المقدمة
في الكاتب
هو بطرس الرسول بدليل قوله في بدء الرسالة «سِمْعَانُ بُطْرُسُ عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ الخ» (ص ١: ١). وإنه كتب قبل هذه الرسالة غيرها بدليل قوله «هٰذِهِ أَكْتُبُهَا ٱلآنَ إِلَيْكُمْ رِسَالَةً ثَانِيَةً الخ» (ص ٣: ١). وإنه كان مع المسيح يوم التجلي (ص ١: ١٦ - ١٨) وهذا يوافق ما عُرف من أمر بطرس (متّى ١٧: ١ - ٨). وفيها إشارة إلى إنباء المسيح بموته هو (ص ١: ١٤). وهذا على وفق قول يوحنا فيه (يوحنا ٢١: ١٨ و١٩). ونسبت الكنيسة المسيحية هذه الرسالة إليه بعد الفحص والتدقيق وهذا كاف لإزالة الشكوك التي نشأت عن كونها قد كتبت مؤخراً وأنها لم تُكتب إلى كنيسة معيّنة لكي تحرص عليها. وتعليمها وأسلوب كلامها موافقان لخُطب بطرس المذكورة في أعمال الرسول ولما في رسالته الأولى.
في من كُتبت هذه الرسالة إليهم
إن الذين كتب إليهم هذه الرسالة هم الذين كتب إليهم الرسالة الأولى بدليل قوله «هٰذِهِ أَكْتُبُهَا ٱلآنَ إِلَيْكُمْ رِسَالَةً ثَانِيَةً» (ص ٣: ١) وهم أعضاء كنائس أسيا الصغرى المتشتتون في بنتس وغلاطية وكبدوكية وأسيا وبيثينية (١بطرس ١: ١).
في زمان كتابة هذه الرسالة ومكانها
لا دليل قاطع على تعيين مكان كتابة هذه الرسالة وزمانها والمرجّح أنها كُتبت قبل أن توفّي بقليل بدليل قوله فيها «عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ» (ص ١: ١٤). وقول المسيح له «مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاءُ» (يوحنا ٢١: ١٨). فالبدع التي نشأت في الكنيسة وناقضها الرسول في هذه الرسالة تستلزم أنها كُتبت مؤخراً وإنها كُتبت قبل خراب أورشليم إذ لا إيماء إلى ذلك الخراب فيها وكان ذلك الخراب السنة ٧٠ ب. م. فتكون قد كُتبت بعد الرسالة الأولى أي نحو سنة ٦٩ ب. م. والمرجّح أنها كُتبت في بابل حيث كُتبت الرسالة الأولى لعدم ذكره تغيير المحل كما كان يتوقع لو غيّره. وبابل إما أن تكون المدينة المشهورة في الشرق أو أن يكون اسماً مجازياً لرومية.
في الغاية من هذه الرسالة
الغاية من كتابة هذه الرسالة التحذير من المعلمين الكاذبين والأخطار التي كانوا عرضة لها من أولئك المعلمين (ص ٢: ١ وص ٣: ١٧). والإنباء بالهلاك الذي لا بد من أن يكون نصيب أولئك المضلين وحث المؤمنين على الثبات في الإيمان والبنيان في المعرفة والقداسة (ص ١: ١١ وص ٣: ١٧ و١٨).
ولعله بعد أن كتب الرسالة الأولى لتعزيتهم في الضيقات والاضطهادات بلغه نبأ وجود المعلمين الكاذبين في تلك الكنائس فرأى من الضرورة أن ينبه الكنائس على الخطر منهم وأن يستعمل السلطان الذي أعطاه المسيح الرسل على مقاومة المضلين. ومن ضلالات أولئك المضلين:
- إنكار الرب الذي اشتراهم.
- توغلهم في الشهوات الجسدية الفاسدة الحيوانية (ص ٢: ١٠ - ١٩).
- سلوكهم بتشويش وعدم ترتيب (ص ٢: ١٠ - ١٢).
- سلوكه بالخداع والطمع.
- تكبّرهم وادعاؤهم الحرية (ص ٢: ١٧ و١٨).
- تركهم الآراء الأولى الإنجيلية في شأن الآداب حتى صاروا أردأ من الأمم.
- إنكارهم تعليم الرسول في أمر انتهاء العالم وإتيان يوم الدينونة.
وصرّح الرسول بكل غيرة واجتهاد بإبطال هذه الضلالات عند مجيء المسيح ثانية وبالتغيّرات التي تكون حينئذ وحثهم أن يعيشوا كما يليق بالذين يتوقعون هذه الحوادث ذات الشأن. ومما يستحق الاعتبار شدة المشابهة بين هذه الرسالة ورسالة يهوذا.
اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ
التحيات العادية ع ١ و٢. وبيان إن كل البركات المختصة بالحياة والتقوى هي من الله وإنه تعالى قد وهب لهم مواعيد عظيمة ثمينة (ع ٣ و٤). وحثّ المؤمنين أن يتقدموا في الفضائل الروحية تدرجاً (ع ٥ - ٩). وأن يجعلوا دعوتهم واختيارهم ثابتين لكي يكون لهم بذلك سعة الدخول إلى ملكوت ربنا يسوع المسيح (ع ١٠ و١١). قصده أن يذكرهم دائماً الحقائق التي قبلوها منه لأنه شعر بقرب أجله وعدم فرصة إنبائهم بعد وشدة الخطر من أن يتزعزع إيمانهم (ع ١٢ - ١٥).
تصريح بأن التعاليم التي علّمها ليست خرافات بل حقائق (ع ١٦) لأنها ثبتت له مما سمعه على طور التجلي وهو أن يسوع هو ابن ومما وقف عليه من أقوال الأنبياء القديسين فكان عليهم أن يتمسكوا بها مهما قاومهم الكافرون (ع ١٦ - ٢١).
التحيات العادية ع ١ و٢
١ «سِمْعَانُ بُطْرُسُ عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ، إِلَى ٱلَّذِينَ نَالُوا مَعَنَا إِيمَاناً ثَمِيناً مُسَاوِياً لَنَا، بِبِرِّ إِلٰهِنَا وَٱلْمُخَلِّصِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١: ١ وفيلبي ١: ١ ويهوذا ١ ويعقوب ١: ١ و١بطرس ١: ١ ورومية ١: ١٢ و٢كورنثوس ٤: ١٣ وتيطس ١: ٤ ورومية ٣: ٢١ - ٢٦ وع ١١ و٢: ٢٠ و٣: ١٨ وتيطس ٢: ١٣
سِمْعَانُ بُطْرُسُ قال في رسالته الأولى «بطرس الخ» وسمعان اسمه الذي سمّاه به والداه وأما بطرس أو صفا هو الاسم الذي سمّاه به المسيح (يوحنا ١: ٤٢ ومتّى ١٦: ١٨) وذكر الاسمين هنا كما ذُكرا في (لوقا ٥: ٨ ويوحنا ١٣: ٦ و٢٠: ٢ و٢١: ١٥) وأماكن أُخر.
عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ هذا كما قال بولس على نفسه في (رومية ١: ١ وتيطس ١: ١). وبهذا اللقب أظهر خضوعه للمسيح ووقف نفسه لخدمته واستعداده لأن يخدمه كما يشاء. ولعله أشار بذلك إلى عمله في الكنيسة من أن يكون معلماً ومبشراً بالمسيح. وفيه بيان أنه ليس بعبد للناس لكي يطيعهم في شأن إيمانه وسيرته لكنه مكلف بأن يخضع عقله وضميره لسلطة المسيح.
ٱلَّذِينَ نَالُوا مَعَنَا إِيمَاناً ثَمِيناً مُسَاوِياً لَنَا يتضح من هذا أنه كتب هذه الرسالة إلى الذين كتب إليهم الرسالة الأولى (ص ٣: ١). وخاطبهم هنالك بالنسبة إلى البلاد التي هم ساكنوها وإلى اختيار الله إيّاهم. وخاطبهم هنا باعتبار أنهم مساوون سائر المسيحيين بالإيمان.
ولعله قصد «بالإيمان» الحق الذي هو موضوع إيمانهم بالمسيح (ع ١٢) كما قصد به في مجمع أورشليم (أعمال ١٥: ٩). أو لعله قصد نعمة الإيمان التي اختبرها في قلوبهم وهي هبة الله وكان يتوقع أن ينموا فيها وهذا هو الأرجح إذ قال إنهم نالوا ذلك. وهذا يفيد أن الإيمان هبة مجانية لم يستحقوها ولم يقتنوها بحكمتهم واجتهادهم. ووصف «الإيمان» بكونه «ثميناً» بياناً لقيمته بالنظر إلى مقتنيه كما أبان في الرسالة الأولى (١بطرس ١: ٧ و١٩ و٢: ٤ - ٧). وأراد بقوله «مساوياً لنا» إن لإيمانهم قيمة إيمانه عينها في نظر الله لأنه وهبه للجميع مجاناً لا إنه مساو لإيمانه في المقدار. وأشار بقوله «لنا» إلى أنهم آمنوا بالحقائق التي آمن بها المسيحيون والرسل أنفسهم عينها إذ لا دليل في الإنجيل على أن إيمان الرسل كان يختلف شيئاً عن إيمان سائر المؤمنين. وكان يصعب على مؤمني اليهود أن يسلموا أن مؤمني الأمم مساوون في الإيمان لمؤمني شعب الله القديم فأكدّ لهم هنا تلك المساواة.
بِبِرِّ إِلٰهِنَا وَٱلْمُخَلِّصِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق بقوله «نالوا» وهو يبين الوسائل التي بها نالوا الشركة في هذا الإيمان الثمين وهو طريق التبرير الذي أعدته النعمة الإلهية. ونسب هذا «البر» إلى أقنومين من أقانيم اللاهوت وهم الآب والابن لأنه لم يقصد أن يدعو المسيح وحده الإله والمخلص بل قصد بالإله الآب ويسوع المسيح الابن كما يتضح من الآية التالية. ولهذا أبان إن الآب والابن واحد في القصد والشرف والقدرة. ونسب هذا «البر» الذي به يتبرر المؤمن إلى الله الآب لأنه منشئه وإلى المسيح الابن لأنه واسطته إذ حصّله بطاعته وموته (انظر تفسير رومية ١: ١٧). وفسّر بعضهم «البر» هنا بعدل الله وكون الله بلا محاباة جعله لا يميّز بين مؤمني اليهود وبين مؤمني الأمم فأعطى الفريقين إيماناً متساوياً.
٢ «لِتَكْثُرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلاَمُ بِمَعْرِفَةِ ٱللّٰهِ وَيَسُوعَ رَبِّنَا».
