسلمت لرجل فغرر بها ثم هجرها!
- وسيدة من الشياح تركت زوجها وأطفالها، لتهرب مع جارها الوسيم!
- وشاب من بيروت حطم جمجمة والدته بكرة من حديد ونثر دماغها على الأرض لأنها توقفت عن إعطائه المال لينفق على لذاته!
هل يمكن لفلسفة أو علم لم يستحسن أن يضع الله في معرفته أن يحيي هذه النفوس المائتة في الذنوب والخطايا؟
لقد آن لنا نحن الذين عرفنا الطريق والحق والحياة، وطهر دم المسيح ضمائرنا من أعمال ميتة لنخدم الله الحي.. آن لنا أن نأخذ عبرةً ونهبّ للقيام بالمسؤولية التي وضعها الرب علينا.لنهدي الضالين إلى الذي هو الطريق والحق والحياة، فنضعهم في طريق المخلص الفادي الذي ليس بأحدٍ غيره الخلاص. ومن واجباتنا كشهود لعمل الله في المسيح أن نجاهد ونجاهد في سبيل إقناع هؤلاء الحيارى الذين مات المسيح لأجلهم أن العالم كله قد وُضع في الشريرُ، وأن العالم يمضي وشهواته دون أن يبلغ بهم السعادة. وأن نهيب بهم أن يقللوا من ثقتهم في العلوم والفلسفات والافكار المادية، ليضعوا كل ثقتهم في الله.
تقول رسالة الله لقادة الكنائس الذين أخذوا يشغلون أفكارهم في محاولاتٍ لتطوير الدين وجعله متفقاً مع روح العصر: إن الناس لا يحتاجون إلى نظريات جديدة في الدين، بل بالحري يحتاجون إلى مؤمنين اقتدوا بالمسيح، وعاش فيهم الفكر الذي في المسيح، سواء من جهة التواضع الذي يذهب إلى نكران الذات، أو من جهة الخدمة التي تذهب في الحب إلى وضع النفس عن الأحباء. لأنه إن كان في وسع أحد أبناء هذا الدهر أن يتحدى النظريات اللاهوتية، فليس في وسع أحد أن يتحدى مؤمناً يعيش كما يحقّ لإنجيل المسيح. وهل نحتاج إلى تطوير دينٍ كهذا قوامه الوصية القائلة: «تحب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك، وتحب قريبك كنفسك»؟
وهل نحتاج الى تطوير دين كهذا مبنيّ على أساس القاعدة الذهبية: «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم هكذا أيضاً بهم». وهل نحتاج إلى تطوير دين كهذا يأمر معتنقيه: «أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويضطهدونكم»؟
قال العالم الشهير انشتاين: «إن القدوة الطيبة ونقاء القلب والإيمان بالمثُل العليا والاستعداد للتضحية هي الوسائل الوحيدة التي يمكن أن تحقق الرجاء في مستقبل أفضل».
ونحن الذين عرفنا يسوع وذقنا حلاوته وتمتعنا بسلامه، مطلوب منا أن نكون شهادة حية ناطقة، تخبر بفضائل الذي دعانا من الظلمة الى نوره العجيب، لنؤكد للعالم بما عندنا من حب ونكران ذات وتضحية وروح خدمة أن مسيحنا قد جاء حقيقةً إلى العالم لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل. وانه آن الأوان لأن نهيب بكنائسنا للعودة الى الوقوف في ضوء شمس البر، لتلتمس من جديد الشفاء في أجنحتها. ومتى فعلنا ذلك يقول مسيحنا ثانية وبفرح: «أنتم نور العالم!».
العظة - ٢٢ «اثبتوا فيَّ وأنا فيكم» (يوحنا ١٥: ٤)
هذا ما قاله يسوع لتلاميذه وهم يعبرون وادي قدرون. وكان وقتئذٍ في طريقه إلى بستان جثسيماني وهو عالِمٌ أن ساعته قد أتت. فعمّا قليل ستُلقى عليه الأيادي ويُسلم إلى الكتبة ورؤساء الشعب ليُصلب. فأراد في المناسبة أن يلقي على خاصته عظةً أخيرة في موضوع الثبات، وغايته أن يشدد عزائمهم لمواجهة الأحداث المزمعة أن تقع، والتي سيستغلها الشيطان لغربلة التلاميذ، بعد ان دفع بيهوذا الى الخيانة وحمل بطرس على نكران سيده.
اختار يسوع الكرمة ليمثّل تعليمه، لأن أوجه الشبه متعددة بين علاقة المسيح بتلاميذه وعلاقة الكرمة بأغصانها. ففي النظام الحياتي تصير الكرمة حياة الأغصان كما أن يسوع هو حياةٌ لكل مؤمن به. وأيضاً في منظر الكرمة تمثيل ليسوع المصلوب، لأن الكرمة وهي محمولة على الأعواد تقدم صورة ليسوع حين ارتفع على عود الصليب.
اثبتوا فيَّ، اثبتوا في كلامي، اثبتوا في محبتي.
والثبات في المسيح وفي كلامه ومحبته يقوم على الإيمان المستمر به مهما كانت الظروف والأحوال، وهذا يستلزم تسليم الحياة له تسليماً كاملاً، والثقة فيه ثقة تامة. وكم تذكرنا كلمته «اثبتوا» بطلبة بولس من أجل الأفسسين: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبة». فالمؤمن الذي يتأصل في المسيح ويتأسس فيه يحيا بحياته ويفكر فكره، ويحب بقلبه ويسلك في تواضعه ويخدم بروحه ويثمر ثماره. هذا هو الاختبار الذي جازه بولس وعبّر عنه بالقول: «مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ». الى ان قال بروح التكريس الكامل: «لي الحياة هي المسيح، والموت هو ربح».
قال أحد الأتقياء: لكي نثبت في المسيح يجب أن يكون لنا في العين مجد المسيح، وفي الأذن صوت المسيح، وفي القلب محبة المسيح وعلى الشفاه كلمة المسيح. عندما قال بولس: «أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة» كان يعلمنا: ان الايمان هو بداية المسيحية، وأن الرجاء قلبها، وأن المحبة مجدها وتاجها. المحبة هي درع التثبيت، ولهذا قال له المجد: «اثبتوا في محبتي».
قال رجل الله إيريناوس: «لا يكفي أن نفحص بداية المسيحي، بل يجب ان نتتبع حياته الى نهايتها. مثله كالسفينة التي حين تُقلع من الميناء لا ينصبّ اهتمامنا على كيفية إقلاعها بقدر ما ينصبّ على وصولها الى الميناء المقصود».
قيل إن القس الألماني نيمولّر بقي زمناً طويلاً يقاسي العذاب في معسكرات الاعتقال بأمرٍ من هتلر، ولم يكن العالم يعرف شيئاً عن إيمانه وثباته في المسيح. وبعد سنين عديدة في الآلام القاسية استطاع أن يبعث برسالته المشهورة: «قولوا عن لساني إني كسفينة تمخر عباب البحر وسط عاصفة عاتية، لكن الله صالح والحبال متينة».
في وسع أي إنسان أن يقبل المسيح، ولكن ليس سهلاً أن يبقى مسيحياً رغم الضيقات. فقد أخبرنا كتَبة الإنجيل أن كثيرين تأثروا بكلام المسيح، ورغبوا في أن يتبعوه. ولكن ما أن لاحت لأعْيُنهم المقاومات والاضطهادات حتى انصرفوا عنه. بعكس الذين ثبتوا فيه وصار شعارهم: «يعظم انتصارنا بالذي أحبنا». قال سليمان في سفر الأمثال: «البار يستمسك بطريقه، والطاهر اليدين يزداد قوة». ولما كان يسوع هو طريقنا الى الآب وجب ان نستمسك به. اذكروا قوله: «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحدٌ يأتي الى الآب إلا بي».
ولكن سلوك هذا الطريق يقتضينا:
أ - السهر: قال المسيح: «اسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم. طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. الحق أقول لكم انه يتمنطق ويُتكئهم ويتقدم ويخدمهم». وقال بطرس: «اسهروا، لأن إبليس خصمكم كأسدٍ زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو». يا أخي اسهر على نفسك العزيزة على الله حتى انه اشتراها بدم يسوع المسيح ابنه. نفسك أهم شيء في العالم، لذلك يجب ان لا تهمل خلاصها. اذكر قول الرب يسوع: «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. بل ماذا يستطيع الإنسان أن يعطي فداء عن نفسه؟»
أيها الآباء والأمهات، اسهروا على أولادكم وراقبوا معشرهم. وتحفَّظوا لأن العشرة الردية تفسد الأخلاق الجيدة. اذكروا الكلمة الرسولية: «لا تضلوا، الله لا يُشمخ عليه، فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً. لأن من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فساداً. ومن يزرع للروح، فمن الروح يحصد حياة أبدية».
ب - الصلاة: قال السيد: «اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة». نحن في حاجة الى قوة للثبات ضد تيارات هذا العالم الذي وُضع كله في الشرير. وهذه القوة تُنال بالصلاة كما هو مكتوب: «طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها». جميع أبطال الايمان كانوا رجال صلاة وسيدات صلاة، فاستطاعوا ان يستنفروا الله معهم. فقهروا ممالك، صنعوا براً، نالوا مواعيد، سدّوا أفواه أسُود، أطفأوا قوة النار، نجوا من حد السيف، تقووا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب.
ج - التواضع: فالكلمة الرسولية تقول: «تواضعوا، لأن الله يقاوم المستكبرين. أما المتواضعون فيعطيهم نعمة». «هكذا قال العلي المرتفع ساكن الأبد، القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين، ولأحيي قلب المنسحقين».
إن ثبتُّم فيَّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم. فاثبت في كلمة المسيح تصير لك الكلمة العزيزة: مواعيد الله فيها النَّعم وفيها الآمين. تأكد ان ثباتك في المسيح يجعل اسمه المبارك مفتاحاً في يدك، تفتح به خزائن بركات الله. هل أتاك قوله: «مهما سألتُم باسمي فذلك أفعله، ليتمجد الآب بالابن». لقد كثر الذين لا ينالون ما يطلبون في أيامنا بصلواتهم، والسبب هو عدم ثباتهم في المسيح وفي كلمته وفي محبته. انهم مرتابون، والمرتاب (قال الرسول يعقوب) لا ينال شيئاً من عند الرب. «اثبتوا في محبتي. إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي. وهذه هي وصيتي ان تحبوا بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع انكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضاً لبعض». فثباتنا في المسيح يقوم على حفظ وصاياه، وخلاصة وصاياه في واحدة، وهي: «وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضاً».
وقد عقّب يوحنا الإنجيلي على هذه الوصية فقال: «إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ومحبته قد تكملت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا: أنه قد أعطانا من روحه». وما أمجدها من عطية! لأن «ثمر الروح هو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح ايمان وداعة تعفف، ضد أمثال هذه ليس ناموس».
في ختام خطابه الوداعي قال يسوع: «كلَّمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم. سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا». والمعنى في هذا أن فرح المؤمنين وسلامهم صنوان لا يفترقان. وعملهما أن يثبِّتا المؤمنين في المسيح والمسيح فيهم، بحيث لا تستطيع قوة في الوجود ان تفصلهم عن حب فاديهم.
أُصيب جندي في إحدى المعارك بجراح خطيرة، فنُقل الى المستشفى. وهناك سأله أحد المسؤولين: من أية كنيسة أنت؟ فأجاب من كنيسة المسيح. فقال المسؤول: فهمتُ انك مسيحي، وانما قصدي أن أفهم من أي يقين أنت؟ فرفع الجريح وجهه وهو يشع بنور غريب وقال: تسألني من أي يقين أنا. ألا فاعلم بأنني متيقّن بأن لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا قوات ولا أمور حاضرة أو مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا.
وأخيراً ختم يسوع مثَل الكرمة والأغصان بقوله الرائع: «لا أعود أسميّكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمله سيده. لكني قد سميتكم أحباء، لأنني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي. كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا». فأي امتيازٍ أن يجعل المسيح محبة أبيه السماوي له نموذجاً لمحبته لنا، وأن يجعل محبته للآب السماوي نموذجاً لمحبتنا له!
فيا لغنى لطف المسيح، الذي بعد أن صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، أراد السمو بنا الى ما دعاه بطرس بالشركة في الطبيعة الإلهية. وعلّمنا عملياً أن السبيل إلى ذلك هو الثبات في محبته. «الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه».
العظة - ٢٣ «بهذا يتمجد أبي: أن تأتوا بثمر كثير» (يوحنا ١٥: ٨)
في مثل الكرمة قال يسوع لتلاميذه: «بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي. الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير».
ونفهم من هذا أن المسيحية ليست مجرد آداب ورقيّ خلقي واجتماعي، بل قبل كل شيء هي حياة المسيح فينا، الحياة التي تثمر لمجد الله.
نقرأ في اشعياء ٣٧ ان الله ردَّ على صلاة حزقيا الملك فقال: «ويعود الناجون الباقون يتأصّلون إلى أسفل ويصنعون ثمراً الى فوق». فيا مَن تريد الصعود الى فوق بثمار طيبة، تعمَّقْ في حياة الشركة مع الرب. فكلما تعمقنا في محضر الرب، أتينا بالثمر الكثير لمجده وحمده.
هكذا نقرأ في سفر العدد ١٨ ، ان عصا هرون أفرخت وأتت بثمر، لما وُجدت ليلةً في خيمة الرب.
تواجد في حضرة الرب يا أخي تصبح مثمراً لمجد الرب وتظهر فيك ثمار الروح القدس، التي ذكرها بولس في غلاطية ٥ ، وفي رأسها ثالوث الغبطة المؤلَّف من المحبة والفرح والسلام. هذه الثلاثة هي موضوع تأملنا هنا:
١ - المحبة: المحبة التي يسكبها الله في القلب بالروح القدس. هذه المحبة إن لم تتأصل في حياة الانسان لا يمكنه أن يعرف الله. وإدراكاً لهذه الحقيقة كتب لنا التلميذ الذي كان يسوع يحبه موصياً: «أيها الأحباء، لنحب بعضنا بعضاً، لأن المحبة من الله، وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله، ومن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة».
المحبة هي امتياز المسيحية الأعظم، لأنها تشتمل على كل ما سواها من الفضائل، ولهذا قال بولس: «المحبة تكميل الناموس. المحبة رباط الكمال. المحبة تكميل كل بر».
قال أحد الأفاضل: المحبة دين علينا اقترضناه من الرب، وعلينا وفاؤه لإخوتنا البشر. فإن كنت لا تحب أخاك فليس لك أن تقول اني أحب الله. لأن الكتاب يقول: «ان قال أحد اني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب».
اذكر يا أخي قول المسيح إن الوصية الأولى والعظمى في الناموس هي: «ان تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل فكرك والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك». تسلح بالمحبة ضد الأنانية، لأنه كلما ازدادت فينا المحبة قلَّ اهتمامنا بالأنا شيئاً فشيئاً. وكلما قل اهتمامنا بالأنا ازداد إعجابنا بالله واهتمامنا بالقريب، فلا نعود نضع الذات ومصالحها الخاصة في المقدمة.
بالمحبة نُخضع أنفسنا لمشيئة الله قائلين مع يسوع ابن الله: «لتكن لا إرادتي بل إرادتك». وبالمحبة نحتمل بعضنا بعضاً، فنتمم ناموس المسيح، لأن المحبة تحتمل كل شيء. وبالمحبة نحفظ أنفسنا في حالة الاتضاع فنشترك في نير المسيح.
٢ - الفرح: الفرح هو روح الغبطة بخلاص الله بيسوع ربنا. انه الفرح المشترك بيننا وبين يسوع وفقا لقوله: «بهذا كلّمتكم كي يثبت فرحي فيكم ويدوم فرحكم». فلنبارك اسمه القدوس لأنه جعل من حقنا أن نتمتع بفرحه فينا. هذا هو فرح المحبة، وليس من فرح أعظم من فرح المحبة. وليس من فرح حقيقي بعيداً عن فرح المحبة. شكراً للمسيح الرب لأنه قَبِل أن يسكب هذه المحبة في قلوبنا. هذا هو الفرح الذي شاء أن يشركنا فيه. هذا هو الفرح في الرب، الذي دعانا بولس لامتلاكه حين قال: «افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضا افرحوا».
يا ليت صوت الرسول يصل الى كل قلب ويحركه، ليؤمن بأن الفرح في الرب هو وحده الفرح الحقيقي. وانه من الممكن ان يكون فينا هذا الفرح كاملا، والطريقة لذلك بسيطة وسهلة ووحيدة، وهي أن نثبت في المسيح رئيس المحبة.
وانه لمؤسف جداً أن نكون في حاجة إلى من يذكّرنا أن المسيح وحده مصدر المحبة، وبالتالي مصدر هذا الفرح، وهو يريد ان يمنح هذا الفرح لكل انسان. ولكن هناك حقيقة أود أن أوضحها وهي أن الفرح في الرب يختلف عن أفراح هذا العالم. وانه غريب عن النفس التي لم تولد من الله بالماء والروح. انه فرح الذين نظروا وجهه واستناروا ووجوههم لم تخجل. انه فرح الذين سمعوا نداء مريح التعابى فألقوا بأوزارهم عند قدميه. ثم حملوا نيره وتعلموا منه الوداعة والتواضع فوجدوا راحةً لنفوسهم. انه فرح الذين فداهم يسوع بدمه، فبدأوا حياتهم الأبدية فعلاً.
هذا الفرح غريب عما تنتجه تُربة القلب الطبيعية، لأنه فرح لا يزول. صحيح أن أشياء كثيرة حادثة حولنا تستدعي الحزن، ولكن لا نيأس لأن الله لم يعطنا روح اليأس بل أعطانا روح الرجاء الحي الذي لا يخزي. فليكن لنا هذا الرجاء. ليكن لنا رجاء إيليا وهو يراقب الغيمة التي كانت بقدر الكف، واثقاً أن غيوما ممطرة سوف تنتشر في السماء سريعاً ويهطل المطر. ولنعش في شركة حبيبنا وفادينا يسوع، فيتكشَّف لنا ان حضوره في حياتنا ينبوع فرح عظيم. كما هو مكتوب: «أمامه شِبع سرور وفي يمينه نِعم الى الأبد».
٣ - السلام: سلام الله الذي دُعينا اليه في جسد واحد.
هذا سلام المؤمنين من ربهم حلو ثمين
سلام كل حين
انه السلام الذي نحصل عليه بالتبرير بدم يسوع، كما هو مكتوب: «فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح».
حين تجسَّد يسوع قال ملائكة الله: « على الأرض السلام». وحين رآه سمعان الشيخ قال: «الآن تطلق عبدك حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب». وفي خطابه الوداعي لتلاميذه قال: «سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم». وحين ظهر لخاصته بعد القيامة قال: «سلام لكم». العالم سلامه زائف زائل، أما سلامه فهو حقيقي دائم. انه السلام الممكن من الله بحيث لا تقدر قوة في الوجود أن تعكر صفاءه.
لا تقدر الدنيا تُنيل هذا السلامَ الأسمى كلا ولا عنا تُزيل تلك العطايا العظمى
العالم يعطي الخوف والاضطراب والحزن، أما أنا فأعطيكم الروح الهادي الذي يفرح كالله. العالم يعطي الفكر الكاذب البعيد عن الحق والذي لا يمكن أن يحقق سلاماً، أما أنا فأعطيكم الفكر الراسخ في الحق الأزلي الذي يشيع السلام.
«سلامي أعطيكم» قال رئيس السلام. لاحظوا ياء المتكلم في كلمة «سلامي». فالمسيح هنا لا يتكلم عن السلام الذي اشتراه بدمه للإنسان، ولا عن السلام الذي صنعه بين السماء والأرض، بل عن السلام الذي ملأ قلبه هو فجعله هادئاً مطمئناً بالرغم من الألم الذي لحقه في عالمنا. والكلمة تدل على أنه ينتظر ليمنح هذا السلام لكل من ضغطت عليه الهموم، وانكسر قلبه من الحزن، فانه يقول له: «سلامي أعطيك». تأكد ان هذا السلام الذي يعطيه يسوع هو قوة فعالة، تتيح لك الفرح حتى في وقت الضيق. لأنه ينشئ فيك طاقةً للاحتمال، ترفعك فوق أحزان هذا العالم.
انه سلام الصليب، سلام التسليم الكامل لمشيئة الله. هذا السلام لا يزول، ولا يمكن أن يزول مهما كانت الظروف معاكسة. تذكر ما جاء في ختام الإنجيل بحسب لوقا، حين انفرد يسوع عن تلاميذه وأُصعد الى السماء. فقد تظن ان تلك الساعة كانت أليمة ومرّة بالنسبة لهم، لأن من أحبّوه وألقوا كل رجائهم عليه افترق عنهم. ولكن الذي يقوله لنا لوقا هو غير ذلك تماماً. يقول إنهم «سجدوا». هذه هي المحبة خاشعة متعبدة. ورجعوا الى أورشليم، هذه هي المحبة خاضعة مذعنة. ورجعوا بفرح، هذه هي المحبة مغتبطة بسلام الله.
وكانوا كل حين في الهيكل: هذه هي المحبة منتظرة واثقة بالمواعيد. وكانوا يسبحون الله ويباركونه: هذه هي المحبة متهللة شاكرة. رجعوا بدون سيدهم، ومع ذلك كانوا فرحين. فهل نقدر أن نبلغ هذا الحد، أن ننتصر على الاكدار، وأن نرتفع فوق الأحزان؟ نعم! إن كانت لنا محبة أولئك الرجال وإيمان أولئك الرجال، وصلاة أولئك الرجال.
العظة - ٢٤ «إن كانت فضيلة وإن كان مدح، ففي هذا افتكروا» (فيلبي ٤: ٨)
يحض الرسول بولس المسيحيين على التمسك بالفضائل، فيقول: «أخيراً أيها الإخوة، كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مُسِرّ، كل ما صيته حسن، إن كانت فضيلة وإن كان مدح، ففي هذه افتكروا. وما تعلَّمتموه وتسلَّمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيَّ فهذا افعلوا». ثم ختم حضه الرائع بهذه الطلبة: «وإله السلام يكون معكم». هذا هو الامتياز الأعظم ان يكون إله السلام مع المؤمن ليحفظ قلبه من الزيغان وأفكاره من الفساد.
ولعل أهم ما جاء في هذه الآيات الذهبية الكلمتان: «افتكروا وافعلوا». لأن الشرط لبقاء إله السلام معنا هو أن نفتكر وأن نفعل. إن كنا نفكر سليماً ونفعل مستقيماً فإن حمامة السلام تبني عشَّها في قلوبنا. وكأن الرسول المغبوط يقول لكل واحد منا: اهتم بقلبك، لأن على سلامة القلب تتوقف سلامة الأفكار والأفعال. ولعل سليمان الحكيم انطلق من معرفته هذه الحقيقة ليكتب لنا وصيته القائلة: «فوق كل تحفّظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة».
حين نتأمل بعمق في طلبة الرسول الكريم، ندرك ان مُلْك السلام في القلب ضرورة ملحّة لضبط القلب في ثلاثة اتجاهات ضبطا محكما.
١ - التفكير والعمل: لأن كل تفكير يسبق العمل يجهّز النفس للقيام بهذا العمل، مما يجعل إنجازه ميسوراً لنا. وقد عُرف بالاختبار أننا ما واجهتنا أزمة إلا وساعدنا التفكير الصحيح على اجتيازها. لذلك كان ضرورياً أن نضع أهمية كبرى على ما نفكر فيه. نقرأ في سفر التكوين ٦: «ورأى الله أن شرَّ الإنسان قد كثر في الأرض وأن تصّور أفكار قلبه انما هو شرير كل يوم».
ونفهم من هذه الآية ان التفكير يخطط للعمل ويرافقه في كل مراحل التنفيذ. ولهذا وجب علينا أن نضع أفكارنا أمام الله للفحص، طالبين العون والإرشاد حتى تأتي أفكارنا متفقة مع مشيئة الله الصالحة المرضية الكاملة. هكذا فعل داود بن يسى اذ قال: «اختبِرْني يا الله واعرفْ قلبي. امتحِنّي واعرف أفكاري، وانظر إن كان في قلبي طريقٌ باطل، واهدني طريقاً أبدياً».
٢ - التفكير والأخلاق: لأن لتفكير الإنسان تأثيراً كبيراً على أخلاقه. قال أحد الحكماء: «من يزرع فكراً يحصد عادة، ومن يزرع عادة يحصد خُلقاً، ومن يزرع خُلقاً يحصد مصيراً». والواقع انه لا يمكن لذي الافكار الفاسدة أن يتجنب المصير السيء، كما هو مكتوب: «الله لا يُشمَخ عليه، فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد. لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً. ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية».
في الأصحاح الاول من رسالته الى أهل رومية، وصف بولس مفكري زمانه الفاسدين بقوله: «لأنهم لما عرفوا الرب لم يمجّدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء. وكما لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله الى ذهنٍ مرفوض كي يفعلوا ما لا يليق. مملوئين من كل إثم وزنا وشر وطمع وخبث، مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً، نمامين مفترين مبغضين لله ثالبين متعظمين مبتدعين شروراً». هذا هو مصير الإنسان خُلقياً إن لم يرجع عن أفكاره الدنسة.
قال سليمان في أمثال ٢٤: «المتفكر في قلبه في عمل الشر يُدعى مفسِداً، وفكر الحماقة خطية». نعم إن الأفكار الحمقاء خاطئة جداً تُفسد صاحبها، وستُدان في يوم الرب العظيم حين تُكشف سرائر الناس. ولكن شكراً لله لأجل دم ربنا يسوع الذي أريق على الصليب ليغسل قلوبنا وأفكارنا ويطهر ضمائرنا من إعمال ميتة، لنخدم الله الحي.
٣ - التفكير والمثل العليا: «كل ما هو حق» فافتكر في الحق وانبذ كل ما هو باطل وابتعد عن كل ما هو كذب. اترك كل ما هو رياء، واطرد كل ما هو خبث، تجنب كل ما هو نجاسة. فقط اسمح للحب أن يدخل قلبك ليحفظ أفكارك نقية طاهرة حرة. واعلم ان كل حياة ومبادئ دينية أو إنسانية أو اجتماعية أو سياسية غير مؤسسة علىالحق لا بد أن تُدان.
الحق وحده ينتصر لأن الحق هو المسيح المنتصر، وكل من هو من الحق لا بد أن ينتصر في المسيح. يقول مثل أسباني: «يلزمك حمل أكياس كثيرة من التراب لتدفن الحق». ولكن الحق مثل سيده لا بد أن يقوم. تعلم الحق وانشره، هذه هي رسالتك كمسيحي. صحيح ان اكتساب الحق في المسيح أعظم ربح، لكن نشر الحق في المسيح أعظم امتياز.
فكر في كل ما هو جليل. يبعث على الاحترام ويخدم الوقار، ويتناسب مع الشرف والكرامة. ابعد عن عقلك كل ما هو شائن دنيء خسيس دنس. لا تُدخل إلى أفكارك إلا كل ما هو خليق بجلال الله، لأنه يريد أن يحل بالمسيح بالإيمان في قلبك فينقي قلبك. وبالتالي تسمو أفكارك ويتلألأ وجهك بجمال من وداعة المسيح الحال فيك.
زارت سيدة يابانية مدرسة بنات داخلية تابعة لإرسالية مسيحية. ولاحظت أن أسارير التلميذات مطبوعة بنوع غريب من الجمال. فقالت للناظرة أرى أن كل طالباتكن جميلات، فهل هذا يعني انكنّ لا تقبلن في مدرستكن إلا الفتيات الجميلات؟ فقالت الناظرة: ليس الأمر كذلك، وإنما نحن نربي تلميذاتنا على الفضائل المسيحية، وهي تنشئ فيهن زينة الروح الوديع، التي مع انها داخلية الا انها تظهر في الابتسامة المشرقة بالوداعة واللطف. فقالت السيدة الزائرة أنا لست مسيحية، ولا أريد أن تكون ابنتي مسيحية، وإنما أريد ان تكون هذه الملامح الوديعة الجذابة على وجه ابنتي، ولهذا أود إلحاقها بهذه المدرسة.
قال القديس الصيني الصادهو سندر سنغ: «الجمال المشبَّع بالوداعة هو انعكاس صورة الجمال الروحي الداخلي المخبّأ. انه جمال المسيح يظهر في صفات المؤمنين به». فنرى جمال الايمان في ابراهيم وجمال الصبر في أيوب، وجمال الطهارة في يوسف، وجمال الوداعة في موسى، وجمال الشجاعة في ايليا، وجمال الصلاة في داود، وجمال الامانة في دانيال، وجمال المحبة في يوحنا الحبيب، وجمال التواضع في بولس.
نعم هكذا يتلألأ جمال المسيح في صفات مختاريه المحبوبين الذين ألبسهم الروح القدس أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة. هذه الفضائل تُكسِب ملامح الوجه رقة وعذوبة وابتسامة حلوة مشرقة مصدرها الفرح في الرب. فكِّر في كل ما هو عادل. كن عادلاً في نظرتك الى الغير معطياً كل ذي حق حقه. ان كان أحدٌ أرفع منك مقاماً فلا يحملنَّك الحسد على الكيد له أو الإقلال من فضله. وعلى العكس لا يحملنَّك التّزلف على ان تحرق له بخور الرياء في عبارات المجاملة لئلا تخرج عن الحق. وإن كان أحد في مستواك فعامله كما تحب أن يعاملك هو أيضا، وفقا لقول الرب يسوع: «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم هكذا أيضاً بهم». وان كان أحد أدنى منك مقاماً فلا تحتقره، بل ترفق به وحاول أن ترفع من معنوياته قدر ما تستطيع، لأنك لهذا دُعيت في المحبة. فكر في كل ما هو طاهر، كن طاهر النية والشفتين واليدين. قف في وجه الأفكار الدنسة مهما حاول أبناء هذا الدهر أن يلبسوها من الجمالات الزائفة الملقة.
طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس. لكن في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً. فكر في كل ما هو مُسرّ. فكر في المحبة التي هي رباط الكمال.
دع المسيح يحل بالإيمان في قلبك، وهو يؤسسك ويؤصلك في المحبة. وبالمحبة التي هي رباط الكمال تستطيع أن تضبط افكارك، لأن إله السلام الضابط الكل يكون في قلبك. الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه.
سادساً - مواعظ في موت المسيح وقيامته
العظة - ٢٥ «أما أنا فقد علمتُ أن ولِيّي حي» (أيوب ١٩: ٢٥)
يقول مفسرو الكتاب المقدس إن سفر أيوب أقدم الأسفار المقدسة، وبذلك يكون أيوب أول من سمى الله «وليّاً». وتلاه داود إذ قال في المزمور ١٩: «لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضيَّة أمامك يا رب، صخرتي وولِيّي».
عانى أيوب محناً وشدائد قاسية ومريرة، ومع ذلك لم يفنَ إيمانه بالله، ولم يمت رجاؤه فيه ولم تسقط محبته. هذا المستوى الإيماني الرفيع يُرى في قوله: «أما أنا فقد علمتُ أن وليّي حي». هل تلاحظون هذه الكلمة المشبَّعة باليقين «علمت»؟ إنها لغة الإيمان الحي الذي يضعه الرب في قلوب أتقيائه الراجين رحمته. فيعبّر بها لسانهم ثقةً في الله لا تتزعزع مهما كانت الحال معاكسة. هكذا أيوب ثبت في الله رغم الأمور المعقَّدة التي تحمل على الشك والريب، فلم يقل: أظن، أخمّن، أرجو، أفتكر. وما أبعد هذه الكلمات عن لغة الإيمان القائلة في بولس: «لست أخجل، لأني عالمٌ بمن آمنت، وموقنٌ أنه قادر أن يحفظ وديعتي الى ذلك اليوم».
قال أيوب: «علمت أن وليّي حي، والآخِر على الأرض يقوم. وبعد أن يفنى جِلْدي هذا، وبدون جسدي أرى الله، الذي أراه أنا لنفسي وليس آخر». هذه الكلمات تحمل ثلاث حقائق أشار اليها رجل الله:
١ - الحقيقة الأولى: متعلقة بالماضي: رأى أمانة الله وتمتَّع بشركة سعيدة معه، واختبر عنايته الغنية باللطف فسماه «وليّاً». وما أروعها من تسمية مباركة! جاءت من وحي الفداء العظيم. إذ نقرأ في لاويين ٢٥: «إذا افتقر أخوك وبيع لغريبٍ، فبعد بيعه يكون له فكاك. يفكه واحد من إخوته، أو يفكه واحد من أقرباء جسده». ومعنى هذا أن الفادي يجب أن يكون ذا قرابة مع الإنسان المطلوب فداؤه. وهذا الشرط توفَّر في المسيح، لأنه إذ كنا مُباعين تحت الخطية جاء في الوقت المعين وشاركنا في اللحم والدم، ليصير قريبنا، وبالتالي يفدينا!
وقال الرسول بولس: «لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني». فكلمة «وليّي» إذن تليق بالمسيح المتجسد الذي وضع نفسه وتسمَّى بابن الانسان. وقد أعلن أنه لم يأت ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين. ومن ميزاته انه لم يأت يهودياً ولا يونانياً، ولا رومانيا لكنه أتى «ابن إنسان» ليكون ولياً لكل إنسان. وكذلك يفترض في الولي الفادي أن يكون غنياً قادراً أن يدفع فدية أخيه، وهذا الشرط متوفر في يسوع المسيح. فهو غني في الرحمة، ومن أجل محبته الكثيرة التي احبنا بها افتدانا، لا بأشياء تفنى من فضة أو ذهب، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب، دم المسيح، معروف سابقاً قبل تأسيس العالم.
هذه هي ميزات الولي في العهد الجديد عهد النعمة والحق، وقد لاح لأيوب فكتب ما كتب مسوقاً من الروح القدس، لأجل تعليمنا، حتى يعرف كل واحد منا هذا الولي الفادي ويتخذه ولياً ويخلص به من الغضب الآتي. فيفرح ويسبح قائلا: «هللويا. هذا وليي الفادي وقد دفع فديتي وحررني من عبودية ابليس وأرجعَ لي اعتباري كمخلوق على صورة الله. ولعل أروع ما في عمل المسيح من أجلك انه صار فاديك وفديتك في آنٍ واحد. فهو الرب المخلّص، وهو حمل الله الذي يرفع خطية العالم. وأيضاً هو محاميك أمام الناموس الذي أغلق عليك تحت الخطية، ولكي ينقذك من القصاص أخذ مكانك في الدينونة. وبعمله الكفاري تستطيع ان تقف أمام الله مبرَّراً بالنعمة.
إن كان أيوب الذي عاش قبل الفداء بآلاف السنين أدرك ان الفادي وليٌّ حيٌّ، فكم بالحري نحن الذين نعيش في عهد الفداء ونور القيامة، يجب أن يكون لدينا اليقين أن فادينا وولينا حي؟ وإن هذا الولي الحي سيحيي أجسادنا المائتة بروحه القدوس. تذكروا قوله: «وأما أنتم فترونني. إني أنا حي فستحيون!».
هذا كان يقين بولس الذي عبَّر عنه بالقول: «لا بد أن هذا الفاسد يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت».
٢ - الحقيقة الثانية: متعلقة بمجيء الولي ثانية لفداء الجسد: قال أيوب: «والآخِر على الأرض يقوم». فقد كان عنده يقين بأنه وإن مات وفني جلده، فإن وليَّه سيأتي ليحييه. والملاحظ عند أيوب أن إيمانه بهذه الحقيقة اكتمل على مراحل. ففي الأصحاح ٩: ٣٣ من سفره نلمس عنده شوقاً الى مُصالِح بينه وبين الله. وفي الأصحاح ١٦: ١٩ نرى الشوق يتحول عنده إلى يقين اذ يقول: «هوذا في السماء شهيدي». وبقوة هذا اليقين طلب إلى هذا الولي الذي في السموات أن يكون ضامناً له.
هذه الحقائق أولاها أيوب أهميةً كبرى، وأراد لها البقاء. أراد ان تبقى تراثاً للأجيال القادمة. فقد قال: «ليت كلماتي الآن تُكتب! يا ليتها رُسمت في سفر ونُقرت إلى الأبد في الصخر بقلم حديد ورصاص!» وأمنية رجل الله تحققت فعلاً، لأن كلماته هذه كُتبت في سفر الله الصخر الذي لم تؤثر فيه أحقاب الزمن. وفوق ما توخَّى أنها كتبت في قلوب أبناء الله، وليس بحبرٍ بل بروح الله.
٣ - الحقيقة الثالثة: متعلقة بالمثول في حضرة الله والسكنى في منازله: قال: «وبدون جسدي أرى الله، الذي أراه أنا لنفسي وليس آخَر». هذه قمة الإيمان أن الظافر المقاد في موكب نصرة المسيح وفقاً لقول بولس: «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح». ولنا من الولي الفادي هذا الوعد: «في بيت أبي منازل كثيرة، وإلا فإني كنتُ قد قلتُ لكم أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً. وإن مضيت وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضا».
اذاً دع الموت يفعل ما يشاء، فهو في الحقيقة خادم لك يحملك إلى ديار الرب. هكذا قال بولس: «إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السماء بناءٌ من الله، بيت غير مصنوع بيد، أبدي». والجميل في ايمان أيوب أنه كان موقناً بأنه سيرى وليَّه شخصياً وليس ممثلاً له. قال: «أراه لنفسي وليس آخَر». هذا كيقين يوحنا الذي عبّر عنه بالقول: «الآن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم انه إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو».
