سفر كل عصر
لسفر إرميا أهمية خاصة تمس حياة المؤمنين في كل عصر.
عاش النبي في فترة عصيبة، فمنذ حوالي قرن سقطت مملكة الشمال "إسرائيل" بأسباطها العشرة تحت السبي، وزال مجدها بسبب ما اتسم بها ملوكها العتاة من عجرفة وفساد. أما مملكة الجنوب "يهوذا" فعوض أن تتعظ بما حلّ بأختها "إسرائيل"، نست أو تناست ما صنعته الخطية بأختها، حاسبة أن ذلك هو حكم إلهي عادل لانفصالها عن يهوذا وإقامتها مركزًا للعبادة في السامرة عوض هيكل أورشليم.
مع بداية خدمة إرميا كان الكل - الملك والمشيرون والكهنة وكل القيادات الدينية والشعب - متفائلاً، وقد انحرفوا إلى عبادة الأوثان وانحطت أخلاقياتهم حتى سكنت الشريرات حول بيت الرب يكرسن حياتهن لارتكاب الشر مع القادمين للعبادة، وانشغل رجال الدين مع الأنبياء الكذبة بمحبة المال والمجد الباطل. وإذ أراد يوشيا الملك الإصلاح قام بترميم الهيكل، لكن الإصلاح لم يصل إلى القلوب. فجاء إرميا يحذر وينذر معلنًا ضرورة التوبة والرجوع إلى الله بكل القلب، مهتمًا بالإصلاح الداخلي للنفس وإلا سقطت المملكة! هذا هو مفتاح السفر.
إن كان هناك ترميم لبيت الرب، فالحاجة ماسة إلى ترميم القلب كمسكن خفي للرب.
وإن كانت هناك ضرورة للذبائح، فيلزم أيضًا تقديم الطاعة لله ذبيحة حب له.
وإن كان لابد من الختان فليُختن القلب والحواس أيضًا.
إن كانوا أثناء الترميم قد وجدوا سفر الشريعة، فيليق بنا أن نجدها منقوشة بالروح القدس داخل النفس.
وسط هذا الظلام الدامس أشرقت أشعة الرجاء بالرب على النبي الباكي الشجاع، إذ رأى من بعيد المسّيا المخلص قادمًا ليقيم عهدًا جديدًا، فيه تُنقش شريعة الله لا على لوحي حجر، إنما داخل القلب الحجري لتجعل منه سماءً مقدسة!
هذا السفر في حقيقته هو سفر كل نفس قد مالت في ضعفها إلى تغطية ذاتها بالشكليات في العبادة دون التمتع بعمل الله الخفي والانشغال بالعريس السماوي!
في هذا السفر نرى رجل الله مختفيًا وراء كلمة الله النارية لكي يعلن الحق الذي كاد أن يرفضه الكل. يكشف أحكام الله وتأديباته في غير مداهنة ولا مجاملة؛ بل في اتضاع مع حزم، في قوة مع بث روح الرجاء... وقد كلفه ذلك احتمال اضطهادات كثيرة ومتاعب، بل ودفع حياته كلها ثمنًا لذلك.
لخص العلامة أوريجينوس غاية هذا السفر بقوله:
[أنظر إذًا أي شقاء عظيم أن يخطئ الإنسان فيُسلَّم إلى الشيطان، الذي يسبي (يأسر) النفوس التي تخلى عنها الله. لكن ليس بدون سبب يترك الله هؤلاء الخطاة. فإنه عندما يرسل المطر على الكرمة ثم لا تعطيه هذه الكرمة سوى شوكًا بدلاً من العنب، ماذا يفعل الله بها إلاَّ أن يأمر السحب بألا تمطر عليها؟
إذًا نحن أيضًا مهددون بسبب خطايانا، إن لم نتب يجب أن ُنسلم إلى نبوخذنصر وإلى البابليين حتى يعذبوننا بالمعنى الروحي. أمام هذا التهديد، تدعونا كلمات الأنبياء، وكلمات الشريعة، وكلمات الرسل، وكلمات إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح إلى التوبة وإلى الرجوع. إن سمعنا لهم نؤمن بالذي قال: "ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه" (يونان 3: 10)[1].
والآن أقدم لك أيها العزيز مقدمة بسيطة للسفر مع تفسير مختصر وتأملات أرجو أن تسندنا بروح الله القدوس على التمتع بأسرار هذا السفر الروحية العميقة وفاعلية كلمة الله فينا، مستندًا على بعض مفاهيم الأولين.
القمص تادرس يعقوب ملطي
سانتا مونيكا 1994كنيسة القديسين بطرس وبولس
-
الجزء الأول الأصحاحات 26-29 (حوار إرميا مع الأنبياء الكذبة) الأصحاح السادس والعشرون (عظة الهيكل ونتائجها) الأصحاح الأول (الدعوة للخدمة) الأصحاح السابع والعشرون (نير بابل)- الباب الأول الأصحاحات [2- 32] الأصحاح الثامن والعشرون (إرميا يقف ضد حننيا)الأصحاحات 2-6 (عتاب في الأذن) الأصحاح الثاني (سرّ الخصومة)الأصحاحات 30-33 (سفر تعزية) الأصحاح الثالث (الله يطلب عروسه) الأصحاح الثلاثون (عودة مجيدة) الأصحاح الرابع (زينة العروس) الأصحاح الحادى والثلاثون (العهد الجديد) الأصحاح الخامس (سرّ التأديب) الأصحاح الثاني والثلاثون (شراء أرض أثناء السبي) الأصحاح السادس (اقتراب التأديب) الأصحاح الثالث والثلاثون (أورشليم... أنشودة فرح!)الأصحاحات 7-10 (عتاب علني في باب بيت الرب) الأصحاح الرابع والثلاثون (العبودية عوض الحرية) الأصحاح السابع (تقديس البيت الداخلي) الأصحاح الخامس والثلاثون (موقف الركابيين الأمناء) الأصحاح الثامن (شكلية في حفظ الشريعة) الأصحاح السادس والثلاثون (كلمة الرب لا تفنى) الأصحاح التاسع (مرثاة على الجميع) الأصحاح العاشر (العودة إلى الله) الأصحاح الثامن والثلاثون (إرميا في الجب)الأصحاحات 11- 20 (صراع إرميا النبي) الأصحاح التاسع والثلاثون (سقوط أورشليم في السبي) الأصحاح الحادي عشر (العهد المكسور)الأصحاحات 40-45 (خبرات إرميا ونبواته) الأصحاح الثاني عشر (أعداء في الداخل) الأصحاح الأربعون (إرميا مع جدليا في أورشليم) الأصحاح الثالث عشر (مثلا المنطقة والزق الممتلئ خمرًا) الأصحاح الحادي والأربعون (اغتيال جدليا والي أورشليم) الأصحاح الرابع عشر (التأديب بالقحط) الأصحاح الثاني والأربعون (قد خدعتم أنفسكم!) الأصحاح الخامس عشر (الشفاعة المرفوضة) الأصحاح الثالث الأربعون (حمل إرميا إلى مصر قسرًا) الأصحاح السادس عشر (منعه من الزواج) الأصحاح الرابع والأربعون (نبواته في مصر) الأصحاح السابع عشر (خطايا يهوذا) الأصحاح الخامس والأربعون (حديث معزي مع باروخ) الأصحاح الثامن عشر (مثل الفخاري)الأصحاحات 46-51 (نبوات عن الأمم) الأصحاح التاسع عشر (مَثَلْ الإناء الخزفي) الأصحاح السادس والأربعون (ارتعاب مصر الوثنية) الأصحاح العشرون (مقاومة فشحور له) الأصحاح السابع والأربعون (سيف الرب)الجزء الثاني الأصحاح الثامن والأربعون (نبوات ضد موآب)الأصحاحات 21-33 (نبوات ما قبل السقوط) الأصحاح التاسع والأربعون (نبوات ضد الأمم) الأصحاح الحادي والعشرون (قيادة جاحدة) الأصحاح الخمسون (سقطت، سقطت أساسات بابل!!) الأصحاح الثاني والعشرون (حاجة الملك إلى التوبة) الأصحاح الحادي والخمسون (اهربوا من بابل!) الأصحاح الثالث والعشرون (الرب راعينا وبرنا) الأصحاح الثاني والخمسون (ملحق تاريخي) الاصحاح الرابع والعشرون (سلَّتا التين) الأصحاح الخامس والعشرون (كأس خمر السخط)
مقدمة في سفر إرميا
اسم السفر:
جاء اسم إرميا في العبرية "Yirmya" أو "Yirmyahu" (إرمياهو)، وجاء في الترجمة السبعينية Iremias (إرمياس)، وفي الطبعات اللاتينية Jeremias (جرمياس). إرميا النبي وظروف الكتابة:
في هذا السفر امتزجت حياة إرميا النبي والأحداث التاريخية في عهده بالنبوة، لذا أجد نفسي ُملزمًا أن أكتب أولاً عن حياة هذا النبي مع عرض سريع للأحداث المعاصرة له، وإن كان قد سبق لي عرض بعضها في سفر حزقيال الذي عاصر إرميا النبي في أواخر أيامه.
1. إن كان هذا السفر يُنسب لإرميا النبي، لكن البعض يرى أن صديقه الحميم "باروخ" الكاتب هو الذي سجله (36: 23)، إذ كان محتفظًا بمنطوقات النبي ومدركًا لدقائق حياته.
2. كلمة "إرميا" تعني "يهوه يؤسس أو يثبت"، وربما تعني "يهوه يرفع أو يمجد"[2]. ففي أحلك الفترات ظلامًا، بينما كان إسرائيل مسبيًا ويهوذا في طريقه إلى السبي جاء إرميا من قبل الرب يعلن أن الله يود أن يؤسس شعبه ويثبته، بل يرفعه ويمجده، إن عاد اليه بالتوبة من كل القلب. الله لا يريد لنا المرّ ولا الضيق، حتى إن بدا كأنه يمرّر حياتنا بتهديداته، إنما يريد قيامتنا ومجدنا على مستوى أبدي فائق.
يرى البعض أن "إرميا" تعني "الرب يرمي"، بمعنى أن الله قذف بالنبي إلى عالمٍ معادٍ له، أو ألقى بالأمم تحت الحكم الإلهي بسبب خطاياهم[3].
3. وُلد إرميا في منتصف القرن السابع ق.م، في أواخر عصر الملك منسى المرتد، من عائلة كهنوتية، تقطن في قرية صغيرة تسمى عناثوث في أرض بنيامين، تبعد حوالي ثلاثة أميال شمال شرق أورشليم. وهي مدينة الكاهن أبياثار الذي استبعده سليمان الملك (1 مل 2: 26)، ربما في موقع رأس الخرابة Ras-el-Kharrubeh بجوار القرية الحالية عناتا Anata[4]. وقد أفاده نسبه إلى عائلة كهنوتية في معرفة الشريعة وإدراكه أعمال الله مع شعبه. أما كونه بجوار أورشليم، فقد أتاح له وهو في سن صغير أن يحضر المواسم والأعياد المقدسة ويرى التصرفات الفاسدة في الأيام المقدسة للرب. أما القرية فقدمت له الطبيعة الشاعرية التي كان لها أثرها على نفسه من حساسية وعاطفة متدفقة. كانت القرية أيضًا على حافة البرية، فقدمت له بجوار آمان القرية رعب الصحراء، ومع خيرات القرية جفاف البرية. لهذا كثيرًا ما تحدث عن زئير الأسود وأشار إلى الحيوانات المفترسة.
4. تكرس إرميا لهذا العمل النبوي قبل ولادته، وُدعي بواسطة رؤيا وهو صغير السن (ولد na'ar). مثل موسى النبي حاول أن يهرب من الدعوة الإلهية، ليس رغبة في التخلي عن الالتزام بالمسئولية أو الخدمة، وإنما لشعوره بعجزه وقلة خبرته في التعامل مع الآخرين. لكن الله لمس فمه ووهبه كلمته وأقامه على ممالك وأمم لكي يقلع ويهدم، ويزرع ويبني. لقد أعلن له الله أنه سُيقاوم من القادة والكهنة والشعب، لكنهم لا يغلبوه (1: 4-10).
كان إرميا في عيني نفسه أمام الله كطفلٍ صغيرٍ، أما أمام الناس فصاحب قلب أسدي لا يعرف الخوف ولا المهادنة.
كان حساسًا للغاية، رقيق المشاعر، عاطفيًا إلى أبعد الحدود، لكنه قوي لا يعرف الضعف، ولا يتراخى في إعلان الحق مهما كلفه الأمر.
عاش باكيًا، تجري دموعه كنهرٍ يناسب لا يجف، فدُعي بالنبي الباكي، لكنه غير هزيلٍ ولا متراخٍ في جهاده.
دعي "أيوب الأنبياء"، رجل آلام وضيقات بسبب جراحته[5]:
- رفضه شعبه ورذلوه (11: 18-21).
- خانه إخوته (14: 13-16؛ 28: 10-17).
- ضُرب ووضع في مقطرة (20: 1-2).
- هُدد بالقتل (26: 8؛ 36: 26).
- سُجن واُتُهم بالخيانة الوطنية (32: 2-3؛ 37: 11-15).
- وُضع في جب ليموت (38: 6).
- قيِّد في سلاسل (40: 1).
- اُحرقت بعض نبواته (36: 22-25).
- حُمل إلى مصر قسرًا وهناك رجمه شعبه.
من يوم ميلاده إلى لحظة استشهاده نادرًا جدًا ما وجد إرميا تعزية من بشر، لهذا فيُعتبر سندًا لكل مسيحي يُدعي ليعيش "ضد العالم". إنه أشبه بمنارة عالية تنير له الطريق[6].
دُعي "نبي القلب المنكسر"، فقد كسرت رسالته الثقيلة قلبه (9: 1)، وسرت كلمة الله في عظامه كنارٍ ملتهبة (20: 9).
وجه أحاديثه إلى يهوذا في أحرج اللحظات... ولا تزال كلمات الله التي نطق بها تصرخ لتحذر كل نفسٍ وكل قلبٍ حتى اليوم!
5. ربما كشابٍ أراد الزواج كعادة شعبه ليفرح بإقامة نسلٍ باسمه، وليدفنه أولاده عند موته. لكنه امتنع عن الزواج بأمر إلهي (16: 1-4)، كعملٍ رمزي أن الشعب يموت ولا يجد من يدفنه: "فيموت الكبار والصغار في هذه الأرض، لا يُدفنون ولا يندبونهم..." (16: 6)، أما عن انقطاع الفرح يقول: "ولا تدخل بيت الوليمة لتجلس معهم للأكل والشرب" (16: 8).
6. بدأ إرميا خدمته في السنة الثالثة عشرة لملك يوشيا (626 ق.م)، أي بعد حوالي خمس سنوات من حركة الإصلاح الدينية العظيمة الواردة في (2 مل 23)[7]، واستمر في عمله النبوي حتى حوالي سنة 586 ق.م، أي لمدة حوالي 40 عامًا.
اسم الملك "يوشيا" بالعبرية معناه "يهوه يشفي"، تبوأ العرش وهو ابن ثمانية سنوات.
بالرغم من مقاومة يوشيا الملك للوثنية بكل طاقاته، لكن تيار الفساد كان متغلغلاً في النفوس.
مع بداية خدمة إرميا كان موضوع استقلال يهوذا عن أشور قد بدأ يظهر كأمرٍ عملي، وتطلع الكل بنظرة تفاؤلية نحو مستقبل يهوذا، بينما وقف إرميا وحده أمام هذا التيار الشعبي والديني ليكرر أن هجومًا من الشمال يحل بيهوذا، وأن الله قد تخلى عن يهوذا!
بعد خمس سنوات من عمل إرميا، أي في السنة الثامنة عشرة من ملك يوشيا بدأ ترميم الهيكل، وفي أثنائه وجد شافان الكاتب سفر الشريعة المفقود، فأخبر حلقيا الكاهن العظيم، وقُدم السفر للملك الذي تأثر به جدًا ومع ما بذله الملك من إصلاحات لم يهتم الرؤساء المدنيون والدينيون والشعب أيضًا بإصلاح قلوبهم، مكتفين بترميم الهيكل وممارسة العبادة في شكليات بلا روح، ممتزجة بالرجاسات الوثنية.
7. واجه إرميا النبي مشكلتين إحداهما تخص قريته، والثانية تخص مملكة يهوذا ككل.
فمن جهة قريته، هاج أهلها عليه، لأنه شدد على ضرورة الالتزام بما جاء في الشريعة، وهي حصر العبادة العامة في الهيكل بأورشليم، الأمر الذي لا يقبله أهل عناثوث بكونهم سلالة الكاهن أبياثار المطرود من أورشليم، فكانوا ُيجرون طقوس العبادة مستقلين عن أورشليم. بهذا ظهر إرميا كخائنٍ لعائلته وقريته.
من جهة أخرى إذ رأى أهل قريته أن مملكة يهوذا بملكها وقياداتها وشعبها في ثورة ضد إرميا النبي كخائنٍ وطني حاولوا التبرؤ منه بجحده ومقاومته حتى لا يُنظر إليهم كخونة للوطن.
أما من جهة مملكة يهوذا ككل، فتلخصت مشكلته معهم في أمرين: أولاً حينما بدأوا في حركة الإصلاح في أيام يوشيا ركزوا على الشكليات دون الجوهر، يريدون إصلاح الهيكل دون تطهير القلب. ثانيًا، كان الحكام والشعب في مرارة وصراع بين التحالف مع فرعون مصر أم مع بابل. فالغالبية لا تطيق بابل وتتوقع هجومها بين الحين والآخر، مما دفعهم للارتماء في أحضان فرعون مصر وإن كانت خبرتهم مع الفراعنة ليست بطيبة. ويمكننا إدراك ذلك الصراع مما حدث مع الملوك الخمسة الذين عاصرهم إرميا أثناء نبوته: أ. يوشيا الملك (626-609 ق.م): قتله المصريون عام 609 في معركة مجدو.
ب. يهوآحاز (609 ق.م): أقامه فرعون عوض أبيه وخلعه بعد ثلاثة شهور (2 أي 36: 2).
ج. يهوياقيم (609-597 ق.م): أقامه فرعون عوض أخيه، وبقى مواليًا له لمدة أربع سنوات، وإذ غلب نبوخذنصر فرعون خضع لبابل، وكان موته غامضًا.
د. يهوياكين (597 ق.م): بعد إقامته ملكًا عوض والده بثلاثة شهور أخذه نبوخذنصر أسيرًا.
هـ. صدقيا (597-587 ق.م): أقامه نبوخذنصر عوض ابن أخيه. كان في صراع بين ولائه لسيده في بابل وبين محاولته إرضاء الشعب الذي مال إلى فرعون مصر لحمايته من بابل، متطلعين إلى يهوياكين الأسير في بابل كملكٍ شرعي. تحالف صدقيا قلبيًا مع فرعون، فسباه ملك بابل بعد أن فقأ عينيه وسبى أورشليم ويهوذا (39: 1-7).
هذه صورة مختصرة تكشف كيف كان يهوذا بين حجري رحى، وعوضًا عن الالتجاء إلى الله بالتوبة للتمتع بالخلاص اتكأ على هذا أو ذاك.
8. فيما يلي الأحداث في أكثر تفصيل حتى يمكن متابعة الظروف المحيطة بإرميا النبي.
في بدء رسالته (626 ق.م) كانت أشور في الوادي الشمالي للفرات سيدة العالم لمدة حوالي 300 عامًا، وكانت عاصمتها نينوى. ولم يكن أحد يتخيل قط أنه يمكن أن تنهار يومًا ما؛ وكانت مصر منذ حوالي 1000 عام قبل قيام أشور قوة عالمية تمسك زمام السلطة في العالم لكنها بدأت تنهار. في السنة التالية لخدمة إرميا (625 ق.م) أسس نبوبلاسر الدولة البابلية الجديدة (في الوادي الجنوبي لنهر الفرات)، وكانت بابل أشبه بدويلة صغيرة لا قوة لها؛ لا يتوقع أحد أنها في الطريق لاستلام سيادة العالم من أشور حيث تغرب شمسها إلى غير رجعة بعد سقوط نينوى عام 612 ق.م، ونصرتها على فرعون مصر.
بعد موت أشور بانيبال حلّ الضعف بأشور، فصارت عاجزة عن منع يوشيا من التحرك نحو الاستقلال والتحرر من النفوذ الأشوري. وقام أهل سميرنا والسكيثيون باقتطاع أجزاء من الإمبراطورية الأشورية. وصار بنو مادي في غرب إيران يمثلون خطرًا يهدد أشور... انتهى الأمر بانهيار أشور.
بسقوط نينوى عاصمة أشور عام 612 ق.م انتهت مملكة أشور، فبدى كأن إرميا قد أخطأ في تفسيره لمركز يهوذا السياسي، إذ حسب الكل أنه لم يعد بعد هناك خطر على يهوذا بعد انهيار أشور، وأن نظرة إرميا التشاؤمية غير صادقة.
في سنة 609 ق.م حشد نخو Necho فرعون مصر جيشه وتقدم لاحتلال أرض الفرات، فاحتل غزة وعسقلان وغيرهما من المدن الفلسطينية وكان هدفه مساعدة الأشوريين الذين كانوا يقومون بمحاولة مستميتة للصمود في وجه البابليين في حاران. حاول يوشيا أن يوقفه عند مجدو ربما حاسبًا أن الله يسنده في ذلك، متكلاً على وعود الأنبياء الكذبة التفاؤلية، لكنه قُتل. وبقتل يوشيا أُقيم ابنه يهوآحاز (تعني يهوه يأخذ) أو شلوم (إر 22: 11) ملكًا، وكان شريرًا. خلعه فرعون نخو بعد ثلاثة شهور وأسره في ربلة، ثم أخذه إلى مصر، وأقام أخاه يهوياقيم (تعني يهوه يقيم) أو الياقيم عوضًا عنه.
9. عند تجليس يهوياقيم أو في السنوات الأولى من حكمه أعلن إرميا النبي في دار الهيكل أنه إن لم يغيّر يهوذا طريقه فسيخرب الهيكل نفسه (7: 1-15؛ 26: 1-6). أثارت هذه النبوة شغبًا، ولولا تدخل بعض الأشراف لقتل الشعب الثائر إرميا (26: 7-24)[8].
أرهق يهوياقيم الشعب بالضرائب ليدفع الجزية لسيده المصري، وكان يدفعها لمدة أربع سنوات (2 مل 32: 31-35)، وقد عبد الأوثان وصنع الشر. وفي السنة الرابعة من حكمه سجل إرميا النبوات التي نطق بها خلال السنوات السابقة، وقام باروخ بنسخها في درج، وإذ مُنع إرميا من الدخول إلى بيت الله زمانًا طويلاً أمر باروخ أن يأخذ الدرج إلى الهيكل ويقرأه أمام الشعب الحاضر بمناسبة الصوم. وصل الدرج إلى يد الملك فاستمع إلى بعض فقراته، وعندئذ مزقه وأحرقه بالنار. قام إرميا بكتابة درجين كالدرج الأول مع إضافات (36: 27-32) بتوجيه إلهي، ولكن الكاهن فشحور الناظر الأول للهيكل وأحد أعداء النبي وضعه في مقطرة ثم أطلقه في اليوم التالي (20: 1-3).
في نفس السنة (605 ق.م)، أي السنة الرابعة من حكمه، تغلب نبوخذنصر على نخو فرعون مصر في معركة كركميشCarchemish (إر 46: 1-2)، فاضطر يهوياقين أن يحّول ولاءه وخضوعه لمصر إلى بابل، لكن ظل قسم ليس بقليل من الشعب يفضل الخضوع لمصر للجهاد معها ضد بابل، ويبدو أن يهوياقيم نفسه كان يميل إلى هذا، لكن إرميا حذر من ذلك.
مرت بيهوذا فترة هدوء نسبي، شجعت يهوذا على الثورة ضد بابل، لكن الأخيرة أرسلت فرقًا من الجيش إلى فلسطين. وفي عام 598 ق.م وصل جيشها إلى يهوذا، وفي هذا الوقت مات يهوياقيم بطريقة غامضة، وتوِّج ابنه يهوياكين (يكينا) المملوء شرًا. لم يدم ملكه سوى ثلاثة شهور، وجاء نبوخذنصر إلى أورشليم وأخذه هو وعائلته ورؤساء الشعب مع خزائن بيت الرب إلى بابل (2 مل 24: 8-16)، وعاش أسيرًا في السبي.
مما يجدر ملاحظته أن السلطات اليهودية تطلعت إلى نبوات إرميا وكلماته أثناء حصار أورشليم بمنظار سياسي حربي لا ديني، فرأت فيها تحطيمًا لمعنويات الجيش ونفسية الشعب، فحسبته خائنًا وطنيًا.
10. ملَّك نبوخذنصر الملك صدقيا عوضًا عن أخيه يهوياكين (2 مل 24: 17)، وكان شريرًا، لم يبالِ بكلمات إرميا بل ونجَّس الهيكل. في بداية حكمه كان بعض رجال يهوذا يتطلعون إلى يهوياكين المسبي كملك شرعي، يأملون في رجوعه واستعادته العرش (إر 17-29)؛ لذا كان صدقيًا في صراع بين رغبته في الظهور بالخضوع لسيده البابلي وبين إظهار روح الوطنية أمام الشعب ومضاداته لبابل المستعمر.
في عام 588 ق.م سار نبوخذنصر مرة أخرى إلى يهوذا وحاصر أورشليم. في الشهور الأولى من الحصار طلب صدقيا المشورة من إرميا النبي (21: 1-14) فأخبره بأن الخضوع للبابليين هو الطريق الوحيد لإنقاذ حياته ومدينته، لكن الملك لم يقدر أن يقدم هذه المشورة لرجاله بسبب ضعف شخصيته. تحرك الجيش المصري نحو فلسطين، ففك البابليون الحصار عن أورشليم مؤقتًا لمواجهة المصريين، ليعود فيحاصرها من جديد بعد تدبير أموره مع فرعون.
انتهز إرميا فرصة فك الحصار المؤقت وأراد الذهاب إلى قريته (32: 6)، فاُتهم أنه هارب إلى الكلدانيين كخائن (37: 11). أُلقى في الجب (37: 1-15)، وبعد أيام كثيرة أطلقه الملك صدقيا من حبسه وسأله سرًا عن كلمة الرب بشأنه. وهنا يظهر صدقيا أنه يحترم إرميا لكنه لضعف شخصيته كان يخشى الرؤساء. أخبر إرميا الملك أنه سيُدفع إلى ملك بابل، فأمر الملك بإيداعه في دار السجن وإحسان معاملته بعض الشيء، ولكن الرؤساء أخذوه وألقوه في الجب ليموت جوعًا (37: 16-21؛ 38: 1-6). أشفق عليه خصي أثيوبي (عبد ملك) فاستأذن الملك أن يُرفع إرميا من وحل الجب ويُوضع في دار السجن فسمح له، وبقي هناك حتى استسلمت أورشليم (38: 7-28).
11. في سنة 587 ق.م سقطت أورشليم، وقتل نبوخذنصر كثيرين، كما سبى البعض إلى بابل. فقأ عيني صدقيا واقتاده مسبيًا إلى بابل. أما من جهة إرميا فقد علم ملك بابل ما عاناه فظن أنه يفعل ذلك لأجله، فأصدر تعليماته بإحسان معاملته. أرسل نبوزردان الكلداني رئيس الشرطة إلى دار السجن ليستدعيه مع غيره من الأسرى إلى رامة، ومنحه حق الخيار بين الذهاب إلى بابل أو البقاء في يهوذا، وقدم له رئيس الشرطة زادًا وهدية وأطلقه. أتى إرميا إلى جدليا بن أخيقام والى المنطقة، إلى المصفاة، وأقام عنده مع الشعب الباقي في يهوذا (39: 11-14؛ 40: 1-6). رفض إرميا راحته وكرامته، مفضلاً أن يعيش متألمًا وسط من أحبهم بالرغم من كراهيتهم له.
12. لما قُتل جدليا حث إرميا النبي الشعب ألا يهربوا إلى مصر، لكن عبثًا حاول أن يثنيهم عن عزمهم، فلم يذهبوا هم وحدهم إلى مصر وإنما أرغموه أيضًا هو وصديقه الحميم باروخ الكاتب على مرافقتهم في رحلتهم (41: 1؛ 43: 7)، وهناك نطق نبواته الأخيرة في تحفنحيس بمصر (43: 8؛ 44: 30). يوجد تقليد يقول إنه رُجم في مصر بسبب توبيخاته لشعبه[9].
13. يلقب البعض إرميا "رجل كل الفصول"[10]. عاش في ظروف متغيرة، بدأ نبوته في عهد يوشيا حيث كان الملك وكل يهوذا في سلام، وتوقع الكل الاستقلال التام من أشور مع حركة الإصلاح الخارجية. وانتهت حياته بالرجم في أرض غريبة (مصر)، حيث لم تعد مملكة يهوذا قائمة، بل سُبي أغلب الشعب إلى بابل، وهرب البعض إلى مصر، وخربت أورشليم لتصير مرعى غنم، وحُرق الهيكل.
امتدت خدمة إرميا لتشمل حوالي العشرين عامًا الأخيرة من الإمبراطورية الأشورية العظيمة والعشرين عامًا الأولى من إمبراطورية بابل الجديدة التي قامت عام 605 ق.م، لتصير أعظم من أشور.
عاصر إرميا ثلاثة أحداث خطيرة قلبت الموازين:
أ. معركة مجدو سنة 609 ق.م.
ب. معركة كركميش بالقرب من نفس الموقع، بعد أربع سنوات حيث انهزمت مصر لتصير بابل سيدة العالم.
ج. سبي أورشليم بواسطة نبوخذنصر وتدمير المدينة المقدسة والهيكل.
عاصر أيضًا إرميا ثلاثة معارك رئيسية ليهوذا: معركة ضد مصر (609 ق.م)، ومعركتان ضد بابل (597، 587).
عاصر أيضًا ثلاث مراحل للسبي (597، 587، 582 ق.م). ويرى البعض أن إرميا عاصر السبي في مراحله الأربع:
أ. السبي الأول: سنة 606 ق.م. في أيام الملك يهوياقيم، فيه سُبي دانيال وأصدقاؤه الثلاثة (2 أي 6: 36، 7، دا 1: 1، 2، 6).
ب. السبي الثاني: سنة 599 ق.م. في أيام الملك يهوياكين، ويسمى السبي العظيم (2 مل 24: 8-16، 2 أي 36: 9-10)، فيه ُسبي حزقيال النبي (حز 1: 1-2)؛ ومردخاي (إس 2: 6).
ج. السبي الثالث: سنة 588 ق.م. بسبب تمرد صدقيا الملك على نبوخذنصر (2 أي 36: 2)، حيث حوصرت أورشليم واشتد بها الجوع (إر 37: 5-7)، لكن عاد جيش الكلدانيين يستأنف حصاره، واضطر صدقيا إلى الهروب، فُقبض عليه.
د. السبي الرابع: سنة 584 ق.م على يد نبوزردان رئيس الشرط (إر 52: 12، 30)، حيث أُحرق بيت الرب وبيت الملك وهدمت أسوار المدينة وبعد ثلاثة أيام انتهت أعمال التدمير الشامل، فصار اليوم العاشر من الشهر الخامس يوم بكاء لسقوط أورشليم (إر 52: 12؛ زك 7: 3، 5؛ 8: 19).
14. بدأ إرميا خدمته النبوية بعد 60 عامًا من نياحة إشعياء النبي الإنجيلي. عاصر النبية خلدة، والنبيين حبقوق وصفنيا اللذين ساعداه في أورشليم، وحزقيال الكاهن ودانيال الذي يحمل دمًا ملوكيًا؛ وربما أيضًا ناحوم[11] الذي تنبأ عن سقوط نينوى، وعوبديا الذي تنبأ عن دمار آدوم[12].
عاش إرميا بتولاً، لم يتزوج، بأمر إلهي، حتى لا يقاسي أولاده مما سيعاني منه الشعب من جوعٍ وسيفٍ وعارٍ (إر 16: 1-4).
في خدمته اجتذب قله قليلة من الأصدقاء، من بينهم اخيقان بن شافان (26: 24)، وابنه جدليا (39: 14)، وعبد ملك الكوشي (38: 7-13؛ 39: 16)، وكاتبه الوفي باروخ (36: 4-32).
قائمة تاريخية بعصر إرميا:
627 ق.م الملك يوشيا يبدأ إصلاحاته (2 أي 34).
626 ق.م دعوة إرميا للعمل النبوي.
626 ق.م غزو السكيثيين (إر 4).
621 ق.م وجود كتاب الشريعة أثناء إصلاح يوشيا (2 مل 22، 23).
612 ق.م انهيار نينوى أمام بابل (ربما عام 607 ق.م).
609 ق.م قتل يوشيا في موقعة مجدو بواسطة فرعون، وانتهاء استقلال يهوذا.
606 ق.م السبي الأول ليهوذا بواسطة بابل (خراب جزئي لأورشليم).
605 ق.م معركة كركميش (بابل تحطم مصر).
604 ق.م حرق الدرج الذي به نبوات إرميا النبي (ربما سنة 602م)[13].
8-597 ق.م أسر يهوياكين.
593 ق.م صدقيا يزور بابل.
587 ق.م السبي الثاني ليهوذا بواسطة بابل.
586 ق.م حرق الهيكل.
582 ق.م السبي الثالث.
الملوك المعاصرون لإرميا:
1. منسى (597-642 ق.م): 55 عامًا، ُولد إرميا النبي (2 أي 33: 1)، أشر ملوك يهوذا.
2. آمون (641-640 ق.م): سنتان، شرير مثل أبيه (2 أي 33: 21-22).
3. يوشيا (639-608 ق.م): 31 عامًا، ملك صالح. بدأ إرميا عمله في السنة 13 من ملكه.
4. يهوآحاز (609 ق.م): 3 شهور، حُمل إلى مصر.
5. يهوياقيم (609-597 ق.م): شرير، حمل عداوة مرة ضد إرميا.
6. يهوياكين (597 ق.م): 3 شهور، حُمل إلى بابل.
7. صدقيا (597-587 ق.م): صديق إرميا، لكنه ضعيف الشخصية فكان آداة في يد الأشراف والمشيرين الأشرار.
غرض السفر:
1. كان إرميا يترجى أن يدخل بمملكة يهوذا إلى التوبة لكي يتجنب كارثة السبي البابلي، وذلك كما فعل إشعياء النبي قبله بقرنٍ مشتاقًا أن يعين إسرائيل لتجنب السبي الأشوري.
2. يعلن قضاء الله وتأديباته خاصة بواسطة السبي، كما يكشف عن مراحم الله وترفقه بإرجاعهم من السبي ومعاقبة من سبوهم ومن شمتوا بهم من الأمم الغريبة. وكأن النبي أراد لهم ألا يسقطوا في اليأس مدركين أن سرّ الغلبة أو الهزيمة هو في داخلهم بالالتقاء مع الله واهب النصرة أو كسر الميثاق معه.
3. إن كانت كلمات السفر موجهة بالأكثر إلى يهوذا في أيام النبي غير أنها هي إعلانات إلهية لا يحدها زمن، موجهة إلى البشرية في كل جيل، يفهمها المعاصرون من خلال عمل المسيح الخلاصي للتحرر من سبي إبليس وتحطيم مملكة الظلمة من داخلنا.
اشترك أغلب الأنبياء في الأغراض السابقة بطريقة أو أخرى، لكن حمل كل نبي اتجاهًا معينًا في كتاباته، فاهتم عاموس النبي بالجانب السلوكي بينما ركز هوشع على إحساسات الحب الشخصي الذي يربط الله بشعبه، وتحدث إشعياء النبي الإنجيلي عن الله كضابط الشعوب بطريقة فائقة، أما إرميا فركز على الآتي:
1. الحاجة إلى التوبة والرجوع إلى الله.
2. الحاجة إلى إصلاح القلب الداخلي.
3. الله هو سيد التاريخ، يعمل لخير البشرية كلها.
4. خطب الله إسرائيل (كنيسة العهد القديم) عروسًا، لكن الحاجة إلى عهد جديد.
5. الحاجة إلى المسّيا الملك البار ليحقق الخلاص (نتحدث عنه في نهاية المقدمة).
1. الحاجة إلى التوبة:
جاء إرميا النبي يعلن كلمات الرب الحازمة، مهددًا بالسبي، لا لأجل الانتقام، ولا لأجل التهديد في ذاته، وإنما بالأحرى لكي يخشوا الرب فيرجعوا اليه. إن كانوا لا يرجعون خلال اللطف، فليرجعوا خلال التهديدات، وإن لم يرجعوا يسقطون تحت التأديب فيرجعوا خلال الألم. وللعلامة أوريجينوس عبارات جميلة عن محبة الله خلال تهديده الخطاة، إذ يقول:
[الله سريع في تقديمه الخير، بطيء في العقاب لمستحقيه.
بالرغم من أنه قادر على توقيع العقاب على الذين هم تحت الحكم بدون أن يتكلم أو ينذر، لكنه ينذر ولا يعمل حالاً حتى يعطي الفرصة لنزع الاستحقاق للتأديب، باعتبار أن الكلام هو وسيلة لرفع العقوبة عن المحكوم عليه.
يمكننا أن نقدم أمثلة عديدة لحنان الله من الكتاب المقدس، ولكن يكفي الآن هذا العدد الصغير الحاضر في ذهني...
صار أهل نينوى خطاة، وقد تم الحكم عليهم من قبل الله: بعد ثلاثة أيام كان يجب أن تنقلب مدينة نينوى (يونان 3: 4).لم يشأ الله توقيع حكمه عليها دون أن ينطق بشيء، لكنه أعطاها فرصة للتوبة (حك 12: 10)، وفرصة للرجوع، وأرسل لها نبيًا عبرانيًا، حتى متى أبلغها النبي: بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى، يصير أهلها غير محكوم عليهم فيما بعد، وإنما بتوبتهم يتمتعون بالرحمة الإلهية.
كان سكان سدوم وعمورة محكومًا عليهم، كما يظهر من كلام الله لإبراهيم؛ ومع ذلك فقد قام الملائكة بواجبهم في البحث عن خلاص أناسٍ لم يكونوا يريدون أن يخلصوا، حينما قالوا للوط: "من لك أيضًا هنا، أصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة؟ أخرج من المكان!" (تك 19: 12)، لم تكن الملائكة تجهل أن هؤلاء لن يتبعوا لوط، ولكنهم أكملوا عمل الخير والصلاح من قِبل الذي أرسلهم. (نصح لوط أصهاره بالخروج من المدينة، لكنهم رفضوا أن يسمعوه، ففي الغد أخرج الملائكة لوط وبناته، تاركين أصهاره)[14]].
كما يقول العلامة أوريجينوس: [عاتب الله أورشليم من أجل خطاياها، وكان الحكم هو تسليم سكانها للسبي، وبحبه ورحمته أرسل الله هذا النبي قبل تحقيق السبي بثلاثة ملوك حتى يعطي الفرصة للراغبين في إعادة التفكير والندم والتوبة خلال أقوال النبي... كان الله الطويل الأناة يقدم فترة استعداد حتى عشية السبي لكي يتوب السامعون فيعفون من آلام السبي... وحتى إذ بدأ السبي استمر إرميا يتنبأ وكأنه يقول: لقد صرتم تحت السبي، ومع هذا فإن رجعتم وتبتم لا تستمروا تحته طويلاً بل تشملكم نعمة الله وغفرانه. ونحن أيضًا نجد في هذا نفعًا لنا، إذ نحن ساقطون تحت ما يشبه السبي... فإننا إذ نخطئ نصير أسرى، ُنسلم أنفسنا للشيطان، الأمر الذي لا يختلف كثيرًا عن سقوط سكان أورشليم تحت يد نبوخذنصر. وكما سُلم هؤلاء لنبوخذ نصر بسبب خطاياهم، هكذا نُسلم نحن للشيطان بسبب خطايانا[15]].
كأن رسالة إرميا النبي هي التوبة والرجوع إلى الله بكونه الطريق الوحيد للخلاص من هذا السبي!
2. إصلاح القلب الداخلي:
يعتبر إرميا أكثر الأنبياء الذين تحدثوا عن القلب. يرى إرميا النبي أن القلب قد صار نجسًا بالطبيعة كثمرة للسقوط: "القلب أخدع من كل شيء وهو نجس" (17: 9)، وكما يقول إشعياء النبي: "قلب مخدوع قد أضله فلا ينجي نفسه، ولا يقول: أليس كذب في يميني؟!" (إش 44: 20).
هذا الفساد أفقد الإنسان بصيرته الداخلية، فلا يرى خطاياه ولا يكتشفها، بل يقول: "لماذا أصابتني هذه؟!" (13: 12)، وإن أدركها يحمل عنادًا رديئًا (18: 12). القلب في فساده يصير كمينًا، فلا يحمل محبة وسلامًا بل بغضة وحربًا (9: 8-9)، ويحول أرضه إلى خراب (12: 11)، لهذا فإنه لن تحل النجاة ما لم يحدث تغير وإصلاح في القلب.
علامة التوبة الحقيقية هي تغيير القلب في الداخل. ففي أيام يوشيا بدأ الترميم في الهيكل وصار للشعب مظهر التدين لا فاعليته، الأمر الذي سقطت فيه المملكتان بل ويسقط فيه الكثيرون، إذ يغيرون الشكل لا الجوهر ليتبرروا أمام الناس، بل وأحيانًا أمام أنفسهم. يقول النبي: "قد بررت العاصية إسرائيل أكثر من الخائنة يهوذا" (3: 10). وقد عالج النبي موضوع الإصلاح الداخلي من جوانب كثيرة، نذكر منها:
أ. القلب هو موضوع الإصلاح، فمنه تنبع الخطية (4: 4؛ 7: 9، 12: 2) فيتقسى (7: 24؛ 9: 14؛ 23: 17)، مع أن غاية القلب هو الله، فيه يصب كل اشتياقاته (11: 20؛ 17: 10؛ 20: 12). بهذا صارت الحاجة ُملحة إلى شريعة يمكن أن ُتنقش على القلب ذاته (31: 33؛ 24: 7).
ب. ترميم بيت الرب ليس غاية في ذاته: "لا تتكلوا على كلام كذب، قائلين: هيكل الرب هيكل الرب هيكل الرب هو" (7: 4). فإن لم يتب المؤمنون وتتغير حياتهم الداخلية يتحول الهيكل إلى مغارة لصوص (7: 11)، إذ لا يضم عابدين حقيقيين يفرحون قلب الله، وإنما يضم أشرارًا ينجسون البيت. وقد تنبأ عن خرابه، بكونه إعلانًا عن الخراب الذي حلّ في هيكل القلوب غير المنظورة. وكأن التأديب في حقيقته إنما هو كشف عما في النفس من دمار خفي وهلاك، يبرزه الله بالضيق الخارجي.
ج. عدم الارتكان على مجرد حيازة سفر الشريعة، أو التمتع بوجود تابوت العهد في وسطهم، إنما الحاجة أيضًا إلى نقش الشريعة في القلب وإعلان حضرة الله فيهم.
د. بخصوص الذبائح، فالله لا يطلبها لأجل ذاتها، لذا إن لم ترتبط بذبيحة الطاعة أو ذبيحة القلب (17: 24-46؛ 27: 19-22؛ 3: 10، 11، 18) تصير بلا قيمة، أشبه برشوة لا يتقبلها الله.