رومية ١: ٧ وع ٣ و٨ وص ٢: ٢٠ و٣: ١٨ ويوحنا ١٧: ٣ وفيلبي ٣: ٨
لِتَكْثُرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلاَمُ هذا كما في (١بطرس ١: ٢) فارجع إلى التفسير هناك.
بِمَعْرِفَةِ ٱللّٰهِ وَيَسُوعَ رَبِّنَا هذا يبيّن الشرط الذي به ينال التقدم في النعمة وفي السلام. وهذه «المعرفة» ليست مجرد المعرفة العقلية بل هي قلبية أيضاً متحدة بالمحبة. وهي تتضمن الآب والابن على وفق قول المسيح «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا ١٧: ٣). لأننا لا نعرف الآب إلا بالابن فصرّح الرسول إن هذه المعرفة الروحية سرّ النعمة والإيمان بخلاف المعرفة التي ادّعاها المعلمون الكاذبون فاستغنوا بها عن الإنجيل وافتخروا بها وكانت وهميّة باطلة.
وجوب التقدّم في الفضائل الروحية ع ٣ و٤
٣ «كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ ٱلإِلٰهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَٱلتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ ٱلَّذِي دَعَانَا بِٱلْمَجْدِ وَٱلْفَضِيلَةِ».
١بطرس ١: ٥ و١تسالونيكي ٢: ١٢ و٢تسالونيكي ٢: ١٤ و١بطرس ٥: ١٠
كما هذا ليس بمتعلّق بشيء سبق لأن ما سبق مستقل. فالظاهر إن ما في هذه الآية والتي تليها أساس ما في (ع ٥ - ١١). من الواجبات. وهذا الأساس وفرة النعمة التي نالها المؤمنون من الله فوصفها ببيان مصدرها وسعتها ووسائل نيلها ونتائجها. وبهاتين الآيتين وأبان فعل الله لأجل المؤمن. وما بعدهما إلى (ع ١١). بيان ما على الإنسان أن يعمله لكي ينتفع بعمل الله.
قُدْرَتَهُ ٱلإِلٰهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا أي قدرة الله الآب وقدرة الابن متحدين لأنه لو قصد قوة الآب وحدها لم يكن من داع إلى نعتها بكونها إلهية لكنه وصف قدرة المسيح بذلك «لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِبَ مِنْ ضَعْفٍ لٰكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ» (٢كورنثوس ١٣: ٤). وكون قدرة المسيح إلهية يؤكد للمؤمنين أنه قادر أن يهب لهم كل بركة روحية بغنىً.
كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَٱلتَّقْوَى إن الله لم يمنح كل ما هو للحياة والتقوى للمؤمنين رأساً بلا اجتهادهم فإن تلك الحياة حياة النفس وقال المسيح إنها نتيجة معرفة الله الحقيقية ومعرفة الذي أرسله (يوحنا ١٧: ٣). فهي معرفة جديدة إلهية قديمة أبدية فقدها الإنسان بالسقوط وُردت إليه بالنعمة. والمراد «بالتقوى» هنا مخافة الله المذكورة في (١تيموثاوس ٢: ٢ و٣: ١٦ و٤: ٧ و٨). وتكلم فيها بطرس نفسه في (أعمال ٣: ١٢ وص ١: ٣ و٦ و٣: ١١) وهي مظهر الحياة ونتيجة الشعور بأن الله يراقب كل الأعمال.
وقوله «كل» ذو شأن وهو دليل على أنه لم يبق للإنسان من حاجة إلى شيء للحياة والتقوى لم يهبه الله له.
بِمَعْرِفَةِ ٱلَّذِي دَعَانَا أي معرفة الله لأن العهد الجديد نسب إليه كل الدعوة (انظر ١بطرس ٢: ٩). والمراد بمعرفة إدراك صفاته وكونه وهو الذي يدعو إلى الخلاص.
بِٱلْمَجْدِ وَٱلْفَضِيلَةِ معنى «المجد» مجموع الصفات الإلهية المعلنة و «الفضيلة» جودة الله إو إظهار صفاته فعلاً لنفع خليقته. ومعنى العبارة إن ما حصّلته القدرة الإلهية للمؤمنين مما هو نافع لحياتهم وتقواهم لا يكون لهم فعلاً إلا بمعرفته الذي أعلنه المسيح الذي دعاهم من الظلمة إلى النور ومن الموت إلى الحياة. وقال «الذي دعانا» بصيغة الماضي (لا الذي يدعوننا بصيغة المضارع) بياناً لأن الدعوة الإلهية هي مبتدأ نيل الخلاص.
٤ «ٱللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا ٱلْمَوَاعِيدَ ٱلْعُظْمَى وَٱلثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلإِلٰهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ ٱلْفَسَادِ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ بِٱلشَّهْوَةِ».
ص ٣: ٩ و١٣ وأفسس ٤: ١٣ و٢٤ وعبرانيين ١٢: ١٠ و١يوحنا ٣: ٢ وص ٢: ١٨ و١٩ و٢٠ ويعقوب ١: ٢٧
ٱللَّذَيْنِ بِهِمَا أي المجد والفضيلة.
قَدْ وَهَبَ لَنَا أي الله الذي دعانا.
ٱلْمَوَاعِيدَ ٱلْعُظْمَى وَٱلثَّمِينَةَ أي البركات الموعود بها لا المواعيد نفسها. وهذه البركات ليست بركات العهد القديم فقط بالنظر إلى مجيء المسيح بل مواعيد الإنجيل أيضاً وهي التي تكلم بها المسيح نفسه في بيان غاية مجيئه وموهبة الروح القدس التي وعد الآب بها ولا سيما مواعيده المتعلقة بمجيئه ثانية ليثيب عبيده ويعاقب الأشرار.
ووصف هذه المواعيد «بالعظمى» لأنه يتعلق بها كمال الحياة المسيحية وتوافق كل الأحوال التي يكون المؤمنون فيها ووصفها «بالثمينة» لأنها حقيقية مؤكدة لا مجرد أقوال ولأنها قادرة على تعزية نفس الإنسان وعلى أن تؤكد له كل الشرف والسعادة اللذين يقدر أن ينالهما. ومن ذلك مغفرة الخطيئة والأمن عند الموت والتبرير في يوم الدين والقيامة المجيدة والسعادة الأبدية. وكون هذه المواعيد مواعيد الله يؤكد أن لا بد من إنجازها وهي تتضمن كل ما يختص بسعادتنا في هذا العالم والعالم الآتي المجهول. وهو تُظهر عرض محبة الله وطولها وعمقها وعلوّها المحبة التي تفوق العلم فإذاً هي ثمينة إلى الغاية. وما هي إلا آنية ذهبية مملوءة بأفخر جواهر السماء.
لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا أي بواسطة هذه المواعيد. وهذا بيان غاية الله من إعطائها إذ أنها مقترنة بإعطائه المسيح والروح القدس. فقصد الله أن يبني المؤمنون كل رجائهم البركات المذكورة هنا على تلك المواعيد. وهذا القول يشبه قول بولس «إِذْ لَنَا هٰذِهِ ٱلْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ» (٢كورنثوس ٧: ١).
شُرَكَاءَ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلإِلٰهِيَّةِ أي صفاتها الأدبية التي لله في الكمال ويمكن خليقته أن تشبهه فيها بعض الشبه مثل القداسة والمحبة والحق والبر والسلام والفرح والمسرّة بالإحسان وطول الأناة لا بالمعنى إن الطبيعة البشرية تصير إلهية. والخلاصة أن معناها أن الله الذي خلق الإنسان أصلاً على صورته تعالى قصد بتجسد المسيح وموهبة الروح القدس أن يجعلنا مثله في كل ما يمكن أن يكون الأولاد كأبيهم السماوي وذلك «تَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ» (أفسس ٤: ٢٤). وهذا نتيجة الولادة الجديدة التي بها نصير أبناء الله (١بطرس ١: ٢٣) والبركات المتعلقة بالولادة الجديدة.
هَارِبِينَ مِنَ ٱلْفَسَادِ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ بِٱلشَّهْوَةِ أشار بقوله «بالشهوة» إلى أن علّة الفساد الذي في العالم ليست في مادّة العالم أو مادّة الإنسان التي خُلق منها بل الشهوة نفسها. وهذا «الفساد» دليل على قوة الخطيئة على إضرار النفس والجسد وإهلاكهما. والخطيئة تفسد كل أهل العالم إذا كانوا منفصلين عن الله وخاضعين لشهواتهم. والمؤمنون يجب «لكي يصيروا شركاء الطبيعة الإلهية» أن ينالوا من الله نعمة النجاة من ذلك الفساد التي بدونها تستحيل قداستهم. وهنا التباين بين شركاء الطبيعة الإلهية الذين هربوا من فساد العالم وأهل فساد العالم بالشهوة.
حث المؤمنين أن يتقدموا في الفضائل الروحية تدرجاً وأن يجعلوا دعوتهم واختيارهم ثابتين ع ٥ إلى ١١
٥ «وَلِهٰذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ ٱجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي ٱلْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً».
كولوسي ٢: ٣ ع ٢
وَلِهٰذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ ٱجْتِهَادٍ هذا متعلق بالآية الثالثة وهو يبيّن أن نيل كل ما هو ضروري للحياة والتقوى ومشاركة الطبيعة الإلهية بمعرفة يستلزم وجوب الاجتهاد والتقدم. فعظمة النعمة أوجبت عليهم فرط الغيرة لكي ينتفعوا بهذه النعمة العظمى ويبلغوا الكمال.
قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً وصف عمل الله بأنه وُهب لنا (ع ٤) وعمل الإنسان تقديم الفضيلة بدليل قوله «قدّموا» فاعتبر الرسول أن الإيمان هو الأصل الذي تتفرغ منه الفضائل السبع الروحية المذكورة هنا فاعتبر الإيمان أُماً لها جميعاً. واعتبر الإيمان ثابتاً يُقدّم عنه ولا يقدّم لكونه موهبة من الله (ع ٣ وأفسس ٢: ٨). ولم يقصد أن يُظهروا هذه الفضائل على الترتيب المذكور هنا أي أن يظهروا الفضيلة أولاً والمعرفة ثانياً والتعفف ثالثاً الخ وإنه لا يجوز أن تكون المعرفة أو غيرها من الفضائل أولاً. ولم يبين النسبة بين كل فضيلة وما قبلها أو ما بعدها بل أوجب عليهم أن يجتهدوا لكي يقتنوا كل تلك الفضائل وأن لا يكتفوا بواحدة أو اثنتين منها لأن حياتهم المسيحية لا تكمل إلا بها كلها. وذكّرهم بوجوب الإيمان لأنه بمقتضى الإنجيل هو أساس كل الفضائل الروحية ولكي لا يتوهموا أن لهم إيماناً تبرروا به وأنهم لا يحتاجون إلى غيره من الفضائل قال لهم «قدموا في إيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة الخ». وهذا يوافق قول يعقوب الرسول «مَا ٱلْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَاناً وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ؟ هَلْ يَقْدِرُ ٱلإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ» (يعقوب ٢: ١٤). والمراد «بالفضيلة» هنا نشاط روحي وشجاعة النفس فهي مثل معنى قول بولس «كونوا رجالاً» (١كورنثوس ١٦: ١٣).