العظة - ٢٦ «ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن، وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات، فيدخل ملك المجد» (مزمور ٢٤: ٧)
منذ أن أعلن يسوع أنه سيُسلَّم إلى الشيوخ ورؤساء الشعب ليصلبوه، وتلاميذه يعيشون في جو مشحون بالقلق والاكتئاب. كانوا يعلمون أن الرؤساء أعدوا العُدة لقتل المعلم لأنه كان باراً أكثر مما يودّون، ومتمسكاً بالحق أكثر مما يرغبون، وفي هذا ضرر لمصالحهم الشخصية. ولكي يبرروا موقفهم قالوا: «ماذا نصنع؟ فإن هذا الانسان يعمل آيات كثيرة! إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا».
وكان قيافا أشدهم دهاءً فاستطاع أن يزيل التردد من نفوسهم بقوله: «أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكرون أنه خيرٌ أن يموت إنسان عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها». وبعد هذا التحريض توالت الأحداث، وإذا بها تجري كلها في مصلحة المؤامرة. فيسوع مع أنه رُفض وحُقر من الرؤساء، ومع أنه عالمٌ بحكم الموت الذي صدر عليه، فقد صمم على الصعود في موكب رسمي الى أورشليم قاتلة الأنبياء.
ولعله أراد بهذه الزيارة للمدينة العظيمة أن يعطي أهلها فرصةً أخيرة، علَّهم في الساعة الأخيرة من يوم افتقادهم يرجعون عن شر قلبهم، فيقبلونه مسيحاً وفادياً ومخلصاً. وكذلك الأحداث، كانت سائرة في خط النبوات، لأن دخوله في موكب المجد كان يتمّم ما قيل بإشعياء النبي: «قولوا لابنة صهيون: هوذا مخلصك آتٍ وأجرته معه».
نقرأ في الإنجيل أن يسوع تقدم صاعداً إلى أورشليم، ولما قرُب مع صحبه من بيت فاجي وبيت عنيا أرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: «اذهبا الى القرية التي أمامكما، وللوقت وأنتما داخلان تجدان جحشاً مربوطاً لم يجلس عليه أحد قط. فأْتياني به. وإن قال لكما أحدٌ شيئاً فقولا: الرب محتاج إليه». ويا لها من حجّة! ان الرب محتاج إلى الجحش! حجة بسيطة ولكن يُرى من خلالها شخص يسوع على حقيقته.
فهو كربٍّ (له كل مجد اللاهوت) عرف بوجود الجحش في مدخل بيت فاجي، وأنه لم يتروض بعد، وأن صاحبه سيسأل التلميذين لماذا يأخذانه. وكسيّدٍ على الكل أخلى نفسَه وصار في شبه الناس احتاج إلى أحد مخلوقاته الحقيرة! فيا للعجب!
إن السيد الرب الذي له الأرض وملؤها لم يكن له في مهرجانه العظيم مطيّة ليركبها، فاستعار جحشاً من أحد الناس. فَلْنَحنِ الرأس للعلي ساكن الأبد القدوس اسمه، الذي تواضع ليرفعنا وافتقر ليغنينا. بيد أن ملك المحبة مع وداعته وتواضعه كان في اختياره يتمم رمزاً ملكياً مقدساً، رمز ملك السلام. لأن القضاة الذين مسحهم الله على شعب إسرائيل قديماً كانوا يركبون الأتن في مواكبهم الرسمية من دون الخيل، لأن الخيل ترمز الى الحرب. وفي الوقت نفسه كان يتمم النبوة القائلة في زكريا: «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون. هوذا ملكك يأتي إليك، عادل ومنصور، وديع وراكب على جحش ابن أتان».
حين عاد التلميذان بالجحش وضع صَحْب يسوع أرديتهم عليه وأجلسوه فوقها، وساروا في اتجاه أورشليم. وما أن رأته جماهير الحجاج المخيمين حول المدينة المقدسة حتى التفوا حوله في موكب كبير. وفيما الموكب يسير قطع كثيرون الأغصان وفرشوها في الطريق، وآخرون فرشوا ثيابهم. ولما صاروا في منحدر جبل الزيتون ولاحت لهم قباب الهيكل، أخذوا يسبحون الله مترنمين وقائلين: أوصنا لابن داود! مبارك الآتي باسم الرب! أوصنا في الأعالي، سلام في السماء ومجد في الأرض!».
وحين قربوا من المدينة خرجت الجموع لاستقبال ملك السلام. وفيما الموكب الضخم يدخل المدينة تعالت الأصوات بالنشيد النبوي القائل في المزمور ١١٨: «هذا هو اليوم العظيم! نبتهج ونفرح فيه، آه يا رب خلص! آه يا رب أنقذ! مبارك الآتي باسم الرب». وفي قلب المدينة استُقبل الملك رئيس السلام بحماس منقطع النظير، حتى أن البشير متى قال: «ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها. قائلة من هذا؟!».
وبديهي أن هذا الاستقبال العظيم يثير حفيظة أعداء يسوع. فاغتاظوا جداً وقالوا ليسوع: «يا معلم انتهر تلاميذك». ولا عجب ان يغتاظ أولئك اليهود المتعصبون الذين قاوموا يسوع منذ البداية. حتى في اليوم الأخير من زمن افتقادهم وقفوا في وجهه طالبين إليه أن يُسكِت هتافات الجماهير. وما دروا أن النبوات عن المسيا كانت تتم بهذا الاستقبال. ولهذا كان لا بد له أن يقابل احتجاجهم الحاقد بأسف شديد، فيقول لهم: «الحق أقول لكم، إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ». وفيما رب المجد يقترب من الهيكل بكى على أورشليم العزيزة التي جهلت يوم افتقادها: «يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسَلين إليها، كم مرة أردتُ أن أجمع أبناءك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. لو علمتِ حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. فانه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويُحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجراً على حجرٍ، لأنك لم تعرفي زمن افتقادك». مسكينة هي المدينة المقدسة، فقد كان رثاء المسيح لها نبوةً لما هو مكتوب في القضاء.
ففي فصحها الأربعين بعد دخول المسيح إليها في موكب المجد جاء تيطس الروماني وحاصرها وفيها ما يقرب من الثلاثة ملايين، فمات معظمهم جوعاً أثناء الحصار، ودُمرت المدينة تدميراً شاملاً ونُقضت حجارتها بأمر من تيطس.
نقرأ في الإنجيل أن يسوع ذهب مباشرةً إلى الهيكل، وهناك قابله حشدٌ من الأولاد وهم حاملين سعف النخل وهاتفين... أوصنا لابن داود. فضاعف هتافهم غيظ رؤساء اليهود، فصرخوا في وجه يسوع قائلين: أما تسمع؟ نعم إني أسمع، قال السيد الرب. ولكن أنتم أما قرأتم قط النبوة القائلة: «من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحاً. تضلون إذ لا تعرفون الكتب. أليس مكتوباً في المزامير أنه في هذا اليوم يخرج لي تسبيحٌ من أفواه الأولاد؟».
وما أحرانا أن نتأمل جدياً في معنى يوم الافتقاد فنقبل يسوع مجدَّداً بفكر التكريس، ونكرس له ذواتنا ومآتي أيامنا. وسيان عند رئيس ملوك الأرض أفرشنا له الأزهار في ذكرى يومه العظيم، أم اكتفينا بالترنم له «أوصنا لابن داود، أوصنا في الأعالي» لأن السيد الرب يريد أن نقدم له أجسادنا ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الرب عبادتنا العقلية.
في طليعة الأمور التي تسترعي انتباهنا في استقبالات أورشليم للملك الوديع، سرعة انقلاب الجماهير عليه وتنكرها له. فالحناجر التي هتفت له: «أوصنا لابن داود» صرخت إلى بيلاطس: «اصلبه! اصلبه!». والسبب هو ان السيد رفض رغبة أبناء الشعب في تنصيبه ملكاً زمنياً. والمؤسف أن هذا التناقض المقيت ما زال يتكرر عبر الزمان. ولنلاحظ في تصرفات الكثيرين من حاملي اسم المسيح. أنهم يعيّدون بالسعف والأزهار والشموع وقرع الأجراس، ثم يعودون إلى اهتماماتهم الجسدية حيث تنكر أعمالهم اسم المسيح. وفي انكبابهم على الخطية التي صلبت رب المجد يصرخون مع حشود أورشليم: يا بيلاطس اصلبه!
فليت الرب يفتح أذهان الجميع في هذه الأيام ليعلموا ما هو لسلامهم، ويستفيدوا من الساعات الباقية من يوم الافتقاد. شاكرين الله لأنه يتأنى، ولا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يُقبل الجميع الى التوبة. ولأن يوم النعمة لم ينته بعد، بل توجد فيه بقية، يستطيع الجميع خلالها أن يهتفوا: أه يا رب خلص! آه يا رب انقذ. مبارك الآتي باسم الرب!
العظة - ٢٧ «المسيح قام» (لوقا ٢٤: ٦) - أ
المسيحية بدون القيامة تصبح ديناً فاشلاً، لأن المسيح المائت على الصليب قبل ظفره في بكور الأحد يكون مأساةً تستحق كل رثاء وإشفاق.
صحيح أن المسيح خلّد للبشر في حياته تعاليم أدبية وروحية لم يأت الزمان بمثلها، وترك للحياة مثالاً هو النموذج الفريد في الجمال والحق.
ولكن انزع القيامة من المسيحية تجرّدها من أعمق حقائقها، فلا إنجيل رجاء، ولا وحي عن الأشياء الخالدة، ولا رسالة معزية للمحزون، ولا بشارة مفرحة للمكتئب.
إن في الحياة أموراً كثيرة تهفو النفس البشرية لمعرفتها والتأكد بها. نريد مثلاً أن نعرف: هل حقاً يتدخل الله في حياة الإنسان ويعمل لاجل رقيها ورفع مستواها؟ أم نحن فرائس مهملة تحت رحمة القُوى الكامنة في الطبيعة البشرية؟
يقول أهل العلم إن رقي العالم معلَّق بارتقاء الفكر والمعرفة والاختبار. ونحن لا ننكر ما لهذه الثلاثة من أثر في حياة الإنسان. ولكن هل فيها خلاص الجنس البشري؟ وهل تكفي وحدها لإنقاذنا من أنفسنا الأمّارة بالسوء؟ وهل توفر لنا أسباب الحرية الروحية؟
لقد عُرف بالممارسة ان الفكر مهما سما يضل ويسلك سبلاً عوجاء خاطئة، وان المعرفة مهما ارتقت فقد يُساء استعمالها وتُستخدم لأغراض سيئة. وكذلك الاختبار، مهما نضج لا يصون البشر من الحماقة، ولا يقي الإنسانية من الفساد. وقد تبرهن أن الإنسان بدون الله لا يمكن أن يرتقي روحياً.
لقد ارتقى أبناء عصرنا في الفكر والمعرفة والاختبار، وهذه قادتهم إلى اكتشافات مدهشة جداً. ولكن ماذا أنت راءٍ الآن؟ مصانع كبرى تنتج الأسلحة المدمرة، التي اخترعتها أدمغة العلماء وعقول الأذكياء. وكلها لتمزيق أوصال الناس ودك معالم العمران. هذا مع العلم أن المبالغ الخيالية التي صُرفت لصنعها، كان يمكن استخدامها لسد حاجات الشعوب المتخلّفة اقتصادياً.
يقول العارفون إن تكاليف صنع قنبلة نووية واحدة تكفي لإطعام عشرات الألوف من الجياع. وإن تكاليف بناء غواصة ذرية تكفي لبناء عشرات المدارس لمكافحة الأمية والجهل. وإن تكاليف صنع مدفع واحد كافية لإنشاء حديقة غناء مزهرة.
لست أدري ولعلك لا تدري معي كيف يسعى الناس في جنونٍ من غير عقل؟ ثم نريد أن نعرف: أحقاً أن الخير هو الغالب في النهاية، وأن الشر مهما استفحل فمصيره الهزيمة والفناء؟
ان سجلات الماضي ومشاهدات الحاضر تحمل كثيرين على الشك، لأنهم يرون الشر يكثر ويمتد، بينما الخير ينكمش ويذبل.
صحيح أن العالم ينمو في المعرفة، ويتقدم في الاكتشاف. ولكن هل ينمو الخير؟ يُخيل لي أن العكس هو الحاصل، فالخير تقف في طريقه عثرات. وفي أحيان كثيرة تسحقه القوة الشريرة. فالقديسون في القديم عُذبوا وتجرّبوا في هزء وقيود وحبس.
والمسيح تألم وصُلب، وشهداء المسيحية رُجموا، وأُحرقوا بالنار وأُلقوا بين براثن الأسود.
ابتدأ العلم يعترف بعض الشيء بأن الروح يمكن أن تبقى خالدة. وعلم النفس يرجح الخلود ترجيحاً. ولكننا نريد كبشر يقيناً راسخاً ورجاءً وطيداً.
وثمة سؤال أخير لعله أهم هذه الأسئلة جميعاً، وإن كان لا يلاقي اهتماماً لدى الكثيرين هو: هل تُغفر خطايانا؟
ان الناس في عصرنا قلَّ أن يفكروا جدياً في خطاياهم، لأن شواغل الحياة وضواغط المادة قد استأثرت باهتمامهم. وألهاهم التكاثر عن تذكر اليوم الذي فيه سيدين الله سرائر الناس. ومع ذلك فالشعور بالخطية جاثم هاجع في قرارة كل نفس، ولا بد أن يستيقظ يوماً. وحوادث التاريخ تعلّمنا أن الانسان حين تستيقظ طبيعته الروحية يهوله شعور رهيب بقصوره في إطاعة الله وتلبية نداء المُثل العليا. وعندئذ تتصاعد من أعماق قلبه المستيقظ أنات كاوية محرقة: «ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟». من يصالحني مع الله الذي عصيته. من يخلق فيّ قلباً نقياً؟
فهل يتدخل الله في حياة الإنسان. هل يغلب الخير في النهاية؟ هل ثمة حياة أخرى بعد الموت؟ هل تُغفر خطايانا؟
في لحظة سريعة تجيب القيامة على هذه الأسئلة كلها.
فان القوة التي أقامت يسوع من الأموات هي قوة الله، وهي ما زالت تعمل في العالم لإقامة كثيرين من قبور الخطية. هكذا قال الرسول: «إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً».
ومن حادث القيامة المجيدة نوقن أن الخير سيقهر الشر في نهاية النضال، وان العقبى للخير والحق.
في جلجثة تكاتف الأشرار والشياطين على صلب الحق المتجسد في يسوع الإنسان. وخُيل لهم في أول الأمر أنهم أفلحوا. فقد رأوا بأم العين فريستهم مهيضة الجناح مذلولة فوق الصليب. ثم رأوا الحق يُدفن في القبر ويُختم عليه بختم الوالي الروماني.
ولكن في اليوم الثالث قام يسوع من الأموات، فكانت قيامته انتصار الحق بعد طول النضال.
وكانت عربوناً صارخاً بأن الخير هو القوة العليا في الكون.
وفي القيامة تبدو لنا الحياة المستقبَلة بعد الموت يقيناً راسخاً. فالمسيح قد عاش في الموت وهو «باكورة الراقدين. المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئه». وهنا الدليل الجازم على أننا سنلتقي بأحبائنا في الجانب الآخر من الحياة. هناك يكمل فيهم وفينا العمل الصالح الذي بدأناه. وهناك تنضج المواهب الروحية التي جاهدنا في سبيلها حتى تبلغ الكمال. وهنالك يتسع المجال للقُوى والمواهب التي ضاقت بها الأرض. ولا يذهب شيءٌ هباءً، ولا يتبدد ضياعاً.
قال يسوع ليوحنا الرائي: «قد تم. أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية. أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً». «من يغلب يرث كل شيء، وأكون له إلهاً وهو يكون لي ابناً. من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله. من يغلب فذلك يلبس ثياباً بيضاء، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة». فالموت اذن ليس نهاية بل بداية حياة أكمل وأجمل وأقدس.
وأخيراً تُحدثنا القيامة عن معنى الجلجثة بلغة تمس كامل الحس فينا.
لأنه من فوق تلك الرابية قُدمت الذبيحة عن خطايانا مقدسة مرضية كاملة، وارتفع صوت الغفران من فم حمل الله الذبيح: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون». فتم الإعلان القائل: «وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية». ومعنى هذا أننا عند قاعدة الصليب نطرح أثقال خطايانا، وأنه من المسيح المقام تأتينا القوة «لنسلك في جِدّة الحياة».
ومن الجلجثة ومن القبر الفارغ تأتينا الشهادة أن المسيح «مات عن خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا».
أرأيتم كيف تهيء لنا القيامة إنجيلاً ورسالة؟ إنه إنجيل الرجاء الحي بقيامة يسوع من الأموات.
ورسالتنا أن نخبر الناس بما سمعنا ورأينا، لتكون لهم شركة معنا، وليكون فرحهم كاملاً.
إن المسيحية بدون القيامة تصبح ديناً عقيماً، لا يلقي شعاعاً من النور على مشاكل الحياة.
المسيحية بدون القيامة تصبح مذهباً لا رجاء فيه، بل بالحري يطّوح الناس في بالوعة اليأس.
قال رسول الأمم بولس: «إن كان لنا رجاء في هذه الحياة فقط فإننا أشقى جميع الناس».
«لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيُحيا الجميع».
فما أحرانا بالتهليل والفرح والهتاف عند استقبال رسالة القيامة.
لأن الذي مات على الصليب قام في اليوم الثالث، ليقيمنا معه ويجلسنا في السماويات.
العظة - ٢٧ «المسيح قام» (لوقا ٢٤: ٦) - ب
القيامة هي انتصار الحياة على الموت، ومعناها ولادة الرجاء الحي في قلب كل من يؤمن به، وهي عربون قيامة المؤمنين لميراث القديسين في النور، الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظاً في السموات لأجلهم. القيامة من أهم أحداث المسيحية إن لم تكن أهمها على الإطلاق، لأن بها صارت الكلمة المكتوبة: «أما أنا فقد علمتُ أن وليي حي، والآخِر على الأرض يقوم». ولأنها أكدت أن الموت ليس نهاية الإنسان، وإنما هو رقاد مؤقت سوف تعقبه يقظة الأبد، ثم الذهاب الى الديار اللؤلؤية في السماء، حيث مسكن الله مع الناس. هناك سيكون الله معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه سيكون معهم إلهاً لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد.
وبالرغم من ضباب الشك الذي أراد أعداء المسيحية أن يجمعوه حول قيامة رب المجد، فان القيامة تبقى معجزة المعجزات التي تأيدت ببراهين ساطعة لا تقبل الجدل. فشهادة من عاينوا قيامته بددت هذا الضباب المصطنع. اسمعوا ما قاله أحدهم، وهو بطرس: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث، وأُعطي أن يصير ظاهراً... لشهود سبق الله فانتخبهم. لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات».
والواقع أن يسوع ظهر لخاصته بعد قيامته عشر مرات، ليس لدينا وقت للتأمل إلا في ثلاث منها.
١ - لمريم المجدلية: كانت هذه قد أتت الى القبر باكراً مع سيدات حاملات الطيب لتحنيط جسد يسوع. ولما وجدن القبر فارغاً، انخرطن في البكاء، إذ ظننَّ أن اليهود قد نقلوا جثمانه إلى مكان آخر. ويبدو أن المجدلية بعد استرسالها طويلاً في البكاء انحنت لأول مرة لتنظر داخل القبر، فارتاعت جداً حين نظرت ملاكين جالسين وجهاً لوجه عند طرفي القبر. وأيضاً كافأ السيد الرب أمانتها في أن أعطاها فوق ما تنشد (كعادته مع محبيه) حين طلبت الجسد الميت لتكرمه، فنالت ظهوره حياً قبل أن يراه أحدٌ من خاصته. فحين التفتت الى الوراء نظرت شخصاً بهيئة بسيطة فظنَّت أنه البستاني، وهذا الشخص تصرف في البدء وكأنه لا يعرفها، فسألها: «يا امرأة لماذا تبكين؟ من تطلبين؟» وكان في سؤاله المزدوج بعض الملامة، لأن الكلام الذي ردّده عن قيامته لم يرسخ في ذهنها، بدليل أنها حين رأت القبر فارغاً ظنت أن أحداً أخذ جثمان سيدها، وسألت من ظنت أنه البستاني أن يساعدها في العثور عليه لتضعه في قبر مناسب. ولكن أمام لوعتها لم يشأ له المجد أن يتركها طويلاً في محنتها القاسية، بل سرعان ما ناداها: «يا مريم!».
فاهتزت سروراً لأن النداء جاءها بصوت الراعي الصالح الذي يدعو خرافه بأسمائها وخرافه تتبعه لأنها تعرف صوته. وما أن سمعت النداء حتى همّت بأن تقع على رجليه، ولكن يسوع أوقفها قائلاً: لا تلمسيني. قالها لكي يعلّمها أن وجوده مع خاصته سيأخذ فصاعداً شكلاً جديداً، فلا يسوغ لهم بعد اليوم أن يتمسَّكوا بالجسد، بل أن يطلبوه بالروح والحق. وفي تعبيرٍ آخر أنه أراد أن يُفهِم تلاميذه وإيانا أنه لا يجوز أن يلتمسوا حضوره المحسوس في ممارساتهم الدينية.
٢ - ظهوره لتلميذين من عمواس: كان هذان التلميذان منطلقين إلى قريتهما حزيني النفس منكسري القلب، فقد كان موت المعلم شديد الوقع عليهما، حتى أنهما وهما يتطارحان الحديث عن الأمور التي رافقت صلبه، لم يلحظا أن شخصا ثالثاً كان يشاركهما الطريق وينصت الى حديثهما. هذا هو مبدأ يسوع: إنه على الدوام قريب من الذين يتحدثون عنه. قيل في العهد القديم: ان الرب أصغى، وكُتب أمامه سفر تذكرة. وإنها لبركة عظمى يسبغها الله على الإنسان في الإصغاء إليه. ولكن هنا بركة أعظم وأسمى، لأنه حين تحدث التلميذان عن يسوع أتى إليهما وفقاً لقوله: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم».
آه! كم يخسر المؤمنون من بركات حين يتطارحون الحديث عن السياسة والحرب وشؤون المجتمع، دون أن يفرزوا حصة للحديث عن يسوع الذي هو حاجة النفس الأولى. «مرثا، مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد». هكذا قال الرب لأخت لعازر الكبرى التي شكت له هموم دهرها. وهل يُنتظر من الرب أن يصغي الى أحاديث ليس له فيها نصيب ليكتبها في سفر التذكرة؟ وهل ننتظر من الرب يسوع أن يقترب منا ويشترك في الأفراح العالمية حين نمارسها؟
يخبرنا لوقا الإنجيلي أن التلميذين حينما سمعا رفيق دربهما يشرح لهما النبوات عن موت وقيامة المسيا، ألزماه بالبقاء معهما. ولو لم يلزماه لمضى في طريقه، ولحُرما من بركة محضره وتناول الخبز من يده. ونحن كم نخسر من الامتيازات والتعزيات والبركات حين لا نلزم يسوع بالبقاء معنا!! إنه يريد أن نلزمه بالمحبة فنشبع شوق قلبه الشديد الى الاختلاء بنا. وكم تتمتع حينئذ محبتنا بحلوله بالايمان في قلوبنا، ليصير الكل وبالكل في حياتنا.
كثيرون بيننا لا يتمتعون بالعشرة الحلوة مع يسوع، لأنهم ليس فقط لا يتحدثون إلا نادراً عنه، بل لأنهم يجعلونه ثانياً في حياتهم، بينما هو لا يقبل إلا المركز الأول، وفقاً لقوله: «تحب الرب إلهك من كل قلبك». بعض الناس لا يريدونه إطلاقاً، لأنه متى احتل المركز الأول في القلب يغيّر شكل معيشتهم، مما يجعله ثقلاً بالنسبة لمسراتهم الجسدية. هذا هو عيب الكثيرين أنهم بتصرفاتهم يُبعدون القدوس عنهم، مع أنه يريد أن يمكث معهم، وأن يكون لهم رفيق درب وصديقاً ألزق من الأخ. وقصده أن يصيّر حياتهم مفعمة بالفرح، ويضمّخها بأريج القداسة والنقاوة. وحينئذ تصير أهدافهم شريفة وعواطفهم نبيلة وأفراحهم مقدسة.
يخبرنا مرقس الإنجيلي أنه حين نقلت المجدلية البشرى السعيدة عن ظهور الرب الى التلاميذ النائحين الباكين لم يصدقوا. ونحن مديونون لعدم تصديقهم بأعظم الأدلة على قيامة رب المجد، لأن شكهم برهة قصيرة ثم يقينهم بعد ذلك صار لنا دليل إثبات. قال أحد المفسرين الأعلام: ان شكوك الرسل لم تزُلْ إلا شيئاً فشيئاً عند توالي البراهين القاطعة. فشكهم في الأول ثم يقينهم في ما بعد يقويان ثقتنا في شهادتهم. وفي اعتقادي أن الذين أصرّوا أولاً على عدم التصديق لم يؤمنوا هذا الإيمان الحار ويجاهدوا ويخاطروا في سبيل نشر حقيقة القيامة، إلا بعد أن أخذوا براهين دامغة لإيمانهم. وهذه صارت لنا بعدهم.
٣ - ظهوره لألدّ أعدائه وهو العالِم الفريسي شاول الطرسوسي: هذا الشاب كان قد تطوع لتعقُّب المسيحيين للتنكيل بهم. ولكن يسوع ظهر له بعد القيامة بوقت غير بعيد على طريق دمشق. فآمن به إيماناً ثابتاً، حتى أنه فاق كل الرسل الآخرين في الغيرة والنجاح بالكرازة بيسوع المقام. وقد دّوَن لنا شهادته بمداد اليقين إذ قال: «ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات، وصار باكورة الراقدين. المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئه».
أيها الاحباء لا يضلكم أحد بكلام ملق باطل، فالقيامة هي حجر الزاوية في المسيحية. وهي حقيقة لا يوجد مثلها في أي دين آخر من أديان العالم. ومع ذلك ما أقل المسيحيين الذين يتمتعون برؤى القيامة. لأنهم مع أنهم يعيّدون الذكرى عاماً بعد عام، ويرددون العبارة التقليدية: «المسيح قام حقا قام». إلا أنهم لم يفهموا أن معنى القيامة أن يقوموا مع المسيح ليطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. إنهم لم يعرفوا المسيح في شركة آلامه وقوة قيامته ليصيروا بها إلى سيرة السمٰويات، حيث ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح.
يقول يوحنا الإنجيلي: إنه حين دخل يسوع العلية حيث كان التلاميذ مجتمعين، فرحوا إذ رأوا الرب. كانوا مضطربين حزانى مضعضعي الحواس مملوئين يأساً وخوفاً. فلما رأوا الرب امتلأوا فرحاً وابتهاجاً. كان من اللازم أن يموت عن خطايانا ويقوم لأجل تبريرنا، بمعنى أنه بدون موته وقيامته كنا سنبقى في خطايانا. هكذا قال الرسول بولس: «إنْ لم يكن المسيح قد قام فباطل هو إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم». هذه علة فرحهم يومئذ وعلة فرحنا اليوم: أن القيامة وضعت ختم البر على صك خلاصنا.
هل كان في وسع مخلّص يرتهنه ظلام القبر أن ينير الحياة والخلود، وبالتالي أن يُدخِل الفرح إلى قلوبٍ مكتئبة منسحقة بالحزن؟ كلا! فنحن نحتاج الى مخلص مُقام لنجثو عند قدميه لطلب الغفران لكي يشفع فينا. نحن نحتاج إلى مخلّص أمين نستودعه نفوسنا بثقة إلى أن نصل إلى المنازل التي ذهب ليعدّها لنا في بيت الآب. إننا نحتاج إلى رب حي يتخذ منا موقف الصديق ويباركنا بمحبته الغنية ويملأ قلوبنا بسلامه الذي لا يُستقصى. اننا نحتاج الى مخلص غالب منتصر ليعضدنا بيمين بره، ويعيننا في ساعة التجربة. اننا نحتاج الى مخلص شفيع يشفع في ضعفاتنا أمام الآب السماوي، ويدفع عنا افتراءات العدو المقاوم والمشتكي. وهذا المخلص وهذا الرب وهذا الشفيع وهذا القائد هو يسوع المسيح المقام.
فلنفرح ولنهلل، ولنسبح ولنبتهج لأن وليّنا حي، وقد كسر شوكة الموت، وأعطانا ضماناً أكيداً بالنصرة على الموت. لنفرح ولنفرح لأننا نستطيع ان نتمتع بعِشرة الرب كما تمتع بها تلاميذه الأوائل.
«لأنه حيٌّ معنا في كل حين».
العظة - ٢٨ «وأراهم يديه» (لوقا ٢٤: ٤٠)
في الكاتدرائية الكبرى بمدينة كوبنهاغن يُرى تمثال جميل من صنع الفنان الشهير ولدسن، يمثّل يسوع واقفًا بين تلاميذه يُريهم يديه المثقوبتين. وقد أجاد الفنان الى أقصى حد، حتى أن المنظر ليترك أثراً عميقاً في النفس. وأي منظر أروع من هذا أن يُرى يسوع وهو يحمِّل تلاميذه رسالة اليدين المثقوبتين؟! التي هي رسالة البركة والسلام والعطاء المسرور للعالم! وليس هذا فقط بل المشهد درس عملي من وحي الفداء لتعليم الأجيال أن صليب ربنا يسوع المسيح كان ولم يزل أساس المسيحية وروحها ورسالتها الخالدة.
حين قال الرب لتلاميذه: «سلام لكم» كان يؤكد لهم وللعالم أن الصليب لم يكن رمز الكفارة وحسب، بل هو رمز السلام أيضاً، لأنه صار في المسيح أداة المصالحة بين السماء والأرض، كما هو مكتوب: «لأنه هو سلامنا، الذي نقض حائط السياج المتوسط أي العداوة، مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض. لكي يخلق في نفسه (من اليهودي والأممي) إنساناً واحداً جديداً، صانعاً سلاماً. ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلاً العداوة به».
إن كل الذين تمتعوا برؤى الصليب في آثار جراح يسوع تبرروا بالإيمان، فصار لهم سلام الله بربنا يسوع المسيح. وكل الذين تجاوبوا معه بجراحه صاروا بقيامته، أي انه أقامهم معه وأجلسهم معه في السمٰويات، فصاروا صانعي سلام. وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون.
يخبرنا البشير يوحنا أن التلاميذ كانوا عشيّة يوم القيامة مجتمعين والأبواب مغلقة. فجاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم: «سلام لكم». ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه، ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب. قالها فوضع ختم البر على صك السلام المكتوب بدم صليبه، وتمم الوعد القائل: «سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا». ثم أضاف قائلاً: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا». ومعنى هذا أن كل عضو في كنيسة المسيح التي اقتناها بدمه ان يكون رسول سلام في العالم. وصار الأمر اليومي للمؤمنين عبر بولس: «لنسْعَ كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا، نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله. لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً لأجلنا لنصير نحن برَّ الله فيه».
وقد بسط القديس لوقا مهمة هذه السفارة إذ قال: «هكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم في اليوم الثالث، وان يُكرز باسمه بالتوبة وغفران الخطايا لجميع الأمم». وقال الرسول يوحنا: «فإن كان ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي أن نضع نفوسنا عن الإخوة». حتى لكأن الرسول الملهم استوحى وصيةً من قول الرب يسوع: «ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا: أن يضع أحدٌ نفسه من أجل أحبائه».
فلا يصرفنا أحد بقول باطل عن حقيقة الصليب كرسالة المسيحية الأولى العظمى. فقد قال رسول الجهاد العظيم بولس للكورنثيين: «لأني لم أعزم أن أعرف بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً». صحيح أن الصليب كان لليهود عثرة وللأمم جهالة، وعند أبناء جيلنا فكرة سخيفة. ولكن تثبت بالاختبار أنه كان ولم يزل عند الذين قبلوا يسوع وحملوا نيره عليهم، قوة الله وحكمة الله.
وما أكثر الذين حسبوا حمله امتيازاً وفخراً، وشاركوا بولس شعاره: «حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح». لقد حرص يسوع المقام على أن يُري تلاميذه الحزانى جراحه، لأن مجد المسيح المقام فينا أن نعرف جراحه التي بها شُفينا، وأن نضع الإصبع مع توما في أثر المسامير والحربة، لنبدد الشكوك في موته عن خطايانا وقيامته لتبريرنا. وحينئذ يحلو لنا ان نجثو عند قدميه الداميتين ونردد قول التوأم: «ربي وإلهي». وأن نقول بالتالي: يا سيدي الرب، عرفتك في آلامك فهبني الآن سلامك.. وزّودني بقوة قيامتك لعلي أبلغ قيامة الأموات.
إن عالمنا المتخبّط في خصوماته وحروبه ومشاكله السياسية والاقتصادية في حاجة ماسة إلى رسالة الصليب ليخرج من الظلمة التي تكتنفه. من هنا تبدأ سفارة خدام وخادمات الله الذين نظروا وجهه واستناروا ووجوههم لم تخجل. فقد وضعت الضرورة علينا أن ننشر رسالة اليدين المثقوبتين في كنائسنا ومدارسنا وفي القبائل التي نزورها. صحيح أن أبناء هذا الدهر في كبريائهم وشموخهم يأنفون الصليب ويحسبونه ضعفاً وخزياً. ومن هنا وَجَب على أولاد الرب في كل مكان أن يجسّدوا رسالة الصليب في حياتهم وسلوكهم ليفهمها الناس.
قال طالب جامعي: «قد تكون المسيحية ديانة عظيمة، لأن مسيحها عظيم، تعاليمه مدهشة، وعجائبه باهرة وحياته مجيدة. ولكن شيئاً فيها يحيّرني ويثبط عزيمتي في المجال الروحي وهذا الشيء هو الصليب. آه لو رُفع الصليب من المسيحية إذن لأصبحت ديانة العالم أجمع». مسكين هذا الشاب! انه لم يفهم أن رسالة الفداء ما كانت لتتم إلا بالصليب، وان الصليب هوالتعبير العملي لمحبة الله القائلة: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية». ويقيناً أنه لو رُفع الصليب من المسيحية لما بقي فيها ما يميزها عن اليهودية والبوذية والاسلام.
المسيحية هي الصليب، والصليب هو المسيحية، وبدونه لا مبرر لوجودها. لأنه لو بقي المسيح على أرضنا يشفي أمراضنا ويقيم موتانا فماذا تكون النتيجة، إلا إبقاءنا في خطايانا وخسران أنفسنا، وماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أما وقد فدانا المسيح بدم صليبه، وجعل المسيح حمل الصليب شرطاً لاتِّباعه فليس لإنسانٍ أن يعترض على تدبير الله، حتى ولو كان مغايراً لأفكار الناس!
أَوَلم يقل الله: «أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي. لأنه كما علت السماء عن الأرض، هكذا علت أفكاري عن أفكاركم وطرقي عن طرقكم»؟. من المؤكد أن السير وراء يسوع صعب جداً، لأنه يبدأ بنكران الذات وينتهي بتعليقها على الصليب. وهذا المبدأ حسبه الناس عثرة وجهالة وهزيمة وخنوعاً. ولكن الله في حكمته استحسن أن يخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة. تذكروا أن مسيحنا لم يتمثل بشجرة الأرز ولا بشجرة البلوط. بل تمثل بالكرمة والكرمة تُربط الى الوتد كما رُبط هو على الصليب. ومثّل تلاميذه بالأغصان، والأغصان لا تثمر جيداً إلا إذا تناولها مقص الكرام بالتنقية. هكذا قال له المجد: «أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام، وأنتم الأغصان. كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه، وكل ما يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر أكثر». ولا ننس أن شركة آلام المسيح هي لنا من الله، لأنه وُهب لكم من أجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط، بل أن تتألموا من أجله.
صحيح أنه صعب علينا أن نخلي النفس على هذه الصورة لنتمم ناموس المسيح. ولكن يسوع الذي أخلى نفسه وأخذ صورة عبد، واختبر آلامنا وتجرب بتجاربنا، لا يتركنا لصعوباتنا دون أن يتدخل. فقد قال: «لا تخف لأني فديتك، دعوتك باسمك. أنت لي. إذا اجتزت في المياه فأنا معك. إذا مشيت في النار فلا تلذع واللهيب فلا يحرقك».
إن يسوع المقام في المجد ما زال يكلم الناس بآلام صليبه. وكما جعل جراحه في أول الرؤى لرسله بعد القيامة، يريد اليوم، أن تكتحل بها عيوننا، ليشركنا معه في مجده. قال رسوله المغبوط بطرس: «لا تستغربوا البلوى المحرقة التي بينكم حادثة لامتحان إيمانكم. بل كما اشتركتم في آلام المسيح افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضاً مبتهجين. إن عُيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم». وقال رسوله الكريم بولس: «من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم عري أم اضطهاد أم خطر أم سيف؟ من أجله نُمات كل النهار وقد حُسبنا كغنم للذبح. ولكن في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا».