هـ. من جهة الختان، يهتم الله بختان القلب (4: 4) والأذن (6: 4) والحواس مع ختان الجسد، حتى يُنزع عنا ما هو لحساب شهوات الجسد ونتقبل ما هو لحساب الله نفسه. وهكذا أيضًا الاغتسال، فإنه يطلب اغتسالنا من الإثم لا مجرد اغتسال الجسد (2: 22).
و. أما عن الاتكال على الآباء السابقين ومحبة الله لهم وشفاعتهم لديه (15: 1)، وعلى الآباء المجاهدين أيضًا (7: 16؛ 11: 14؛ 14: 11)... فإن الله يطلب منا التوبة والرجوع إليه، فصلاة الغير عنا لا تسندنا مالم نطلب من الله العون.
3. الله هو سيد التاريخ[16]:
يوجه الله التاريخ لخير شعبه وكل الأمم أيضًا، كالخزَّاف الذي ُيخرج من الطين أوانٍ جميلة (18: 1-12). هو الذي يحث نبوخذنصر خادمه (27: 6) مع أنه وثني، لتأديب يهوذا، ليعود الله فيؤدب الأمم على خطاياها (25: 15الخ؛ 46). إنه يقيم الأمم ويزيلها بخطة إلهية فائقة (18: 7).
الله هو خالق العالم كله وضابطه (27: 5؛ 5: 22؛ 8: 7)، ليس إله غيره، أما الأوثان فليست آلهة (2: 11). هو يهب الحياة (2: 13)، أما هي فبلا عمل (13: 28). إنه قريب من كل البشر (23: 23)، يعرف فكر الإنسان ويستخدمه (11: 20؛ 17: 10).
بمعنى آخر، يعلن هذا السفر أن الله كضابط الكل وواهب الحياة ومدبرها يمسك بيمينه دفة كل الأحداث كبيرها وصغيرها ليتمجد في وسط شعبه، بل وفي حياة كل عضو؛ يشتهي خلاص الجميع وبنيان الكل؛ من يقبله إنما يقبل من في يده دفة أمور العالم كله، الأحداث الظاهرة والخفية، الجماعية والفردية!
4. الله وشعبه:
يقدم لنا إرميا النبي الله ليس فقط سيدًا للتاريخ، بل هو أيضًا "ينبوع المياه الحية" (2: 13)، بكونه مصدر الحياة. كما يقدمه "الفخاري" (18: 1-12) الذي لا يزدري بقطعة طين، بل يبذل كل الجهد ليقيم منها آنية للكرامة. هو خالق العالم الذي وضع لكل شيء قانونه ونظامه الطبيعي (5: 22؛ 8: 7؛ 10: 12-13؛ 27: 5-6؛ 31: 35-36).
إن كان إرميا النبي يتحدث عن قرب الله من كل البشرية وخطته الإلهية نحو كل الأمم، فقد أعطى اهتمامًا خاصًا باختيار شعبه مجانًا، بلا فضل من جانبه. لقد دعي إسرائيل بكر حصاد الله (2: 3)، أي يتقبله عن البشرية كلها كأنه بكور الكل؛ وميراثه المقدس (12: 7-9)؛ وكرمه (12: 10)، وقطيعه (13: 17)؛ وعروسه (13: 10 الخ)، ومحبوبته (11: 15؛ 12: 17)، لهذا يطلب منها أن تسلك كما يليق بكرامتها وحبه لها (2: 2 الخ؛ 6: 16الخ)، إذ دخل معها في عهد خاص (7: 23؛ 11: 4؛ 24: 7؛ 31: 33).
الله - كما تحدث عنه إرميا النبي - هو إله الحب الذي لا ينسى حب صبا شعبه (2: 12؛ 3: 19)، إله رحوم (3: 21الخ)، يهتم بإسعادها ويعمل لحساب مستقبلها ويهبها رجاءً. لا يتوقف عن تكرار الدعوة لها لكي تعود إليه، فهو يترقب مجيئها بترحاب بالرغم من كل شرورها وآثامها... مستعد أن يصفح بلا عتاب إن رجعت يقبلها اليه.
يقدم إرميا النبي مفهومًا حيًا لعلاقة الله بشعبه، فهي ليست علاقة بالشعب كجماعة فحسب وإنما هي أيضًا علاقة شخصية تمس حياة كل عضو في الجماعة. هي علاقة الله بكل قلب، بكونه عضوًا حيًا في الجماعة، لذا يهتم أن يكون القلب مقدسًا لكي يدخل في هذه العلاقة خلال العهد الإلهي (31: 33-34).
يرى البعض أنه سفر موجه للمرتدين الذين نسوا الله، يدعوهم للرجوع اليه فينسى شرهم؛ لهذا تكررت كلمة "ينسى" أو ما يماثلها 24 مرة كما تكررت كلمة "مرتد" أو ما يعادلها 13 مرة، و"ارجع" 47 مرة... إنه سفر الدعوة المستمرة للعودة والرجوع إلى حضن الله.
أخيرًا إن كان قلب إرميا قد فاض بالأحزان ورثى للشعب الذي حل به الدمار، لكنه يرى خروجًا للشعب، فيه يعود الأبناء من العبودية إلى حرية مجد الله، إذ يقول "هكذا قال الرب امنعي صوتك عن البكاء وعينيك عن الدموع لأنه يوجد جزاء لعملكِ يقول الرب فيرجع الأبناء إلى تخمهم" (31: 16-17). أما أساس هذا الخروج فهو العهد الجديد المؤسس على دم ربنا يسوع المسيح "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر... بل هذا هو العهد الذي اقطعه مع بيت إسرائيل: بعد تلك الأيام يقول الرب اجعل شريعتي في داخلهم واكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلها، وهم يكونون لي شعبًا" (31: 31-34).
دور النبي في كتاباته[17]:
لكي نفهم سفر إرميا وغيره من الأنبياء يليق بنا أن ندرك ما هو دور المتحدث في هذه الأسفار. ففي سفر إرميا كثيرًا ما تتكرر العبارة "كلمة الرب صارت..." ثم ينطق بصيغة المخاطب المفرد "أنا" بكون الله نفسه هو المتحدث. يتهم الله شعبه بخصوص كسر الميثاق المبرم بينه وبينهم، ويقف النبي كنائبٍ عامٍ في ساحة القضاء يعرض خطايا الشعب وجرمهم، ويظهر الله كقاضٍ في محكمة يصدر حكمًا بالإدانة، غير أنه يفتح باب الرجاء إن قدم الشعب توبة ورغبة للرجوع إلى الله وحفظ العهد.
يتحدث النبي أحيانًا بالأصالة عن نفسه كما جاء في اعترافات إرميا (12: 1، 6؛ 15: 10-21؛ 12-18؛ 18: 18-23؛ 20: 7-18).
في إيجاز يمكننا أن نلخص دور النبي كمتحدثٍ في الآتي:
1. إنسان في حضرة الله (أو في مجلسه الإلهي 23: 22) يتعرف على أحكام الله وأسراره.
2. إنسان مرسل من قبل الله، له حق إعلان كلمة الرب (1: 1-10؛ إش 6: 1-13؛ حز 1-3)، يتحدث باسم الله أو يتحدث الله على لسانه، على عكس الأنبياء الكذبة الذين ينطقون بكلماتهم الخاصة، حسب فكرهم، من وحي قلوبهم.
3. شخص يدين الشعب لكسره العهد الإلهي.
4. يقوم تارة بدور النائب العام عندما يتحدث باسم الله وأخرى بالمحامي المدافع عندما يتحدث باسم الشعب.
5. اهتمامه الأول أن ُيحضر شعب الله لكي يدرك أهمية الميثاق مع الله والالتصاق به، وأن يمارس الحياة الميثاقية convental مع الله بالدخول في عهدٍ جديدٍ (الحياة الإنجيلية).
مميزات السفر:
1. مال إشعياء النبي إلى الحديث بفيض عن تعزيات الله الفياضة مع لمسات خفية من جهة التوبيخ، أما إرميا النبي فمال إلى التوبيخ بشدة مع فتح باب الرجاء. ولعل السبب في هذا شدة قساوة قلب الشعب وكثرة آثامهم خاصة في أيام إرميا، وأيضًا شعوره بخطورة الموقف لأن السبي كان على الأبواب.
2. مع ما اتسم به النبي من عنف في التوبيخ والتحذير، جاء السفر يكشف عن قلب نبي مملوء حبًا وحنوًا. يتحدث بقوة بأمثلة عملية وتشبيهات لكي يجتذب الشعب، فاتحًا أمامهم باب الرجاء. لقد انحرف الشعب إلى عبادة الأوثان (16: 10-13، 20؛ 22: 9؛ 32: 29؛ 44: 2، 3، 8، 17)، وقدموا أحيانًا أطفالهم ذبائح للآلهة الغريبة (7: 30-34)، ومع هذا بحبٍ شديدٍ كان يصلي من أجلهم (14: 7، 20)، حتى حين أمره الله أن يكف عن ذلك (7: 16؛ 11: 14؛ 14: 11).
كان يحبهم كشعبٍ وأيضًا كأشخاصٍ، إذ يدرك أن كل إنسانٍ يحمل مسئولية نفسه (31: 29-34).
3. العلاقة الشخصية مع الله في عيني إرميا النبي تتكامل مع علاقة الله بشعبه ككل. فقد اختبر إرميا النبي هذه العلاقة المتكاملة، فكان يطلب أن يرى الله ساكنًا في وسط شعبه (7: 23) وفي نفس الوقت يطلبه ساكنًا في كل قلب. يكشف عن خطية الشعب ككل (17: 1) ، وأيضًا عن نجاسة القلب التي اتسم بها الأشخاص (17: 9). يطلب توبة جماعية مع توبة قلبية شخصية! لهذا يربط النبي التاريخ الخاص بالخلاص بحياة الكنيسة كما بحياة الأشخاص، إذ غايته تمتع الكل بعمل الله الخلاصي خلال التوبة، وتمتع كل عضو بهذه الحياة.
4. يرى البعض أن إرميا النبي كان متشائمًا كل التشاؤم، متفائلاً كل التفاؤل. إذ ينظر إلى فساد يهوذا وخيانته للعهد الإلهي يتشاءم وإذ يتطلع إلى حب الله وطول أناته يمتلىء رجاءً. إلهه إله الرجاء والوعد والقوة، له إرادة لا تُقهر من جهة إقامة شعبٍ مقدسٍ له[18].
5. يقدم لنا سفر إرميا مفاهيم لاهوتية روحية حية:
أ. خطية الشعب هي في جوهرها كسر الميثاق مع الله، وبالتالي التوبة هي عودة إلى الحياة الميثاقية covenantal مع الله.
ب. كل جريمة يقترفها الإنسان ضد أخيه موجهة ضد الله نفسه.
ج. نجح النبي في تأكيد حب الله حتى في لحظات السقوط تحت التأديب؛ مؤكدًا أن التأديب هو علامة اهتمام الله بهم وحبه لهم.
د. الدمار الذي حلَّ بهم يحتاج إلى دخول في عهد جديد (31: 31-34).
6. في هذا السفر تتجلى حياة النبي الروحية بكل وضوح فقد اتسم بأمانته لرسالته حتى النفس الأخير بالرغم من النفور الذي واجهه به الكل.
كان وحيدًا، مُفتريًا عليه، مُضطهدًا من الحكام ورجال الدين والشعب، لكنه لم ييأس إذ وَجد في الله كل تعزيته.
7. حمل هذا السفر رسالة نبوية، تحقق بعضها بعد حياته بزمنٍ قليلٍ، لكن غايته الأسمى هي ما تحقق في العهد الجديد. وجد الرائي اللاهوتي يوحنا أن ما يحدث في الأزمنة الأخيرة مطابقًا لما ورد في سفر إرميا، من ذلك هلاك بابل (رؤ 18: 22؛ 14: 8؛ 17: 2-4؛ 18: 2-5 يقابله إر 25: 10؛ 51: 7-9، 45: 63-64).
8. سفر إرميا كرسائل معلمنا بولس الرسول يكشف عن طبيعة رجل الله الشديد الحساسية نحو شعب الله مستندًا على العمل الإلهي. وقد تأثر الرسول بولس كثيرًا بإرميا النبي في شدة حبه للشعب كما في معالجته لبعض المواضيع مثل الناموس والنعمة والحرية والختان الروحي (راجع إر 31: 31-34 مع 2 كو 3: 6 الخ و رو 11: 1؛ إر 1: 5 مع غلا 1: 15).
9. سفر إرميا هو سفر النبوات: كثيرًا ما أشار السفر إلى الكاتب بكونه "إرميا النبي"، إذ كان إرميا مدركًا لرسالته ولدعوته الإلهية كنبي (1: 5؛ 15: 19). كنبي حقيقي قاوم الأنبياء الكذبة الذين ينطقون بكلمات هي من وحي أفكارهم الخاصة. أما بالنسبة له فكرر العبارة "كلمة الرب التي صارت..." أو ما يعادلها 151 مرة[19].
أما موضوع النبوات فهو:
أ. المسيا المخلص.
ب. يهوذا: سبيه وعودته. ج. مدن: أورشليم، بابل، دمشق.
د. شعوب أممية: مصر، فلسطين، موآب، عمون، آدوم، عيلام، بابل.
هذه النبوات تحقق بعضها في وقت قريب من النطق بها، وبعضها بعد زمنٍ طويلٍ.
10. سفر إرميا هو سفر التساؤلات، يحوي أسئلة ربما أكثر مما ورد في سفر أيوب.
هو سفر الإصلاح، خاصة في الأصحاحات [30-33].
سفر الرثاء والاضطهادات.
سفر الرموز: استخدم إرميا الكثير من الرموز بأمر إلهي لأجل التعليم، تارة يلبس منطقة بالية، وأخرى يضع نيرًا على عنقه كالثور، وثالثة يكسر زقًا أمام الوالي، ورابعة يشتري حقلاً ويدفن الوصية.
من الرموز التي قدمها في السفر:
قضيب لوز (1: 11)؛
قدر منفوخة وجهها من جهة الشمال (1: 13)؛
منطقة بالية (13: 7)؛
زق ممتلئ خمرًا (13: 12-14)؛
قحط (14: 1-12)؛
إناء الفخاري (18: 1-6)؛
الإناء المكسور (19: 1-2)؛
سلَّتان (24: 1-10)؛
نير (27: 1-12)؛
شراء حقل (32: 1-12)؛
الحجارة الخفية (43: 9-13)؛
كتاب غارق في نهر الفرات (51: 59-64).
تأثره بهوشع النبي[20]:
يرى كثير من الدارسين أن إرميا النبي قد تأثر بهوشع النبي، فالتشابه بينهما لا يقف عند حدود اللغة والتشبيهات، بل يمتد إلى الأفكار الأساسية من جهة الله وعلاقته بشعبه. كان هوشع نبيًا لمملكة الشمال (إسرائيل)، وتقع عناثوث، قرية إرميا النبي، في شمال أورشليم وهي ليست ببعيدة عن الحدود الجنوبية لمملكة إسرائيل. هذا وإرميا النبي هو من نسل أبياثار (1 مل 2: 26) من نسل عالي (1 صم 14: 3؛ 22: 20، 1 مل 2: 27) الذي كان مهتمًا بتابوت العهد في شيلوه قبل انقسام المملكة. لهذا ربما كان إرميا ملتصقًا بقلبه بشيلوه ومتألمًا لما حلّ بها (7: 14-26) بسبب ارتباط أسرته القديم بهذا الوضع. بهذا تكون عائلتا هوشع وإرميا مرتبطتين بالشمال. هذا ما دفع بعض الدارسين إلى افتراض قيام هوشع النبي- أجمل زهرة تقوية في مملكة الشمال - بدور حيوي في حياة إرميا الأولى، خاصة وأن إرميا يعترف أنه مدين للأنبياء السابقين له (28: 8).
يكشف الأصحاحان [2، 3] من سفر إرميا عن الارتباط القوي بهوشع من جهة عباراته وأفكاره. فمن أهم كلمات هوشع النبي كلمة "Hesed" أي "الولاء" أو "الأمانة" (الزوجية). فإن الشكوى الأولى ليهوه هي: "لا أمانة... في الأرض" (هو 4: 1)، "روح الزنى قد أضلهم فزنوا من تحت إلههم" (هو 4: 12)، فإن " إحسانكم (أمانتكم) hesed" كسحاب الصبح الذي يزول (هو 6: 4)... ويتحدث إرميا النبي أيضًا عن علاقة الحب بين الله وشعبه الذي كان كصبية مخطوبة مملوءة غيرة وحبًا (2: 2)، ليعود فيتحدث عن حياتها الزوجية (3: 1-5، 20) التي كانت تتمثل في قصة زواج هوشع النبي بالزانية جومر...
يرى إرميا النبي الله أبًا يهتم بشعبه كابن محبوب لديه، خلصه من عبودية فرعون ليهبه أرض الموعد ميراثًا مبهجًا ومجيدًا: "وأنا قلت كيف أضعك بين البنين وأعطيكِ أرضًا شهية ميراث مجد أمجاد الأمم؛ وقلت تدعينني يا أبي" (3: 19). جاء هذا التشبيه متفقًا مع هوشع النبي: "ولما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هو 11: 1).
كانت شكوى الله في هوشع أنه "لا معرفة الله في الأرض" (هو 4: 1)، وان الشعب قد هلك بسبب عدم المعرفة (هو 4: 6). وقد جاءت نفس الشكوى في إرميا: "أهل الشريعة لم يعرفونني" (2: 8)؛ لأن شعبي أحمق. إياي لم يعرفوا. هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين" (4: 22)... وجاء الوعد الإلهي بالعهد الجديد مرتبطًا بالمعرفة: "ولا يُعلِمون بعد كل واحدٍ صاحبه، وكل واحدٍ أخاه، قائلين: اعرفوا الرب. لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب" (31: 34).
يقدم لنا هوشع النبي رغبة الله في الدخول في محاكمة مع الشعب ليعطي الإنسان فرصة للحوار معه وإدراك خطة الله... وهي محاكمة تحمل عتابًا إلهيًا يدفع النفس إلى التوبة والرجوع إلى الله (هو 4: 1-3). وفي إرميا النبي يقدم الله الشعوب للمحاكمة (25: 31).
توجد أيضًا أفكار أخرى كثيرة مشتركة بينهما، مثل:
v احلال الله بالأوثان (هو 2: 7-10؛ إر 2: 10-13). v التطلع إلى فترة التجول في البرية كفترة أمانة للشعب نحو الله (هو 9: 10؛ 11: 1؛ إر 2: 1-3). v اعتراف الشعب بخطاياه (هو 6: 1-3؛ إر 3: 22-25؛ 14: 7-10؛ 14: 19-21). بين إرميا ونحميا:
اختلفت ظروف إرميا النبي عن تلك التي عاش فيها نحميا، فكان الأول يرى الخطر يحدق بشعبه، وليس من يهتم أو يبالي؛ بينما كان الثاني عائدًا من السبي ليحث الكل على بناء السور جنبًا إلى جنب مع بناء أسوار النفس الداخلية، ومع ذلك فقد التقيا معًا في الآتي:
1. حمل الاثنان عئواطف متأججة بالحب لشعب الله، وكان كلاهما منكسري القلب ومنسحقي النفس، باكيين (نح 1: 4؛ إر 9: 1).
2. شعر كلاهما أن خطايا الشعب هي خطاياهما. فيقول نحميا: "لتكن أذنك مصغية، وعيناك مفتوحتين، لتسمع صلاة عبدك الذي يصلي إليك الآن نهارًا وليلاً لأجل بني إسرائيل عبيدك، ويعترف بخطايا بني إسرائيل التي أخطأنا بها إليك، فإني أنا وبيت أبي قد أخطأنا. لقد أفسدنا أمامك، ولم نحفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أمرت بها موسى عبدك" (نح 1: 6-7). وبنفس الروح يصرخ إرميا النبي كرجل صلاة حقيقي بعيد عن الحياة الفريسية، قائلاً: "وإن تكن آثامنا تشهد علينا يارب فأعمل لأجل اسمك، لأن معاصينا كثرت، إليك أخطأنا" (إر 14: 7).
3. مع أنكارهما لذاتهما واعترافهما بخطأهما وقفا أيضًا كشفيعين في الشعب (نح 5: 14-19؛ 13: 31). في يقين الإيمان يقول إرميا النبي: "أذكر وقوفي أمامك لأتكلم عنهم بالخير لأرد غضبك عنهم" (إر 18: 20).
4. كانا مخلصين في حبهما لوطنهما. وطنية نحميا اقتضته أن يقف أمام الملك البابلي يطلب أن يقدم خيرًا لأورشليم، وأن يسمح له ببناء السور، وبذات الوطنية نادى إرميا النبي وسط قيادات الشعب أن يخضعوا لنير بابل كتأديب إلهي مؤقت، مع توبتهم ورجوعهم إلى الله.
إرميا والأنبياء الكبار:
1. إن كان إشعياء النبي قد قدم نبواته قبل سبي الأسباط العشرة، فإنه مع ما أدركه من فساد الشعب كان مشتاقًا إلى الخدمة. علة ذلك انه رأى رؤى سماوية مجيدة، منها تلك التي وردت في الأصحاح السادس... هذا دفعه للقول: "هأنذا أرسلني" (إش 6: 8). أما إرميا الذي عاصر أمر لحظات الشر، مدركًا صعوبة تحقيق رسالته، سواء على مستوى القصر الملكي أو القيادات الدينية أو الشعب، لهذا تردد في قبول الخدمة قائلاً: "آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" (1: 6)، واحتاج أن يسحبه الله إلى الخدمة ويلزمه بها.
إنه لم يتمتع بالرؤى كإشعياء، لكنه تحدث مع الله كصديقٍ حميمٍ جمعت بينهما الألفة، ففي بساطة يقول: "فكانت كلمة الرب إلى قائلاً" (1: 4).
2. يتشابه إرميا النبي مع النبي حزقيال في كونهما كاهنين، دُعيا للنبوة، ولم يمارسا العمل الكهنوتي. كانت خدمة النبي بين المسبيين في مملكة بابل، أما خدمة إرميا النبي فكانت بين مساكين الشعب الذين ُتركوا في الأرض. امتاز إرميا برقة المشاعر، فكان يبكي ثكلى بنت شعبه واهتزت جدران قلبه في أعماقه، أما حزقيال فامتاز بالنشاط والحماس والالتزام بالمسئولية.
3. شاهد إرميا النبي دانيال الشاب وهو يُساق أسيرا إلى بابل في السنة الثالثة لحكم الملك يهوياقيم (دا 1). تحدث دانيال النبي عن انهيار الامبراطوريات الأربع (بابل، مادي وفارس، اليونان، الرومان) ليملك الرب الملك بالصليب على القلب، كما تحدث عن مجىء المسيا الأخير. أما إرميا النبي فلم يتحدث عن انهيار الممالك وإنما عن مدة السبي والرجوع منه بعد سبعين سنة، وقد كانت نبوته معروفة لدانيال النبي وربما منها عرف مدة السبي (دا 9: 1-2).
هذا وقد عاصر إرميا النبي النبيين: صفنيا الذي تنبأ قبيل حدوث السبي (صف 1: 1) وحبقوق الذي تنبأ أيضًا قبل السبي البابلي.
سفر إرميا من الناحية اللغوية:
كتب إرميا النبي معظم نبواته في شكل شعر باللغة العبرية، لكن في عبارات بسيطة، على خلاف إشعياء النبي الذي امتاز بفخامة الأسلوب. هذا لا ينفي ما امتاز به أسلوب إرميا من بلاغة بلا تكلف، مع تعبيرٍ رائعٍ عن عواطفٍ رقيقةٍ ومعانٍ خشوعية.
يحوي السفر أبياتًا شعرية صغيرة تتكون من مقطعين كما يحوي أبياتًا شعرية طويلة، بل وقصائد شعرية كاملة.
أولاً: أبيات شعرية من مقطعين: v كخزي السارق إذا وُجد،
هكذاخزي بيت إسرائيل هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأنبياؤهم. (2: 26).
v كما تخون المرأة قرينها،
هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل يقول الرب. (3: 20).
v مثل قفص ملآن طيورًا،
هكذا بيوتهم ملآنة مكرًا. (5: 27).
يرى Muilenburأن النبي كثيرًا ما يكرر، لكنه في تكراره يقدم أعماقًا مع عناصر جديدة المعنى أكثر قوة وحيوية[21]، من ذلك:
v قبلما صورتك في البطن عرفتك،
وقبلما خرجت من الرحم قدستك. (1: 5)
v آثامكم عكست هذه،
وخطاياكم منعت الخير عنكم. (5: 25)
v بالفضة والذهب يزينونها،
وبالمسامير والمطارق يشددونها فلا تتحرك. (10: 4)
v أنقذك من يد الأشرار،
وأفديك من كف العتاة. (15: 21)
ثانيًا: أبيات شعرية أكثر من مقطعين: جاءت هذه الأبيات في أشكال أدبية كثيرة، نذكر منها: أ. نموذج شعري متوازي: v لم يقولوا أين هو الرب الذي أصعدنا من أرض مصر،
الذي سار بنا في البرية في أرض قفر وحُفر،
في أرض يبوسة وظل الموت،
في أرض لم يعبرها ولم يسكنها إنسان. (2: 6)
ب. نماذج لأبيات في شكل أسئلة تستخدم كقياس للتشبيه: v هل بدلت أمة آلهة، وهي ليست آلهة؟!
أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع... (2: 11)
v هل تنسى عذراء زينتها؟!
أو عروس مناطقها؟!
أما شعبي فقد نسيني أياما بلا عدد. (2: 32)
v هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان؟!
أو هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية؟!
لأن شعبي قد نسيني،
بخروا للباطل وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة ليسلكوا في ُشعبٍ في طريق غير ُمسهلٍ. (18: 14-15)
ج. شعر شرطي: v إن رجعت يا إسرائيل يقول الرب،
إن رجعت إليّ،
وإن نزعت مكرهاتك من أمامي،
فلا تتيه.
وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر،
فتتبرك الشعوب به، وبه يفتخرون. (4: 1-2)
د. أمثلة لأبيات شعر متوازي متعادل: v والآن مالك وطريق مصر،
لتشرب مياه شحور،
ومالك وطريق أشور،
لتشرب مياه النيل. (2: 18)
v لأنه من صغيرهم إلى كبيرهم، كل واحدٍ مولع بالربح،
ومن النبي إلى الكاهن، كل واحد يعمل بالكذب. (6: 13)
v لماذا تكون كغريب في الأرض،
وكمسافر يميل ليبيت؟
لماذا تكون كإنسان قد تحير،
كجبار كإنسان قد تحير؟! (14: 8-9)
هـ. أبيات مقابلات عكسية تتكون من 3-6 فقرات: v قد وكلتك اليوم...
لتقلع وتهدم،
وتهلك وتنقض،
وتبني وتغرس. (1: 10)
ثالثًا: قطع شعرية كاملة: يحوي هذا السفر حوالي 15 قطعة شعرية بالعبرية كاملة.
بهذا يظهر سفر إرميا باللغة العبرية قطعة أدبية رائعة، لكن سموه لا يظهر في تجسيد رسالته في أشعار، وإنما يمثل أولاً وقبل كل شيء عملاً كرازيًا[22] لقد اعتذر في البداية عن رسالته، كما فعل موسى النبي قبله لشعوره بعجزه عن الكلام (1: 6؛ خر 4: 10)، فأجابه الرب أنه يضع كلماته الإلهية في فمه (1: 6؛ خر 4: 12). عاد مؤخرًا يعتذر متسائلاً عن مدى إمكانية العمل، فأكد له الرب: "مثل فمي تكون" (15: 19). حقًا لقد صار إرميا النبي وكأنه الفم الذي يستخدمه الله حاملاً قوة الكرازة الفعالة مع مهارة أدبية.
مصر وبابل في سفر إرميا:
إن كانت مصر قد حملت البركة باستقبالها العائلة المقدسة فتحقق لها الوعد الإلهي (إش 19) وصار شعبها المصري مباركًا، وفي وسطها أُقيم مذبح للرب، لكن مصر في العهد القديم كانت تشير إلى محبة العالم إذ عُرفت بنيلها الذي أكسب الوادي خصوبة، كما عُرفت بابل بكبريائها، فصارت رمزًا لكل كبرياء كما للزنا. لهذا فمن الجانب الرمزي جاء إرميا النبي يحذر المؤمنين من الالتجاء إلى فرعون مصر، أي إلى العالم في محبته المهلكة، أو إلى ملك بابل، أي إلى الكبرياء المفسد للنفس، وإنما يكون الالتجاء لله وحده الذي يحرر النفس والجسد معًا من أسر محبة العالم والكبرياء! إرميا في العهد الجديد:
أُشير إلى إرميا شخصيًا في الإنجيل بحسب معلمنا متى البشير مرتين: عند قتل أطفال بيت لحم (مت 2: 17، إر 31: 15)، وعندما دخل السيد المسيح الهيكل ووجده كمغارة لصوص (مت 21: 13؛ إر 7: 11). كما ضم العهد الجديد 41 نصًا تحمل تلميحًا لما جاء في سفر إرميا، منها سبعة نصوص مباشرة.
تحدث إرميا النبي عن العهد الجديد كمصدر تعزية ورجاء للنفوس الساقطة (إر 31: 34؛ عب 10: 16).
وجد يعقوب الرسول في إرميا ما يسنده للحديث في مجمع الرسل المسكوني (أع 15: 16؛ إر 12: 15). ووجد فيه بولس الرسول سندًا للحديث عن حرية اختيار الله في الدعوة (رو 9: 20؛ إر 18: 6)، كما أدرك يوحنا اللاهوتي انهيار بابل العظيمة (رؤ 18: 2؛ إر 51: 8).
بين إرميا النبي والرسول بولس:
1. رأينا التشابه بينهما في اهتمامهما بأعماق النفس، والإصلاح الجذري لا التركيز على الختان الظاهري...
2. كان كلاهما رجلي آلام ودموع (أع 9: 16؛ 20: 19، إر 9: 1).
3. أدرك الاثنان دعوتهما للخدمة وهما بعد في الأحشاء (إر 1: 4-5؛ غلا 1: 15).
المسّيا في سفر إرميا:
في حديثنا عن غرض السفر رأيناه يبرز الحاجة إلى المسيا الملك البار ليحقق الخلاص. فإن كان ملوك بيت داود قد أساؤا القيادة، وكان ذلك أحد العوامل التي شتت الرعية (21: 1، 23: 3)، فإن الله يعد بالأنبياء عن مجيء ملك جديد من نسل داود، بار وحكيم، يخلص يهوذا القطيع الجديد (23: 3-6). وكأن إرميا النبي قد تطلع بنظرة نبوية إلى العصر المسياني الذي فيه يحقق السيد المسيح التجديد الروحي الحق، فيقدم الله عهدًا جديدًا لإسرائيل الجديد، حيث يملك الله روحيًا على القلب (23: 5-8؛ 30: 4-11؛ 33: 14-26؛ 33: 14-26؛ 32: 36-41). وبظهور هذا العصر الجديد ينتهي الطقس اليهودي في حرفيته، وينفتح الباب لدعوة الأمم (3: 17).
لا يقف الأمر عند النبوات عن عصر المسيا وإنما كانت شخصية إرميا ترتبط كثيرًا بشخصية السيد المسيح، حتى عندما سأل السيد تلاميذه: من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟ قالوا إن بعضًا يقول إنه إرميا (مت 16: 14).
أما أهم ملامح هذا الارتباط فهي:
1. عاش إرميا يحمل في داخله أثقال شعب الله بمرارة، إذ يقول "أحشائي أحشائي، توجعني! جدران قلبي! يئن في قلبي! لا أستطيع السكوت" (4: 19). وبدموع يقدم مرثاة، قائلاً: "يا ليت رأسي ماءً وعينَّي ينبوع دموع؟، فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبي" (9: 1)، حتى دُعي بالنبي الباكي. وقد جاء السيد المسيح يبكي البشرية على خطاياها ورجاساتها، خاصة أورشليم التي قدم لها الكثير وفي عناد قاومت عمل الله. فقد قيل عنه: "رجل أوجاع ومختبر الحزن" (إش 53: 3).
وُجد السيد المسيح باكيًا (مت 23: 37)، إن لم يكن علانية ففي أعماقه دموع لا تجف من جهة الخطاة. اكتشف إرميا بعض الخطايا فلم يعد يحتمل نفسه مشتهيًا أن يجد له مبيتًا في البرية ليترك شعبه وينطلق من عندهم لأنهم جميعًا زناة جماعة خائنين (9: 2). أما السيد المسيح العارف بكل خطايا البشرية في كل تفاصيلها الخفية والظاهرة، بكل ثقلها، فقد جاء ليحل وسط الخطاة ويسندهم مقدسًا إياهم بدمه. لم يكن لإرميا رجاء في شعبه إلا من خلال نظرته المستقبلية منتظرًا مجيء الملك المسيا ابن داود ليقيم مملكته على مستوى روحي جديد، أما السيد المسيح فحقق ما اشتهاه إرميا وغيره من الأنبياء فاتحًا طريق الملكوت الجديد لكل من يدعو اسم الرب من جميع الأمم.
2. أبغض الشعب مع القيادات إرميا النبي بسبب توبيخه لهم، وهكذا أبغضوا السيد المسيح، لا لسبب سوى شرهم: "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله" (يو 3: 20)، "لا يقدر العالم أن يبغضكم، ولكنه يبغضني أنا، لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة" (يو 7: 7).
لم يكن ممكنًا للرؤساء المدنيين والدينيين من كهنة وأنبياء كذبة، وأهل عناثوث وكل الشعب أن يتقبل محبة النبي الصادقة وكلماته الصريحة، فعاش مرفوضًا ومضطهدًا ممن يحبهم، حاملاً صورة السيد المسيح محب البشرية، الذي جاء يسلم ذاته من أجل الكل، أما خاصته فلم تقبله، بل وتكاتفت كل القوى تريد الخلاص منه خارج المحلة.
3. تنبأ إرميا النبي عن خراب أورشليم، قائلاً: "هأنذا داعٍ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب، فيأتون ويضعون كل واحد كرسيه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا، وأقيم دعواي على كل شرهم، لأنهم تركوني وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم" (1: 15-16). وأعلن السيد المسيح ما سيحل بأورشليم، قائلاً: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم ُيترك لكم خرابًا" (مت 23: 37-38).
4. مع ما حمله إرميا من مرارة في داخله من جهة الشعب العنيد وما عاناه منهم بالرغم من محبته لهم، وإدراكه التأديبات القاسية التي ستعانيها أورشليم وكل مدن يهوذا، مرارته امتزجت بحلاوة خلال رؤيته السيد المسيح المخلص بروح النبوة، خلال الظلال، فلم يحمل يأسًا بل رجاءً.
رأى العصر المسياني كعلاجٍ حقيقي للخراب الحاّل، فقال: "ها أيام يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض، في أيامه يخلص يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنا، وهذا هو اسمه الذي يدعونه به: الرب بِرّنا" (23: 5-6).
رأى السيد المسيح الذبيح، فقال: "وأنا كخروف داجن (أليف) يُساق إلى الذبح، ولم أعلم أنهم فكروا علي أفكارًا، قائلين: لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء، فلا ُيذكر بعد اسمه" (11: 19).
5. أدرك إرميا النبي أن الإصلاح الحقيقي يقوم بهدم الشر تمامًا، أي هدم الإنسان القديم، والتمتع بالخير أي قيامة الإنسان الجديد، ليكون الإصلاح جذريًا. ففي بدء دعوته سمع الصوت الإلهي يعلن له: "قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس" (1: 10). وقد أدرك أنه عاجز تمام العجز عن اقتلاع مملكة إبليس وهدمها وإبادتها لكي يبني في نفوس شعبه مملكة الله ويغرسها فيهم، لهذا أكّد الحاجة إلى "عهد جديد" يقيمه الرب نفسه، القادر وحده بروحه القدوس أن يهدم ويبني، ويقتلع ويغرس، الذي وحده يدخل إلى أعماق النفس، يحطم فيها ما هو قديم ليقيمها بطبيعة جديدة... وكما يقول النبي: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم... بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها في قلوبهم وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبًا، ولا يعلمون بعد كل واحدٍ صاحبه، وكل واحد أخاه، قائلين: اعرف الرب، لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب، لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد" (31: 31-34).
6. يقول إرميا عن نفسه: "وأنا كخروفٍ داجنٍ (أليف) ُيساق إلى الذبح" (إر 11: 9)، كما قيل عن السيد المسيح: "ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاةٍ تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (إش 53: 7؛ إر 8: 32).
7. حمل إرميا النبي العار من أجل الرب: "اعرف احتمالي العار لأجلك" (إر 15: 15)، كما قيل عن السيد المسيح كلمة الله المتجسد: "لأن المسيح أيضًا لم يرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليّ" (رو 15: 3).
8. يرى البعض أن إرميا النبي قد عرض الكثير من الأسئلة التي لا إجابة لها إلا بمجيء السيد المسيح وإقامة العهد الجديد. نذكر على سبيل المثال:
أ. "كيف أصفح لكٍ عن هذه؟" (5: 7). فلم يكن ممكنًا أن تنعم بالصفح إلا بالسيد المسيح "الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته" (أف 1: 7).
ب. "أليس بلسان في جلعاد أم ليس هناك طبيب؟!" (8: 22)، وجاءت الإجابة في العهد الجديد أنه يوجد طبيب النفوس والأجساد، ربنا يسوع المسيح الذي يقدم دمه بلسانًا لشفاء جراحات النفس المميتة.
ج. "هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه؟" (13: 23)... حقًا لم يكن ممكنًا للإنسان أن يغير طبيعته التي التصقت به كجلده ولطخت حياته كرقط النمر، لكن جاء السيد المسيح يهبنا بروحه القدوس تغيير جذري لطبيعتنا الداخلية، فصارت لنا الخلقة الجديدة (غلا 6: 15)، وجدة الحياة (رو6: 4).
د. "إن جريت مع المشاة فأتعبوك، فكيف تباري الخيل؟ وإن كنت منبطحًا في أرض السلام فكيف تعمل في كبرياء الأردن؟!" (12: 5). وجاءت الإجابة: نستطيع بالمسيح يسوع ربنا أن نباري الخيل أي الشياطين ونهزمهم، ونعمل في كبرياء الأردن، فنحطم تشامخ الخطية... وباختصار "شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كو 15: 57).
يُرى السيد المسيح في سفر إرميا إنه:
أ. بلسان في جلعاد (8: 22)، أي دواء للنفس المنكسرة، وأيضًا طبيب بنت شعبي (8: 22)، والراعي الصالح (31: 10).
ب. رجاء الكنيسة ومخلصها: "يا رجاء إسرائيل مخلصه في زمان الضيق لماذا تكون كغريب في الأرض وكمسافر يميل ليبيت" (14: 8؛ 50: 34).
ج. الفخاري، ُيشكل طبيعتنا (الطين) بيده الإلهية (18: 6).
د. غصن برّ: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض" (23: 5).
هـ. داود الملك: "بل يخدمون الرب إلههم وداود ملكهم الذي أقيمه لهم" (30: 9).
و. ينبوع المياه الحية (2: 13).
أما أهم النبوات المسيانية فهي:
أ. ميلاده الجسدي كابن لداود (23: 5؛ 33: 15؛ أع 13: 22؛ رو 1: 3). ب. لاهوته: "الرب برنا" (23: 6، 1 كو 1: 30). ج. قتل أطفال بيت لحم (31: 15؛ مت 2: 16، 18). د. تقديم نفسه ذبيحة حب (11: 9)، وحمله العار (15: 15)، وعدم جلوسه في مجلس المازحين مبتهجًا (15: 17).
أقسام السفر:
يبدو أن نبوات إرميا النبي كانت تسجل في أدراج متفرقة، كل درج يحوي موضوعًا معينًا بغض النظر عن التسلسل التاريخي، فقد جاء السفر مرتبًا ترتيبًا موضوعيًا وليس تاريخيًا. أما تكرار بعض العبارات فجاء ضرورة حتمية، لأن السفر في غالبيته مجموعة عظات ألقاها النبي في مناسبات متكررة ومتشابهة في أيام ملوك مختلفين. يمكن تقسيم نبواته إلى ثلاثة أقسام رئيسية، مع مقدمة وختام:
v دعوة إرميا ورسالته [1]. 1. نبوات ما قبل سقوط أورشليم
(مع الوعد بالرجوع من السبي) [2-33].
2. تاريخ سقوط أورشليم [34-45].
3. نبوات عن الأمم الغريبة [46-51].
من وحي إرميا
هب لي يارب رقة إرميا وشجاعته!
v هب لي يارب رقة إرميا، فأبكي ليلاً ونهارًا من أجل كل نفس ساقطة! أصرخ إليك طالبًا تقديس كل قلب، وختان كل الحواس الداخلية. v علمني أن أذوب حبًا من أجل كنيستك، مشتهيًا خلاص العالم كله!
متى أرى كل البشر حولك،
يتمتعون بحبك،
ويقبلون عهدك وميثاقك؟!
v اسندني بكلمتكِ النارية، لتلمس شفتي فأنطق بالحق،
ولا أهتز أمام إنسانٍ ما،
ولا أرتبك أمام الأحداث،
بل اطلب إرادتك واشتهي مجدك!
v اعترف لك مع إرميا إني أصغر من أن أعمل، صغير جدًا في عيني نفسي!
لكنك تحول طفولتي إلى نضوج روحي،
وضعفي الشديد إلى قوة!
ترى من يسندني سواك؟!
v هب لي يارب روحك القدوس الناري، فأصير كإرميا،
يكفيني أنك معي، ساكنًا فيّ،
حتى إن وقف العالم كله ضدي!
هب لي يارب رقة إرميا وشجاعته!
دعوة إرميا ورسالته
إرميا 1
الدعوة للخدمةالأصحاح الأول
افتتح السفر بمقدمة صغيرة أوضحت موطن النبي وتاريخ بدء الخدمة ونهايتها، الأمور التي سبق لنا دراستها في المقدمة. جاء الأصحاح الأول كله كمقدمة للسفر، أشبه بدستور عملي للخادم الحقيقي، بنوده الأساسية هي:
مقدمة [1-3].
1. ادراك الدعوة الإلهية [4-5].
2. اتساع القلب بالحب [5].
3. اتضاع النفس [6-7].
4. شجاعة الخادم [8].
5. الاختفاء في كلمة الله [9-14].
6. الأمانة في العمل [15-19].
مقدمة:
مثل كثير من الأسفار النبوية قدم هذا السفر في اختصار ثلاثة أمور لفهمه: بعض الأخبار الشخصية الخاصة بالنبي، وإرساليته الإلهية، والمدة التي خلالها مارس إرميا عمله النبوي. وقد سبق لنا الحديث عن هذه الأمور.
1. إدراك الدعوة الإلهية:
تحدث السفر عن دعوة النبي ورسالته خلال أمرين: حوار بين الله وإرميا [4-10؛ 17-19] وخلال رؤيتين [11-16]، ركز الحوار على دعوة إرميا الشخصية والرؤيتان على رسالته.