ونسب بطرس الفضيلة إلى الله في (ع ٣) «والفضيلة» هنا ما يجعل إيمان الإنسان مثمراً في أعمال صالحة دونها الإيمان ميّت.
وَفِي ٱلْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً المقصود «بالمعرفة» هنا قوة التمييز بين الحلال والحرام وأن يدرك المؤمن ما هي إرادة الله في كل الأمور لكي يعرف الغاية الصالحة والطريق الصالحة لنيل تلك الغاية في الوقت الموافق. والكلمة اليونانية المترجمة هنا «بالمعرفة» ليست هي الكلمة اليونانية المترجمة بها المعرفة في (ع ٢ و٣ و٨) التي تعني المعرفة التامّة.
٦ «وَفِي ٱلْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفاً، وَفِي ٱلتَّعَفُّفِ صَبْراً، وَفِي ٱلصَّبْرِ تَقْوَى».
أعمال ٢٤: ٢٥ ولوقا ٢١: ١٩
تَعَفُّفاً التعفف امتناع النفس عن كل الأميال الشريرة والمشتهيات المحرمة. وقوة إخضاع الشهوات لإطاعة العقل والضمير فيصح أن نعتبر التعفف ثمر المعرفة المذكورة آنفاً لأن بها يتعلم المؤمن أن يعتزل الشر ويطلب الصلاح (١كورنثوس ٢٦: ١).
خاطب بولس فيلكس الوالي في وجوب التعفف (أعمال ٢٤: ٢٥). وذكر هذه الفضيلة آخر فضائل أعمال الروح (غلاطية ٥: ٢٣).
صَبْراً وهو القوة على احتمال المصائب والضيقات بلا تذمر فهو يؤكد ثبات المؤمن في وقت الهوان والفقر والأخطار والاضطهاد واحتمال تجارب هذا العالم بلا تزعزع. قال المسيح لتلاميذه «بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لوقا ٢١: ١٩). وقال يعقوب الرسول إن الصبر يؤدي إلى كمال المؤمن (يعقوب ١: ٣ و٤).
تَقْوَى هي مخافة الله التي تحمل الإنسان على تعظيم الله وإكرامه في كل أفكاره وأقواله وأعماله ويجعل رضاه تعالى غاية حياته ومصدر كل سعادته. وهذه التقوى أصل الصبر في الضيقات والتعفف واعتزال الشهوات الرديئة.
٧ «وَفِي ٱلتَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي ٱلْمَوَدَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً».
رومية ١٢: ١٠ و١بطرس ١: ٢٢
مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً أي محبة أهل بيت الإيمان الذي هم شركاؤهم في «نعمة الحياة» (١بطرس ٣: ٧). إن المؤمن ليس منفرداً في هذا العالم فلا يليق أن يقصر النظر على ما هو لنفسه لكنه محاط بالإخوة ودين المسيح يوجب عليه أن يحب الله ويحب أخاه أيضاً (١يوحنا ٤: ٢٠ و٢١ ويوحنا ١٣: ٣٤ ورومية ١٢: ١٠ وغلاطية ٦: ١٠ و١تسالونيكي ٤: ٩ وعبرانيين ١٣: ١ وبطرس ١: ٢٢).
مَحَبَّةً هي المحبة الشاملة لكل البشر فتحمل المسيحي على أن يرغب في نفع الجميع لأنهم خُلقوا على صورة الله ولأن المسيح مات عن نفوس الجميع (متّى ٥: ٤٦ و٤٧ و١تسالونيكي ٣: ١٢). وأول هذه الفضائل الإيمان وآخرها على ترتيب ذكرها المحبة فهي إكليلها فيستحيل على المؤمن أن يزيد على هذا البيان. لأن «اَللّٰهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي ٱللّٰهِ وَٱللّٰهُ فِيهِ» (١يوحنا ٤: ١٦). وبداءة بيان هذه الفضائل ونهايتها مثل البيان الذي ذكره بولس في (كولوسي ٣: ١٢ - ١٤). والآيات الثلاث التي ذُكرت فيه مختصر رسالة بطرس الأولى لأنه تكلم على الفضيلة فيها في (١: ١٣) والمعرفة في (٢: ١٥) والتعفف في (١: ١٥ و٢: ١١) والصبر في (١: ٦ و٢: ٢١) والتقوى في (١: ١٥ و١٦ و٣: ٤). والمودة الأخوية في (١: ٢٢ و٢: ١٧ و٣: ٨ و٤: ٨) والمحبة في (٤: ٨). وعلى هذه الصورة يجب على كل مؤمن أن يبني على أساس إيمانه مسكناً مقدساً للرب. فكل درجة في سلم هذه الفضائل تسهل الصعود إلى الدرجة التي فوقها.
٨ «لأَنَّ هٰذِهِ إِذَا كَانَتْ فِيكُمْ وَكَثُرَتْ، تُصَيِّرُكُمْ لاَ مُتَكَاسِلِينَ وَلاَ غَيْرَ مُثْمِرِينَ لِمَعْرِفَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
كولوسي ١: ١٠
في هذه الآية بيان علّة أمر الرسول بالتقدّم وبممارسة الفضائل المذكورة هنا.
لأَنَّ هٰذِهِ إِذَا كَانَتْ فِيكُمْ وَكَثُرَتْ المراد «بهذه» الفضائل المذكورة آنفاً. فإن اقتنوها أي غُرست في قلوبهم بنعمة الله وكثرت باجتهادهم وبممارستهم إياها كل يوم (٢تسالونيكي ١: ٣).
تُصَيِّرُكُمْ لاَ مُتَكَاسِلِينَ وَلاَ غَيْرَ مُثْمِرِينَ لا يعتبر الرسول الحصول على هذه الفضائل السبع الغاية المطلوبة بالذات حتى يكتفي المؤمن بالحصول عليها فأوجب على المؤمن أن يعتبرها كنزاً وأن يجتهد أن يزيد مقدارها يوماً فيوماً ويحسبها وسائل لنيل شيء أعظم منها. فوجودها فيه دليل على أنه حي روحياً وكثرتها فيه بيّنة على أنه مثمر نافع. و «مصيرهم غير متكاسلين ولا غير مثمرين» يبرهن أنهم ليسوا كالفعلة الواقفين كل النهار في السوق بطالين (متّى ٢٠: ٣ - ١٦). ولا مثل الشجرة التي أمر صاحبها بأن تُقطع لأنها بلا ثمر (لوقا ١٣: ٧). وهذا يدل على أن الاجتهاد في التقدّم في الحياة الروحية ليس عبثاً بل يكلل بالنجاح كاجتهاد الناس في كسب المال أو الشرف أو العلم الدنيوي. ولعل بطرس قصد بهذه الكلمات وصف المعلمين الكاذبين الذين دخلوا بينهم ليخدعوهم وكانوا خالين من تلك الفضائل.
لِمَعْرِفَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذه الغاية التي يجب أن يجتهدوا في نيلها. وهذه «المعرفة» ليست المعرفة التي ذُكرت في (ع ٥) وهي قابلة الزيادة لكنها المعرفة التامة للمسيح «المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم». قال بولس إن غايته نيل هذه المعرفة (فيلبي ٣: ١٠) وهي تُصيّر المسيحي مثل سيده (١يوحنا ٣: ٢).
٩ «لأَنَّ ٱلَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ هٰذِهِ هُوَ أَعْمَى قَصِيرُ ٱلْبَصَرِ، قَدْ نَسِيَ تَطْهِيرَ خَطَايَاهُ ٱلسَّالِفَةِ».
١يوحنا ٢: ١١ وأفسس ٥: ٢٦ وتيطس ٢: ١٤
إن ما أنبأ به إيجاباً في (ع ٨) بقوله «إِذَا كَانَتْ فِيكُمْ وَكَثُرَتْ الخ» أنبأ به سلباً في هذه الآية بقوله «لأَنَّ ٱلَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ هٰذِهِ الخ». والمشار إليه بقوله «هذه» الفضائل المذكورة في (ع ٥ - ٧).
هُوَ أَعْمَى عمى روحياً فلا يرى قيمة هذه الفضائل ولا خلوه منها ولا يرى خطاياه ولا الخطر المحيط به (يوحنا ٩: ٤١ ورومية ٢: ١٩ و١كورنثوس ٨: ٢ ورؤيا ٣: ١٧).
قَصِيرُ ٱلْبَصَرِ لا يقدر أن يرى إلا الأمور الدنيوية العالمية القريبة إليه ولا يرى الأمور السماوية البعيدة الأبدية فهو خلاف المؤمنين الذين «لَمْ يَنَالُوا ٱلْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا» (عبرانيين ١١: ١٣). وخلاف موسى الذي شهد له بأنه «تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى» (عبرانيين ١١: ٢٧). و «قصير البصر» لا يرى واجباته المعلنة بالإنجيل ولا غاية تعليمه.
قَدْ نَسِيَ تَطْهِيرَ خَطَايَاهُ ٱلسَّالِفَةِ نسب إليه الرسول النسيان فوق العمى. لم يذكر أنه حين آمن انفصل عن الوثنية وسلوكه السابق ووعد أنه يموت للجسد ويحيا للقداسة فنسي ما أوجبت عليه مغفرة خطاياه وهو أن لا يرجع إلى الخطيئة وإنه يتقدم على قدر إمكانه في الفضائل المسيحية. فعدم قيامه بهذه الواجبات قاده إلى نسيانها وهذا النسيان ليس بعلة عماه وقصر بصره بل هو أحد أعراضهما.
١٠ «لِذٰلِكَ بِٱلأَكْثَرِ ٱجْتَهِدُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَٱخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ. لأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذٰلِكَ لَنْ تَزِلُّوا أَبَداً».
رومية ١١: ٢٩ وع ٣ ومتّى ٢٢: ١٤ و١تسالونيكي ١: ٤ ويهوذا ٢٤ وص ٣: ١٧ ويعقوب ٢: ١٠
كرّر الرسول في هذه الآية أمره في الآية الخامسة وهو قوله «قدموا في إيمانكم فضيلة» نظراً لما يتوقف على إطاعته من المنافع العظمى.