كتب أحد خدام الإنجيل الذين نادوا بالمسيح في كشمير الصلاة التالية: «أيها السيد الرب، إننا نقدم لخدمتك اللحم والعظم والعصب. لقد وهبتنا هذا الجسد فعلينا أن نستعمله لأجلك كآلة صحيحة تسلّمناها منك أمانة لنحافظ عليها لأجل مجدك أنت. علمنا أن نستعملها بشدة ولكن بدون أن ننسى استعمالها. وحين تبلى ببطء أو بسرعة، هبنا اللهم سرور اليقين بأنها إنما تبلى لأجلك - آمين».
فيا لها من صلاة تدل على بلوغ الذروة في التكريس لله! وكم يجدر بنا أن نجعل هذه الطلبات ضمن صلاتنا اليومية. إن فعلنا ذلك فلا بد أن نرى يسوع كما هو، ولا بد أن تباركنا يداه المثقوبتان. فتفرح قلوبنا ويقول لنا: «سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم أنا».
العظة - ٢٩ «وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء» (لوقا ٢٤: ٥١)
بعد قيامته مكث يسوع أربعين يوماً على الأرض، رمَّم خلالها دعوة تلاميذه بعد أن غربلها الشيطان بشراسة على الصليب.
أما وقد أنهى كل شيء، وأثبت حقيقة كونه مخلّصا حياً، فقد آن له أن ينطلق. وقد اختار مكاناً لصعوده بقعةً طالما شرّفها بحضوره، فقد أخرج تلاميذه الى قرب بيت عنيا على جبل الزيتون. تلك القرية الوادعة، التي فيها نال الإكرام الأخير من البشر، حين أهرقت مريم أخت لعازر قارورة طيب على قدميه. والى أسفل كان يرى بستان جثسيماني الذي شهد آلامه، وتلقّى ثراه عرقه الذي تصبب كقطرات دمٍ نازلة إلى الأرض.
نعم من هذا الجبل المليء بالذكريات المقدسة صعد يسوع الى السماء. وقد قالت النبوات انه في مجيئه ستستقرّ قدماه على رأس هذا الجبل. لكنه في مجيئه الثاني لن يكون رجل أوجاع ومختبر الحزن، بل سيكون ملكاً منتصراً مجيداً. وعندئذ سترتفع هتافات المفديين قائلة: هللويا! أوصنا! تّوجوه ملكاً ورباً.
حين خرج يسوع وتلاميذه من المدينة المقدسة كان التلاميذ لا يعلمون أن هذا اليوم هو آخر يوم يجتمعون فيه بالمعلم. ولعلهم حين عبروا وادي قدرون، تذكروا محبته الفائقة التي عبّر عنها بصلاته الشفاعية من أجلهم. وحين اقتربوا من بستان جثسيماني توقف يسوع قليلاً، ليتذكر صحبُه الدروسَ التي تلقنوها منه في الليلة التي أُسلم فيها. ولعل التلاميذ تذكروا طلبه إليهم أن يسهروا معه في ليل آلامه الطويل. فنُخسوا في قلوبهم، لأنهم مع شدة حبه لهم جلبوا عليه العار في ساعة اتضاعه، إذ تركوه وحيداً بين أيدي أعدائه وهربوا بعيداً. فتم فيهم ما قيل بالأنبياء: «إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية».
لقد تغرب يسوع في العالم ثلاثاً وثلاثين سنة ونيف، احتمل في غضونها هزء البشر واحتقارهم، وأخيراً رُفض وصُلب على خشبة، ومات ميتة العار. ولكن هل يستطيع جحود البشر، الذين جاء ليخلصهم أن يصرفه عن حبه لهم؟ هل يحرمهم من رأفته؟ هل يتركهم لشقاوتهم القادمة ومصيرهم التاعس؟ أيقصر حبه فصاعداً على أهل السماء والأبرار الذين يصنعون مشيئته؟ كلا! فهناك إعلاناته تعطينا ضماناً أكيداً بدوام محبته.
يقول البشير إنه حين وصل الصحب الكريم الى الجبل تقدمهم يسوع عبر القمة. وهناك وقف هنيهة فتجمع التلاميذ حوله. واذ كان ينظر اليهم بحنان انطلق كلام النعمة من شفتيه. لم يذكرهم بسقطاتهم المتكررة، ولم يوبخهم على مواقفهم المتخاذلة. بل رفع يديه وباركهم مؤكداً لهم رعايته وعنايته، ثم بدأ يصعد إلى السماء ببطء. وفيما كان يصعد كانت أنظارهم تتبعه حتى أخذته سحابة عن أعينهم. ولعلهم في تلك الساعة كانوا يرددون كلمته المشجعة: «ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر». وفيما هم يحدقون بأبصارهم الى فوق مشدوهين، وقف بهم ملاكان من السماء وقالا لهم: «أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون الى السماء؟ ان يسوع هذا الذي ارتفع عنكم الى السماء، سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقا الى السماء».
يا لعظم الرجاء! فيسوع الذي عاش مع خاصته ردحاً من الزمن، وصلى معهم وكسر الخبز لهم مراراً كثيرة، ورافقهم في سفنهم فوق البحر، وجال معهم في المدن والقرى كارزاً بملكوت الله، صعد الى السماء ليعد الأمكنة لمختاريه كما وعد. فوا فرحتاه!
وهل من فرح أعظم من هذا أن يسوع ابن الله والإنسان الذي شاركنا في اللحم والدم، وكفر عن خطايانا بموته وبررنا بقيامته، يصعد الى السماء، وبجسدنا الذي استعاره! هذا امتياز عظيم يؤكد لنا أن كل مؤمن به سيصعد الى السماء ليكون معه، وفقاً لقوله: «إن أحبني أحد فليخدمني، وحيث أكون أنا فهناك يكون خادمي أيضاً. من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا وجلست مع أبي في عرشه».
هذه بشارة الصعود لك، يا أخي المؤمن الذي فداك الرب. ان يسوع الرب من السماء، قام من القبر ليقيمك معه من قبر الخطية لتسلك في جِدَّة الحياة. وان يسوع الرب من السماء، صعد الى السماء ليعدّ لك مسكناً في منازل الآب. والمناسبة تدعوك الآن أن تطلب ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله، وأن تهتم بما فوق لا بما على الأرض، لأنك باتحادك مع المسيح مُتَّ، وحياتك مستترة مع المسيح في الله. قال الملاكان ان المسيح سيأتي ثانيةً كما صعد. سيأتي مع السحاب وستنظره كل عين، كما قالت النبوة بفم زكريا رجل الله. وقال الرسول بولس: «ان الرب نفسه سوف ينزل من السماء بهتاف، بصوت رئيس ملائكة، وبوق الله، والأموات في المسيح سيقومون أولاً. هذا سر أقوله لكم: لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغيّر، في لحظة، في طرفة عين، ويُقام الأموات عديمي فساد والأحياء عند مجيء الرب يتغيرون. اذاً يا إخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثرين في عمل الرب».
ان حادثة الصعود وما تبعها من إيضاح الملاكين بعثت الرجاء في قلوب التلاميذ. ولا بد أنهم حين رجعوا إلى أورشليم نظر الناس اليهم بدهشة. فبعد محاكمة معلمهم الناصري وصلبه وإنزاله القبر، كان متوقعاً أن يبدو عليهم الوجوم والانكسار. وكان أعداؤهم يظنون أنهم انهزموا نهائياً ولحق العار بهم الى الأبد. بيد ان الذي حصل هو العكس تماماً، فقد كانوا مبتهجين سعداء. كانت وجوههم تطفح بِشراً، وكانت قلوبهم تفيض حمداً وشكراً. وبفرح عظيم أخبروا الناس بذلك الحدث العجيب عن قيامة يسوع وصعوده.
ومنذئذ لم يعد المسيحيون يرتابون بالمستقبل لأنهم عرفوا المسيح في قوة قيامته، في مجد صعوده فوق كل رياسة وسلطان. وهذا الصعود معناه وجود صديق لهم أمام عرش الله وشفيع في حضرة الآب. فاشتاقوا أن يقدموا طلباتهم باسم ذاك المبارك. وفي برهة مقدسة سجد أولئك القديسون له، متذكرين وعده المبارك: «كل ما تطلبونه من الآب باسمي فذاك أفعله». ولعلهم وهم يصلّون استعرضوا في خاطرهم كل كلمة من قوله: «إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً». ثم رجعوا بفرح، وراحوا يَمدّون يد إيمانهم الى أعلى فأعلى. وفي أفواههم هذه الحجة القوية: ان المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، ليشفع فينا.
قال البشير لوقا: «رفع يديه وباركهم». هذه كانت كلمة الوداع، كلمة بركة تدل على المحبة. رفع يديه كما كان يفعل رئيس الكهنة وهو يبارك الشعب. باركهم كما بارك يعقوب بنيه، وكما بارك موسى شعبه. وفيما يسوع يباركهم انفرد عنهم، ليس كأنه أُخذ عنهم قبل أن يقول كل شيء، وإنما هذا يشير الى أن البركة لم تنتهِ ولن تنتهي، لأن الشفاعة التي سيقدمها في السماء عن خاصته انما هي استمرارٌ لتلك البركة. كان يسوع قد أمر خاصته بالذهاب الى العالم أجمع للكرازة بالانجيل للخليقة كلها. فمنحهم البركة لينقلوها باسمه الى كل من يؤمن به بكلامهم، لأن فيه ينبغي أن تتبارك جميع قبائل الأرض.
لقد انفرد عنهم وصعد الى السماء، ولكن التلاميذ استمروا بالولاء له. وهذا طبيعي، لأن يسوع هو موضوع فرح كل المؤمنين. وبازدياد فرحهم ازدادت عبادتهم له، إذ كانوا ينتظرون موعد الآب بانسكاب الروح القدس.
أرجو متوسلاً أن تأخذوا من ذكرى الصعود دافعاً للفرح ولانتظار الموعد. أن تنتظروه بالتعبد والفرح. وعندئذ تنالون قوةً من الأعالي. وتتأكدون أن لا شيء يهيء القلب لاستقبال الروح القدس كما يهيئه الفرح المقدس والتسبيح، لأن ملكوت الله هو بر وسلام وفرح في الروح القدس.
العظة - ٣٠ «أما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع» (غلاطية ٦: ١٤)
قال طالب جامعي ذات يوم: «قد تكون الديانة المسيحية ديانة عظيمة لأن مسيحها عظيم، تعاليمه مدهشة ومعجزاته باهرة. ولكن شيئاً فيها يحيرني ويثبط عزيمتي في المجال الروحي، وهذا الشيء هو الصليب. آه لو رُفع هذا الصليب من المسيحية! اذن لاصبحت ديانة العالم أجمع».
مسكين هذا الشاب! انه لم يفهم ان رسالة الفداء ما كانت لتتم إلا بالصليب. فالصليب هو التعبير الحي لمحبة الله، فلو رُفع من المسيحية لا يبقى فيه ما يفضلها على البوذية أو اليهودية. لو بقي المسيح آلاف السنين على أرضنا يشفي المرضى ويقيم الموتى دون أن يُصلب، ماذا تكون النتيجة إلا أن نبقى في خطايانا. وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
قال الرسول بولس: «أما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح». ولو سُئل: لماذا تفتخر بالصليب وهو شعار العار ورمز اللعنة؟ وهل قصرت أنسابك العِرْقية ودرجاتك العلمية عن إعطائك مادةً للافتخار؟ لأجاب: كانت هذه الى عهد قريب مدعاةً لفخري. ولكن ما أن عرفتُ المسيح مصلوباً ولمست قوة صليبه وتمتعت بخلاصه حتى نبذت كل امتيازاتي. صحيح انه بالنسبة للعالم كانت هذه لي ربحاً، ولكني حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني احسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية، لكي أربح المسيح.
ولو سُئل: ما هي الأرباح التي حققها لك صليب المسيح، لأجاب:
١ - الفداء: «فيه لنا الفداء، بدمه غفران الخطايا». لقد سقطنا جميعاً في المعصية على شبه تعدي آدم. فأوقعتنا المعصية تحت طائلة الحكم القائل: «النفس التي تخطئ هي تموت». كما هو مكتوب أيضاً: «بإنسان واحد دخلت الخطية الى العالم، وبالخطية الموت». وتعدّينا على الناموس الأدبي سيواجه غضب الله، وكان العدل الالهي سينفذ حكم الموت فينا، وفقا للقول الالهي: «اجرة الخطية هي موت». ولكن شكراً لله، لأنه إن كان العدل حكم علينا بالموت عقاباً، فالله الذي هو غني في الرحمة من أجل محبته الكثيرة ونحن أموات في الذنوب والخطايا، أحيانا مع المسيح. كما هو مكتوب: إن كانت اجرة الخطية هي موت، فهبة الله هي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا.
سألني أخي حسن مرة: بما أن الله قد فدى في القديم ابن ابراهيم البكر بكبش، فلماذا لم يتابع هذا التدبير في عهد الإنجيل، فيوفر على ابنه الوحيد ميتة العار على الصليب بعد ألم وهوان؟ فقلت له: ان الكبش الذي فُدي اسحق به لم تكن له قوة فدائية في ذاته ليشتري إنساناً، وإنما قيمته كانت في كونه رمزاً ليسوع، حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
صحيح أن الذبائح كانت من أهم أركان العهد القديم، ولكن هذه لم تستطع إيجاد حل دائم لمشكلة الخطية. فقد قال الرسول: إن الذبائح لم تستطع من جهة الضمير أن تكمّل الذي يخدم. ولكن شكراً لله بربنا يسوع المسيح، لأن ما كان الناموس عاجزاً عنه، فيما كان ضعيفاً بالجسد، فالله اذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح. بمعنى أنه: لما كان الناموس يطالبنا بالكمال دون أن تكون له قدرة ليبلغ بنا الكمال، دبّر الله في محبته الأزلية أن يأتي الكامل ليشاركنا في جسدنا ويتمم مطاليب الناموس بحياته لنا وموته عنا. فهذا التدبير الإلهي يحسب كل متّحد بالمسيح بالايمان شريكاً معه في آلام صلبه، كأنه مات معه. وشريكاً أيضاً في مجد قيامته كأنه قام معه.
«إن كنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته، عالمين أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطلَ جسد الخطية، لكي لا نعود نُستعبَد للخطية».
٢ - المصالحة مع الله: كان آدم يحيا في فردوس عدن في شركة كاملة مع الله. وتعلمنا كلمة الله الموحى بها أن الله كان يأتي إليه عند هبوب ريح النهار. ولكن ما أن تعدى آدم على وصية الله حتى انقطعت الشركة، وتلاها الطرد من الفردوس، فالعداوة بين السماء والأرض. وقد أحسّ أيوب خلال محنته بوجود الخصومة بين الله والإنسان، وتمنى أن يكون الله إنساناً فيدخل معه في المحاكمة. وحين أدرك أن أمنيته مستحيلة التحقيق تمنى أن يقوم وسيطُ صلحٍ بينه وبين الله، فقال: «ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا. ليرفع عنّي عصاه ولا يبغَتْني رُعْبه»(أي ٩: ٢٣ و٢٤). وهذا المُصالح الذي قام في نفس أيوب رغبةً، وعاش في خاطره حاجةً، جاء عند ملء الزمان في يسوع المسيح، ليعقد صلحاً بين الله والناس. وهناك على جبل الجلجثة كتب صك المصالحة بمداد من دم العهد الأبدي، الذي تدفّق حاراً من جنب ابن الله.
وفي هذا قال رسول الأمم بولس: «لأنه في المسيح سُرَّ أن يحل كل الملء وان يصالح به الكل، عاملاً الصلح بدم صليبه». وهكذا تم ما قيل بالانبياء: «الحق والرحمة التقيا. البر والسلام تلاثما» (مز ٨٥: ١٠).
غضب رجل على ابنه فطرده من البيت وانقطعت كل صلة بينهما. وبعد برهة مرضت الأم حتى الموت. فتوسّلت إلى زوجها أن يُحضر الابن لتراه قبل موتها. ولما جاء الفتى لم يصافحه الوالد ولم يبادله أي حديث. وهكذا وقف الاثنان صامتَين عند سرير الأم المائتة. لم تكن الأم قادرة على الكلام، ولكنها أمسكت بيمينها المرتعشة بيد ابنها، وبالأخرى يد زوجها، وضمّت الاثنتين الى صدرها وأسلمت الروح. وأمام جلال الموقف وروعة الموت تصالح الاثنان وتعانقا بقبلة المصالحة. أليست هذه الحادثة المدهشة صورة حية لما عمله يسوع لأجلنا؟
أجل، أجل! ففي وقت احتضاره على الصليب أمسك بيد الأثيم وبيد الآب السماوي، وضم الاثنتين الى صدره الدامي. وقال: «قد أكمل» وأسلم الروح. وهكذا تبررنا بالإيمان به، فصار لنا سلامٌ مع الله بربنا يسوع المسيح. هذه الحقيقة أشار اليها الرسول بولس بقوله: «لأن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم».
٣ - الدخول إلى السماء: كتب يوحنا في رؤيا ٧ «نظرت فإذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعدّه من كل الشعوب والأمم والألسنة وهم واقفون أمام العرش وأمام الحمل متسربلين بثياب بيض». وقال الملاك: هؤلاء أتوا من الضيقة العظيمة، وقد غسَّلوا ثيابهم وبيضوها بدم الحمل. والفادي رئيس ملوك الأرض كتب اسم الله على جباههم، كسِمَة دخولٍ إلى السماء ليكونوا مع الله إلى أبد الآبدين. وسينظرون كل حين يدي الفادي المثقوبتين متذكرين بطول الأبدية ان حمل الله قد ذُبح لأجل خطاياهم، وأُقيم لأجل تبريرهم.
قالت فتاة صغيرة لأمها: ماما، أنت جميلة وكُلّك حلاوة، ما عدا يديك، فهما مشّوَهتان. فقالت الأم: «لتشويه يديّ قصة قد آن لي أن أُطلعك عليها. ففي إحدى الليالي شب حريق في منزلنا، وكنتِ أنت نائمة في سريرك، فأسرعت لانقاذك. وكان لا بد لي من استعمال يديّ لأطفئ ألسنة النيران التي امتدت الى فراشك، وأخذت تلحس ثيابك. فاحترقت يداي وتشوهتا، ولهذا صار منظرهما هكذا مفسَداً». حينئذ أخذت الفتاة اليدين المشّوَهتين وراحت تقبلهما وتبللهما بدموعها ثم قالت: «ماما، أنت جميلة وكُلّك حلاوة، وأحلى ما فيك هما يداك».
ونحن قد نستقبح في المسيحية هذا الصليب كما فعل الطالب الجامعي. هذا مع العلم أن الصليب كان ولا يزال مجد الإنسان وعلّة خلاصه. وقديماً قال الرسول: لكننا نكرز بالمسيح مصلوباً، لليهود عثرة ولليونانيين جهالةً، وأما للمدعّوين يهوداً ويونانيين، فبالمسيح قوة الله وحكمة الله.
تذكروا أن مسيحنا قال: «وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب اليّ الجميع». فالمسيحية في كل عصورها قديماً وحديثاً ترتكز جاذبيتها على الصليب وتستمد قوتها منه.
ذهب جماعة من المبشرين الى جزيرة غرينلند إذ كان أهلها أميين، فحاولوا أن يعلموهم القراءة والكتابة، ولكنهم لم ينجحوا لأن سكان الجزيرة لم يريدوا. فحسب المرسلون أنهم فشلوا في مهمتهم، وصمموا على مغادرة الجزيرة. ولكن قبل أن يخطوا خطوة واحدة، رجاهم الأهالي ان يقرأوا لهم شيئاً، فقرأ لهم أحد المرسلين قصة الصليب. وعندئذ ظهر التأثر على وجوه السامعين ومن ثمّ طلبوا إعادة القراءة. ولما سمعوها للمرة الثانية، قالوا للمرسَلين: لماذا لم تخبرونا بهذه القصة منذ البداية؟ ونجم عن ذلك أن تشبَّث أهل الجزيرة بالمرسَلين، ففُتح لهم الباب الذي كان مغلقاً في وجوههم سنين عديدة. وتعلم السكان القراءة والكتابة وقبلوا الرب يسوع المسيح.
قال أحد الأتقياء: «الصليب والمسيحية صنوان لا يفترقان. فإما أن يقفا معاً وإما أن يسقطا معاً. ولكن شكراً لله، فالصليب الذي هو قوة الله وحكمة الله، هو ترجمان محبة الله، ولهذا لا يسقط، ولا يمكن أن يسقط».
العظة - ٣١ «لأعرفه، وقوة قيامته، وشركة آلامه، متشبِّهاً بموته، لَعلّي أبلغ إلى قيامة الأموات» (فيلبي ٣: ١٠)
بهذه العبارات المجيدة رسم الرسول بولس الطريق للتمتع ببركة الفداء: أن يعرف المؤمن المسيح في حبه الذي ذهب به الى وضع النفس. صحيح ان للرب سرائره، ونحن ما زلنا ننظر في لغز في مرآة، ولكننا نعلم ونثق أنه متى أُظهر يسوع سنكون مثله لأننا سنراه كما هو. وبانتظار أن نراه، سواء بمجيئه أم بذهابنا إليه، يجب أن نسعى إلى معرفةٍ تتيح لنا التشبُّه به.
أما بولس نفسه فكان مستعداً أن يخسر كل الأشياء ويحسبها نفاية لكي يربح هذه المعرفة. هذه الغيرة يجب أن توبخنا على اكتفائنا بمعرفة سطحية للفادي الرب. ولعله له المجد يوجّه إلينا عتابه القديم لفيلبس: «أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس!».
في اعتقادي أن أحداث الحياة التي نعيشها كل يوم، تستطيع أن تعطينا فرصاً ثمينة لمعرفة ربنا المبارك. شرط أن نعيشها في ضوء اعلاناته وبذهن مفتوح، مقتدين بسيرة من سبقونا من الذين تمتعوا برؤى مجيدة، فصنعوا براً ونالوا مواعيد، وتقوّوا من ضعف. لذلك كما قال الرسول: إن الله لا يستحي بهم أن يُدعى لهم إلهاً. ولنا في الروح القدس، الذي هو روح الإعلان، المعلم الصالح. هكذا نقرأ في الكتاب العزيز: «لا يقدر أحد أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس» (١كو ١٢: ٣).
«هو يعلمكم كل شيء ويرشدكم الى جميع الحق. ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم». فليتك تصغي الى الروح المبارك وهو يهمس في ضميرك: «استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح». وليتك تطيع دعوته ليقتادك في موكب نصرة المسيح كل حين.
صحيح أن السير في موكب المسيح يبدأ أولاً بنكران الذات ثم حمل الصليب كل يوم. ولكن من ينكر ذاته من أجل المسيح يجدها إلى حياة أبدية، ومن يشترك في هوان الصليب يرتفع في المجد. وصحيح أن السير في خط المسيح يعرّض للضيقات والأخطار ولكن عيني الرب على خائفيه الراجين رحمته لينجي من الموت أنفسهم.
حين وصل عزرا الكاهن والعائدون من السبي إلى نهر الفرات توقفوا هناك ثلاثة أيام، لأنهم أدركوا خطر عبور البرية الملأى باللصوص وقطاع الطرق. ولكن التعرض للخطر كان بركة لرجل الله ومن معه، لأنه حملهم على اللجوء إلى الله لصلاة الايمان. وصلاة الايمان اقتدرت بفعلها، فحرّكت عناية الله لدرء الخطر عنهم. ولولا ذلك الخطر لما عرف عزرا هذه الناحية من رعاية الله.
ولم يكن ممكنا لمرثا ومريم أن تعرفا أن يسوع هو القيامة والحياة لو لم يُنشِب الموت أظفاره في الأخ العزيز لعازر، فهما مديونتان بتلك الرؤيا المجيدة للموت الذي أحزن قلبيهما برهة من الزمن. فلا تجزع من معاملات العناية الإلهية إذ ما سمحت أن تجتاز وادي الدموع والألم، لأن الألم بحسب مشيئة الله ينشئ فيك براً للسلام. وإن كنت تحتمل التأديب يعاملك الله كابن، وبالتالي يشركك في قداسته.
قال توما الكمبيسي في كتابه «الاقتداء بالمسيح»: «أغلق بابك واطلب يسوع المسيح حبيبك فيقترب منك. وعندما يكون يسوع قريباً فكل خير يكون قريباً».
لا تتذمر من الضيقات فلعل الضيقات نصيبك من صليب المسيح، وان الله يسمح بها ليهيء لك فرصةً للتعمّق في معرفة يسوع المتضايق على الصليب. كمقدمة لمعرفة يسوع المقام والمنتصر على الموت والهاوية. هذا ما خبره بولس وشهد لنا به اذ قال: «من أجل المسيح نحمل الاضطهاد واعتلال النفس وحقد اليهود. من أجله نُمات كل النهار، وقد حُسبنا كغنم للذبح، ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا».
تخبرنا سيرة هذا الرسول الكريم انه من أجل المسيح رُبط بسلاسل وجُلد بالسياط ورُجم بالحجارة. وأخيراً انتهى به المطاف إلى الشهادة حيث قضى من أجل الإيمان. ولكن المسيح كان معه في آلامه، وكان يهبه فيضاً من النعمة ويزكي فيه المحبة التي تحتمل كل شيء، وتصبر على كل شيء. وأخيراً وضع على رأسه إكليل البر الذي أعدّه الله للذين يحبونه. وإن أراد الرب ان يرتهنك في فراش المرض فلا تبتئس، فلعله يشاء ان تصغي اليه في وقت الضعف. حيث يطيب لك أن تطرح عليه أسئلةً كثيرة للاسترشاد، حتى تعيد النظر في أمور كثيرة تتعلق بشهادتك وخدمتك.
في سنة ١٩٦٥ صدمتني سيارة فيما كنت أعبر الطريق لإقامة الصلاة في كنيسة «خلدة». وفيما أنا في المستشفى أعاني آلاماً شديدة في كتفي المخلوعة، ومن رضوض منتشرة في أنحاء جسمي، سألني الممرض المشرف عليّ بلهجة لا تخلو من التهكم: «أليس عجيباً أن يسمح ربك بأن تُصاب هكذا فيما كنت ذاهباً لخدمته؟!» فقلت له: «أنت لا تعرف الرب كفاية لذلك لا تستطيع فهم قول الكتاب: إن الذي يحبه الرب يؤدبه. ولا يمكنك أن تصدق ان الرب يكلم أولاده بالألم كما يكلمهم بالانجيل».
تأملوا نتيجة خدمة المسيح بين المرضى، تجدوا أنهم عرفوا فيه صفات عديدة، كانت ستبقى مجهولة لو لم يدعهم المرض إلى عنايته. فالبُرص أعلنوا طهارته، والمفلوجون أعلنوا قدرته على كل شيء، والعُمي أعلنوا أنه نور العالم، والصُمّ أخبروا كم صنع بهم ورحمهم. والأموات الذين أقامهم أعلنوا القيامة والحياة، والضالون الذين هداهم أعلنوا الطريق والحق والحياة، والأثمة الذين غفر لهم أعلنوا أنه القدوس الحق غافر الذنوب.
وهناك العطش الروحي يهيء أفضل وسيلة لمعرفة الرب يسوع. فداود اختبر هذا الأمر وشهد له قائلا: «عطشت نفسي الى الاله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله؟» وحين حمله عطشه على الاكتئاب ، لام نفسه قائلاً: « لماذا أنت منحنية يا نفسي، ولماذا تئنين فيّ؟ ترجي الله، لأني بعد أحمده، خلاص وجهي وإلهي».
قال أحد الاتقياء: لولا العطش الشديد الى الله لما تسنّى لنا أن نسمع شهادة أغسطينوس الذي قال: «لم أرتوِ ولم أشبع إلا بعد راحتي في الله».
قد يزعجنا فتح سجل الماضي الملوث بالخطايا. ولكن لا تسريب علينا فحين نشعر شعوراً عميقاً بالذنب ونقتنع بفشل جهودنا الذاتية، وبوجوب تنازلنا عن برنا الذاتي. حينئذ فقط يمكننا أن ندرك قوة دم المسيح في تطهيرنا من خطايانا. ويحلو لنا أن نعرف فادينا في شركة آلامه ونتبعه في موكب العار من جثسيماني إلى جلجثة، حيث أُريق دمه للتكفير عن خطايانا. وحينئذ يتكشَّف لنا سر القول النبوي عن الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وبيضوها بدم الحمل. ونتيجة لذلك صاروا أمام عرش الله يخدمونه نهاراً وليلاً، والجالس على العرش يحل فوقهم. لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد، لأن الحمل الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم الى ينابيع ماء حية.
فلنسرع جميعاً لغسل قلوبنا بدم الحمل لنفعل هذا اليوم كما هو مكتوب: «هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص. اليوم، يقول الروح القدس، إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم».
إن ما نعرفه عن فادينا القدوس يكفي لأن نطمئن ان الشفاه والقلوب تطهر بدمه، وأن الخطايا تُغفر باسمه لكل من يقبله مخلِّصاً شخصياً. إن ما يهمنا فوق كل شيء هو فضل معرفة يسوع المسيح ربنا الذي يخلق فينا القلب النقي. ومتى تنقَّى القلب تنقّت الشفاه والأفكار والنوايا والأعمال. وبالقلب النقي نعاين الله ونعرف فيه فادينا المبارك. وشكراً له لأنه ْأعلن ذاته حكمة من الله وبراً وفداءً وقداسة.
سابعاً - مواعظ في الخلاص بالمسيح
العظة - ٣٢ «آدم، أين أنت؟» (تكوين ٣: ٩)
في البدء خلق الله الإنسان على أحسن تقويم. على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهما، ووضعهما في جنة عدن، حيث الجمال والبهاء والسعادة الكاملة. ولكن إبليس الملاك الساقط الذي كان قتّالاً للناس ولم يثبت في الحق، ثارت ثائرته حسداً، وآلى على نفسه أن يهدم ما بناه الله، ففتش عن حليفٍ لتحقيق غايته. وإذ لم يجد أشر من الحية استخدمها في قصده الشرير.
كان الرب الاله قد أوصى آدم وحواء بأن لا يأكلا من ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، ولكن إبليس وسْوسَ لحواء وأقنعها بأن وصية الله مُجحفة في حق الإنسان. لقد سألها: «أحقاً قال الله: لا تأكلا من كل أشجار الجنة؟ أنا لا أصدق أن إلها كريماً يمنع عنكما خيراً مشروعاً كهذا. أحقاً قال: يوم تأكلان منها موتاً تموتان؟ أؤكد لكما أنكما لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منها تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر!».
وهكذا استطاع الغاوي الرجيم أن يزرع الشك والطموح في نفس الإنسان. والشك لم يلبث أن صار تذمراً فتمرداً، والطموح إلى المعرفة لم يلبث أن صار شهوةً طاغية. وبدافع من الشهوة الطاغية تناولت المرأة الثمر المنهيَّ عنه وأكلت، ثم أعطت رجلها فأكل. وكانت النتيجة أنهما كسرا وصية الله فسقطا وسقط الجنس البشري. وبدلاً من أن يهرعا إلى الرب الإله وينحنيا أمامه في ندم وانكسار قلب، طالبين الرحمة والصفح، هربا من وجهه واختبئا. ولكن إن كانا لم يأتيا الى الرب، فالرب أتى إليهما ونادى: «آدم، أين أنت؟».
ومنذ تلك الساعة الى يومنا هذا والرب يفتش عن كل إنسان، ويسأله: أيها العاصي، أين أنت؟ ماذا فعلت، حتى تختبئ من وجهي؟ اخرج من مكانك المظلم المليء بجرذان الإثم! أخرج من هذه المواخير التي جعلتك عفونتها غبياً لا تشعر بالخزي.
أهو ضجيج الشهوات الدنسة قد وضع وقراً في أذنيك حتى لا تسمع صوتي؟ أم هي الخطية الخاطئة جداً، قد أعمت بصيرتك حتى صرت ترى اللعنة بركة والبركة لعنة؟ ولكن اذكر أني أفتش عنك وقلبي مفعم بالشفقة عليك. هل تسمع ندائي المتكرر: «هلم نتحاجج. إن كانت خطاياك كالقرمز تبيضّ كالثلج، وإن كانت حمراءكالدودي تصير كالصوف».
يتساءل كثيرون: ماذا يضير الله إن أكل آدم من ثمار أشجار الجنة. هذا اعتراض لا يخلو من المنطق، وحقاً إن عمل آدم لا يضر الله في شيء. ولكن حين يقول الله لا، فليس لمخلوق ما ان يقول: نعم. لأن النَّعم حينئذٍ تصبح خروجاً على طاعة الله وكسراً لوصاياه ومقاومة لصلاحه وتذمراً على قضائه. وفوق هذا فقد ارتأى الزوجان فوق ما ينبغي أن يرتئيا. أرادا أن ينافسا الله خالقهما في علمه وفي عظمته، كما فعل غاويهما ابليس، فسقط وطُرد من محضر الله.
يقول الكتاب العزيز إن آدم وحواء حين أكلا من الشجرة انفتحت أعينهما ورأيا خزي عريهما. هذه أول نتيجة للإثم، انه يعري من ثوب البراءة ويُلبس ثوب العار. وقديماً قال سليمان: «البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية».
خجل آدم وخجلت حواء من العري، فخاطا لهما ثياباً من أوراق التين. ولكن أوراق التين سرعان ما تتمزق عند أول حركة فيظهر الخزي. مثلها كصلاة بعض الناس حين يعزمون على أمرٍ ويقولون: سترك يا رب! فكر في السكير: إن ألف دعاءٍ من نوع سترك يا رب لا يغطي عاره. وألوف الأدعية من هذا النوع لا تستطيع ستر خزي السارق والزاني والمستبيح. قد يستطيع جانٍ محترف أن يرتكب ما يسمونه بالجريمة الكاملة التي تعجز الشرطة عن كشفها. ولكن مرتكبها يشعر بالعري بينه وبين نفسه لأن أمره لم يخْفَ على الله.
منذ أن دخلت الخطية العالم دخل معها الموت، وتسلل الخوف إلى كل نفس. ويعلمنا الكتاب أن المحبة تطرح الخوف إلى خارج، ولكن حين تكمل الخطية لدى الإنسان تبرد المحبة. هكذا قال المسيح: «ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين. عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى. فاذكر من أين سقطت وتُبْ واعمل الأعمال الأولى». يقولون ان عصرنا الحاضر هو عصر الخوف وكل المظاهر تؤيد ذلك. وبسبب الخوف تتسلح الدول وتنفق مبالغ خيالية لتجهيز جيوشها بأقوى الأسلحة. ولكن المستجير بالسلاح لدفع الخوف كالمستجير من الرمضاء بالنار.
سأل الرب الاله آدم: «هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟» ومع ان سؤال الرب صريح جداً، إلا أن آدم حاول ان يطّوقه فقال: «المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت». هذه هي الكبرياء: أن لا يعترف الإنسان بذنبه بل يحاول ستره بحجة فيها اعتراض على ما رتبه الله.
جاءني هذا السؤال: بما أن الله خلق الأشياء المغرية حولنا وأوجد فينا رغائب وميولاً، هل يحقّ له أن يحسبنا خطاة إن نحن أخذنا خطأً منها؟ هذا السؤال، كحجّة آدم، يحاول السائل به أن يتنصَّل من مسؤولية شهواته، وأن يلصقها بالله الذي أوجد عنده الرغبة والميول الطبيعية. هذا تجنٍّ على الله الذي خلق الانسان على صورته كشبهه في البر وقداسة الحق. قال الرسول يعقوب: «لا يقُل أحدٌ إذا جُرِّب إني أجرَّب من قِبَل الله، لأن الله غير مجرَّب بالشرور. ولكن كل إنسان يُجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة اذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتاً». فإبليس اصطاد آدم بالتجربة، فانخدع آدم ولم يقاوم، فسقط في العصيان.
«أحقاً قال الله أن لا تأكلا من كل أشجار الجنة؟» هذا كان سؤال ابليس الذي هدم سعادة الأسرة الأولى. وهذا السؤال ما زال يتردد عبر الأجيال ويزرع الشك في النفوس. ويحرضها على كسر وصايا الله بشتى ضروب التفسيرات المغرية.
«أحقاً قال الله لا تتمتع بالحرية؟» إن كان قد قال هذا فهو إله جائر! الحرية حق من حقوقك! إنها حق بديهي لكل إنسان أياً كان جنسه أو لونه. أيتها الحرية كم من آثام تُرتكب باسمك!! يا للمضللين الذين ينطقون بعظائم البطل! واعدين بالحرية وهم أنفسهم عبيد الفساد. يا للمساكين الأغبياء! انهم كالحملان التي تكره السياج وتحاول أن تتخطاه، مع أن وراءه تتربص الذئاب الخاطفة! هكذا التحرر من شريعة الله تكمن وراءه ذئاب الفوضى والتدهور الخلقي. القطار حين يخرج عن قضبان السكة يتدهور بركابه ويتحطم. في القديم ادَّعى اليهود الحرية قائلين إنهم أحرار ولم يُستعبدوا لأحد قط. ولكن المسيح رد ادعاءهم وقال لهم: «الحق الحق أقول لكم، إن من يفعل الخطية هو عبد للخطية». الأحرار الحقيقيون ليس كالذين الحرية عندهم سترة للشر، بل كعبيد الله. الحرية في معرفة الحق. قال المسيح: «إن سمعتم كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم». الحرية هي عطية المسيح لكل الذين قبلوه وفقا لقوله: «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً».