إذ تدخل الله في حياة إرميا وتحدث معه في حوارٍ مفتوحٍ، فتح عن عينيه ليدرك إرميا من هو، وما هي رسالته في الحياة، وما هي إمكانياته في الرب.
افتتح النبي حديثه بعلاقته مع الله مرسله هكذا: "فكانت كلمة الرب إليّ قائلاً: قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك" [4-5].
ما أعجب هذه العبارة، فإنها تكشف عن سرّ الحب العميق بين الله والإنسان.
أدرك النبي أن علاقته بالله تمتد جذورها إلى ما قبل تكوينه كجنين في أحشاء أمه، فقد كان في ذهن الله، وموضوع محبته، يمثل جزءًا لا يتجزأ من خطة الله الخلاصية! دعوته للعمل النبوي لم تقم من عندياته ولا بخطة إنسانية، لكنها بتخطيط إلهي!
لقد أدرك إرميا النبي أن حياته لم تأتِ جزافًا نتيجة اتحاد جسدي بين والديه، إنما هو أعظم من هذا. ميلاده الجسدي ليس هو بداية حياته الحقيقية، ولا موته الجسدي هو نهاية حياته! إنه من صنع الله نفسه!
إذ تحدث عن الأنبياء الكذبة يقول الله من خلال إرميا: "لم أرسل الأنبياء بل هم جروا، لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا" (23: 21).
لكي يؤكد إرميا نبوته ذكَّر قارئيه إنه مدعو من الله مباشرة ومرسل منه للشعب الداخل في ميثاق إلهي، مثله في ذلك مثل عاموس النبي وغيره من الأنبياء (عا 7: 14-15؛ إش 6: 1-13؛ حز 1: 4، 3: 15).
هذا ما أدركه الرسول بولس الذي دُعى للإيمان وللعمل الرسولى بعد أن اضطهد كنيسة الله وافترى عليها (1 تي 1: 12-13) وأتلفها (غلا 1: 13)، إذ عرف أنه كان مفرزًا وهو في بطن أمه (غلا 1: 15). تعبير "صورتك" مأخوذ عن عمل الله كخزاف (تك 2: 7-8)، أما الكلمة العبرية فمن الجانب الفنى تعنى "خلقتك" (عا 4: 13؛ إر 51: 19؛ إش 45: 18؛ 49: 5؛ مز 59: 5)[23].
يدعو الله الخدام والرعاة بطرق كثيرة. دُعى موسى بظهوره له على شكل عليقة ملتهبة نارًا، وأمره أن يخلع نعليه حتى يقدر أن ينصت إلى الرسالة المقدسة بخوف وخشية، ساندًا إياه بالآيات والمعجزات (خر 3). وعند دعوته لإشعياء وحزقيال النبيين قدم لهما رؤى خاصة بمجد الله والخليقة السماوية (إش 6، حز 1)، فصرخ إشعياء تحت وطأة شعوره بثقل خطاياه وخطايا الشعب، وسقط حزقيال أمام بهاء مجد الرب. أما دعوة إرميا فكانت مختلفة تمامًا، إذ يقول في بساطة: "فكانت كلمة الرب قائلاً: قبلما صورتك في البطن عرفتك...". كان اللقاء بين الله وإرميا لقاءً طبيعيًا وكأنهما صديقان حميمان، وأن هذه الرسالة جاءت نتيجة علاقة قديمة تمتد جذورها إلى أيام تكوين إرميا في أحشاء أمه.
اختيار الله لإرميا وتقديسه وهو بعد في الأحشاء هزّ قلوب الكثيرين من آباء الكنيسة، فرأي القديس أمبروسيوس في ذلك صورة حية لعمل الله فينا لأجل تقديسنا، فإنه يهب التقديس كعطية من جانبه لا فضل لنا فيها، ويكمل قائلاً: [احفظ هبات الله، فإن مالم يعلمك إياه أحد يهبه لك الله ويوحى به إليك[24]]. ورأي القديس جيروم أن الله بسابق معرفته ادرك ما يكون عليه إرميا فإختاره للعمل النبوي (رو 8: 29): [عرف الله مقدمًا ما يكون في المستقبل عندما قدّس إرميا وهو لم يُولد بعد[25]]. ويرى القديس كيرلس الأورشليمي أن الله الذي شكلّ النبي في الرحم، وهيأه للعمل النبوي، لا يخجل من أن يأخذ لنفسه جسدًا في الرحم: [إن كان الله لم يخجل من أن تكون له علاقة بتشكيل إنسان، فهل يخجل من أن يشكل لنفسه جسدًا مقدسًا كحجاب للاهوته؟![26]].
ويرى العلامة أوريجينوس أن ما جاء في العبارة السابقة إنما هو هبة لم يتمتع بها أحد من قبله أو من بعده من الأنبياء، حتى إبراهيم أب الآباء والذي يُحسب كنبي أيضًا لم ينعم بهذا. يقول:
[ماذا قالت له كلمة الرب؟
قالت له شيئًا مميَّزًا جدًا ومختلفًا عما قيل للأنبياء الآخرين. فإننا لا نجد هذا الكلام موجهًا إلى أيٍّ من الأنبياء.
فقد دُعى إبراهيم نبيًا في الآية: "إنه نبي وهو يشفع لك" (تك 20: 7)،ولم يقل له الله: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك" [5]؛ كما تقدس إبراهيم بعد فترة من الزمن حينما خرج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه؛ ووُلِد إسحق بوعد، لكننا نجد أنه لم توجه إليه تلك الكلمات.
لقد حصل إرميا على عطية خاصة وهي: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك"[27]].
أما سرّ الامتياز فهو أن إرميا كان يرمز للسيد المسيح، الذي تنطبق عليه هذه العبارة بمفهوم فريد رائع، فإنه قبل تجسده منذ الأزل يعرف الآب ابنه وحيد الجنس، وقد قدسه بمعنى سلّم إليه العمل الخلاصى من جهة الإنسان. لم يكن السيد المسيح في عوز إلى تقديس خارجي، إذ هو القدوس، لكنه قدم ذاته للآب في طاعة ليقوم بخلاصنا، لعله لهذا قال: "لأجلهم أقدس أنا ذاتى ليكونوا هم مقدسين في الحق" (يو 17: 19). يقول العلامة أوريجينوس: [يقدس الله لنفسه بعضًا من الناس، فلا ينتظر ميلادهم ليقدسهم (يخصصهم لعمله)، إنما يفعل ذلك قبل خروجهم من الرحم... ينطبق هذا على المخلص الذي ليس فقط قدَّسه قبل خروجه من الرحم، وإنما أيضًا قبل ذلك (قبل التجسد)، أما بالنسبة لإرميا فقدسه قبلما يخرج من بطن أمه[28]].
ربما يتسأل البعض: لماذا يقول "قبلما صورتك في البطن عرفتك"، ألا يعرف الله الجميع قبل أن يصورهم في البطن؛ نجيب أن المعرفة ليست إدراكًا ذهنيًا مجردًا، وإنما هي معرفة الصداقة والحب التي تقوم بين الله ومؤمنيه. فالكلمة العبرية yada غالبًا ما تحمل تعهدًا شخصيًا، كما يعرف الرجل إمرأته (تك 4: 1)، وكما قيل: "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض" (عا 3: 2). لهذا حزن الله جدًا لأنه "لا معرفة الله في الأرض" (هو 4: 1)، حاسبًا معرفته أفضل من تقديم محرقات (هو 6: 6)[29]. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يُعتبر الخاطى مجهولاً من الله...
لا يعرف الله الذين يصنعون الإثم، لأنهم لا يستحقون أن يكونوا معروفين لديه[30]].
[يعرف الله الأبرار الذين هم مستحقين أن يكونوا معروفين له، إذ "يعلم الرب الذين هم له" (2 تي 2: 19)، وعلى العكس فهو لا يعرف غير المستحقين لذلك، إذ يقول المخلص: "إني لا أعرفكم قط" (مت 7: 23).
نحن البشر حسب مقايسنا نحكم على بعض الأشياء أنها تستحق أن نعرفها، بينما بعضها لا نريد حتى أن نسمع عنها، ولا أن نعلم عنها شيئًا. هكذا رب كل الأشياء يريد أن يعرف فرعون والمصريين لكنهم كانوا غير مستحقين أن يُعرفوا منه. كان موسى مستحقًا أن يعرفه الله، وهكذا كان كل الأنبياء مثله.
إذن لتُمارس أعمال المحبة بكثرة، فيبدأ الرب في معرفتك. فإن كان الله قد عرف إرميا قبلما صوره في بطن أمه، لكنه يبدأ في معرفة البعض عندما يبلغون الثلاثين أو الأربعين من عمرهم...
يقدس الله لنفسه بعض الناس، أما في حالة إرميا فإنه لم ينتظر حتى وقت ولادته ليقدسه، لقد تقدس فعلاً قبل أن يخرج من الرحم[31]].
عرف (yada) الله إرميا، وقدسه (hiqdis)، وعينه أو أقامه (ntn) للخدمة النبوية.
بجانب المعرفة، أي اهتمام الله به شخصيًا والتصاقه به نجد التقديس، يعني فرز الشخص أو الشيء وعزله لكي لا ُيستخدم إلا لحساب الله. كما أفرز الله سبط لاوى لخدمته والهيكل والسبوت وأيام الأعياد والبكور والعشور الخ. من يستخدمها لغير خدمة الله يُحسب مجدفًا.
أقامه الله نبيًا للشعوب، وليس لشعبِ واحدِ، لأنه متحدث باسم الله الذي هو إله كل الشعوب، الذي يود أن يجمع الكل للتمتع به.
2. اتساع القلب بالحب:
يعلن الرب لإرميا النبي حدود خدمته؛ قائلاً له: "جعلتك نبيًا للشعوب" [5]. إن كان إرميا قد بدأ خدمته في حدود قريته التي رفضته لكن قلبه لم يضق بالناس إنما اتسع ليشمل كل يهوذا التي أصرت على رفضه مرارًا، بل يؤكد الله له أنه قدّسه "نبيًا للشعوب". وكأنه أراد أن يخرج به من الدائرة الضيقة لكي يئن مع أنات كل إنسانٍ، ولا يستريح قلبه ما لم يسترح الكل في الرب.
هل دُعى إرميا لخدمة يهوذا، أم نبيًا للشعوب؛ من الجانب الحرفي تنبأ عن بعض الشعوب الأخرى مثل بابل (25: 12-14، أر 50)، ومصر (49)، وفلسطين (47)، وموآب (48)، وبنى عمون (49)، وأدوم (49)، ودمشق (آرام – إر 49)... وكأن الله قد جعل لإرميا دورًا يمس لا حياة يهوذا فحسب، بل وتاريخ الأمم الأخرى أيضًا[32]. حينما يدرك الإنسان رسالته التي من أجلها خلقه الله يكون له دوره الحيوي في حياة الآخرين بطريق أو آخر. أما من الجانب الروحى فكان إرميا يشير إلى السيد المسيح، الذي وهو الابن الوحيد الجنس جاء كنبي (18: 15) يسحب قلب الشعوب إلى الحياة السماوية. هكذا خدامه المرتبطون به يحملون ذات الروح، مشتاقين بروح الأبوة الجامعة الحانية أن يضموا كل إنسان إن أمكن إلى ملكوت الله. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أؤتمن (الكاهن) على العالم كله، وصار أبًا لجميع الناس[33]].
3. اتضاع النفس:
إذ دُعى إرميا للخدمة لم يرفضها بطريقة مطلقة وإنما اعتذر بضعفاته الشخصية، قائلاً: "قلت: آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" [6]. وكانت إجابة الرب: "لا تقل إني ولد، لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به" [7].
للقديس غريغوريوس النزينزى تفسير روحى حيّ عن اعتذار البعض عن الخدمة وقبول الآخرين لها، إذ يقول: [جيد للإنسان أن يتراجع عن (دعوة) الله إلى حين كما فعل العظيم موسى (خر 4: 10) وإرميا من بعده، لكننا نقبل الدعوة بعد ذلك حين يدعونا ونحن متأهلون كما فعل هرون (خر 4: 27) وإشعياء (1: 6). يلزم أن يتم ذلك خلال الشعور بالمسئولية، فيكون التراجع بسبب الشعور بالحاجة إلى قوة، ويكون القبول بسبب قدرة ذاك الذي دعانا[34]].
في حديث للأب غريغوريوس (الكبير) عن الرعاية يقدم لنا إشعياء مثالاً لمن بالحب يقبل الخدمة، وإرميا كمثال لمن بالحب يعتذر عنها، قائلاً: [من هذين الرجلين تظهر صورتان متباينتان في الخارج لكنهما يصدران عن ينبوع حبٍ واحدٍ. توجد وصيتان للحب: حب الله وحب القريب. بينما اشتاق إشعياء إلى نفع أقربائه خلال الحياة العاملة مشتهيًا عمل الكرازة، اشتهي إرميا الالتصاق بمحبة خالقه بمثابرة خلال الحياة التأملية، معتذرًا عن إرساله للكرازة[35]].
على أي الأحوال، لم يعتذر إرميا عن الخدمة لبلادةٍ في قلبه، ولا هربًا من المسئولية، وإنما شوقًا إلى فترة خلوة مع الله ولو إلى حين مع شعوره بالضعف الشخصي أمام إدراكه لجسامة المسئولية، فجاء هذا الشعور يؤكد تأهله لقبول عمل الله فيه، إذ يعمل الله في المتواضعين. كما يقول القديس أمبروسيوس: [اختار الله موسى وإرميا ليعلنا كلمة الله للشعب خلال الاتضاع، فيقدران أن يحققا هذا العمل بالنعمة[36]]. ويقول الرسول بولس: "اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزى الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم المزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود، لكي لا يفتخر كل ذى جسد أمامه" (1 كو 1: 27-29). إذن سرّ القوة لا في الإناء المختار، وإنما في العامل فيه، لهذا يؤكد الرب لإرميا في أكثر من موضع "أنا معك" [8-9].
ويتساءل العلامة أوريجينوس[37]: كيف يمكن أن تنطبق كلمات إرميا النبي: "لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" على المخلص، مادام الأول رمزًا له؟ ويجيب بأنه في العهد القديم قيل عن المخلص بكل وضوح: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل... قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تُخلى الأرض التي أنت خاشٍ من ملكيها" (إش 7: 14، 16). فقد قيل "قبل أن يعرف الصبي..."، إذ "أخلى نفسه" (في 2: 7)، وجاء عنه في الإنجيل أنه كان "يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو 2: 52). فإنه إذ أخلى ذاته بنزوله على الأرض أخذ من جديد ما قد تركه خلال إخلاء ذاته بإرادته؛ ليس غريبًا أن ينمو من جهة الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس، بهذا يتحقق القول: "قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير" وما غير هذا من النصوص التي ذكرها إشعياء. يقول العلامة أوريجينوس إن المخلص هو كلمة الله العالم بكل شيء، في اتضاعه قبل أن يتجسد ويصير طفلاً ليتعلم لا الأمور الكبيرة وإنما الأمور الصغيرة، لا لغة الله فهي لغته وإنما لغة البشر، لكي يكون مشابهًا لنا في كل شيء. لقد كان التأنس حقيقة بكل معنى الكلمة، حمل ناسوتنا وتدرج معنا في كل شيء كواحدٍ منا حتى يرفعنا إلى مجده الأبدي.
نعود إلى النص الكتابي حيث يجيب الله إرميا: "لا تقل إني ولد (تطلق الكلمة على الطفل المولود حديثًا أو الصبي حتى بلوغه الثلاثينات للزواج)[38]"، فإن كان إرميا بحسب عمره صغيرًا، لكنه في عيني الله ناضج روحيًا. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يمكن أن نكون أولادًا صغارًا حسب إنساننا الداخلي حتى وإن كنا شيوخًا حسب الجسد، كما يمكن أن نكون أولادًا صغارًا حسب إنساننا الخارجي ولكننا ناضجون حسب الإنسان الداخلي، وهذا ما كان عليه إرميا، إذ كانت لديه نعمة الله وهو بعد ولد صغير حسب الجسد. لذلك قال له الرب: "لا تقل إني ولد". وأما علامة أنه إنسان ناضج (كامل) وليس بولد فهو ما جاء بعد ذلك "إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به، لا تخف من وجوههم"[39]].
لقد اعتذر إرميا عن الخدمة كما فعل موسى النبي (خر 3). وقد رأي بعض الدارسين أن إرميا هو "موسى" جديد أقامه الله للشعب، من جهة:
أ. اعتذارهما في البداية عن الخدمة لشعورهما بالعجز البشري!
ب. كانا يتشفعان في شعب الله بحبٍ شديدٍ ومرارةٍ!
ج. نالا وعدًا بأن يضع الله كلماته في فمهما (1: 8؛ خر 3: 12).
د. أراد موسى أن يخلص الشعب من عبودية فرعون، وأراد إرميا أن يخلص الشعب من عبودية الخطية التي تدخل بهم إلى الأسر البابلي.
هـ. قدم موسى للشعب ميثاق الله معهم، وأعلن إرميا عن عهد جديد مع الله (31: 31-34).
4. شجاعة الخادم:
الاتضاع لا يعني الاستكانة، إنما الشعور بضعف الإنسان وعجزه بذاته، مع الإيمان بإمكانيات الله الجبارة التي تسنده، فيعمل بشجاعة دون خوف أو اضطراب. فالراعي بل وكل مؤمن حقيقي يتمسك بكلمة الله الحازمة التي تعلن الحق وتفضح الباطل، يكون موضع غضب السالكين في الظلمة بل وأحيانًا موضع مضايقات حتى العاملين في الكرم، لذا جاء في سفر ابن سيراخ: "إن أردت أن تخدم الرب فأعدد نفسك للتجربة".
يقول العلامة أوريجينوس: [يعرف الله المخاطر التي تلاحق الموكلين على الكلمة من المستمعين لهم، فعندما يوبخون يكرههم الناس، وعندما يلومون يُضطهدون، فيتحمل الأنبياء كل هذه الآلام إذ "ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته" (مت 13: 57). هكذا إذ يعرف الله المخاطر التي تلاحق من يرسلهم يقول: "لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب" [8]. فقد جاء عن إرميا أنه أُلقى في الجب (38: 6) فكان لا يأكل إلا رغيف خبز كل يوم (37: 21) ولا يشرب إلا قليل ماء محتملاً آلامًا كثيرة، وكما قيل لليهود: "أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟!" وقيل أيضًا: "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع ُيضطهدون" (2 تي 3: 12)، وذلك خلال العمل العدواني وبكل وسيلة للمضايقة. كذلك يتحمل المضطَهدون كل الآلام بدون تذمر، راجين أن ُيضطهدوا بلا سبب وليس بسبب خطأ ارتكبوه، وإذا حدث أن أُضطهدنا من أجل الحق، فلنسمع هذا التطويب: "طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين افرحوا وتهللوا؛ لأن أجركم عظيم في السموات، فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم" (مت 15)[40]].
لقد أكدّ الرب لإرميا: "لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك" [8]. هذه كلمات صادرة عن الفم الإلهي، يلتزم بها الله بارادته المملؤة حبًا نحو كل خدامه الأمناء، ألا وهي "معية الله"، أن يكون معهم (خر 4: 12؛ يش 1: 5، 9؛ قض 6: 16؛ 1 صم 3: 19؛ 16: 13، مت 28: 20). الخدمة شاقة بل ومستحيلة بالأذرع البشرية، لأنها في جوهرها خدمة إقامة من الأموات، لا موت الجسد بل موت النفس؛ الأمر الذي يمارسه الخالق المخلص خلال خدامة المتكئين عليه.
يؤكد له: "هأنذاك جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض... فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب: لأنقذك..." [18-19]. لم يعد الله إرميا بإزالة المتاعب عنه، لكنه وعده بمؤازرته اثناء الشدائد والضيقات، لا لكي لا يسقط فحسب، وإنما يجعل منه مدينة حصينة تحتضن الكثيرين، وعمود حديد يُبنى عليه هيكل الرب، وأسوار نحاس يختفي وراءها الكثيرون في المسيح يسوع. إنه يهب خدامه كلمته "كمطرقةٍ تحطم الصخر" (23: 29)، ويقدم لهم اسمه ليبيد الشر المحيط بهم (مز 118: 11).
الله لا يمنح قديسيه عدم التعرض للتجارب، إنما يعطيهم القوة للغلبة، وكما يقول القديس بيامون: [لا يختلف القديس عن الخاطي في أنه ليس مُجربًا مثله، بل يختلف عنه أنه لا يُقهر حتى من الهجوم العنيف، أما الآخر فينهزم من أقل تجربة[41]].
العجيب أن الله لا يطمئن خدامه بنزع التجارب عنهم بل يهددهم إن تركوا روح الشجاعة ليس فقط ينهزمون بل هو أيضًا يرعبهم، إذ يقول: " لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم" [17]. وكأن سرّ نجاحهم هو شجاعتهم في الرب.
أخيرًا إذ اعتذر إرميا عن الخدمة بسبب ضعفه دفعه الله إلى الإيمان به ليحيا بروح الشجاعة، واهبًا إياه إمكانية الغلبة والنصرة على كل العقبات دون أن يلزمه بالخدمة قسرًا. في هذا يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن العاملين في كرم الرب، قائلاً: [أنظر، في سلطانهم أن ينطقوا أو يمتنعوا عن الكلام. فإنهم لا يلتزمون بالعمل قسرًا... فقد هرب يونان (يونان 1: 3)، وتأخر حزقيال (حز 3: 13) واعتذر إرميا (1: 6) ومع ذلك لم يدفعهم الله قسرًا ولا ألزمهم بالعمل وإنما نصحهم وأرشدهم وهددهم... وأنار أذهانهم لكي تدرك الأمور الضرورية[42]].
5. الاختفاء في كلمة الله:
"ومدّ الرب يده ولمس فمي، وقال الرب ليّ: ها قد جعلت كلامي في فمك" [9]. يختفي خادم الله في كلمة الله تمامًا، ويخفيها في أعماقه ليعيش بها. إنه يُبتلع في الكلمة، والكلمة تبتلعه...
بقدر ما يظهر الخادم بذاته ينَّمق الكلمات، تخرج الكلمة مشوهة وضعيفة بلا سلطان؛ وبقدر ذوبانه فيها تخرج في بساطتها قادرة أن تخترق أعماق القلب لتهب سلامًا وروحًا وحياة! لهذا تُصلي الكنيسة في ليتورجية الأفخارستيا أن يهب الله خدامها ألا ينطقوا إلا بكلمة الحق، أي "كلمة الله"؛ فتطلب من أجل الأب البطريرك أن يكون مفصلاً كلمة الحق باستقامة، ومن أجل العاملين معه: "والذين يفصلون كلمة الحق باستقامة أنعم بهم يارب على كنيستك".
جاء في الدسقولية: [اهتم بالكلام يا أسقف إن كنت تقدر أن تفسر ففسر كلام الكتب. إشبع شعبك واروه من نور الناموس، فيغتني بكثرة تعاليمك[43]]. ويقول القديس إيرنيموس: [يلزم أن تتناسب كلمات الكاهن مع قراءات الإنجيل. لا تكن بليغًا في الأسلوب فحسب، ولا مكثرًا في الكلام، تثرثر بلا هدف. إنما كن عميقًا في الأمور، مختبرًا أسرار الله[44]]. كما يقول: [اقرأ الكتب المقدسة باستمرار، فلا ترفع الكتاب المقدس قط من يدك. تعلم ما ستُعلمه للآخرين، ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم لتكون قادرًا أن تعظ وتوبخ المناقضين (1 تي 3: 4)...[45]] ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الذي يميز المعلم هو قدرته على التعليم بالكلمة[46]].
سرّ القوة إذن في حياة إرميا أن الله مدّ يده، ولمس فيه، وجعل كلامه فيه. وللعلامة أوريجينوس تعليق جميل على مدّ الله يده ولمس فم إرميا، إذ يقول: [لاحظ الفارق بين إرميا وإشعياء. فإشعياء يقول: "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود" (إش 6: 5)، وبعد هذا الاعتراف... لم يمد الله يده ويلمسه، ولكن طار إليه واحد من السيرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط ... ومسّ بها فمه، وقال: إن هذه قد مست شفتيك فانتزع أثمك وكفر عن خطيتك (إش 6: 6-7)، أما إرميا فتقدس وهو في بطن أمه، ولم يرسل له الله ملقطًا أو جمرة من على المذبح، إذ لم يكن به شيء يستحق النار، بل مدّ يده ذاتها ولمسته[47]].
هكذا تمتع إرميا النبي بتقديس الله له وهو في البطن، كما أُنعم عليه بلمسة يد الرب لفمه لينال الكلمة في داخله... أما عمل الكلمة الإلهية في حياة رجال الله فهي: "أنظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس" [10].
يقول الرسول بولس: "لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين" (عب 4: 12)، فهي تفصل بين الشر والخير، وتميز بين مملكة إبليس ومملكة الله، تقلع جذور الخطية وتغرس بذار الصلاح، تهدم الفساد وتبني برّ المسيح فينا. هكذا كان الله صريحًا مع نبيه إرميا منذ اللحظة الأولى، علّمه التمسك بكلمة الله التي تهدم وتبني، وتقلع وتغرس! رسالة صعبة وقاسية تثير الشعوب والممالك ضده. لم يرسله ليقدم كلمات لينة مهدئة، وإنما ليعمل بالهدم والنقض والاقتلاع، وفي نفس الوقت البناء والغرس.
يقول القديس أغسطينوس: [هذا هو صوت الحق. هذا ما يفعله الأطباء حينما يقطعون، إذ يجرحون ويشفون. يحملون السلاح لكي يضربوا بالمشرط، ثم يتقدموا ليشفوا[48]]. وجاء في مناظرات القديس يوحنا كاسيان: [يعتمد الكمال العملي على نسق مزدوج: الوسيلة الأولى هي التعرف على طبيعة كل الأخطاء وطريقة علاجها، والوسيلة الثانية هي اكتشاف تدبير الفضائل... يجدر بنا أن نعرف أننا نبذل جهدًا بغرض مزدوج: سحق الرذيلة ونوال الفضيلة[49]].
هذا هو عمل كلمة الله المزدوج في حياة الإنسان الداخلية، وفي حياة الكنيسة والعالم، لكنه عمل واحد متكامل، فلا بناء بدون هدم، ولا غرس دون اقتلاع! هذا هو أيضًا عمل الروح القدس في المعمودية حيث يقوم بهدم الإنسان القديم وأعماله الشريرة، لينعم المؤمن بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي للمعمدين حديثًا: [كنتم تموتون وفي نفس اللحظة كنتم تولدون، كانت مياه الخلاص بالنسبة لكم قبرًا وأمًا[50]]. ويقول القديس غريغوريوس النزينزي: [إن الخطية دفن في الماء... والمعمودية نوال للروح[51]]. ويقول القديس جيروم: [الذي ينال المعمودية في الآب والابن والروح القدس يصير هيكل الله، فينهدم البناء القديم ليقوم مقدس جديد للثالوث القدوس[52]].
يرى العلامة أوريجينوس أن هذا العمل من الهدم والبناء خاص بالسيد المسيح نفسه، إذ يقول:
[أين هي الشعوب التي قلعها إرميا؟
وأين هي الممالك التي هدمها؟
لأنه مكتوب بكل وضوح: "قد وكلتك اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم".
أي سلطان كان لإرميا حتى ُيهلك، إذا افترضنا أن هذه الكلمة موجهة لإرميا: "وُتهلك"؟
هل يوجد أعداد كثيرة من الناس بناهم إرميا حتى يقال له: "وتبني"؟
يعلن إرميا: "لم أعمل صلاحًا" فكيف إذًا يُكلف بـ البناء والغرس؟
إذا طُبقت هذه الكلمات على المخلص فلا تُحير المفسرين أو تقلقهم ، لأن إرميا هنا هو رمز للمخلص[53]].
إن كان عمل الكلمة هو هدم شعوب وممالك واقامتها... فما هي هذه الممالك من الجانب الرمزي؟
يقول العلامة أوريجينوس:
[مَن مِن الناس أخذ كلامًا من عند الله وله نعمة الكلمات الإلهية يقوم بقلع وهدم شعوب وممالك؟
عندما نقول أن من أخذ كلامًا من الله لقلع وهدم شعوب وممالك، أرجوك ألا تأخذ كلمتي "شعوب" و"ممالك" بالمعنى المادي؛ إنما باعتبار أن الخطية تملك على النفوس البشرية، بحسب كلمات الرسول: "إذًا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت" (رو 6: 12)، وبما أن هناك أنواع جديدة من الخطايا، فسوف نفهم أن المعنى الرمزي لـشعوب وممالك هو الشرور الفظيعة الموجودة في نفوس البشر، والتي تُقلع وُتهدم عن طريق كلام الله المعطي لإرميا أو لغيره من الأنبياء[54]].
[توجد ممالك كما توجد شعوب، فتوجد مملكة النجاسة وتوجد شعوب النجاسة تبسط أعمال الشر في حياة كل شخص، كالطمع والسرقة... أنظر إلى الخطاة، كل واحدٍ فواحدٍ، فتفهم الشعوب موضوع المملكة... كلمة الرب مُرسلة إلى الشعوب والممالك بالقلع والغرس؛ فماذا تقتلع؟ لقد علمنا مخلصنا "كل غرسٍ لم يغرسه أبي السماوي يُقلع" (مت 15: 13). توجد داخل النفوس أشياء لم يغرسها الآب السماوي، هي "أفكار شريرة، قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف" (مت 15: 19). هذه لم يغرسها الآب السماوي. أتريد أن تعرف من الذي غرس أفكارًا من هذا النوع؟ اسمع ما قيل: "إنسان عدو فعل هذا" (مت 13: 28)، زرع زوانًا وسط الحنطة (مت 13: 25). الله يهتم ببذوره، والشيطان أيضًا، فإن تركنا الحقل فارغًا للشيطان يزرع الغرس الذي لم يغرسه الآب السماوي، الذي يجب اقتلاعه تمامًا. إذن لا تتركوا الحقل فارغًا للشيطان بل للرب فيزرع البذور في نفوسنا بفرح. لا تظنوا أن إرميا قد حصل على خدمة مؤلمة عندما ملك على ممالك وشعوب، فإن الله الصالح كان بكلمته يقتلع كل ما هو مخزي، ينزع ملكوت العدو عن الملكوت السماوي، ويقتلع شعوب الأعداء (الخطايا) عن شعب الله! [55]].
إذن بكلمة الله يقتلع خادم الله الغرس الغريب لكي يقوم الآب بتقديم غرسه في النفس؛ ويهدم مملكة الخطية لكي يقيم الرب مملكته السماوية؛ ويطرد الشعوب الغريبة الدنسة (الرجاسات) لكي يتمجد الله في شعبه.
لكي تبني كلمة الرب مملكته في داخلنا يلزمنا أن نتركها تهدم فينا ما هو غريب عنها، وتنزعه تمامًا، تحرقه بنارٍ أو تُلقي به خارجًا حتى لا يعوق البناء الجديد والغرس الجديد. لهذا السبب كان البيت المضروب بالبرص تُقلع حجارته التي فيها الضربة، وتُطرح خارج المدينة في مكانٍ نجسٍ (لا 14: 40)... لا يكفي قلع الحجارة، وإنما يلزم ألا تُترك فتحتل حيزًا مقدسًا أو تسرب النجاسة إلى غيرها، بل تُطرح خارجًا... هكذا لا نترك فينا أثرًا للخطية بل ويُحرق الغرس الغريب تمامًا كما بنار... إذ يقول: "اجمعوا أولاً واحزموه حزمًا ليحرق" (مت 13: 30).
يقول العلامة أوريجينوس:
["لتقلع وتهدم"،
يوجد بناء من الشيطان، ويوجد بناء من الله.
البناء الذي "على الرمل" هو من الشيطان، لأنه غير مؤسس على شيء صلب موحد، أما البناء الذي "على الصخر" فهو من الله؛ أنظر ماذا ُيقال للمؤمنين: "أنتم فِلاحة الله، بِناء الله" (1 كو 3: 9).
إذًا يُوجَّه كلام الله ليكون "على الشعوب وعلى الممالك، ليقلع ويهدم، ليهلك وينقض". إذا قلعنا ولم نقم بإهلاك الشيء المقلوع، فإن هذا الشيء يبقى؛ وإذا هدمنا ولكن بدون أن نهلك (نُزيل) حجارة الأساس فإن ما تهدم يظل باقيًا. فمن مظاهر صلاح الله وحبه أنه بعد ما يقلع يهلك، وبعدما يهدم يبيد ما قد هُدِم.
أما فيما يختص بالأشياء المقتلعة والمهلكة، فاقرأ بعناية كيف يتم إهلاكها: "احرقوا القش بنار لا تُطفأ، واجمعوا الزوان حزمًا وألقوها في النار". هذه هي طريقة الإبادة والإهلاك بعد القلع.
أتريد أن ترى أيضًا الهلاك الذي يحدث للأبنية الفاسدة بعد هدمها؟ كان البيت الذي يتم هدمه بسبب البَرَص يتحول إلى تراب، ثم يؤُخذ هذا التراب وُيلقى خارج المدينة، حتى لا يبقى حجر واحد، كما في العبارة "سوف أبيدهم كما وَخل الشوارع" أو (سوف أساويهم بالأرض).
يجب ألا تبقى مطلقًا الأشياء الفاسدة؛ إنما يتم إهلاكها لتجنُّب استخدام بقاياها في بناء أبنية جديدة يعملها الشيطان، كما يتم اقتلاع الأشياء الفاسدة حتى لا يجد الشيطان فيها بذارًا أخرى يزرعها من جديد، يتم أهلاكها حتى لا توجد فرصة للشيطان لكي يزرع الزوان مع الحنطة[56]].
لا يقف الأمر عند الهدم ونزع كل أثر للشر، وإنما يجب أن يلازمه العمل الإيجابي، وهو بناء المملكة الجديدة وتقديم الغرس السماوي. يقول العلامة أوريجينوس: [لا يقف كلام الله عند هذا الحد، عند القلع والهدم والإهلاك... ماذا يفيدني نزع الأشياء المخجلة وهدم ما هو شرير إن لم يحل مكانه غرس الخيرات العليا وبناء الأمور الفاضلة؟! لهذا فإن كلمة ربنا تعمل أولاً بالضرورة على القلع والهدم والإفناء، ثم بعد ذلك البناء والغرس... يقول "أنا أميت وأحييّ" (تث 32: 39). لم يقل أحييّ وبعد ذلك أميت، فإنه يستحيل أن ما يعمل الرب على إحيائه ينزعه (يميته) الآخر... ماذا يميت؟ إنه يميت شاول المشتكي والمضطهد ليجعله يحيا فيصير بولس رسول يسوع المسيح (2 كو 1: 1)!... إذن يبدأ الرب بالأمور الأكثر حزنًا لكنها لازمة، فيقول "أميت"، وبعدما يميت "يُحييّ". يسحق ويشفي (تث 32: 39)، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه!... يجب أن ُيقتلع الشر من جذوره، ويُهدم بناء الإثم تمامًا ويُطرح خارج نفوسنا، لكي تبني كلمة الرب فينا وتغرس. لأنه لا يمكنني أن أفهم تلك العبارة بطريقة أخرى: "ها قد جعلت كلامي في فمك." لماذا؟ "لتقلع وتهدم وتهلك". نعم إنها كلمات تقلع شعوب. كلمات تهدم ممالك، ولكن ليست الممالك المادية التي في هذا العالم، إنما يجب عليك أن تفهم بطريقة سامية ما هو المقصود بالكلمات التي تقلع والكلمات التي تهدم. عند ذلك تُمنَح قوة من الله كما هو مكتوب: "الرب يعطي كلمة للمبشرين بعظم قوة"، قوة تقلع ما تصادفه من عدم الإيمان، أو الرياء أو الرذيلة. قوة تهلك وتهدم إذا ما تواجدت أوثان مُقامة في داخل القلب، حتى إذا ما هُدم الوثن يُقام مكانه هيكل للرب، وفي هذا الهيكل يترأي مجد الله ويظهر، فلا يعود ينبت زوان، وإنما فردوس الله في هيكل الله، في المسيح يسوع[57]].
هذه الكلمة الإلهية التي بها يهدم ويبنى، ويقلع ويغـرس، يهتم بها الله نفسه، إذ هي كلمته. يقول النبي: "ثم صارت كلمة الرب إليّ قائلاً: ماذا أنت راءٍ يا إرميا؟ فقلت: أنا راءٍ قضيب لوز. فقال الرب لي: أحسنت الرؤية، لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها" [11-12].
لقد رأي إرميا "قضيب لوز (shaqed)"، هو القضيب الذي أفرخته عصا هرون الجافة، التي وإن كانت لا تحمل حياة في ذاتها لكنها أثمرت كلمة الله الحية لإشباع المخدومين. ويرى العلامة أوريجينوس أن قضيب اللوز يشير إلى ضرورة معرفة الخادم لكلمة الله من الجانب الحرفي، والجانب السلوكي، والجانب الروحي، فاللوزة لها غلاف خارجي مُرّ يسقط تلقائيًا عند نضوجها، هذا هو التفسير الحرفي أو الظاهري، وهو مرّ وقاتل، عاق اليهود الحرفيين وأيضًا الغنوسيين عن بلوغ المعرفة الحقيقية[58]. ولها أيضًا غلاف داخلي سميك نقوم بكسره لكي نأكل الثمرة التي في داخله، يشير هذا الغلاف إلى التفسير السلوكي أو الأخلاقي، خلاله يدخل المؤمن إلى حالة إماتةٍ وكسرٍ، خلال الحياة النسكية السلوكية من أصوامٍ ومطانيات وميتات كثيرة. وأخيرًا الثمرة الداخلية وهي حلوة ومشبعة، تشير إلى التفسير الروحي الخفي، وهي غذاء مشبع للمؤمن، لا في هذه الحياة الحاضرة فحسب، وإنما في الأبدية أيضًا[59].
يلاحظ أن "قضيب اللوز" يعني في العبرية "الساهر" وعلة هذه التسمية أن شجر اللوز يزهر مبكرًا في شهر فبراير قبل سائر الأشجار. تمتلىء الشجرة بالورد الأبيض لتعلن أن فصل الشتاء قد قارب على الانتهاء، وأن فصل الربيع أوشك على الاقتراب. بمعنى آخر، أنتهي وقت الموت (للنبات) لتحل الحياة من جديد! تشهد شجرة اللوز لعمل الله الفائق الذي يخرج الحياة من الموت! وكأن هذه الشجرة تبقى "ساهرة" على بقية الأشجار، فتشير إلى الله الذي يسهر على كلمته لتعمل في حياة الناس، إذ يقول: "لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها" [11].
يؤكد الله لإرميا خطأ ما يقوله الكثيرون في عصره، كما في كل العصور حتى يومنا هذا: "الرب لا ُيحسن ولا ُيسىء" (صف 1: 12)، بمعنى أن الله لا يفعل شيئًا، لا حول له ولا قوة!
من جهة أخرى، كأن الله يُعطي لإرميا النبي طمأنينة وتحذيرًا في نفس الوقت، فإن كان العمل صعبًا ومرًا، لكن الله نفسه هو العامل، فلا يليق به أن يخاف أو يضطرب، وفي نفس الوقت الله هو الملتزم بكلمته والساهر عليها، فإن لم يعمل النبي بالكلمة الإلهية يعمل الله بآخر غيره.
إن كان الله يجرى بنفسه كلمته وهو ساهر عليها لكنه يطلب من جانبنا نحن أيضًا أن نسهر لئلا يحل بنا الشر. لهذا بعد رؤية قضيب اللوز، جاءت رؤية القِدْر المنفوخة ووجهها من جهة الشمال حيث الشر قادم.
"ثم صارت كلمة الرب إليّ ثانية قائلاً:
ماذا أنت راءٍ؟
فقلت: إني راءٍ قِدرًا منفوخة ووجهها من جهة الشمال.
فقال الرب لي:
من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض" [11-14].
يرى العلاّمة أوريجينوس أن التطلع نحو الشمال يشير إلى السهر والحذر من الشر القادم على النفس البشرية لتحطيم خلاصها، إذ يقول:
[لتُوضع المنارة في الجنوب لكيما تتطلع نحو الشمال. لأنه عندما يُضاء النور، أي عندما يكون القلب ساهرًا يلزم أن يتطلع نحو الشمال ويلاحظ ذاك القادم من الشمال، وكما يقول النبي أنه رأي "قِدرًا على نار ووجهها من جهة الشمال، لأن "من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض" [14].
في سهرٍ ورعدةٍ وغيرةٍ يليق به أن يتأمل على الدوام في حيل الشيطان، ويلاحظ من أين تأتي التجربة، ومتى يقتحمه العدو، ومتى يزحف نحوه. إذ يقول الرسول بطرس: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1 بط 5: 8)[60]].
6. الأمانة في العمل:
إن كان النبي قد أُقيم كوكيل لله، إذ يقول له الرب: "أنظر. قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب..." فهو ملتزم أن يعمل بروح موكله، يقلع ويغرس، ويهدم ويبني. هذا العمل أجرته ضيق ومرارة من العالم نحو العاملين به.
قدم الله لإرميا النبي رؤيا ثانية، إذ نظر قدرًا منفوخة من جهة الشمال تنفتح فوهتها بالشر نحو الشعب، ويفسر له الرؤيا هكذا: "لأني هأنذاك داعٍ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب، فيأتون ويضعون كل واحدٍ كرسيه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا؛ وأقيم دعواى على كل شرهم، لأنهم تركوني وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم" [15-16]. بهذه الرؤيا أوضح الله لإرميا كل شيء مقدمًا، كموكل قدم لوكيله خطته الإلهية بكل وضوح حتى لا يُفاجأ بها الوكيل فيضطرب عندما يرى الضيق قد حلّ بأورشليم وكل مدن يهوذا. هذا ما فعله السيد المسيح مع تلاميذه حين حدثهم مقدمًا بكل ما سيحل بهم من ضيقات ليستعدوا لمواجهتها. ومن جهة أخرى أوضح له أنه يعمل بكل الطرق فيستخدم حتى الأمم الشريرة لتأديب شعبه.
لما كانت أغلب متاعب إسرائيل تأتي من الشمال (من الأشوريين والأراميين والبابليين) لذا صار الشمال رمزًا لقوى الظلمة[61].
يرى القديس جيروم في هذه الرؤيا أن الله يسلم أولاده للشيطان مؤقتًا للتأديب حتى يذوقوا مرارته فيعودوا إلى أبيهم السماوي، كما فعل معلمنا بولس مع من ارتكب الشر مع إمرأة أبيه، إذ قال: "حكمت كأني حاضر... باسم ربنا يسوع المسيح... أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 5). ويرى القديس جيروم أن بالقدر لحمًا (حز 24: 10-11) حتى يصير الخطاة لطفاء عوض القساوة وذلك بعمل النيران، فتصير قلوبهم لحمية عوض أن كانت حجرية[62].
يلاحظ أن الرؤيا الأولى مفرحة حيث ُتقدم كلمة الله كلوز مشبع للنفس له لذته، والثانية مرة ومؤلمة خاصة بالتأديب الحازم. وكأن الله يود أن يقدم كلمته العذبة لكل نفس لتنعم وتشبع بها، فإن رفضتها يسمح لها بالتأديب الذي يبدو قاسيًا ومرًا. وفي هذا كله يطلب الله ودّنا وحبنا ومجدنا الأبدي!