لِذٰلِكَ أي للأسباب المذكورة في (ع ٨ و٩).
ٱجْتَهِدُوا يعلمنا الإنجيل افتقارنا إلى الروح القدس لكي نتقدس ونخلص ولكنه يصرّح لنا إن الروح القدس لا يفعل دون استعمال الوسائل فيحث المؤمنين على استعمالها واستعمال إرادتهم ونيتهم وعقولهم في إجراء إرادة الروح ومقاومة الشر والسهر للصلاة ويؤكد لهم أنهم بسعيهم في خلاصهم يعمل الله معهم لكي يريدوا ويعملوا حسب المسرّة (فيلبي ٢: ١٣).
أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَٱخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ سبق الكلام على دعوة الله للمؤمنين في تفسير (أفسس ٤: ١) وعلى الاختيار في تفسير (رومية ٩: ١١ و١تسالونيكي ١: ٤) وكلاهما عمل الله فإنه يدعو المخلَّصين ويختارهم للخلاص كما في (ع ٣ و١بطرس ١: ٢). ولا يمكن أن يكون ريب في دعوة المختارين واختيارهم بالنظر إلى علم الله السابق وقصده ولكن لا طريق لنا إلى تأكيد أنه من هم المدعوون والمختارون إلا بالطريق المعلنة هنا لأنه لا صوت من السماء ينبئ بأنه من هم المختارون ولا رؤيا تُعلن ذلك ولا أحد يقدر أن يقرأ الأسماء المكتوبة في سفر حياة الخروف. والإمارة الوحيدة التي نقدر أن نحكم بها في ذلك هي الحياة المقدسة وممارسة الفضائل المذكورة في (ع ٥ - ٧).
دعانا الله إلى الخلاص في الإنجيل واختارنا من العالم وحثّنا على قبول الدعوة إلى أن نؤمن بالمسيح ونسير كما يليق بالمختارين. فالذي يحب يمكنه أن يتحقق أن الله أحبه أولاً ومن اختار الله نصيباً له وسيداً وإلهاً أمكنه أن يتحقق أن الله اختاره لكي يكون له إلى الأبد.
لأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذٰلِكَ أي ما ذُكر في (ع ٥) وما بعده إلى (ع ٧). والمعنى أنكم إذا اجتهدتم في التقدم وممارسة تلك الفضائل.
لَنْ تَزِلُّوا أَبَداً فلا تهلكوا. والتأييد للنفي لا للزلة. وهذا تأكيد للخلاص قال يعقوب الرسول «إِنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا» (يعقوب ٣: ٢). ولكن نعمة الله تقدّر المؤمن أن يقوم متى عثر (مزمور ٣٧: ٢٤ وأمثال ٢٤: ١٦).
١١ «لأَنَّهُ هٰكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلأَبَدِيِّ».
رومية ٢: ٤ و١تيموثاوس ٦: ١٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٨ وص ٢: ٢ و٣: ١٨
لأَنَّهُ هٰكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ أي إذا تقدمتم أنتم في الفضائل المذكورة في (ع ٥) وأكثرتم من ممارستها (ع ٨) قدّم الله لكم بسعة الدخول إلى ملكوته.
دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا الخ فيكون دخولكم كدخول الابن المحبوب المكرّم إلى بيت أبيه فلا تكونوا كالذين «يخلصون كما بنار» (١كورنثوس ٣: ١٥) أو الذين بالجهد يخلصون عند انكسار السفينة (١بطرس ٤: ١٨) بل تُفتح لكم أبواب المدينة السماوية على سعتها وتكللكم كل الفضائل المذكورة كمن في موكب المنتصرين (يوحنا ١٤: ٢ وغلاطية ٦: ٨). ويظهر أننا على قدر ما نستفيد من نعمة الله في هذا العالم نكسب مجداً وسعادة في العالم الآتي. وصف ملكوت المسيح بأنه أبديٌّ بمقتضى النبوءة به في (دانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤).
التصريح بغاية هذه الرسالة ع ١٢ إلى ١٥
١٢ «لِذٰلِكَ لاَ أُهْمِلُ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ دَائِماً بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَالِمِينَ وَمُثَبَّتِينَ فِي ٱلْحَقِّ ٱلْحَاضِرِ».
يهوذا ٥ وفيلبي ٣: ١ و١يوحنا ٢: ٢١ وكولوسي ١: ٥ و٢يوحنا ٢
لِذٰلِكَ أي لأن القيام بما ذُكر من الواجبات شرط نيل بركات ذلك الملكوت وأمجاده.
لاَ أُهْمِلُ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ دَائِماً بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ أي بكتابته فيها كما فعل هنا. والمراد بقوله «هذه الأمور» الحقائق المذكورة آنفاً.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَالِمِينَ أظهر مثل هذا التلطف بولس (رومية ١٥: ١٤ و١٥) ويوحنا (١يوحنا ٢: ٢١). إن الذين سمعوا الإنجيل واعترفوا به يحتاجون إلى أن يذكرهم معلموهم الروحيون بما هو أهم لأن من نتائج هموم هذا العالم وملاهيه وأحزانه وتجاربه أن تجعل الناس ينسون ذلك الأهم أو يستخفون به حتى لا يؤثر في قلوبهم وضمائرهم كما يجب.
وَمُثَبَّتِينَ فِي ٱلْحَقِّ ٱلْحَاضِرِ هذا مثل قوله في رسالته الأولى (١بطرس ٥: ١٠) وعلى وفق قول المسيح له «وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا ٢٢: ٣٢). وأراد «بالحق الحاضر» الحق الذي عرفوه بتبشير الإنجيل. وهذا كقول بولس «ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ بِهِ قَبْلاً فِي كَلِمَةِ حَقِّ ٱلإِنْجِيلِ، ٱلَّذِي قَدْ حَضَرَ إِلَيْكُمْ» (كولوسي ١: ٥ و٦) وهو «ٱلإِيمَانِ ٱلْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ» (يهوذا ٣). وهذا الحق اجتهد المعلمون الكاذبون أن يفسدوه ويحرموهم إياه.
١٣ «وَلٰكِنِّي أَحْسِبُهُ حَقّاً مَا دُمْتُ فِي هٰذَا ٱلْمَسْكَنِ أَنْ أُنْهِضَكُمْ بِٱلتَّذْكِرَةِ».
فيلبي ١: ٧ و٢كورنثوس ٥: ١ و٤ وع ١٤ وص ٣: ١
أَحْسِبُهُ حَقّاً أي أعتبره واجباً عليّ بالنظر إلى كوني رسولاً أمره المسيح بقوله «ارع غنمي» (يوحنا ٢١: ١٦) فلم يتطفل على ذلك.
مَا دُمْتُ فِي هٰذَا ٱلْمَسْكَنِ أي ما بقيت حياً. اعتبر الرسول جسده مسكناً وقتياً لنفسه (انظر تفسير ٢كورنثوس ٥: ١ و٢). وفي هذا القول تصريح بخلود النفس وقصر الوقت الذي فيه تسكن الجسد وسهولة انتقال المؤمن إلى مسكنه السماوي.
أُنْهِضَكُمْ بِٱلتَّذْكِرَةِ كأن نفوسهم نائمة تحتاج إلى من يوقظها (ص ٣: ١ ومرقس ٤: ٣٨ و٣٩ ولوقا ٨: ٢٤). ويظهر من ذلك أنه حسبهم في خطر غير منتبهين لتلك الحقائق ذات الشأن وأعداؤهم مستعدون لانتهاز فرصة غفلتهم ليسبوهم. والمراد «بالتذكرة» ما أتاه في هذه الرسالة.
١٤ «عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً».
٢تيموثاوس ٤: ٦ و٢كورنثوس ٥: ١ ويوحنا ١٣: ٣٦ و٢١: ١٩
عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ هذا يدل على أنه تيقن قرب وفاته وأن فرَصهُ لتعليمهم وإنذارهم صارت قليلة وهذا حمله على أن يكتب إليهم حالاً بالحرارة والغيرة.
كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وهو على شاطئ بحر الجليل على أثر قيامه إذ قال له «متى شخت الخ» (يوحنا ٢١: ١٨) وهو الآن قد شاخ فعرف من ذلك أنه على وشك أن يموت وأن موته سيكون على رغمه أو أنه يموت بالصلب. نعم إن شيخوخته وحدها تنبئ بقرب موته وأنبأ المسيح إياه بذلك زيادة على إنباء الشيخوخة. وطعن الإنسان في السن وتيقنه قرب الأجل مما يحمله على الاجتهاد في إتمام كل ما وضعه الله عليه من الواجبات.
١٥ «فَأَجْتَهِدُ أَيْضاً أَنْ تَكُونُوا بَعْدَ خُرُوجِي تَتَذَكَّرُونَ كُلَّ حِينٍ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ».
لوقا ١٩: ٣١
قصد الرسول بهذه الآية أن رسائله تشهد بعد موته بالحقائق التي بشر بها في حياته. لا نعلم يقيناً إلى مَ أشار إليه بهذا القول ولكن المرجّح أنه أشار به إلى هذه الرسالة عينها. وظن بعضهم أنه أشار إلى الإنجيل الذي كتبه مرقس بإرشاده أو كان على وشك أن يكتبه أيضاً وظن غيرهم أنه أشار إلى قصده أن يكتب مثل هاتين الرسالتين إن بقي حياً. ولا دليل على صحة قول بعض التقليديين أنه أشار بذلك إلى أنه يسوس الكنيسة دائماً وأنه يشفع فيها في السماء. وتعبيره هنا عن موته «بالخروج» كتعبيره عن موت المسيح (لوقا ٩: ٣١).
إثبات تعليم الرسل ع ١٦ إلى ١٩
١٦ «لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ».
١تيموثاوس ١: ٤ وص ٢: ٣ ومرقس ١٣: ٢٦ و١٤: ٦٢ و١تسالونيكي ٢: ١٩ ومتّى ١٧: ١ الخ ومرقس ٩: ٢ الخ ولوقا ٩: ٢٨ الخ
لأَنَّنَا أي نحن الرسل. ذكر هنا علّة اجتهاده في أن يذكّرهم بالحقائق الإنجيلية.
لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً أي نحن الرسل لم نتبع ذلك لا في وعظنا ولا في كتابتنا. وأشار «بالخرافات المصنعة» إلى أمثال الخرافات الوثنية في شأن الآلهة الكاذبة والخرافات التي اعتقدها بعض اليهود وهي مسطرة في الأسفار غير القانونية المعروفة بالأبوكريفا. وما في أقوال الغنوسيين من التخيلات التي أشار إليها بولس (١تيموثاوس ١: ٤ و٢تيموثاوس ٤: ٤ وتيطس ١: ١٤). فإن غاية تلك الخرافات كلها خداع البسطاء وصرفهم عن التمسك بالحق.
إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ظن بعضهم أنه قصد بذلك ما شهد به لهم في رسالته الأولى (١بطرس ١: ٥ و١٣ و٤: ١٣). وظن آخرون أنه قصد به وعظ كل الرسل الذين شهدوا به بتعليم المسيح ومعجزاته وهو على الأرض. وظن آخرون أنه قصد به إنجيل مرقس الذي كُتب بإرشاده أو نصه والأرجح هو الأول.
بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بإعلان قوته والشهادة بها التي أظهرها بمعجزاته وأعلنها بأقواله ولا سيما تجليه وقيامته.
وَمَجِيئِهِ ليدين العالم (ص ٣: ٤ ومتّى ٢٤: ٣ و٢٧ و١كورنثوس ١٥: ٢٣ و١تسالونيكي ٤: ١٦ فانظر تفسير أعمال ١: ١١). ولعله قصد «بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَمَجِيئِه» شيئاً واحداً وهو إتيانه ثانية للدينونة الذي به يُظهر قدرته العظيمة حسب قوله «حِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ... وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (متّى ٢٤: ٣٠ انظر أيضاً مرقس ٣: ٩ ولوقا ٢٢: ٦٩). ويُظهر المسيح حينئذ قوته بإقامة الموتى وجمعهم للدينونة وفصل بعضهم عن بعض وتعيين نصيب كل منهم.
أنكر بعض من كتب بطرس إليهم هذه الرسالة مجيء المسيح ثانية لأنهم لم يروا علامات تدل على ذلك فقالوا إن كل شيء باقٍ كما كان (ص ٣: ٤) وكان غيرهم في خطر من السقوط «من ثباتهم» (ص ٣: ١٧). ولذلك أورد أسباب الثقة به.
بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ على طور التجلّي (متّى ١٧: ١ - ٥). وكان الرسل المشاهدين لذلك ثلاثة بطرس ويعقوب ويوحنا. وكان تجلي المسيح برهاناً على مجيئه ثانية.
- إنه أكد لهم أنه المسيح فإذاً دعواه كلها حق.
- إنهم سمعوا حينئذ صوتاً من السماء قائلاً أنه ابن الله المحبوب.
- إنه قصد أن يكون تجلّيه عربون مجيئه ثانية وبيان الطريق التي يظهر فيها حينئذ على وفق قوله «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ» (متّى ١٦: ٢٨ انظر أيضاً مرقس ٩: ١ و٩ ولوقا ٩: ٢٧ و٢٨) ورأى بطرس فضلاً عما رآه في التجلي إقامة المسيح للموتى إذ قال لمرثا في إقامة لعازر «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١١: ٤٠ - ٤٤). ومثل شهادة بطرس باعتبار كونه شاهد عيان بعظمة مجد المسيح شهادة يوحنا (يوحنا ١: ١٤).
١٧ «لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهٰذَا مِنَ ٱلْمَجْدِ ٱلأَسْنَى: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ».
متّى ١٧: ٥ ومرقس ٩: ٧ ولوقا ٩: ٣٥ وعبرانيين ١: ٣
لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً ظن بعضهم أنه أشار «بالكرامة» إلى الصوت «وبالمجد» إلى النور الذي ضاء حوله ولكن لا داعي إلى هذا التفصيل بل الضروري أن نعتبر كل المظاهر إثباتاً لعظمة المسيح ولاهوته وسرور الآب به وبعمله. ودعا الرسول هنا الله «الآب» لأن الشهادة التي شهد بها للمسيح هي أنه ابنه.
صَوْتٌ كَهٰذَا الذي سأذكره.
مِنَ ٱلْمَجْدِ ٱلأَسْنَى قال هذا بياناً لجلال الله أو إشارة إلى السحابة المنيرة التي خرج الصوت منها. وكانت تلك السحابة مثل السحابة النارية التي كانت تسير قدام بني إسرائيل في البرية وكانت لهم علامة محسوسة على وجود الله. قال متّى «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متّى ١٧: ٥ انظر أيضاً مرقس ٩: ٧ ولوقا ٩: ٣٥).
١٨ «وَنَحْنُ سَمِعْنَا هٰذَا ٱلصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي ٱلْجَبَلِ ٱلْمُقَدَّسِ».
خروج ٣: ٥ ويشوع ٥: ١٥
يثبت هنا صحة الحادثة بذكر الشهود المعروفين.
نَحْنُ سَمِعْنَا أي أنا بطرس ويوحنا ويعقوب شهود العيان المذكورون سابقاً (ع ١٦). فإن كلا منهم نظر بعينيه وسمع بأذنيه فلا يمكن أن يكون التجلّي صورة خياليّة أو رؤيا.
فِي ٱلْجَبَلِ ٱلْمُقَدَّسِ صار مقدساً بظهور مجد الله فيه كالمكان الذي ظهر الله فيه لموسى إذ قال له «ٱخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ» (خروج ٣: ٥ انظر أيضاً يشوع ٥: ١٥). ولم يكن لطور التجلي ذلك الوصف قبلاً لكنه اعتبره مقدساً الذين سمعوا نبأ ما كان فيه.
إثبات مجيء المسيح من أقوال العهد القديم ع ١٩ إلى ٢١
١٩ «وَعِنْدَنَا ٱلْكَلِمَةُ ٱلنَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، ٱلَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ ٱنْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ ٱلنَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ ٱلصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ».
١بطرس ١: ١٠ وعبرانيين ٢: ٢ ومزمور ١١٩: ١٥ ولوقا ١: ٧٨ ورؤيا ٢٢: ١٦ و٢كورنثوس ٤: ٦
عِنْدَنَا ٱلْكَلِمَةُ ٱلنَّبَوِيَّةُ تثبّت تعليمنا في شأن مجيء المسيح الثاني ومجده المستقبل وأشار «بالكلمة النبوية» إلى شهادة كل الأنبياء بذلك ولم يشر إلى نبي بعينه.
وَهِيَ أَثْبَتُ يستحيل أن يكون المراد بهذا أن بطرس عنى إن شهادة الأنبياء بمجيء المسيح المستقبل أثبت من صوت الآب من السماء ومن أقوال الرسل في هذا الأمر لأنه قال في الأنبياء سابقاً «ٱلَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا ٱلْوَقْتُ ٱلَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِٱلآلاَمِ ٱلَّتِي لِلْمَسِيحِ وَٱلأَمْجَادِ ٱلَّتِي بَعْدَهَا» (١بطرس ١: ١٠ و١١). وقال أيضاً بطرس في المسيح في وعظه في الهيكل «ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ ٱلسَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا ٱللّٰهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ» (أعمال ٣: ٢١). فإذاً معناه إن شهادة الأنبياء أثبت من شهادة الرسل بالنظر إلى كثرتهم لأن شهود التجلّي المعاينين ليسوا سوى ثلاثة والأنبياء أكثر وشهادتهم متعددة وشهادة الرسل واحدة وشهادة الأنبياء مكتوبة يمكن النظر فيها ومقابلة بعضها ببعض وكُتبت قبل التجلي بزمن طويل وعلى توالي المدد لا يمكن أن يكون اتفاق بينهم مع ما بينهم من المدد المختلفة على خداع الناس. وأما ذلك الاتفاق فيمكن أن يكون بين ثلاثة في آن واحد. فشهادة الأنبياء كانت أثبت لما ذُكر ولأنها ثبتت بأن نجزت حتى إن كل من أراد أن يتحقق ذلك أمكنه بتوجيه النظر إلى إتمام النبوءة.
ٱلَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ ٱنْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا هذا تصريح بعظمة النبوءات التي في كتاب الله ووجوب أن يدرسها الناس.
كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ وجود السراج في الظلام يظهر الخفيات التي لا تُرى بدونه ويوضح ما يكون بدونه مبهماً غير محقق. ومثله النبوءة فإنها تقوّينا كثيراً على إدراك الحق وكشفه فيجب أن نستعملها كما نستعمل السراج فإن السراج وإن لم يعط نوراً كنور الشمن ينفع كثيراً والنبوءة لا تُعطي نوراً كاملاً ولا تزيل كل ريب ومع ذلك يصدق عليها قول النبي «سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي» (مزمور ١١٩: ١٠٥). وصف إشعياء الظلام بقوله «هَا هِيَ ٱلظُّلْمَةُ تُغَطِّي ٱلأَرْضَ وَٱلظَّلاَمُ ٱلدَّامِسُ ٱلأُمَمَ» (إشعياء ٦٠: ٢). وهذا وصف لمن معرفتهم الروحية قليلة واختبارهم زهيد بالنسبة إلى الذين لهم نور الإنجيل الجليّ. والظلام حال العالم بلا المسيح والروح القدس.
إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ ٱلنَّهَارُ دلّ الرسول بهذا على النور الساطع الذي يشرق على كل الأمور بمجيء المسيح ثانية مع أنها مبهمة للذين ليس لهم سوى سراج نبوآت العهد القديم ومجهولة لمن ليس لهم تلك النبوآت (انظر رؤيا ٢١: ٢٣ - ٢٥). فالخطأة قبل تجديد قلوبهم هم ظلمة ولكنهم بالولادة الجديدة صاروا أنواراً في الرب (أفسس ٥: ٨). والمؤمنون قبل مجيء المسيح ثانية في ظلمة بالنسبة إلى أنفسهم بعد ذلك من جهة معرفتهم وقداستهم وسرورهم بدليل قول بولس «لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ ٱلْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ ٱلتَّنَبُّؤِ. وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱلْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ» (١كورنثوس ١٣: ٩ و١٠). و «النهار» هنا وقت إنجاز النبوءة.
وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ ٱلصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ كوكب الصبح يسبق الشمس وينبئ بقرب طلوع النهار (رؤيا ٢: ٢٨ و٢٢: ١٦). وكان يوحنا المعمدان بمنزلة ذلك الكوكب قبل استعلان المسيح بدليل قول المسيح «كَانَ هُوَ ٱلسِّرَاجَ ٱلْمُوقَدَ ٱلْمُنِيرَ» (يوحنا ٥: ٣٥). وأشار بقوله «في قلوبكم» إلى أن تلك القلوب كانت مظلمة قبلاً. وإن النور الذي يشرق هو نور روحي ينير القلوب لا العيون الجسدية. وما قيل هنا في كون تعليم الأنبياء للمؤمنين يومئذ استعداداً لمعرفتهم وهم قديسين في السماء بعد إتيان المسيح في المجد يصدق على كل تعاليم الكتاب المقدس وحينئذ يتم قول النبي «اَلْمَلِكَ بِبَهَائِهِ تَنْظُرُ عَيْنَاكَ. تَرَيَانِ أَرْضاً بَعِيدَةً» (إشعياء ٣٣: ١٧). وقول يوحنا الرسول «وَلاَ يَكُونُ لَيْلٌ هُنَاكَ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى سِرَاجٍ أَوْ نُورِ شَمْسٍ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ يُنِيرُ عَلَيْهِمْ» (رؤيا ٢٢: ٥).