لن تموتا (قال الشيطان لآدم وحواء) بل تنفتح أعينكما وتصيران كالله. وقد اقتنع الزوجان فعلاً بحقهما في مماثلة الله بالعلم بكل شيء. وهذا أمر يبدو في الظاهر مشروعاً ولا غبار عليه. ولكن إبليس قصد بإثارة آدم أن يضع في فكره أن يصير نداً لله، وبذلك يسقط من البر الذي حباه الله به. هكذا يفعل اليوم لدى أبناء عصرنا الذين غزوا الفضاء، وقد توصل فعلاً إلى حمل عدد من مفكرينا على تحدي الله، فقالوا: ليثبِت الله وجوده بصنع عجيبة! لكأن نشوة الانتصارات العلمية أنستهم ان السماء تحدّث بمجد الله والفلك يخبر بصنع يديه. صحيح انهم أرسلوا في الفضاء مئات الأقمار الاصطناعية. ولكن أين أقمارهم من أقمار الله التي لا يستطيع أحد أن يعدها؟ وكلها تشير في مداراتها بنظام دقيق منذ ملايين السنين.
العلم بركة للعالم، شرط أن يُبقي الله في معرفته. ولكن بئس العلم إن هو أنكر وجود الله الذي منه وله كل الأشياء. العلم بدون الله ينفخ ويقود الى أعمال شريرة كالتي نراها اليوم في صنع الأسلحة النووية المدمرة. وماذا نال آدم وحواء من المعرفة؟ الفشل، الخيبة، الخزي، الخوف، مثلهما كذلك الباحث الذي وجد حجراً منقوشاً على سطحه هذه العبارة: اقلبني فأعطيك شيئاً ثميناً. ولكن لما قلبه وجد على ظهره هذه العبارة: أعِدْني كما كنت. هكذا آدم سمع مشورة إبليس، ولكنه لم يصر مثل الله، لا في المعرفة ولا في العظمة. بل سقط من بره وطُرد من فردوسه السعيد.
ان علاج الخطية ليس في الهرب من وجه الله، بل بالحري بالقدوم إليه. فقد قال الرب: «التفتوا اليّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض. أنا أتيت الى العالم لكي أطلب وأخلّص ما قد هلك». واليوم كما في كل يوم أطوف رحاب الأرض مفتشاً عن نفس هالكة وأكلمها وسأكلمها الى أن تسلم ذاتها الى رحمتي فأصالحها مع قلبي.
لا يقل أحد: أنا غير مستحق لأن آثامي من النوع الذي تأنف منه رحمة الله، لأن المسيح يقول: «ما جئت لأدعو أبراراً بل خطاةً الى التوبة». يكفي أن تؤمن حتى تُغفر لك كل خطاياك. لقد عُلِّق على الصليب ليجنبك العذاب، وكل ما يطلبه منك هو أن تترك الخطية التي تغيظ الله. هكذا قال: «أنا هو الماحي ذنوبك من أجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها».
العظة - ٣٣ «افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة» (فيلبي ٢: ١٤)
اذا تأملنا البركات التي أعطاها لنا الله في الماضي، لا يسعنا إلا أن نرفع المزيد من الشكر، خصوصاً من أجل العون الذي أسداه لنا، حتى أنه في وسعنا أن نقول مع رجل الله صموئيل: «إلى هنا أعاننا الرب».
ولكن مع كل ذلك لا بد لنا من أسف، لأننا وسط المراحم الكثيرة التي نذكرها بالشكر يجب أن نعترف بتقصيراتنا الكثيرة الناتجة عن ضعف محبتنا.
إلا أن هذه التقصيرات لا تدعو الى اليأس، لأنه مع الشكر والاعتراف بالمذنوبية يتعاون الايمان والرجاء والمحبة على دفن الماضي. ويصير لنا التصميم الذي وضعه الرسول بولس حين قال: «أنسى ما هو وراء وأمتدّ إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض لأجل دعوة الله العليا في المسيح يسوع».
وما أحلى أن نواجه مآتي أيامنا بحياة جديدة مفعمة بالصلاة والتكريس والولاء للرب.
وفي يقيني ان هذه الكلمات الشكر والاعتراف والتصميم تمثل شعور كل خادم للرب انفصل عن الأموات في الذنوب والخطايا، وأُحصي مع أولاد القيامة، الذين دُعوا لتأدية رسالة الملح والنور في وسط هذا الجيل المعوج والملتوي. وهذه تأتي بنا الى مثال المسيح الذي الى الآن لم نستطع تحقيقه كاملاً. ولعله يتحقق فصاعداً فينا برجاء جديد أن الله هو العامل فينا.
ولربَّ سائل يقول: ما هي غاية دعوتنا كأولاد الله؟
والجواب: اذا تتبعنا كلمات الرسول خطوة فخطوة، وحلقة فحلقة نجد هناك ناحيتين: الواحدة سلبية والاخرى ايجابية.
١ - فالناحية السلبية تقول: افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة لكي تكونوا بلا لوم بسطاء أولاداً لله بلا عيب.
فغاية دعوتنا أن نكون بلا لوم، لأن الله كما نقرأ في أفسس ١: ٤ «اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة». وفي أفسس ٥: ٧ ان المسيح «أسلم نفسه لأجل الكنيسة لتكون مقدسة وبلا عيب». وفي كولوسي ١: ٢٢ ان المسيح «أجرى المصالحة في جسم بشريته ليحضرنا قديسين وبلا لوم وبلا شكوى أمامه».
لقد كان رئيس إيماننا بلا لوم، فمن الطبيعي أن يدعو خاصته لكي يكونوا مثله بلا لوم. وهناك باعث أقوى لنسعى الى بلوغ دعوتنا العليا، وهو اننا وُضعنا في وسط جيل معوج وملتوٍ لنضيء بينهم كأنوار في العالم، متمسكين بكلمة الحياة.
وهذا الوصف الذي أطلقه على أبناء هذا العالم في زمنه، ينطبق تماماً على المجتمع الذي نعيش فيه اليوم. ففي الأوساط كلها من سياسية واجتماعية واقتصادية يتعامل الناس فيما بينهم بطرق معوجة وملتوية.
والطريقة المثلى التي تجنبنا الاعوجاج والالتواء وبالتالي تصيرنا بلا لوم، هي السير بموجب وصية الرسول الكريم، فنعمل كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة.
الدمدمة هي التذمر وقد دعاها أحد الأتقياء «الحرب مع الله». فلا تسمح لنفسك بالوقوع في خطية التذمر لئلا تكون محارباً لله. وبالتالي تفشل في دعوتك راعياً كنت أم مبشراً أم معلماً.
حين تذمر شعب إسرائيل على الله في القفر، سقطوا من الوعد في دخول كنعان، سقطت جثثهم أيضاً في القفر.
والمجادلة هي المناقشات الغبية المتحاملة التي تثير الخصومات. لذلك يقول: «أريد أن يصلي الرجال في كل مكان، رافعين أيادي طاهرة بدون غضب أو جدال». والجدال يؤدي الى الغضب، والغضب لا يصنع بر الله. قال الرئيس البريطاني جلادستون: «ان القدوة لتساوي في قيمتها ألف مباحثة». فليتنا نقلل من الجدال ونكثر من المثال.
٢ - أما الناحية الايجابية في دعوتنا فهي أن نكون بسطاء، والبساطة تدل على الوداعة والتواضع.
والوداعة والتواضع هما الفضيلتان اللتان أمرنا أن نتعلمهما منه، إذ قال: «احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم».
التواضع بشير الكرامة، والله يسر أن يرفع المتواضعين ويعطيهم نعمة. «لأنه هكذا قال العلي المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين ولأحيي قلب المنسحقين». «طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض».
هذه هي الافكار التي راودت خاطر بولس حين حث جماعة الفيلبيين على أن يضيئوا كنجوم لامعة متمسكين بكلمة الحياة.
ونحن كمسيحيين يجب أن نضيء كأنوار في وسط ظلمة أبناء هذا العالم، لأن المسيح قال: «أنتم نور العالم». فالنفس التي قبلت يسوع نور العالم، يجب أن تعكس أنواره على نفوس الآخرين، حتى إذا تقبلوها صاروا نوراً في الرب. «فليضىء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات».
هذا هو تأثيرنا المتوقَّع على الآخرين، ويجب أن يتم وفقاً لهذه الوصية الالهية، في الكنائس التي نرعاها والمراكز التي نبشر فيها والمدارس التي نعلّم فيها، وأينما كنا.
أخي المؤمن خادم الانجيل: إنك كابن لله لا يمكن أن تحتكّ بأبناء هذا الجيل المعوج والملتوي إلا وترسل أشعةً من نور يسوع الذي فيك. وبالتالي تثير فيهم الرغبة في الله، والجوع والعطش الى بره. وتحملهم على عدم الرضى عن حياة الخطية التي يمارسونها، وبذلك تكون أداةً في يد الله لتجديدهم.
حين قال يسوع: «أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال». كان يضع مسؤولية خطيرة جداً على عاتق كل مسيحي، وهي وَضْع السراج الموقد على المنارة ليضيء لجميع الذين هم في البيت. فالمسيحي الذي يضع نور المسيح الذي فيه تحت مكيالٍ من تصرفاته التي لا تليق، يُعثر الآخرين. وويل لمن تأتي به العثرات. خير له لو طُوِّق عنقه بحجرٍ وطُرح في البحر.
ان أعين الناس تراقبك يا مسيحي وتحصي عليك هفواتك، وابليس حاضر للتشهير بك. فاحذر لأنه لا يمكن إلا أن تؤثر على الآخرين للحياة أو للموت، كما هو مكتوب: «أنتم رائحة المسيح الذكية في الذين يخلصون والذين يهلكون».
فلا تكن مثل يربعام بن ناباط الذي جعل اسرائيل يخطئ، بل كن مثل بولس الذي استطاع بنعمة الله أن ينقل كثيرين من الظلمات الى النور والسلام وفرح الله.
والأكثر من ذلك، يجب أن تكون صوتَ صارخٍ متحدثاً بفضائل الله الذي دعاك من الظلمة إلى نوره العجيب. لأنه حين يقول الرسول «متمسكين بكلمة الحياة» فالمعنى أنه لا يجوز أن تصمت.
ان الايمان بالمسيح يحملك على أن تتكلم إلى من يحيطون بك أو تتعامل معهم كما هو مكتوب: «آمنتُ لذلك تكلمت». وليكن معلوماً عندنا جميعاً أن التكلم بكلمة الحياة أعظم مأمورية يضطلع بها خادم الرب.
إن كنت لا تحسن الكلام فتقدم أمام الله وضع فمك على التراب، واطلب من الروح القدس أن يستلم شفتيك ويشعلهما بالنار، كما أشعل شفتي إشعياء بن آموص، الذي بعد أن طهر الروح القدس شفتيه قال: «هأنذا يا رب أرسلني».
ألم تشعر يوماً برغبات ملحة وتمنيات ان تكون أفضل مما أنت عليه؟ هذا هو صوت الله العامل فيك، أن تريد وأن تعمل من أجل المسرة.
انه يعمل فينا لنعمل، وقبل ان نعمل يمدنا بالطاقة على العمل. قد لا نتذكر بالضبط الساعة التي دخل فيها حياتنا ليكون عاملا فينا. ربما كان ذلك في هزيعٍ من الليل، أو في ساعة الفجر، أو في وقت الظهيرة. لكنه دخل وهذا هو المهم.
قال الرسول بطرس: «كأولاد الطاعة لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالاتكم، بل نظير القدوس الذي دعاكم أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة.
إن كنا لا نتمم ما يعمله الله فينا بالطاعة، فإن الجهود تصبح عقيمة.
وإن كان الروح القدس يضع إصبعه على عادة سيئة فينا، يجب أن نريد ذلك وننبذ العادة السيئة.
وإن كان يضع إصبعه على استحيائنا بإنجيل الصليب، يجب أن نريد ذلك ونتجاوب مع الوصية الرسولية القائلة: «اكرز بالكلمة. اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب».
إن كان يضع إصبعه على كسلنا في الصلاة، يجب أن نريد ذلك صدوعاً بأمر ربنا القائل: «ينبغي ان يُصلى كل حين ولا يُمل».
إن كان يضع إصبعه على ضعف محبتنا، يجب أن نريد ذلك وفقاً لإنذار ربنا القائل: «عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى، فانظر من أين سقطت وتُبْ، واعمل الأعمال الأولى، وإلا فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب».
إن كان يضع إصبعه على غرورنا واعتدادنا بنفوسنا، فيجب أن نريد ذلك تجاوباً مع الدعوة التي دُعينا بها بكل تواضع ووداعة وبطول أناة.
«تمموا خلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله هو العامل فيكن أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة».
ثامناً - مواعظ في عناية الله
العظة - ٣٤ «من يمسكم يمس حدقة عينه» (زكريا ٢: ٨)
ان الموضع الذي أود التأمل فيه معكم بنعمة الله، هو صعوباتنا بإزاء امكانات الله. قال إمام المرنمين: «لأن سواعد الأشرار تنكسر، وعاضد الصديقين الرب». وإني أتصور أن الله يقول لكل واحد منا: يا ابني العزيز، لديَّ رسالة أريد ان أهمس بها في أذنيك. إنها رسالة قصيرة ولكنها بالغة الأهمية بالنسبة لك. فدعها تدخل إلى قلبك لتقودك الى الراحة الصحيحة. هلاّ علمت يا ابني ان كل ما يشغل بالك يشغل بالي! أما قرأت كلمتي في زكريا ٢: ٨ «ان من يمسكم يمس حدقة عينه»؟
هل تجتاز ظروفاً صعبة؟ هذا أيضاً بسماحٍ مني، فأنا سيد الظروف، وأنا أجعل كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله. يا ابني، هل تجتاز ظروفاً مالية حرجة، حتى أنك بالكاد تحصل على الكفاف؟ هذا أيضاً بسماحٍ مني، لأنني مسؤول عن تمويلك. اذكر وصيتي القائلة: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تُزاد لكم». واذكر ما قاله عني الرسول بولس: «الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، فكيف لا يهبنا كل شيء؟». اقرأ شهادة داود المختبر إذ يقول: «اتقوا الله يا قديسيه، فليس عوز لمتقيه. الأشبال احتاجت وجاعت أما طالبو الرب فلم يعوزهم شيء من الخير».
هل تعاني من حالة حزن واكتئاب، حتى لتشعر أن الحياة أصبحت مظلمة في عينيك؟ وهذا بسماحٍ مني! لتذكر أنني من أجل خلاصك صرتُ رجل أوجاع ومختبر الحزن. لقد سمحتُ بأن لا تجد تعزيةً لدى البشر لتلتفت إليّ أنا معزي الخراف وماسح الدموع من أعين المكتئبين.
هل خاب أملك في صديقك، الذي كنت تفتح له قلبك كليا! هذا أيضا بسماحٍ مني! لتلتفت اليّ أنا الصديق الألزق من الأخ. ما أحلى قول المرنم:
يا ترى أي صديقٍ مثل فادينا الحبيب يحمل الآثام عنا وكذا الهمَّ المذيب
هل فشلت في مخططاتك التي وضعتها للمستقبل؟ هذا أيضا بسماح مني! أنت أعددت المشاريع وبعدئذ سألتني أن أباركها، بينما كنتُ أريد أن تطلب إرشادي في إعدادها لآخذها على مسؤوليتي، لأن إنجاحها فوق قدرتك، وليس فيك الكفاية بدوني.
هل أردت أن تحقق إنجازات كبرى ولكن المرض حال دونك وتحقيقها؟ هذا أيضاً بسماح مني. لأني أريد أن أكلمك وأنت على فراش الضعف، حيث تكون أكثر استعداداً للإصغاء إليّ. وهناك سر أريد أن أكشفه لك، وهو أني أنحّي عن الخدمة الفعلية أفاضل خدامي لمدة معينة ليصبحوا أكثر حكمة ودراية في استعمال سلاح الصلاة.
لعلك رغبت لتحمل مسؤولية عمل أكبر؟ ضع ثقتك فيَّ. فأنا أعوّل عليك، وأحمّلك أخطر المسؤوليات. من أجل ذلك أعط ولا يسوء قلبك عندما تعطي، لأنه بسبب هذا الأمر يباركك الرب في كل أعمالك وفي كل ما تمتد اليه يدك.
في هذا اليوم أعطيك إناءً مملوءاً زيتاً مقدساً، فاستعمله بلا حساب. امسح به كل ما يحصل لك. كل كلمة يمكن أن تحدث شراً. كل هجر يُضعف صبرك. كل إعلان عن ضعفك. تأكد يا ابني انك حين تتعلم أن تراني في كل شيء، كل منخس موجه اليك يفقد قوته. من أجل هذا وجّه قلبك الى جميع الكلمات التي أنا أشهد بها عليك اليوم، لكي تعمل لها، لأنها ليست باطلة.
العظة - ٣٥ «وأنا أريحكم» (متى ١١: ٢٨)
نقرأ في الانجيل بحسب مرقس أن يسوع إذ رأى تلاميذه مجهدين مهمومين، قال لهم: «تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاءٍ واستريحوا». ونحن كم يجب أن نشكر الرب الاله، لأنه أعد لنا بيوتاً لنستريح فيها من أتعابنا. والأهم في الأمر أنه هنا معنا، وهو على استعداد لأن ينزع منا القلب المتعب المهموم، ويعطينا قلباً هادئاً مفعماً سلاماً.
هل أتتك دعوته القائلة: «تعالوا اليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا اريحكم». هلموا إليَّ ففي قربي راحة لكل متعَب، وعلى صدري متكأ لكل مكدود، وفي قلبي واحة لكل مهموم.
كان أحدهم يزور صديقاً فوجده يشكو آلاماً نفسية مبرحة. كان يتأوه ويقول: رأسي! أه من رأسي! أين أضع رأسي؟ فقال له الصديق ضع رأسك يا أخي على صدر يسوع الحنون، فقد وعد بالراحة لكل من يأتي اليه.
رسم الفنان الدنيماركي هنريخ صورة للمسيح عنوانها: تعالوا اليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وأنا أريحكم. ويُرى المسيح في الصورة مع جمع من الناس من كل جنس ولون. وقد شرح ألبرت بايلي هذه الصورة في كتابه إنجيل الفن، فقال إن هذا الواقف إلى يمين المسيح وفي يده القيود مجرم جاء يلتمس الغفران. وهذا الممسك بهدب ثوبه، يمثل المفديين في الأرض وقد جاء يلتمس من رب الفداء خلاصاً وعوناً. وذاك المعبّس الوجه يمثل الذين فشلوا في مشاريعهم فجاء يلتمس عزاءً وهدوءاً وراحة. أما الجالس عند قدميه بوجه مشرق بالبِشر فيمثل الذين قبلوا يسوع، ففرحوا وكمل فرح المسيح فيهم.
هذا هو مريح التعابى، تأتي اليه نفوس رازحة فتستريح. وتأتي اليه قلوب واجفة فتطمئن، وتنظر اليه نفوس مكتئبة فتتعزى، وتلتمسه نفوس مذنبة فتنال باسمه غفران الخطايا. الجميع يرتاحون لديه، لأنه كما قال إشعياء النبي: «أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شُفينا».
ما أروع كلمته «تعالوا اليّ يا جميع المتعبين». ولأنها إن كانت تضم جمهوراً من البؤساء والرازحين، فانها تكشف لنا عن كفاية المسيح وعن سعة رحمته ومدى محبته وغنى لطفه. وتعبر لنا عن شوقه العارم، لضم جمهور التعابى إلى صدره الدافق بالحنان. انه يعطي راحة لا تستطيع قوة في الوجود ان تعكرها، لأن السلام الذي يعطيه كعمق المحيط، لا يتأثر بالعواصف التي تثيرها الطبيعة.
قيل عن الأميرة اليزابث ابنة الملك شارل الأول، انها ماتت في السجن ورأسها مسند على الكتاب المقدس وأصبعها على قول المسيح: «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم». مما يؤكد ان آلام السجن لم تستطع أن تعكر على تلك الأميرة راحتها في المسيح. أو أن تسلبها فرح الله، الذي كان مصدر قوتها لاحتمال عذابها الطويل. وأخيراً ماتت في الرب، وطوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن، نعم يقول الروح، لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم. انهم يستريحون في منازل الآب في المكان الذي أعده يسوع. هناك لن يكون تعب ولا وجع ولا حزن، وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم.
قد يستريح الناس هنا من الجهل، ولكن أعلم العلماء يبقى عنده شيء من الجهالة. أما في المسيح فتكمل المعرفة، لأن الجميع يكونون متعلمين من الله. وقد يستريح الناس هنا من أمراض الجسد، ولكن أصح الأصحاء يكون معرضاً للضعف. ولكن في ديار الرب لن يشكو أحد من ضعف الجسد لأن المسيح سيغيّر شكل جسد تواضعنا الى شبه جسد مجده. وقد يستريح التعابى هنا من الفقر، ولكن أغنى أغنياء العالم يحتاج الى بر الله لأجل راحة الضمير.
قال أحد الأثرياء: «ويحي كم أنا شقي، لأنني لا أجد السوق التي تُباع فيها راحة الضمير». قال الرب يسوع: «متى كان لإنسان كثير، فليست حياته من أمواله». وقال إمام الحكماء سليمان: «ماذا للإنسان من كل تعبه تحت الشمس؟ لأن كل أيامه حزن، وأيضاً في الليل لا يستريح قلبه». أما في ديار يسوع، فلن يكون عوز، لأن المتقين يتمتعون بميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل.
اقترب رجل الإصلاح العظيم مارتن لوثر من سرير ابنته المائتة، وقرأ لها من اشعياء ٢٦: ١٩ العبارات التالية: «تحيا أمواتك تقوم الجثث. استيقظوا ترنّموا يا سكان التراب لأن طلَّك طلُّ أعشابٍ والأرض تُسقِط الأخيلة». وبعد القرءاة سألها: «أتدخلين راحتك في سلام؟» فقالت: «نعم يا أبي». ثم انطلقت الى السماء ولسان حالها يقول:
هنا مكان راحتي بقرب قلب الله أسكن يا لبهجتي بقرب قلب الله
توالت الهموم على سيدة حتى يئست وتبرمت من الحياة، فدخلت غرفتها وأحكمت قفلها وفتحت حنفية الغاز بقصد الانتحار. ولكن في اللحظة الحاسمة سمعت من الراديو الذي كانت قد تركته مفتوحاً هذه الترنيمة:
يا ثقيل الحمل أقبِلْ نحو فاديك الحبيب واطرح الأوزار حالاً عند أقدام الصليب فترى ينبوع جودٍ سال من جنب الحمل من أمات الموتَ بال موت الذي عنا احتمل اسمع الفادي ينادي كل مقطوع الرجا التفت نحوي فتحيا وتنال الفرجا
فعملت الترنيمة سريعاً في نفسها، فعدلت عن الانتحار وسلّمت حياتها للرب يسوع مريح التعابى.
في القديم هتف إمام المرنمين داود قائلاً: «عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي». في الحقيقة أن الهموم في الدنيا كثيرة، ولكنها لا تعني بالضرورة يأساً للمهموم. قد تكون متأتّية عن أفكار شاردة، أو ناجمة عن شكوك مرتابة، أو أسبابها ارتباكات نفسية معقدة. وبين هذه وتلك ينتاب الانسان انقباض في النفس، فيعيش مهموماً بينما كان في استطاعته الفرح لو أنه التفت إلى راعي النفوس الذي قال: «التفتوا اليّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله». وتراوده أفكار مظلمة، بينما كان في مقدوره ان يحيا في النور لو انه التجأ الى الرب يسوع، الذي قال: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة».
هذا ما فعله داود حين حاقت به البلايا وعصرت قلبه الهموم. فأراحه الله وأعطاه فيضاً من سلامه الذي يفوق كل عقل. فكتب لنا من صميم اختباره وصيةً خالدة قال فيها: «سلِّم الى الرب طريقك واتكل عليه وهو يُجري.يخرج مثل النور برك وحقك مثل الظهيرة». ولكن للأسف، فكثيرون من أبناء جيلنا لا يفيدون من هذا الامتياز، بل يلجأون للتخلص من همومهم إلى وسائل قذرة تزيدهم هماً وبؤساً. كمحاولة البعض إغراق همومهم في كؤوس المسكر أو أبخرة المخدر. هؤلاء يخدعون أنفسهم، وينطبق عليهم قول الشاعر:
المستجير بعَمْرٍ عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
قال سليمان في أمثاله: «أيحمل أحدٌ النار في حضنه ولا تحترق ثيابه؟ أيمشي أحدٌ على الجمر ولا تكتوي رجلاه؟» في الواقع إنه كم مصير فاجع، تعود أسبابه الى تصرف خاطئ؟ وكم من ممارسة ردية أدت الى تقويض صروح الاستقامة والنزاهة والفضيلة، وأخيراً هلاك النفس!
علق أحد الاتقياء على قول داود: «عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ قلبي». فقال: إن الهموم بلا تعزيات الرب كحجري رحى يسحقان المهموم. أما التعزيات الإلهية، فهي الصليب تحمله وتسير خلف يسوع. ويسوع له المجد يصيّره بالنعمة نيراً هيناً وحملاً خفيفاً يعطي حامله راحة النفس. فإلى مريح التعابى أوجّه الأنظار في هذا اليوم.
تاسعاً - مواعظ في الروح القدس
العظة - ٣٦ «وامتلأ الجميع من الروح القدس» (أعمال الرسل ٢: ٤)
نقرأ في يوئيل ٢: ٢٨: «ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر». ونقرأ في إشعياء ٣٢: ١٥ «إلى ان يُسكب علينا روحٌ من العلاء، فتصير البرية بستاناً». ونقرأ في يوحنا ١٧ أن يسوع في اليوم الأخير العظيم قال «إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه».
ونقرأ في يوحنا ١٤ قول المسيح: «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، روح الحق، الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث فيكم ويكون معكم» وأوصى يسوع تلاميذه: «لا تبرحوا من أورشليم بل انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني، لأن يوحنا عمد بالماء، أما أنتم فستتعمدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام بكثير» (أعمال ١: ٤ و٥).
كل هذه الوعود تمّت في يوم الخمسين اذ يخبرنا القديس لوقا أنه: «لما حضر يوم الخمسين كان الجميع بنفس واحدة. وصار بغتةً من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ البيت حيث كان التلاميذ جالسين. وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى» (أعمال ٢: ٢ و٣).
والكتاب المقدس يميز بين ختم الروح القدس والامتلاء به. فالختم هو امتياز كل إنسان حينما يؤمن بالمسيح. هكذا قال الرسول لأهل أفسس: «إذا آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس». وأما الامتلاء بالروح القدس فهو اختبار من يتكرس للرب تكريساً كاملاً.
ومع أن هذا الاختبار مُعد لكل مؤمن، فان كثيرين من المؤمنين لا يتمتعون به، لأنهم توقفوا عند حد الإيمان ولم يعطوا المجال للروح القدس لكي يملأهم. قال رجل الانتعاش أزوالد سمث: «ليس الأمر حصولنا على المزيد من الروح القدس، بل هو حصول الروح القدس على المزيد منا». خذوا المثل من يعقوب أبي الأسباط، فهذا الإنسان اختار الرب منذ أن رأى السلم التي رأسها في السماء. ولكنه لم يتكرس كلياً للرب، إلا في تلك الليلة التي فيها تصارع مع ملاك الرب حتى الصباح. وكانت له الشجاعة ان يمسك به ويقول له: «لا أطلقك إن لم تباركني».
في الماضي لم يكن من جانب الله ما يمنع يعقوب من نيل تلك البركة. وإنما المانع كان من جانب يعقوب نفسه بسبب اهتمامه بما على الأرض وليس بما فوق. فإن كانت حياتك تشبه حياة يعقوب (أي انك لم تتكرس للرب منذ البداية) فليس المعنى ان الفرصة قد فاتتك، لأن يوم النعمة ما زال قائما، وفي وسعك أن تمسك بوعود الرب، وتقول له: «لا أطلقك إن لم تباركني». فيباركك ويملأك بالروح القدس ويعطيك قوة:
١ - لقمع شهوات الجسد، لأن المؤمن في حرب لا هوادة فيها مع الجسد. هكذا قال الرسول: «الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون». والمؤلم في الأمر هو أن الجسد ينتصر في غالب الأحيان! «الارادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلستُ أجد. لأني حين أريد أن أفعل الحسنى أجد أن الشر حاضر عندي». كل مؤمن مدعو لمحاربة الجسد المعبر عنه بلغة الكتاب بالإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور. ولكن قبل أن يغلب، لا بد للمؤمن من أن يكف عن محاولاته الذاتية ويعترف بفشلها!
هكذا كانت نهاية محاولات بولس التي ختمها بقوله: «ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟!» وكل فاشل في إدراك البر بوسائل الذات سيشارك الرسول الكريم شعوره بالحاجة إلى تدخّل قوة من فوق. حينئذ يتراءى له يسوع فيكتشف في ضوء وجهه أن الله قد أعدّ له هذه القوة بتأييد الروح القدس. اقرأ رومية ٧ ترَ بولس المعترف بفشل بره الذاتي. واقرأ رومية ٨ ترَ بولس المنتصر على جسد الخطية والموت. «لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت».
هذا الاختبار يذكرنا بوعد الله القائل في حزقيال النبي اصحاح ٣٦: «فأعطيكم قلباً جديداً، وأجعل روحي في داخلكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها». هذا هو سر الغلبة على الجسد الذي يشتهي ضد الروح، ان الروح القدس الساكن في داخلنا يعطينا القوة الغالبة. القوة التي تحول الانسان المؤمن الى ما سمّاه الرسول «إنسان الله». هذا الانسان الروحي المتأهب لكل عمل صالح يسلك بحسب الروح، فلا يكمل شهوات الجسد. ويحكم مُقاداً بالروح وينتصر بالروح. لقد خلع من جهة التصرف السابق إنسانه العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، وتجدد بروح ذهنه، ولبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله خالقه. وهكذا لم تعد لديه تطلعات إلى ما في العالم من شهوة الجسد.
٢ - قوة في الخدمة: يظن البعض أن خدمة الانجيل مقصورة على القسوس والمبشرين، وتبعاً لذلك يتنصّلون من مسؤولية الخدمة. هذا خطأ لأن الكتاب يعلّم أن كل عضو في الكنيسة هو خادم الانجيل. نقرأ في رومية ١٢: «فانه كما في جسدٍ واحد لنا أعضاء كثيرة، ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد، هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض، كل واحد للآخر. ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا: أنبّوة فبالنسبة للإيمان، أم الخدمة ففي الخدمة، أم المعلم ففي التعليم، أم الواعظ ففي الوعظ، المعطي فبسخاء، المدبر فباجتهاد، الراحم فبسرور».
٣ - القوة في الصلاة: يخبرنا سفر الأعمال أن التلاميذ حين صلّوا في العلية تزعزع المكان. وامتلأ الجميع من الروح القدس. وكانوا يتكلمون كلام الله بمجاهرة. ما أحوجنا الى الروح القدس ليصلي فينا. عندئذ تقتدر صلواتنا في فعلها. الصلاة في الروح هي طريقنا إلى عرش الله، حيث تصبح صلواتنا صلوات المسيح. وحينئذ نسأل ما نريد فيكون لنا. لعلكم تتساءلون: هل هناك شروط للامتلاء من الروح القدس؟ نعم يوجد شرطان: لا بد منهما.
أ - الأول التسليم كلياً للرب: أن يسلم المؤمن كل شيء للرب، معترفا بعُقم المحاولات الذاتية. وأن يخضع لله بقلب منكسر وروح منسحقة. لأنه هكذا قال العلي المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين ولأحيي روح المنسحقين. معنى هذا أن تسلم حياتك الفاشلة المهزومة للرب. وأن تسأله ان يتنازل ويتربع على عرش قلبك. قل له: يا رب أرسل انتعاشاً لقلبي. دع الروح القدس يمتلك نفسي. وليكن تسليمك مقترناً بالاعتراف بكل خطية والتوبة عنها.
ب - أن تترك الخطايا أياً كان حجمها أو نوعها. أن تتخلى عن المسرات التي تتيحها الخطية وتتحرر من خداعها.
يا أخي لا تستهن بأمر الخطية، حتى ولو كانت من الصغائر، لأن الخطية مهما صغرت في تقديرنا البشري تفصل بيننا وبين الله وتعطل صلواتنا. هكذا قال اشعياء النبي: «آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم. وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع».
صحيح ان يسوع قال: ان الآب يعطي الروح القدس للذين يسألونه. ولكن ما الفائدة من السؤال طالما الله لا يسمع؟ وكيف يسمع طالما ليس من تفاهم بين الروح القدس والخطية؟
يا ليت كل واحد منا يفكر في هذا الأمر سائلاً نفسه: هل أرغب حقيقة في الملء الإلهي وأفضّله على التمتع الوقتي بالخطية؟ هل أنا مستعد أن أقول للتجربة لا؟ هل أنا مستعد ان أقول كلا للمسرات التي تتيحها الخطية؟ هذه خطوة لا بد منها حتى يثبت الهدف ويتركز الاتجاه ضد الخطية.
العظة - ٣٧ «امتلئوا بالروح» (افسس ٥: ١٨)
هذه الوصية من أهم الوصايا الرسولية التي كتبها القديس بولس، وقد وُجهت أصلاً إلى كنيسة أفسس، التي اشتهرت بمستوى روحي رفيع وتميَّزت بالجهاد من أجل اسم المسيح.
والامتلاء بالروح القدس هو حاجة المؤمنين في كل جيل وعصر، والله يريد أن نمتلئ به، ونحيا حياة الملء المثمر لمجد اسمه.
قد تقول: أنا قبلت الروح القدس، يوم تجددت، وقد يكون هذا صحيحاً.
ولكن الأفسيين أيضاً قبلوا الروح المبارك وخُتموا به، والرسول نفسه شاهد لذلك إذ يقول: «إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم، الذي به إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس».
ومع ذلك فقد أوصاهم الرسول أن يمتلئوا به، لأنه يوجد فرق كبير بين قبول الروح وبين الامتلاء به.
قال أحد رجال الله: إن قبول الروح القدس هو كدخول شعاع الشمس إلى غرفة ما، أما الامتلاء به فهو كحقل تغمره الشمس بأشعتها الساطعة.
أنت وأنا نحتاج في شهادتنا وخدمتنا إلى الارشاد، والروح القدس هو روح الارشاد.
ونحتاج إلى الحكمة، والروح القدس هو روح الحكمة.
ونحتاج إلى المشورة، والروح القدس هو روح المشورة والنصح.
ونحتاج إلى القوة، والروح القدس هو روح القوة.
ونحتاج إلى القداسة، والروح القدس هو روح القداسة.
ونحتاج إلى التعزية، والروح القدس هو روح التعزية.
قال الدكتور صموئيل شادوك في تعليقه على الاصحاح الخامس من رسالة بولس إلى أهل رومية: «يحقق الامتلاء بالروح القدس للمؤمن امتيازات روحية عظيمة: أولاً يعطيني حياة جديدة. ثانياً يعين الضعف. ثالثاً يسربل بالقوة. رابعاً يسكب محبة الله في القلب».
ولقد تأكد بالاختبار أن المسيحية الحقة هي المسيح في الداخل بروحه القدوس. أن يكون في صدر مختاريه ليحيوا بحياته حياة الملء.
ومن هنا كانت طلبة الرسول بولس من أجل أهل أفسس إذ يقول: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبة، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله».
قبيل ارتفاعه في المجد قال الرب يسوع لتلاميذه: «لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم. وتكونون لي شهوداً في أورشليم في كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض».
فالامتلاء بالروح القدس إذاً حاجة لا بد منها قبل الانطلاق إلى الخدمة وإلى الشهادة.
وقد دل الاختبار أن شهادة المسيحي الذي قدم نفسه للخدمة لا يمكن أن تُحدث خدمته أثراً ذا بال ما لم يمتلئ بالروح القدس. وبدون ذلك غالباً ما تكون تظاهرة جسدية لا تصنع بر الله.
أين نحن من هذه الحقيقة، التي تضعنا وجهاً لوجه أمام مسؤولية الدعوة التي دُعينا بها. والتي تطرح على كل واحد منا هذه الأسئلة:
هل أحسنت الاتجار بالوزنات التي تسلمتها من الرب؟
هل استطعت أن تردّ خاطئاً عن ضلال طريقه؟
هل تسنَّى لك أن تسند ضعيفاً؟
هل تمكنت أن تشدّد متخاذلاً؟
هل بما عندك من تعزية قدرت أن تعزي حزيناً مكتئباً؟
هل بما عندك من محبة المسيح استطعت أن تهدهد آلام متألم؟
إن كان الجواب لا، فأنت مسيحي فاشل، وخادم منهزم، أو على الأقل فاتر الهمة.
يا أخي أنت تحمل اسم المسيح، واسم المسيح في حد ذاته قوة ولا يسوغ لحامله أن ينهزم، أياً كانت الظروف.
في إحدى المعارك الكبرى التي قادها الاسكندر المقدوني ضد جيوش الفرس، لاحظ جندياً خائر العزيمة في المؤخرة، فسأله ما اسمك أيها الجندي الرعديد؟
فأجاب: اسمي اسكندر يا مولاي.
- أتحمل اسمي وتقف في المؤخرة؟ هذا ذنب غليظ. لك أن تختار بين أمرين: إما أن تتقدم إلى الصفوف الأمامية وتحارب حرب الاسكندر ببسالة، وإما أن يُنزع عنك هذا الاسم، وتُحاكم أمام مجلس عسكري كجبان يستحق الموت!