ولا تقف الأمانة عند تبليغ الرسالة فحسب وإنما تمس الحياة الداخلية، فأمانة الوكيل ُتعلن من خلال تقديسه الداخلي اللائق به كوكيل للقدوس. لهذا يقول له: "أما أنت فنطّق حقويك، وقم، وكلمهم بكل ما آمرك به. لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم" [17]. طالبه أن يمنطق حقويه ويقوم، فإنه إذ يمنطق حقويه يكون كمن يشترك في وليمة الفصح (خر 12: 11)، يشترك في العبور مع الشعب من عبودية الخطية للدخول في أورشليم العليا. أما قوله "قم" فتؤكد أنه لن يقدر أن يتمم رسالته الكرازية والشهادة للكلمة مالم يقم مع المسيح يسوع ربنا فيقيم إخوته معه!
في تفسيرنا لسفر الخروج رأينا تمنطق الحقوين يشير إلى الدخول في حياة الإماتة لشهوات الجسد وضيقه كما بمنطقة، لأجل تحرير النفس وانطلاقها بالروح القدس إلى السمويات.
إذن فعلامة الأمانة في العمل الكرازي إنما هو التمنطق، أي الدخول إلى الموت مع المسيح والتمتع بقوة قيامته، عندئذ يستطيع الخادم أن يتكلم بكل ما يأمره به الرب، إذ تخرج الكلمة حية وفعّالة، عاملة فيه هو أولاً، فيقبلها الناس كحياة؛ وبهذا أيضًا لا يرتاع من وجوه الناس لأنه إذ مات وقام هل يخاف الموت بعد؟! بهذا يقيمه الله مدينة حصينة وعمودًا حديديًا وأسوار نحاس على كل الأرض [18]، يصير سرّ بركة للكثيرين، يسندهم ويعينهم ويكون بالمسيح الصخرة هو أيضًا صخرة لكثيرين. بهذا يسمع الصوت الإلهي: "يحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك" [19].
عتاب في الأذنالأصحاحات 2-6
تشمل الأصحاحات الخمسة (2-6) خطابين يتضمنان ما وصل إليه يهوذا من انحطاط روحي وأخلاقي مع تهديد بعقاب أليم يحل بهم على أيدي شعبٍ بعيدٍ يجهلون لسانه، يأتيهم من الشمال[63].
يرى بعض الدارسين[64] أن إرميا يتحدث عن كارثتين:
الكارثة الأولى: قد حلت بهم فعلاً أثناء حديثه. أعمالهم الشريرة هي السبب، إذ يقول لهم: "طريقك وأعمالك صنعت هذه لك. هذا شرك. فإنه مُرُّ فإنه قد بلغ قلبك" (4: 18). بسببهم عادت الأرض إلى حالتها قبل خلقة العالم، حيث كانت خاوية وخربة والسموات بلا نور (4: 23، تك 1: 2).
الكارثة الثانية: لم تكن بعد قد حلت بهم أثناء حديثه، وكان يمكن تجنبها بالتوبة والرجوع إلى الله، إذ يقول: "هل يحقد إلى الدهر؟! أو يحفظ غضبه إلى الأبد؟!" (3: 5).
سرّ الخصومةالأصحاح الثاني
أراد الله كمحب البشر في بدء عتابه أن يتحدث إرميا مع أورشليم في أذنيها [1] وكأنه لا يريد أن يفضحها، ولا يهوى عقابها في ذاته، إنما يود الإصلاح بحديث ودّي في السّر ما أمكن. ربما قصد بقوله: "إذهب ونادِ في أذني أورشليم" [2]، أن يقترب منها بدالة الحب والصداقة. هذا الحب لا يعني التستر على الخطية، إنما وهو يتحدث بمحبة يكشف لها عن سّر انحطاطها الذي بلغت إليه. فالله هو العريس الغيور الذي لا يزال يطلب عروسه التي هجرته، يلاطفها ويجتذبها إليه، لكنه لا يقبلها وهي مُصرة على خطاياها.
يرى البعض أن الله في هذا الأصحاح يقيم قضية خيانة زوجية ضد عروسه المحبوبة لديه، لا للحكم ضدها، وإنما ليكشف لها ضعفها فترجع إليه.
قيل إن كلمة الله تريح التعابي وتتعب المستريحين[65]،فهي تقدم راحة للنفوس المعترفة بخطاياها، وتبعث تعبًا للنفوس المستكينة التي تبرر نفسها... هنا تقدم الكلمة تعبًا لشعبٍ استكان للخطية وبرر نفسه.
في هذا الأصحاح يتحدث عن:
1. فضائلها الأولى[1-2].
2. مركزها لديه[3].
3. عدم إهماله لها[4-8].
4. عدم امتثالها حتى بالأمم[9-11].
5. سّر ضعفها[12-28].
6. ثمار خطاياها[29-37].
1. فضائلها الأولى:
"إذهب ونادِ في أذني أورشليم قائلاً: هكذا قال الرب ذكرت لكِ غيرة صباكِ محبة خطبتكِ، ذهابكِ ورائي في البرية في أرض غير مزروعة" [2].
بدأ السيد عتابه بكلمة تشجيع إذ يعلن لأورشليم أنه لن ينسى يوم خطبها وهي بعد في صباها في مصر، كيف قبلته عريسًا لها، وخرجت معه من مصر إلى البرية، في أرض غير مزروعة. وكأنه يعلن أنه مدين لها بهذا الحب، مع أنه هو الذي سمع صرخاتها في العبودية واهتم بها ورعاها، مقدمًا نفسه سحابة تظللها من حرّ النهار وعمود نور يضىء لها ويقودها ليلاً، أرسل لها منًا سماويًا فلا تحتاج إلى طعام، وقدم لها صخرة ماء تتبعها أينما ذهبت. كان لها المربى والطبيب والمهندس... يشبع كل احتياجاتها.
يذكر الله اللحظات العذبة التي فيها استمع الشعب لصوت موسى النبي ووثق في الوعود الإلهية، فكانوا كعروسٍ في "شهر العسل" مع عريسها؛ ولم يذكر كيف كانوا قساة القلب، كثيري التذمر! عجيب هو الله في حبه، فإنه لا ينسى كأس ماء بارد يقدمه الإنسان باسمه، أما خطاياه فيود ألا يذكرها بل يتناساها. إنه محب للإنسان، صريح معه كل الصراحة، يواجهه بكل ضعفاته، لكن في غير تحاملٍ ودون جرحٍ لمشاعره، وفي غير تجاهلٍ للجوانب الطيبة التي يتسم بها أو كان يتسم بها. إنه يبرز فضائل الإنسان ويركز عليها لكي يسنده فلا ييأس قط. هذا هو الروح الذي اقتبسه منه معلمنا بولس الرسول ففي رسائله يبدأ بالتشجيع وإبراز فضائل المرسل إليهم قبل أن يعرض مشاكلهم وضعفاتهم... حقًا إن كلمة التشجيع تسند كل نفس خائرة!
أقول، في وسط ضعفاتك وسقطاتك، في محبة يناجيك الرب: "قد ذكرت لكِ غيرة صباكِ، محبة خطبتكِ"... إنه لا ينسى عمل المحبة ولو مرت عليه سنوات طويلة!
2. مركزها لديه:
"إسرائيل قدس للرب، أوائل غلته، كل آكليه يأثمون، شر يأتي عليهم يقول الرب" [3].
إن كان الله في هذا السفر يتحدث مع إسرائيل بصراحة كاملة، ويدخل معه في عتابٍ شديدٍ، ويعلن تأديبه له بحزم، ليس انتقامًا منه ولا لفضحه، وإنما لأنه "قدس للرب، أوائل غلته". ماذا يعني هذا؟
كان رئيس الكهنة يدخل إلى قدس الأقداس مرة واحدة في السنة، بعد تقديم ذبائح عن خطاياه وخطايا الشعب، ثم يضع صفيحة ذهبية على جبهته مكتوب عليها: "قُدس للرب" (خر 28: 36-38)، هي في الواقع خاصة بالسيد المسيح وحده، البكر وموضوع رضى الآب، يدخل إليه نيابة عن البشرية كلها، أو بمعني آخر حاملاً فيه البشرية كجسده المقدس، فتكون مقدَّسة فيه ومقبولة لدى أبيه. ما كان يصنعه رئيس الكهنة قديمًا إنما يمثل مسيح الرب الذي يقول "لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق" (يو 17: 19).
إن كان إسرائيل هو "قدس للرب" إنما يحسبهم أشبه برئيس كهنة بالنسبة لبقية الشعوب والأمم، لهم وحدهم حق التمتع بمقدساته. لذا يطالبهم بالتقديس لا كقانون يلتزمون به، ولا كفريضة يتثقلون تحتها وإنما كامتياز يليق بهم أن يتمسكوا به. بحسب الشريعة أيضًا يلزم تقديم البكور للرب، فأوائل الغلة تُعطى له فيتقدس الحصاد كله. هكذا كان الرب يرى هذا الشعب بكر الشعوب وأوائل غلته، هم من نصيب الرب لكي يتبارك العالم بسببهم... لهذا يعاتبهم في مرارة، إنه له!
لما كان "إسرائيل قدس للرب، أوائل غلته" فهو بهذا ملك له، بكور العالم المقدسة لله وحده، من يغتصبه يغتصب حق الله، ومن يأكله ينتهك مقدسات الله، لذا يقول: "كل آكليه يأثمون، شر يأتي عليهم". إن كان الله يسلمه للكلدانيين للتأديب، فإن الكلدانيين إذ يغتصبونه بعنف إنما يسيئون إلى حق الله نفسه ونصيبه!
حقًا يا للعجب، فيما يسمح الله لنا بالتأديب أو الضيق للتزكية يرانا قدسه وأوائل غلته، من يمد يده علينا إنما يأثم في حق الله نفسه، وينتهك مقدساته! لهذا يؤكد الرب نفسه: "فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت 10: 19).
ولعل الله أراد أن يعاتبهم بلطف، إذ كانوا تارة يرتمون في أحضان فرعون للتحالف ضد الكلدانيين أو العكس، فيقول لهم: أنتم لستم ملك أنفسكم، أنتم ملك لي، أنتم مقدساتي وبكوري، لماذا تسلمون أنفسكم لآخر غيري؟! إنكم تتعدون على حقي بالاتكال على آخر غيري وتسليم ذواتكم ثمرًا مجانيًا للشعوب الوثنية!
على أي الأحوال، كان الله يُذكر شعبه بمركزهم لديه من حين إلى آخر، حتى لا يشك في رعايته الأبوية، ومحبته وسهره عليه، من ذلك قوله: "أعبدٌ إسرائيل أو مولود البيت هو؟!" [14]. إنه ليس عبدًا بل الابن البكر (خر 4: 22)، يريد له الله الحرية الحقيقية والانعتاق من أسر الخطية، لكنه يظن في التزامات البنوة نيرًا فأراد التحرر من بنوته لله، إذ يعاتبه قائلاً: "لأنه منذ القديم كسرت نيرك وقطعت قيودك وقلت لا أتعبد" [20].
أساء الشعب فهم مركزه كابن لله، أما الله فيبقى أمينًا نحو ابنه. يريدك ابنًا مباركًا ناضجًا تحمل سمات أبيك، لذا لا يكف عن أن يقوّمك ويصلح كل اعوجاج فيك. لو لم تكن ابنا لما أدبك، لكنه من أجل البنوة يدخل بك إلى ألم التأديب لتتأهل لنوال الميراث.
مرة أخرى يذكر الله شعبه أنه كرمته التي غرسها الرب بنفسه [21]، كما يكرر الدعوة "شعبي" [11، 13، 32، 33]، ويسميه "العذراء المزينة والعروس التي لا تنسى مناطقها" [32]... هكذا بكل الطرق يكشف لها عن مركزها لديه حتى تثق فيه وتقبل توجيهاته وتأديباته.
3. عدم إهماله لها:
لكي يكشف الله لشعبه عن ضعفاته، لم يكتفِ بإبراز فضائله لتشجيعه وإعلان مركزه لديه بكل الطرق، تارة كقدس للرب، وأخرى أول غلته، وثالثة ابنه، ورابعة شعبه، وخامسة كعروس له الخ. فإنه يُذكر شعبه أيضًا بأعماله الإلهية معه خلال التاريخ الطويل، كيف كان يهتم به ويرعاه بلا إهمال، قائلاً:
"ماذا وجد فيّ آباؤكم من جور حتى ابتعدوا عني؟!
وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً،
ولم يقولوا أين هو الرب الذي أصعدنا من أرض مصر،
الذي سار بنا في البرية، في أرض قفرٍ وُحفرٍ، في أرض يبوسة وظل الموت، في أرض لم يعبرها رجل ولم يسكنها إنسان،
وأتيت بكم إلى أرض بساتين لتأكلوا ثمرها وخيرها" [5-7].
في عتاب قدم ملخصًا سريعًا وواضحًا عن رعايته لشعبه، إذ أخرجهم من أرض الجور والعبودية، ورافقهم كل الطريق في البرية، لم يكن بها إلا ظل الموت، لم يسبق أن عبر هذا الطريق إنسان قط... وأتى بهم إلى أرض الموعد، البساتين المملؤة ثمرًا وخيرات.
إن كان هذا بالنسبة لأعماله في العهد القديم فماذا نقول نحن الذين تمتعنا بخلاص هذا مقداره؟!
إنه لم يخرج بنا من أرض العبودية بل من ملكوت إبليس المستبد، واهبًا إيانا سلطانًا أن نجحد الشيطان وكل أعماله، وندوس كل طاقاته تحت أقدامنا.
لم يسر بنا في برية قفر، وإنما صار مرافقًا لنا كل أيام غربتنا حيث المعركة التي لا تنتهي مع الخطية والإثم، معطيًا إيانا قوة لنفلت من الفخاخ التي نصبها لنا عدو الخير طوال الطريق.
سار بنا في أرض قفر مملؤة حسكًا وشوكًا، حاملاً الشوك على جبينه حتى لا يجرح أقدامنا.
دخل إلى طريق لم يعبرها إنسان، إذ اجتاز عنا ومعنا المعصرة قائلاً: "قد دُست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3)، "وتتركوني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي" (يو 16: 32).
سار بنا إلى أرض بساتين لنأكل ثمرها وخيرها، ما هذه البساتين إلا السيد المسيح نفسه الذي نزل إلى أرضنا، وفُتح جنبه لندخل إلى أحشائه ونرتوي بمحبته، قائلين: "تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي... حلقه حلاوة وكله مشتهيات" (نش 2: 3؛ 5: 16). هكذا انطلق بنا من أرض ظل الموت إلى جسده واهب الحياة لنحيا به ومعه إلى الأبد.
لعلّ أخطر ما في هذه العبارة قوله "وساروا وراء الباطل (hebel) وصاروا باطلاً [5]. يحمل هذا العتاب معنيين:
الأول: أن من يسير وراء اللهاالحق، ويتحد به، يتمتع بشركة الطبيعة الإلهية، ويحمل الحق؛ أما من يسير وراء الفساد الباطل، ويتحد به، تتحول حياة الإنسان إلى الفساد، ويصير "باطلاً". وكأن من يتحد بالله يصير كأنه إلهي، ومن يتحد بالخطية يحمل طبيعتها الفاسدة.
الثاني: أن كلمة باطل في العبرية habel تقترب جدًا من كلمة "بعل" Baal، وهو إله الكنعانيين الخاص بالخصوبة. يتعبدون له لينعموا بالثمر المتزايد فإذا بهم يجدون حياتهم عقيمة، بل وباطلة. فالخطية في حقيقتها لا تقدم شيئًا إلا السراب الذي يدفع بالمسافرين إلى الموت ظمًا!
لعله لهذا السبب قدم لنا السيد المسيح جسده ودمه المبذولين طعامًا روحيًا لكي نحمله فينا، فنحمل الحياة الجديدة المُقامة، الحياة السماوية المثمرة، عوض الفساد الذي حلّ في داخلنا! صار مسيحنا مأكلاً حق، لكي نصير نحن "حقًا"، عوض أن نأكل الباطل فنصير باطلاً!
إن كان الله في محبته لم يهمل شعبه بل اهتم برعايتهم، للأسف أهمل الكهنة والخدام كرم الرب، فلم يتذوقوا محبة الله ولا استطاعوا أن يقدموها لشعبه، بل انحرفوا إلى عبادة البعل، وسحبوا قلوب الشعب معهم. "الكهنة لم يقولوا أين هو الرب، وأهل الشريعة لم يعرفوني، والرعاة عصوا عليّ، والأنبياء تنباؤا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع" [8].
تحدث هنا على عن ثلاث فئات على الأقل:
أ. الكهنة: كان اليهود يظنون أن عملهم الرئيسي هو تقديم الذبائح، ولم يدركوا أن رسالتهم الأولى هي المصالحة مع الله مخلص البشر. كانوا يمارسون طقوس الذبائح بكل دقة، لكنهم لم يرفعوا قلوبهم ولا قلوب الشعب نحو الله مخلصهم، لهذا يعاتبهم: "الكهنة لم يقولوا أين هو الرب". كان عليهم أيضًا أن يسلموا الشريعة جيلاً بعد جيل، وأن يكشفوا عن معرفة الله وإرادته وخطته! لكنهم لم يستطيعوا لأنهم هم أنفسهم لم يعرفوا الرب في حياتهم وأعمالهم!
ب. الرعاة: أو الحكام أو الملوك: يُنظر إليهم كممثلي الرب، يهتمون بكل الشعب، خاصة الفقراء والمحتاجين كما جاء في المزمور 72، فيتمموا مشورته، لكنهم عصوه لأنهم أنانيون.
ج. الأنبياء الكذبة: لم يشهدوا للرب بل تنبأوا لحساب البعل.
هكذا تجاهل الكهنة الرب الذي كان يجب أن يعلنوا عنه وأن يشفعوا لديه، وانطمست أعين أهل الشريعة عن المعرفة، وتحول الرعاة إلى العصيان عوض قيادة الشعب إلى الطاعة، وتنبأ الأنبياء ببعل عوض توبيخ الشعب على انحرافهم! لقد انحرفت كل القيادات الروحية عن عملها وأخذت الاتجاه المضاد لرسالتها. هكذا تدخل الخطية إلى حياة الإنسان فتفقده توازن كل قيادات نفسه الداخلية.
فالكهنة هنا يشيرون إلى طاقات الحب التي تسحب الإنسان إلى الله ليطلبه بكل القلب، لكن الشر يفسد الحب فيجعله شهوات شريرة، فيطلب القلب الأرضيات عوض السمويات، ومحبة الجسد عوض محبة الله.
ويشير أهل الشريعة إلى العقل الذي يلزم أن يستنير بالروح القدس ليتعرف على أسرار الله، لكن الشر يفسد العقل فيتحول من نور المعرفة إلى ظلمة الجهل ليصير أعمى يقود أعمى ويسقط كلاهما في حفرة (مت 15: 14).
ويشير الرعاة إلى الحواس التي ترعى الإنسان في مراعي الله الخلاصية، فيتلمس الحياة الجديدة ويتذوقها ويشتم رائحتها، لكنها إذ تنحرف تصير الحواس ثقلاً على النفس، تسحبها إلى الأرض والجسد!
أما الأنبياء فيشيرون إلى الرؤية الداخلية حيث يليق بالقلب في نقاوة أن يعاين الله ويلتمس الأبديات. إذ يفقد القلب نقاوته يُصاب بالعمى، ويصير الله بالنسبة له خيالاً أو مجرد فكرة. هكذا إذ يرفض الإنسان رعاية الله يسلم كل طاقاته الداخلية ومراكز القوى، فلا تطلب ما ينفع بل ما هو مفسد لها!
4. عدم تمثّلها حتى بالأمم:
الآن إذ رفضته كعريس لها انطلق بها من بيت الزوجية الذي دنسته إلى دار القضاء، قائلاً: "لذلك أخاصمكم (riv) بعد يقول الرب" [9].
الأصحاح كله اشبه بمذكرة دعوة مقامة بسبب خيانة زوجية.
"فاعبروا جزائر كتيم، وأنظروا وارسلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًا وأنظروا هل صار مثل هذا؟!
هل بدلت أمة آلهة وهي ليست آلهة؟!
أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع" [10-11].
جزائر كتيم هي جزيرة كريت، وقيدار في الصحراء الغربية، وكأن الله يطلب من شعبه أن يجول غربًا حتى كريت أو شرقًا حتى قيدار ليرى بنفسه كيف تتمسك الأمم الوثنية بآلهتها التي هي بحق ليست آلهة، بينما يتجاهل شعبه علاقته بالله الحقيقي، فيبدل مجده بالأمور الباطلة التي لا تنفع، إذ يتعلق بالعبادات الوثنية. هكذا يخزي أبناء الملكوت حين ينظرون غيرهم يجاهدون فيما لهم مع أنهم لا ينعمون بما يتمتعون هم به من وعودٍ وعطايا ونعمٍ إلهية فائقة!
إنه يُعاتب شعبه ويوبخهم، لكنه كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حتى في توبيخه يتنازل[66]]، فمن أجل بنيان شعبه يقارن نفسه بالآلهة الوثنية ليكشف أن شعبه لا يقدم تكريمًا له كتكريم الأمم للوثن.
5. سّر ضعفها:
بعد هذا العتاب اللطيف الذي فيه أعلن أنه لم يهمل في حقهم ولا في حق أبائهم، بل دائمًا يرعاهم، أما هم فأبدلوه بآلهة غريبة، كشف لهم سرّ ضعفهم من جوانب كثيرة:
أولاً: تركها ينبوع الحياة واتكالها على ذاتها: يُشهد الرب السموات على شعبه الذي استبدل مجده بأمور باطلة، لرفضهم الله ينبوع المياه الحية ونقرهم الآبار التي هي من عمل أيديهم الذاتية:
"ابهتي أيتها السمويات من هذا واقشعري وتحيري جدًا، يقول الرب،
لأن شعبي عمل شرين:
تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماءً" [13].
من الصعب أن نتصور إنسانًا ما يُفضل مياه الأحواض على مياه الينابيع، لكنه لأجل راحة جسده يلتزم بالشرب من مياه الأحواض التي حفرها لنفسه في فناء منزله عن أن يقطع مسافات طويلة ليشرب من الينبوع. هذا يحمل رمزًا للإنسان الذي يختار الطريق الواسع السهل عن طريق الصليب الضيق. من جانب آخر يوضح النبي أن الذي يطلب مياه الأحواض التي حفرها بنفسه عوض مياه الينبوع الطبيعي غالبًا ما يخرج فارغ اليدين، لأنه سرعان ما تتشقق الأحواض وتتسرب المياه من الصخور.
يُعاتب الله شعبه، قائلاً: لقد رفضتموني ورفضتم عملي في أرواحكم وأجسادكم لتعملوا هواكم وإرادتكم الذاتية، فصرتم طبيعيين وجسدانيين لا روحيين. فنحن نعلم أن الرسول بولس قسم البشرية إلى ثلاثة أصناف: روحيين وطبيعيين وجسدانيين.
الإنسان الروحي هو الذي يقبل روح الله فيه ينبوع المياه الحية، عاملاً في روحه وجسده معًا، مقدسًا إياه بالكامل.
أما الإنسان الطبيعي فهو الذي يرفض الينبوع الحيّ لينقر لنفسه آبارًا ذاتية هي من صنع إرادته، فيسلك حسب كبرياء قلبه حتى في الأمور الروحية.
والإنسان الجسداني، إذ يرفض عمل الروح فيه يستسلم لشهوات الجسد....
لعل الله كرر كلمة "آبار" مرتين، لأنهم حفروا آبارًا حسب إرادتهم الذاتية لأرواحهم، وحفروا آبارًا أيضًا حسب شهوات جسدهم، فسقطوا في الكبرياء والشهوات معًا.
ويرى آباء الكنيسة أن الإنسان يشرب من ينبوع المياه الحية الذي وهبه السيد المسيح لكنيسته المقدسة، فمن يخرج عنها ويقبل المعمودية من غيرها أو التعاليم الغريبة عنها إنما يشرب من الآبار الغريبة التي لا تضبط ماءً! يقول القديس ايريناؤس: [الذين لا ينعمون بالشركة معه لا يتمتعون بالحياة من ثديي الأم، ولا ينعمون بالينبوع النقي الذي يصدر عن جسد المسيح، وإنما ينقرون لأنفسهم آبارًا مشققة من خنادق أرضية، فيشربون ماءً ملوثًا بالوحل، هاربين من إيمان الكنيسة لئلا يدانوا، ويحتقرون الروح لئلا يتعلموا[67]]. ويقول القديس كبريانوس: [بالرغم من أنه لا توجد معمودية أخرى، إذ هي معمودية واحدة، لكنهم يظنون أنهم قادرون على التعميد. لقد هجروا ينبوع الحياة ومع ذلك يعدون بتقديم نعمة المياه الحيّة المخلّصة. فالناس عندهم لا يغتسلون (من الخطية) إنما يتجمعون معًا. مثل هذا المولد (المعمودية) لا ينجب أولادًا لله بل للشيطان، فإن ولادتهم باطلة وقبولهم للمواعيد ليس حقًا[68]]. وأيضًا: [مرة أخرى يحذر الكتاب المقدس قائلاً: تحفظ من المياه الغريبة ولا تشرب من ينبوع ماء غريب (أم 9: 19 الترجمة السبعينية)... كيف يقدر من هو خارج الكنيسة وغير قادرٍ على نزع خطاياه الخاصة أن يعمد غيره ويهبه غفران خطاياه؟![69]].
هكذا قدم الله لكنيسته ذاته ينبوع المياه الحية، خارجها لا ينعم الإنسان إلا بالآبار المشققة التي لا تضبط ماء.
ربنا يسوع المسيح هو الينبوع الحيّ يفيض على الكنيسة فيفجر في أولادها ينابيع حية، ويصيرون هم أيضًا أنفسهم أنهارًا، لذا يقول المرتل: "الأنهار لتصفق بالأيادي" (مز 98: 9)، ويعلق القديس جيروم، قائلاً: [تشرب الأنهار من الينبوع يسوع... هذه هي الأنهار التي تفيض خلال ينبوع المسيح. إنه الينبوع ونحن الأنهار، إن كنا بالحقيقة نستحق أن ندعى أنهارًا. المسيح هو الينبوع والقديسون هم أنهار، والأقل تقديسًا يدعون نهيرات، والبعض مجرد سيول هذه التي تجف مياههم عند التجرية[70]].
ويرى القديس أمبروسيوس أن اليهود رفضوا السيد المسيح الينبوع الحيّ فصاروا كالجزة التي وضعها جدعون حيث كانت وحدها جافة بينما كان على الأرض طلّ (قض 6: 39)، حيث سقط اليهود في جحد الإيمان بالسيد بينما قبلت الأمم الإيمان به[71].
ومن ناحية أخرى يرى القديس أمبروسيوس أن الله النار الآكلة (تث 4: 24) هو بعينه ينبوع المياه الحية: "ربنا يسوع المسيح كالنار يلهب قلوب السامعين له، وهو ينبوع المياه الذي يهب برودة. جاء يلقى نارًا على الأرض (لو 12: 49) ويهب مياه حية للعطاش (يو 7: 37-38)[72]".
v جاء في سفر إرميا شهادة للآب كينبوع: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشققة لا تضبط ماء" (2: 13). وفي موضع آخر نقرأ انهم قد تركوا الابن ينبوع الحكمة، وأيضًا عن الروح القدس: "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا... يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14).
v الله بالحق هو الينبوع؛ ليت ذاك الذي يتوق إلى هذا الينبوع يسكب نفسه تحته، فلا يترك شيئًا فيه في ملكية الجسد، بل تفيض نفسه (بالحب) في كل موضع.القديس جيروم[73]
v كثيرون عطشى: الأبرار والخطاة أيضًا. الأولون عطشى إلى الحق، والآخرون إلى الملذات. يعطش الأبرار إلى الله، والخطاة إلى الذهب.القديس أمبروسيوس[74]
v إلى هذا النبع جاءت رفقه بجرتها لتملأها ماءً، إذ يقول الكتاب المقدس: "فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت" (تك 24: 16). وهكذا أيضًا نزلت الكنيسة أو النفس إلى نبع الحكمة لتملاْ جرتها وترفع تعاليم الحكمة النقية التي لم يرغب اليهود أن يرفعوها من الينبوع الفائض. اصغوا إليه إذ يقول الينبوع نفسه: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية" (13: 2).قيصريوس أسقف آرل[75]
تعطش نفوس الأنبياء إلى هذا الينبوع، فيقول داود: "عطشت نفسي إلى الله الحيّ" (مز 42: 2-3)، لكي يروى ظمأه بغنى معرفة الله ويغسل دم الحماقة بمياه المجارى الروحية.
القديس أمبروسيوس[76]
v لا يأخذ المؤمن قطرة من علم الشيطان، الفلك والسحر وغير ذلك من العلوم المقاومة للتقوى في الله. إنما له ينابيعه، يشرب من ينابيع إسرائيل، ينابيع الخلاص، لا من بئر سيحون. إنه لا يترك ينبوع الحياة ليكنز في الآبار المشققة (2: 13). إنه يعلن أنه يسير في الطريق الملوكي، طريق ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). إنه طريق ملوكي إذ قال عنه النبي "اللهم إعطِ أحكامك للملك" (مز 72: 1). يليق بنا أن نتبع طريق الملك دون أن نميل من أي ناحية، لا إلى حقل ولا إلى الأعمال والأفكار الشيطانية.
العلامة أوريجينوس[77]
في أيام إرميا ترك الشعب الله ينبوع المياه الحية ونقروا لأنفسهم أبارًا لا تضبط ماءً. فقد تظاهر فرعون مصر بالصداقة، وأعلن رغبته في حمايتهم من أشور، لكنه في الحقيقة كان يريد أن يقتنصهم لنفسه ويبتلعهم، وذلك كسيده إبليس الذي يقدم طرقًا تبدو كأنها للخلاص وهي مهلكة وخبيثة. لهذا يقول "زمجرت عليه الأشبال، أطلقت صوتها، وجعلت أرضه خربه، أحرقت مدنه فلا ساكن، وبنو نوف وتحفنيس قد شجوا هامتك" [14-15]. فبنو نوف (ممفيس) وتحفنيس هما مدينتان مصريتان يمثلان مملكة فرعون كلها، هذه التي اتكلت عليها لانقاذهم من أشور، فزمجرت عليهم كالأشبال وحولت أرضهم خرابًا وأفقدت مدنهم سكانها!
ولعل تكراره لكلمة "آبار" مرتين يشير أيضًا إلى تأرجح الشعب في ذلك الحين بين اعتمادهم على ملك بابل ضد فرعون مصر، أو العكس، فيرغبون في الحماية البشرية، يطلبون أن يرتووا من مياه الفرات أو نيل مصر عوض مياه الله الحية. يقول: "أما صنعت هذا بنفسك إذ تركت الرب إلهك حينما كان مسيرك في الطريق. والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه شيحور، ومالك وطريق أشور لشرب مياه النهر" [17-18].
يقصد بمياه شيحور مياه النيل، إذ جاء في إشعياء: "وغلتها زرع شيحور حصاد النيل على مياه كثيرة فصارت متجرة الأمم" (إش 23: 3). يرى القديس جيروم[78] أن كلمة "شيحور" تعني "النهر الوحل المملوء طميًا"، وربما دعى نهر النيل هكذا بسبب ما يحمله من طمى في فترة الفيضان.
إن كانت مصر تشير إلى محبة العالم بسبب خيراتها الكثيرة، وبابل تشير إلى الكبرياء بسبب ما وصلت إليه من كرامة زمنية وسطوة، فإن المؤمن كثيرًا ما ينسحب قلبه من الاتكال على عمل الله ليشبع شهوات جسده ويحقق محبته للأرضيات، أو بسبب روح الكبرياء التي يثور فيه، وفي كليهما يحرم نفسه من الارتواء بالحق.
في الرسالة الفصحية لعيد القيامة عام 335م تطلع البابا أثناسيوس إلى فريقين يحتفلان بالعيد، فريق كالشعب القديم أراد أن ترتوى نفسه من مياه النيل في مصر أو من مياه الفرات في أشور عوض أن ترتوى من ينابيع الله الحية فصاروا في ظمأ أعظم، بينما رأى فريق آخر في المسيح المصلوب القائم من الأموات كل شبعه، فقال: [أنتم تعلمون أن للخطية خبزها الخاص أيضًا - خبز موتها - لهذا فهي تدعو محبي اللذة الذين بلا إفراز، قائلة: "المياه المسروقة حلوة، وخبز الخفية لذيذ" (أم 9: 17). من يلمسهما لا يدرك أن الذين يرتبطون بالأمور الأرضية يهلكون مع الخطية.
لكن يا للأسف! حتى حينما يتطلع الإنسان إلى الشبع لا يجد ثمر خطاياه مبهجًا، وكما تقول حكمة الله في موضع آخر: "خبز الكذب لذيذ للإنسان، ومن بعد يمتلئ فمه حصى" (أم 20: 17). و"لأن شفتي المرأة الأجنبية (الزانية) تقطران عسلاً، وإلى حين لذيذة، لكن عاقبتها مرة أكثر من الأفسنتين، وحادة أكثر من سيف ذى حدين" (راجع أم 5: 3-4). فيأكل ويُسر إلى حين، لكن بعد ذلك إذ يُقطع من الله يهلك. لهذا السبب يحاول النبي أن يحفظ الخطاة من الابتعاد عن الله، محذرًا: "والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه النيل؟ ومالك وطريق أشور لشرب مياه الفرات؟" [18][79]].
ثانيًا: ارتباطها بالآلهة الباطلة جعلها باطلة: ليس فقط رفضت الله ينبوع المياه الحية لتطلب ما لذاتها، الآبار التي من عمل يديها، أو لتلتجىء حسب فكرها البشري للحماية بملك بابل أو فرعون مصر، وإنما سّر ضعفها أنها استعاضت عن الله الحيّ بالآلهة الوثنية الباطلة، فعوض اتحادها بالحيّ لتكون هي حية ارتبطت بالباطل فتصير باطلة، إذ يقول: "ساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً" [5]... وفي عتاب يقول: "أين آلهتكِ التي صنعتِ لنفسكِ، فليقوموا إن كانوا يخلصونكِ في وقت بليتكِ" [28]... هذا هو سر ضعفها: رفضت الله لتقبل من هم ليسوا آلهة آلهة لها...
يقول الرب لها عن تركها له: "يوبخكِ شركِ، وعصيانكِ يؤدبك، فاعلمي وأنظري أن تركك الرب إلهك شر ومرّ وأن خشيتي ليست فيك" [19].
لو دققنا في العبارة لرأينا الله يكشف لنا عن حقيقة كثيرًا ما تغيب عن ذهننا، أن الذي يوبخ الإنسان شره، والذي يؤدبه عصيانه... حقًا يقوم الله بالتوبيخ وفي محبته يؤدب بحزمٍ، ربما يبدو قاسيًا للغاية، لكننا لا نلوم الله بل أنفسنا فإن ما يحل بنا من توبيخ أو تأديب هو ثمرة طبيعية للشر والعصيان. ما يسمح به الرب لنا هو أن نجني القليل جدًا من ثمر ما أرتكبته أيدينا، وما صنعناه بكامل حريتنا، لينزع عنا الشر ولنرجع عن العصيان فيتوقف التوبيخ ولا يكون للتأديب موضع.
هكذا يجني الإنسان ثمر عمله، وكما يقول الأب ثيوناس: "الذي يوقد شرًا يهلك به[80]"، فإن "كل إنسان بحبال خطيته يُمسك" (أم 5: 22)، وكما يقول الرب: "يا هؤلاء جميعكم القادحين نارًا، المتنطقين بشرارٍ، اسلكوا بنور ناركم وبالشرار الذي أوقدتموه" (إش 50: 11). أما عمل هذه النار التي يقدحها الأشرار فهو حرمانهم من الله، إذ ُتسحب قلوبهم من الله وتنزع خشية الرب عنها، فتصير حياتهم مملوءة مرارة. هكذا يقول: "فأعلمي وانظري أن تركك الرب إلهك شر ومّر وأن خشيتي ليست فيك يقول السيد رب الجنود" [19].
استخدم داود النبي تعبير "رب الجنود" عندما حاور جليات الجبار (1 صم 17: 45) ليؤكد أن الله هو قائد المعركة، المدافع عن شعبه. وجاء في المزمور: "رب الجنود معنا... إله يعقوب ملجأنا" (مز 46: 7، 11). استخدم إرميا النبي أيضًا هذا التعبير ليعلن أنه قائد المعركة لحماية شعبه، لكن إن رفضه شعبه صار الله لتحطيمهم!
كشف لها عن ضعفها بثلاث تشبيهات أخذها من الحيوانات والبشر والنباتات:
أ. وصفها كحيوانٍ جامحٍ لا يريد العودة إلى صاحبه [20].
ب. كزانية تمارس الفساد علانية بلا خجل، على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء، أي في المواضع التي تتعبد فيها للبعل. وكأن عبادتها قد امتزجت بالرجاسات.
ج. ككرمة منتقاة، لكنها قدمت عنبًا لا نفع منه (ع 20، إش 5). يُشار إلى شعب الله في الكتاب المقدس بأربعة أنواع من الشجر: الكرمة والزيتونة والتينة والعوسج. وقد سبق لنا الحديث عن الكرمة والتينة أثناء دراستنا لسفر هوشع. إن كانت الكرمة كما الخمر (عصير العنب) يشيران في الكتاب المقدس إلى الفرح الروحي، فإن عدم الاثمار أو إنتاج عنب ردىء يعني فقدان الكنيسة (أو الشعب) روح الفرح بالرب ، واتسامها بالغم والتذمر الدائم. جاء مسيحنا ككرمة ليجعل منا أغصانًا (يو 15) تشهد لفرحه السماوي، وسلامه الإلهي الفائق.
لقد رفضت عروسه الارتباط به وأحلت البعل عوضًا عنه: "لأنه منذ القديم كسرت نيرك وقطعت قيودك وقلت لا أتعبد، لأنك على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء أنت اضطجعت زانية" [20]. لقد قبلت البعل عريسًا لها عوض رجلها فصارت زانية.
لماذا قيل إن إسرائيل قد اضَّجَعت كزانية على كل مرتفعٍ (أكمة عالية) وتحت كل شجرةٍ مظلَّلة (خضراء) (2: 20؛ 3: 6)؟
يقول العلامة أوريجينوس: [لأنهم يتكلمون بتشامخٍ في علوّ، ويستخدمون البلاغة المزهرة. على كل الأحوال إنهم لا يعملون حسبما ينطقون[81]].
وإذ أراد تأكيد مسئوليتها عما تفعله، يقول لها: "وأنا قد غرستكِ كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولتٍ لي سروغ جفنة غريبة؟!" [21]. وكأنه يقول لها: لقد خلقتك كلكِ حق بلا بطلان ولا فساد، زرعتك كرمة مختارة من بذار طيبة، فلماذا تحولتِ إلى كرمة غريبة دنيئة؟! يعلق العلامة أوريجينوس على ذلك بقوله إن الله صنع لنا كل ما كان ممكنًا أن يكون ممتعًا، لكننا نحن الذين أوجدنا الشر والخطايا لأنفسنا. لهذا يبدو النبي وكأنه يسأل من ملأت المرارة نفوسهم عوض الرقة أو الوداعة التي أودعها الله فينا، قائلاً: كيف تحولتِ لي سروغ جفنة غريبة؟
["إذ ليس الموت من صنع الله، ولا هلاك الأحياء يُسرّه. لأنه إنما خلق الجميع للبقاء. فمواليد العالم إنما ُكونت معافاة وليس فيهم سم مهلك ولا ولاية للجحيم على الأرض" (حك 1: 13-14). إذا خرجت قليلاً عن الموضوع أقول: مِن أين إذًا جاء الموت؟ "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 24).
لقد صنع الله كل ما يمكن أن يكون جميلاً لنا، ونحن خلقنا لأنفسنا الشر والخطايا.
يثير النبي تساؤلاً أمام هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم بالمرارة المخالفة للعذوبة التي وضعها الله فيهم، فيقول: "فكيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة"؟
يقول: إن الله لم يصنع العَرَج، لكنه على العكس أعطى الجميع أرجلاً نشطة خفيفة الحركة، ثم حدثت علة جعلتهم يعرجون!
خلق الله من البدء جميع الأعضاء سليمة، ثم حدثت علة جعلت بعض هذه الأعضاء تتألم.
هكذا أيضًا ُصنِعَت النفس على صورة الله، ليس فقط بالنسبة للإنسان الأول وإنما بالنسبة لكل إنسان، لأن الكلمات: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26) تمتد إلى كل البشر. وما ُيقال عن آدم ُيقال أيضًا عن جميع البشر. كان آدم يحمل في البداية "صورة الله"، ثم أضاف عليها بخطاياه "صورة الترابي" (1 كو 15: 49) هكذا حدث معكل البشر، فقد كانت صورة الله سابقة لصورة البشر.
"لقد لبسنا" ونحن خطاة "صورة الترابي". لنلبس إذًا بتوبتنا "صورة السماوي"، عالمين رغم كل شيء أن الخليقة قد صنعت على صورة السماوي.
تضع كلمات الكتاب المقدس هذا التساؤل أمام الخطاة؛ فيقول لهم الله بنغمة العتاب: "فكيف تحولتِ لي سروغ جفنة غريبة؟" فأنا "قد غرستكِ زرع حق كلها".
سبق لنا القول أن الله غرس نفس الإنسان مثل "كرمة جميلة"، لكن بتغيره وانحرافه، تحول إلى عكس ما أراد الخالق.
"وأنا قد غرستكِ كرمة سورق زرع حق كلها"، وليس "زرع حق بعضها"، ليست زرع حق هنا وزرع ردئ هناك، ولكنها "زرع حق كلها" فكيف تحولتِ إلى مرارة على الرغم من إنني خلقتكِ كُلكِ بجملتك حق؟ كيف أصبحت كرمة غريبة؟[82]]
خلقها الله كرمة مقدسة له، لكنها اختارت لنفسها أن ترفضه، فصارت "سروغ جفنة غريبة"، لذا لا يدعوها "كرمتي" بل مجرد "كرمة"، هي رفضت انتسابه إليها كإله، وهو يرفض انتسابها إليه حتى تعود إليه مقدسة فيه. يقول القديس أغسطينوس: [إنه لم يقل كرمتي، فلو كانت كرمته لكانت صالحة، أما كونها رديئة فهي ليست له لذا فهي غريبة[83]].
في العهد القديم "غرسه كرم سورق (كرمًا مختارًا)" (إش 5: 2)، أي غرس كرمًا من أفضل أنواع الكروم، كشعبٍ مختارٍ نال عهدًا مع الله، لكي يحمل "الحق" فيه، كقول الرب: "وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولت إلى سروغ جفنة غريبة؟!" [12].
أما بالنسبة لكنيسة العهد الجديد فقد جاء "الحق" نفسه، كلمة الله المتجسد ليقدم نفسه كرمة يحملنا فيه أغصانًا حية تأتي بثمر كثير (يو 15: 5).
v عندما يقول: "أنا هو الكرمة الحقيقية" (يو 15: 1) يميز نفسه دون شك عن تلك التي وجه إليها الكلمات: كيف تحولتِ لي سروغ جفنة؟" [21]، إذ كيف يمكن لكرمة حقيقية يُنتظر أن تصنع عنبًا فصنعت شوكًا؟!
v انتظرت أن تصنع ثمرًا فوجدت خطية.