٢٠ «عَالِمِينَ هٰذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ ٱلْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ».
ص ٣: ٣ ورومية ١٢: ٦
عَالِمِينَ هٰذَا أَوَّلاً إنه علاوة على وجوب الانتباه لكلام النبوءة يجب عليهم أن يعلموا ما سيذكره وينتبهوا له لكي يدركوا معناه.
أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ ٱلْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ لا يظهر جلياً من النص أنه هل قصد تفسير الأنبياء أنفسهم أو تفسير قراء النبوءة لكن الآية الآتية تعيّن الأول وهي قوله ما معناه أن النبوءات ليست من الأنبياء أنفسهم بل من الروح القدس. والمراد «بالتفسير» هنا إدراك الإنسان تمام معنى النبوءة حتى يندر أن يوضحه لغيره. كما يظهر من قول الإنجيلي في المسيح «وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى ٱنْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ» (مرقس ٤: ٣٤). ومعنى الجملة أن الأنبياء لم يتنبأوا لأنهم عرفوا قبلاً ما تنبأوا به ثم تكلموا بما عرفوا لأنه لا قوة لهم على علم ما في المستقبل حتى تكون نبوّتهم تفسير علمهم الخاص.
وليس المعنى هنا كما ظن بعض التقليديين أنه يستحيل أن أفراد المؤمنين يفهمون معنى الكتاب المقدس بل هم مفتقرون إلى تفسير الكنيسة كلها. وليس المعنى أنه لا يحسن أن نفسّر النبوءة على حدة بل يجب أن نأخذ معاني كل النبوءات معاً ولا أن النبوءة لا يمكن أن تُفهم بنفسها بل بإنجازها ولعل هذا صحيح ولكنه ليس بالمراد هنا وليس قصد الرسول تكرير قوله السابق أن الأنبياء لا يفهمون نبوآتهم (١بطرس ١: ١٠ - ١٢). ولا أن قرّاء النبوآت لا يقدرون أن يدركوا المعنى بأنفسهم بل يفتقرون إلى تعليم الروح القدس لكي يستطعيوا تفسيرها فهذا صحيح لكنه ليس المقصود هنا كما تدل القرينة. فالمراد التصريح بأن النبوءة ليست بمقتضى أفكار النبي خاصة أو تصوّرات عقله بل إنها تختلف عن ذلك كثيراً في أصلها وحقيقتها.
٢١ «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
إرميا ٢٣: ٢٦ و٢تيموثاوس ٣: ١٦ و١بطرس ١: ١١ و٢صموئيل ٢٣: ٢ ولوقا ١: ٧ وأعمال ١: ١٦ و٣: ١٨
لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ هذا علّة ما قيل في الآية السابقة وهو نص على أن أصل النبوءة ليس من الإنسان سواء كانت من نبوءات العهد القديم أم من نبوءات العهد الجديد. وهذا يصدق على كل ما في كتاب الله فكل ما في الكتاب لإنجاز غاية إلهية وكل كاتب من كتبته الملهمين مرسل من الله. والمراد بقوله «مشيئة إنسان» الإنسان نفسه فينفي أن أصل النبوءة بشريّ ويثبت أن النبي لم يتنبأ بما له بل بما لله وأن نبوءته ليست من قوة ذاتية فيه.
بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسُونَ أي الناس الذين ألهمهم الله وهذا حملهم على التكلم فلم يتكلموا من مشيئتهم بل بحمل الروح القدس وإعلانه وهذا على وفق قوله في يوم الخمسين في أحدهم «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ ٱلَّذِي سَبَقَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ» (أعمال ١: ١٦).
مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ كما تُساق السفينة من الريح (أعمال ٢٧: ١٥ و١٧). كان الأنبياء كسائر الناس وصاروا أنبياء بتأثير الروح وقوته فهو الذي جعلهم يتكلمون وهم إذا كانوا ممتلئين بالروح لم يعلنوا مشيئتهم بل مشيئة الله. وما قيل هنا في النبوءة يوافق ما قيل في (متّى ١: ٢٢ و٢: ١٥ وأعمال ١: ١٦ و٣: ١٨) وما قيل في العهد القديم (عدد ١١: ١٧ و٢٥ - ٢٩ و١صموئيل ١٠: ٦ و١٠ و١٩: ٢٠ و٢٣ وإرميا ١: ٥ - ٧).
إن أصل الكتاب المقدس إلهي ولكن البشر كانوا آلات الروح لإعلانه وهو مكتوب بلغات الناس لكن كلماته كلمات الذي «تكلم من السماء».
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي
أنبأ الرسول في هذا الأصحاح بقيام أنبياء كذبة بينهم كما كان أنبياء كذبة بين اليهود وإنهم يخدعون كثيرين ويضلونهم ويهلكون أخيراً. وذكر فوق الإنباء بمجيئهم بعض صفاتهم منها أنهم ينكرون الرب الذي فداهم (ع ١). وأنهم يكونون محبين للمال ولطمعهم في العالميات يجتهدون في أن يحوّلوا الناس عن الإيمان ويجعلوهم أتباعاً لهم (ع ٢ و٣). وأنهم يكونون فاسقين فاسدي السيرة ويعلّمون أن دين المسيح يبيح لهم أن يعيشوا بمقتضى شهواتهم الجسدية (ع ٤ - ١٠) وبذلك يختلفون عن الملائكة كل الاختلاف ويشبهون البهائم وأنهم سوف يهلكون مثلها (ع ١١ و١٢). وأنهم يهينون أنفسهم والكنيسة التي ينتسبون إليها (ع ١٣ و١٤) وأنهم مثل بلعام الذي استأجره بالاق ليلعن إسرائيل وأنهم فاسدون ومفسدون ويدّعون الحرية وهم عبيد شهواتهم (ع ١٥ - ١٩). وأنهم ارتدوا عن الإيمان الذي اعتقدوه أولاً فكان خيراً لهم لو بقوا في الحال الأصلية ولم يدّعوا أنهم مسيحيون (ع ٢٠ - ٢٩).
وفي هذا الأصحاح شبه قوي لما في رسالة يهوذا نعلم من السابق أبطرس أم يهوذا.
الإنباء بقيام أنبياء كذبة وذكر بعض صفاتهم ع ١ إلى ٣
١ «وَلٰكِنْ كَانَ أَيْضاً فِي ٱلشَّعْبِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، كَمَا سَيَكُونُ فِيكُمْ أَيْضاً مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ، ٱلَّذِينَ يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ. وَإِذْ هُمْ يُنْكِرُونَ ٱلرَّبَّ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُمْ، يَجْلِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هَلاَكاً سَرِيعاً».
تثنية ١٣: ١ الخ وإرميا ٦: ١٣ ١وتيموثاوس ٤: ١ ومتّى ٧: ١٥ و٢كورنثوس ١١: ١٣ وغلاطية ٢: ٤ ويهوذا ٤ و١كورنثوس ١١: ١٩ وغلاطية ٥: ٢٠ ورؤيا ٦: ١٠ و١كورنثوس ٦: ٢٠
وَلٰكِنْ أي بخلاف الأنبياء القديسين المذكورين في (ص ١) الذين يجب الانتباه لكلامهم.
كَانَ أَيْضاً فِي ٱلشَّعْبِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ المراد «بالشعب» هنا الإسرائيليون شعب الله المختار فاعتبر بطرس كنيسة المسيح بمنزلة الإسرائيليين قديماً وإن ما حدث لهم صورة ما يحدث للكنيسة الجديدة. والمراد «بالأنبياء الكذبة» الذين ادعوا كذباً أنهم أنبياء وهم ليسوا كذلك (إرميا ١٤: ١٤ و٢٣: ٢٥). وأنبأ بهم موسى (تثنية ١٣: ١ - ٥).
كَمَا سَيَكُونُ فِيكُمْ أَيْضاً مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ كما تنبأ المسيح بقيامهم في الكنيسة بقوله «اِحْتَرِزُوا مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ ٱلَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ ٱلْحُمْلاَنِ، وَلٰكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ» (متّى ٧: ١٥ و٢٤: ٢٤). قال بولس لمشائخ كنيسة أفسس «وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ» (أعمال ٢٠: ٣٠).
ٱلَّذِينَ يَدُسُّونَ قوله «يدسون» يدل على خداعهم وخيانتهم في التعليم فإنهم ادّعوا خلاف ما هم عليه حقيقة وعلّموا الباطل وهم يتظاهرون بأنهم يعلّمون الحق.
بِدَعَ هَلاَكٍ آراء دينية تسلب راحة الكنيسة وسلامها وتهلك النفوس (فيلبي ٣: ١٩ ويهوذا ع ٤).
يُنْكِرُونَ ٱلرَّبَّ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُمْ وذلك شر الآثام لأنهم أساءوا إلى المحسن إليهم وكان يجب أن يعترفوا به حتى الموت. فلو أنكروا لاهوت المسيح علانية ورفضوا دعواه لم يكن يخشى أن يسمع الناس كلامهم لكنهم بواسطة دسائسهم جعلوا الناس في ريب من أمر المسيح فقبلوا ما هو مناف لحق المسيح. قال الإنجيل «إن المسيح اقتنانا بدمه» (أعمال ٢٠: ١٨). «وإننا قد اشُترينا بثمن» (١كورنثوس ٦: ٢٠ و٧: ٢٣ ورؤيا ٥: ٩). ولم يبيّن ما هي البدع التي دسوها لكن القرينة تدلّ على أنهم نفوا حقيقة الفداء الذي أنشأه المسيح بموته على الصليب وقيمة ذبيحته الكفارية عن خطايانا. ولعل بطرس حين كتب هذا ذكر بفرط الحزن إنكاره المسيح ثلاث مرات وما نشأ عن ذلك من بكائه المرّ.
يَجْلِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هَلاَكاً سَرِيعاً هذا الهلاك روحي ويحتمل أنه يكون جسدياً فتكون الأنفس بمعنى الذوات لأنهم علّموا شر الضلالات فاستحقوا شر العقاب. وقوله «سريعاً» على أن هلاكهم يكون غير منتظر وأنه هائل كما يكون في مجيء المسيح (١تسالونيكي ٥: ٣).