هكذا شأن من يحمل اسم المسيح، لا يحق له الاستسلام إلى الضعف، بينما المعركة على أشدها ضد الخطية والجهل كما كان الشأن مع ديماس الذي ترك بولس في قلب المعركة لأنه «أحب العالم الحاضر».
الضعف غير وارد بالنسبة لخادم أو خادمة الرب، لأن هناك نعمة، والله يقول: «تكفيك نعمتي، لأن قوتي بالضعف تكمل».
صحيح أننا نواجه صعوبات، صحيح أننا نواجه مضايقات، صحيح أننا نصطدم بمقاومات ولكن «في هذه جميعها، يعظم انتصارنا بالذي أحبنا».
من هو إله غير الرب، قال داود، من هو صخرة سوى إلهنا، الإله الذي يمنطقني بالقوة للقتال. ويصيّر طريقي كاملاً، ويعلّم يديَّ القتال فتنحني بذراعي قوس من نحاس.
«ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم» قال الرب.
وفي قوله وعد بالقوة والرب صادق في وعوده، يعطي الجميع بسخاء ولا يعيِّر.
ولكن هناك حقيقة يجب أن لا تغيب عن بال أحد، وهي أن الروح القدس لا يملأ قلباً متردداً أو مرتاباً».
الروح القدس لا يملأ إنساناً لم يقدم ذاته لله ذبيحة حية مقدسة مرضية.
الروح القدس لا يتعامل مع إنسان لم يغير شكله بتجديد ذهنه.
الروح القدس لا يعضد أُناساً معجبين يغاضبون بعضهم بعضاً ويتحاسدون.
الروح القدس لا يؤيد جماعة ينهشون ويأكلون بعضهم بعضاً.
الروح القدس لا يملأ حياة من يحزنه، ولهذا كانت الوصية الرسولية: «لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء. ليُرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث».
كان شرط أليشع النبي على أرملة بيت صرفة أن تحضر أواني كثيرة فارغة، وفي الخلوة تمتلئ.
وكان شرط الله على جدعون أن يسلح جيشه الصغير بجرار فارغة ليدفع المديانيين ليده. فتفرَّغ من ذاتك ليملأك المسيح بروحه فتحيا بحياته.
ولكن قبل كل شيء اعترف للرب بخطاياك لأنه كما قال يوحنا: «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم».
هذه هي حقيقة الإنجيل: أن الخطية المعترف بها هي خطية مغفورة. وإن سلكنا في النور، كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية.
لا يعترض أحد بل قبل أن يتغنّى ببره الذاتي ليتذكر قول الكتاب: «إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا». وليكن معلوماً عندنا أن عبارة «إن اعترفنا بخطايانا» التي كتبها الرسول يوحنا بمداد الحق ليست موجّهة إلى الأشرار، بل إلى المؤمنين، لأن الخاطئ لا يقر بخطاياه طالما هو خاطئ.
إن الأحداث التي تجري حولنا تذكرنا بقول الرسول: «إن العالم كله قد وُضع في الشرير». فالخطية منتشرة في كل وسط كما لم يحصل في أي جيل مضى. وقد أخذت جيوشها تزحف في اتجاه خدام الرب أنفسهم. تحاول التسرب إلى صفوفنا من ثغرة فتور المحبة. وإنها لساعة لكي نلاحظ سيرتنا، وخصوصاً تصرفاتنا بعضنا مع بعض، وإلا فالخطر سيدهمنا.
صحيح أن السيد رب الجنود مقدّر تعبنا وصبرنا وجهادنا، ولكنه يضع إصبعه على محبتنا. ويعيد على مسامعنا رسالته القديمة لأهل أفسس: «عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى. فانظر من أين سقطت وتُبْ واعمل أعمالك الأولى». امتلئوا بالروح القدس. امتلئوا إلى كل ملء الله. فنحصل على ثمار الروح التي هي محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف.
وأخيراً ليكن معلوماً عند جميعنا أن ملء الروح القدس لا يُعطى للذين يشتاقون إليه، ولا للذين يجتهدون للحصول عليه، ولا للذين يصلّون طويلاً لأجل الامتلاء به، بل يُعطى للذين يطيعونه.
قال أحد رجال الله الأمناء: «إن حلول الروح القدس هو جواب الله للتوبة». أما الامتلاء به فهو جواب الله للطاعة.
وقديماً قال الله لإبراهيم: بما أنك فعلت هذا الأمر أباركك مباركة.
عاشراً - مواعظ في الحياة المسيحية
العظة - ٣٨ «ماذا يطلبه منك الرب» (ميخا ٦: ٨)
«قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب: إلا أن تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعاً مع الهك» (ميخا ٦: ٨).
يخبرنا الكتاب المقدس ان ميخا المورشتي كان نبياً كريماً، مخلصاً للرب كل الإخلاص، وكانت شريعة الرب حباً في قلبه، وشهادات الرب تسبيحة في فمه، يلهج بها نهاراً وليلاً. وكنبي العلي كان يعظ الناس وينذر ويعلم ويوبخ الخطايا بكل شجاعة، ويحضّ على التوبة ويبلّغ الشعب رسالات الله بكل امانة.
ومن ميزاته انه هو الذي تنبأ بأن المسيح سيولد في بيت لحم، إذ قال: «أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على اسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل». ولكن يبدو أن هذه النشاطات كلها لم تُشعِر النبي الكريم بأنه يتمتع برضى الرب، وتبعاً لذلك صار في حيرة من أمره، لا يدري ماذا يفعل لإرضاء القدير. فطفق يتساءل ويتساءل كيف يمكنه أن ينال الرضى الإلهي؟
قال: «بما أتقدم للرب وأنحني للإله العلي؟ هل أتقدم بمحرقات، بعجول أبناء سنة؟ هل يُسرّ الله بألوف الكباش، بربوات أنهار زيت؟ هل أعطي بكري عن معصيتي، ثمرة جسدي عن خطية نفسي؟».
أسئلة حائرة، ولكنها جاءت معبّرة عن عواطف قلب مُفعَم بحب الله، وعن رغبة صادقة في التفتيش عن وسائل لإرضائه. ولكن هذه العوامل النبيلة في حماسها وشدة اندفاعها فاتها أن تتذكر أن مسرة القدير ليست بتنسُّم المحرقات أياً كان نوعها، فقد سبق أن أعلن بالأنبياء أنه بمحرقات وذبائح لم يُسرّ، وأخبر أن غبطته ليست في نحر الذبائح، إذ قال في المزمور الخمسين: «لا آخذ من بيتك ثوراً، ولا من حظائرك أعتدة، لأن لي حيوان الوعر والبهائم على الجبال الألوف».
صحيح أن عهد الذبائح والمحرقات كان قائماً في زمن ميخا النبي. ولكن هذه لا تستطيع من جهة الضمير أن تكمل الذين يتقربون بها. وكل ما فيها هو أنها كانت ظلاً للخيرات العتيدة، ورمزاً لعهد أفضل عهد قوامه ذبيحة افضل، ستقدم عند ملء الزمان وتكمل إلى الأبد كل المقدَّسين. ذلك عهد النعمة بالكاهن الأعظم ربنا يسوع، الذي ليس بدم ثيران أو عجول، بل بدم نفسه دخل مرة واحدة الى الأقداس، فوجد فداءً أبدياً.
أما الذبائح المقبولة عند الله فهي التي أشار اليها داود في المزمور ٥١ : «ذبائح الله هي روح منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره». والحق ان ضامن العهد الجديد الرب يسوع المسيح، قد كُسر قلبه وسُحقت نفسه على الصليب، وفاقاً لما جاء في نبوة اشعياء ٥٣: ١٠ «أما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه، ومسرة الرب بيده تنجح».
كان ميخا مخلصاً لله، والله من طبيعته يتعامل مع المخلصين. وتمشياً مع هذا المبدأ أكرم الرب ميخا، فأعلن له ما يسر قلبه، اذ قال: قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعاً مع إلهك. هذا هو الدين العملي في ثلاث فضائل:
١ - الفضيلة الأولى: «صنع الحق» فما هو الحق؟
سُئل ولد أخرس بالاشارة «ما هو الحق» فحرك إصبعه في خط مستقيم. ثم سُئل ما هو الباطل؟ فحرك اصبعه في خط معّوج. والحق أن الفتى الأخرس أجاد الوصف، لأن الحق مستقيم والباطل معوج. ولكن أنّى للغة الخُرس ان تشرح لنا معاني الحق؟ بل أنّى للغة أفصح الفصحاء أن تلم بالحق في وجهه الصحيح؟؟؟
ولكن اذا أردت أن تعرف الحق، فتعال الى يسوع الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي الى الآب إلا بي». تعال اليه بإيمان القلب فيطهرك من أدران الباطل، وعندئذ تستطيع ان تحيا في البر وقداسة الحق.
قال المفكر الفرنسي الكبير بليز باسكال: «نحن نعرف الحق، لا بالعقل وحده بل بالقلب أيضاً». ونصل الى الحق بالايمان بعد التوبة عن الباطل. لأن الباطل يقف حاجزاً أمام الحق. لذلك قال الرسول بولس في رومية ١: ١٨ إن الأشرار يحتجزون الحق بالإثم.
الحق هو نور الله المعلن في وجه يسوع المسيح، وقد قال هو نفسه: «وهذه هي الدينونة: إنّ النور قد جاء الى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة. من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا تُوبَّخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيُقبل إلى النور لكي تظهر أعماله بالله معمولة». قد يرغب البعض في أن يصنعوا الحق، وإنما في أحيان كثيرة لا يستطيعون ذلك.
الارادة حاضرة عندي، قال بولس. وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل! فاني أُسرّ بناموس الله في الانسان الباطن. ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ذهني، ويسبيني الى ناموس الخطية والموت. وخلاصة القول إن الانسان طالما يفعل الخطية فهو مستعبد لها. هكذا قال المسيح: «الحق الحق أقول لكم، إن من يفعل الخطية فهو عبد للخطية».
إذن لكي يصنع أحد الحق يحتاج الى التحرر من نير الخطية أولاً. الخطية خاطئة جداً، وهي تتملق الانسان بالشهوة وتسبيه الى ناموس الباطل الذي لا يريده. لذلك فهو يحتاج الى يد يسوع المقتدرة لتحطم عنه قيود الخطية وترسله في الحرية.
لعلك وأنت تقرأ الانجيل سمعت صوت يسوع القائل: «روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالاطلاق، والعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية». ولعله أتاك نبأ دعوته القائلة: «ان ثبتُّم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم». ولعله أتاك نبأ شهاة بيلاطس الوالي إذ قال رداً على سؤال طرحه عليه ذلك الوالي: «لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا أتيت الى العالم، لأشهد للحق».
فليكفّ كل واحد عن مجهوداته الذاتية، لأن حرية الحق لا تُنال بالمجهودات الذاتية، ولا يمنحها كاهن، ولا رسول قديس ولا تحصل بشفاعة نبي، أو بتدخل ملاك. لأن الاله واحد والوسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع. لقد بذل نفسه حباً بنا، فمحا عنا صك العبودية الذي كان علينا، الذي كان ضدنا، وقد رفعه من الوسط مسمّراً إياه بالصليب.
ولسعادة البشر أن هذا الوسيط الالهي يعطي كل من يؤمن به صك الحرية مكتوباً بدمه وممهوراً بختم قيامته. هذا ما أكده الرب الفادي إذ قال: «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً».
٢ - الفضيلة الثانية: محبة الرحمة «أن تحب الرحمة». «الرجل الرحيم يُحسن الى نفسه» (أمثال ١١: ١٧). وجاء أيضاً: «من يرحم الفقير يقرض الرب وعن معروفه يجازيه» (أمثال ١٩: ١٧). وقال الرب يسوع: «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون».
فإلهنا رحوم، وقد وصف في الكتاب المقدس بالرحمة، اذ نقرأ في المزمور ١٣٦ ستاً وعشرين مرة «لأن الى الأبد رحمته» وكلها تعبير عن أن الرحمة هي أساس معاملات الله مع البشر. ومسيحنا رحوم، ويريد من خاصته أن يصنعوا الرحمة في هذا العالم، فيبلسمون آلام المتألمين الذين لم يواسهم أحد، ويسندوا الضعفاء الذين لم يسندهم أحد، ويعّزوا الحزانى الذين لم يعّزهم أحد، ويخففوا بؤس البائسين الذين لم يشفق عليهم أحد.
والرحمة رغبة قائمة في نفس الله بدليل قوله في هوشع ٦: ٦ «اني أريد رحمة لا ذبيحة ومعرفة الله، أكثر من محرقات». وقد حسب الرب يسوع عمل الرحمة الذي قام به سامري ليهودي قمة الدين العملي لأنه أغاث منكوباً ملقى على قارعة الطريق، فلقَّبته الأجيال بالسامري «الصالح». ويريد يسوع من خاصته رحمة، تُسرّ بالعطاء أكثر من الأخذ، وفقا للمبدأ الذي وضعه هو نفسه إذ قال: «مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ».
قال الرسول يعقوب: «الديانة النقية عند الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم». ويريد المسيح من خاصته رحمة صفوحة متسامحة تذهب في الغفران إلى سبعين مرة سبع مرات. ويريد المسيح من خاصته رحمة تقتل العداوة، وفقاً لقوله: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا الى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم»..
٣ - الفضيلة الثالثة: «التواضع» تسربلوا بالتواضع، لأن الله يقاوم المستكبرين، أما المتواضعون فيعطيهم نعمة. والتواضع يحتم علينا، أولاً خلع الكبرياء، وفقا للوصية القائلة: «اخلعوا من جهة التصرف السابق، الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور». الكبرياء المغترّة من شر الخطايا التي يرتكبها البشر، وقد قال القديس أغسطينوس: «الكبرياء خطية يرتكبها الإنسان وهو لا يدري أنه سرطان أكول، يلتهم ما في القلب من شعور بحسنات الغير». والتواضع هو دعوة المسيح لكل مؤمن بدليل قوله: «احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم».
قال توما الكمبيسي في كتابه «الاقتداء بالمسيح» الانسان المتواضع يحبه الرب. ونقرأ في اشعياء ٥٧: ١٥ «هكذا قال العلي ساكن الأبد القدوس اسمه، إني في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين ولأحيي قلب المنسحقين». تذكر هذه ان القدوس الحق مغبوط الملائكة والقديسين تواضع وصار طفلاً في المذود، وإذ وُجد في العالم كانسان لم يرَ ضيرا في أن يتَّزر بمنشفة ويغسل أرجل الصيادين المتشاجرين على من هو الأعظم بينهم.
والمحبة التي هي روح المسيحي لا تنتفخ ولا تتفاخر ولا ترتئي فوق ما ينبغي أن ترتئي، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تقبح ولا تظن السوء. كتب بولس لأهل فيلبي: «فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع، الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة ان يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب».
فإذا أردت أن تكون للحق صانعاً فاسمع صوت ابن الله الذي قال: «كل من هو من الحق يسمع صوتي». وإذا أردت أن تكون للرحمة محباً ولأعمالها ممارساً، فاسلك بموجب القانون الذهبي الذي وضعه يسوع إذ قال: «كل ما تريدون ان يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم هكذا أيضاً بهم». واذا أردت السلوك متواضعاً مع إلهك فاذهب الى جلجثة تحت ظل الصليب. هناك تتعلم من المصلوب وضع النفس ونكران الذات والمسامحة والصفح الى سبعين مرة سبع مرات، وتتعلم كيف تصلب مع الجسد الشهوات والأهواء، وتتجدد بروح ذهنك. وعندئذ تختبر ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة، فتصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعا مع إلٰهك.
العظة - ٣٩ «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون» (متى ٥: ٧)
المتأمل في المزمور ١٣٦ يجد أن عبارة «الى الأبد رحمته» تكررت فيه ٢٦ مرة، وهي تؤكد أن الرحمة أساس معاملات الله مع البشر. وهذا الإله الراحم يريد أن نكون رحماء بدليل قول الرب يسوع: «فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم».
وقديماً قال سليمان: «من يحتقر قريبه يخطئ، ومن يرحم المساكين فطوبى له».
قبل المسيحية لم تكن الرحمة معروفة حتى عند الرومان المتمدنين. صحيح أن دولتهم كانت غنية بالفكر والفن، عريقة بالتشريع والإدارة، ولكنها كانت فقيرة بالفضائل وخصوصاً بأعمال الرحمة. وقد بلغ الرق في زمنهم رقماً خيالياً، حتى أن إحدى مدنهم كان سكانها عشرة آلاف سيد ومئة ألف عبد.
فقط منذ أن تجسد الكلمة بيسوع المسيح تجسدت الرحمة في القلوب التي قبلته.
وحسنا قال الشاعر أحمد شوقي:
وُلد الرفق يوم مولد عيسى والمروءات والهدى والحياءُ لا خصام لا صولة لا انتقام لا حسام لا غزوة لا دماء
يطالب الناموس بأجرة الخطية، وهي موت الخاطئ. ولكن لما صارت النعمة بيسوع المسيح، صار ناموس روح الحياة ليعلن أن هبة الله حياة أبدية لكل من يؤمن به.
«اذهبوا وتعلموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة» قال الرب يسوع. «من آمن بي، كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار مياه حية».
فالمسيحية ليست إذن إلا تدفقاً لهذه المياه الحية رحمة راحمة.
قال دانيال النبي لنبوخذ نصر ملك بابل: «لذلك أيها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك، وفارق خطاياك بالبر وآثامك بالرحمة للمساكين، لعله يُطال اطمئنانك».
ولكن المؤسف له انه في زمننا يسيء الناس فهم الرحمة، اذ يفسرونها بطول الأناة بدلاً من عمل البر. انهم يقولون: الدنيا بألف خير والرزق متوفر لجميع الناس. الحكومات توفر العمل للجميع حتى للأجانب العائشين على أرضها. هذا قول فيه معنى التنصل من المسؤولية تجاه المعوز المسكين. إنه تنكر لروح المسيحية، وتجرّد من روح الشكر العملي الذي يربطنا بالمنعم الجواد، والذي أبرز نواحيه أعمال الرحمة.
صحيح انه يوجد قانون اسمه الضمان الاجتماعي عند معظم دول العالم. ولكن مع ذلك تدل الاحصائيات على ان أكثر من نصف سكان العالم يعانون العوز. أي إن مئات الملايين لا يتمتعون بالغذاء والكساء والعناية الطبية والمسكن المريح.
وفوق الكل محرومين من نعمة الخلاص بالمسيح يسوع! ووضعهم السيء يحمّلنا مسؤولية خطيرة لإيصال إنجيل الحق إليهم. قد يقول قائل: ولكن الاهتمام المادي بهؤلاء هو من شأن المنظمات الدولية. فهناك لجان الإغاثة التابعة لهيئة الأمم المتحدة المكلفة بذلك. أما الاهتمام الروحي، فهو من شأن المنظمات الدينية التبشيرية. وقد يكون هذا صحيحاً. وانه لمن مستوجبات الشكر لله أن يوجد هذا العدد من المنظمات لتخفيف آلام المتألمين، وأن يوجد عدد آخر من الإرساليات المسيحية التي تنشر انجيل الخلاص في العالم. ولكن هذه الهيئات الخيّرة، مع ما تبذله من مال وجهود مشكورة، إلا أنها لم تستطع القضاء على البؤس، لأن عدد البؤساء في العالم يتجاوز الامكانيات الموضوعة الآن. والحاجة تتطلب أريحية الرحماء الذين رحمهم المسيح.
أنا لا أشك في أن حالة هؤلاء التعساء تحرك العواطف بالرثاء، ولكن إن كانت الرحمة تقف عند حد الرثاء فهي رحمة سلبية. وانها لتذكرني بقصة تلك السيدة التي كانت تذهب الى دار الأوبرا وتبكي وتنتحب كلما رأت مشهداً مؤثراً في التمثيلية المعروضة، بينما سائق عربتها ينتظرها خارجاً وهو يرتجف من البرد.
فكيف يستطيع أحد أن يوفق بين إتلاف المال الذي هو لله، وبين حاجة أولئك المساكين؟
قال الرسول يوحنا: «من كانت له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟».
«طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون» - طوبّهم الرب لأنهم تجاوبوا مع رحمته عليهم بعاطفة الشكر التي ترحم المسكين.
كالبحر يمطره السحاب ولا له فضلٌ عليه لأنه من مائه
والرحمة ليست مقتصرة على الإغاثات المادية، فقد تكون رحمة معنوية. كما حدث للكاتب الإنساني الكبير تولستوي، إذ التقى ذات يوم بمتسّول مسكين تحنن عليه ومدّ يده الى جيبه يلتمس نقوداً ليقدمها له، ولكنه سرعان ما تذكر انه نسي محفظة نقوده في البيت. فتأسف شديداً وانحنى لذلك المسكين وقال معتذراً: «عفوك يا أخي، فقد نسيتُ محفظة نقودي في البيت». فقال المسكين: «لا تسريب عليك، فقد أحسنت اليّ أعظم إحسان بهذا النداء «يا أخي».
وأنا أشكرك لانك اقتطعت من ذاتك أسمى ما فيك، إذ جُدْتَ بنفسك «والجود بالنفس أقصى غاية». هذه بالفعل رحمة باركت المعطي والآخذ على السواء.
قال أحد الأتقياء: «ارحم ذلة الشاكي، وكفكف دمعة الباكي، وشجع صغير النفس، فإن فعلت هذه فبالحقيقة تكون رحوماً، وبالتالي مطوَّباً. فازرع رحمة تحصد سرورا هنا ونجاة في يوم الشر».
وهذه هي حكمة المسيح، أن لا هناء حقيقي إلا بمشاطرة المتألمين آلامهم وتخفيف صعوباتهم.
ان كان أحد لا يشعر بميل طبيعي الى صنع الرحمة فالمعنى ان صحته الروحية ليست على ما يرام.
ذهبت سيدة غنية الى طبيب نفساني تشكو له متاعبها. وبعد أسئلة روتينية حول علاقاتها الاجتماعية تبيَّن للطبيب أن سبب اضطرابها يعود الى أنانيتها المتطرفة. فقال لها: يا سيدتي ان دواءك موجود عند امرأة مسكينة تسكن كوخاً حقيراً بطرف المدينة، فاذهبي اليها. فذهبت السيدة مشياً على قدميها، لأن الشارع المؤدي الى الكوخ الحقير لا يتسع لمرور عربتها الفخمة. وبعد مسيرة ساعة وصلت الى المكان، وإذا بها أمام امرأة حطمها المرض والجوع. فبدت لعينيها أقرب الى صورة الشبح منها إلى صورة إنسان. ففهمت السيدة حينئذ قصد الطبيب وقدمت مبلغاً من المال لتلك البائسة وانصرفت مغتبطة جداً. ولم تعد تشعر بأنها في حاجة الى علاج الطبيب، لأنها وجدته في الرحمة والعطاء المسرور. وفوق هذا امتلأ قلبها بسلام الله وتم فيها قول الرب: «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون».
وقد تكون الرحمة عفواً عن خصم لدود، أو غفراناً لمسيء شرير. فالعفو والغفران هما من ثمار المحبة التي تحتمل كل شيء وترجو كل شيء، صانعة رحمة وسلاماً.
رسم أحد فناني القرون الوسطى لوحة تمثل بطلين يتصارعان، وكان أحدهما على وشك التلاشي لأن خصمه كال له ضربات قاسية. إلا أنه في الجولة الأخيرة ظفر به في لقطة قاتلة، وبدلاً من أن يستغلها عفا عنه. وفيما هو كذلك، تمثل له المسيح فوق خشبة الصليب بشخصه يميل اليه ويباركه تشجيعاً وتكريماً، فجثا على ركبتيه. وفيما هو جاث سمع هذه العبارة: «بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم».
ازرع جميلا ولو في غير موضعه فلن يضيع جميل اينما زُرعا
أما أهم أعمال الرحمة، فهو العمل لخلاص الأنفس الهالكة.
فقد قال الرسول: «احفظوا أنفسكم في محبة الله، منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية. وارحموا البعض مميّزين، وخلصوا البعض بالخوف مختطفين من النار».
«من ردّ خاطئاً عن ضلال طريقه يخلص نفساً من الموت ويستر كثرة من الخطايا».
العظة - ٤٠ «طوبى لصانعي السلام» (متى ٥: ٩)
إن الإنسان عبقري حقاً، وقد مكّنته عبقريته من تغيير كل شيء ما عدا نفسه. فبالرغم مما يدَّعيه من صلاح يبقى هو هو، كما كان، ساقطاً، فاسداً، مبتدعاً شروراً. والخطية أيضاً بقيت هي هي، كما كانت منذ أن دخلت العالم ومعها الموت.
لقد حاول الناس أن يقللوا من فساد الخطية وشرها بإطلاق أسماء ملطفة عليها. فدعوها غلطة، وهفوة بسيطة، وزلة قدم، وجهالة وحماقة. ولكن هذه الأسماء الملطفة لم تستطع أن تغير الخطية أو تحد من أضرارها.
ومهما حاول الملطفون خداع أنفسهم، فجميع الناس خطاة وتبقى أجرة الخطية: المرض والفشل، والأمل الكاذب، واليأس والموت.
والموت أيضاً لم يتغير، مع أن الناس يحاولون التدخل في مصير الأموات، بإقامة الجنازات الحافلة، والصلوات عن أرواح الموتى.
ولكن كل هذه المحاولات لا يمكن أن تغير شيئاً بالنسبة للنفس التي لم تتصالح مع الله بدم المسيح ويبقى صوت الحق يدوي عالياً: لقد وُضع للناس أن يموتوا مرة، وبعد ذاك الدينونة.
فقط الذين فداهم يسوع، لا شيء من الدينونة عليهم، لأنهم تبرروا بالإيمان، فصار لهم سلامٌ مع الله بربنا يسوع المسيح.
هؤلاء المغبوطون وجدوا في فداء يسوع امتيازات تفوق بما لا يُقاس امتيازات السياسة وكل علم.
١ - لهم التبني: اذ حالما قبلوا يسوع مخلصاً صاروا رعية مع القديسين وأهل بيت الله. هكذا نقرأ في الانجيل: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه».
قال يسوع: «إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله... ينبغي أن تولدوا من فوق. المولود من جسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح».
٢ - لهم الرجاء الحي بقيامة يسوع من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ في السموات لأجلهم.
قال الواعظ الشهير سبرجن: «بدأ رجائي لما مات المسيح، وتثبَّت عندما قام المسيح من الأموات، وتقّوَى حين صعد الى السماء، وسيكتمل حين يأتي ثانية ليأخذني».
الرجاء لا يخزي، قال بولس. لا يخزي لأنه خُتم بالروح القدس، الذي يسكب محبة الله في القلب ويشيع الاطمئنان في النفس. لأن الرجاء هو المسيح بدليل قول الرسول: «المسيح فيكم رجاء المجد».
٣ - لهم السلام، سلام الله الذي يفوق كل عقل. «سلام لكم» قال المسيح لتلاميذه في أول لقاء بعد القيامة.
قالها وليس تحية عابرة، كالتي يتبادلها الناس عند التلاقي، بل كبركة عظمى مانحة لهم كل ثمار موته الكفاري عن خطاياهم، فصار هو سلامهم. فتبددت من قلوبهم مخاوف الماضي وشكوك الحاضر وقلق المستقبل.
«سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا».
أي شيء يعطينا العالم؟ أصدافاً من دون لؤلؤ؟ قشوراً من دون لب؟ سراجاً من دون زيت؟
العالم نفسه ليس له سلام، فكيف يستطيع أن يهبنا شيئاً ليس له؟
أما المسيح فهو رئيس السلام، وصانع السلام، وضامن السلام.
إنه وسيط صلحنا مع الله، وقد قتل العداوة بدم صليبه. وعقد رايات السلام بين السماء والأرض، فصارت الكلمة الرسولية إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم.
فيا لسعادة الذين قبلوه! هؤلاء صار كنبع سلامهم، وصار برُّهم كلجّ البحر. لأن سلامهم نابع من قلب المسيح الذي يخلّص كل من قَبِله من عقدة الذنب، التي تثير في الخاطئ الشعور بالدينونة.
إنه يعطي كل من قبله نعمة ورضىً لدى جميع الناس حوله. كما هو مكتوب «إذا أرضت طرق الرب إنسان يجعل أيضاً أعداء يسالمونه».
يا ليت كل واحد منا يسأل نفسه: هل طرقي ترضي الرب؟ هل أنا حريص على عمل ما يرضيه.
الرب قال: «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون» فهل أنا صانع سلام، أم أني أصرف الوقت في اهتمامات الجسد التي هي عداوة لله؟
قال الرسول: «إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون».
يا أخي اقمع شهوات جسدك فتحيا لله. هذا ميسور لك بالولادة من الماء والروح.
هذه الولادة هي أكثر من بداية جديدة، أو قلب صفحة جديدة، أو وضع تصميم جديد.
انها تغيير كامل للطبيعة القديمة المعبَّر عنها بالإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور.
«إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة (قال الرسول). الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً!».
الانسان العتيق غير قابل للإصلاح، لهذا يجب أن يُعلَّق على الصليب ليموت مع المسيح.
أرسل إنسانك العتيق الى جلجثة للموت صلباً، كما فعل بولس وعبَّر عنه بالقول: «مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ».
العظة - ٤١ «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (متى ٥: ٤٤)
الأعداء هم الأضداد الذين يلعنوننا، وقد أمرنا الرب بأن نباركهم. والمبغضون هم الذين يكرهوننا، وقد أمر الرب بأن نحسن اليهم. والمسيئون هم الذين يُلحقون الأذى بنا وقد أمرنا الرب أن نصلي لأجلهم. والمضطهِدون هم الذين يطردوننا، وقد أمرنا الرب بأن نحبهم.
وحين أقول «المضطهدون» لا أحصر الاضطهاد في التعذيب والطرد، لأن هناك اضطهاداً لا يقل عن التنكيل والتعذيب، وهو إطلاق اللسان على الغير بالافتراء والطعن بالسمعة.
اللسان السليط شر لا يُضبط، مملوءٌ سُماً مميتاً، وهو يضرم دائرة الكون بنار جهنم، لأنه نار عالم الإثم.
والألسنة السليطة متعددة، منها، اللسان اللاذع، وقد عبّر عنه داود بالحية والأفعوان، إذ قال: «سَنّوا ألسنتهم كحيّة، حُمة الأفعوان تحت شفاههم». وانطلاقاً من هذا التعبير وصف بولس الرسول الأشرار بقوله: «حنجرتهم قبر مفتوح. بألسنتهم مكروا. سم الأصلال تحت شفاههم فمهم مملوء لعنة ومرارة».
ومنها اللسان الفاسد وقد وصفه داود بقوله: «لسانك يصنع مفاسد، كموسَى مسنونة يعمل بالغش».
ومنها اللسان القتّال، وقد وصفه إرميا النبي بقوله: «لسانهم سهم قتَّال، يكلّم صاحبه بسلام، وفي قلبه يصنع له كميناً».
ومنها اللسان ناهش الكرامات، وقد اشتهر به أهل غلاطية قديماً، مما حمل الرسول بولس إلى شجب تصرفاتهم إذ قال: «إنْ كنتم تنهشون بعضكم بعضا، وتأكلون بعضكم بعضا، فانظروا أن لا تفنوا بعضكم بعضاً».
«من فضلة القلب يتكلم الفم» قال الرب يسوع. فان تكلم رديئاً يدل على رداءة القلب، وإن تكلم بالكذب والنميمة يكون دليلاً على التواء القلب وحب الخصام والتفرقة، فقد جاء في الأمثال: «رجل الأكاذيب يطلق الخصومة، والنمام يفرّق الأصدقاء».
قال يسوع: «الإنسان الصالح، من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح، والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر».
اللسان أداة غريبة تجمع النقيضين، لأنه كما قال الرسول يعقوب: «من الفم الواحد تخرج بركة ولعنة، به نبارك الله الآب، وبه نلعن الناس الذين تكونّوا على شبه الله».
قد يجد أحدهم وسيلة ما ليغطي عيوب لسانه، في كون ما يقوله عن الغير صحيحاً. ولكن هذا لا يبرره أمام الله، لأن فيه خروجاً على مبدأ المحبة التي لا تقبّح، بل تستر كثرة من الخطايا.
صحيح انه يوجد نقد يؤدي للبنيان، ولكن هذا يجب أن يكون بلطفٍ، بعيداً عن التشهير، لئلا يأخذ شكل الذم، وحينئذ يخالف الوصية الرسولية القائلة: «لا يذم بعضكم بعضاً أيها الإخوة. الذي يذم أخاه يذم الناموس ويدين الناموس. فإن كنت تدين الناموس فلست عاملاً به، بل دياناً له. واحد هو واضع الناموس، القادر أن يخلّص ويهلك. فمن أنت يا من تدين غيرك؟».
قال أحد الحكماء: «لا تقذف أحداً بالوحل، لأنك إما أن تصيب الهدف وإما أن تخطئه. ولكن من الأكيد أن الوحل يلوث يديك في كلتا الحالتين».
النبيل النبيل، هو من لا يبتسم قط في وجه مُشيع المذمة، بل يقابله بنظرة استياء تحمله إلى التوقف عن نهش سيرة الغير، كما قال إمام الحكماء سليمان: «ريح الشمال تطرد المطر، والوجه المعبس يطرد إنساناً ثالباً.
الذم شكوى قبيحة جداً، وهي من عمل الشيطان. فلا تشترك في أعمال الشيطان المشتكي على الإخوة ليلاً ونهاراً.
الذم من أعمال الظلمة، وقد جاء في الوصايا: «لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحري وبّخوها».
الشفاه التي اشتراها المسيح بدمه يجب أن تُصان من نجاسات الذم ورجاسات التكلّم بالغش.
الذم كلام قبيح وقد قال الرسول: «اطرحوا عنكم الكلام القبيح».
الذم كلام رديء وقد قال الرسول: «لا تخرج كلمة رديّة من أفواهكم، بل ما كان صالحاً للبنيان،حسب الحاجة، كي يعطي نعمة للسامعين. ولا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء». ومعنى هذا أن الكلام الرديء يُحزن الروح القدس الذي هو الله فينا.
«أحبوا أعداءكم. إن أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم؟ أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك؟».
ولقد أراد السيد الرب بهذه الوصية أن يرفع مستوىالمحبة فوق مستوى الإنسان الطبيعي، الذي لا يستطيع أن يحب أعداءه، ولا يقدر أن يتمالك روحه، اذا ما انتُقد، بل يثور وينتابه الحزن الشديد. بعكس الذين وُلدوا من الله بقبول يسوع المسيح، الذين حل المسيح بالإيمان في قلوبهم فأسّسهم وأصّلهم في المحبة التي تحتمل كل شيء، فصاروا إلى شبه ابن الله في الوداعة واللطف وطول الأناة، فصار فيهم فكر المسيح من جهة التواضع ونكران الذات، الذي يتيح لهم القوة لأن يتمثلوا به، فيحبّوا أعداءهم، ويصلوا لأجل المسيئين اليهم كما فعل المسيح فقال: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.
هذا هو ناموس روح الحياة في المسيح يسوع: محبة متأنية مترفقة متحملة صابرة غافرة.
وهذا هو نير المسيح الذي طلب إلينا أن نحمله لنجد راحةً لنفوسنا.
فإن كان أحدٌ مدعّواً أخاً، لا يستطيع العمل بموجب هذا القانون، يكون كيانه الأدبي لم يتخلص نهائياً من الانسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور. ولذلك يحب أن يرسله الى جلجثة، ليُصلب مع أهوائه وشهواته. لأنه ما دام هو هنا، لن يكون في وسعه أن يلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق.
قف يا أخي في جلجثة، واطلب الى رب المجد أن يصلب طبيعتك على رجاء قيامتك، لتسلك في جِدَّة الحياة، وحينئذ ستلاحظ انه صيَّرك الى ما سمّاه بولس: «إنسان الله الكامل، المتأهّب لكل عمل صالح».
هذا الانسان المخلوق جديداً في طبيعة المسيح يُحدث تحوّلاً جذرياً في العواطف والأهداف. انه يفرغ الإنسان من ذاته ويملأه بالروح القدس الذي هو روح المحبة والوداعة.
هكذا قال السيد الرب: «واجعل روحي في داخلكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها».
هذا وعد إلهيّ يطيب للنفس المؤمنة أن تسمعه لأن الله لم يعطنا وصايا فقط، بل أيضاً وعد أن يعيننا على حفظها. لنعلم من شهادة كثيرين أن كل الذين سلكوا كما يحق لدعوته ساعدهم روح الله على طاعة وصاياه.
وما أجملها من مكافأة تلك التي وعد بها حافظي شهاداته! فقد قال الرب له المجد: «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني. والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه، وأُظهر له ذاتي. إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً».
العظة - ٤٢ «وأما أنت فمتى صلّيت فادخل الى مخدعك واغلق بابك وصلّ الى أبيك الذي في الخفاء» (متى ٦: ٦)
«ادخل إلى مخدعك واغلق بابك» والقصد من هذه العزلة ان يتهيأ للمصلي مكان هادئ للإنفراد بالآب السماوي، الأمر الذي كان يطلبه المسيح في أيام جسده حين كان يريد أن يصلي. بهذا أخبرنا مرقس الانجيلي: «في الصبح باكراً جداً، قام يسوع إلى موضع خلاءٍ ليصلي». وأخبر متى أن يسوع بعد أن أشبع الجماهير من سمكتين وخمسة أرغفة، صعد إلى الجبل ليصلي. وأخبر لوقا أن يسوع بعد أن شفى ذا اليد اليابسة خرج إلى الجبل ليصلي. ولعلها من هنا انطلقت تسمية الانفراد مع الله «الصعود الى جبل الشركة».