القديس أغسطينوس[84]
v اشتقت أن تعطى (الكرمة) خمرًا فأخرجت شوكًا. ها أنتم ترون الإكليل الذي أتزين به!
القديس كيرلس الأورشليمى[85]
لم يقف الأمر عند إفساد نفسها بنفسها باعتزالها إلهها وعدم انتسابه إليها وانتسابها إليه، إنما حتى عندما أرادت إصلاح نفسها اتكأت على ذراعها البشري عوض الرجوع إليه كمخلصٍ لها. كأنها حتى في ندامتها يزداد انشقاقها عن الله الحقيقي لأنها عوض الاعتراف بخطاياها حاولت تبرير نفسها. لذا يقول لها: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الأشنان فقد نُقش إثمكِ أمامي يقول السيد الرب" [22].
إذ تكون النفوس عنيدة للغاية يهدد الله بالعقوبة دون أن يفتح بابًا للرجاء، ليس لكي يسقطوا في اليأس، وإنما لكي لا يحوِّلوا هذا الرجاء إلى استهانة واستخفاف. فعندما أرسل يونان النبي إلى أهل نينوى بدا في الحديث كأن لا رجاء لهم في الخلاص من العقوبة، لكنهم إذ تابوا غفر لهم ودافع عنهم أمام نبيه.
v عندما يقول للمدينة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الإشنان فقد ُنقش إثمك أمامي" [22]، لم يقل هذا لكي ليلقى بهم في اليأس، وإنما ليثيرهم للتوبة[86].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ظنت أنها قادرة بذاتها أن ُتغسل بالنطرون أو بالإشنان (صابون أو منظف)... ولم تدرك أن هذا من عمل الخالق نفسه، هو وحده الذي يغسل النفس ويقدس الجسد! وكما يقول العلامة أوريجينوس:
[فلننظر بعد ذلك إلى العبارة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الإشنان فقد ُنقش إثمك أمامي يقول السيد الرب".
هل معني هذا أن النفس الخاطئة تظن أنه باغتسالها بالنطرون المادي تضع نهاية لإثمها وخطيتها؟!
هل يظن أحد أنه باغتساله بذلك العشب (الإشنان) الذي ينبت من الأرض يطهر نفسه، حتى تقول كلمة الله للكرمة المتحولة إلى المرارة والتي أصبحت غريبة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسك الإشنان فقد نقش إثمكِ أمامي يقول السيد الرب"؟
لا، ولكن يجب علينا أن نعرف أن كلمة الله ُكليّ القدرة، قادر على شفاء الكل "لأن كلمة الله حيّ وفعال وأمضى من كل سيف ذى حدين" (عب 4: 12).
توجد إذًا كلمة عبارة عن نطرون، وأخرى عبارة عن عشب، كلمة بمجرد نطقها تتطهر الخطايا التي من نوع معين. ولكن كما أن كلمات النطرون والعشب لا تصلح علاجًا لكل الخطايا، إذ توجد خطايا تتطلب علاجًا آخر خلاف العشب والنطرون، قيل للنفس التي ظنت أن خطاياها يمكن أن تُغسل بالنطرون والعشب: "فإنكِ وإن اغتسلتِ... يقول السيد الرب".
أنظروا إلى الجروح: توجد جروح تُعالج بالمراهم والدهون، وأخرى تُعالج بالزيت، وأخرى بعصابة وأربطة. هذه الأنواع من العلاج تكفي لشفائها، ولكن هناك جروح أخرى قيل عنها: "ليس فيه صحة بل جرح واحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت. بِلادكم خربة. مُدنكم مُحرقة بالنار" (إش 1: 6-7). نفس الشيء بالنسبة للخطايا: بعضها يؤدي إلى اتساخ النفس هذه تحتاج إلى كلمة نطرون أو كلمة عشب لتنظيفها، وبعضها لا يمكن علاجه بهذه الطريقة لأنها تُعاني أكثر بكثير من مجرد الاتساخ.
أنظر كيف أن الرب الذي يعرف أن يفرق بين الخطايا، يعلن في إشعياء قائلاً: "غسل السيد قذر بنات صهيون، ونقى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وبروح الإحراق" (إش 4: 4).
قذر ودم؛ القذر "بروح القضاء" والدم "بروح الإحراق".
فإذا ارتكبت خطية، حتى ولو لم تكن "خطية للموت" (يو 5: 16)، فقد اتَّسَخْتْ: وسوف "يغسل السيد قذر بنات صهيون وينقي دم أورشليم من وسطها". وما نحتاجه نحن حينما نخطىء خطية أخطر ليس هو النطرون أو العشب وإنما نحتاج إلى "روح الإحراق".
لعلّى الآن قد عرفت ما هو سبب أن السيد المسيح يُعمِّد "بالروح القدس والنار" (لو 3: 16). ليس أنه يعمد إنسانًا واحد بالروح القدس والنار، وإنما هو يعمد الإنسان البار بالروح القدس، أما الإنسان الآخر الذي بعدما يؤمن وبعدما يكون مستحقًا للروح القدس، يخطىء من جديد، فإن الرب يغسله بالنار.
طوبى لمن اعتمد بالروح القدس ولا يحتاج أن ُيعَمَّد بالنار، ومسكين جدًا من يكون محتاجًا أن يعمد بالنار. ومع ذلك فإن يسوع المسيح يستطيع أن يعمد في الحالتين. مكتوب: "يخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله" (إش 11: 1). القضيب للمُعَاقَبِين والغصن للصالحين. كذلك فإن الله "نار آكلة" (عب 12: 29)؛و"الله نور" (1 يو 1: 5) نار آكلة للخطاة، ونور للأبرار والقديسين[87]].
إذ حاولت تغطية خطاياها بتبريرها لذاتها فضحها أمام نفسها، قائلاً لها: "أنظري طريقك في الوادي" [23]. هنا يقصد وادى بني هنوم (2 مل 23: 10، إر 7: 31-32؛ 19: 5-6) الذي فيه كانوا يقدمون أطفالهم محرقات للأوثان. هذا يكشف كيف سيطرت عبادة الأوثان على قلوبهم وحياتهم، فلم يمارسوها لأجل منافعٍ زمنيةٍ وإنما بلغ بهم الأمر إلى حرق أطفالهم كذبائح آدمية وهم يرقصون ويتهللون أمام الأصنام.
عاد مرة أخرى يوبخها على تركها إياه وجريها وراء البعليم الغريب، مؤكدًا لها أنها باعته، وليتها باعته بثمن وإنما بلا ثمن، إذ لم تقتنِ من البعليم شيئًا سوى الانحدار من الجبال العالية المقدسة والنزول إلى الوادي [23]. يقول لها: "أنظري طريقك في الوادي" [23]؛ لقد تركتي الحياة السمائية العالية، إذ أنزلك البعليم إلى السفليات وانحدر بك إلى الأرضيات. ولعله بقوله هذا يذكرها بما تفعله في وادى هنوم حيث تقدم أطفالها الصغار ذبائح بشرية وضحايا للبعل (7: 31)، فتفقدهم بلا ثمن! في مرارة يقول لها: "اعرفي ما عملتِ يا ناقة خفيفة، ضبعة في طريقها، يا أتان الفرا قد تعودت البرية، في شهوة نفسها تستنشق الريح" [23-24]. لقد صارت كأنثى الجمل التي بلا قائد لها، تتحرك بخفة وبغير توقفٍ بلا هدف ولا نفع، تجري في كل اتجاه متخبطة؛ وكالضبعة التي تحفر القبور لتأكل الجثث، رائحتها كريهة، جبانة بطبعها! صارت كأنثى الحمار الوحشى التي تعودت الحياة في برية القفر، ولا تستريح وسط الخيرات والبركات، إنما تقضى كل وقتها تجري وراء الذكور من هنا ومن هناك، تفقدها رغبتها في الاشباع الجنسي اتزانها وراحتها. صارت تشتهي أن تستنشق الريح!
ماذا أخذت من تركها إلهها واهب الخيرات وانجذابها إلى البعليم، إلا فقدان إنسانيتها وأولادها وتعقلها وكل بركة لتعيش هكذا هائمة كمن في البرية!
صارت في خطر كمن يسلك في أرض وعرة حافيًا، وقد جف حلقه من الظمأ، ومع ذلك لا يريد أن يلبس نعلاً ولا أن يشرب ماءً! "احفظي رجلكِ من الحفا وحلقكِ من الظمأ، فقلتِ باطل: لا، لأني قد أحببت الغرباء ووراءهم أذهب!" [25].
يتوسل إليها أن ترجع ليحفظ قدميها من العثرة ويروي حلقها عوض الظمأ، لكنها في إصرارٍ ترفض قائلة: "لا"، لأنها تظن أن جريها وراء الغرباء مع التعرض للخطر والظمأ أفضل لها من التمتع بأحضان عريسها الإلهي ونوال بركاته المشبعة. لذا يبدأ بالتهديد بعد التوسل، قائلاً: "كخزي السارق إذا وُجد، هكذا خزي بيت إسرائيل، هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأنبياؤهم" [26]. يبقى السارق متهللاً بسرقته حتى ولو لم يستخدم المسروق، ويفتخر أنه استطاع أن يسرق ولم يدرِ به أحد، لكنه متى ٌقبض عليه صار في خزي ولا ينفع الندم، هكذا فعل إسرائيل على أعلى المستويات من ملوك ورؤساء وكهنة وأنبياء لكنهم سيقضون يومًا أمام الله كالسارق في دار القضاء، وليس من يشفع فيهم، ولا من يستر على خزيهم، لأنهم اختاروا العود (الأصنام الخشبية) أبًا لهم، والحجر (الأوثان الحجرية) أمًا [27]، ورفضوا الله أباهم! تركوا القادر أن يخلصهم في يوم القضاء والتصقوا بمن يهلكهم ويهلك معهم!
في مرارة يقول "حولوا نحوي القفا لا الوجه"، لقد رفضوا أبوتي واقتنوا لأنفسهم أبًا وأمًا هما من الخشب والحجارةّ، تركوني أنا الخالق محب البشر وارتموا في أحضان الخليقة الجامدة بعدما تدنست!
يرى العلامة أوريجينوس أن الأشرار يختفون عن وجه الرب إذ قيل: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" [27]، أما الأبرار فيقفون أمامه بثقة ليهبهم الحياة المقدسة (1 يو 3: 21)، قائلين مع اليشع النبي: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (2 مل 5: 16).
يليق بالحامل للعرش الإلهي وقد دخل إلى كمال المجد ألا يكون له ظهر (قفا)، بل يكون كله وجوهًا، وكله عيونًا دائم التطلع إلى الله بلا عائق. لذلك عندما أخطأ الشعب لله عاتبهم قائلاً: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" [27]. التعبير الذي استخدمة أكثر من مرة على لسان إرميا النبي (7: 24، 18: 17، 32: 33).
ثالثًا: التعريج بين الفريقين: قلنا أن سر ضعفهم هو تركهم ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبار مياه ذاتية من عندياتهم. هذا من جانب ومن جانب الآخر تركوا آباهم الحيّ ليقبلوا العشتاروت الخشبي وهي إلهة الخصوبة الأنثى أبًا لهم، أو من الإله الذكر الحجري أمًا لهم. إذ يقول: "قائلين للعدو أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" [27]. هنا نوع من السخرية، إذ يعلن لهم النبي أنهم فقدوا كل إدراك طبيعي وكل منطقٍ بشري، فجعلوا من الأنثى أبًا، ومن الذكر أمًا ولودًا لهم! إنهم لم يفقدوا فقط قدرتهم على التمييز بين الله الحقيقي والآلهة الباطلة، وإنما حتى التمييز بين الذكر والأنثى، والأب والأم!
وأخيرًا فإنهم حتى في وسط الضيق لا يرجعون إلى الرب بكل قلوبهم بل يعرجون بين الفريقين، يطلبون الله ليخلصهم أما قلبهم فملتصق بالبعل.
يقول "وفي وقت بليتهم يقولون قم وخلصنا، فأين آلهتك التي صنعتِ لنفسكِ؟! فليقوموا إن كانوا يخلصونكِ في وقت بليتكِ" [27-28].
انها ذات الكلمات التي سبق فوبخ بها آباءهم في عصر القضاة: "أنتم قد تركتموني وعبدتم آلهة أخرى، لذلك لا أعود أخلصكم، امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها، لتخلصكم هي في زمان ضيقكم" (قض 10: 13-14). يقول هذا عن حب، فإنهم إذ أدركوا خطأهم ورجعوا إليه يقول الكتاب: "ضاقت نفسه بسبب مشقة إسرائيل" (قض 10: 16)... إنه ينتظر رجوعنا ولا يحتمل دموعنا!
6. ثمار خطاياها:
إذ كشف لها عن جوانب من سّر ضعفها حدثها عن ثمار خطاياها، ألا وهي:
أولاً: صار الله بالنسبة لها كبرية أو أرض ظلام: يقول الرب: "هل صرتِ برية لإسرائيل أو أرض ظلامٍ دامسٍ؟! لماذا قال شعبي: قد شردنا لا نجيء إليك؟" [31]. كأن الله يعاتب شعبه قائلاً: لماذا تهربون مني، هل رأيتموني برية تهربون منها، أو أرض ظلام تخافونها؟!
يعلق العلامة أوريجينوس[88] على هذه العبارة موضحًا أن الله يهب نوعين من العطايا، عطايا عامة وأخرى خاصة؛ فيهب نور الشمس والهواء وكل الخيرات الأرضية لكل العالم. إنه ليس بالبرية القاحلة بل صانع الخيرات الذي "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45). إنه ليس بأرض ظلام دامس، وإنما "الله نور وليس فيه ظلمة البته" (1 يو 1: 5) فبالنسبة للعطايا العامة يظهر الله بكونه واهب الخيرات للجميع والمشرق بنوره على الكل. أما بالنسبة للعطايا الخاصة مثل عطية الاستنارة والبنوة الخ. فتُعطى للمؤمنين، أما غير المؤمنين يُحرمون منها فيصير الله بالنسبة لهم برية وأرض ظلام دامس. إذ رفض إسرائيل الإيمان بالسيد المسيح، صار الله بالنسبة له هكذا، وكما قال الرسول بولس: "لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موتٍ لموتٍ ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15-16).
يقول العلامة أوريجينوس: ["هل صرتُ برية لإسرائيل أو أرض ظلام دامس؟" [31].
في بداية هذا النص، يقول الرب أنه لم يكن برية لإسرائيل، ولا أرض ظلام دامس... فهل أصبح اليوم برية لإسرائيل، هل أصبح الآن أرض ظلام؟ أم ماذا؟
عندما لم يكن لإسرائيل كذلك، هل كان للأمم في ذلك الوقت برية وأرض ظلام؟
إذا كان الله لم ولن يكن للجميع برية أو أرض ظلام، فلماذا إذًا يقول هذا الكلام لإسرائيل؟ لنراجع أعمال الله الصالحة العامة والخاصة.
لا يمكن أن يكون الله "برية" لأحدٍ وهو الذي "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين". ولا يمكن أن يكون أرض ظلامٍ وهو الذي "يمطر على الأبرار والظالمين". كيف يمكن أن يكون أرض ظلامٍ وهو الذي عمل النهار، وأيضًا أعطانا الليل للراحة؟
كيف يكون برية وهو الذي يعطى الخصوبة للأرض؟
كيف يكون برية وهو الذي يعول كل نفسٍ، ويعطي للإنسان القدرة والحكمة والذكاء، ويعطيه أيضًا في جسده "الحواس المدربة" (عب 5: 14)؟
إذًا، من وجهة النظر العامة لا يمكن أن يكون الله برية لأحدٍ. أما من وجهة النظر الخاصة، فسوف أعود إلى موضوع إسرائيل وأقول: لم يكن الله لهم برية ولا أرض ظلامٍ عندما كانوا في مصر، فكان يصنع لهم العجائب ويعطيهم الآيات. لكن في كل مرة كانوا يتراخون فيها كانوا يجدون الله في نظرهم برية وأرض ظلام، مع أنه لا يمكن لله أن يكون كذلك.
مع ذلك، عندما لم يكن الله برية ولا أرض ظلام لإسرائيل، كان للأمم برية وأرض ظلام، ثم عندما تحول الله عن إسرائيل وأصبح بالنسبة لهم برية وأرض ظلام في نظرهم، كثرت النعمة للأمم، وأصبح يسوع المسيح بالنسبة لنا ليس برية وإنما شبعًا وامتلاءً؛ ليس أرض ظلامٍ وإنما أرض خصبة. لأن "بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل" (إش 54: 1).
يوجه الله الوعيد لهؤلاء الذين لم يكن لهم أبدًا في يوم من الأيام برية أو أرض ظلام، فيقول لهم: لم أكن لكم برية ولا أرض ظلام، ولكن أنتم الذين قلتم "قد شردنا (سوف لا يكون لنا إله) لا نجيء إليك بعد" [31].هل كان ذلك يأسًا من شعب إسرائيل عندما قالوا: "لا نجيء إليك بعد، سوف لا يكون لنا إله"؟[89]].
يرى العلامة أوريجينوس أنه يلزم التفرقة بين أعمال الله الصالحة العامة وأعماله الصالحة الخاصة. فهناك خيرات يعطيها الله لكل الناس وإلى الأبد مثل شروق الشمس وسقوط الأمطار والأرض الخصبة. ومن وجهة النظر هذه لا نستطيع أن نقول أن الله يمكن أن يكون "برية". أما بالنسبة للخير الخاص الذي خص به شعب إسرائيل ثم سحبه منه، في هذه الحالة أصبح من وجهة نظرهم برية. لكنه لم يكن كذلك أبدًا لأن ما أخذه من إسرائيل أعطاه للمسيحيين[90].
هذه هي أبشع صورة لثمر الخطية أن الله مصدر الحياة والنور يتحول بالنسبة للشرير إلى برية قاحلة وأرض ظلامٍ دامسٍ، يهرب من الله كما من مصدر هلاكه! يصير الله بالنسبة له ثقلاً يريد الخلاص منه، كما يتخيله بعض الوجوديين المعاصرين الآن، يحسبونه كابوسًا لابد للإنسان أن يتحرر منه! وقد جاءت العبارة "قد شردنا" في بعض الترجمات "قد صرنا أحرارًا من الله" أو "قد صرنا سادة".
يدهش الله كيف يريد شعبه أن يتحرر منه مع أنه هو سّر حياتهم واستنارتهم وشبعهم وزينتهم، لهذا يعاتبهم قائلاً: إن كانت العذراء تعتز بزينتها [التي هي عفتها فلا تحلها خلال الخداعات واللهو] (كما يقول الأب ميثوديوس[91])، والعروس لا تنسى ثياب عرسها، فكيف نسيني شعبي أيامًا بلا عدد [32]؟! يقدم لهم العذراء والعروس مثالين، لأنه يتطلع إلى شعبه كعذراء عفيفة مُقدمة له يليق بها ألا تفقد عفتها وبتوليتها بخداعات العدو ولهو العالم، وكعروسٍ مقدسة له تجد في الله عريسها سّر بهائها ومجدها المُعلن في ثياب عرسها!
يقول: "لماذا ٌتحسنين (تهندم نفسها) طريقك لتطلبين المحبة، لذلك علَّمتِ الشريرات أيضًا طرقك؟" [33]. عوض قبولكِ لي كسّر زينتك السمائية مددتى يدك للزينة الخارجية، وعوض قبولكِ حبى الإلهي تطلبين محبة الأشرار، وتُعلمين بناتكِ الشر!
"أيضًا في أذيالك وُجد دم نفوس المساكين الأذكياء، لا بالنقبِ وجدته بل على كل هذه" [34]. فيما أنتِ تزينين نفسك بالزينة الخارجية لتطلبي محبين يصنعون الشر معكِ، إذا بالجريمة ملتصقة بأذيال ثيابكِ. ولما كانت الثياب رمزًا للجسد، فكأنه يقول إن علامات الجريمة قد التصقت بكل جسدك حتى أذياله. تدنس كل عضو فيه، وتلطخ بدم الفقراء الأبرياء الذين تظلمينهم. هذا الأمر لا يحتاج إلى بحث وتنقيب فهو مُعلن على أذيال ثيابك ومرتبط بجسدك، وواضح في حياة الجميع. (يفسر البعض عبارة "بل على كل هذه" بمعنى أن تلطيخ الدم قد بلغ إلى كل هؤلاء الرؤساء).
ثانيًا: تبرير ذاتها: لا تقف آثار الخطية عند الهروب من الله كما من البرية وأرض ظلامٍ دامس لترتبط بالشر والخطية في زينة خارجية، وإنما فيما هي ملطخة بدم الشر تبرر ذاتها، ولا تدرك خطأها. "وتقولين لأني تبرأت ارتد غضبه عني حقًا، هأنذا أحاكمكِ لأنكِ قلتِ لم أخطئ" [35]. هذا هو أبشع ما يصل إليه الإنسان، يشرب الإثم كالماء ولا يدري، يرتكب الشر ولا يراه شرًا! بهذا يغلق الإنسان على نفسه داخل الخطية فلا تجد التوبة لها موضعًا فيه.
ثالثًا: يحطم مكاسبها الشريرة: إذ يرتمي الإنسان على الشر يظن أنه ينال شيئًا لم ينله في طريق البر. فمن محبة الله لنا أنه يسمح بتحطيم ما نلناه لندرك أن الشر غير قادر على تقديم شيء. هكذا إذ إتكأ شعبه تارة على ملك بابل وأخرى على فرعون مصر، جعله يخزي في بابل كما في مصر ليتكئ على صدر الله الأبدي القادر أن يهب راحة.
"لماذا تركضين لتبدلي طريقك؟!
من مصر أيضًا تخزين كما خزيت من أشور؛
من هنا أيضًا تخرجين ويداكِ على رأسك،
لأن الرب قد رفض ثقاتك فلا تنجحين فيها" [36-37].
لقد أبدلت ثقتها فأحلت مصر عوض أشور لكي تحميها، لكنها كمن هيفي مأتم قد مات من يعولها، فتضع يديها على رأسها لتندب من اتكلت عليه، لقد تحطمت كل خطتها البشرية. كما يشير وضع اليدين على الرأس إلى السبي، حيث غالبًا ما يُقاد المسبيون إلى أرض السبي بهذه الصورة.
ملخص الدعوى:
يمكن تلخيص الدعوى الموجهة ضد شعبه في الآتي:
1. صاروا كالأصنام التي يتعبدون لها، أي "صاروا باطلاً" [5].
2. جاحدون، ينكرون أعمال الله محررهم ومخلصهم [6-7].
3. نجسوا ميراث الرب وأرضه [8].
4. فاقوا الأمم في الشر، إذ أبدلوه بآلهة باطلة [10-11].
5. تشهد الطبيعة ضدهم [12].
6. تركوا الينبوع الحيّ وشربوا من ينابيع فرعون مصر وبابل [13-19].
7. صاروا كحيوان جامح [20].
8. صاروا كزانية وقحة [2].
9. صاروا كرمة غير مثمرة [20].
10. بررت مملكة يهوذا نفسها عوض الاعتراف بالخطأ [22].
11. صاروا كناقة بلا قيادة، خفيفة في تحركاتها [23].
12. صاروا كأنثى الحمار البرى أفقدتها شهوتها اتزانها [24].
13. صارت كالسارق الذي ضُبط [26].
14. فقدت المنطق فجعلت من الأنثى أبًا ومن الذكر أمًا [27].
15. نسيت نفسها كعروسٍ مزينة [32].
16. معلمة للشر [33].
17. سافكة دماء المساكين [34].
18. أخيرًا صارت مسبية، تضع يديها على رأسها [37].
الله يطلب عروسهالأصحاح الثالث
في الأصحاح السابق كشف لنا الله عن سر الخصومة، الأمر الذي يكرره كثيرًا، ليس فقط فيسفر إرميا بل في كثير من الأسفار المقدسة. فإن الله إن أدَّب يود أن يوضح سبب التأديب، حتى يحقق هدفه. فهو لا يؤدب ليظهر سلطانه كما يفعل الإنسان عندما يستحوز على سلطة، ولا لكي ينتقم، وإنما لكي يحاور ويحاجج حتى يرجع الإنسان إليه.
في الأصحاح الثالث يعلن بوضوح رغبته في رجوع عروسه التي تنجست مع كثيرين، وأفسدت الأرض، وقد سبق فطلقها، لكنه يضع خطة إلهية ليفتح أمامها باب التوبة، ويردها الله مكرّمة وممجدة.
1. العريس يطلب مطلقته الزانية [1-5].
2. خطة إلهية لعودتها [6-11].
3. طريق التوبة [12-14].
4. بركات الرجوع إلى الله [15-25].
1. العريس يطلب مطلقته الزانية:
كشف الله عن حبه اللانهائي نحو شعبه، ونحو كل مؤمن؛ قائلاً: "إذا طلق رجل امرأته فانطلقت من عنده وصارت لرجل آخر، فهل يرجع إليها بعد؟! ألا تتنجس تلك الأرض نجاسة؟!".
أما أنتِ فقد زنيتِ بأصحاب كثيرين،
لكن ارجعي إليّ يقول الرب" [1].
يقول العلامة أوريجينوس:
[هذا نوع جديد من الصلاح، فإن الله يقبل النفس حتى بعد الزنا إن رجعت وتابت من القلب...
هنا يظهر الله كغيورٍ، يطلب نفسك ويشتهي أن تلتصق به، إنه غير راضٍ. إنه يغضب مظهرًا نوعًا من الغيرة عليك، لتعرف أنه يترجى خلاصك![92]].
يصعب أن يتخيل إنسان أنه يرد إليه مطلقته التي تركها بسبب زناها، هذه التي لم تخطئ عن ضعف مع شخصٍ ما أغواها، بل تهوى الخطأ مع أصحاب كثيرين... تخطئ بغير حياءٍ، لها "جبهة امرأة زانية"... تخطئ بقدرة وجبروت. ومع هذا كله يشتاق رجلها أن تتوب وترجع إليه!
بدأ الله حديثه مع شعبه مشيرًا إلى أحد قوانين الطلاق (تث 24: 1-4)، التي قدمها لشعبه لأجل ضعفهم. فإنه لم يسمح للرجل أن يقبل زوجته مرة أخرى إن كانت قد طُلقت وصارت لآخر.
يكشف هنا عن قانون الحياة الزوجية، موضحًا أن الزواج هو اتحاد سري لا ينحل، أما إذا دخل طرف ثالث بينهما (إنسان زانٍ) فينحل الرباط ولا يعود مرة أخرى. لا يطيق رجل ما أن يتزوج مطلقته الزانية، إذ تتنجس الأرض، أي يصير جسده (الأرض) نجسًا! أما الله فليس كزوج بشري يطرد زوجته الخائنة، وإنما في حبه اللآنهائي يرى النفس قد أبطلت اتحادها معه باتحادها مع أعدائه: إبليس وجنوده وأعماله الشريرة، فتحسبهم أصحابها... ومع هذا يدعوها: "ارجعي إليّ!"
يقول الأب ميثوديوس: [يتحدث عن هذه التي تعرض نفسها للفحشاء مع قوات جاءت لكي تفسدها، لأن أصحابها هم إبليس وملائكته، الذين يخططون لتدنيس وإفساد جمال عقلنا المتزن والبصيرة السليمة، وذلك من خلال الحوار معهم، والرغبة في معاشرة كل نفس مخطوبة للرب[93]].
عجيب هو حب الله للإنسان، فمع معرفته بكل شر الإنسان وفساده، يفتح له باب الرجاء للعودة، قائلاً له: "هل يحقد إلى الدهر؟! أو يحفظ غضبه إلى الأبد؟!" [5]. إنه يبقى يطلب رجوع النفس إليه... لا لأنه يود أن يراها حزينة متألمة نادمة على ما ارتكبته من آثام، وإنما لأنه يطلبها عروسه المقدسة التي تجد لها موضعًا في أحضانه، أو ابنة تجد أبوها يركض إليها ويرتمي على عنقها ويقَّبلها (لو 15).
ما أعجب حب الله! إنه يعرفنا تمامًا في شرنا فيصفنا هكذا:
أولاً: كمطلقة تزوجت رجلاً آخر [1]: بحسب الشريعة الموسوية لا يجوز للرجل أن يرد مطلقته التي تزوجت بعد طلاقها، حتى إن طلقها الرجل الثاني أو مات (تث 24: 1-4).
ثانيًا: لها أصحاب زناة كثيرون [1]. شتان بين فتاة تتعرض لإغراء شاب فتسقط، وبين عروس متزوجة ترتمي في أحضان هذا وذاك بلا شبع... شرهة في الخطية وطلب الملذات!
ثالثًا: لم يبحث عنها الأشرار ليطلبوها، بل تجرى في كل الطرقات تطلب الشر، ليس من طريق تعبر فيه إلا وترتكب فيه الخطية. "ارفعي عينيك إلى الهضاب وانظري، أين لم تضطجعي؟! في الطرقات جلستِ لهم كأعرابي فيالبرية ونجستِ الأرض بزناكِ وشركِ" [2].
رابعًا: تشهد الطبيعة لشرها، فبسببها "امتنع الغيث ولم يكن مطر متأخر" [3]. المطر المبكر في شهري أكتوبر ونوفمبر حيث يساعد على الفلاحة عند وضع البذار، أما المتأخر ففي شهري مارس وإبريل حيث يساعد النباتات على نضوج المحصول.
عندما يصر الإنسان على الخطأ، معاندًا وصية إلهه، تعانده الطبيعة التي خُلقت لأجله، لتشهد أنه قد فسد وانحرف عن تحقيق رسالته، فلماذا تسنده وتخدمه؟!
خامسًا: لها جبهة زانية [3]، أي وجه نحاس لا يعرف الخجل أو الحياء. قديمًا كانت النساء الفاسدات يضعن علامة على جباههن لكي يتعرف عليهن من يطلب الشر.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[94] أن ارتكاب أية خطية بدون حياء يجعل من الإنسان زانية لها جبهة زانية. وفي موضع آخر يقول: [يبدو أن استخدام هذا التعبير لا يناسب تلك المدينة فحسب، بل كل الذين يتطلعون ضد الحق بلا خجل[95]].
سادسًا: يرى البعض في العبارة: "ألستِ من الآن تدعينني يا أبي؟! أليف صباي أنت! هل يحقد إلى الدهر؟ أو يحفظ غضبه إلى الأبد؟ ها قد تكلمتِ وعملتِ واستطعتِ" [4-5]. قد اتكلت إسرائيل على أنها ابنة لله تمتد علاقتها معه منذ صباها حين كانت في مصر تحت العبودية... وكأنها استغلت أبوة الله وحنانه فتكلمت كابنة لكنها عملت كعاصية وتممت العصيان بقدرةٍ وعنفٍ. ظنت أن الله كالأب الأرضي يتغاضى عن الأخطاء، حتمًا يتجاهل معاصيها. لم تدرك أنه أب حقيقي أكثر حنانًا وترفقًا من الأب الأرضي، لكنه لا يغير أحكامه حتى يغيروا سلوكهم، ويقدموا توبة ويطلبوا الرجوع إليه، إذ يعاتبهم: "وقلت تدعينني يا أبي ومن ورائي لا ترجعين" [19].
يرى البعض في هذه العبارة كلمات عتاب تصدر من الله كأبٍ يبعث فيهم الرجاء بالتوبة بالرغم مما بلغوه من انحطاط وفساد.
سابعًا: لم تقف عند حد الزنا والخيانة الزوجية لكنها مخادعة، لها شفتا الغش، تنطق بغير ما تعمل (3-5)، وهي مكروهة لدى الناس فكم لدى الله؟! الله لا يقبل صلوات الشفاه الغاشة، بل يطلب سكب النفس (1 صم 1: 15) وسكب القلب (مز 62: 8).
إذ قدم لنا الله هذه الصورة أكد لنا أمرين:
أ. بشاعة الخطية بكونها خيانة زوجية!
ب. لا تقوم المصالحة على كلمات اعتذار من جانبنا إنما على نعمة الله الغنية التي تتعدى الناموس، بعد خيانتنا له.
هذا ويُلاحظ أنه كثيرًا ما تكررت كلمة "رجع shuv" في هذا السفر. فإن التوبة في حقيقتها ليست اعترافًا بالخطأ فحسب ولا هي امتناع عنه فحسب، إنما هي رجوع إلى الله واتحاد معه!
2. خطة إلهية لعودتها:
يكشف الله ليهوذا عن خطته لخلاصها معلنًا أن مملكة إسرائيل (10 أسباط) سبق ففسدت وقد حذرها مرة ومرات وأخيرًا سمح لها بالسبي لكي تتوب وتكون درسًا عمليًا ليهوذا. لكن مملكة يهوذا (سبطان: يهوذا وبنيامين) عوض أن تتعظ فقد تركها قرنًا كاملاً بعد سبي إسرائيل لكي تتوب، إذا بها هي أيضًا تخونه على منوال أختها... ربما لأنها اتكلت على أن الله لن يسمح بسبي مدينته أورشليم وخراب هيكله فيها. لكن سرعان ما يفتح الله باب الرجاء لا أمام يهوذا وحدها بل أمام المملكتين معًا، بل وأمام كل الأمم بكونه مخلص العالم كله.
أحد أسباب التأديب هو أن يصير المُؤدَب مثلاً حيًا أمام الخطاة:
"وقال الرب لي في أيام يوشيا الملك:
هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل؟...
انطلقت إلى كل جبل عالٍ وإلى كل شجرة خضراء وزنت هناك،
فقلت بعدما فعلت كل هذه: ارجعي إليّ؛ فلم ترجع.
فرأت أختها الخائنة يهوذا.
فرأيت أنه لأجل كل الأسباب إذ زنت العاصية إسرائيل فطلقتها وأعطيتها كتاب طلاقها لم تخف الخائنة يهوذا أختها بل مضت وزنت هي أيضًا.
وكان من هوان زناها أنها نجست الأرض، وزنت مع الحجر ومع الشجر.
وفي كل هذا أيضًا لم ترجع إليّ أختها الزانية يهوذا بكل قلبها، بل بالكذب يقول الرب.
فقال الرب لي: قد بررت نفسها العاصية إسرائيل أكثر من الخائنة يهوذا" [6-11].
ويلاحظ في النص الآتي:
أ. يقول العلامة أوريجينوس: [يريدنا النبي هنا أن نعرف أن الشعب - كما جاء في سفر الملوك - قد قُسِّم في أيام رحبعام إلى مملكة مكونة من عشر أسباط تحت حكم يربعام، ومملكة أخرى مكونة من سبطين تحت حكم رحبعام (1 مل 12). مجموعة يربعام ُدعيت إسرائيل، وسبطا رحبعام دُعيا يهوذا. واستمر هذا الانقسام إلى أيام النبي... إسرائيل التي ليربعام وخلفائه أخطأت أولاً، أخطأت كثيرًا إذا قورنت بيهوذا، حتى سمح الله لها أن ُتساق إلى السبي بواسطة الأشوريين، واستمر حتى الآن (وقت النبي) كما يقول الكتاب. بعد ذلك أخطأ أيضًا بنو يهوذا، وتم سبيهم إلى بابل. بعد كل تلك الخطايا التي ارتكبتها إسرائيل، وقد علمت يهوذا بها، ورأت كيف أرسلتها إلى السبي، لم تستفد من هذا الدرس، بل على العكس أكثرت من خطاياها، حتى متى قورنت بخطايا إسرائيل نجد برًا في إسرائيل أكثر من يهوذا.
كان على يهوذا أن تستخلص من ذلك درسًا - لأني طلقت إسرائيل وطردتها عند الأشوريين وأعطيتها كتاب طلاقها في يديها - ومع ذلك "لم تخفْ الخائنة يهوذا أختها"، ولم تكتفِ برفض هذا الدرس، بل أضافت إلى خطاياها آثامًا أكثر، حتى بدت أن خطايا شعب إسرائيل بالمقارنة بخطايا شعب يهوذا كأنها بر وصلاح[96]].
لقد تمردت إسرائيل العاصية على الرب علانية منذ نُصب عجلا يربعام الذهبيين حتى لا يشتاق الشعب إلى هيكل الرب في أورشليم، كما أقام كهنة من غير سبط لاوي (1 مل 12: 28، 31)، وصنع عيدًا في بيت إيل. لم نجد من ملوكهم من طلب الرب إلا مرة واحدة عندما اشتد الضيق بسبب الغزو الأرامى (2 مل 13: 4-5)، وبالفعل خلصهم الرب، "لكنهم لم يحيدوا عن خطايا بيت يربعام الذي جعل إسرائيل يخطىء، بل ساروا بها ووقفت السارية أيضًا في السامرة"...
أمام هذا العناد العلني والمستمر عبر الأجيال سلمهم الرب للسبي الأشوري، فتركوا أرضهم كما تترك المرأة المطلقة بيتها الزوجي.
أما خطية يهوذا الخائنة، فهي مع وجود بعض ملوك صالحين على خلاف إسرائيل، انشغلت مملكة يهوذا بالعبادة الظاهرية مع خيانة خفية، حيث كانت القلوب منصرفة إلى نجاسة الأمم.
عُرفت إسرائيل بالعصيان العلني ومقاومة عبادة الله، أما يهوذا فُعرفت بالخداع والكذب. وكما يقول العلامة أوريجينوس على لسان الرب: [لم تهَبني (يهوذا) بعد كل ما فعلته بإسرائيل، ولم ترجع إليّ رجوعًا كاملاً، بل بالعكس رجعت إليّ بالكذب[97]].
ب. يرى العلامة أوريجينوس أن ما حدث قديمًا مع مملكتي إسرائيل ويهوذا، بأن عصت الأولى وزنت الثانية، يمثل رمزًا لما حدث أيضًا مع اليهود في أيام السيد المسيح إذ عصوا المخلص ورفضوه، وما يحدث مع بعض رجال العهد الجديد حيث يتمسك بعض المسيحيين بالاسم دون الحياة الإيمانية الفعلية الروحية. وكأن ما ورد هنا هو توبيخ للمسيحيين الاسميين.
[دعونا نرى ما هو القصد من وراء ما ورد هنا.
بدأت دعوة الأمم عند سقوط إسرائيل، فبعدما كرز الرسل لجماعة اليهود، قالوا لهم: "كان يجب أن تُكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع 13: 46).
ويقول أيضًا الرسول العارف بهذا الموضوع: "بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم" (رو 11: 11).
إذن أخطاء هذا الشعب الكثيرة أدت إلى استبعادهم، كما أدت أيضًا إلى دخولنا إلى "رجاء الخلاص"، نحن الذين كنا "غرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لنا" (راجع أف 2: 12).
كيف إذًا حدث هذا الأمر؟ كيف بعدما وُلدت في أي موضع في العالم، وكنت غريبًا عن أرض الموعد، أقف اليوم لأتحدث عن وعود الله، وأؤمن بإله الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب؟ بل وأكثر من هذا اقبل في داخلي يسوع المسيح الذي سبق أن تنبأ عنه الأنبياء؟
لنلاحظ هنا أن شعب إسرائيل هو هذا الذي كُتب عنه: "فطلقتها وأعطيتها كتاب طلاقها". لقد طلق الله إسرائيل وأعطاها كتاب طلاقها. هذا يحدث بالنسبة للمتزوجين، متى صارت الزوجة مكروهة عند رجلها كما هو مكتوب في شريعة موسى، فإن الزوج يكتب لها كتاب طلاق فتُطلق، ويكون من حق الزوج الذي طلق امرأته الأولى بسبب سوء سلوكها أن يتزوج بأخرى.
هكذا بنفس الطريقة بعدما أخذ شعب إسرائيل كتاب طلاقه تم إهماله تمامًا. أين هم أنبياؤهم؟ أين معجزاتهم بعد؟ أين هو ظهور الله لهم؟ أين العبادة والهيكل والذبائح؟ لقد طُردوا من موضعهم.
إذن، أعطى الله إسرائيل كتاب طلاق، ثم نحن، (مملكة) يهوذا، لأن المخلص جاء من سبط يهوذا، قد رجعنا إلى الرب، لكن يبدو أنه في أيامنا الأخيرة سنشابه أيام يهوذا الأخيرة، إن لم نصر فيحال أسوأ منها.
يبدو أن هذا هو وقت نهاية العالم فعلاً.
هذا يظهر بوضوح من كلمات السيد المسيح في إنجيله: "ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 24: 12-13). وأيضًا: "سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا" (مت 14: 24). هذا هو وقتنا الحاضر الذي يقصده المخلص بمجيئه الثاني، حيث اننا إذا بحثنا في العديد من الكنائس سوف لا نجد مؤمنًا واحدًا حقيقيًا. "ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض" (لو 18: 8). بالفعل إن حكمنا على الأوضاع حسب الحق لا العدد، ولو نظرنا إلى الأعماق الداخلية بدلاً من النظر إلى أعداد الناس المجتمعة ندرك أننا لم نعد بعد مؤمنين أمناء. قبلاً وُجد مؤمنون حقيقيون، وذلك فيعصر الشهداء المزدهر. فعند عودة مواكب أجساد الشهداء إلى القبور كانت الكنيسة كلها تجتمع بغير خوف، وكان الداخلون إلى الإيمان حديثًا يتعلمون مبادىء المسيحية وهم يرون حولهم أجساد الشهداء، كما أن مؤمنين كثيرين كانوا يعترفون بإيمانهم حتى الموت بغير خوف، دون أن يتزعزعوا عن إيمانهم بالله الحيّ. إذن، نحن نعرف أناسًا رأوا أشياءً عجيبة فائقة.
وُجد مؤمنون قليلون لكنهم كانوا مؤمنين حقيقيين، اتبعوا الطريق الضيق الكرب المؤدي إلى الحياة. أما الآن فقد صرنا كثيرين من جهة العدد، لكن من غير الممكن أن يُوجد كثيرون منتخبون، لأن يسوع لا يكذب حين قال: "كثيرون يُدعون وقليلون يُنتخبون".
فمن بين الجموع التي اتخذت الدين عملاً لهم بالكاد يوجد قليلون يصلحون للانتخاب الإلهي والتطويب.
عندما يقول الله: "لقد طلقت أولاً إسرائيل بسبب خطاياها، وأبعدتها عني، ويهوذا لم ترجع إليّ بالرغم من معرفتها بما حدث لإسرائيل، فإنه يتحدث أيضًا عن خطايانا.
عند قراءتنا عن المصائب والأهوال التي حلت بشعب إسرائيل يلزمنا أن نرتعد، ونقول: "إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية فلعله لا يشفق عليكِ أيضًا" (رو 11: 21). إذا كان الذين يفتخرون بأنهم زيتونة حقيقية (رو 11: 24)، والذين هم متأصلون فيجذور إبراهيم وإسحق ويعقوب، قد قطعهم الله بلا شفقة، بالرغم من صلاحه وحبه للبشر، فكم بالحرى بالنسبة لنا؟
"هوذا لطف الله وصرامته" (رو 11: 22)، فهو ليس لطيفًا بدون صرامة، ولا صارمًا بدون لطف. لو كان الله لطيفًا فقط بدون صرامة لازددنا في احتقارنا للطفه وعدم مبالاتنا تجاهه. ولو كان صارمًا بغير لطف لسقطنا في اليأس من جهة خطايانا. لكنه في الواقع بما أنه هو الله، فهو لطيف وصارم في آن واحد، أما نحن البشر فعلينا أن نختار: إما لطفه إذا رجعنا إليه، أو صرامته إن بقينا في خطايانا.