٢ «وَسَيَتْبَعُ كَثِيرُونَ تَهْلُكَاتِهِمْ. ٱلَّذِينَ بِسَبَبِهِمْ يُجَدَّفُ عَلَى طَرِيقِ ٱلْحَقِّ».
تكوين ١٩: ٥ الخ ويهوذا ٤ وع ٢ و٧ و١٨ ورومية ٢: ٢٤ و١تيموثاوس ٦: ١ وأعمال ١٦: ١٧ و٢٢: ٤ و٢٤: ١٤
وَسَيَتْبَعُ كَثِيرُونَ تَهْلُكَاتِهِمْ أو «دعارتهم» كما في بعض النسخ (انظر حاشية العهد الجديد ذي الشواهد) ويدل على أن سوء تعليمهم كان مقترناً بسوء سيرتهم كما هو الغالب ويقوّي ذلك ما في (ع ١٨ و١٩). والاختبار يشهد بصحة ما قيل هنا فإن الضلال يعدي. فكثيرون يتبعون الضالين مهما كان تعليمهم غريباً جهلياً.
بِسَبَبِهِمْ يُجَدَّفُ عَلَى طَرِيقِ ٱلْحَقِّ يدّعون أنهم متمسكون بحق الإنجيل ولكن سيرتهم الملتوية عثرة لغيرهم وعلة إهانة للمسيح ودينه. فكما أن أعمال تلاميذ المسيح الصالحة تكون سبب تمجيد أبيهم الذي في السماوات (متّى ٥: ١٦) وتبكم أعداء الإنجيل فهكذا سوء سيرة الذين يدّعون أنهم مسيحيون يعرّضهم للخجل والإنجيل للإهانة.
٣ «وَهُمْ فِي ٱلطَّمَعِ يَتَّجِرُونَ بِكُمْ بِأَقْوَالٍ مُصَنَّعَةٍ، ٱلَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ لاَ تَتَوَانَى وَهَلاَكُهُمْ لاَ يَنْعَسُ».
ع ١٤ و١تيموثاوس ٦: ٥ يهوذا ١٦ و٢كورنثوس ٢: ١٧ و١تسالونيكي ٢: ٥ ورومية ١٦: ١٨ وص ١: ١٦ وتثنية ٣٢: ٣٥
أبان في هذه الآية غاية أولئك المعلمين المضلّين وهي الربح الدنيوي فإنهم تاجروا بنفوس الناس كما يتاجر التجار بالبضائع. ووسائل كسب الناس للضلال والشيطان والموت هي أقوال «مصنعة». والمرجّح أن موضوع تلك الأقوال وعدهم الحرّية بالمسيح لكي يفعلوا بمقتضى شهواتهم فهم مثل الذين قال بولس فيهم «َبِٱلْكَلاَمِ ٱلطَّيِّبِ وَٱلأَقْوَالِ ٱلْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ ٱلسُّلَمَاءِ» (رومية ١٦: ١٨ انظر ص ١: ١٦ و١تيموثاوس ٦: ٥ وتيطس ١١: ١ ويهوذا ع ١١ و١٦).
ٱلَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ لاَ تَتَوَانَى اعتقد بطرس إن الله الديّان العادل حكم منذ زمن قديم بأنهم مذنبون وبالعقاب الذي استحقوه وإن ذلك العقاب على وشك أن يقع عليهم على أن الله قد حكم بعقاب جميع الخطأة منذ بدء الخطيئة.
وَهَلاَكُهُمْ لاَ يَنْعَسُ اعتبر بطرس إن الهلاك يُرسل من الله ليجري نقمته وأن هذا المُرسل مستيقظ نشيط مستعد لأن يقبض عليهم ويجري الحكم الذي قضى الله به منذ القديم.
إثبات كلام الرسول من تاريخ الكتاب المقدس ع ٤ إلى ٩
٤ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى مَلاَئِكَةٍ قَدْ أَخْطَأُوا، بَلْ فِي سَلاَسِلِ ٱلظَّلاَمِ طَرَحَهُمْ فِي جَهَنَّمَ، وَسَلَّمَهُمْ مَحْرُوسِينَ لِلْقَضَاءِ».
تكوين ٦ ويهوذا ٦ ورؤيا ٢٠: ١
أخذ بطرس في هذه الآية في ذكر ثلاث حوادث تاريخية تأكيداً لعقاب المعلمين الكاذبين.
لَمْ يُشْفِقْ عَلَى مَلاَئِكَةٍ مع أنهم من أسمى رتب الخلائق لم يمنع الله إجراء حكمه عليهم إذ أخطأوا فبالأولى أنه يعاقب أثمة الناس. قال يهوذا في ذلك «وَٱلْمَلاَئِكَةُ ٱلَّذِينَ لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ، بَلْ تَرَكُوا مَسْكَنَهُمْ حَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ تَحْتَ ٱلظَّلاَمِ» (يهوذا ٦). وخطيئتهم علّة أن الله لم يشفق عليهم أي يعفُ عن قصاصهم. ولم يذكر بطرس ماذا كانت خطيئتهم وكلام يهوذا يشير إلى أن خطيئتهم كانت عدم اكتفائهم برئاستهم. وظن بعضهم أن أبناء الله الذين أخذوا بنات الناس هم الملائكة الذين سقطوا (تكوين ٦: ٢). ولكن الأرجح أن هؤلاء هم أبناء شيت والقول بأنهم ملائكة من الخرافات اليهودية التي لا أساس لها في كتاب الله.
بَلْ فِي سَلاَسِلِ ٱلظَّلاَمِ طَرَحَهُمْ فِي جَهَنَّمَ لعل قوله «طرحهم الخ» من التعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه ولعله أراد «بسلاسل الظلام» شقاء حالهم وعجزهم عن النجاة منه. وأما ما قيل في (لوقا ٨: ٣١ و١بطرس ٥: ٨ ورؤيا ٢٠: ٧) وكون إبليس «رئيس سلطان الهواء» (أفسس ٢: ٢) و «إله هذا الدهر» (٢كورنثوس ٤: ٤) وأمثال ذلك مما يشير إلى حريته وقوته على تجربة الناس فيدل على أن «سلاسل الظلام» ما يكفي منعه من الرجوع إلى مسكنه النوراني الأول ولكنها لا تمنعه من الجولان بين الناس ليسبي الذين يسلّمون لإرادته وكل ذلك استعداد لعقابهم أخيراً (رؤيا ٢٠: ١٠) وأشار الشياطين إلى ذلك بقولهم للمسيح «جِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ ٱلْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا» (متّى ٨: ٢٩).
مَحْرُوسِينَ لِلْقَضَاءِ في اليوم الأخير (رؤيا ٢٠: ١٠ ومتّى ٢٥: ٤١).
٥ «وَلَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱلْعَالَمِ ٱلْقَدِيمِ، بَلْ إِنَّمَا حَفِظَ نُوحاً ثَامِناً كَارِزاً لِلْبِرِّ إِذْ جَلَبَ طُوفَاناً عَلَى عَالَمِ ٱلْفُجَّارِ».
ص ٣: ٦ وحزقيال ٢٦: ٢ و١بطرس ٣: ٢٠ وص ٣: ٦
في هذه الآية دليل ثانٍ من تاريخ الوحي القديم على أن الله يعاقب المعلمين الكاذبين.
وَلَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱلْعَالَمِ ٱلْقَدِيمِ أي على سكان الأرض الأشرار قبل الطوفان (تكوين ٦: ١ - ٧). ونقمة الله يومئذ برهان على أنه يجري نقمته اليوم وأنه يستحيل أن تكون الخطيئة بلا عقاب.
بَلْ إِنَّمَا حَفِظَ نُوحاً ثَامِناً كما أنبأ في رسالته الأولى (١بطرس ٣: ٢٠). وكون نوح واحداً من الثمانية الذين خلصوا برهان على عظمة ذلك العقاب وأن كثرة الأشرار تكون علّة لنجاحهم وأن قلّة الأتقياء لا تكون علّة لهلاكهم.
كَارِزاً لِلْبِرِّ أي للتقوى لا البرّ الذي بالإيمان فإنه وبّخ الناس على شرورهم وحثهم على التوبة (تكوين ٦: ٩ وعبرانيين ١١: ٧ و١بطرس ٣: ٢٠).
إِذْ جَلَبَ طُوفَاناً عَلَى عَالَمِ ٱلْفُجَّارِ نسب بطرس إلى الله ما هو نتيجة آثام الناس كما فعل موسى (تكوين ٦: ١٣). ونتيجة ذلك أن العقاب لا ينفك عن الخطيئة كما أن ظل الإنسان لا يفارقه.
٦ «وَإِذْ رَمَّدَ مَدِينَتَيْ سَدُومَ وَعَمُورَةَ حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِٱلانْقِلاَبِ، وَاضِعاً عِبْرَةً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يَفْجُرُوا».
تكوين ١٩: ٢٤ ويهوذا ٧ ومتّى ١٠: ١٥ و١١: ٢٣ ورومية ٩: ٢٩ وإشعياء ١: ٩ ويهوذا ١٥
إِذْ رَمَّدَ مَدِينَتَيْ سَدُومَ وَعَمُورَةَ كما ذُكر في (تكوين ١٩: ٢٤ و٢٥). وهذا البرهان الثالث على أن الله يعاقب الأشرار. وإحراقه المدينتين حتى صارتا رماداً يدل على هلاكهما الكامل.
حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِٱلانْقِلاَبِ كالإنسان المحكوم عليه بالموت. وهذا دليل على أنه غضب على سكانهما لآثامهم (انظر تكوين ١٩: ٢٩).
وَاضِعاً عِبْرَةً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يَفْجُرُوا أي جاعلاً مثالاً للعقاب الذي يجب على الناس أن يتوقعوه على خطاياهم في كل زمان ومكان. وقصد الله أن يكون عقاب بعض الناس عبرة للآخرين.
٧ « وَأَنْقَذَ لُوطاً ٱلْبَارَّ مَغْلُوباً مِنْ سِيرَةِ ٱلأَرْدِيَاءِ فِي ٱلدَّعَارَةِ».