ولقد أدرك رجال الفكر المخلصون أهمية الصلاة الفردية فاهتموا بها. فكارليل الفيلسوف كتب الى أحد أصحابه قائلا: «الصلاة الفردية هي أسمى وأعمق مظهر طبيعي للنفس المؤمنة. وستبقى هكذا إلى ما شاء الله. حين نتأمل تعليم الصلاة كما ورد في عظة المسيح على الجبل، نرى أن الرب قد صّور مخدع الصلاة متلألئاً بحضور الآب، إذ نلاحظ ذكره ثلاث مرات. قال: «صلّ الى أبيك» «أبوك يجازيك علانية» «أبوكم يعلم ما تحتاجون إليه».
فأنعِم بالمخدع من مكان هادئ يطيب للمؤمن أن يتمتع فيه بأبيه القدوس. فالنور الذي يسطع فيه هو نور محياه، والهواء المنعش الذي يملأ جّوه هو نسيمات حبه الأبوي. وقد عُرف بالاختبار أنه حين يأتي أحدنا إلى حضرة الآب بالمسيح فلا بد أن تجد صلاته نعمة وتنال البركات التي وعد بها المسيح حين قال: «كل كل ما تطلبونه بالصلاة مؤمنين تنالونه».
من يصلي مؤمناً بيسوعٍ لا يخيب باسمه الآب لنا كل حين يستجيب فهو للكل يقول اسهروا يا مؤمنين فالتجارب تزول إن تصلوا شاكرين
«ادخل الى مخدعك واغلق بابك» وكأنه بهذا الاحتياط يأمر المصلي بالتكتّم لئلا يكون كالمرائين، فانهم يحبون أن يصلّوا في المجامع وزوايا الشوارع ليظهروا للناس. هؤلاء لهم رغبة في اكتساب تقدير الناس أكثر من رضى الله. أما الرب فيقول: اغلق بابك يا مصلي، لتنفصل عن العالم، فتكون لك خلوة مع الآب الذي ينتظر قدومك إليه بشوق.
قال أحد الأتقياء: «حين تغلق بابك وتنفرد في مخدعك لا تقل في نفسك: أنا وحدي، بل اذكر أن الله هناك».
والقول «ادخل الى مخدعك واغلق بابك» لا يعني أن الانفراد مع الله لا يجوز إلا ضمن غرفة مغلقة، بل القصد أن يتهيأ للمصلي مكان خلوة هادئ ليسجد فيه. ويمكن أن يكون ذلك في الحقل، كما فعل اسحق، أو تحت التينة كما فعل نثنائيل، أو على السطوح كما فعل بطرس، أو على الجبل كما فعل يسوع.
«صلّ الى أبيك الذي يرى في الخفاء» عالماً أن الله لا يرى بعين الجسد، بل بعين الايمان. ان نوره يشرق في قلب كل ساجد ينفصل عن العالم المنظور ويسلم قياده لروح المسيح، الذي يدخله الى حضرة العزة الالهية. والحقيقة أن المخدع السري والباب المغلق والانفصال عن كل ما حولنا، هي وسائل تهيئ لنا ذلك المقدس الروحي الهادي، الذي يتيح لنا التأمل العميق في كمالات الله وفي حبه الذي اتخذ شكل الأبوة.
كثير من المسيحيين يَشْكون من أن صلواتهم ليست على ما يُرام، وانهم خلال ممارستهم إياها ندر ما يتمتعون بفرح داخلي. وتبعاً لذلك تنقبض صدورهم وتنثني عزائمهم وينصرفون عن الصلاة، ظانين انهم لا يستطيعون الظهور في حضرة الآب. هؤلاء يحتاجون الى مقابلة مع يسوع المخلص قبل المثول أمام عرش النعمة، وحريٌّ بهم أن يدرسوا كلمة الله في موضوع الصلاة. عندئذ يعرفون أنه قبل أن يعزم أحد على الانفراد بالآب يجب أن يذكر أن الآب قدوس ولا يدنو منه إلا كل مقدس.
هكذا نقرأ في الكلمة الرسولية: «اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لا يقدر أحد أن يرى الرب». يخبرنا الكتاب المقدس ان موسى حين اقترب من العليقة المتقدة في جبل حوريب ناداه الله: «يا موسى، لا تقرب الى هنا لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة».
يا أخي، قبل كل شيء عرِّض نفسك لفحص الروح القدس، وقل مع المرنم: «اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري، وانظر إن كان فيّ طريق باطل، واهدني طريقاً أبديا... قلباً نقياً اخلق فيّ يا ألله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي». فحين يتنقَّى قلبك بكلمة المسيح ويتجدد ذهنك بروح المسيح، يُدخلك المسيح الى حضرة الآب. وحينئذ لا يكون همك قلة ما تقدمه للآب السماوي بل يكون فرحك بكثرة ما يريد الآب المحب أن يفيض به عليك من بركاته. وحينئذ يقوم فيك شوق أن تنظر إلى جمال الرب وتتفرس في هيكله، ويتيح لك الرضى الإلهي أن تسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام. «أبوك السماوي الذي في الخفاء يجازيك علانية».
لكأنه يؤكد لنا أن صلاة الايمان السرية يستحيل أن تكون بلا جزاء، لأن الصلاة الصادرة من قلب نقي يقابلها وعد الله بالاستجابة، وفقاً لقوله: «ويكون أني قبلما يدعون أنا أجيب، وفيما هم يتكلمون أنا أسمع».
قال أحد الأتقياء: «خزانة الله مليئة بالبركات، وصلاة القلب النقي مفتاحها. والايمان يحرك المفتاح، واسم يسوع يفتح الباب». يسوع الذي قال: «كل ما تطلبونه من الآب باسمي فذاك أفعله» ما زال هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد وسيطنا مع الآب، وهو يحرضنا دوماً على السؤال باسمه قائلا: «اسألوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً». انه يهمس في آذاننا تلك الكلمة الحلوة: فأبوكم الذي يرى في الخفاء يجازيكم علانية. ويختم الرب يسوع درس الصلاة بقوله: «لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه». بمعنى أنه ليس لنا حاجة إلى كثرة الكلام في أمر حاجاتنا. ولعله أراد أن يعلمنا أن الإكثار من ذكر حاجاتنا يقلل من جمال الصلاة، إذ يجعلها تدور حول الذات مثل صلاة الفريسي الذي ذكره المسيح. وبالتالي فإن الإكثار من ذكر الحاجات يفّوت علينا الامتياز المتضمَّن في قول الله: «ذابح الحمد يمجدني، والمقّوم طريقه أُريه خلاص الله». «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم».
لا بد أن رسالة الله هذه كشفت أن علاقتنا الفردية مع الله تحتاج الى إعادة نظر. ولعلها أظهرت لنا أن مذبحنا الفردي في حاجة الى ترميم، أو ربما تكشف لبعضٍ منا أنْ ليس له مذبح فردي بالمعنى الصحيح. ولكن الفرصة سانحة لنعيد النظر، ونرمم ونبني أيضاً. وكم سيُسر الله حين نقدم له ذواتنا ذبائح حية مقدسة، عبادتنا العقلية. وليكن يقيننا أن الآب في انتظارنا ليهبنا فرحه الأعظم. ولنثق في إلهنا أنه صادق وأمين، وأنه يعطي الجميع بسخاء ولا يعيّر.
العظة - ٤٣ «لا تهتموا للغد» (متى ٦: ٣٤)
في العظة على الجبل كشف الرب يسوع عن سر السعادة، وعلّم سامعيه أن يتجنبوا العوامل التي يمكنها أن تشّوش على السعداء فقال: «لا تهتموا للغد قائلين: ماذا نأكل وماذا نشرب وماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذه كلها تُزاد لكم».
ولم يقصد الرب بقوله هذا أن لا نفكر في أمر حاجاتنا، لأنه ان كان قد أعطانا عقولاً فلكي نفكر بها. وإنما قصد أن لا نرتبك بأمور الحياة الى درجة أن يصير اهتمامنا هماً وقلقاً. ومع ذلك فقسْم كبير من الناس أساءوا فهم قصد السيد، فراحوا يتهمون المسيحية بأنها روحانية غير واقعية، وأنها حياة تواكل وتخاذل. وقد فاتهم أن يميّزوا بين المتواكل الكسول وبين المؤمن الواثق في الله. ولم يعلموا أن أسعد الناس إطلاقا هم المؤمنون الذين يضعون ثقتهم كاملة في الله، ويؤدون أعمالهم المطلوبة برضى مغتبط.
ان أعظم ما يشغل بال الناس في زمننا هو المال، ولكن المال ليس هو كل شيء في الحياة. فقد نخسر المال، أو قد يستعبدنا البخل والطمع فنعيش وكأننا أفقر الناس.
كالعِيسِ في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
أما ثقتنا في الله فهي تضمن لنا العناية المستمرة والسلام الكامل مع القناعة.
في أحد أمثاله كلّمنا يسوع عن طيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع الى مخازن، ولكن الله يقوتها ويضمن غدها. وكأنه يقول: ان كانت عناية الآب السماوي تشمل حتى الطيور أفلا يهتم بالأَوْلى بشعبه. طبعاً إنه يهتم، أولاً لأننا أفضل من الطيور، إذ ليس للطيور نفساً خالدة. وثانياً لأن الله بحسب إعلانات المسيح هو آب لنا محب. وما سمعنا إن أباً أرضياً يحب طيوره أكثر من أبنائه. فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي خيرات لأبنائه؟!
وفي مثل آخر كلّمنا عن زنابق الحقل، التي لا تتعب ولا تغزل، ومع ذلك فالله يُلبسها حللاً أبهى من حُلل سليمان في مجده. الزنابق تعيش ساعات معدودات، ومع ذلك فالله يلبسها حللاً بالغة الروعة، ويهتم بها ويسبغ عليها كل هذه الجمالات. فكم بالحري نحن أفضل منها! وكأني بالمعلم الصالح استنطق الزنابق هذا المثل الرائع ليعلمنا درساً مهماً في الخير والجمال. أراد أن تكون لنا قناعة الزنبقة التي تكتفي بالارتواء من ندى الليل وبالاستحمام في أشعة الشمس كل صباح فتبتسم برضى وسرور. وكما أن الزنبقة هي مثال الجمال ينبغي أن نلبس جمال الروح الوديع الذي هو عند الله كثير الثمن، وأن نلبس المحبة التي هي رباط الكمال، وأن نلبس كمختاري الله القديسين أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة.
وكما أن الزنبقة هي رمز السلام، أراد مسيحنا أن يخلق من كل واحد منا انساناً جديداً صانعاً سلاماً، وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون. وكما أن الزنبقة تحتفظ بنقاوتها وعبيرها بالرغم من الخنافس التي تدور حولها، هكذا يريد فادينا أن نحتفظ بنقاوة قلوبنا في وسط جيل معوج وملتوٍ نضيء بينهم كأنوار متمسكين بكلمة الحياة.
«لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟» هكذا قالها الرب لأنه يعلم ضعف الانسان وأنانيته المتأثرة التي سرعان ما توقعه في الطمع الذي هو من شر فخاخ الشيطان. ولذا شاءت حكمته الفائقة أن تحذر أولاده من الأخطار التي تكمن في المادة وخصوصاً المال.
قال له المجد: «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الاخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال. «إن زاد الغنى فلا تضعوا عليه قلباً».
«لا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شرّه» هكذا قال الرب، فكشف لنا عن وجود شر يومي، علينا أن نواجهه. فما هو هذا الشر؟ انه يتكون أولاً: من الرواسب التي خلفتها لنا معاكسات الأمس. وثانياً: من همّ اليوم الذي نحن فيه، والذي بعدم حكمتنا نضيف إليه همّ الغد، الذي قد لا نراه اطلاقاً. وهذه المجموعة من الهموم هي قسم من حياة الناس، والحكمة تقضي علينا بأن لا نجسّمها بالأوهام المتشائمة التي إن دلت على شيء فعلى عدم الثقة في الله. هذه الهموم يجب علينا أن نواجهها ببساطة الثقة في إخلاص الله وصلاحه، الذي عينه على أمناء الأرض، والذي قال: «لا أهملك ولا أتركك. عيني عليك».
«ملقين كل همكم عليه لأنه يعتني بكم» قال الرسول بطرس. «الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، فكيف لا يهبنا معه كل شيء؟» الله صالح، إلى الأبد رحمته، وإلى دورٍ فدور أمانته، وهو لا يريد أن نكون من المتشائمين الذين ينظرون الأشياء من جهتها المظلمة، فلا يرون إلا الشر مزمعاً أن يقع بهم. التشاؤم هو نقصٌ في الإيمان وعامل شديد في قتل الرجاء وإضعاف المحبة.
وماذا يستفيد الانسان من مبالغته في الاهتمام إلا أن يصبح اهتمامه عبئاً ثقيلاً، فيقوم في نفسه ألف سؤال من فئة: لماذا وكيف؟ ولكن كما قال الرب: «مَنْ منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعاً واحدة؟» صحيح أن لكل يوم شره، ولكن في كل يوم توجد أشياء أخرى غير الشر. توجد المحبة التي هي رباط الكمال، ويوجد الفرح في الروح القدس، ويوجد الخلُق الكريم، ويوجد الحق، وتوجد الرحمة ويوجد العطاء المسرور الذي يحبه الله.
الحياة عند الواقف في ضوء وجه الله جميلة وسعيدة، أما عند المرتبك بأمور الحياة وغرور الغنى فهي عبء ثقيل. أعندك همّ؟ ألقِ على الرب همك، فهو يعولك ولا يدع الصديق يتزعزع. أمتعَبٌ أنت؟ اذهب الى مريح التعابى الذي ينادي كل يوم: تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. أعليك مشقات؟ صلِّ، فصلاة البار تقتدر كثيراً في فعلها.
واليوم مرحلة زمنية مدتها أربع وعشرون ساعة. وهذه الساعات وما يليها من أيام وشهور وسنين كلها في يد الله الذي قال «لا أهملك». إنه يعلم حاجاتنا ويكافح معنا ويهمس في أذن كل منا: «لا تخف لأني فديتك. دعوتك باسمك. أنت لي». وما دمنا له، فلماذا نرتبك بأمور الغد ونجعل المأكل والملبس هماً لنا؟ هلاّ ذكرنا قوله: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله».
«مرثا مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد». ما أقصر نظر الذين يضطربون لأجل طعامهم ولباسهم. هؤلاء علاقتهم بالله تقتصر على تذكيره بواجباته نحوهم، وغالباً تنصب صلواتهم في قالب وحيد «هات» وما أقل ما يقومون بالتزاماتهم نحو الله الذي منه وبه وله كل الأشياء. ومع أن الرب يقول: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ، قلما يبسطون أكفّهم بالعطاء.
«اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه وهذه كلها تُزاد لكم» قال يسوع. فما أجمل وما أنبل الحياة المكرسة الواثقة في الله، التي تطلب ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. قد لا يسمح الله أن نتناول طعامنا في صحاف من الفضة، ولكنه يهبنا مع الكفاف اليومي سلامه الكامل. وحسنا قال الرسول: «التقوى مع القناعة تجارة عظيمة. لأننا لم ندخل إلى العالم بشيء وواضح اننا لا نقدر ان نخرج منه بشيء».
قال سليمان الحكيم: «لقمة يابسة معها سلامة خيرٌ من بيت ملآن ذبائح مع خصام».
أجل! « يكفي اليوم شرّه». ولو تبعنا مشورة الرب في هذا الشأن وسرنا بموجبها في حياتنا يخلّصنا من أخطار أمراض هذا القرن، أعني به القلق! فقد دلت الاحصائيات على أن ما يُباع في العالم من أدوية منّومة يتجاوز أضعاف ما يُباع من جميع الأدوية الأخرى. وهذا يدل على أن معظم الناس في قلق مستمر وخوف دائم مما سيأتي به الغد. فما أحرانا أن نضع ثقتنا في المسيح الذي قال: «أنتم أفضل من عصافير كثيرة».
المسيح هو هو، الأمس واليوم وغداً وإلى الأبد، فهو إله الأمس، وهو إله اليوم وإله الغد وما بعده إلى انقضاء الدهر.
يا أخي تأكد أن مع همّ كل يوم يوجد اهتمام الرب ووعده «لا أهملك». وان مع شر كل يوم يوجد صلاح الله الذي قال: «كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله». وما أحلى قول المرنم: «أما المتكل على الرب فالرحمة تحيط به». ومع أحزان كل يوم، توجد تعزيات الله بالروح القدس ويمين المسيح التي تمسح الدمعة من عيون مختاريه. ومع نقائص كل يوم، يوجد ملء المسيح ونعمة فوق نعمة. ومع جهالات كل يوم توجد رحمة الله بالغفران، وهو غني في الرحمة ومحبته كثيرة. ومع ضعفات كل يوم توجد قوة الله، الذي قال: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل».
فلنثق في الله لأجل احتياجاتنا، لأنه مكتوب: «اتقوا الله يا قديسيه، فليس عوز لمتقيه. الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير».
ولنسلك بالمحبة لأنه حيث توجد المحبة يوجد الله، وحيث يوجد الله يوجد السلام، وحيث يوجد السلام لا يكون همّ ولا قلق.
العظة - ٤٤ «ليس كل من يقول لي: يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات» (متى ٧: ٢١)
من المسلَّم به أن معرفة إرادة الله هي ألزم الأمور للإنسان، لذلك شَغَلت أفكار الأتقياء منذ البدء، الى أن أُعلنت لموسى مكتوبةً ومشروحة في الناموس. وبعد موسى توالى الإعلان الإلهي بالأنبياء إلى أن جاء ملء الزمان. فأعلنها الله بابنه يسوع المسيح.
وفي هذا يقول الرسول: «الله، بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة بابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين. الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته». ويفيدنا التأمل في الإعلانات التي أُعطيت تباعاً أن إرادة الله من جهة البشر هي:
١ - أن يعرفوا الحق المخلّص: إن الله يريد أن الجميع يخلصون والى معرفة الحق يُقبلون. وانما معرفة الحق المخلص لا تنال إلا بمعرفة الرب يسوع الذي هو المخلّص، وهو الطريق والحق والحياة. فقد قال له المجد: «كل شيء دُفع اليّ من أبي. ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له. تعالوا اليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم». هذا هو الحق الالهي الذي أعلن لتلاميذ الرب فقبلوه وعلّموا به طريقاً وحيداً لبلوغ الحياة الأبدية. فقد كتب يوحنا: «ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية».
وقد دلنا الرسول بولس على الوسيلة العملية لمعرفة ارادة الله اذ كتب لأهل رومية: «فأطلب إليكم برأفة الله، أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية. ولا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم. لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة». إننا مدعّوون لاختبار إرادة الهنا ولحفظ أنفسنا حسب إرادته. وانا لواجدون صعوبة في ذلك بسبب ضعف إيماننا في الماضي، مما أورثنا فتوراً وانجذاباً لتيارات الشهوات الجسدية. ولنهوضنا ليس أمامنا إلا تسليم الإرادة للروح القدس، لأننا حين نسلك حسب الروح لا نكمل شهوة الجسد.
قالت فتاة لأبيها: يا أبي، لست أعرف كيف أن نفس الريح تدفع السفينة في اتجاهات مختلفة. فقال لها: «إن الأمر يا بنتي يتوقف على الوضع الذي تكون عليه القلاع». فليتك يا أخي تضع قلاع سفينة حياتك في مهبّ الروح القدس، فيدفعك في اتجاه إرادة الله الصالحة المرْضيّة الكاملة، الى السماء عينها حيث مسكن الله مع الناس.
٢ - قداستهم: «هذه هي إرادة الله قداستكم. أن يعرف كل واحد منكم أن يقتني إناءه بقداسة وكرامة»(٢ تس ٤: ٣) وقال بطرس: «نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة». وقال بولس في أفسس ١: ٤ إن الله اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة. وجاء في الرسالة الى العبرانيين: «اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب». قال اندرو مودي: «ان أبرز مظاهر التسليم لإرادة الله هو التسليم لها للقداسة».
٣ - خيرهم: قولوا للصديق خير، قال إشعياء النبي. وقال الرسول: «كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوون حسب قصده». حتى التجارب نفسها هي لخير الإنسان، إن هو عرف كيف يتجاوب مع إرادة الله. فقد قال الرسول يعقوب: «احسبوه كل فرح يا إخوتي حين تقعون في تجارب متنوعة. عالمين أن امتحان إيمانكم ينشئ صبراً، أما الصبر فليكن له عمل تام. لكي تكونوا تامين وكاملين وغير ناقصين في شيء. وانما إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي بسخاء ولا يعير، فسيُعطى له».
في مقارنة بين يوسف وموسى قال رجل الله الدكتور ماير: «إن يوسف لم يقف على الجبل المقدس كموسى حين ظهر له الرب. ولكنه وقف في السجن الذي صيّره هيكلاً مقدساً بصبره وخضوعه لإرادة الله. وفي أعماق سجنه رأى ما لم يستطع أن يراه من قبل. رأى أعماق محبة الله تحّول كل الأشياء لخيره».
كان الواعظ المشهور جون وسلي يسير ذات يوم بمحاذاة النهر، وفجأة هبت العاصفة وومضت البروق وقصفت الرعود، فطارت العصافير فزعة هنا وهناك. إلا أن واحداً منها وقد ضيّقت العاصفة عليه الخناق طار نحو وسلي ودخل تحت معطفه، فأمسكه برفق وجاء به الى البيت. وهناك وضعه في قفص حتى هدأت العاصفة. وفي صباح اليوم التالي أطلقه في الحرية. وقد تأثر وسلي من كيفية احتماء العصفور به، فكتب ترنيمته المشهورة التي مطلعها:
يا يسوع نجني يا مخلصي الحبيب حينما يغمرني فائق الماء المذيب احفظني مخبئاً يا مخلص الخطاة ريثما عني تزول عواصف الحياة
كان في التجاء هذا العصفور إلى وسلي درس رائع. يعلمنا كيف نحتمي في كنف الله حين تعصف بنا الصعوبات، ويحاول اليأس ان يستولي علينا ويثبط عزائمنا.
قالت أعجوبة القرن العشرين هيلين كلّر التي تعاني من فقد حواس البصر والسمع والنطق: «النقص في حواسي لا يدفعني الى اليأس، فأنا سعيدة بذاك الذي قال لبولس: تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل». فشكراً لله الذي لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح. شكراً للذي قال: «روح السيد الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأعصب منكسري القلوب، لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالاطلاق ...لأعّزي كل النائحين... لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد، ودهن فرح عوضاً عن النوح، ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة. فيُدعَون أشجار البر، غرس الرب، للتمجيد».
قد يقول البعض: إن إرادة الله عميقة حتى تعجز أفكار كبار الفلاسفة عن ادراكها. قال الله: «أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي. لأنه كما علت السموات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم». ولكن ما تعجز عنه إفهام الفهماء، وتقصر عن إدراكه أفكار المفكرين، فهذا أدركه البسطاء الذين استناروا بكلمة الله وبروح إلهنا.
قال داود المختبر: «فتْح كلامك ينير يعقّل الجهال. شهادات الرب صادقة تصيّر الجاهل حكيماً. وصايا الرب مستقيمة تفرّح القلب. أمر الرب طاهر ينير العينين».
أما وقد دُعينا لنختبر إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة، وقد علّمنا المسيح في الصلاة الربانية ان نطلب: «لتكن مشيئتك». فلنطلب إلى إلهنا بإيمان أن يدربنا في حياة التسليم لمشيئته، حتى يكون هو العامل فينا وبنا لنَشْر ملكوت المحبة والسلام.
قال رجل الله توما الكمبيسي في صلاته: «اللهم أنت أعرف منا بأحوالنا. فافعل بنا ولنا ما تشاء وكما تشاء. أعطنا ما تشاء وقدر ما تشاء. تصرَّف بنا كما تراه صالحاً في عينيك. اللهم ضعني أينما أردت، واستخدمني كما يرضيك. ها أنا عبدك المستعد لإتمام إرادتك الإلهية. إني لا أريد أن أحيا لذاتي بل لك».
يا لها من صلاة جديرة بأن نتخذها مثالاً ونموذجاً في طلب مشيئة الله. وإنها لتذكرني بتصرف شاول الطرسوسي حين أعلن الرب يسوع له ذاته على طريق دمشق فقال شاول: «يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟» وما أجمل أن يردد كل واحد منا هذه العبارة نفسها في مخدعه. فلنردّدها بروح الصلاة والانتظار، متمثلين بداود حين قال: «انتظر الرب، وليتشجع قلبك وانتظر الرب».
العظة - ٤٥ «عيد الشكر» (لوقا ٢١: ٢ - ٤)
وقف رجل غني مع ضيفه القسيس في شرفة قصره الفخم، وأشار بيده نحو الشمال وقال بلهجة المتفاخر: «انظر كل هذه الحقول الممتدة أمامك. هي لي» ثم التفت نحو الشرق وقال: «هذه الحقول أيضاً لي». وهكذا قال وهو يشير نحو الجنوب والغرب.
فرمقه القسيس بنظرة رثاء، ثم أشار بيده نحو السماء وسأل: «وماذا لك هناك؟» فخجل الرجل الغني ولم يحرِ جواباً، ولعله كان في صمته أبلغ منه في كلامه. فهو لم يهتم قط بما فوق. كان يكنز لنفسه، وليس هو غنياً لله!
ويا له من فرق عظيم بين هذا الغني والوكيل المسيحي الأمين الذي إذا زاد غناه لا يضع عليه قلباً، والذي كلما تقدم في الإيمان يزداد حنينه إلى ديار الرب، حيث يتوقع أن يلتقي يوماً بالمحبين الذين أشركهم في خيراته الأرضية. هناك سيدخل إلى فرح سيده ويسمع كلمة يسوع الحلوة: «كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير».
كان عيد الشكر في القديم تظاهرة تعبدية تتميز بوفرة العطاء امتثالاً للوصية القائلة: «لا تحضروا أمام الرب فارغين. كل واحد حسبما تعطي يده. كبركة الرب إلهك الذي أعطاك».
قد يتخذ البعض من رقة حاله سبباً للتنصّل كلياً من العطاء، لكأن الشكر وَقْفٌ على الأغنياء ومتوسّطي الحال. هذا خطأ، لأنه متى كان الفقر يمنع مسيحياً مكرساً من الإعراب عن حبه لله؟
لنأخذ المثل من الأرملة التي امتدح يسوع سخاءها، مع أنها لم تلقِ إلا فلسين في قرابين الله. وقد امتدحها له المجد لأنها أعطت من أعوازها كل المعيشة التي لها. كانت فقيرة بمواردها المادية ولكنها كانت غنية بمحبتها لله. من أجل ذلك أُعجب بها يسوع واتّخذ عملها الرائع مثالاً ليعلّمنا أن قيمة الإنسان ليست في ما يملك، بل في ما يقدم من ثمار محبته.
إن الذي ميّز تلك الأرملة عن كثيرين من الأغنياء، هو أنهم يضعون القلب والرجاء مع الأموال المكنوزة، أما هي فإذ أعطت كل معيشتها دلت على أنها ألقت رجاءها بالتمام على الله. وهي مؤمنة بما كُتب في المزمور ٣٤: «اتقوا الرب يا قديسيه، لأنه ليس عوز لمتّقيه. الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير». فقال يسوع: «بالحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع، لأنها من أعوازها أعطت، ألقت كل ما عندها، كل معيشتها. لم يلمها يسوع لأنها أعطت ما كانت هي في حاجة إليه، بل امتدح كرمها وغبَّط ارتضاءها ببذل كل ما تملك لمجد الله. ولعلها كانت من الذين سمعوا عظته على الجبل وتأثروا بقوله: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه، وهذه كلها تُزاد لكم».
قيل إن صديقاً للدكتور أغاسيني أبدى اندهاشه من أن عالماً مثله يرتضي بأن يعيش حياة متوسطة ولا يسعى لزيادة امواله، فأجابه الدكتور العالِم: «عندي من المال كفايتي، ولست أريد أن أجمع أكثر، لأن الحياة قصيرة بحيث لا تتيح للإنسان الاهتمام بجمع المال والاهتمام بملكوت الله وبره».
نسمع أحياناً عن ملوك ورؤساء يودعون أموالهم في مصارف سويسرا حيث يوجد قانون سرية المصارف، حتى إذا فقدوا مراكزهم وصودرت مقتنياتهم بقي لهم الرصيد الذي اكتنزوه في سويسرا. وهذه حكمة يجب أن نتعلمها، فنحّول قسماً من أموالنا، ولكن ليس الى سويسرا بل إلى السماء، إلى بنك الله. هكذا قال المسيح: «بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة. اعملوا أكياساً لا تفنى وكنزاً لا ينفد في السموات، حيث لا يقرب سارق ولا يُبلي سوس، لأنه حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك أيضاً».
قد يجد كثيرون صعوبة في حفظ هذه الوصية، لكأنه صليب بالنسبة لهم. ولكن ألم يأمرنا المسيح بأن ننكر أنفسنا ونحمل الصليب ونتبعه؟
هذا هو الدرس الذي تعلمته الكنيسة الأولى وعملت به ونجحت فيه، إذ يخبرنا لوقا في سفر الأعمال أنه كان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له، بل كان كل شيء عندهم مشتركاً.
«أعطوا صدقة» هذا هو ثمر الحياة. «اعملوا أكياساً لا تفنى» هذا هو روح المحبة التي تفرح بالعطاء أكثر من الأخذ. بيعوا الأرضيات وخذوا بها تحويلاً الى السماء، لأنه مكتوب: «من يحسن إلى الفقير يقرض الرب».
أعطى مزارعٌ قسماً كبيراً من محاصيله للرب بمناسبة عيد الشكر، فسأله أحد الأصدقاء: «كيف يمكنك أن تعطي بهذا المقدار؟» فقال: «إني أجرف من محاصيلي إلى مخازن الله، والله يجرف بركاته إلى مخازني. والله أقدر مني على الجرف، ومراحمه هي كل يوم». لقد اختبر هذا الانسان قول الرسول: «من يزرع بالبركات فبالبركات يحصد».
«اكرم الرب من مالك ومن باكورات غلتك (قال سليمان في سفر الامثال) فتمتلئ خزائنك شبعاً وتفيض معاصرك مسطاراً».
ان جميع ما يسمى قرابين الله يجب أن نوقره وأن نقدمه حسب طاقتنا وفوق طاقتنا.
هكذا فعل فقراء كنائس مكدونية الذين قال عنهم الرسول: «إنهم في اختبار ضيقة شديدة فاض وفور فرحهم وفقرهم العميق لغنى سخائهم، لأنهم أعطوا حسب الطاقة وفوق الطاقة»(٢ كو ٨: ٢). وعزا الرسول وفرة سخائهم لأنهم أعطوا أنفسهم للرب أولاً. وطبيعي أن من يعطي نفسه للرب أولاً يكرس أيضاً وقته وماله للرب.
وسنَّ الرب يسوع قانون العطاء هكذا: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله».
قيل إن سيدة معروفة بفقرها جاءت إلى إحدى الإرساليات وطلبت أن تكتتب ببنس واحد في الأسبوع فقال لها المسؤول: «أنت فقيرة لا قبل لك على بذل المال». فقالت: «اسمع يا سيدي. إني أغزل كمية من الخيوط كل أسبوع، وأتقاضى بنساً عن كل ربطة، وهذا يكفي لتغطية معيشتي. أما الآن فقد عزمتُ أن أغزل ربطة إضافية كل أسبوع لأقدم البنس لخدمة الرب».
هذا هو الإيمان العامل بالمحبة: أن نكرس الحياة والوقت والمال للرب الذي كل شيء به وله قد خُلق.
إن ما يُعطى لتقوية الخدمة ونشر كلمة الله إنجيل الخلاص، والتخفيف من آلام المسجونين وإغاثة اليتيم والأرملة، والاهتمام بالمريض والجائع، يُلقى في قرابين الله، ويُقبل على هذا الأساس ويُعطى ثواباً عنه.
وعظيم هو الثواب لأنه:
١ - يُقابل بحب الله، كما هو مكتوب: «المعطي المسرور يحبه الرب».
٢ - يقابل بالغبطة. هكذا قال الرسول: «فإنكم تعلمون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه قال: مغبوط هو العطاء أكثر من الاخذ!».
٣ - يسر الله وِفقاً للقول الرسولي: «لا تنسوا فعل الخير والتوزيع، لأنه بذبائح مثل هذه يُسر الله».
صحيح أن المؤمن الحقيقي لا يبغي من عطائه جزاءً ولا شكوراً، لكن الرب يسوع يعلّم مختاريه الأمانة في الوكالة المسيحية مجلبةً لرضى الرب وفرح المعطي. وهذا الفرح يمكنه أن يكون بداءة السعادة الأبدية التي ترافق الحياة في المسيح، إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي فيه نذهب الى منازل الآب التي أعدّها المسيح.
هناك لا يكون حزن ولا بكاء، لأن الله سيمسح كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد. هناك سنعرف أكثر وسنتمتع بذلك الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل. فلا غرابة إذن أن نعتبر العطاء من ثمار المحبة التي يعمر بها قلب الوكيل الأمين، والتي تجعله شكوراً لله.
هذا العطاء المقدَّم بروح الشكر يساعد على جعل العبادة حقيقية، تمجد الله وتنال رضاه، وتنير العقل، وتجعل المسيحي مستعداً لخدمة الله، وتخلق الفرح وتزيد البركات.
كلمة أخيرة اقولها لكم وهي ان قادة الكنائس في أيامنا يعملون بجدّ لإنماء روح العطاء وجعله متفقاً مع مثال الله، الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين.
ولبلوغ هذا الهدف يجب أن نذكر أن الذي نقدم له عطايانا هو الله بالذات، فقد قال المسيح: «بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم».
والواجب أن نتذكر دوماً أن الوفاء يُلزمنا بالتجاوب مع المنعِم الجواد، الذي أعطانا أعّز ما عنده، حتى لا تكون العطايا التي نقدمها من فتات معيشتنا، بل من أجود مقتنياتنا.
العظة - ٤٦ «المحبة فلتكن بلا رياء» (رومية ١٢: ٩)
في الرسالة الى رومية استعرض الرسول بولس المواهب التي تعطيها النعمة للمسيحي الذي تجدد بروح ذهنه، وإذ وصل الى المحبة قال: «المحبة فلتكن بلا رياء. كونوا كارهين الشر ملتصقين بالخير، وادّين بعضكم بعضاً بالمحبة الأخوية». أما صفات المحبة فقد أفرد لها الفصل الثالث عشر من رسالته الى أهل كورنثوس حيث يقول:
١ - «المحبة تتأنى» مع الناس مهما كانوا قساة. قال سينكا الفيلسوف: «المحبة تلتمس أعذاراً للجميع على السواء: فللأولاد لأنهم صغار، وللسيدات لأنهن كالأضعف، وللحكام لأن مسؤولياتهم كبيرة، وللصالحين لأنهم لا يقصدون السوء، وللأشرار لأنهم يستحقون الشفقة». المحبة المتأنية لا تغضب ولا تثور إذا ما أُسيء إليها، بل تتجاوب مع وصية المسيح فتصفح الى سبعين مرة سبع مرات.
تأنّ ولا تغضب، لأن الغضب لا يصنع بر الله. قال المسيح: «من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم». وقال سليمان: «البطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة». المحبة المتأنية تحفظك من خطأ التسرّع في الحكم، وتتيح لك تسليم الأمور الى الله الذي قال: «لي النقمة أنا أجازي».
٢ - «المحبة ترفق» وتعدل بصاحبها عن القسوة والغيظ، إذ تجمعه مع المسيح تحت نير الوداعة والتواضع ونكران الذات. ولكن للأسف فكثيرون من المسيحيين المتديّنين، لا يحتملون الغير بالمحبة فيعثرونهم. قال الشاعر الإنكليزي بايرون: «يرجع تأثري ضد الدين الى تصرّفات المدّعين به، لأنهم لا يسلكون بموجب قانون المحبة المسيحية». جميل أن يتمسك المرء بالعقائد الدينية، ولكن ليس بالحرفية التي تبعده عن المحبة، لأن الحرف يقتل أما المحبة فتبني.
السلوك المسيحي يجب أن يكون كما قال الرسول: «في طهارة، في علم، في لطف، في الروح القدس، في محبة بلا رياء». قال أحد أتقياء الله: «لم يستطع أحد أن يخبرني كيف يمكنني أن أجد نفسي. وقد طلبت الله فلم أجده. ولكن حين طلبت أخي بالمحبة وجدت الثلاثة معاً: الله وأخي ونفسي».
٣ - «المحبة لا تحسد» قال سليمان في الأمثال: «الحسد نَخْرٌ في العظام» لأنه كما يترصّد المرض الصحة، وكما يترصد الموت الحياة، هكذا يترصد الحسد المحبة، ليقضي عليها. الحسد هو بداية تحطيم تلمذته. هكذا كانت الحال مع رؤساء الكهنة اليهود الذين بدافع الحسد أرسلوا يسوع إلى الصليب.