يحدثنا الله على لسان الأنبياء، قائلاً لنا: هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل؟ يُفهم إسرائيل هنا الشعب اليهودي. "انطلقت إلى كل جبلٍ عالٍ وإلى كل شجرة خضراء" [6]. إذا نظرت إلى الفريسى الذي صعد إلى الهيكل في غرور دون أن يقرع صدره، أو ينشغل بخطاياه، بل يقول: "اللهم إني أشكرك إني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار، أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه" (راجع لو 18: 11-12)، فإنك تفهم أنه صعد إلى كل جبلٍ عالٍ، بمشاعره التي تستحق اللوم، وحبه للتفاخر والتباهي؛ كذلك صعد بالغرور والكبرياء إلى كل أكمة مرتفعة، وجاء تحت كل شجرة، ليست شجرة مثمرة، إنما شجرة بها خشب فقط، إذ يوجد فارق بين الشجر للخشب والشجر المثمر. عندما نزرع أشجارًا للخشب فقط نزرع بذورًا غير مثمرة بل عقيمة، ترمز إلى مجادلات الهراطقة وحججهم ذات البريق الغاش المخادع غير الصالح لإقناع السامعين. فإذا تركنا أنفسنا وراء هذه المجادلات، إنما نذهب تحت كل شجرة للأخشاب.
"وزنت هناك.
فقلت بعدما فعلت كل هذه:
ارجعي إليّ، فلم ترجع.
فرأت أختها الخائنة يهوذا (خيانة إسرائيل)".
هذا العتاب موجه إلينا نحن أيضًا، إذ نخطىء، ولا نفي بعهودنا مع الله. نحن الذين نرى ما حدث للذين فقدوا عهودهم مع الله مع كونهم من نسل إبراهيم، مع أنهم أخذوا الوعد.
يجب علينا إذًا أن نتمسك بهذه الفكرة. بما أن هؤلاء قُطعوا من البركات ومن الوعود الإلهية، ولم ينفعهم كونهم من نسل إبراهيم، ماذا يكون حالنا إذا أخطأنا نحن؟! فإن الله يتركنا. يقول لهم المخلص: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم". كما يقول لهم القديس يوحنا: "لا تبتدئوا تقولون فيأنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم". يقصدنا نحن "هذه الحجارة"، أي قلوبنا الحجرية وقساوتنا نحو الحق. بالحقيقة أقام الله بقدرته من الحجارة أولادًا لإبراهيم.
إذا جاء عبد جديد ليخدم صاحب المنزل، أُشترى حديثًا يبدأ يتساءل ويستفسر: مَنْ ِمنَ الخدم السابقين كان صالحًا في عيني سيده؟ ولماذا؟ ومن منهم كان شريرًا في عينيه؟ ولماذا؟ وبعد تفكير إذ يستمر في خدمة رب البيت يجتنب السلوك الذي أدى إلى طرد العبيد الأشرار وعقابهم، بينما إذ يعلم السلوك الطيب الذي اتبعه العبيد السابقين الذين صاروا مطوبين من سيدهم، تأخذه الغيرة ليحذو حذوهم.
نحن أيضًا كنا عبيدًا، لا لله، بل للأوثان والشياطين. كنا وثنيين، ورجعنا إلى الله بالأمس أو أول أمس. إذن فلنقرأ الكتاب المقدس، ولننظر من فيه قد تبرر، ومن فيه قد دين، لكي نقتدى بالذين تبرروا، ونتحاشى السقوط في أخطاء الذين سُلموا إلى السبي وطردوا بعيدًا عن الله.
التوبة الحقيقية هي أن نقرأ الكتب القديمة (العهد القديم) ونعرف الأبرار ونقتدي بهم، ومن هم الخطاة ونتجنب السقوط في أخطائهم. لنقرأ كتب العهد الجديد وكلمات الرسل. وبعد القراءة نكتب كل ما قرأناه في قلوبنا، ونطبقه في حياتنا حتى لا يُعطى لنا كتاب طلاق، بل نستطيع أن ننال الميراث الأبدي، وعندما تخلص الأمم فإن إسرائيل (بقبولها الإيمان) حينئذ تستطيع أن تخلص، لأن "القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26)، "ويكونوا رعية واحدة لراعٍ واحدٍ"[98]].
ج. يقول: "إنها نجست الأرض، وزنت مع الحجر ومع الشجر" [9].
حين ُخلق الإنسان على صورة الله ومثاله رأى الله كل الخليقة فإذا الكل "حسن جدًا" (تك 1: 31). الإنسان كملك مُقام على الخليقة الأرضية كما في القصر الملكي صاحب سلطان، نقي وطاهر في عيني الله. أما وقد فسد قلبه فتحطمت طبيعته كلها، تنجست حتى الأرض التي خُلقت لأجله.
من أجل الإنسان وُجدت الحجارة أيضًا وكل الأشجار... أما وقد أقام من الحجارة تماثيل يتعبد لها، ومن الأشجار هياكل لمذابح الوثن حُسب بهذا كمن يزني مع الحجارة والأشجار، ففسدت بسببه. الله لم يخلق الطبيعة لكي نتحد بها ونتعبد لها، وإنما لكي نستخدمها فتشترك معنا في التسبيح لله!
أتحب الطبيعة الجامدة؟ استخدمها ولا تجعلها تستخدمك. استعبدها ولا تُستعبد لها. إن استخدمتها تبارك الرب معك، وإن استخدمتك تفسد أنت وهي معًا، وتصير نجسة معك في عيني الله!
د. واضح أن سفر إرميا كله هو دعوة للتوبة والرجوع إلى الله، فنراه هنا يكرر هذه الكلمة "ارجعي" [7]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله لا يحزن على خطايانا قدر ما يحزن على عدم رغبتنا في الرجوع عنها بالالتجاء إليه. إنه أب ينتظر أولاده، وعريس سماوي يطلب عروسه.
[الشرور التي ارتكبناها لا تغيظ الله قدر عدم رغبتنا في التغيير؛ لأن من يخطىء يكون قد سقط في ضعف بشري، أما من يستمر في نفس الخطية فإنه يبطل إنسانيته ليصير
شيطانًا. أنظر كيف يلوم الله على فم نبيه العمل الثاني أكثر من الأول[99]].
[ليته لا ييأس أي إنسان يحيا في الشر!
ليته لا يغفو أي إنسان يحيا في الفضيلة!
ليته لا يثق الأخير في ذاته، فغالبًا ما يسبقه الزناة.
ولا ييأس الأول، فإنه يستطيع أن يسبق الأخير...
إن رجعنا إلى محبة الله الغيورة لا نعود نذكر الأمور السالفة.
الله ليس كالإنسان، فإنه عندما نتوب لا يلومنا على الماضي، ولا يقول: لماذا كنتم غائبين كل هذا الزمان الطويل؟
ليتنا نقترب إليه كما يليق.
لنلتصق به في غيرة.
لنسمر قلوبنا بخوفه! [100]]
[لقد جاء كطبيب وليس كديان[101]].
هـ. "لم ترجع... بكل قلبها بل بالكذب يقول الرب" [10].
كثيرون يظنون أنهم يرجعون إلى الرب لا بالتوبة والاعتراف بل بتبرير اخطائهم. لهذا يعلق القديس جيروم على العبارة السابقة، قائلاً: [ليتنا لا نفقد بالسلام الفارغ ما قد حفظناه بالجهاد (الحرب الروحية)[102]].
3. طريق التوبة:
كثيرًا ما يكرر الرب على لسان إرميا النبي الكلمتين: "ارجعي... اعرفي..." [12-13].
"لكن ارجعي إليّ يقول الرب" [1].
"فقلت بعدما كل هذه ارجعي إليّ؛ فلم ترجع" [7].
"اذهب ونادِ بهذه الكلمات نحو الشمال وقل: ارجعي أيتها العاصية إسرائيل يقول الرب. لا أوقع غضبي بكم لأني رؤوف يقول الرب. لا أحقد إلى الأبد. اعرفي فقط إثمك أنكِ إلى الرب إلهك أذنبتِ وفرقتِ طرقكِ للغرباء تحت كل شجرة خضراء، ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب. ارجعوا أيها البنون العصاة يقول الرب" [12-14].
"ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]
تحدد العبارات الإلهية السابقة مفهوم التوبة في الخطوات التالية:
أ. التوبة هي قبول دعوة الله للنفس بالرجوع إلى محبوبها. فإن الله في حبه للنفس لا يتوقف عن النداء" ارجعي إليّ". في أحلك لحظات الخطية، وفي وسط قساوة قلوبنا يتطلع الله إلينا ينتظر صرخة قلب خفية، أو نظرة عين نحوه، أو تنهدًا داخليًا، ليحملنا على الاذرع الأبدية. إنه يشتاق إلى رجوعنا وخلاصنا ومجدنا أكثر من اشتياقنا نحن إلى خلاص أنفسنا. لكنه في محبته لا يريد أن يغتصب النفس بغير إرادتها، فأنه يقدس حرية إرادتها ويكرم إنسانيتنا!
ب. اكتشاف شخص الله: "لأني رؤوف يقول الرب، لا أحقد إلى الأبد". كثيرًا ما يشوه العالم صورة الله بإظهاره ديانًا قاسيًا، لا يترفق بضعفنا... يعيش في سمواته ولا يشعر بنا نحن في أرضنا. إنه رؤوف، يعين المجربين، ويسند طالبي الرجوع التائبين!
يؤكد الله اخلاصه وحبه، فقد تخونه عروسه، لكنه يبقى الإله الرءوف المخلص لها. يغضب لتأديبها، لكن ليست هذه هي كلمته الأخيرة، فإنه كما يقول: "لا أحقد إلى الأبد".
ج. اكتشاف حقيقة ضعفنا: "اعرفي فقط إثمك". لتحكم النفس على ذاتها، وتعترف بإثمها، فتجد مخلصها الرؤوف يبررها. لا طريق للخلاص دون اعتراف الإنسان بخطاياه، لأنه كيف يلتقي المريض بالطبيب ويتجاوب مع مشورته ما لم يشعر بمرضه! مسيحنا هو مخلص الخطاة، نكتشف خطايانا فنشعر بحاجتنا إليه!
إننا نحتاج إلى جلسات هادئة مع الله لكي يكشف روحه القدوس لنفوسنا ضعفاتها دون أن يفقدها رجاءها. يقول القديس يوحنا كاسيان: [بمقدار ما يتقدم عقل الإنسان ويمتد نحو الصفاء والنقاوة في التأمل يظهر له دنسه وعدم نقاوته.
عندما يرى ذاته في مواجهة مرآة الطهارة الحقة!
لأنه كلما ترتفع النفس إلى تاوريا (تأمل) أعلى، وتمتد إلى الأمام، تتوق إلى أمور أعلى من التي نفذتها، حينئذ تتأكد من حقارة الأشياء التي تؤديها وتفاهتها، لأن النظرة الحاذقة تكشف خبايا كثيرة. والحياة التي بلا لوم تنشئ حزنًا عميقًا على ما يفرط من
الخطايا[103]].
د. إدراك أن كل خطأ في الحقيقة موجه ضد الله: "إلى الرب إلهك أذنبت" [13]. وكما يقول داود النبي في مزمور التوبة: "لك وحدك أخطأت والشر قدامك صنعت" (مز 51)، حتى وإن كانت الخطية في الفكر لم تؤذِ أحدًا. لأن كل خطية هي كسر لوصية الله الذي يريدنا أن نتشكل على صورته ونصير على مثاله: "ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب" [13].
هـ. ادراكنا لموقفنا أو مركزنا كبنين، فإنه ما أصعب أن ُيهان الشخص من ابنه؟! "ارجعوا أيها البنون العصاة" [14].
و. ثقتنا في المخلص كأبٍ قادر أن يشفي جراحاتنا، وينزع عنا طبيعة العصيان: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22].
من هم هؤلاء البنون العصاة الذين يطالبون بالرجوع إلى الله؟
يرى العلامة أوريجينوس أن المؤمنين قد صاروا أبناء الله، لكن أحيانًا بعد تمتعهم بالبنوة - خلال المعمودية - يعصون الله أبيهم، ومع هذا يدعوهم إلى الرجوع إليه... أبواب التوبة مفتوحة أمام الجميع!
غلق أبواب التوبة أمام أي إنسان بدعة تقاومها الكنيسة، وقد كتب آباء كثيرون في هذا الموضوع، منهم القديس كبريانوس الذي كتب مقالين عن التوبة موضحًا أن الكنيسة مثل عريسها عملها أن تحل دون أن تغلق الباب في وجه أحد[104]. واستخدم القديس جيروم بعض عبارات من سفر إرميا (3: 29؛ 8: 4) في رسالته إلى مارسيلا ليوضح كيف تفتح الكنيسة أبوابها للتوبة كل يوم، بينما يغلق أتباع ماني باب الكنيسة أمام البعض لأخطاء معينة ارتكبوها[105].
يعلق العلامة أوريجينوس على القول الإلهي: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]، قائلاً:
[في بدء قراءاتنا هذا اليوم، يقول الرب لبني إسرائيل: "تدعينني يا أبي، ومن ورائي لا ترجعين. حقًا إنه كما تخون المرأة قرينها هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل يقول الرب" [19-20]. بعدما قيل هذا الكلام الذي يخص إسرائيل يتوجه الروح القدس إلينا نحن أيضًا بني الأمم ويقول: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]. فإننا نحن المقصودون بالناس المملوئين عصيانًا (جراحات). يمكن لكل واحد منا أن يقول: "نحن الذين كنا قبلاً، نحن أيضًا كنا غير مؤمنين، أغبياءً، ضالين، عبيدًا للشهوات والأهواء المتنوعة، نحيا في الشر والشهوة، مُبغضين ومبغضين بعضنا بعضًا، ولكن حين أُظهر صلاح مخلصنا الله وحبه للبشر سكب رحمته علينا بنعمة الميلاد الجديد".
إذ ذكرت هذا القول للقديس بولس الرسول أحاول شرحه بأكثر وضوحٍ. فإنه لم يقل "نحن الذين كنا قبلاً أغبياء" بل قال القديس بولس ابن إسرائيل الذي كان من جهة الناموس بلا لوم: "نحن الذين كنا قبلاً نحن أيضًا"، أي "نحن أيضًا بنو إسرائيل" "كنا غير مؤمنين، أغبياء". لم يكن بنو الأمم وحدهم أغبياء، ولم يكونوا وحدهم غير مؤمنين، ولا وحدهم خطاة، وإنما نحن أيضًا الذين استلمنا الشريعة كنا كذلك قبل مجيء السيد المسيح.
بعد هذا الكلام الموجه إلى إسرائيل، قيل لنا نحن أبناء الأمم:
"ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم".
لكن قد يقول قائل: "إن هذا الكلام موجه إلى إسرائيل وها أنت تطبقه على الأمم".
إنني أوضح أنه عندما يوجه الله إلى إسرائيل حديثًا يختص بالتوبة والرجوع، لا ينتظر كثيرًا ليضيف كلمة "إسرائيل"، وإنما يبدأ بها في الحال، فقد قيل بعد ذلك:
"إن رجعتِ يا إسرائيل يقول الرب،
إن رجعت إليّ،
وإن نزعت مكرهاتك من أمامي، فلا تتيه.
وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر،
فتتبرك الشعوب به وبه يفتخرون" (4: 1-2).
إذًا الفقرة الأولى موجهة إلى أبناء الأمم والشعوب، ثم بعد ذلك إلى إسرائيل، لأنه القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم. وهكذا سيخلص جميع إسرائيل، حسبما قال الرسول في رسالته إلى أهل رومية (رو 11: 25-26).
أنظر كيف يدعونا الله، إن رجعنا فلنرجع بالكامل، حيث يعدنا أنه إذا رجعنا إليه بالتوبة يشفي جراحاتنا (عصياننا) بالمسيح يسوع. ونحن أيضًا بلا انتظار ولا تأخير نجيب مثل إسرائيل ونقول: "ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا" [22].
يقول الرب: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم"، ويجيب بنو الأمم: "سنكون عبيدًا لك أنت"، نحن الذين كنا قبلاً عبيدًا للشيطان ولقوات الشر...
الآن بعدما دعوتنا للتوبة نجيب: "ها قد أتينا إليك" [22]، لأننا لم نكن ننتظر إلا شيئًا واحدًا: دعوتك.
إننا على عكس الذين دعوتهم فقدموا لك أعذارًا، نحن إذ ُدعينا لم نعتذر.
هذا ما نجده فعلاً في أمثال الإنجيل، فإن الذين دُعوا أولاً كانوا يقولون واحدًا بعد الآخر: "إني اشتريت حقلاً، وأنا مضطر أن أخرج وأنظره؛ أسألك أن تعفيني. وقال آخر: إني اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماضٍ لأمتحنها، أسألك أن تعفينى. وقال آخر: إني تزوجت بامرأة فلذلك لا أقدر أن أجيء" (لو 14: 18-20).
ليس هذا هو أسلوبنا نحن أبناء الأمم، أن نُدعى فنعتذر.
لماذا نعتذر؟ ما هو هذا الحقل الذي يشغلنا؟ وأية زوجة تشغلنا؟ حقًا ماذا يمكن أن يشغلنا؟
إذن، إذ يقول الله لنا: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" ننظر إلى جراحاتنا، وإلى الوعد بالشفاء ونجيب حالاً، قائلين: "ها قد أتينا إليك، لأنك أنت الرب إلهنا". لنتذكر اننا بهذه الكلمات نقيم عهدًا مع الله، فلا نكون لآخر غيره،؛ لن نكون ملكًا لأفكار الغضب، ولا لأفكار الكآبة، ولا لأفكار الشهوة؛ لن نصير ملكًا للشيطان ولا لجنوده. بل بالعكس، دُعينا فأجبنا: "ها قد أتينا إليك".
لنُثبت بأفعالنا أننا ِملكٌ له وحده، ونضيف: "لأنك أنت الرب إلهنا". فإننا لا نعرف لأنفسنا إلهًا آخر. ليست البطن إلهًا لنا مثل الذين قيل عنهم: "الذين آلهتهم بطونهم"، ولا الفضة ولا الطمع.
يلزمنا ألا نقيم إلهًا، ولا نؤله شيئًا مما يؤلهه الناس، لكن لنا إله الذي هو فوق كل شيء، الله الذي هو "إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم" (أف 4: 6). وبما أن شغلنا الشاغل هو حب الله، نقول: "ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا"[106]].
4. بركات الرجوع إلى الله:
إذ يدعونا الله يكشف عن بركات الرجوع إليه ممتزجة بخطورة البعد عنه.
يمكن تلخيص بركات الرجوع إليه في الآتي:
أولاً: يضمنا إلى كنيسته (صهيون الجديدة)"
"لأني سُدت عليكم فآخذكم واحدًا من المدينة، واثنين من العشيرة، وآتى بكم إلى صهيون" [14].
إن كانت الدعوة عامة موجهة إلى كل الشعب، لكنها أيضًا شخصية؛ في وسط رغبته في اقتناء كل الشعب يقبل واحدًا من وسط مدينة بأكملها أو اثنين من عشيرة. أنه لا يحتقر نفسًا واحدة راجعة إليه، ولو رفضته المدينة كلها. ففي وقت ما كان العالم كله وثنيًا ماعدا إبراهيم وسارة زوجته، ومع هذا دعاهما إليه ليقيم من نسلهما شعبًا مقدسًا وكنيسة طاهرة!
الله يطلب رجوعك إليه لكي يدخل بك إلى صهيون، كنيسته التي افتداها بدمه، يقيمك عضوًا في جسده المقدس، ويؤهلك لشركة الميراث الأبدي.
إن فسد العالم كله، فهو لا يزال ينتظرك باسمك ليدخل بك إلى مجده.
لا تقل مع إيليا النبي في يأس: "قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها" (1 مل 19: 14)، فقد أبقى الله له سبعة آلاف كل الركب التي لم تجث للبعل وكل فم لم يقبله (1 مل 19: 18)... وإن كنت وحدك، فمن أجلك أنت مات المسيح ليخلصك.
ثانيًا: يُرسل فعلة مقدَّسين له، لهم معرفة روحية:
"وأعطيكم رعاة حسب قلبي، فيرعونكم بالمعرفة والفهم" [15].
حين يرجع الشعب إلى الله، يغير الله على كنيسته فيُرسل رعاة حسب قلبه، لهم معرفة روحية وفهمًا صادقًا، يقودون الشعب بروح الله إلى الحياة السماوية.
لا تدن الخدام، فإن توبتك تحرك السماء عينها ليرسل فعلة مقدسين لخدمة البشرية! عوض إدانة الآخرين ندين أنفسنا، ونحسب قساوة قلب الخدام هي بسببنا... علامة غضب الله علينا، يسمح لهم بالخدمة لتأديبنا!
لعله من أهم صفات الخادم النقي، الذي له روح سيده، هو تمتعه بالمعرفة والفهم! يقدم مرعى المعرفة للشعب، فلا يخدم بروح التسلط والعنف في جهالة وغباوة.
يحسب أباء مدرسة الإسكندرية "المعرفة" أعظم هبة يقدمها السيد المسيح لعروسه حين يرفعها بروحه القدوس إلى حجاله، حيث يكشف لها عن أسرار الكلمة، ويدخل بها إلى سر معرفته.
ثالثًا: الثمر المتكاثر:
"ويكون إذ تكثرون في الأرض في تلك الأيام يقول الرب..." [16].
كثيرون يظنون أن الرجوع إلى الله مضيعة للوقت وتحطيم للطاقات، ناظرين إلى الصلاة كأنها عمل باطل، والصوم حرمانًا، والتسابيح والعبادة الجماعية خسارة... ونسى هؤلاء في حياتهم عنصر "البركة". رجوعنا إلى الله يعني دخول "البركة" في وقتنا وكلماتنا وتصرفاتنا حتى الزمنية، فيصير كل ما في أيدينا مباركًا ومتزايد ثمرًا.
بسبب يوسف بارك الرب بيت فوطيفار، وبسبب إبراهيم بارك الله شعبًا عبر الأجيال حتى بعد موته! وبظل بطرس الرسول أُنقذ كثيرون من أرواح شريرة، وبمناديل وعصائب بولس الرسول شفى كثيرون!
برجوعك تتبارك، بل وتصير بركة لمن هو حولك، بل ومثمرًا حتى بعد رحيلك!
رابعًا: يرجع إلينا بنفسه:
"لا يقولون بعد تابوت عهد الرب، ولا يخطر على بالٍ ولا يذكرونه، ولا يتعهدونه، ولا يُصنع بعد" [16].
بمعنى آخر يصير القاء مع الله لا خلال الرموز كتابوت العهد، وإنما يتحقق لقاءٌ حقٌ... يسكن الله وسط شعبه، ويدرك المؤمن حضرة الرب في أعماقه.
كان تابوت العهد بما يحويه من لوحيّ الشريعة وقسط المن يشير إلى الحضرة الإلهية وسط شعبه، خاصة في فترة التِيه فيالبرية وبداية الاستقرار في أرض الموعد. الآن وقد جاء كلمة الله نفسه، الخبز النازل من السماء، لم تعد هناك حاجة إلى تأكيد الحضرة الإلهية... إنه يسكن وسط شعبه ويحل في قلوبهم[107].
خامسًا: رجوع الأمم إليه:
لم تعد هناك حاجة إلى تابوت العهد لتأكيد الحضرة الإلهية، إذ صارت أورشليم - مدينة الملك العظيم - جذابة للأمم. يأتي البشر من كل أمة ولسان ليروا أورشليم العليا أمنا، يعيشون فيها، ويحملون سماتها، قائلين مع الرسول: "أجلسنا معه في السماويات" (أف 2: 6).
إذ يطلب الله رجوع شعبه القديم إليه يعلن لنبيه عن رجوع الأمم، وقبول الشعوب الإيمان به. "ويجتمع إليها كل الأمم إلى اسم الرب إلى أورشليم، ولا يذهبون بعد وراء عناد قلبهم الشرير" [17].
مع توبتك تجتذب كثيرين إلى الرب وتدخل بهم إلى سمواته!
ضعفنا وشرنا يقف عائقًا في طريق خلاص الكثيرين، إذ ُيجدف على اسم الله بسببنا، أما رجوعنا القلبي والعملي إلى الله فيسحب الكثيرين إليه.
نلاحظ هنا أن الله يرفع انظارهم من الرجوع من السبي كبركة إلهية إلى ما هو أعظم، وهو رجوع الأمم من سبي الخطية وعدم الإيمان إلى كنيسة المسيح، أرض الموعد الجديدة.
سادسًا: الشفاء من طبيعة الفساد العاملة فينا:
"ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]. ويقول المرتل التائب: "قلبًا نقيًا أخلقه فيّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي" (مز 51: 10).
الراجع إلى الله يشعر بعمل روح الله القدوس اليومي لتجديده المستمر، حتى يصير على مثال الله!
أخيرًا بعدما تحدث عن بركات الرجوع إلى الله أشار إلى خطورة العصيان والإصرار على العناد والتمسك بالشرور، أو خيانة الإنسان أو الجماعة لله:
أولاً: "سُمع صوت على الهضاب بكاء تضرعات بني إسرائيل، لأنهم عوَّجوا طريقهم، نسوا الرب إلههم" [21].
في الموضع الذي كانوا يصنعون فيه الرجاسات، أي في الهضاب، يُسمع صوت نحيبهم، حيث يُساقون إلى السبي في مذلة.
لا تقدر الخطية أن تهب الإنسان فرحًا حقيقيًا، بل تخدره إلى حين ليجد نفسه قد فقد سلامه الداخلي وفرحه وحياته نفسها. هذا هو ثمر الدخول في الطريق المعوج ونسيان الرب إلهنا!
ثانيًا: يدخل إلى الباطل لا إلى الحق:
"حقًا باطلة هي الآكام ثروة الجبال؛ حقًا بالرب إلهنا خلاص إسرائيل" [23].
هنا يقارن بين عبادة الأوثان على الآكام والجبال التي يحسبها الأشرار ثروة وغنى للنفس، حيث يجدون الطريق الواسع والحياة السهلة، وبين خلاص الرب إلهنا.
تُقدم العبادة الوثنية طريقًا سهلاً لكنها طريق باطلة، أما طريق الرب الضيق ففيه الخلاص الحق.
الترجمة الحرفية لكلمة "آكام" هنا تعني "الخلاعة"، فهي تقدم ما هو باطل، أما الرب فيقدم لنا الحق.
يرى العلامة أوريجينوس[108] أن الأمم كانوا يعبدون نوعين من الآلهة: يعبدون أناسًا صاروا آلهة، هؤلاء يُرمز لهم بالآكام؛ ويعبدون آلهة يرونها هكذا بالطبيعة، هذه يُرمز لها بالجبال.
[الذين يتعبدون لهذه الآلهة لا يدركون أنها آلهة كاذبة، بل يظنون أن وحيها وحيّ حقيقي، وأنها تُقدم شفاءً حقيقيًا، دون أن يدركوا الفارق بين عمل الشيطان بقوةٍ وآيات وعجائب كاذبة وكل خديعة الإثم في الهالكين (2 تس 2: 9)، وبين قوة الحق وعجائبه.
ما كان يفعله يسوع المسيح كان من عجائب الحق،
وما كان يفعله موسى أيضًا هو من قوة الحق (باسم الله)،
أما ما كان يفعله المصريون فكان آيات وعجائب كاذبة، وذلك كما كان يفعل سيمون الساحر الذي كان يُدهش شعب السامرة، حتى قالوا عنه: هذا هو قوة الله العظيمة (أع 8: 10)، مع كونها قوات وآيات وعجائب كاذبة].
هذه هي خطورة الخطية، ُتفقد الإنسان قدرته على تمييز ما هو باطل أو كذب وما هو حق! تفقده روح التمييز الداخلي.
ثالثًا: الدخول إلى الخزي والعار:
"وقد أكل الخزي تعب آبائنا منذ صبانا،
غنمهم وبقرهم،
بنيهم وبناتهم.
نضطجع في خزينا ويغطينا خجلنا (ببرقع)،
لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وآباؤنا،
منذ صبانا إلى هذا اليوم،
ولم نسمع لصوت الرب إلهنا" [24-25].
لا يقف عمل الخطية عند فقدان السلام الداخلي وتحطيم روح التمييز ليعيش الإنسان يتخبط، يظن الحق باطلاً، والباطل حقًا، الحياة الزمنية خالدة، والسماء خيالاً، وإنما تدخل به الخزي (bosheth) الذي يحطم كل تعبه منذ صباه.
يقول سليمان الحكيم: "البر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية" (أم 14: 34). وعندما دخل الشعب أرض كنعان وقدموا عبادة مقدسة، ُدعى الموضع "الجلجال"، ويعني "الدحرجة" إذ دحرج عنهم العار (يش 5: 9)، عار العبودية رمز الخطية.
لقد دعى شاول ابنه "ايشبوشث" (2 صم 2: 8)، أي "رجل العار"... هذا هو ثمر الخطية!
تكمن خطورة الخطية في كونها مخادعة. بينما تدفع النفس إلى الخزي والعار، يفتخر البعض بها، ويحسبونها مجدًا لهم... عوض أن يقفوا فيخزي وعارٍ أمام الله، وقدام أنفسهم يعترفون بما حلَّ بهم بسبب خطاياهم. بمعنى آخر بالتوبة والاعتراف نضرب عار الخطية وخزيها بشعورنا بالخجل والخزي والعار!
يقول العلامة أوريجينوس:
["وقد أكل الخزي تعب آبائنا منذ صبانا..." [24]. يجب أن يكون هناك خزي حتى يأكل التعب الباطل والأعمال الكاذبة التي لآبائنا، فإنه بدون الخزي لن ُتستهلك (تنتهي) هذه الأعمال الباطلة والكاذبة...
يوجد خطاة ليس عندهم خزي ولا حياء من خطاياهم، إذ لا يخجلون منها. هؤلاء هم الذين فقدوا كل حس وأسلموا لكل نجاسة.
إنكم ترون بالفعل كيف تستعرض الشعوب الأممية أحيانًا قائمة فسقهم وزناهم، ويفتخرون بها كما لو كانت أعمال بطولة، دون أن يخجلوا من ممارستهم هذه الأعمال، ودون أن يطلقوا عليها "خطايا". ما دام ليس عندهم "الخزي" لن تُؤكل (تُمحى) خطاياهم.
بداية الصلاح هو الشعور بالخجل مما كنا لا نخجل منه قبلاً[109]].
ما هو غنم الآباء وبقرهم الذي يأكله الخزي؟
يقول العلامة أوريجينوس: [يُطلق على التصرفات غير العاقلة التي يمارسها الآباء غنمًا وبقرًا.
الخليقة غير العاقلة (الحيوانية) ليست ممدوحة على الدوام، إذ توجد كائنات غير عاقلة ملومة، مثل "غنم الآباء الذين أخطأوا". وتوجد حيوانات ممدوحة ومطوّبة، هذه التي يُقال عنها: "خراف يتسمع صوتي".
حينما يقول المخلص: "أنا هو الراعي الصالح" يلزمنا ألا نفهم ذلك بطريقة عامة كما يفعل الجميع، حاسبين أنه راعي المؤمنين وحدهم دون الخطاة. إنما يلزمني كخاطي أن أقبل السيد المسيح في داخل نفسي. أقبل الراعي الصالح فيّ، الراعي الصالح القادر بعصا رعايته أن يسيطر على تصرفاتي غير العاقلة، فلا يسمح لها أن تخرج كما تشاء وحيثما تشاء، لكنها تحت قيادة الراعي تصير تصرفات سليمة. "فلستم إذا بعد غرباء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله" (أف 2: 19).
هكذا، إذا كان الراعي في داخلي فإنه يقود حواسي، فلا تخضع قط لفكر غريب؛ لا تخضع لفرعون ولا لنبوخذنصر، وإنما للراعي الصالح![110]].
إذن مادام يوجد في حياتي الداخلية كما في سلوكي غنمات ضالة وبقر كثير شارد، بالتوبة الصادقة والاعتراف الصريح أشعر بالخزي فتؤكل الحيوانات الفاسدة، ليقيم الراعي الصالح فيّ غنمات مقدسة تحت رعايته الشخصية.
كان لبني إسرائيل غنم وبقر، إذ كانوا يتكلون تارة على فرعون مصر وأخرى على ملك بابل... لنطلب راعي نفوسنا الحق، ولنحتمي فيه، فهو وحده قادرعلى رعايتنا وحمايتنا من كل تجارب عدو الخير القاتلة.
ماذا يُقصد بالبنين والبنات الذين يأكلهم الخزي؟
كثيرًا ما يفسر العلامة أوريجينوس[111] البنين كثمار النفس وأفكارها، والبنات كأعمال الجسد وأفكاره... إذن بخزي التوبة تؤكل أفكار النفس الفاسدة وأعمال الجسد الشريرة، ليقيم لنا الرب المخلص بروحه القدوس ثمرًا مقدسًا للنفس والجسد معًا!
ماذا يُقصد بالخجل الذي يغطينا كما ببرقع؟
يقول العلامة أوريجينوس:
["نضطجع فيخزينا ويغطينا خجلنا (ببرقع)" [25].
اعتدنا أن نتحدث عن البرقع الموضوع على وجه الذين لا يرجعون إلى الرب. بسبب هذا البرقع الموضوع على قلوبهم لا يفهم الخطاة حين يُقرأ موسى (2 كو 3: 15). لهذا نقول إن الخزي هو هذا البرقع.
مادام لدينا أعمال الخزي، يوجد عندنا البرقع دون شك، وذلك كما قيل في المزمور: "وخزي وجهي قد غطاني (ببرقع)" (مز 44: 15).
أما الذين لا يمارسون أعمالاً مخزية فلا يكون عندهم البرقع. هذا ما يقوله بولس الرسول: "ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة" (2 كو 3: 18).
إن كنا نريد أن ننزع البرقع الناجم عن الخزي فلنعمل الأعمال المجيدة، ولنضع كلمات المخلص هذه في أذهاننا: "حتى أن الجميع يمجدون الابن كما يمجدون الآب"، وكلمات بولس الرسول: "بتعدينا الناموس نهين الله".
في مقدرتنا نحن أن ننزع البرقع وليس في مقدرة أحد غيرنا. فعندما كان موسى يتوجه إلى الله كان بالفعل يرفع البرقع.
لم يأمر الله موسى قائلاً له: غطِ نفسك ببرقع"، وإنما لما رأى موسى الشعب عاجزًا عن النظر إلى مجده وضع برقعًا على وجهه. ولم ينتظر أيضًا أن يقول له الله في كل مرة كان يتحدث فيها معه: "انزع البرقع".
إذن كُتب هذا حتى ترفع أنت أيضًا بدورك برقع أعمالك المخزية الذي وضعته على وجهك، وذلك متى اتجهت بنظرك إلى الرب؛ وإذ تنزع البرقع لا تعود تقول: "يغطينا خجلنا (ببرقع)".
على سبيل المثال، عندما يستقر الغضب في نفوسنا، يكون مثل برقع موضوع على الوجه. وعندما نردد القول في صلاتنا: "قد أضاء علينا نور وجهك يا رب" (مز 4)، نرفع البرقع، وننفذ ما يقوله الرسول: "فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان، رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال" (1 تي 2: 8). فإذا نزعنا الغضب نكون قد رفعنا البرقع؛ وهكذا أيضًا بالنسبة لجميع الخطايا.
طالما وُجدت الخطايا في فكرنا يكون البرقع موجودًا على وجوهنا الداخلية بصورة تحجب عنا رؤية مجد الله المضيء.
الله لا يخفي عنا مجده، إنما نحن بوضعنا برقع الخطية على نفوسنا نحرم أنفسنا
من رؤية مجد الله[112]].
إذن بالتوبة والاعتراف نشعر بالخزي فتُنزع من داخلنا الحياة الحيوانية غير العاقلة، فيؤكل غنمنا وبقرنا، ويسكن راعينا في القلب ليرعى غنمًا روحيًا جديدًا، ويقيم ملكوته فينا.
بالتوبة الصادقة يقدّس روح الله القدوس أولادنا وبناتنا، أي أعمال النفس والجسد معًا، فيكون لنا الفكر المقدس والأحاسيس الملتهبة بنار حبه والتصرفات اللائقة كأولاد لله.
بالتوبة الصادقة يرفع روح الله عن قلوبنا برقع الخزي والعار فنرى مجد الله، وندرك أسراره الفائقة السماوية.
هذا هو طريق التوبة، الذي فيه نصرخ، قائلين:
"لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وآباؤنا منذ صبانا إلى هذا اليوم، ولم نسمع لصوت الرب إلهنا" [25].
يعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة، قائلاً:
[هل يمكننا نحن أيضًا أن نقول كما قال هؤلاء: إننا أخطأنا؟ هذا يختلف عن القول: "لقد أخطأنا ونخطئ". فمن لا يزال في خطيته لا يقول: "لقد أخطأنا".
لكن ينطق بهذا من أخطأ وقد تاب توبة حقيقية.
يوجد في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة لأناس لم يعودوا يخطئون، ومع هذا يقولون: "لقد أخطأنا، لقد تعدينا شريعتك"، كما جاء في دانيال. كذلك يقول داود النبي: "خطايا شبابي وجهلي لا تذكر".
فلنعترف إذن بخطايانا، ليس خطايا الأمس وأول أمس فحسب، وإنما تلك التي مرَّ عليها 15 عامًا دون أن نكون قد ارتكبنا أية خطية خلال هذه السنوات الـ 15...
إن ذهبنا لنعترف بخطايا الأمس فقط نكون غير صادقين في توبتنا، "لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وآباؤنا منذ صبانا إلى هذا اليوم"...
تستلزم الجراحات وقتًا قبل أن تُشفى، هكذا أيضًا بالنسبة للرجوع، فإن الرجوع الكامل النقي إلى الله يتطلب أيضًا بعض الوقت[113]].
نختم حديثنا هنا عن التوبة والاعتراف بالعبارات الآبائية التالية:
v أول طريق التوبة هو إدانتنا لخطايانا[114].
v من يمارس التوبة بعدما يخطئ يستحق تهنئة لا الحزن عليه، إذ يعبر إلى خورس الأبرار[115].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لينتبه (الخاطئ) إلى خطورة الجرح،
ولا ييأس من عظمة الطبيب.
الخطية مع اليأس هي موت أكيد...
زينة العروسالأصحاح الرابع
أكثر عبارات هذا الأصحاح والأصحاحين التاليين، منظومة في العبرية شعرًا، لذلك يرجح أن تكون مجموعة خطب أو أقوال ألقاها النبي منظومة مقفَّاة، ليدفع الشعب إلى التوبة، ويحفظهم من الخطر المصَّلت على رقابهم.
إذ يطلب الله من شعبه الرجوع إليه، كاشفًا عن غيرته عليهم، وحبه الشديد نحوهم، يطلب إليهم ألا يرجعوا إليه بفسادهم ورجاساتهم، وإنما أن يتزينوا بجمال داخلي كعروس سماوية مقدسة.
1. التوبة وسيلة التزين[1-2].
2. التمتع بختان القلب[3-9].
3. ترك الأنبياء الكذبة[10-12].
4. إدراك خطة الله وقبول التأديب[13-18].
5. قبول الأنبياء الحقيقيين[19-22].
6. الشبع والاستنارة[23-29].
7. ترك البر الذاتي[30-31].
1. التوبة وسيلة التزين:
يقول الأب شيريمون: [إنه يقارن أورشليم (النفس البشرية) بامرأة زانية تطلب رجلاً، ويقارن الله في محبته لنا بزوج يموت في حبه لعروسه... أشبه برجل يحترق بنار محبته لامرأته، ويذوب لأجل حبه قدرما يراها تستخف به وتستهين[117]].
إنه يلح في طلب رجوعها إليه، لكنه يطلبها ترجع مقدسة له، إذ يقول: "إن رجعت يا إسرائيل يقول الرب، إن رجعت إليّ، وإن نزعت مكرهاتك من (فمك) من أمامي فلا تتيه" [1].
يطلب من عروسه أن تتخلى عن العبادة الوثنية، وعن جحودها له. هذه هي المكروهات... يبغضها الله لأنها تحتل قلب الإنسان، وتغتصب ملكوت الله، وتفسد الحياة
الداخلية، فتجعل النفس في حالة تيه، لا تعرف رسالتها ولا حتى تقدير الله لها.
لنترك كل صنم نُقيمة في القلب، وكل عبادة غريبة، وكل اتكال على ذراع بشر، وكل رغبة في إرضاء الناس وطلب مديحهم، وكل خطية بالفكر أو القول أو العمل... أي كل مكروه لدى الله. بهذا يتقبلنا الله عروسًا مقدسة له، وفينا يتبارك الكثيرون، إذ يجعلنا ليس فقط مُباركين بل بركة لغيرنا، يباركون الله العامل فينا وفيهم وينالون بركته.
يقول العلامة أوريجينوس: [ما هي الأشياء التي يجب على إسرائيل القيام بها حتى تبارك الشعوب الله فيه؟
"إن نَزَع مكرهاته من فمه" [1].
ولكن ماذا يعني هذا؟
إن كل ما نقوله من شر هو مكروه في فمنا. فلننزعه إذًا بنزع الشتائم، والكلمات الفارغة، والكلمات العقيمة التي من شأنها إدانتنا، لأنه بكلامك تتبرر وبكلامك ُتدان"[118]].
يطالبها ألا تحلف بالآلهة الوثنية بل به، تحلف بالحق والعدل والبر [2]. كان القسم قديمًا علامة الثقة بالإله الذي يقسم الإنسان به، لهذا عندما كان الله يطلب من شعبه القسم باسمه كان يطلب أن يحفظهم من القسم بالآلهة الوثنية والإيمان بها.
يعلق العلامة أوريجينوس على القول الإلهي: "وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر فتتبرَّك الشعوب به، وبه يفتخرون" [2]، قائلاً:
[لننظر إلى أنفسنا نحن الذين نحلف، ولنَر كيف أننا لا نحلف بالعدل، وإنما بدون عدل، حتى صارت أقسامنا كثيرة على سبيل العادة، لا على سبيل الحق.
المشكلة هنا هي أن نترك أنفسنا تُساق بواسطة الخطية، فنعتاد عليها. هذا ما ينتقده الرب بقوله: "وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر".
أننا نعلم أن الرب قال لتلاميذه في الإنجيل: "وأما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة" (مت 5: 34).
لندرس هذه الآية، ونضع الآيتين معًا. ربما يلزمنا أن نبدأ بالقول: "احلفوا بالحق والعدل والبر"، حتى إذا ما تقدمنا ونمونا في النعمة بعد ذلك نستعد ألا نحلف البتة، بل يكون لنا الـ "نعم" الذي لا يحتاج إلى تأكيد الأمور بالقسم، ويكون لنا الـ "لا" الذي لا يحتاج إلى شهادة إثبات أن الأمر ليس هكذا.
"وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر".