٤ - «المحبة لا تتفاخر» ولا تعتدّ بذاتها ولا يأخذها الغرور. المحب الحقيقي إذا خدم فإنما يخدم كما من نعمةٍ يمنحها الله. وإذا ما صنع خيراً لا يطلب جزاءً ولا شكوراً. إنه يؤمن بما قاله الرسول: «نحن عمله، مخلوقين في المسيح لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها». التفاخر من خطايا المؤمنين قديماً وحديثاً. فمؤمنو كورنثوس تفاخروا بما كان عندهم من مواهب روحية، مما حمل الرسول على أن يوضح أن كل مواهب الروح من دون المحبة باطلة. قال: «إن كنتُ أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة، فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن. وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئاً. وإن أطعمت كل أموالي وإن سلّمت جسدي حتى أحترق، ولكن وليس لي محبة، فلا أنتفع شيئاً».
٥ - «المحبة لا تنتفخ» ولا يأخذها الزهو الفارغ الذي هو لونٌ من الكبرياء. المحب الحقيقي هو الذي تظهر في حياته ثمار الروح الوديع الذي هو قدام الله كثير الثمن. كان الدكتور وليم كاري (رسول المسيح الى الهند) من أعظم علماء اللغات الذين عرفهم العالم، فقد ترجم أجزاء من الكتاب المقدس الى ٣٤ لغة من لغات الشرق الأقصى. وكان قبل التحاقه بخدمة الإنجيل إسكافياً بسيطاً. وذات يوم، وكان قد اشتهر، أُقيمت على شرفه مأدبة كبرى، فأراد احد المنتفخين أن يحتقره، فقال له: «أظن يا سيد كاري إنك كنت صانع أحذية!» فأجابه كاري بكل لطف: «كلا يا سيدي. لم أكن أصنع أحذية، بل إسكافياً أرقع أحذية». هذا هو سر عظمة كاري رجل الله. إنه كان وديعاً متواضع القلب مثل يسوع.
٦ - «المحبة لا تقبح» إنها تتمشى مع مبادئ اللياقة المسيحية. للمحبة عيون بلا عدد تفتحها دوماً نحو حسنات الغير، أما سيئاتهم فتغضّ الطرف عنها، عملاً بالمبدأ القائل في أمثال سليمان: «من يستر معصيةً يصنع المحبة». وهي تتسم بالوداعة مع الجميع، لهذا يخطئ المتديّن المتصلّب حتى ولو أن التصلُّب ُيظهره في مظهر القوة. إن التصلب على الأقل يُلبسه عقدة العبوس، والعبوس يُفقده البهجة التي هي الطابع الأصيل للمسيحية.
تشير المحبة إلى المسيحي الوديع اللطيف وتقول: انظروا وجهه المشرق بالوداعة يلقي عظة بليغة. أجل، ان الذوق الصالح والكياسة واللطف في المعاملة والرقة في الحديث، كلها فضائل تخبر بعمل الذي قال: «كونوا ودعاء كالحمام».
٧ - «المحبة لا تطلب ما لنفسها» بل تسعى إلى نفع غيرها. ولعل أجمل أمثلتها ما ظهر في تصرف بولس لما قال: «إني أُرضي الجميع في كل شيء، غير طالب ما يرضي نفسي بل الكثيرين، لكي يخلصوا». هذا المثال يجب أن يوبخ أنانيتنا، لأننا في تفكيرنا الزائد في حقوقنا ننسى على الغالب واجباتنا. لو فكر الناس في واجباتهم بقدر تفكيرهم في حقوقهم، لاستطاعوا القبض على المفتاح الذي يحل كل المشاكل!
٨ - «المحبة لا تحتد» لا تحنق ولا تسخط على أحد. إنها تُري أعمالها بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة. المحبة في جوهرها أولاً طاهرة، ثم مُسالمة ومترفعة ومُذعنة ومملّوة رحمة وأثماراً صالحة، عديمة الريب. في تقديري أن أدق اختبار للإنسان هو إن كان في وسعه أن يتمالك روحه أمام حماقات الآخرين، فلا يقاوم الشر بل يعمل بموجب الوصية القائلة: «لا يغلبنّك الشر بل اغلب الشر بالخير».
٩ - «المحبة لا تظن السوء» فلا تظن أن الآخرين يريدون بها سوءاً. رّوض نفسك على حُسن الظن لأن حُسن الظن من حسن الفِطن.
١٠ - «المحبة لا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق» إنها من سُبل الرب، وكلها حق لحافظي عهده. قد يكون الفرح في الحق صعباً على الإنسان الطبيعي لأنه لا يهتم بما لله، وهو مجرّب بالشرور ينخدع وينجذب من شهوته، لذلك هو في حاجة ماسة الى الإيمان بيسوع الذي هو الحق فيتجدّد بروح ذهنه. وحينئذ يعرف الحق والحق يحرره، فيكره الإثم ويفرح بالحق.
١١ - «المحبة تحتمل كل شيء» انسجاماً مع مبدأ الفداء، لأن المسيحية نفسها محبة فدائية. وقال المسيح: «ليس لأحدٍ حبٌ أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه».
١٢ - «المحبة تصدق كل شيء» فمن جهة علاقتها بالله، تؤمن بصدق كلمته وأمانته في عهوده، ومن جهة علاقتها بالناس تصدق ما هو الأفضل عنهم. انها تتوسّم حُسن النية عند الجميع تمشياً مع مبدأ الكياسة، وتحملنا على الاعتقاد بأن في كل إنسان شيئا يُحب. والمحبة تهيب بنا أن نتعامل مع كل واحد على أساس الثقة، على رجاء أن تجذبه الثقة إلى المسيح.
١٣ - «المحبة ترجو كل شيء» فترجو الخير لكل إنسان في العالم. للصالح ترجو تقدماً في صلاحه، وللشرير ترجو التوبة عن شره. ولرُبَّ كلمة رجاءٍ تُطلَق في أذن فاشلٍ تنقذه من اليأس. قيل إن آدم كلارك الذي كان من أعظم لاهوتيي جيله، كان في البداية تلميذاً فاشلاً. حتى أن مدير مدرسته قال لأحد الزائرين: هذا أغبى تلميذ في مدرستي! ولكن الزائر قبل أن يغادر المدرسة اختلى بالفتى وقال له برقة: «لا تقلق يا بنيّ، فقد تصبح يوماً من أعاظم الرجال». وتحقق الرجاء فعلاً، وكان السبب تلك الكلمة الرقيقة التي ألقاها ذاك الزائر في أذنه.
١٤ - «المحبة تصبر على كل شيء» على الاضطهاد والطرد، وقد قال المسيح: «طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات». بولس جاز هذه المحنة في أروع مثال وكتب لنا من اختباره قائلا: «إنني في الإنجيل أصبر على كل شيء لأجل المختارين لكي يحصلوا هم أيضاً على الخلاص الذي في المسيح يسوع مع مجد أبدي».
١٥ - «أخيرا المحبة لا تسقط أبداً» فهي باقية حتى بعد فناء الزمان. صحيح أن العالم تغيّر وتبّدلت فيه أمور كثيرة، ولكن المحبة لا يمكن أن تتغيّر. لأن الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه. قال الرسول الحبيب يوحنا: «أيها الإخوة، لنحب بعضنا بعضاً، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب يعرف الله، ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة». وختم الرسول بولس نشيد المحبة بهذه الكلمات البالغة الروعة: «أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة».
الإيمان بدون المحبة يكون ميتاً بارداً. والرجاء بدون المحبة يكون عابساً متجهّماً. ولكن المحبة هي النار التي تضرم الإيمان، وهي النور الذي يجعل الرجاء مشعاً.
«الله محبة»
العظة - ٤٧ «أعظمهن المحبة» (١ كورنثوس ١٣: ١٣)
الإنسان العاقل مطبوع على حب السعي وراء الأفضل والأعظم، ومنذ خطوته الأولى في هذا الاتجاه لا بد أن يتساءل: ما هو أعظم ما في العالم؟ يظن البعض أن أعظم ما في العالم هو الإيمان، وقد كان هذا الفكر حُكماً سائداً خلال قرون عديدة منذ فجر التاريخ، إلى أن جاءت المسيحية لتقول الصواب، وهو أن المحبة أعظم ما في العالم.
صحيح أن الإيمان هو المِدماك الأول في بناء المسيحية، ولكن المحبة أعظم، لأنها من أسماء الله. في الاصحاح الثالث عشر من رسالته الاولى الى أهل كورنثوس أجرى الرسول بولس مقابلة بين المحبة وغيرها من الفضائل، وخرج من مقابلاته بالحكم بأن المحبة أعظمهن جميعاً. قال: «أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة». وهذا التفضيل لم يكن من ابتداع الرسول المغبوط بولس، وإنما جاء إليه من تعليم الرب يسوع نفسه. فحين سأله ناموسي: أية وصية هي الأولى والعظمى في الناموس؟ أجابه: «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك... والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء». كذلكم رجال الله الذين أُوحي اليهم في العهد الجديد، أجمعوا على وضع المحبة في رأس الفضائل.
فقد قال بطرس: «قبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة، لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا». وقال يوحنا الإنجيلي: لنحب بعضنا بعضاً لأن المحبة من الله، ومن يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله. ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة». وقال يعقوب الملقب بأخي الرب: «إن كنتم تكملون الناموس الملوكي حسب الكتاب «تحب قريبك كنفسك» فحسناً تفعلون» . وقال بولس: «أما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر وضميرٍ صالح وإيمانٍ بلا رياء. لا تكونوا مديونين لاحدٍ بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضاً، لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس».
ثم قابل الرسول الكريم المحبة بالمواهب الروحية التي حسبها أهل زمنه عظيمة الشأن، فأبان أن المحبة أعظم الكل. قابلها أولاً بموهبة التكلم بالألسنة فقال: «إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة، فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن». ثم قابلها بالنبوّة والعلم، فقال: «وإن كانت لي نبوّة وأعلم جميع الأسرار وكل علم، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئاً». ثم قابلها بالايمان فقال: «لو كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً». ثم قابلها بأعمال البر وقمع شهوات الجسد، فقال: «وإن أطعمتُ كل أموالي وسلّمتُ جسدي حتى أحترق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئاً». قيل إن الرسول قبل كتابته هذا المقطع من رسالته شاهد في أثينا قبر وثني أُحرق جسده على عهد بيلاطس، وقد أوصى بأن تُكتب على قبره هذه العبارة: «أحرقتُ نفسي لأُحسَب مع الخالدين». ولكن هذا الإنسان ليس فقط لم ينتفع شيئاً بتضحيته، بل خسر نفسه. وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
أما شهداء المسيحية الذين أُحرقوا على مذبح المحبة فقد ربحوا نفوسهم الى حياةٍ أبدية. هكذا قال يسوع: «من يهلك نفسه من أجلي يجدها الى حياة أبدية». أما على تفضيل المحبة على الإحسان فهي في كون الإحسان جزءاً من المحبة، والكل أفضل من الجزء.
قال القديس برنارد: «تُقاس عظمة النفس بما عندها من حب، فالنفس التي تملك رصيداً كبيراً من المحبة تكون عظيمة والتي تملك قليلاً تكون حقيرة. أما التي لا تملك شيئا من المحبة فليست شيئاً».
امتدح الفيلسوف كارليل الشاعر روبرت برنس فقال: «لم أر في كل أوروبا مثل كياسة هذا الشاعر، لأنه لم يقبح مخلوقاً. فهو يحب كل ما في الوجود حسناً، ويحب كل ما خلق الله إن عظيماً وإن حقيراً. لا فرق عنده بين الطحالب وأزهار الأقحوان، ولا تفاوت في تقديره بين قصر منيف وكوخ حقير. إنه إنسان ذو كياسة، وذو الكياسة لا يقبّح». المحبة لا تطلب ما لنفسها، لانها ليست رهينة مصلحة ذاتية. صحيح أنه من أندر الأمور أن لا يطلب أحد شيئاً لنفسه، ولكن هذا هو ناموس روح الحياة في المسيح يسوع، يحرّر النفس من ذاتها.
في زمن الرق وقع أخَوان في الأسر، فبيعا عبدين لثريٍّ من تونس. وكانت القوانين تتيح للعبد استرجاع حريته إن هو دفع الفدية. فاجتهد أحدهما في تحصيل المال، ولما تجمع له ما يكفي لشراء حريته جاء الى سيده وقدم له المال، لا لكي يحرر نفسه بل ليحرر أخاه. ولما سأله السيد: لماذا لا تطلب الحرية لنفسك؟ قال: إن أخي هذا إنسان بسيط، ولو تُرك لذاته لبقي عبداً إلى الممات. أما أنا فأستطيع بعون الله أن أجمع المال ثانية وأشتري به حريتي. فتعجّب السيد من هذا الحب الفريد الذي لم يطلب ما لنفسه، وبتأثيرٍ منه أمر بأن يُطلق سراح الاثنين مجاناً.
المحبة لا تحتد لأنها متأنية طويلة الروح، مترفقة لينة الجانب، شفوقة مذعنة للحق، سموحة غنية بثمار الصفح. سأل بطرس يسوع: «يا رب كم مرة يخطئ إليّ أخي وأنا أغفر له؟ هل الى سبع مرات؟» أجابه يسوع: «لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات».
الحِدّة مع الأسف هي خطية الأفاضل من الناس، وهي تدنّس السجايا الكريمة، وتبعد عن مجرى الكمال. أخ الابن الضال اشتهر بعدّة سجايا طيبة، منها الطاعة والصبر وإكرام الوالدين والعمل بأمانة. ولكنه سقط بسبب غيظه من الوليمة التي أقامها أبوه على شرف الأخ العائد من الكورة البعيدة. يقول لوقا الإنجيلي إنه احتد ولم يشأ دخول البيت، فجعلته الحدّة عدواً للمحبة، وحمله الغيظ الى عدم الاشتراك في فرح الاسرة بعودة الابن الضال، وحرمه السخط من تناول قسطه من العجل المسمن الذي ذُبح.
ما أكثر الذين يقعون في خطية النرفزة فيحرمون أنفسهم من بركة الصبر، الذي له عمل تام في تكريس الحياة لله. من أبلغ النصائح التي تلقيتُها في حياتي، كلمة كتبها سائق تاكسي وعلقها فوق تابلو سيارته المرسيدس: «بدَّك تطّول بالك». فهذه الوصية ذكرتني بقول إمام الحكماء سليمان: «بطيء الغضب خيرٌ من الجبار، ومالك روحه خيرٌ ممن يأخذ مدينة».
فيا أخي إن دُفعت مرة إلى الغيظ، فلا تختزنه وفقا للوصية الرسولية: «لا تغرب الشمس على غيظكم، ولا تعطوا إبليس مكاناً». قد نسعى مخلصين للتخلّص من نزوة الغيظ ولكن دون جدوى، والسبب لأننا في محاولتنا لنزع الحامض لا نضع حلاوة المسيح مكانه. نتكل كثيراً على حُسن الإرادة، ولكن حسن الارادة لا يستطيع ان يجدد أحداً.
المحبة لا تظن السوء ولكن للأسف لا نجد في هذا العالم إلا قليلين لا يظنون السوء، أن الريبة الحكيمة تجنبهم الوقوع في كثير من المشاكل. ومن هنا كان المثل العامي: «سوء الظن من حُسن الفِطن». قد يكون في هذا القول شيء من المنطق البشري، ولكن الثقة أَوْلى بنا، لأن الثقة أرقى درجات الإيمان، وطوبى لمن كان إيمانه ثقةً مطلقة بالله. الثقة بالله تجعل الانسان يقبل ترتيبات محبة الله لحياته وخدمته. وليس إلا بالثقة المتبادلة بيننا نستطيع التعاون في ربح النفوس للمسيح. لقد وُضعت الضرورة علينا لنشر إنجيل المسيح، وهي تستلزمنا تبادل الثقة، كإخوةٍ تجمعنا محبة الله إلى واحدٍ هو رئيس إيماننا ومكمّله.
المحبة تحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء. تحتمل مضايقات الغير ولو اقتضاها الأمر أن تذهب إلى ما بعد الميل الثاني الذي أمر به المسيح. وهي إذ تصبر على الظلم تمتثل لأمر المسيح: «لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن حّوِل له الآخر». هذا ما أشار اليه بولس عندما قال: «لا يغلبنَّك الشر، بل اغلب الشر بالخير».
والمحبة مفعمة تصديقاً ويقيناً بأن الرجاء لا يخزي، لأن محبة الله انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطَى لنا. وهي في صبرها تحتمل التجربة، وطوبى للذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة. المحبة لا تسقط أبداً، لأن الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه.
لنحب بعضنا بعضاً لأن من يحب فقد وُلد من الله. وحينئذ نستطيع التأمل في حب الله للبشر ونمتثل لوصيته: «تحب الرب إلهك من كل قلبك. وتحب قريبك كنفسك». وحينئذ نصير الى صورة ابنه يسوع المسيح، ونثمر لمجده ثلاثين وستين ومائة.
العظة - ٤٨ «لكن ما كان لي ربحاً فهذا حسبتُه من أجل المسيح خسارة» (فيلبي ٣: ٧)
قارن الرسول بولس بين عنصريته الغنية بالأنساب والميزات الدينية، وبين المكاسب الروحية التي حصل عليها بالمسيح فقال: «إن ظن واحدٌ آخر أن يتكل على الجسد فأنا بالأَوْلى. من جهة الختان مختون في اليوم الثامن، من جنس إسرائيل، من سبط بنيامين، عبراني من العبرانيين. من جهة الناموس فريسي. من جهة الغيرة مضطهد الكنيسة، من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم.
«لكن ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الاشياء، وأنا أحسبها نُفاية لكي أربح المسيح». هذه المقارنة التي أجراها الرسول الكريم أضعها أمامنا للتأمل في أربع كلمات:
١ - عهد الناموس: فمع أن الرسول كان يعتبر جداً، الديانة اليهودية التي أشبعت نفوس آبائه أجيالاً طويلة. ومع أنه تربى عليها منذ حداثته ووالاها في غُرة شبابه. ومع أنه آمن بأن أساسها قد وضعه الله على جبل سيناء، وأن طقوس خيمة الاجتماع بكل تفاصيلها من ترتيب الله نفسه. ومع اعتقاده بأن الروح القدس كان يحرك شفاه أنبياء العهد القديم لتتكلم بأقوال الله. ومع أنه يذكر أن سحابةً من القديسين قد وجدوا في ناموس موسى خلاصاً وتعزية وراحة. إلا أنه بمقارنة كل هذه الميزات بيسوع المسيح الممثِّل للفكرة الجديدة عن الله، حسب اليهودية بكل طقوسها وأبّهتها وعظمة هيكلها خسارة.
خسارة بالنسبة لمعرفة ذاك الفادي الذي مزق الحجاب، وأتاح للنفس المؤمنة المثول أمام الله المتجسّد لتنال برها. لقد قارن ناموس المسيح بفاعلية الطقوس اليهودية وعلى رأسها الختان، فقال بكل احترام: لقد مارست الختان طبقاً لنصوص الشريعة. جميل أن تُحترم فرائض الديانة وتُوقَّر، نحترم فرائضنا المسيحية وخصوصاً العشاء الرباني، الذي يشيع في القلب فرحاً مقدساً، إذ يُشعر النفس المؤمنة أنها في حضن فاديها الرب. هكذا كانت فرائض العهد القديم تشعر ممارسيها الأتقياء أنهم موضوع عناية الله.
ولكن بولس يقول: مع أني أُجِلّ هذه الفرائض، وقد مارستُها بخشوع، إلا أنني حين أقارنها بالمسيح أجدها كقبر المسيح الفارغ، الذي أخبرنا بأن المسيح غلب الهاوية والموت بقيامته. لقد كان امتيازاً عظيماً أن يُختن المولود في اليوم الثامن، لأن الختان كان بمثابة شهادة وختم بأن ممارسه من جماعة الله.
صحيح أن الأممي المتهّود كان يُختن أيضاً في اليوم الثامن لتهُّوده، ولكن ختانه يبرهن أن ليس كل مختون تجري في عروقه دماء إبراهيم. أما بولس فيقول: أنا وُلدت من سلالة يعقوب، الذي دُعي «إسرائيل الله» ومن سبط بنيامين الذي مُسح منه أول ملك على الشعب بأمر الله. وفوق هذا فبولس عبراني من العبرانيين، أي أن دم أسرته لم يختلط بدم الأمم. ومع ذلك فقد صرح بوضوح أن لا قيمة لهذه الاعتبارات بجانب المسيح. لأن النفس التي تقبل المسيح تصير رعية مع القديسين وأهل بيت الله. هكذا قال الإنجيل: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله».
٢ - المسيحية والفريسية: كان الفريسيون نخبة الأمة اليهودية، غيورين لله، أتقياء مدققين في الدين، محافظين على المثل العليا. ومن هنا كان فخراً لبولس أن يقول: من جهة الناموس فريسي. صحيح إن كلمة «فريسي» في أيامنا تثير الاشمئزاز، لأنها تعني في لغتنا الدارجة الكبرياء والغطرسة والرياء. ولكن في زمن بولس كان الفريسي مثالاً للخُلُق الكريم وصفاء العقيدة واستقامة الرأي.
ولكن في إزاء المسيح، حسب الرسول الفريسية بلا قيمة، وكان مستعداً لأن يُنبَذ من الجماعة ويُعامَل كمرتدٍّ عن دين الآباء حين عرف المسيح، وفيه وجد الصراط والحقيقة والحياة.
٣ - الاستشهاد بالغيرة: «من جهة الغيرة مضطهد الكنيسة». فقد أخبرنا التاريخ أنه ما أن أعلن رؤساء اليهود حرب الإبادة على المسيحيين حتى حمل بولس لواء الجهاد، وراح يصول ويجول في كل أنحاء فلسطين ينفث تهديداً وقتلاً على تلاميذ الرب.
وهو لم يقتنع بالهجوم على اجتماعاتهم العامة، بل كان يسطو على البيوت ويجر النساء الوديعات القديسات، والأطفال الأبرياء، والرجال المسالمين إلى المجامع للمحاكمة والجلد والسجن والقتل. وقد فعل ذلك كله للاشتهار بالغيرة، من جهة، واستئصال المسيحية من جهة أخرى. ولكنه إذ كان جاداً في نقل أعمال الإبادة الى خارج فلسطين، وقف يسوع في وجهه، فيما هو ذاهب إلى دمشق للتنكيل بجماعة الرب. هناك في الطريق أبرق حوله نور عظيم أقوى من لمعان الشمس. ومن وسط النور سمع صوتاً يدعوه باسمه: «شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟ صعب عليك أن ترفس مناخس». وفي بهاء ذلك النور انزاحت الغشاوة عن بصيرته ليرى ان غيرته لليهودية دفعته إلى التصادم مع الله بالذات.
وفي إعلان ذلك النور أدرك فظاعة الحرب التي أثارها على كنيسة الله التي اشتراها بدمه. فخر على وجهه وسأل بانكسار عما يجب أن يفعل، فأجابه الرب المقام: «قم وقف على رجليك، لأني لأجل هذا ظهرتُ لك لأنتخبك خادماً وشاهداً بما رأيت. أنا أرسلك الى اليهود والأمم لتفتح عيونهم من ظلماتٍ إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتى ينالوا باسمه غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين».
وهكذا تحّول المضطهِد الى مضطهَد لأجل إنجيل المسيح. واذ وقف يقارن بين الشهرة التي كان يسعى إليها ونكران الذات الذي دُعي إليه: في أوجاعٍ وآلام ومشاق وجوع وعري وسجون وجَلْد، قال: لقد ارتبطَتْ نفسي بالمسيح، ومع المسيح ارتبطتُ بالصليب والآلام والأحزان والخسائر. ولكن هذه الآلام مع حدّتها، وهذه الأوجاع مع عنفها، وهذه الخسائر مع فداحتها، صارت مع المسيح صفقة رابحة.
صحيح إنه لشرف عظيم أن يكون إنسانٌ من نسل إبراهيم، وإنه لامتياز عظيم أن يبني إنسان لنفسه صيتاً عظيماً، وإنه لأمر عظيم الشأن أن يحمل إنسان في صدره غيرة شديدة. ولكن الرسول حسب ذلك خسارة أمام محبة المسيح.
٤ - المسيح والبر الذاتي: «من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم» حين نقرأ قوله أمام الجميع: «إني بكل ضمير صالح قد عشتُ إلى هذا اليوم» نفهم أن كلمة «بلا لوم»، تعني أن بولس لم يتعمد إغفال أية وصية في الناموس الأدبي أو الطقسي. ما أكثر الذين تحملهم استقامتهم الشخصية على الاعتقاد بأنهم بلا لوم ولا عيب، فيشكرون الله، لأنهم ليسوا مثل السكيرين والقَتَلة واللصوص والمحتالين. ثم لا يلبثون أن يميلوا الى تعداد فضائلهم، قائلين: أنا أذهب الى الكنيسة، وأمارس كل فروضها، وأدفع لها من مالي بسخاء، وأضبط لساني. أَوَليست هذه حال الكثيرين من مسيحيي ايامنا؟ إنهم راضون عن أنفسهم تمام الرضى حتى إذا ما سمعوا عظة تدعو الناس الى التوبة قالوا: ما أجملها من عظة!
هذا النوع من الناس يصعب أن يُربحوا للمسيح لأنهم أبرار عند أنفسهم، والمسيح قال: «ما جئت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة». بولس لم يكن من هذه الفئة المقتنعة ببرها الذاتي، بل حين عرف المسيح ألقى ببره الشخصي بعيدا وقال: «وأُوجد فيه وليس لي بري الذي من الناموس، بل الذي بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان».
تمثل ببولس يا أخي، وألقِ ببرك الشخصي بعيداً، فثوب البر الذي نسجته لنفسك من خيوط أعمالك وغيرتك، إذا وقفت به في نور العرش الأبيض العظيم، سترى أنه مجرد خِرق بالية. انه يشبه الثوب الذي صنعه آدم لنفسه من ورق التين، والذي لم يستطع أن يستر به خزي عورته، فاختبأ من وجه الرب.
البر الذاتي هو بر الإنسان الساقط، لذلك فهو ساقط نظيره. إنه محاولةٌ لإرضاء الله بالاعمال والكتاب يقول: «ليس من أعمالٍ كيلا يفتخر أحد». هذا الخطأ وقع فيها الربي سمعان بن يوشاي اليهودي فقد افتخر بأعمال بره وقال: لو وُجد في العالم باران فقط، لكانا «أنا وأخي». أما لو وُجد بار واحد فقط لكنت أنا ذلك الواحد».
البر الذي من الله بالايمان لا يتطلب بذل أي مجهود شخصي، لأنه مؤسس بحكمة الله، ومقدَّم بنعمة الله المتفاضلة جداً. البر الذي من الله بالايمان يقول: «لا تَقُل في قلبك من يصعد أي ليُحدر المسيح، أو من ينزل الى الهاوية أي ليصعد المسيح من الأموات. لكن ماذا يقول؟ الكلمة القريبة منك، في فمك وفي قلبك، أي كلمة الإيمان». فشرط الخلاص هو أن تمدّ يد الإيمان لقبول ما يقدّمه لك المخلص المقام. وهو يقدم لك بره مجاناً، البر الذي صنعه بموته الكفاري. البر الذي هو إلى وعلى كل الذين يؤمنون، لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله.
قرأ العالِم هوكر توماس قول الرسول إن الله جعل المسيح الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه. وبعد أن تأمل فيها بعمق، أخذ قلمه وكتب على هامش كتابه المقدس: هذا ما كنت أريد أن أعرفه، أن الإنسان أخطأ، وأن الفادي قد تألم، وأن الله أخذ على عاتقه خطية الانسان، وأن الإنسان يستطيع أن يأخذ لنفسه بر الله.
ثق أن المسيح البار صار خطيةً لأجلك لتصير أنت باراً بنعمة الله. لا تتكل على برك لأن الكتاب يقول: «ليس بارٌ بين الناس، ليس ولا واحد». فقط آمن بالذي يبرر الفاجر فيُلبسك بره، وينقلك إلى ميراث القديسين في النور.
١١ - مواعظ في: المسيح معنا في آلام الحياة
العظة - ٤٩ «أيضا إذا سرْتُ في وادي ظلّ الموت لا أخاف شرّاً، لأنك أنت معي» (مزمور ٢٣: ٤)
جاء في قصة فارسية أن وزيراً خصص غرفةً من قصره لذكريات أيامه السالفة يوم كان راعياً أجيراً، وضع فيها الأدوات البسيطة التي كان يستعملها: العصا والناي والجِراب والمقلاع والثياب الخشنة. وكان يصرف بعض الوقت كل يوم في تلك الغرفة ليستعرض ذكرياته، وغايته ان يحفظ نفسه من الاستكبار الذي يتعرّض له ذوو المناصب الكبيرة.
هكذا داود الملك لم ينس ما كان عليه من ضِعة حين كان يرعى أغنام أبيه يسّى، فخصص في قلبه غرفةً تعوّد أن يعتزل فيها بأفكاره متأملاً ومصلياً. ومن هذه الغرفة كتب مزموره الثالث والعشرين، هذه الرائعة الخالدة التي امتزجت فيها رجوليته الكاملة بذكريات شبابه الذي قضاه بين الأغنام في البراري. إنه مزمور الرعاية والعناية والأمل والرجاء الذي لا يخزى. قال رجل الله هنري بيتشر: «المزمور الثالث والعشرون قد هدّأ أحزاناً أكثر مما فعلت فلسفات العالم مجتمعة معاً. فقد خلّص كثيرين من أفكارهم الردية وشكوكهم السوداء وأحزانهم المسرفة، وعزى فقراء بلا عدد، وشدد قلوب جمهورٍ كبير من الفاشلين، وأرسل بَلَسَانه إلى نفوس المرضى ونزلاء السجون، وعزّى ألوف الأرامل والأيتام في أحزانهم القاسية وعزلتهم الموحشة، وشدد عزائم ألوف الجنود المحتضرين في ساحات القتال ليموتوا في سلام. وإلى الآن لم ينته عمل المزمور الثالث والعشرين، بل سيعمل ويعمل أيضاً الى أن يفنى الزمان».
والآن دعونا نهلل مع المرنم الحلو، مسبّحين راعي الرعاة العظيم الذي تميّز في كونه ليس أجيراً بل الخراف له، وقد افتداها بدمه. «الرب راعيّ» قال المرنم، وطوبى لمن كان الرب راعيه. هذا لا يعوزه شيء، لأن أمام راعيه شبع سرور، وفي يمينه نِعم الى الأبد. إنه يفتح يمينه فيشبع كل حي رضىً. لا يعوزني شيء لأنه في مراع خضر يربضني. هناك أُعدت مائدة الخلاص، المائدة التي قوامها يسوع خبز الله الواهب حياة للعالم. ومُدّت عليها أطايب الملك وخمر مشروبه المقدس، وقد دعا الجميع، قائلا: «هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن. استمعوا إليّ استماعاً وكلوا الطيب، ولتتلذذ بالدسم أنفسكم». هلموا كلوا من الخبز النازل من السماء الواهب حياة للعالم. لا يعوزني شيء، لأنه «إلى مياه الراحة يوردني» حيث الارتواء الذي لا عطش بعده، كما قال الرب يسوع للمرأة السامرية: «من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد». لا يعوزني شيء، لأنه يرّد نفسي، يهديني إلى سُبل البر من أجل اسمه.
أنا لا أخشى ضلالاً لأنني في حماية الراعي الصالح الذي قال: «هأنذا أفتش عن غنمي وأخلّصها من جميع الأماكن التي تشتتت إليها». مكتوب عنه إنه يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال. ولست أخشى تعثّراً مهما احلولك الظلام في هذا العالم، لأنني أتبع الذي قال: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يبقى في الظلمة، بل يكون له نور الحياة». ولست أخاف وبأً أو خطراً لأنه مكتوب: «لا تخشى من خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار، ولا من وبأٍ يسلك في الدّجى، ولا من هلاك يفسد في الظهيرة». ولست أخاف من الموت، لأنني «إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراً، لأنك أنت معي».
في العام ١٩٥٣ دخلت ابنتي المستشفى لاجراء عملية استئصال الزائدة وكانت خائفة ومرتعبة، لأن الزائدة كانت ملتهبة جداً وحالتها لا تخلو من الخطر. ولكن قبل إدخالها غرفة العمليات كتبتُ على قصاصة ورق هذه الآية: «أيضاً إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي». ورجوتُ رئيسة الممرضات أن تعطيها قصاصة الورق قبل تناول جرعة البنج. وبعد العملية، وحين استفاقت من غيبوبتها، نظرت اليّ وقالت مبتسمة: «بابا، كنت خائفة حتى الموت، ولكن ما أن قرأت الآية الكريمة حتى زال خوفي وسكن اضطرابي، وسلّمت نفسي الى يسوع راعيّ».
كل مؤمن يستطيع ان يقول: «لا أخاف شراً لأني جعلت الرب أمامي كل حين فهو عن يميني فلا أتزعزع. الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟ الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟ الرب صخرتي وخلاصي وملجأي، لا أتزعزع كثيراً. لقد فداني ودعاني باسمي، فأنا له. لا يهملني ولا يتركني. وأنا أتبع راعيَّ الرب لأني وثقت في حبه، وأيقنت بصدق وعده القائل: خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك. وأنا سمعت صوت راعيَّ الرب فعرفني وتبعته، وقد أعطاني حياة أبدية ولن أهلك. وبانتظار مجيئه ليأخذني إليه، فأنا أتبعه مطمئناً لأنه قال: خرافي في حمايتي ولا يخطفها أحد من يدي. وأي حماية كهذه أن أحداً أياً كانت قوته لا يستطيع أن يخطف خروفاً من يد الراعي القادر على كل شيء. إنها حماية أكيدة حتى من اليأس، لأن التعزيات بعصا المحبة وعكاز النعمة تملأ قلب المتكل على الراعي الرب» ما أحلى هذه العبارة: «عصاك وعكازك هما يعزيانني». صحيح أن العصا تُستعمل للتأديب، ولكن التأديب عمل المحبة، بدليل قول الرسول: «الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله». سل رسول الجهاد العظيم بولس، ينبئك أن الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء، والرجاء لا يخزي، لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطَى لنا. وان آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد، وأن خفّة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدي. وأن في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. وتتفاضل نعمة راعينا الرب باللطف علينا إذ يصير مضيفاً ونحن ضيوفه. يضيّفنا في بيته المأمون حيث لا يستطيع المضايقون إزعاجنا. هناك أعدَّ لنا عشاءً سماوياً عليه سمائن، ودعانا: «طوبى للعطاش والجياع الى البر لأنهم يُشبَعون».
هذا هو عشاء عرس الحمل، وطوبى للمدعوين اليه. هكذا قال مرنم اسرائيل الحلو: «ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيّ». ويشاء القدوس إكرام ضيوفه فيهرق على رؤوسهم دهن المسحة، هللويا حمداً وشكراً «مسحت بالدهن رأسي» وختمتني بروح الموعد القدوس عربوناً للتبني. فلستُ بعد ضيفاً بل ابناً. «انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله» قال الرسول يوحنا.
فشكراً لأن الذي يثبتنا في المسيح وقد مسحنا هو الله، الذي ختمنا وأعطانا عربون الروح الذي به نصرخ يا أبا الآب.
ويختم المضيف الرب العشاء الملوكي بكأس البركة، كأس الفرح ، نخب السلام، نخب المصالحة مع الله. ويقول: «خذوا هذه الكأس اقتسموها بينكم. هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا. هللويا مجداً له «كأسي ريا» وسروري أعظم من سرورهم، لأني «كأس الخلاص أتناول، وباسم الرب أدعو». وكيف لا أهلل وأسبح والله نفسه قد ألبسني ثوب البر وكساني رداء الخلاص؟! وكيف لا أشدو وقد وضع في فمي ترنيمة جديدة تسبيحة لإلهنا، لأن خيره ورحمته يتبعانني كل أيام حياتي. ما أحلى بشارته: «قولوا للصديق خير. كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله».
الرب الله شمس ومجن، الرب لا يمنع خيراً عن السالكين بالكمال. هوذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته، لينجي من الموت أنفسهم وليستحييهم من الجوع. وبعد كل هذه الإنعامات المتفاضلة جداً، يُقاد المؤمن الى المدينة اللؤلؤية، الى منازل الآب. هذا هو المكان الذي اشتهاه داود إذ قال: «واحدةً سألتُ الرب وإياها ألتمس: أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر الى جمال الرب وأتفرس في هيكله. لأن يوماً واحداً في ديارك خير من ألف، فضّلتُ الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار». وهذا هو المكان الذي اشتهاه بولس اذ قال: «إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السموات بناء من الله، غير مصنوع بيد، أبدي». هناك سيسكن كل مختاري يسوع، وليس يوماً واحداً بل الى مدى الأيام. ولن أجلس على العتبة في بيت إلهي، بل سأجلس مع يسوع ربي في عرشه وفاقاً لقوله: «من يغلب فسأعطيه ان يجلس معي في عرشي».
ان المكان الذي عبّر عنه داود ببيت الرب تارة، وبستر العلي تارة أخرى، هو الوجود في حضرة الله والتمتع بالشركة معه. ونحن ان كنا حكماء نبدأ بالسكن في بيت الرب بهذا المعنى المقدس بدون انتظار. وهذا الامتياز العظيم نحصل عليه بقوة صليب ربنا يسوع المسيح، وذلك بصلب الجسد مع الأهواء والشهوات. حينئذ نموت عن خطايانا فنستتر مع المسيح في الله. وبحسب الوعد المبارك سيأتي راعينا الصالح ليأخذنا إليه، حتى حيث يكون هو نكون نحن أيضاً. وكلُّ من عنده هذا الرجاء (قال الرسول يوحنا) يجب ان يطهر نفسه كما هو طاهر. أو كما قال صاحب الاعلان في رؤيا ٢٢: ١١ «من هو بار فليتبرر بعد. ومن هو مقدس فليتقدس بعد». ولنذكر أن الله اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة. وإن كنا غير قديسين فلن يكون لنا نصيب في ملكوت الله، لأنه بدون قداسة لا يقدر أحد أن يرى الرب.
العظة - ٥٠ «يا إلهي عليك توكلتُ، فلا تدعني أخزى» (مزمور ٢٥: ٢)
حين كتب داود مزموره الخامس والعشرين كان يجتاز ظروفاً قاسية جداً، فقد كان هارباً من وجه ابنه أبشالوم، الذي تآمر عليه ليقتله وليستأثر بالملك لنفسه. ولكن بالرغم من خطورة الموقف لم ييأس لأنه كان واثقاً في إلهه. وقد تقبل الأمور كأنها من الله، لا من الناس. ولهذا استطاع ان يتحمل الشتائم والرَّشق بالحجارة من شمعي بن جيرا قائلاً للذين أرادوا أن ينتقموا له من شمعي: «دعوه يسبّ لأن الرب قال له سبّ داود، ومن يقول لماذا تفعل هكذا؟» وكل ما عمل هو أنه رفع بصره نحو العلي قائلا: «يا إلهي، عليك توكلت فلا تدعني أخزى. كل منتظروك لا يخزون».
وليس بالأمر العجيب أن يتصرف داود على هذا النحو، فقد تميّزت حياته بالاتكال على الرب مما نلمسه في قوله: «أسمعني رحمتك في الغداة لاني عليك توكلت. علمني الطريق التي أسلك فيها لاني اليك رفعت نفسي... أرفع عينيَّ الى الجبال من حيث يأتي عوني. معونتي من عند الرب صانع السموات والارض». وكأني بالمرنم الحلو وقد وقف في موضع قدس الله وحصل على ما كانت تصبو اليه نفسه وعبّر عنه بالقول: «من لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض».
ما أجمل ان يرفع الإنسان نفسه إلى إلهه، إله الفداء والعهد الذي لا يتغيّر. الإله الذي لا يستغني الإنسان الضعيف عن مرافقته، لأنه يعضد كل الساقطين ويقّوم كل المنحنين. نعم ففي الله الحي يتحصّن الإيمان، ويثبّت مرساته فلا يتزعزع. وفي محبة الله يتحصّن الرجاء، ويتمنّع وينتظر وينال ما يرجوه. ولهذا قال بولس: «الرجاء لا يخزي، لأن محبة الله انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا». وفي انتظار الله تتمكن القوة وتغلب، ولهذا قال إشعياء: «أما منتظرو الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يعيون». «طرقك يا رب عرفني! سبلك علمني» قال المرنم. ومن هنا انطلق في نشيده الأول قائلاً: «طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس. لكن في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً».
وكم هو جدير بنا أن تكون لنا مثل هذه الطلبة: «طرقك يا رب عرفني، سبلك علمني». لأنها تعبّر عن روح الطاعة التي هي النتيجة الحتمية للإيمان المتجاوب مع النعمة الإلهية. وهذه الطلبة عينها، كانت يوماً سؤل قلب رجل الله موسى إذ قال: «وجدت نعمة في عينيك، علّمني طريقك حتى أعرفك». وبعد أن التمس داود من الله أن يعرّفه طرقه، ويعلّمه سبله، طلب اليه امتيازاً مهماً جداً: «دربني في حقك وعلمني». وهل من امتياز أهم من هذا ان يعرف الانسان حق الله، أو بالحري أن يعرف الله الحق؟ الحق الذي يحرر عارفه من ربقة الباطل، ليسلك في البر وقداسة الحق. هذا الحق هو الرب يسوع المسيح الذي قال: «إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم».
قال الرسول يوحنا: «نعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية». يا أخي، هل تريد أن تتمتع بحرية الحق؟ تعال الى يسوع الذي قال: «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً». فيسوع قد محا صك العبودية، الذي كان علينا بالفرائض وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه على الصليب. وحين تنال صك الحرية مكتوباً بدم الصليب، لا تصبح فقط عارفاً الحق، بل يصير صنع الحق مسَّرة قلبك، وفقاً لقول كاتب المزمور الحادي والخمسين: «ها قد سُررت بالحق في الباطن ففي السريرة تعرّفني حكمة». فطوبى لعارفي الحق، الذي هو الله بأقانيمه الثلاثة. فالآب هو الحق، بدليل قول المسيح: «الذي أرسلني هو حق». والابن هو الحق، بدليل قوله: «أنا هو الطريق والحق والحياة». والروح القدس هو الحق، بدليل قول الرسول الملهم يوحنا: «والروح هو الذي يشهد، لأن الروح هو الحق».
ثم يمضي داود في مناجاة الله فيقول: «أنت إله خلاصي» فيكشف لنا حقيقة رائعة، وهي أن هذا الإله الذي يعرّفنا طرقه، ويعلّمنا سبله، ويدرّبنا في حقه هو أيضاً إله خلاصنا. فقد قال ملاك الرب: «يا يوسف بن داود، لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم». ونتعلم من الكتاب المقدس ان الله في أقانيمه الثلاثة هو أصل الخلاص وصانع الخلاص، وضامن الخلاص. ومَن منا لا يهتّز قلبه طرباً حين يقرأ قول الآب: «التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض». ومن لا تذوب نفسه خشوعاً وهو يتأمل في قول الابن: «وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الانسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية». ومن لا يمجد الله وهو يقرأ كلام الوحي في أيوب: «روح الرب صنعني، ونسمة القدير أحيتني». واذ يقابل داود بين حاضره وماضيه لا يلبث أن يقول: «إياك انتظرت اليوم كله. أذكر مراحمك يا رب وإحساناتك، لأنها منذ الأزل هي».
قد يجد البعض في هذا القول شيئاً من التجاسر في حضرة الله، لأن المرنم يحضّ الله لكي يذكر معاملته له في الماضي ويعامله بمثلها. ولكن داود كان يخاطب الله على أساس النعمة وليس على أساس الاستحقاق. وفي هذا عبّر عن حرية النفس كنتيجة لمعرفة الله، لانه طَرَق باب محبته بوعده القائل: «محبة أبدية أحببتك من أجل ذلك أدمت لك الرحمة». والواقع أن هذا هو تصرف القلب الذي عاين الله، وانحصر بالشعور بخلاص الله، لأنه في استعراض الماضي وجد أن حياته كانت حافلة بمراحم الله، فانطلق من شعوره العميق بالفضل يذكر أن إحسانات الله لم تنقطع ولن تنقطع. وما أحلى ما قاله داود في المزمور ٥٢: «لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار؟ مراحم الله هي كل يوم».
حين استعرض داود معاملات الله له، راح يسمو ويرتفع من دائرة أعمال الله الى صفاته، صفات الإحسان والرحمة واللطف، التي تلازم جلاله ولا يمكن ان تنفصل عنه. وكمختبرٍ لجود الله، قال في المزمور ١٠٣: «أما رحمة الرب فإلى الدهر والأبد على خائفيه». ثم لا يلبث وهو المندهش من سعة أعمال النعمة ان حنى ركبتيه في صلاة الاعتراف وقال: «لا تذكر خطايا صباي ومعاصيّ. كرحمتك اذكرني من أجل جودك يا رب».
نقرأ في سفر اللاويين ان الكاهن كان في كل عام يُحمّل تيس عزازيل خطايا الشعب ويطلقه في البرية. أما في العهد الجديد، عهد النعمة والحق، الذي هو ناموس روح الحياة في المسيح، فالمسيح نفسه حمل خطايانا في جسده على الخشبة، فتمّ المكتوب في إرميا النبي: «لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد». وعلى هذا الأساس كتب الرسول بولس الى أهل كولوسي: « واذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم، أحياكم معه، مسامحاً لكم بجميع الخطايا». وكتب الى أهل كورنثوس: «الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم». فما أغناها من نعمة أن يغفر خطايانا ويتغاضى عن أزمنة جهلنا. ويختم داود تضرعاته بهذه العبارة: «اذكرني من أجل جودك» مما يدل على ان الله في إنارة ذهنه كشف له سر الفداء العظيم الذي أعطى الخاطئ الأثيم أكثر مما ينتظر. ومن هنا كان قوله: «باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته، الذي يغفر جميع ذنوبك الذي يشفي كل أمراضك، الذي يفدي من الحفرة حياتك».
حين قال اللص ليسوع على الصليب: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك» أعطاه رب الفداء أكثر مما توقع. أعطاه أولاً حسب غناه في المجد، فقال له: «الحق أقول لك، إنك اليوم تكون معي في الفردوس».
لنتعلم من داود المختبر النعمة والحق كيف نترجى الله عاضد الصديقين ومقّوم كل المنحنين، ومجري حق الصديقين. ولنتعلم منه الثقة في الله الذي قال: «لا أهملك ولا أتركك. عيني عليك».
العظة - ٥١ «إن أراد أحدٌ أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (متى ١٦: ٢٤)
ثبت بالاختبار أن الذات من أكبر العوائق لنضوج الانسان روحياً، فعلّتنا جميعاً تنحصر في جعل الذات محور حياتنا، بينما محور المسيحية هو المسيح، بمعنى أن نجعل المسيح متقدماً في كل شيء، أو كما قال يوحنا المعمدان: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص».
في رسالته الى الغلاطيين عبّر الرسول بولس عن الذات بكلمة «جسد» وقال إن أعمال الجسد هي: زنا، عهارة، نجاسة، دعارة، عبادة أوثان، سحر، عداوة، خصام، شقاق، بدعة، حسد، قتل، سكر، بطر. وهذه الثمار الردية كلها من ترّهات الإنسان العتيق الفاسد حسب شهوات الغرور. وقد جاءت تحت اسم الأهواء والشهوات الواجب أن تُصلب. والواقع أن الكتابة المقدسة تشدد على وجوب إنزال الذات عن عرش القلب وجَعْل المسيح الكل في الكل. وهذا ما يُسمى بالتكريس للمسيح، الذي لا يتم إلا بالصليب، كما هو مكتوب: «أما الذين هم للمسيح فقد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات».
فالصليب هو القوة التي تفصلني عن الماضي الملّوث، وتباعد بيني وبين العالم الذي يعج بشهوات الجسد. وبالصليب يتسنّى لي أن أحيا حياة الله وفقاً لقول بولس: «مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي».
حين قال الرسول بولس: «حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم». كان يحيطنا علماً بحقيقة الصليب كقوة الله وحكمة الله لكل من يؤمن. حتى لكأنه يقول: ينظر العالم إليّ كمذنب أثيم جذبه العالم بالشهوة، لكنني تخلَّصت من العالم بالصليب وتحررت من نيره بصلب الذات، فصار الصليب حاجزاً بيني وبين مصير بيت العبودية. وفاصلاً بيني وبين الماضي الذي تهت خلاله في برية هذا العالم، ومعبراً لاجتياز الأردن إلى أرض الموعد التي تفيض لبناً وعسلاً. ثم لا يلبث الرسول الكريم أن يحدثنا عن عمل الروح القدس في خلع الإنسان العتيق، معلماً إيانا أن الروح المبارك هو الذي يجذبنا الى الصليب لنختاره وسيلةً لقمع نزوات الجسد، فقال: «اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد». صحيح أن الجسد يشتهي ضد الروح ويقاوم عمله، ولكن الرسول يقول: «إن انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس. إن كنا نعيش بالروح فلنسلك بحسب الروح». بمعنى انه حين نسلك بالروح ونُقاد ونعيش به، فالروح يجاهد فينا لقمع شهوة الجسد، لأن الروح يشتهي ضد الجسد ويقاومه.
اعتمد يا أخي على الروح القدس. تنشَّقْه كما تتنشق الهواء، فهو الله العامل فينا المتمم خلاصنا، لأنه يأتي بنا الى الشركة في طبيعة المسيح الإلهية التي بها نهرب من الفساد الذي في العالم بالشهوة. امتلئ من الروح القدس، فيعمق فيك حكم الصليب الذي هو الموت عن الخطية، ويحييك للبر بيسوع المسيح ربنا. قد يمرّ المؤمن في تجارب قاسية، حتى يُخيل له أنه متروك من الله للبلوى المحرقة، كما كانت الحال مع داود بن يسى حين قال: «إلى متى يا رب تنساني كل النسيان؟ الى متى تحجب وجهك عني؟ الى متى أجعل هموماً في نفسي وحزناً في قلبي؟» ولكن حالة داود لم تكن إلا ظرفاً عابراً شبيهاً بسحابة تسوقها الريح، سرعان ما تذهب ليحل محلها الهدوء الشامل.
صعد أحدهم الى إحدى قمم جبال الألب ليقضي أسبوعاً بين روائع الطبيعة، فنزل في فندق شُيد في وسط المناظر الجميلة. ولكنه بسبب كثافة الضباب لم يستطع أن يرى شيئاً من جمالات الطبيعة. فاكتأب وصمم على مغادرة الفندق في صباح الغد. ولكن ما أن بزغ فجر الغد حتى هبت ريح شمالية أجْلت الضباب عن المكان، فأشرقت الشمس بنورها ودفئها، فعدل عن قراره وراح مع غيره من النزلاء يمتع نفسه بالمناظر الخلابة.
هكذا يكون الأمر معك يا أخي، فحين تهب نسمة الروح القدس على حياتك ينقشع ضباب الجسد، وسرعان ما تدرك سر الحياة المستنيرة مع المسيح في الله. ويعلن الله ابنه فيك، ويصير المسيح فيك رجاء المجد. قد يعتري حياة المؤمن شيء من ضعف المحبة مما يعرضه لللوم، كما حصل للأفسسيين. فقد قال الرب: «اكتب يا يوحنا الى ملاك كنيسة أفسس: عندي عليك انك تركت محبتك الأولى». ولكن ما أن يهرع إلى الله بالتوبة حتى يبادره الله بالصفح، ويعطيه الفرصة ليعمل أعماله الأولى. فيغلب ويعطيه السيد الرب أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله.
قال بولس في غلاطية ١: ٢٤ : «فكانوا يمجدون الله فيّ». ويقيناً إنه لأمر طبيعي ان يتمجد الله برسوله الذي صُلب مع المسيح ليحيا المسيح فيه. وعلى هذا النحو إن كان المسيح فيك، فلا بد أن يتمجد الله في حياتك، لأن المسيح الذي فيك هو ربٌّ لمجد الله الآب. الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة. فليتك تُخضِع إرادتك لله ليعمل فيك بحسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب.
كانت كلمة الله لهدسن تايلر في بداية خدمته كمبشر: «يا ابني، أريد أن أبشر الصين. فإن أردت ان تسير معي أستخدمتك لهذا العمل». لعلّي لا أستطيع العمل بين قبائل البدو، ولكن المسيح فيّ يستطيع ذلك بالرغم من الظروف المعاكسة. ولعل زميلي الأوروبي لا يستطيع العمل مرسلاً في الشرق الأوسط بسبب الأحوال السياسية الحاضرة، ولكن المسيح فيه يستطيع. «أستطيع كل شيء بالمسيح الذي يقويني».
في البيضة نقطة صغيرة اسمها المحّ وهي جرثومة الحياة، وحولها السائل اللزج الذي تنمو فيه الجرثومة إلى أن تتحول إلى صوص (كتكوت) بفعل حرارة الحاضنة. وما أن يكتمل نمو الصوص حتى يحطم قشرة البيضة ويخرج الى النور. هكذا في حياة كل إنسان عناصر خيّرة كامنة، وعلينا نحن خدام الكلمة أن نحضن أولئك الذين انتدبَنَا الله لنوصّل كلمة الحق إنجيل الخلاص. وعلينا أن نتعهدهم بالعناية والرعاية، ولو بثمنٍ من التضحية، إلى أن يصيروا للمسيح. فحين قال الرسول للغلاطيين: «أتمخَّض بكم» كان يعني الضيقات التي تكبّدها لأجلهم. وقد استعار الرسول هذه العبارة من آلام المخاض التي تعانيها الأم وهي تلد. ولا غرو بذلك، فالتضحية لأجل خلاص النفس هي الناحية الأبرز في رسالة المسيح. وقد عبّر ذلك بقوله: «الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمُتْ فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير».
والمسيح له المجد تمثل فعلاً بحبة الحنطة في موته ودفنه وقيامته وجذبه الكثيرين. وقد نجم عن تضحيته خلاص الملايين من جميع الأمم والشعوب والألسنة. والمسيح جعل رسالة التضحية واجبة الأداء على جميع خدامه في كل جيل وعصر. «لهذا دعيتم (قال بطرس) فإن المسيح تألم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكي نتبع خطواته».
إن كان المسيح فيكَ أو فيكِ، أو فيَّ فلا بدّ من تجاوبنا مع مشيئة المسيح:
١ - في المحبة: فقد كان له المجد محباً إلى درجة وضع النفس، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لاحظوا قوله: «أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف».
٢ - في التواضع: فقد وُلد في كهف وأُضجع في مذود، وعاش في رقة الحال بحيث لم يكن له أين يسند رأسه. وكانت رسالته الخاصة: «احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب».
حين سيم القديس أمبروز رئيساً لأساقفة ميلان، رفض ارتداء الحُلة الأرجوانية التي قدمها له الامبراطور، قائلاً: «إن هذه الحلة تجعل مرتديها أميراً من الأمراء، وليس أحد خدام يسوع». تواضع يا خادم الرب فيتعامل معك الله على نطاق واسع. كما هو مكتوب: «يقاوم الله المستكبرين، أما المتواضعون فيعطيهم نعمة».
٣ - في خدمته: كان يسوع في أيام جسده مثالاً للخادم الأمين المتأهب لكل عمل صالح. لقد خدم الإنسانية كما لم يخدمها أحد قبله أو بعده، اذ شفى أمراضها وكفّر عن خطاياها وفدى من الحفرة حياتها. ولن يكون أحد عظيماً في ملكوت الله ما لم يتبع خطوات يسوع الخادم، حاملاً إنجيل الخلاص بيد، وكأس الماء البارد في اليد الأخرى.
تساءل جماعة من الرهبان عن أي وعد أو قول في سفر الرؤيا يريحهم أكثر من غيره؟ فقال واحد منهم: «ويمسح الله كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون في ما بعد». وقال آخر: «لا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت». وقال ثالث: «من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي». وأخيراً قال أصغرهم وهو (توما الكمبيسي مؤلف كتاب الاقتداء بالمسيح) «وعبيده يخدمونه، واسمه على جباههم».
هذا هو أفضل امتياز في الأبدية: خدمة ذاك الذي لم يستحِ بنا، ولم يكف عن خدمتنا على الأرض.
٤ - في آلامه: قال الرسول بولس: «لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته، لعلي أبلغ الى قيامة الأموات». قال القديس فرنسيس الاسيزي في إحدى صلواته: «يا رب يسوع، أعطني أن أشعر ولو بجزء من الألم الذي تألمته لأجلنا، وأن أحس في قلبي ولو بهبوب نسيم تلك المحبة التي اضطرمت في قلبك لخلاصنا».
وقال بطرس: «فإذ قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد تسلّحوا أنتم بهذه النية، فإن من تألم في الجسد كُفّ عن الخطية». أجل! كل هذه شروط تفرضها حتمية التمثل بيسوع كقسطنا من صليبه. وهو نفسه قال: «إن أراد أحدٌ أن ياتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني». ومنعاً لكل جدال قال: «ليس التلميذ أفضل من معلمه، ولا العبد أفضل من سيده. يكفي التلميذ أن يكون كمعلّمه والعبد كسيده».
١٢ - عظة في مجيء المسيح ثانية
العظة - ٥٢ «ماران أثا» (١ كورنثوس ١٦: ٢٢)
بهذه العبارة الموجزة ختم الرسول بولس رسالته الى أهل كورنثوس، وهي كلمتان سريانيتان معناهما «الرب آت». وقد جعل المسيحيون الأوائل هاتين الكلمتين تحية يتبادلونها. فإذا ما تلاقوا قالوا «ماران أثا»، وإذا ما افترقوا قالوا «ماران أثا».
وكانت الغاية من ترديدها أن تذكرهم دوماً بمجيء الرب، الذي هو أساس الرجاء الحي الذي انطلق من قيامة يسوع من الأموات. قال مفسر الكتاب المقدس الشهير كامبل مورجان: «مجيء يسوع ثانية هو النور المشرق في طريق حياتي». وقال الواعظ مودي: «هذا الموضوع الخطير يتدخل في كل نقطة من حياة المسيحي، ويلعب دوراً رئيسياً في تصرفات ودوافع أولاد الله، فقد دوّن لنا في الإنجيل قول الرب يسوع في هذا الموضوع: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويجمع أمامه جميع الشعوب، فيميّز بعضهم من بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثو الملكوت المعدّ لكم قبل تأسيس العالم. ثم يقول للذين عن اليسار: اذهبوا عني إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته». فكلام الرب هذا، إن كان يحمل دعوة مبهجة للذين يحبون الرب يسوع، فهو يحمل انذاراً خطيراً للذين لم يحبوه.
ليس في الكتاب المقدس أهول من هذا الإنذار، ولا عقاب مؤكد كتأكيد العقاب المنذَر به في هذه العبارة. لا يضلك أحد، فان مجيء المسيح حقيقة لا ريب فيها. لأن الكتاب المقدس تكلم عنه أكثر من أي موضوع آخر، حتى لتجاوز عدد الآيات التي ذكر فيها الثمانماية آية، مما جعله يظفر بإجماع المسيحيين في كل جيل وعصر. وإن كان أحد مدعواً مسيحياً ويقول: سيدي يبطئ قدومه، فهو عرضة لأن يصبح فاتراً متوانياً، ويُخشى من أن يصبح من أولئك الغفلة الذين أشار اليهم الرسول بطرس، حين قال: «سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم، وقائلين: أين هو موعد مجيئه؟ لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باق وهكذا من بدء الخليقة». أما الذي يقول: «الرب آتٍ» فيكون مستيقظاً نشيطاً مستعداً دائماً أن يعطي حساباً عن وكالته.
من مقدمة الشهادات التي تؤكد المجيء الثاني أقوال الرب نفسه، إذ يقول في متى ٢٤: ٣٠ «ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير». وقال في رؤيا ٢٢: ١٢ «ها أنا آتٍ سريعاً وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما يكون عمله». ويلي ذلك شهادة الرسل الأطهار الذين أُعلنت لهم سرائر الله، فقد قال الرسول يعقوب: «فتأنّوا أنتم وثبّتوا قلوبكم، لأن مجيء الرب قد اقترب». وقال الرسول بطرس: «لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ. لكنه يتأنى علينا ولا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة».
وقال الرسول يوحنا: «الآن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو. ومن عنده هذا الرجاء به، يطهر نفسه كما هو طاهر». وقال بولس: «لأن الرب نفسه سوف ينزل من السماء بهتاف، بصوت ملائكة، وبوق الله، والأموات في المسيح سيقومون أولاً»(١ تس ٤: ١٦). ونقرأ في سفر الأعمال شهادة السماء على فم ملاكين قالا للتلاميذ: «أيها الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ ان يسوع هذا الذي ارتفع عنكم الى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً الى السماء».
وجاء في سفر الرؤيا ١: ٧ «هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض». سينظره المفديون فيفرحون، لأنه بحسب الوعد آتٍ ليأخذهم الى أورشليم السماوية، حيث مسكن الله مع الناس. وسينظره غير المفديين فينوحون عليه، لأنهم تجاهلوا زمن افتقادهم، ولم يقبلوا ما هو لسلامهم. هؤلاء الغَفَلة ينطبق عليهم مثل العبد، الذي قال في قلبه: «سيدي يبطئ قدومه». ولما اطمأن لهذه الفكرة راح يأكل ويشرب مع السكارى. ولكن سيده جاء في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها، فقطعه، وجعل نصيبه مع المرائين. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.
«ها انا آتي سريعاً» قال السيد الرب، وقوله هذا يضعنا أمام سؤال خطير جداً، وهو: كيف نفكر في مجيء الرب ونرقبه ونستعد له؟ كلنا نذكر وصيته القائلة: «اسهروا لأنكم لا تعلمون في اية ساعة يأتي ربكم!!! واعلموا هذا: أنه لو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق، لسهر ولم يدع بيته يُنقَب. لذلك كونوا أنتم أيضاً مستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان».
وليس الاستعداد بإجراء الحساب لمعرفة زمن مجيء الرب وتحديد اليوم والساعة، فقد قال له المجد: «ليس لكم ان تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه». كما أن الاستعداد ليس بمحاولة حل الرموز والأرقام التي وردت في النبوات عن الوحش والنبي الكذاب وغير ذلك من الرموز، مثلما يفعل بعض الباحثين السطحيين الذين جعلوا نبوات الكتاب المقدس ملهاةً لهم - فقد نجم عن تأويلاتهم بِدع وضلالات وتجنٍّ على حق الإيمان المسلَّم مرة للقديسين. فالقصد الإلهي من إعلان مجيء الرب لم يكن لإشباع فضول هذا النوع من الباحثين، وانما لتحذير البشر وتنبيههم لمصيرٍ لا بد منه وهو: انه وُضع للناس ان يموتوا مرة، ثم بعد ذلك الدينونة.
الاستعداد الصحيح مركّز في أربعة أمور، ذكرها الرب ودّونها لوقا الإنجيلي (لوقا٢١: ٢٨ - ٣٧).
١ - بَث الشجاعة في نفوس تلاميذه، الذين كانوا يعيشون في دوامة الخوف والقلق من جراء إعلاناته المتكررة عن القبض عليه ومحاكمته وصلبه. الأمر الذي جعلهم كبحارة هبّت عليهم ريح عاصفة، وراحت الأمواج تتقاذف سفينتهم ذات اليمين وذات الشمال، فأحنوا ظهورهم وطأطأوا رؤوسهم من الخوف. ولكن في غمرة تلك المخاوف، ناداهم الرب: «لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي في بيت أبي منازل كثيرة وإلا فإني كنت قد قلت لكم. أنا أمضي لأعدّ لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم اليّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً».
قال هذا رب المجد، فانطلق الرجاء الحي بمجيئه ثانية، فتشددت النفوس الخائرة وتعزت القلوب المكتئبة. وحين قام سيد الحياة من القبر تثبت الرجاء وبزغ فجر جديد في يقين الخلاص، ورنّ نشيد الأمل قائلاً: «لنستيقظ من النوم، فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا». سنُخطف جميعاً في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون مع الرب كل حين. لذلك عّزوا بعضكم بعضا بهذا الكلام. وأية تعزية أعظم من هذه: أن الرب عند مجيئه سيُقيم الراقدين ويغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، وسيخطف الجميع الى السماء حيث ستقام وليمة عشاء عرس الحمل.
٢ - لتحذير المؤمنين من الانغماس في الشهوات الردية: قال الرب: «احترزوا لنفوسكم لئلا تُشغل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة، فيصادفكم ذلك اليوم بغتة». هذه العبارات تزيل القناع عن خطر يهدد المسيحيين، وخصوصاً في هذه الأيام، حيث أطلق معظم الناس العنان لشهواتهم، في نشوة السرور بالأشياء التي في العالم، وأغرق كثيرون نفوسهم في لجّة المشغوليات المادية.
فهؤلاء المنغمسون بالشهوات، وأولئك المرتبكون بهموم الحياة، سيصادفهم يوم الرب بغتة، وكالفخ يأتي على جميع الجالسين على وجه الأرض. وقديما قال سليمان: «الإنسان الذي لا يعرف وقته كالأسماك التي تؤخذ بشبكة مهللة، وكالعصافير التي تؤخذ بالشرك».
٣ - يحض المؤمنين على الانتظار الساهر: قال: «لتكن أحقاؤكم ممنطقة، وسُرُجكم موقدة، وأنتم كأناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس. حتى إذا جاء سيدهم وقرع يفتحون للوقت. طوبى لأولئك العبيد الذين اذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. الحق أقول لكم انه يتمنطق ويتكئهم ويقوم ويخدمهم».
في فجر المسيحية كان المؤمنون يعيشون حياة انتظار وسهر، وفي انتظارهم الساهر المشتاق كانوا يجددون القوى على وفق القول النبوي: «أما منتظرو الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور».
فما أحوجنا الى التمثُّل بأولئك القديسين لتجديد قوانا الروحية التي وهنت بسبب مسايرتنا أفكار هذا الدهر. لنتعلم درساً من داود بن يسى الذي انتظر الرب طويلاً ونال سؤل قلبه، وقد ذكر ذلك في المزمور ٤٠ اذ قال: «انتظاراً انتظرت الرب فمال اليّ وسمع صراخي، وأصعدني من جب الهلاك، من طين الحمأة، وأقام على صخرة رجليّ. ثبّت خطواتي وجعل في فمي ترنيمة جديدة، تسبيحة لإلهنا».
ان رسالة المجيء الثاني تهيب بنا اليوم أن نترك التراخي، وأن نبذل كل جهد لنكون مرضيين وثابتين في الرب. بهذا اوصى الرسول الملهم يوحنا، إذ قال: «أيها الأولاد اثبتوا فيه، حتى إذا أُظهر يكون لنا ثقة، ولا نخجل منه في مجيئه». وما أحلى أن يكون جوابنا للحياة وللعالم، ما قاله رجل الإصلاح الكبير كالفن: «ماذا أفعل اذا جاء الرب يسوع ووجدني متراخيا؟».
٤ - بَث روح الصلاة المستمرة: قال له المجد: «ينبغي ان يُصلّى كل حين ولا يُمل». فلنصل لأن الصلاة هي التعبير الحقيقي عن أشواقنا للمثول في حضرة الله. وبالصلاة نتجاوب مع أحشاء يسوع الذي أحبنا وقد غسّلنا من خطايانا بدمه، والذي يشتاق الى لقيانا، بدليل قوله: «نعم أنا آتٍ سريعا!» ولنصلِّ بشوق القلوب وحرارة العاطفة مرددين قول يوحنا الرائي: «آمين تعال أيها الرب يسوع».
إلى ذاك اللقا تشتاق روحي وتُشفى عند لُقياه جروحي فعجّل يا مليكي يا مسيحي مجيئاً قربه أضحى شهياً
هذه الترنيمة يجب أن تكون في أفواهنا كل يوم، وأن تحتل الصدارة في صلواتنا باستمرار ولجاجة. بهذا أوصانا الرسول بطرس: «يجب ان تكونوا في سيرة مقدسة وتقوى، منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب». «اسهروا وتضرعوا في كل حين لتُحسبوا أهلاً للنجاة» قال الرب يسوع لتلاميذه.
ولعل السيد الرب أراد أن يرسّخ في أذهاننا أن السهر والصلاة صنوان لا يفترقان. وفي اعتقادي أن السهر بدون صلاة هو مسيحية مدّعية. وأن الصلاة بدون سهر هي ديانة مقتحمة. كذلك من المحتّم أن يقترن السهر والصلاة بالاستمرار، وفقاً لقول الرسول: «صلّوا بلا انقطاع. اشكروا في كل حين، لأن هذه مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم». مكتوب أيضاً: «تمموا خلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة».
فبالصلاة والسهر نتغلب على التجارب، ونتمم خلاصنا بتقديس الروح للطاعة يوماً فيوماً، بانتظار مجيء الرب. في ختام رسالته الثانية قال الرسول بطرس: «أيها الأحباء، إذ أنتم منتظرين هذه، اجتهدوا أن توجدوا بلا دنس ولا عيب في سلام، واحسبوا أناة ربنا خلاصاً. احترسوا من أن تنقادوا بضلال الأردياء فتسقطوا من ثباتكم، ولكن انموا في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح». بمعنى أن الرسول الكريم يهيب بنا كمنتظرين أن نتقدم في الحياة الروحية نمواً في النعمة للقداسة. وهذا التقدّم النامي مُتاح لنا باتخاذ وسائل النعمة، ولا سيما درس الكتاب المقدس، وطلب ملء الروح القدس.
المسابقة
أيها القارئ العزيز،
إن تعمقت في قراءة هذا الكتاب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملاً عند إرسال إجابتك إلينا.
- كيف أظهر المسيح لنا أن الله محبة؟
- لماذا لا يسمع معظم الناس حديث السماوات عن الله؟
- «اسم الرب برج حصين» - هل اختبرته؟ اذكر واحداً من اختباراتك معه.
- اذكر بعض الوزنات التي منحها الله لك، واذكر كيف اشتغلت بها.
- اكتب نصيحة الأديبة اللبنانية سلمى صائغ لابنتها.
- ما الذي فعله بطرس بنديللي لتُنقل عنه صورة المسيح، ثم لتُنقل عنه صورة يهوذا؟ هل تعرف شبيهاً لبطرس بنديللي لتخبرنا عنه؟
- بماذا نشعر عندما نتواجد في محضر الله؟
- ماذا يفعل الراعي للمطرود وللجريح؟
- لخص رسالة عاموس النبي في أربع جُمل.
- ما هي التوبة، وكيف تبدأ؟
- ما هو الفرق بين الغني ولعازر، في الدنيا وفي الآخرة؟
- ما هو الخطر الروحي في كلام الرابيّ سمعان؟
- اذكر ثلاثة شواهد كتابية تقول إن المسيح ابن الله - وما معنى هذا اللقب الكريم؟
- ماذا نتعلم من مَثَل السامري الصالح؟
- ما هو الفرق بين إيمان زكريا الكاهن وإيمان العذراء مريم لما جاءت بشارة الملاك لكلّ منهما؟
- لماذا جاءنا المسيح في ثوب بسيط؟
- كيف تحققت نبوة ملاخي ٤: ٢ في حياتك؟
- اكتب أبيات الشاعر المصري أحمد شوقي في ميلاد المسيح.
- اذكر موقفاً في حياتك الشخصية كان المسيح فيه نوراً لك.
- اذكر كيف تطور إيمان الأعمى الذي شفي حتى عرف أن المسيح هو ابن الله.
- المسيح باب يؤدي الى بركات كثيرة - اذكر بعضها.
- في هذه العظة اقتباس من ايريناوس، ومن نيمولر - اكتبهما.
- ماذا تتعلم من عصا هارون التي أفرخت؟
- كيف نجعل تفكيرنا طاهراً؟
- اشرح عمل «الولي» في الكتاب المقدس، وكيف يكون المسيح وليّنا؟
- ما هي المعاني التي تراها في دخول المسيح الى أورشليم راكباً حماراً؟
- ( أ ) كيف تبدو الحياة المُستقبلة لنا في ضوء قيامة المسيح؟
(ب) في كلماتك أنت ارْوِ كيف ظهر المسيح لمريم المجدلية؟- في هذه العظة اقتباس من طالب جامعي. وضّح خطأ قوله إن رفع الصليب من المسيحية يجعلها ديانة العالم أجمع.
- اذكر ثلاث بركات نستفيدها من صعود المسيح.
- اذكر سببين جعلا الرسول بولس يفتخر بالصليب.
- كيف نتشبَّه بموت المسيح؟
- ما هي بعض الأشياء التي نحاول الاختفاء وراءها لما نكتشف أخطاءنا؟
- لماذا يطلب الانجيل منا الامتناع عن الدمدمة؟
- لماذا يسمح الله بفشل بعض مخططاتنا للمستقبل؟
- ماذا فعل داود عندما حاقت به البلايا؟
- اذكر شرطي الامتلاء بالروح القدس.
- اذكر خمسة أشياء نحتاجها يعطيها الروح القدس لنا.
- ثلاثة أشياء يطلبها الله منا - ما هي؟ اكتب سطراً عن كل واحد منها.
- ما هو أعظم عمل رحمة يمكن أن تقوم به؟
- اذكر حالة خصام مرَّت بك، استخدمك الله لتصنع فيها سلاماً.
- لماذا كلَّفنا المسيح بمحبة أعدائنا والصلاة لأجلهم؟
- لماذ طلب المسيح أن تكون الصلاة في الخفاء؟
- اذكر أمرين يساعداننا على عدم الاهتمام والقلق على الغد.
- ما الذي يساعدنا على عمل إرادة أبينا الذي في السماوات؟
- اذكر أربعة أشياء في حياتك تشكر الرب من أجلها.
- اذكر من اختبارك موقفاً لم تسقط فيه المحبة.
- لماذا قال الرسول بولس إن المحبة أعظم من الإيمان، وأعظم من الرجاء؟
- لماذا ظن الرسول بولس أن نَسَبه (أرومته) ربحاً؟ وكيف تحوَّل ما حسبه ربحاً إلى خسارة؟
- لماذا اعتبر داود عصا الله وعكازه مصدراً لتقويته؟
- «يعرِّف» - «يعلِّم» - «يدرّب» - ما هو الفرق بين هذه الثلاثة؟ ولماذا وردت في مزمور ٢٥ بهذا الترتيب؟
- ما معنى «الجسد» الذي قصد بولس أن يصلبه؟
- ما معنى «ماران أثا»؟ ولماذا استخدمها المسيحيون الأولون كعبارة تحيَّة؟
Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D-70007
Stuttgart
Germany