بالنسبة لمن يحلف لابد أولاً ألا يكون كاذبًا بل صادقًا، فيحلف بالحق. أما نحن البائسون فكثيرًا ما نُقسم كذبًا بالباطل.
إن افترضنا أننا نحلف بالحق، فإن هذا القسم يخالف الشريعة، إذ يجب أن يكون "بالعدل" بجانب أنه "بالحق"، لأنه إن افترضت أنني أحلف كعادة، ففي هذه الحالة لا يوجد عدل... لأننا نجعل من رب هذا الكون ومسيحه شاهدًا على أمر ما. فما أهمية هذا الأمر حتى أنحنى على ركبتي وأقسم؟...[119]].
مما يدعو البعض إلى الدهشة أن يقدم النبي التزام الشعب بالقسم باسم الرب الحيّ بالحق والعدل والبر علامة على التوبة. قد يبدو أن هذا الأمر تافه، لكن من يدرس الأمر في عمق يلاحظ أنه كاد الشعب كله والقيادات أن يعبدوا الأوثان، فكان قسمهم باسم الآلهة الغريبة. فالقسم باسم الرب الحيّ علامة على ترك العبادة الوثنية. الأمر الثاني أن ما ينطق به الفم إنما هو من فضلة القلب. فالقلب النقي المستقيم ينطق بالحق والعدل والبر، لا يعرف إلا الصدق، وليس للكذب موضع! وكأن القسم هنا يكشف عن استقامة الإيمان مع استقامة السلوك.
في اختصار نقول إن التوبة كما يقدمها لنا هذا الأصحاح ليست ندامة ورجوعًا عن الرجاسات فحسب، إنما هي رجوع وإخلاص لله واتحاد معه، فتتمتع بالحق الإلهي والعدل والبر.
أما الوعد فهو: "تتبرك الشعوب به، وبه يفتخرون" [2]. ما هو هذا الوعد الإلهي إلا التمتع بغنى الحياة الجديدة وكمالها كعطية إلهية.
قُدم هذا الوعد لآبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب (تك 12: 3؛ 18: 18؛ 26: 4). وقد تحقق الوعد بمجيء السيد المسيح الذي به تتبارك شعوب العالم.
2. ختان القلب:
إذ كانت مملكة إسرائيل قد عصت الرب علانية، وأقامت العبادة الوثنية عوض عبادة الله الحيّ، لذا طالبها بنزع هذه العبادة المكروهة بكل رجاساتها (1-2)، أما مملكة يهوذا فسلكت طريقًا آخر، وهي المزج بين العبادة الحقيقية والوثنية. في المظهر يذهبون في الأعياد إلى أورشليم، يقدمون ذبائح وتقدمات للرب، ويمارسون العبادة في شكلياتها، ويتمسكون بحرفية الناموس، أما قلوبهم فمرتبكة بالوثنية. إنهم يعتزّون بكونهم أهل الختان... بينما قلوبهم غير مختتنة. لهذا جاءت الوصية إليهم تلزمهم بالدخول إلى الأعماق، ليمارسوا ختان القلب الخفي، ويهتموا بالمجد الداخلي.
"لأنه هكذا قال الرب لرجال يهوذا وأورشليم:
احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك.
اختتنوا للرب، وانزعوا غُرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم.
لئلا يخرج كنارٍ غيظي فيحرق، وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم" [3-4].
جاءت الدعوة هنا إلى رجال يهوذا وأورشليم، وكما يقول العلامة أوريجينوس:
[أنني أتذكر ما قيل حديثًا حول المعنى الرمزي ليهوذا وسكان أورشليم: فإننا نحن أيضًا، إذا أعطانا الرب هذه النعمة، سوف نكون سكان أورشليم. بما أنه "حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا"، فإن كان كنزنا في السماء يكون قلبنا أيضًا في أورشليم السمائية، التي يقول عنها الرسول: "وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا فهي حرة" (غل 4: 26)[120]].
يستحيل أن يُرجى ثمر روحي إلهي ممن َيزرعون في أرض قفر مملوءة بالأشواك الخانقة، إنما يجب أن تُشق بشفرة المحراث لتبكيت تربة القلب القاسية... ففي مثل الزارع يقول السيد المسيح: "وسقط آخر على الشوك فطلع الشوك وخنقه" (مت 13: 7). وجاء في هوشع ضرورة حرث الأرض لنزع الشوك وزرع بذار البر: "ازرعوا لأنفسكم بالبر، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويعلمكم البر" (10: 12).
إن كانت تربة قلوبنا مملوءة أشواكًا فبصليب ربنا يسوع المسيح تُحرث فتصير صالحة، يُنزع عنها الشوك بكونه الغرلة. هذا هو ختان القلب الذي يرتبط بالصليب، ولا يختنق بأشواك هموم الحياة وملذاتها الباطلة.
يقول القديس أغسطينوس: [اقلبوا التربة الصالحة بالمحراث، ازيلوا الحجارة من الحقل، انزعوا الأشواك عنها...
احذروا من أن تختنق البذار الصالحة التي زُرعت فيكم خلال جهادي (رعاية القديس لهم)، وذلك بواسطة الشهوات واهتمامات هذا العالم.
كونوا الأرض الجيدة، وليأتِ الواحد بمئة والآخر بستين، وآخر بثلاثين[121]].
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما يُستخدم المحراث في الحقل فيقلب الأرض من أسفل ليُعد مقدمًا ملجأ آمنًا للبذار، حتى لا تنتثر على السطح، بل تختفي في رحم الأرض ذاتها، فتودع جذورها في آمان، هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نعمل، فنستخدم محراث الضيقات لحرث أعماق القلب.
ينصحنا نبي آخر، قائلاً: "مزقوا قلوبكم لا ثيابكم" (يؤ 2: 13).
لنمزق قلوبنا، حتى متى وُجد فيها زرع شرير، أو فكر مخادع نقتلعه بجذوره، فنهيئ تربة نقية لبذار الصلاح.
إن كنا الآن لا نحرث الأرض البور، إن كنا لا نبذر الآن، إن كنا لا نرويها الآن بالدموع، مادام وقت ضيق وصوم، فمتى نلوم أنفسنا؟! هل يحدث هذا عندما نصير في ُيسر وترف؟! مستحيل! فإن اليُسر والترف بوجه عام يقودانا إلى التراخي، كما تردنا الضيقة إلى الجهاد، ترد الذهن الذي ضل بعيدًا وصار هائمًا يحلم بأمور كثيرة[122]].
يرى العلامة أوريجينوس أن الحديث هنا ينطبق على المعلمين والكارزين، إذ يهتم بعضهم بتقديم العقائد الإيمانية خارج دائرة الخلاص العملي، فيكونوا كمن يقدمون بذارًا صالحة وسط الأشواك. إذ يقول:
["احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك" [3].
قيل هذا الكلام على وجه الخصوص للمعلمين والمبشرين؛ حتى لا ينطقوا بكلمات الإنجيل للسامعين قبل تهيئة حقولٍ جديدة (محروثة) في نفوسهم. لأنهم متى هيأوا حقولاً جديدة في النفوس، ومتى أصبح الناس مُعدين لاستقبال التعاليم كما في الأرض الجيدة الصالحة، عندئذ يزرعون ليس في الأشواك.
على العكس، قمنا نحن بزرع بذور مقدسة قبل أن نُعد حقولاً جديدة في عقول الناس، زرعنا عقيدة الآب والابن والروح القدس، والقيامة، والعقاب والراحة الأبدية والناموس والأنبياء وغير ذلك من تعاليم الكتاب المقدس. أننا بهذا نخالف الوصية التي تقول أولاً: "احرثوا لأنفسكم حرثًا" أعدوا لأنفسكم حقولاً جديدة، ثانيًا: "لا تزرعوا في الأشواك".
قد يقول أحد السامعين: أنني لست أعلم، فهذه الوصية ليست لي.
ليكن! كن مزارعًا (معلمًا) لنفسك، ولا تزرع في الأشواك، إنما أعدد حقلاً جديدًا من قطعة الأرض التي سلّمها لك الرب. اهتم بهذه الأرض. ابحث أين توجد الأشواك، أين توجد الهموم والاهتمامات المادية وإغراءات الغنى وحب الشهوة، وانزع في الحال تلك الأشواك التي في نفسك. ابحث عن المحراث الروحي الذي قال عنه يسوع: "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لو 9: 62). بهذا تكون قد أعددت حقلاً جديدًا. بعد إعداد هذا الحقل، اذهب وخذ بذارًا من المعلمين ومن الشريعة والأنبياء والكتابات الإنجيلية وكلمات الرسل، وازرعها في نفسك بتذكرها وتنفيذها. ستبدو لك أن هذه البذار تنمو من تلقاء ذاتها، لكن الحقيقة أنها لا تنمو من مجرد تذكرك إياها، بل الرب هو الذي ينميها. "أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله كان ينمي" (1 كو 3: 6)[123]].
يرى البابا أثناسيوس في الكلمات النبوية: "احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك" [4] دعوة للجدية في استخدام نعمة الله الغنية المجانية، لأن طريق الكسلان كسياج من شوكٍ (أم 15: 19). إنه يظن أن أرضه تنتج خبزًا بلا عمل، فإذا بها تخرج له شوكًا...
لدينا وصية رسولية ألا تكون النعمة المعطاة لنا باطلة، الأمور التي كتب عنها القديس بولس إلى تلاميذه شخصيًا، موصيًا إيانا بها من خلالهم، كقوله: "لا تهمل الموهبة التي فيك" (1 تي 4: 14).
يوجد مثل له ذات المعنى: "من يشتغل بحقله يشبع خبزًا، أما طرق الكسلان فسياج من شوك" (أم 19: 12، 15). لذلك يحذرنا الروح القدس ألا نسقط في مثل هذه الأمور، قائلاً: "احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك"[124]].
"اختتنوا للرب وانزعوا غُرل قلوبكم" [4].
إذ يحرث الإنسان بصليب رب المجد يسوع داخل القلب لينزع الأشواك، يتمتع بختان القلب الروحي الخفي، وكما يقول الرسول بولس موبخًا المتكلين على ختان الجسد الخارجي: "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا، اليهودي في الخفاء هو اليهودي؛ وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان، الذي مدحه ليس من الناس بل من الله" (رو 2: 28-29).
يقول القديس أغسطينوس: [يتفق هذا مع قوله: "دُعى أحد وهو مختون فلا يصر أغلف" (1 كو 7: 18). لقد كان يهوديًا، ودُعى مختونًا، ليته لا يطلب أن يصير أغلف، أي لا يعيش كمن هو ليس مختونًا[125]].
يقول العلامة أوريجينوس: [كان لابد أن يقول: "اختتنوا للرب". فإن الختان من الجانب الجسدي لم يقتصر على أهل الختان حسب شريعة موسى وحدهم، وإنما مارسه أناس آخرون كثيرون. فكهنة الأوثان المصريون كانوا يختتنون لها (أي للأوثان)، فكان ختانهم للأوثان لا للرب، أما ختان اليهود فكان يمكن أن يكون للرب.
إن كنا قد فهمنا معنى "اختتنوا للرب" بالمعنى الحرفي، فلننتقل إلى المعنى الرمزي حتى نعرف كيف يوجد بين المختونين من هم مختونون للرب، وآخرون مختونون ليس للرب.
توجد عقائد أخرى بخلاف عقيدة الحق أي العقيدة الأرثوذكسية، هؤلاء الذين يعتمدون على الفلسفة. إنهم مختونون في أخلاقهم وقلوبهم ويمارسون ما يمكن أن نطلق عليه الاعتدال (الفضيلة)... هؤلاء مختونون ليس للرب، لأن ختانهم يتم بعقيدة كاذبة. ولكن حين تذهب إلى الكنيسة، وتتبع تعاليمها الحقة، فإنك لا تكون مختتنًا فحسب وإنما تكون مختتنًا للرب[126]].
كما يقول العلامة أوريجينوس: [تُوجد غرلة في القلب يجب نزعها.
الغرلة هي خلقية منذ الولادة، يأتي الختان بعد ذلك؛ فما جاء بالولادة ينزع بالختان.
إذا كانت الوصية تقول غرل قلوبكم، لابد أن يكون هناك في القلب شيء منذ الولادة يسمى غرلة، يجب علينا نزعه حتى نكون مختتنين من غرلة قلوبنا.
إذا دققنا النظر في العبارتين: "لقد كنا بالطبيعة أولادًا في الغضب"، "جسد هذا الموت" الذي وُلدنا فيه، وإذا تأملنا في القول "ليس أحد طاهرًا من دنس ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض"، نستخلص كيف أننا ولدنا بخطايا وبـغرلة في قلوبنا.
إذا كان القلب الذي فينا هو الذي يحمل العقل، حيث توجد الأفكار، ومنه تخرج الأفكار الشريرة، فإن من ينزع الأفكار الشريرة ينزع أيضًا غرلة القلب. أما من لا ينزع غرلة قلبه (متجاوبًا مع عمل الروح القدس فيه)، فلينظر ما يتوعده به الله: "لئلا يخرج كنارٍ غيظي فيحرق وليس من يطفئ"[127]].
إذن ليكن لنا ختان القلب الداخلي للرب، يقوم على عمل الروح القدس الذي ينزع غُرلة القلب ويهب ختانه، يُصلب الإنسان العتيق ويهبنا الجديد في مياه المعمودية.
العماد هو ختان القلب والروح، يعيشه المؤمن كل أيام حياته، ليعمل روح الله فيه بلا انقطاع، حتى يمارس الحياة الجديدة المُقامة مع المسيح.
هذه هي زينة العروس، الزينة التي يهبها لها الروح القدس في مياه المعمودية، والذي لا يتوقف عن تجميلها كل أيام غربتها، زينة الروح الداخلية... فلا تسمع التوبيخ: "وأنتِ أيتها الخربة ماذا تعملين؟ إذا لبستِ قرمزًا، تزينتِ بزينة من ذهب، إذا كحلتِ عينيكِ، فباطلاً تحسنين ذاتك" [30].
إذ نقبل عمل الروح القدس الناري فينا يلتهب قلبنا المختون بالحب الإلهي، أما إذا استعاد الغرلة، أي أعمال الإنسان العتيق، فيحترق بنار غضب الله.
" لئلا يخرج كنار غيظي، فيحرق وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم" [4].
يقول العلامة أوريجينوس: [يشتعل غضب الله مثل النار بالنسبة للذين لم يختتنوا له، هؤلاء الذين لم ينزعوا عنهم غُرل قلوبهم. "وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم". طعام هذه النار هي الأعمال الشريرة التي نمارسها، فإن لم توجد أعمال شريرة لا تجد النار لها مأكلاً! [128]].
من لا يقبل عمل الروح الناري فيه يسقط في نار الغضب الإلهي، أي يسقط في مرارة تجلبها أعماله الشريرة عليه، كما جلبت خطايا يهوذا السبي بكل مذلته، هذا الذي يصفه إرميا النبي بصورة قاسية حتى لم يعد يقدر أن يحتمل المنظر [10]... كان صوت التحذير مستمرًا حتى لحظات السبي، إذ يقول:
"اخبروا في يهوذا وسمعوا في أورشليم وقولوا،
اضربوا بالبوق (shophar) في الأرض،
نادوا بصوتٍ عالٍ وقولوا:
اجتمعوا فلندخل المدن الحصينة.
ارفعوا الراية نحو صهيون.
احتموا. لا تقفوا. لأني آتي بشرٍ من الشمال وكسرٍ عظيم.
قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم.
خرج من مكانه ليجعل أرضك خرابًا،
تخرب مُدنك فلا ساكن،
من أجل ذلك تنطقوا بمُسُوح،
الطموا ولولوا،
لأنه لم يرتد حمو غضب الرب عنا.
ويكون في ذلك اليوم يقول الرب،
إن قلب الملك يُعدم وقلوب الرؤساء،
وتتحير الكهنة وتتعجب الأنبياء" [5-9].
الله القدوس الذي يطلب عروسه مزينة بالقداسة، إذ يراها تمارس الشر الذي يدفعها إلى السبي ينذرها، ويبقى ينذرها حتى اللحظات الأخيرة، فإنه يشتاق ألا تسقط في مرارة السبي... لقد أرسل من يخبرها، ويضربوا بأبواق كلمته، وينادوا بصوتٍ عالٍ، لعلهم يتركون القرى غير الحصينة ويدخلون إلى المدن الحصينة ويرفعون راية صهيون؛ أي يدخلون بالتوبة إلى حصنٍ إلهي ويحملون راية الكنيسة، راية الحب الإلهي، فيحتمون من الخطر.
يسألهم: "لا تقفوا".... إذ يليق بالعروس أن تتحرك تجاه عريسها، تعلن حبها له عمليًا، كما تحرك هو أولاً نحوها، باذلاً حياته لأجلها.
إنه يكرر لها الدعوة بالتوبة حتى لا تسقط تحت التأديب القاسي.
يقول العلامة أوريجينوس: [كلمة الله تيقظ السامع، وتُعِده للحرب ضد الشهوات، وضد القوات الشريرة، وتهيئه أيضًا للولائم السمائية. إنها هنا بمثابة بوق.
"نادوا بصوتٍ عالٍ، وقولوا:
اجتمعوا فلندخل المدن الحصينة" [5].
لا يريدنا الله أن ندخل إلى مدينة غير محصنة، بل إلى مدينة محصنة. فقد تحصنت كنيسة الله بالحق الذي في المسيح يسوع؛ هو نفسه حصنها، كما يقول داود النبي في المزمور: "الرب صخرتي وحصني ومنقذي" (مز 18: 2).
أنتم جميعًا الذين كنتم خارج صهيون "ارفعوا الراية نحو صهيون (اهربوا إلى صهيون)؛ احتموا؛ لا تقفوا" [6].
أنتم الذين كنتم في تقدمٍ ونموٍ احتموا في صهيون. "لأني آتي بشرٍ من الشمال وكسر عظيم". عند مجيء هذا الشر، من لا يحتمي ويدخل المدن الحصينة، أي كنائس الله، يبقى خارجًا، يمسكه الأعداء ويقتلونه.
من هو هذا العدو؟ لننظر إلى تكملة الحديث: "قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم" [7]. هذا هو العدو الذي يجب أن نهرب منه. من هو هذا الأسد الذي يتتبعنا؟ ينبهنا إليه القديس بطرس، قائلاً: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9).
يوجد أسد قد صعد من غابته؛ أين هي هذه الغابة؟ إنه سقط إلى أسفل. نزل إلى أسفل الأرض، إلى أعماقها.
أنت إنسان، أعلى من الشيطان، لأنك أفضل منه على أي الأحوال، أما هو فهبط إلى أسفل بسبب فساده...
إنه يريد أن يدخل إلى أرضك، يريد أن يفترس كل واحدٍ منا...
بما أن الأسد قد صعد إليك ليهددك ويخرِّب أرضك، البس المسوح وابكِ وتنهد وتضرع إلى الله بالصلوات، فيهلك هذا الأسد، وتتخلص أنت منه، ولا تقع بين أنيابه.
يحاول هذا الأسد أن يصطادك عن طريق آذانك، إذ يلقي إليك كلمات كاذبة محببة إلى نفسك، فيجعلك تحيد عن طريق الحق.
يريد أن يلتهم قدميك، وينزعها من فوق أرض الحق.
تمنطق بمسوح، واقرع صدرك، ابكِ، واصرخ صرخات الحرب حينما ترى العدو يهددك، فيرتد حمو غضب الرب عنك، عندئذ تستطيع بكل هدوء وطمأنينة أن تتصدى لكل هجمات الأسد، لأنك قد دخلت المدينة الحصينة[129]].
في وسط الخطر يفتح الله باب الخلاص، معلنًا أن غضبه لا يدوم إلى الأبد. إنه يغضب لأنه يرى العدو قادمًا كأسدٍ ليفترسنا ونحن في تهاوننا لا ندخل إليه كمدينة حصينة، ولا نقبله ملجأ لنا. يضرب كما ببوقٍ لكي نرجع إليه فيرجع هو إلينا.
ختان القلب يُكسب النفس جمالاً في عيني عريسها السماوي، مما يثير عدو الخير ضدها، فتدخل في حرب روحية، متسلحة بروح التوبة والاتضاع مع الاتكال على إمكانيات عريسها... ومع كل موقعة تتمتع بنصرة جديدة، فيزداد جمالها بهاءً.
3. ترك الأنبياء الكذبة:
كان قلب إرميا الرقيق يعتصر وهو يرى: "قد بلغ السيف النفس" [10].
يرى الشعب نائمًا فقد ظنوا أن الله خدعهم وخدع مدينته المقدسة أورشليم، ظنوه يتحدث على فم الأنبياء الكذبة، القائلين: "يكون لكم سلام" [10]. إنها كلمات الأنبياء المعسولة التي تعطي طمأنينة كاذبة ومؤقتة، يستطيب لها القادة العسكريون والدينيون مع الشعب، لكنها مجرد تسكين تدفع بهم إلى الخراب، وتدخل بهم إلى محاكمة الله لهم [14].
تقوم زينة العروس الداخلية على الشركة مع الله، أساسها التوبة الصادقة وختان القلب. لا تعطي أذنها للكلمات المهَّدئة للنفس إلى حين، الكلمات الطيبة اللينة، لكنها مخادعة، إذ تسمع "سلام، سلام، ولا سلام" (6: 14). هذه التي قال عنها الرب: "بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي؛ لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم، برؤيا كاذبة وعرافة وباطلٍ ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم... وهم يقولون: لا يكون سيف ولا جوع في هذه الأرض، بالسيف والجوع يفنى أولئك الأنبياء، والشعب الذي يتنبأون له يكون مطروحًا في شوارع أورشليم من جرى الجوع والسيف، وليس من يدفنهم هم ونساؤهم وبنوهم وبناتهم، واسكب عليهم شرهم" (14: 14-16). هؤلاء "يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم الرب" (23: 26).
لترفض الكنيسة هذه الكلمات، ولتتقبل كلمات الله النارية، حتى وإن بدت قاسية ومُرّة، لكنها هي نار إلهية قادرة أن تهيئها كعروس مزينة لرجلها (رؤ 21: 2).
زينة العروس لا السلام القائم على كلمات الكذب التي نستطيب لها، وإنما على كلمات الرب التي تنزل على القلب كسيفٍ تبتر كل أثر للغرلة، وتحطم شره، ليُعلَن كمقِدسٍ للرب ومسكنٍ لروحه القدوس. لنقبل كلماته الجارحة، التي بجراحاتها تشفي جراحاتنا!
إلى يومنا هذا لا تزال النفس تنخدع لا بكلمات الأنبياء الكذبة الخارجين بل بالذين هم في داخلها، الأفكار الخطيرة المخادعة، لتستكين للخطية وتضرب بالشركة الإلهية والوصية عرض الحائط. مثل هذه النفس يبكى عليها السيد المسيح كما على أورشليم، قائلاً: "إنك لو علمتِ أنتِ أيضًا حتى في يومكِ هذا ما هو لسلامكِ، ولكن الآن قد أُخفي عن عينيكِ، فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤكِ بمترسة ويحدقون بكِ ويحاصرونكِ من كل جهة، ويهدمونكِ وبنيكِ فيكِ ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجرٍ لأنكِ لا تعرفين زمن افتقادكِ" (لو 19: 42-44).
بعدما يقدم الله تأديبه يحذر من العقوبة الأبدية... فقد سمح لهم بالسبي، لكن إن لم يرجعوا يسقطون في دينونة أبدية، إذ يقول: "في ذلك الزمان يقال لهذا الشعب ولأورشليم: ريح لافحة من الهضاب في البرية نحو بنت شعبي، لا للتذرية ولا للتنقية. ريح أشد تأتي لي من هذه. الآن أنا أيضًا أحاكمهم" [11-12].
إنه يتحدث مع شعبه كابنته "بنت شعبي" أو ربما" ابنتى الشعب my daughter-people" (11؛ 8: 19، 21، 22)، مؤكدًا مدى اهتمامه بالشعب المنتسب إليه كابنة له، وإن كانت تقابل حبه واهتمامهبالعصيان. لقدسمح لها بالسبي كريحٍ للتذرية، تفصل الحنطة عن الزوان، وبالتنقية كالنار التي تنقي الذهب والفضة... لكنه إذ يحل يوم الدينونة تصير العقوبة أبدية!
4. إدراك خطة الله وقبول التأديب:
إذ ترفض النفس الكلمات الكاذبة لتقبل كلمة الله الحية تكتشف خطة الله من نحوها، خاصة من جهة تأديبها. وكما يؤكد هذا السفر في أكثر من موضع أن ما يحل بيهوذا من تأديبات خاصة السبي إنما هو بسماحٍ إلهي، لكنه هو ثمر طبيعي لشر يهوذا، وكشف عن حقيقة طبيعة الخطية التي قبلها يهوذا بإرادته.
شبَّه السبي القادم بصعود أسدٍ من غابته وزحف مهلك الأمم لتخريب الأرض [7]. مرة أخرى يشبهه بهبوب ريح عاصفة سريعة التدمير:
"هوذا كسحابٍ يصعد،
وكزوبعة مركباته،
أسرع من النسور خيله،
ويل لنا لأننا قد أُخربنا" [13].
إنها صورة مؤلمة لهجومٍ عنيفٍ يثيره العدو... يظهر كسحابٍ من يقدر أن يصعد إليه ليحاربه أو يمسك به؟! وكزوبعة عاصفة قادمة من الصحراء من يقدر أن يصدها؟! وكخيلٍ له سرعة النسور من يقف أمامها؟!
أليست هذه هي صورة حرب عدو الخير للنفس التي تُسلم ذاتها للشر، إذ يصعد الشر في القلب بروح الكبرياء ليهوى بالإنسان إلى أعماق الجحيم، فيكون كسحابٍ مخادعٍ لا يحمل مياه النعمة التي تروى الأرض فتقدم ثمرًا، بل سحاب الكبرياء وحب المجد الباطل. إنه كزوبعة عاصفة تفقد النفس بصيرتها الروحية وقدرتها على معرفة أسرار الله، وكالخيل المسرع بعنف يحطم ويخرّب، في سرعة النسور التي تخطف الفريسة وتنطلق بها.
ما يحل بنا من تأديبات إلهية هو بسماح إلهي، إذ يسمح لنا أن نذوق عربون ثمر الخطية لعلنا نرجع عنها ونلتجئ إليه. لهذا يكمل حديثه، مقدمًا علاجًا شافيًا للنفس:
"اغسلي من الشر قلبكِ يا أورشليم لكي تخلصي،
إلى متى تبيت في وسطكِ أفكاركِ الباطلة؟!" [14].
بالتأديب الإلهي تدرك النفس حاجتها للغسل لكي تخلص، أي لتنعم بشركة المجد... فتحمل جمال عريسها وبهاءه عليها.
هذا الغسل هو من نعمة الله الغنية، لكن الله لا يغسلها بغير إرادتها، لذا يقول: "اغسلي". الأمر بين يديها، لها أن تسلم ذاتها لروح الله القدوس فيغسلها، ولها أن تبقى في خطاياها وسط عنادها وعصيانها.
يقول الأب شيريمون: [في هذا كله إعلان عن نعمة الله، وحرية الإنسان، حتى متى رغب في السلوك في طريق الفضيلة يقف سائلاً مساعدة الرب[130]].
ويرى الأب سيرينوس في هذه العبارة تأكيدًا لسلطان الإنسان على الخطية، إذ يقول:
[إذا ما جاهدنا كبشرٍ ضد الاضطرابات والخطايا تصير هذه تحت سلطاننا، وفق إرادتنا، فنحارب أهواء جسدنا (الشريرة) ونهلكها، ونأسر حشد خطايانا تحت سلطاننا، ونطرد من صدورنا الضيوف المرعبين، وذلك بالقوة التي لنا بصليب ربنا، فنتمتع بالنصرة التي نراها في مثال قائد المئة روحيًا (مت 8: 9)[131]].
يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن الاغتسال الداخلي، فيقول: [إن تصلي بأيدٍ غير مغسولة هو أمر تافه، أما أن تصلي بذهنٍ غير مغتسل فهو أبشع الشرور. اسمعوا ما قيل لليهود الذين انشغلوا بالدنس الخارجي: "إغسلي من الشر قلبك يا أورشليم... إلى متى تبيت في وسطكٍ أفكارك الباطلة؟!" [14]. ليتنا نحن أيضًا نغتسل لا بالوحل وإنما بماءٍ نظيف، بالصدقة لا بالطمع. لنحد عن الشر ونفعل الخير (مز 27: 27)[132]].
ليغتسل قلبنا، الذي هو أورشليمنا الداخلية، فيقدر على معاينة الرب، ويقبله ساكنًا فيه، بل ويبيت، عوض أفكارنا الباطلة التي استقرت واستراحت فيه زمانًا طويلاً!
يعود فيذكرنا بأن التأديب قد أوشك حلوله قريبًا جدًا، إذ بلغ صوت القادمين جبل دان وانتقل بسرعة البرق إلى جبل إفرايم [15] ليبلغ أورشليم ذاتها. فلا مجال للتأخير بعد!
لا يليق بها أن تلوم الرب المؤدب أو تلوم أداة التأديب، بل تلوم نفسها، إذ يقول:
"لأنها تمرَّدت عليّ يقول الرب.
طريقك وأعمالك صنعت هذه لكِ
هذا شركِ، فإنه مرّ، فإنه قد بلغ قلبك" [17-18].
بإرادتك اخترت الشر والعصيان، فاحتلت المرارة قلبك عوض ملكوت الله المفرح!
كما يقول: [لنغتسل نحن أيضًا لا بالوحل بل بماء لائق، بالصدقة لا بالطمع. لنترك الشر ونصنع الخير (مز 37: 27)[133]].
5. قبول الأنبياء الحقيقيين:
إن كان يليق بالعروس أن ترفض كلمات الأنبياء الكذبة المعسولة لتدرك خطة الله لخلاصها من خلال التأديب، فتغتسل لا بالمياه بل بدموع التوبة، فإن النبي لا يقف ناقلاً لكلمات الله فحسب وإنما كعضو في العروس يئن ويتوجع لآلامها.
لا يمكننا أن نظن في الأنبياء أو المعلمين أنهم ناقلون لكلمة الله فحسب، ومعلنون عن مشيئته الإلهية، ومصلون لأجل الشعب، وإنما هم رجال الله المملئون حبًا... أعضاء في الجسد، يئنون ويذوبون مع كل ألم! لهذا يقول إرميا النبي:
"أحشائي أحشائي!
توجعني جدران قلبي!
يئن في قلبي.
لا أستطيع السكوت! [19].
هنا يكشف النبي عن حبه الشديد لشعبه. يتحدث لا كمعلمٍ قاسٍ، ولا كمنذرٍ فحسب، وإنما يتكلم من خلال أحشائه الداخلية، إنها تتمزق، وجدران قلبه تتوجع... أنينه الداخلي لا ينقطع، وهو يرسم أمامه صورة بلوى تلحق بأخرى هذه التي ستحل بهم! كم كان يود ألا يحمل إليهم هذا النبأ المرّ. لكنه لم يمكن ممكنًا له أن يصمت، وهو يرى الخطر يحل بهم. لقد شعر بالعجز، إد لم يعد قادرًا أن يشفع فيهم، لكنه لا يقدر ألا يتألم ويتأوه لأجلهم!
حقًا أنه يقدم كلمة الله بكل صدقٍ، لكنه وهو يقدمها يعلن أيضًا - إن صح التعبير - حزن الله على شعبه، فإنه ما كان يود لهم هذا المُرّ الذي جلبوه على أنفسهم كثمرة طبيعية لعصيانهم.
هذه هي إحساسات كل راعٍ صادقٍ في رعايته، إنه يصرخ مع صرخات الشعب بكونهم أحشاءه وجدران قلبه... يئن مع أناتهم ويشاركهم فرحهم ونموهم الروحي. يقدم أحشاءه لتتمزق ثمنًا لحبه لشعب الله!
هذا هو عمل الخطية، يُذيب قلب الشعب فيذوب معهم قلب الراعي. عندما خان الشعب الله قيل: "ذاب قلب الشعب وصار مثل الماء" (يش 5: 7). هذا هو عمل الخطية. لقد حطمت الشعب كله وأفقدته كل شجاعة وقوة وصيرت قلبه كالماء يسيل وليس من يقدر أن يعين أو يسند. لهذا لا تعجب إن كان إرميا النبي إذ يدرك فاعلية الخطية المرّة يقول: "أحشائي أحشائي، توجعني جدران قلبي، يئن في قلبي، لا أستطيع السكوت، لأنكِ سمعتِ يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب" [19]. وإذ حمل السيد خطايانا قال على لسان النبي: "كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي" (مز 22: 14)، يا لبشاعة الخطية!
"سمعتِ يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب.
بكسرٍ على كسرٍ نُودي،
لأنه قد خربت كل الأرض.
بغتة خربت خيامي وشققي في لحظة.
حتى متى أرى الراية وأسمع صوت البوق؟!" [19-20].
سمع النبي بنفسه لا بأذنيه، بروح النبوة، ووقف على أحداث الحرب القادمة كأنه حاضر، يسمع ويرى أمورًا لا تُحتمل. إنه لم يطق أن يتطلع إلى ذلك اليوم الرهيب.
إنه يصدق صوت الرب لنفسه الداخلية أكثر من تصديقه لأصوات تسمعها الأذن، وها هو يصف الخراب الحال على الشعب، لييقظ فيهم مخافة الرب المقدسة ويحفظهم من الدينونة بالتوبة.
رأى خرابًا يجلب خرابًا بلا توقف، كل يستدعى الآخر... يرى أحداثًا مفاجئة متوالية تحل بالقرى (الخيام) والمدن (الشقق).
يقول النبي: "أحشائي أحشائي"، فقد استخدم اليهود أعضاء الجسم المختلفة للتعبير عن الخبرات النفسية. كانت الأحشاء في نظرهم مركزًا للعواطف، أو عرشًا لقواها، كما جاء في (إش 16: 11) "لذلك ترن أحشائي كعودٍ من أجل موآب" وجاء في الرسالة إلى أهل كولوسي "أحشاء رحمة" (3: 12).
في مرارة نفسه صرخ نحو الله: متى ُتنزع هذه الكارثة؟ إلى متى يرى الحرب ويسمع صوت البوق؟ يجيبه الله قائلاً بإن الأمر في أيديهم هم، فإن شرهم وغباوتهم وجهلهم للحق وإصرارهم على الفساد هو السبب، ولا علاج إلا التوبة والرجوع إليّ، إذ يجيب النبي، قائلاً له:
"لأن شعبي أحمق.
إياي لم يعرفوا.
هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين.
هم حكماء في عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون" [20].
اعتاد الله ألا ينسب الشعب إليه متى صار شريرًا، لكن أمام مرارة نفس النبي يقول "شعبي"... وكأنه يقول لإرميا النبي، إن كنت مُر النفس برؤيتك ما يحل بهم، فإنهم شعبي، لا أود أن أقسو عليهم... هم ألقوا بأنفسهم في الفساد لأنهم لم يعرفوني معرفة الإله الذي يملك على القلب، ومعرفة المخلص المنقذ من الفساد، معرفة الصديق المحب... معرفتهم لي شكلية، لا معرفة الخبرة الحية. إنهم جاهلون وغير فاهمين، يلقون أنفسهم بأنفسهم في المرارة.
لقد وهبتهم الحكمة لكنهم استخدموها في عمل الشر لا في الصلاح. أساءوا إليّ وإلى عطاياي لهم.
نخلص من هذا كله أن صرخات الأنبياء الحقيقيين ليست إلا صدى لصوت الله الذي لا يطيق فساد عروسه وغباوتها وجهلها، بل يطلبها عروسًا مزينة بحكمته ومعرفته الحية.
هذه هي الزينة التي يطلبها الأنبياء الحقيقيون لا الكاذبون.
يلقب القديس إكليمنضس الإسكندري المؤمن الحقيقي "غنوسيًا"، أي صاحب معرفة: [يجب على الغنوسي أن يكون كثير المعرفة[134]].
[الغنوسي الذي أتحدث عنه يدرك ما يبدو للآخرين غير مدرك، إذ يؤمن أنه ليس شيء غير مدرك لدى ابن الله، وليس شيء لا يمكن تعلمه. الذي تألم حبًا فينا لا يخفي شيئًا من المعرفة اللازمة لتهذيبنا[135]].
[يبدو لي أنه يوجد أمور ثلاثة في قدرة الغنوسي:
أولاً: معرفة الأشياء؛
ثانيًا: تنفيذ ما يقترحه اللوغوس (الكلمة)؛
ثالثًا: القدرة على تقبل الأسرار المخفية في الحق[136]].
6. الشبع والاستنارة:
يجيب إرميا النبي مؤكدًا أن الجهل هو سبب الخراب الذي يحل بالشعب، فإن ما يحل من تأديبات إنما يكشف عن الفراغ أو الخراب الداخلي للشعب كما للنفس، وأيضًا عن الظلمة الداخلية التي تفسد البصيرة.
ما رآه النبي هو انعكاس لما هو خفي في حياة الشعب.
"نظرت إلى الأرض وإذا هي خربة وخالية،
وإلى السموات فلا نور لها.
نظرت إلى الجبال وإذا هي ترتجف.
وكل الآكام تقلقلت.
نظرت وإذا لا إنسان،
وكل طيور السماء هربت.
نظرت وإذا البستان برية،
وكل مدنها نُقصت من وجه الرب من وجه حمو غضبه" [23-26].
التصوير الذي يقدمه لنا إرميا النبي هنا يذكرنا بما ورد في الأصحاح الأول من سفر التكوين حين كانت الأرض خربة وخالية، وكان الظلام سائدًا، ولم تكن هناك حياة!يكرر النبي كلمة "نظرت" أربع مرات، وكأنه تطلع إلى العالم بجهاته الأربع (الشمال والجنوب والشرق والغرب)، فماذا رأى؟ رأى شبه عودة إلى ما قبل الخلقة كما وردت في سفر التكوين:
أرض خربة وخاوية،
ظلمة عوض النور،
ارتجاف للجبال الثابتة،
هروب للطيور،
عالم قفر لا يسكنه إنسان وبلا نباتات! لقد أفسدت الخطية العالم الجميل المثمر الذي خلقه الله لأجل الإنسان. لقد حطم الإنسان نفسه وحطم معه الخليقة الأرضية!
ما هي الأرض إلا جمهور الشعب الذي كرَّس طاقاته للعبادة الوثنية ورجاساتها، فصاروا كأرض خربة. وما هي السموات إلا القيادات الدينية والمدنية التي كان يجب أن تنير الطريق للعامة، لكنها صارت كسموات بلا نور، تبعث حالة من الضيق والكآبة.
وما هي الجبال إلا النفوس التي كان لها دورها القيادي الشعبي، يظن الكل أنهم راسخون كالجبال، فإذا بهم يرتجفون...
لعله قصد بالجبال والآكام المرتفعات التي بُنيت عليها المذابح الوثنية وُقدمت عليها ذبائح للأصنام؛ عوض أن تحميهم، صارت ترتجف وتتقلقل، تحتاج إلى من يسندها!
اختفاء كل إنسان إشارة إلى اختفاء كل تعقل حكيم، وهروب طيور السماء إشارة إلى فقدان الأمان، وتحول البستان إلى برية علامة الخراب الكامل...
إن كان إصرار الإنسان على الشر وعدم رغبته في التوبة والرجوع إلى الله يحرمه من عمل روح الله القدوس فيه، فإنه يعود إلى حال الأرض قبل أن يرف عليها روح الله ليخلق منها عالمًا جميلاً...
أقول ما أحوجنا إلى الرجوع إلى الخالق، ليعمل بروحه القدوس فينا:
عوض الأرض الخربة الخالية نجد عالمًا جميلاً، بمعنى عوض الجسد بشهواته الفاسدة نتسلم جسدًا مقدسًا في الرب.
عوض السموات التي بلا نور تشرق فيها الشمس، بمعنى عوض النفس التي سادتها الظلمة يشرق شمس البر فيها.
عوض الجبال التي ترتجف والآكام التي تتقلقل نرى ثباتًا وأمانًا... بمعنى تتحول إمكانياتنا وقدراتنا ومواهبنا للبناء بقوة، لا يزعزعها العالم كله!
عوض الفراغ حيث لا إنسان ولا طير، تمتلئ قلوبنا بالشركة مع القديسين والسمائيين، فنجلس مع مسيحنا في السمويات.
عوض البرية تصير قلوبنا بستانًا مثمرًا؛ ندعو مسيحنا أن يأكل من ثمر جنته التي فينا.
عوض هروب المدن من وجه الرب ومن وجه حمو غضبه، نجتذب الكثيرين للتمتع بالحضرة الإلهية!
بمعنى آخر جمال العروس يمتد إلى تقديس الجسد والنفس والطاقات والمواهب... فتتمتع بشبعٍ روحي واستنارة روحية فائقة.
الله الذي يطلب شبعنا واستنارتنا حين يؤدب يعطينا فرصة للرجوع إليه، إذ يقول: "خرابًا تكون الأرض، ولكنني لا أفنيها" [27]. إنه يترك بقية يقدسها وينميها... إنه لا يود أن يُفنى، بل أن يُقدس ويبني!لئلا بقوله: "لا أفنيها" يتهاون الشعب ويستغل مراحم الله، عاد ليؤكد التأديب القاسي: "من أجل ذلك تنوح الأرض، وتظلم السموات من فوق، من أجل أني تكلمت قصدت ولا أندم ولا أرجع عنه" [28]، إنه لا يرجع عن تأديبه لهم ماداموا لا يرجعون إليه...
7. ترك البر الذاتي:
إن كان الله يطلب شبع العروس واستنارتها، فإنه يؤكد عجزها عن تحقيق ذلك بنفسها، فهي في حاجة إليه بكونه مصدر جمالها وشبعها واستنارتها:
"وأنتِ أيتها الخربة ماذا تعملين؟
إذا لبستِ قرمزًا، إذا تزينتِ بزينة من ذهب، إذا كحلتِ بالإثمد عينيكِ، فباطلاً تحسنين ذاتك، فقد رذلكِ العاشقون" [30].
إن ظنت نفسها غنية تلبس القرمز، وإن خزائنها مملوءة بالجواهر الذهبية، وجميلة تكحل عينيها بالإثمد... تبقى مرذولة ليس من الله فقط بل حتى من عاشقيها. لقد كحلت إيزابل الملكة الشريرة عينيها بالإثمد، وزينت رأسها، وتطلعت من الكوة... لكن ياهو قال للخصيان: اطرحوها، فسال دمها على الحائط وعلى الخيل (2 مل 9: 30-33).
كانت النساء يكحلن أعينهن بالاثمد لإبراز اتساع العينين علامة الجمال في العالم القديم. هكذا فعل هذا الشعب، صار كامرأة تتزين وتبرز جمالها لأصحابها، فإذا بهم يصيرون قاتليها!
مسكين الإنسان الذي في جهاده الروحي يتكئ على بره الذاتي، يفقد كل جمالٍ داخلي بل ويصير قاتلاً لنفسه، ويسمع التوبيخ الإلهي: "لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان، أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مُصفي بالنار لكي تستغني، وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك، وكحل عينيك بكحل لكي تبصر" (رؤ 3: 17-18).
الأصحاح الخامسإن كان الله قد دعى عروسه لكي تتجمل له بالزينة الداخلية، ففي عتابٍ تسأله: "لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه؟" [9] لماذا يستخدم الله كلمته النارية المؤدبة بقسوة؟سرّ التأديب
الله كعريسٍ سماوي يتجاوب مع عروسه بروح الحوار المفتوح، وكأب يوضح لأولاده سرّ معاملاته معهم حتى لا يسقطوا في التذمر أو اليأس، ولا يظنوا أن الأمور تسير اعتباطًا، إنما يليق بهم أن يتفهموا خطة أبيهم حتى يثقوا فيه ويرجعوا إليه.
1. لم يجد بينهم بارًا واحدًا[1-2].
2. لم يقبلوا التأديب الأوَّلي[3-6].
3. أساءوا استخدام عطاياه[7-9].
4. قبلوا كلمات المخادعين[10-18].
5. فقدوا البصيرة الداخلية[19-24].
6. اصطادوا الآخرين[25-29].
7. تجاوبوا مع الرعاة في الشر[30-31].
1. لم يجد بينهم بارًا واحدًا:
إن كان الله هو الذي يتساءل أو نبيّه إرميا عن إمكانية وجود شخصٍ واحدٍ يعمل بالعدل، فإن الأمر حقًا محزن للغاية.
"طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها،
هل تجدون إنسانًا أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها؟!" [1].
إذ أراد إبراهيم أن يشفع في سدوم وعمورة قال لله: "أفتهلك البار مع الأثيم؟! عسى أن يكون خمسون بارًا في المدينة. أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارًا الذين فيه؟!" (تك 18: 23-24). وإذ دخل معه في حوار طلب في النهاية أن يصفح عن المكان من أجل عشرة، لكنه لم يجد فيها عشرة أبرار. أما هنا فالله يطلب أن يجد في أورشليم إنسانًا واحدًا عاملاً طالبًا الحق لكي يصفح عنها. لم يجد إنسانًا بارًا بين القادة المدنيين والدينيين ولا بين العامة من الشعب!
كان يوسف الشاب الصغير الغريب بارًا، من أجله بارك الرب بيت فوطيفار، ومن أجله أنقذ مصر كلها والبلاد المحيطة بها من المجاعة.
يعبر إشعياء النبي عن حال الشعب وقد فقدوا كل قدسية: "لأن الصدق سقط في الشارع، والاستقامة لا تستطيع الدخول، وصار الصدق معدومًا، والحائد عن الشر يُسلب؛ فرأى الرب وساء في عينيه أنه ليس عدل" (إش 59: 14-15).
حقًا إن كان الله يدعونا للشهادة لإنجيله، فإن حياتنا الإنجيلية المقدسة وسلوكنا ببر المسيح يرفع غضب الله عنا وعن عائلاتنا وعن كنائسنا وعن بلادنا وعن العالم!
الله يطلب إنسانًا لكي يصفح عن أورشليم. ُترى من هو هذا إلا ابن الإنسان، الله الكلمة، الذي صار بالحق إنسانًا لكي بدمه يكفر عن خطايا العالم كله؟! "إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 1-2).
هذا هو الشفيع الذي يسكن القلب "أورشليم الداخلية" فيصنع صلحًا للنفس والجسد بكل طاقاتهما مع الآب. هذا الذي يفرح به الآب ويطلبه قائلاً: "طوفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانًا، أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها؟!" [1]. إنه ربنا يسوع المسيح المختبئ في أورشليمنا الداخلية الذي به ننال الصفح عن خطايانا!
2. لم يقبلوا التأديب الأوَّلي:
ربما يجيب أحد: كيف لا يوجد بار بينهم وهم يتعبدون لله الحيّ؟
حقًا إنهم يعبدون الله الحيّ ويحلفون به، لكن عبادتهم غير مقبولة، ولا تبررهم.
أولاً: لأنهم إذا ما حلفوا بالله الحيّ، يحلفون بالكذب [2]. لقد غضب إرميا إذ رآهم يطلبون الله شاهدًا وهم يكذبون. لقد ظنوا أن مجرد ذكر اسم الله يكون درعًا وحماية لهم، وفاتهم أن هذا يزيد غضب الله عليهم، لأنهم يحلفون باسمه باطلاً.
ثانيًا: كانوا غير مستقيمين، يحلفون بالله الحيّ كما يحلفون بالآلهة الوثنية، إذ يقول في نفس الأصحاح: "كيف أصفح لكِ عن هذه؟! بنوكِ تركوني بما ليس آلهة" [7].
مما أحزن قلب الله أن الجميع - الفقراء والعظماء - قد أبوا قبول التأديب الإلهي، وعوض الرجوع إلى الله ازدادوا قساوة، فصارت وجوههم أكثر صلابة من الصخر.
"يارب أليست عيناك على الحق (الأمانة)؟
ضربتهم فلم يتوجعوا.
أفنيتهم وأبوا قبول التأديب.
صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر.
أبوا الرجوع" [3].
يقول النبي: "يارب أليست عيناك على الأمانة؟"
قبل أن يتحدث عن التأديب يؤكد النبي أن الله في تأديباته كما في لطفه يتطلع إلى الأمانة. يريد "الإيمان" الحيّ عاملاً فينا، لنكون أمناء حقيقيين، فننعم بالحق.
إنه يتطلع إلى مؤمنيه كأحباء يستحقون التمتع بنظراته، أما الأشرار المصرون على شرهم فلا يستحقون التطلع إليهم.
يقول العلامة أوريجينوس: [كما أن "عيني الرب على الصديقين" (مز 33: 16)، ويحول عينيه عن الظالمين، كذلك عيناه على الإيمان، ويحولها عن عدم الإيمان...
يقول القديس بولس: "أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة.
كما أن عينَيْ الرب على الإيمان، فهما أيضًا على الرجاء، كذلك على المحبة.
وبما أن الروح هو "روح القوة والمحبة والنصح" (2 تي 1: 7)؛ إذن فعينا الله على القوة وأيضًا على النصح والحق، وباختصار فإن عيني الرب على جميع الفضائل.
إن كنت بدورك تريد أن تضيء عينا الرب عليك، يلزمك أن تلبس الفضائل... فيُقال عنك: "يارب عيناك على كل شخص فاضل اقتنيته لك".
إذ تنير عينا الرب عليك، تقول: "قد ارتسم علينا نور وجهك يارب" (مز 4: 7)[137]].
حين يؤدب الرب يطلب أن نرجع إليه فنمارس الحياة الإنجيلية المقدسة، وننعم بنظراته الإلهية التي تشرق علينا بنور المعرفة. هذا هو هدف الله من تأديباته لنا، لكن الأشرار المصِّرين على شرهم لا ينتفعون من التأديبات، إذ قيل: "ضربتهم (جلدتهم) فلم يتوجعوا".
يقول العلامة أوريجينوس:
[لننظر ماذا قيل بعد هذا عن الخطاة؟ "جلدتهم فلم يتوجعوا".
حين تُضرب الأجساد الحية بالسياط المنظورة في هذا العالم يتألم المضروبون، إن أرادوا أو لم يريدوا. أما بالنسبة لسياط الله فالأمر غير ذلك، يتألم بعض المضروبين والبعض لا يتألمون.
هلم نرى ماذا يعني التألم بواسطة سياط الله، وعدم التألم منها.
بائسون هم الذين لا يتألمون من سياط الله، ومطوّبون هم الذين يتألمون منها. يقول سفر الحكمة في هذا الشأن: "وإنما كانوا يُجربون (يُنخسون) بهذه ليذكروا أقوالك ويخلصوا سريعًا لئلا يسقطوا في نسيانٍ عميقٍ فلا يتمكنوا بمعونتك" (حك 16: 11). وأيضًا: "من يضع سوطًا لأفكاري، وختم الحكمة على شفتي، لكي لا يشفقوا على جهالاتي، وأهلك بسبب خطاياي" (راجع ابن سيراخ 22: 27 ؛ 23: 2-3).
دقق النظر في هذه الكلمات: "من يضع سوطًا لأفكاري؟!" توجد سياط لضرب الأفكار. سياط الله تضرب الأفكار؛ حينما ينفرد الكلمة بالنفس على جنب ويضغط عليها حتى يثور ضميرها على أخطائها التي ارتكبتها، يكون قد ضربها بالسياط. إنه يضرب الإنسان المطوَّب، الذي يتألم من الضرب، لأن كلمات الله تؤثر على نفسه، ولا يلقى بالكلمات باستخفاف لأنها أخجلته. أما إذا وُجد إنسان، يمكن أن يُقال عنه أنه عديم الحس، هذا يُقال عنه: "جلدتهم فلم يتوجعوا" [3].
يُمكن أيضًا تفسير "لم يتوجعوا" بطريقة أخرى.
توجد في الجسد بعض أعضاء قد تضمر وتموت... الفارق كبير بين الأعضاء الحية والميتة. فإذا قمنا بعلاج عضو حيّ يتألم الشخص، بينما إذا اُستخدم نفس العلاج لنفس الشخص بالنسبة للعضو الميت فإنه لا يشعر بشيء، لأنه بالنسبة له العضو ميت.
ما قلناه عن الجسد ينطبق على النفس، فهى أيضًا يمكن أن تكون ميتة في أعضائها فلا تشعر بضربات السياط مهما كانت شدتها. حتى إن اُستخدمت العذابات المخيفة لن تتأثر بها، بينما يمكن لنفس أخرى أن تتأثر وتتوجع.
يكون الإنسان أكثر حزنًا عندما لا يشعر بالألم الساقط عليه مما لو كان شاعرًا به، فإنه يرجو بالأحرى أن يتوجع عندما تحل به الآلام، لأن هذا دليل على أنه لا يزال حيَّا. إنه يحزن لعدم شعوره بالضربات. فإن العبارة "يشتاقون أن يكون للحريق مأكلاً للنار" (إش 9: 4)، تشير إلى الذين لا يتوجعون حين تحل بهم الجلدات، إن أدركوا الفارق بين الذين يتوجعون والذين لا يتوجعون، يشتاقون إلى الإحساس بحروق النار عن عدم الشعور بها. وأيضًا عند الاقتراب من النار المعدة للخطاة يرجون أن يشعروا بها عن عدم الشعور بها[138]].
يعلق أيضًا على العبارة: "أفنيتهم وأبوا قبول التأديب" [3]، قائلاً: [الله في عنايته ورحمته يقوم بعمله التطهيري من أجل خلاص النفس، ويذهب في هذا العمل حتى النهاية (الفناء) من جانبه. فإن كل ما يحل علينا من قبل العناية الإلهية يهدف إلى كمالنا، ومع هذا نحن لا نقبل التأديبات الإلهية التي تقودنا إلى الكمال[139]].
يُشبَّه الله بالمدرس الذي يقدم الدروس بالكامل، باذلاً كل جهده لتعليم التلاميذ، بعضهم يقبل التعليم والآخرون يرفضون.
يعلق أيضًا نفس العلامة على العبارة: "صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر" [3]، قائلاً:
[يوجد بين الخطاة من يخجلون ويختبئون عند سماعهم كلمات التوبيخ، فيخضعون لها إذ تؤثر فيهم، كما يوجد من لا يخجلون من التوبيخ على تصرفاتهم وخطاياهم التي ارتكبوها، فيمكن أن يُقال عنهم: "صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر" [3]... لنطبق ذلك على النفس، آخذين في اعتبارنا أنها هي الوجه الذي قيل عنه: "(ننظر) وجهًا لوجه" (1 كو 13: 12). فالنفس أحيانًا تكون صلبة وقاسية أكثر من نفس فرعون، تقاوم الإنذارات، وترفض كل ما يُقال لها، بدلاً من أن تترك ذاتها تتشكل من جديد خلال الإنذارات[140]].
من جهة رفض التأديبات الإلهية التي تعين النفس على تجميلها روحيًا يرى النبي وجود فريقين:
1. فريق دعاه "المساكين"، هؤلاء ليسوا مساكين بالروح، أي ليسوا متواضعين فينالوا ملكوت الله (مت 5: 3)، إنما هم مساكين بسبب الجهل الروحي، لا يدركون ما وراء التأديبات الإلهية من عمل إلهي، يتذمرون على الضيق ولا يتوبون. عن هؤلاء يقول إرميا النبي: "إنما هم مساكين، قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم" [4]. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [لإن إرميا قد عرف أن هذه الأشياء (التأديبات) تخص الذين لا يريدون أن يتعلموا والذين لا يفهمون شيئًا عن سياط الله. فإنه يقول بشأن موقفهم هذا: "إنما هم (نفوسهم) مساكين"[141]].
2. فريق آخر دعاه "العظماء": إذ شعر بمرارة من جهة غير المتعلمين روحيًا انطلق إلى أصحاب المعرفة، أي القيادات الدينية، ليتحدث معهم، فوجد الكبرياء عائقًا عن قبولهم تأديبات الرب. وكأن المساكين يرفضون التأديب عن جهالة، والعظماء عن كبرياء... "أنطلق إلى العظماء وأكلمهم لأنهم عرفوا طريق الرب قضاء إلههم. أما هم فقد كسروا النير جميعًا وقطعوا الربُط" [5].
يرى العلامة أوريجينوس أن الأشرار المساكين يرفضون فهم خطة الله للتأديب، لهذا يطلب من نبيه إرميا أن يتحدث معنا نحن المسيحيين كعظماء، إذ يقول: ["انطلق إلى العظماء (الأقوياء) وأكلمهم".
الذين هم عظماء وأقوياء في نفوسهم ذكرهم الكتاب بالتطويب.
عندما ينشغل إنسان بأعمالٍ عظيمة، ويكون لديه طموحات ذات قيمة، ويضع باستمرار أمام عينيه أهدافًا واضحة ليعيش دائمًا بحسب الحق الصحيح، ولا يريد حتى أن ينظر إلى أي شيء تافه أو صغير، فإن مثل هذا الإنسان تكون عنده القوة والعظمة في النفس. أما هؤلاء الآخرون الذين كانوا "مساكين" فإنهم لم يسمعوا لكلام الرب كما يقول النبي؛ ولكي نكون أكثر تدقيقًا فإنهم لم يسمعوا لأنهم كانوا مساكين.
إذ قيل هذا الكلام لنا نحن أيضًا، فلنصلِ إلى الله حتى نأخذ من عنده قوة وعظمة تمكننا من الاستماع لتلك الكلمات المقدسة، عالمين أن الذين ينطقون بكلمات التوبيخ لا يخسرون شيئًا مثلما يخسر الذين يسمعون ولا يقبلون هذا التوبيخ، والذين يتهمهم إرميا بأنهم مساكين في عقولهم وأفكارهم[142]].
إذ رفضوا تأديبات الرب، وأبوا الرجوع إليه سقطوا فريسة لعدو الخير، الذي يشبه أسد الوعر، وذئب المساء، والنمر الكامن حول مدنهم، قائلاً:
"من أجل ذلك يضربهم الأسد من الوعر.
ذئب المساء يهلكهم.
يكمن النمر حول مدنهم.
كل من خرج منها يُفترس، لأن ذنوبهم كثرت، تعاظمت معاصيهم" [6].
إذ ازداد الجهلاء والمثقفون في عنادهم ومقاومتهم لإرادة الله لم يبقَ أمامهم إلا الهلاك الأكيد الذي لا مفر منه، وذلك بواسطة:
أ. الأسد: "يضربهم الأسد من الوعر" [6].
وُجدت الأسود في فلسطين حتى القرن الثاني عشر الميلادي، وقد انقرضت. من أحب الأماكن لسكناها هناك هي الغابات والأحراش القائمة على ضفتيّ الأردن (49: 19؛ 50: 44)، كما وُجدت في جبل حرمون (نش 4: 8)، وفي السامرة (2 مل 17: 25)، وفي البرية الواقعة جنوب يهوذا (إش 30: 6).
كان صيد الأسود هو الرياضة المحببة لدى ملوك الأشوريين.
أُستخدمت أشكال الأسود في هيكل سليمان (1 مل 7: 29، 36)، وفي عرشه (1 مل 10: 19-20).
يُستخدم الأسد كرمز لرعاية الله وحراسته لأولاده (رؤ 5: 5)، كما يُستخدم لغضبه (25: 30). أُستخدم أيضًا كرمز لإبليس المفترس (1 بط 5: 8)، وللأنبياء الكذبة المهلكين (حز 22: 5) وللملك الغاضب (أم 25: 30).
من علامات السلام في المُلك المسياني أن يربض الأسد والحمل معًا (إش 11: 7)، كما أن المخلوقات الحية الحاملة عرش الله تحمل شكل وجه أسد (حز 1: 10؛ رؤ 4: 7).
هنا - في هذا الأصحاح - يضرب الأسد من الوعر، يُهلك بلا رحمة، قادمًا من البرية!
ب. الذئب: "ذئب المساء يهلكهم" [6].
يختلف الذئب في فلسطين عنه في أوربا، وهو لا يزال موجودًا فيها. يتصف الذئب بشدة الافتراس والشراسة (إش 11: 6؛ حب 1: 8)، يفترس الغنم (جا 13: 17؛ يو 10: 12). اعتاد أن يختفي في النهار ويخرج ليلاً يطلب فريسته، لذلك يقول: "ذئب المساء يهلكهم"، إشارة إلى حلول الهلاك ليلاً وهم في غير يقظة روحية. جاء في سفر صفنيا: "لا يبقون شيئًا إلى الصباح" (3: 3).
إن كان الأسد أقوى من الذئب وأعنف منه، لكنه غالبًا مالا يفترس الإنسان مادام في حالة شبع، أما الذئب فشره، يفترس حتى وإن كان شبعانًا. وكأن الله يريد أن يؤكد لهم أنهم يصيرون فريسة للعدو حتى وإن كان العدو في غير احتياج؛ إنه يفترس لمجرد رغبته في الافتراس.
اُستخدم الذئب أيضًا كمديح عندما بارك يعقوب سبط بنيامين (تك 49: 27)، مشيرًا إليهم كالذئب في المهارة الفائقة حتى لا يعوزهم طعام.
ج. النمر: "يكمن النمر حول مدنهم" [6].
كاد أن ينقرض النمر من تلك المنطقة. كان موجودًا بسبب وجود الغابات الكثيفة؛ حاليًا يوجد نادرًا في بعض المناطق غير الآهلة بالسكان بلبنان وشرقي الأردن.
يُشبَّه العدو بالنمر الذي ينتظر الغروب ليتربص للفريسة، سواء كانت إنسانًا أو حيوانًا. أحيانًا يربض ثلاثة أيام متوالية بلا حراك يترصد الصيد في صمت مرعبٍ قاتلٍ.
يُعرف النمر بقوته (د1 7: 6)، وسرعة حركته (حب 1: 8)، لذا قيل أن الوحش البحري "شبه النمر" (رؤ 13: 2). هذا ويشير إلى عدم إمكانية التغيير من طبيعة الافتراس والعنف، إذ قيل: "هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطة؟!" (13: 23). لكن إن دخل النمر إلى العضوية في الملكوت المسياني تتغير طبيعته، عندئذ "يربض النمر مع الجدي" (إش 11: 6).
في رسالة للقديس كبريانوس يتحدث فيها عن عدم التجاوب مع تأديبات الرب يقول: [هوذا الضربات حالة من عند الله، ولا توجد مخافة الرب! هوذا اللطمات والجلدات من فوق ليست معدومة ولا يوجد رعب ولا خوف!]
كما يقول الأب غريغوريوس الكبير في كتابه عن الرعاية:
[هناك فارق بين أن تنصح الذين يخافون التأديب فيعيشون في نقاوة، والذين يتقسون في الشر فلا ينصلحون حتى بالتأديبات].
[إنه يجلب علينا نار الضيقة لكي ينقينا من صدأ الرذائل، لكننا لا نتخلص من صدأنا بالنار مالم نترك الرذائل وسط الضيقة].
3. أساءوا استخدام عطاياه:
كشف لهم عن سبب تأديباته لهم:
أولاً: لأنه لم يجد في أورشليم إنسانًا بارًا.
ثانيًا: عندما بدأ بالتأديب لم يستجب العامة الجهلاء ولا القادة المثقفون.
ثالثًا: لأنهم أساءوا استخدام عطاياه... أشبعهم بالعطايا، فأخذوها ليقدموها أجرة للزنا. انطلقوا على مستوى جماعي يتزاحمون في بيت زانية، أي بطريقة علنية بغير حياءٍ، صاروا حُصنًا معلوفة سائبة تستخدم طاقاتها للفساد.
إنه يعاتبهم:
"كيف أصفح لك عن هذه؟!...
ولما أشبعتهم زنوا، وفي بيت زانية تزاحموا.
صاروا حُصنًا معلوفة.
صهلوا كل واحد على امرأة صاحبه.
أما أعاقب على هذا يقول الرب؟!
أو أما تنتقم نفسي من أمة كهذه؟!" [7-9].
يرى العلامة أوريجينوس أن الإنسان إذ تسيطر عليه الشهوات يصير كالحيوانات العجموات، يفقد روح التمييز، بل وأحيانًا يصير في حالة أدنى منهم، لأنه عندما تحبل أنثى الحيوانات تعرفن ألاّ تقتربن من الذكور[143].
ما أرهب هذا الاتهام؟! هوذا الشعب الذي كان يجب أن يشهد لقداسة الله ويكون بركة لغيره من الشعوب قد صار فاسدًا، يشبع بخيرات الله فيزني علانية، محتقرًا الوصية الإلهية، ومتجاهلاً حق أخيه، إذ يشتهي امرأة أخيه! أما يستحق هذا الشعب العقاب؟!
ينطبق هذا الاتهام على المؤمنين الذين لهم اسم المسيحية ولا يمارسون الحياة الانجيلية، فإنهم يستخدمون بركات الله وحبه لهم، لا للشهادة لمسيحهم وإنما للانغماس في الخطية. مثل هؤلاء لا يستحقون أن يُحسبوا بشرًا بل "حصنًا معلوفة". وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي:
[هؤلاء لا يمكن مقارنتهم بقديسي الله... إذ لم تعد أذهانهم تحمل صورة الله. إنما هم تافهون، ينزلون إلى المستوى البهيمي، وقيادتهم للملذات بلا ضابط تُقارن بسلوك الخيول الشهوانية (5: 8).
وبسبب خبثهم وجرائمهم وخطاياهم المرعبة يدعون: "أولاد الأفاعي" (لو 3: 7)[144]].
يا للعجب! الله يريدنا بعطاياه الفائقة أن نصير أبناءه، نتشبه به، ونُحسب كملائكته، أما نحن فنسيء استخدامها لنحسب كحيوانات غير عاقلة شهوانية!
4. قبلوا كلمات المخادعين:
يعتبر الله قبولهم كلمات المخادعين وعدم تصديقهم إنذاراته على ألسنة الأنبياء الحقيقيين خيانة للرب نفسه، تستحق التأديب كنارٍ مطهرة، لكنها ليست للفناء، لذا يكرر تعبير "لا تفنوها" [10] و"لا أفنيكم" [18].
يوجه الله كلامه للعدو المقبل، معلنًا أنه وإن سمح له بالتدمير والتخريب، لكنه لن يسمح له بالفناء: "اصعدوا على أسوارها واخربوا ولكن لا تفنوها" [10].
يقول العلامة أوريجينوس: [ يتمهل الله في إدانة الذين يستحقون العقاب، حتى يعطيهم الفرصة للتوبة. فهو لا يعاقب على الخطية في الحال، ولا يوقع الفناء بالخاطئ، بل يتمهل في العقاب. نجد مثالاً لذلك في سفر اللاويين، في اللعنات التي قيلت لتحل على الذين يخالفون الناموس، فبعد الإعلان عن العقوبات الأولى قيل: "وإن كنتم مع ذلك لا تسمعون لي أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف" (لا 26: 18)... من هذا يتضح أن الله يوقع العقوبات ببطئ شديد، لأنه يريد أن يقود الخاطئ إلى التوبة، بدلاً من دفع الثمن حالاً... فالفناء لا يحل وقت ارتكابهم الخطية، وإنما في وقت لاحق، حيث يوجد عقاب للخطاة بعد الموت[145]].
يعلق أيضًا العلامة أوريجينوس على إفناء الشعب قائلاً:
[يمكننا أن نعترض، فبالرغم من تحقق السبي لم يتم فناؤها، وإنما تم الفناء الحقيقي للشعب عندما جاء ربنا يسوع المسيح.
في الواقع، طالما أن المخلص لم يقل لهذا الشعب: "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا"، فإن أورشليم لم تكن خربة؛ وإنما عندما بكى يسوع على أورشليم قائلاً: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (لو 13: 34)، عندئذ أصبحت أورشليم خربة. "ولقد أحيطت أورشليم بجيوش وكان خرابها قريب (لو 21: 20). ثم بعد سقوط هذا الشعب كان الخلاص لنا نحن الأمم.
لقد تم تأديبهم ولم يأت عليهم الفناء إلا عند مجيء السيد المسيح. لكنى أتساءل إن كان هذا يحدث معنا نحن أيضًا، وإن كانت هناك أنواع عديدة من التأديبات يمكن أن تحل بنا. يوجد من الناس من يكتفي بالضربة الأولى ولا يجرب الثانية، ويوجد آخرون يصلون إلى الضربة الثانية والثالثة بل وحتى إلى الرابعة. فإن العبارة: "أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف (ضربات)" تحمل شيئًا من الغموض: توجد ضربة أولى، ثم ثانية ثم ثالثة حتى السابعة لبعض الناس. فليس كل الناس يُضربون سبع ضربات، لكنني أعتقد أن البعض يُضربون بست ضربات والبعض بخمس والبعض بأربع والبعض بثلاث أو إثنين أو واحدة. ويعلم الله وحده ما هو المقصود بهذه الضربات[146]].
لعل قوله "يزيد العقاب سبعة أضعاف" في (لا 26: 18) يعني أن الله يعطي فرصة للتوبة بتأديب أوَّلي، فإن لم نرتدع يسمح بتأديب مضاعف، وإلا تأديب ثالث أقسى فرابع وخامس حتى سبعة أضعاف قبل أن نسقط في الدينونة الأبدية.
إنه يتطلع إلى الكنيسة بكونها كرمه الخاص، يسمح لها بالتأديب لكن ليس بالإبادة، فيسمح للعدو أن يصعد على أسوار الكرمة ويقطع أغصانها التي صارت غريبة عنه، متغربة عن طريقه الملوكي، لكنه يترك الأصل لعله ينبت أغصانًا مقدسة مثمرة.
"انزعوا أفنانها (أغصانها)، لأنها ليست للرب.
لأنه خيانة خانني بيت إسرائيل وبيت يهوذا يقول الرب.
جحدوا الرب وقالوا: ليس هو،
ولا يأتي علينا شرٌّ، ولا نرى سيفًا ولا جوعًا" [10-12].
لقد أنكروا الرب أو جحدوه بعدم تصديقهم تهديداته على لسان أنبيائه... إنهم يقولون: "ليس هو"، لا لأنهم ملحدون ينكرون وجوده، لكنهم ملحدون بعدم قبولهم كلماته، وعدم الثقة في كلمات أنبيائه.
يعبدون الرب في رياء إذ لا يسمعون لصوته في سلوكهم العملي، قائلين: "في قلوبهم: إن الرب لا يُحسن ولا يُسيء" (صف 1: 12).
ماذا يفعل الرب بهم إذ قبلوا خداع الأنبياء الكذبة ولم يصدقوه؟
أولاً: إذ ينطق الأنبياء الكذبة بالباطل يصيرون هم باطلاً، كالريح الذي لا يدوم، يهب فيختفي... يصيرون خيالاً. "والأنبياء يصيرون ريحًا، والكلمة ليست فيهم؛ هكذا يصنع بهم" [13]. يختفون سريعًا ويظهر بطلان كلماتهم لأن كلمة الرب ليست فيهم.
ثانيًا: يجعل كلامه نارًا في فم نبيه إرميا، تحرق الشعب كالحطب فتأكلهم [14]. لو أنهم كانوا ذهبًا أو فضة أو حجارة كريمة لصيرتهم النار أكثر بهاءً ونقاوة، لكن لأنهم حطب وعشب وقش تحرقهم!
يقول العلامة أوريجينوس [على أي الأحوال، للنار قوة مضاعفة: بالواحدة تـنير وبالثانية تحرق[147]]. السيد المسيح نفسه جاء إلى العالم نارًا يحرق إبليس وملائكته (لو 13: 27؛ مت 25: 41). كما يقول إن الذي يُعلم في كنيسة الله بالتوبيخ والانتهار فقط يكون نارًا تحرق ولا تـنير، أما إذا كشف أسرار الناموس وناقش الأسرار الخفية فقط فيكون نارُا تـنير ولا تحرق. لهذا يليق أن يمتزج نور المعرفة بلهيب خفيف من الحزم.
ثالثًا: يسمح بسبيهم بواسطة أمة بعيدة قوية لا يعرفون لسانها، ولا يفهمون ما تتكلم به، أمة تتكلم بلغةٍ غريبة، لغة العنف والقسوة والاستعباد بغير حوار أو تفاهم!
سمات هذه الأمة تكشف عن طبيعة الخطية التي تسبي النفس:
أ. أمة من بُعد [15]: حين ترفض النفس وصية إلهها القريب إليها جدًا، وكلمته الساكن فينا، نخضع للخطية الغريبة عن طبيعتنا والمعادية لنا.
ب. أمة قوية، أمة منذ القديم [15]: الخطية خاطئة جدًا وقتلاها أقوياء، تحارب البشرية منذ القدم.
ج. أمة لا تعرف لسانها [15]: لا يمكن التفاهم معها، قانونها الظلم والعنف وعدم التفاهم.
د. جعبتهم قبر مفتوح [16]: غايتها التدمير والموت.
هـ. كلهم جبابرة [16]: عملها الحرب الدائمة ضد أولاد الله.
و. يأكلون حصادك وخبزك الذي يأكله بنوكِ وبناتك، يأكلون غنمكِ وبقركِ، يأكلون جفنتكِ وتينكِ" [17] عملها إفساد كل ثمر للنفس (البنون) وللجسد (البنات)، تحطيم كل الإمكانيات ليعيش الإنسان في جوع وحرمان حتى الموت.
ز. يهلكون بالسيف مدنك الحصينة [17]: يفقد الإنسان الملجأ والحصن، ليعيش كطريدٍ وهاربٍ في خوفٍ دائمٍ وقلقٍ مستمرٍ، فتتحطم نفسه تمامًا.
هذا كله ثمرة قبول كلمات الأنبياء الكذبة المنادين بالسلام، والناطقين بالناعمات كذبًا وخداعًا!
ما حدث مع الشعب قديمًا يحدث حاليًا حيث ننصت إلى روح التهاون والاستهتار، روح الأنبياء الكذبة، فنسقط تحت سبي الخطية عوض التجاوب مع تأديبات الله التي تحثنا على التوبة والرجوع إليه.
5. فقدوا البصيرة الداخلية:
إذ قبلوا كلمات الأنبياء الكذبة الناعمة سقطوا تحت التأديب الإلهي، أي في السبي، وعوض أن يكتشفوا خطاياهم ويقدموا توبة صاروا في عمى روحي يتهمون الله بالعنف والقسوة.
"ويكون حين تقولون: لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه؟
تقول لهم: كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم هكذا تعبدون الغرباء في أرضٍ ليست لكم" [19].
فقدوا البصيرة الروحية، فحسبوا عدل الله ظلمًا وقسوة، لهذا أوضح لهم عدالته. لقد تركوه وعبدوا آلهة غريبة. هذه هي شهوة قلوبهم، أن يعبدوا الأوثان وينعموا بالرجاسات، لهذا سلمهم إلى الأرض الغريبة ليتمموا شهوة قلوبهم، وكأن السبي هو ثمرة فساد قلوبهم.
أعطاهم أرض الموعد وحسبها "أرضهم"، لكنهم إذ تركوه يُحرموا مما وهبهم، فلم يعد لهم موضع في أرضهم. من جانب آخر كما يقول أحد آباء البرية: [من لا يصلح في موضعٍ فالموضع نفسه يطرده]. وكأن الله وهبهم أرضًا مقدسة، وإذ أساءوا إليها طردتهم هي منها، إذ لم تعد أرض الموعد تحتمل رجاساتهم.
يقول العلامة أوريجينوس:
[كان بنو إسرائيل يمتلكون الأرض المقدسة، والهيكل، وبيت الصلاة. كان يجب عليهم أن يقدموا عبادتهم لله، لكنهم خالفوا الشريعة والوصية الإلهية، وعبدوا الأوثان، كانوا يستقبلون عندهم الأوثان من دمشق كما هو مكتوب في سفر الملوك، وقبلوا أوثانًا أخرى في الأرض المقدسة. وبما أنهم كانوا يستقبلون الأوثان الأممية في أرضهم، استحقوا أن يُطرَحوا في بلاد الأوثان، وأن يهبطوا إلى حيث ُتعَبَد الأصنام. لذلك قال الرب لهم: "كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم". أي أن كل إنسان يتخذ له إلهًا من أي شيء كان، فهو بذلك يعبد آلهة غريبة.
هل تُؤلِّه المأكولات والمشروبات؟ بطنك هي إلهك.
هل تحسب فضة هذا العالم وغناه خيرًا عظيمًا؟ المال هو إلهك. قال عنه السيد المسيح أنه سيد الذين يحبون الفضة، حينما قال: "لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال، ولا يقدر أحد أن يخدم سيدين".
الذي يُقدِّر المال ويُعَظِّم الغِنَى حاسبًا أنه الخير، والذي يُجلِس الأغنياء في صفوف الآلهة ويحتقر الفقراء، يؤله المال.
إذا كان يوجد في أرض الله، التي هي الكنيسة، أناس يعبدون آلهة غريبة بتأليههم لأشياء حقيرة، فسوف يُطردون إلى أرض غريبة، هناك في تلك الأرض الغريبة يعبدون آلهتهم التي كانوا يعبدوها وهم في داخل الكنيسة! فيُطرح الإنسان الجشع خارجًا، خارج الكنيسة! ويُطرح الإنسان النهم خارجًا، خارج الكنيسة![148]].
بعد أن شرح لهم عدالته بدأ يعاتبهم، قائلاً:
"اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم،
الذين لهم أعين ولا يبصرون.
لهم آذان ولا يسمعون" [21].
وكما جاء في إشعياء النبي "تسمعون سمعًا ولا تفهمون، وتبصرون إبصارًا ولا تعرفون" (إش 6: 9). (راجع أيضًا مت 13: 14-15). لقد فقدوا البصيرة والقدرة على الاستماع، ليس من جهة تأديبات الرب فحسب وإنما من جهة الكلمة المتجسد، المسيا المخلص، عوض الارتماء في أحضانه اتهموه أن به شيطان. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنهم يبصرون كيف يخرج الشياطين ويقولون به شيطان، يبصرون القائمين من الأموات ولا يسجدون له، بل يفكرون في قتله]. كما يقول القديس إيريناؤس: [إنهم مُصابون بالعمى بسبب عدم إيمانهم بالله، يتطلعون إليه فلا يرونه، فهو بالنسبة لهم كأنه غير موجود؛ ذلك كما أن الشمس - خليقته - تصيب ضعاف البصر فلا ينظرون نورها، أما الذين يؤمنون به ويتبعونه فيهب آذانهم (أعينهم) استنارة أكمل وأعظم[149]].
كما في عدم الإيمان فقد الشعب بصره وسمعه، هكذا بالإيمان يتمتع أولاد الله بالتطويب الإلهي: "طوبى لأعينكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع" (مت 13: 11-16).
دعاهم الله جهلاء أو أغبياء، قائلاً "أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم" [21]. هذه هي السمة الرئيسية التي اتسموا بها، فقد صاروا كنابال (1 صم 25) الذي اسمه يعني "الغبي"، وقد احتقر داود النبي وسلك ببخلٍ عظيم. ُيقال عنهم: "أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب" (أم 1: 7).
في جهلهم فقدوا الفهم [21]، تركوا الله وعبدوا آلهة غريبة [19]، فصاروا يعشقون ما يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه.
في جهلهم فقدوا الحق الإلهي، لا يرونه ولا ينصتون إليه [21].
في جهلهم أيضًا فقدوا خشية الرب ومخافته [21]. لم يفعلوا كأيوب عندما دخل الله معه في حوار، إذ قال: "لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد" (أي 42: 6). لم يتجاوبوا معه!
في جهلهم لم يدركوا أن الذي يتحدث معهم هو ذاك الذي وضع للبحر حدًا (أم 8: 29).
وقف النبي في دهشة، فقد بلغ عمى بصيرتهم وصمم آذانهم لا أن يصهلوا كالخيل المعلوفة السائبة [8] فحسب، وإنما انحطوا أكثر من الطبيعة الجامدة، فلا يرون كيف يقف البحر عند الحدود التي وضعها له الرب. عرف البحر حدوده فلا يتعداها ولم يعرف الإنسان ناموسه، لهذا يعاتبهم الله قائلاً:
"أإيّاي لا تخشون يقول الرب؟*
أوَلاً ترتعدون من وجهي أنا الذي وضعت الرمل تخومًا للبحر، وتعج أمواجه ولا تتجاوزها؟*" ]22].
لم يضع الشعب لنفسه حدودًا، وعوض الطاعة كالبحار والرمال وكل الطبيعة صار لهم "قلب عاصٍ ومتمرد؛ عصوا؛ ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذي يعطي المطر المبكر والمتأخر في وقته، يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة" [23-24].
ليس فقط البحار والرمال لها قانونها الذي تخضع له، وإنما الأمطار المبكرة التي تسقط بعد بذر الحبوب والأمطار المتأخرة التي تساعد على نضوج المحصولات تخضع للأوقات والأزمنة الموضوعه لها، فيأتي الثمر المتكاثر ويعيد الإنسان مبتهجًا بالحصاد*، أما الإنسان فيرفض الطاعة لله!
ربما تشير مياه البحار هنا إلى الاضطهاد القائم ضد الكنيسة، الذي تثور أمواجه وتياراته ضدها. أما رب الكنيسة الجامع المياه فلا يمنع الضيق لكنه يضبط سطوته ويحوّل مرارته إلى عذوبة تستحق أن تُجمع في زق كشيء ثمينٍ وُتحسب كنوزًا ثمينة (مز 33: 7).
v بينما كان البحر قبلاً في هياج بلا ضابط، إذا بمرارته تتوقف... لأن ذاك الذي غلب في الرسل، والذي وضع للبحر حدًا... جعل فيضانه (تياراته) تلتقي مع بعضها البعض لتحطم الواحدة الأخرى.
هذا هو المطر الذي وعد السيد المسيح تلاميذه أن يرسله إليهم من عند الآب علامة حبه لهم واهتمامه بهم، وكما جاء في الأمثال: "في نور وجه الملك حياة، ورضاه كسحاب المطر المتأخر" (أم 16: 15). ويقول هوشع النبي: "خروجه يقين الفجر، يأتي علينا كالمطر، كمطرٍ متأخر يسقي الأرض" (هو 6: 3). ويسألنا زكريا النبي أن نطلب هذا المطر المتأخر ليعمل في حياتنا: "اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر، فيصنع الرب بروقًا، ويعطيهم مطر الوبل، لكل إنسان عشبًا في الحقل" (زك 10: 1). هذا هو عطية الله العظمى: "لنخف الرب إلهنا الذي يعطي المطر المبكر والمتأخر في وقته، يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة" [24].القديس أغسطينوس
6. اصطادوا الآخرين:
أحد أسباب التأديب أنهم نصبوا الشباك والفخاخ للآخرين لاصطيادهم حتى يغتنوا ويصيروا سمناء، لكن شرهم لم يجلب عليهم إلا الغضب الإلهي والخسارة. ويلاحظ في شرهم هذا الآتي:
أ. شرهم ليس ثمرة ضعف بشري، أو تحقق بطريقة لا إرادية، إنما جاء نتيجة خطة منظمة وإصرار مُسبق، إذ يقول: "لأنه وُجد في شعبي أشرار، يرصدون كمنحنِ من القانصين، ينصبون أشراكًا يمسكون الناس" [26].
ب. خططوا لاستعبادهم وتحطيم حرية الناس: "مثل قفص ملآن طيورًا هكذا بيوتهم ملآنة مكرًا" [27]. لقد خُلقت الطيور لتطير في السماء، لا لتُحبس في قفص، هكذا أرادوا استعباد الناس الذين خلقهم الله أحرارًا.
إن كانوا قد نصبوا الشباك واصطادوا أناسًا وأغلقوا عليهم في عبودية كالطيور في قفصٍ، فليس غريبًا أن يشربوا من ذات الكأس، حيث تنصب الأمم التي حولهم لهم الشباك، ويقودوهم في عبودية إلى السبي، فيصيرون كطيور حُرمت من الحرية.
حقًا كم تكون نفس المسبي مُرّة حينما يرى في أرض السبي الطيور تغرد وهي هائمة في الجو تتنقل حيثما تريد، بينما يعيش هو في مذلة مسلوب الحرية، لا يقدر أن يرجع إلى بلده!
ج. لا يقفوا عند ارتكاب الشر وإنما يوجهون كل طاقاتهم لاصطياد الناس بمكر كي يسقطوهم في الخطية.
د. يرى البعض أن كلمة "بيوتهم" هنا تشير إلى أنهم وضعوا خطة محكمة ومنظمة وهم في بيوتهم. بدت هذه الخطة ناجحة إذ امتلأ القفص طيورًا، ولم يدروا أنهم إنما ملأوها مكرًا وخداعًا يحطم حياتهم وسلامهم وحريتهم. بمعنى آخر بالمكر والخداع ظنوا أنهم غلبوا واغتنوا ولم يدركوا أنهم إنما اقتنوا في داخلهم خطية المكر التي هي "حرمان" و "بطلان".
"من أجل ذلك عظموا واستغنوا،
سمنوا، لمعوا (أملس الشعر)،
أيضًا تجاوزوا في أمور الشر" [27-28].
ظنوا أنهم صاروا عظماء أصحاب سلطان، أغنياء لا يعوزهم شيء، سمناء مملئون صحة، لامعين أو ملسوا الشعر أي مملئون جمالاً، ولم يدركوا أنهم في واقع الأمر جمعوا لأنفسهم شرًا عظيمًا. هذا هو ما اقتنوه، لأن الأمور السابقة تتغير وتنتهي ويبقى القلب فاسدًا بالشر.
هـ. فقدوا كل رحمة وامتلاؤا ظلمًا وقساوة قلب.
"لم يقضوا في الدعوى، دعوى اليتيم.
وقد نجحوا.
وبحق المساكين لم يقضوا" [28].
7. تجاوبوا مع الرعاة في الشر:
صار الجرح داميًا لا علاج له حتى "صار في الأرض دهش وقشعريرة" [30].
اشترك الشعب مع القيادات الدينية في هذا الشر. "الأنبياء يتنبأون بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحب".
وُجدت خطايا مشتركة اشترك فيها الأنبياء الذين أعلنوا الكذب عوض الحق، والكهنة الذين حكموا لا حسب شريعة الرب بل حسب سلطانهم الذي سُلم إليهم فأساءوا استخدامه. أحب الشعب الكذب والفساد إذ وجد الفرصة للملذات الجسدية والرجاسات. جاءت تصرفات القيادات الشريرة متجاوبة مع قلب الشعب الفاسد.