تكوين ١٩: ١٦ و٢٩ وص ٣: ١٧
وَأَنْقَذَ لُوطاً ٱلْبَارَّ (تكوين ١٩: ١٦). والبرهان على أنه بارٌّ عدم تدنّسه بالفساد الذي كان حوله وإرسال الله ملاكين لإنقاذه وإنقاذ أهل بيته وتصديقه قول الملاكين وإطاعته لهما وقبول الله طلبته من أجل صوغر (تكوين ١٩: ٢١). فإنقاذ الله لوطاً برهان على أنه يميّز بين الأخيار والأشرار ويخلّص أولئك ويهلك هؤلاء. ودُعي باراً لأنه لم يشارك الذين حوله في شرورهم. ولا دليل على أن لوطاً استطاع بوعظه أن يجعل أحداً مثله في البرّ.
٨ «إِذْ كَانَ ٱلْبَارُّ بِٱلنَّظَرِ وَٱلسَّمْعِ وَهُوَ سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ يُعَذِّبُ يَوْماً فَيَوْماً نَفْسَهُ ٱلْبَارَّةَ بِٱلأَفْعَالِ ٱلأَثِيمَةِ».
عبرانيين ١١: ٤
يُعَذِّبُ يَوْماً فَيَوْماً نَفْسَهُ ٱلْبَارَّةَ بِٱلأَفْعَالِ ٱلأَثِيمَةِ استنتج ذلك بطرس مما عرفه بالوحي من صفات لوط. وأشار بعذاب النفس إلى تألمها من الحزن على الخطأة لمشاهدته أعمالهم وأقوالهم الشريرة. وكانت مشاهدته إياها ثقيلة عليه. وذكر يهوذا هلاك الأشرار ولم يذكر نجاة البارّ. وانقلاب سدوم وعمورة بالنار مثال إجراء الله نقمته كإهلاك العالم القديم بالماء وأعظم من ذلك لأنه هلاك تامّ لا ردّ فيه إلى الحال الأولى.
٩ «يَعْلَمُ ٱلرَّبُّ أَنْ يُنْقِذَ ٱلأَتْقِيَاءَ مِنَ ٱلتَّجْرِبَةِ وَيَحْفَظَ ٱلأَثَمَةَ إِلَى يَوْمِ ٱلدِّينِ مُعَاقَبِينَ».
١كورنثوس ١٠: ١٣ ورؤيا ٣: ١٠ ومتّى ١٠: ١٥ ويهوذا ٦
في هذه الآية النتيجة التي قصدها الله في الأمثلة السابقة (ع ٤ - ٨).
يَعْلَمُ ٱلرَّبُّ أَنْ يُنْقِذَ ٱلأَتْقِيَاءَ هذا العلم يستلزم القوة على إجراء الإنقاذ. والمراد «بالأتقياء» هنا الناس الذين مثل نوح ولوط.
مِنَ ٱلتَّجْرِبَةِ أي الضيقات والمصائب والاضطهادات كما في (١بطرس ١: ٦ و٤: ١٢ ويعقوب ١: ٢). ولله وسائل لإنقاذ أتقيائه لا نعلمها فأحياناً ينقذهم بأن يرسل إليهم ملاكاً كما أرسله إلى لوط ودانيال وبطرس وأحياناً بالمعجزات وأحياناً بإماتة المضطهِد (أعمال ص ١٢) وأوقاتاً بإقامة أصدقاء ينقذونهم من الخطر أو بنقلهم إلى السماء. ومثل هذا كثير في الكتاب المقدس كما في تاريخ إبراهيم ويعقوب ويوسف وداود والثلاثة الفتية في بابل.
وَيَحْفَظَ ٱلأَثَمَةَ إِلَى يَوْمِ ٱلدِّينِ مُعَاقَبِينَ كما سيفعل في أمر الأبالسة في اليوم الأخير (رؤيا ٢٠: ١٠).
تشبيه بطرس المعلمين الكذبة بالملائكة الذين سقطوا أو بالبهائم ع ١٠ إلى ١٦
١٠ «وَلاَ سِيَّمَا ٱلَّذِينَ يَذْهَبُونَ وَرَاءَ ٱلْجَسَدِ فِي شَهْوَةِ ٱلنَّجَاسَةِ، وَيَسْتَهِينُونَ بِٱلسِّيَادَةِ. جَسُورُونَ، مُعْجِبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، لاَ يَرْتَعِبُونَ أَنْ يَفْتَرُوا عَلَى ذَوِي ٱلأَمْجَادِ».
ص ٣: ٣ ويهوذا ١٦ و١٨ و٨ وخروج ٢٢: ٢٨ وتيطس ١: ٧
وَلاَ سِيَّمَا ٱلَّذِينَ يَذْهَبُونَ وَرَاءَ ٱلْجَسَدِ كسكان سدوم وعمورة (تكوين ١٩: ٥). وكالفاسقين عامة الذين منهم المعلمون الكاذبون.
فِي شَهْوَةِ ٱلنَّجَاسَةِ أي الشهوة التي تنجّس الجسد والنفس (١تسالونيكي ٤: ٥ وأفسس ٤: ١٨ و١٩).
وَيَسْتَهِينُونَ بِٱلسِّيَادَةِ أي ينكرون الرب الذي اشتراهم (ع ١). إنهم فوق كونهم طمعين (ع ٣) استهانوا بالسيادة وكانوا خبثاء فاسقين أيضاً كما في هذه الآية. والسيادة هنا تشمل السيادة الروحية والسيادة الجسدية والمراد الأكثر هنا السيادة الجسدية من رئاسة الولاة والكنيسة. ولنا من الآية التالية أنهم استخفوا بكل رئاسة لله وللملائكة وللكنيسة وللملوك.
١١ «حَيْثُ مَلاَئِكَةٌ، وَهُمْ أَعْظَمُ قُوَّةً وَقُدْرَةً لاَ يُقَدِّمُونَ عَلَيْهِمْ لَدَى ٱلرَّبِّ حُكْمَ ٱفْتِرَاءٍ».
يهوذا ٦
حَيْثُ مَلاَئِكَةٌ، وَهُمْ أَعْظَمُ قُوَّةً وَقُدْرَةً من المعلمين الكاذبين.
لاَ يُقَدِّمُونَ عَلَيْهِمْ لَدَى ٱلرَّبِّ حُكْمَ ٱفْتِرَاءٍ أي أنهم لا يفترون على ذوي الرئاسة أي الشياطين الذين كانوا أبناء الله قديماً واعتبروا ملائكة بالنظر إلى ما كانوا عليه قبل السقوط. والكلمة اليونانية التي تُرجمت هنا «بالافتراء» تُرجمت في غير هذا الموضع بالتجديف (أعمال ٦: ١١ و١تيموثاوس ١: ١٣ و٢تيموثاوس ٣: ٢). ولا نعلم على أي شيء بنى بطرس كلامه هنا أعلى مخاصمة ميخائيل للشيطان على جسد موسى (يهوذا ٩) أم على ما حدث بين يهوشع الكاهن والملاك والشيطان (زكريا ٣: ٢) أم على شيء ذُكر في الكتب اليهودية غير القانونية.
١٢ «أَمَّا هٰؤُلاَءِ فَكَحَيَوَانَاتٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ، طَبِيعِيَّةٍ، مَوْلُودَةٍ لِلصَّيْدِ وَٱلْهَلاَكِ، يَفْتَرُونَ عَلَى مَا يَجْهَلُونَ، فَسَيَهْلِكُونَ فِي فَسَادِهِمْ».
إرميا ١٢: ٣ ويهوذا ١٠ وكولوسي ٢: ٢٢
أَمَّا هٰؤُلاَءِ فَكَحَيَوَانَاتٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ، طَبِيعِيَّةٍ وصفهم بهذا إظهاراً لجهلهم وتشويشهم. ودليل كونهم كالبهائم بقية الآية. وهم يشبهون البهائم في صفاتهم وفي آخرتهم فإنهم لم ينفعوا الناس شيئاً فحياتهم عبث كالبهائم التي تُصاد وتُقتل.
يَفْتَرُونَ عَلَى مَا يَجْهَلُونَ كان يجب أن يكون جهلهم علّة سكوتهم لكنهم جعلوه علّة افترائهم فحكموا على أنفسهم بأنهم بهائم.
فَسَيَهْلِكُونَ فِي فَسَادِهِم أي إن الفواحش التي أتوها تنشئ لهم فساداً جسدياً يكون علّة هلاكهم فيجلبون دينونتهم على رؤوسهم بمثابرتهم على خطاياهم حتى يبلغوا نهايتها وهي الموت الزمني والموت الأبدي.
١٣ «آخِذِينَ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ. ٱلَّذِينَ يَحْسِبُونَ تَنَعُّمَ يَوْمٍ لَذَّةً. أَدْنَاسٌ وَعُيُوبٌ، يَتَنَعَّمُونَ فِي غُرُورِهِمْ صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعَكُمْ».
رومية ١٣: ١٣ ويهوذا ١٢ و١كورنثوس ١١: ٢٠ و٢١ و١تسالونيكي ٥: ٧
آخِذِينَ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ هذا تفسير العبارة السابقة وهو على وفق شريعة الله الأبدية وهي أن «ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً» (غلاطية ٦: ٧ و٨ انظر أيضاً رؤيا ٢٢: ١١).
ٱلَّذِينَ يَحْسِبُونَ تَنَعُّمَ يَوْمٍ لَذَّةً أي أنهم يسرّون بلذات يوم واحد إلى حد يحسبونها عنده نصيباً لهم يبذلون في سبيله اللذّات الحقيقية الدائمة كلذات الذين على يمين الرب (مزمور ١٦: ١١) وكانوا في ذلك يشبهون عيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته (عبرانيين ١٢: ١٦). والأبيكوريين الذين قالوا «َلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ» فكأنهم قالوا هات اللذة اليوم ودع الغد لشأنه (١كورنثوس ١٥: ٣٢). أو إن المعنى شغلوا النهار علاوة على الليل بالولائم خلافاً للمولمين عادة فإن بطرس بناء على عادة اتخاذ الولائم ليلاً برهن أن الرسل ليسوا بسكارى وذلك قوله ما معناه «لأَنَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ مِنَ ٱلنَّهَارِ. وَٱلَّذِينَ يَسْكَرُونَ فَبِٱللَّيْلِ يَسْكَرُونَ» (أعمال ٢: ١٥ و١تسالونيكي ٥: ٧).
أَدْنَاسٌ اي نجسون فإذا وجدوا في محل نجسوه وكانوا عاراً عليه.
عُيُوبٌ أي هم علّة خزي وخجل لرفقائهم أو ممن يجب أن يُستحيا من مرافقتهم.
يَتَنَعَّمُونَ فِي غُرُورِهِمْ صَانِعِينَ وَلاَئِمَ الخ أي يترفهون باللذّات التي حصلوا عليها بالغش والخداع أو أنهم يدخلون الولائم الحبية التي يأتيها المؤمنون بالرياء والخداع ويتوصلون بها إلى اللذّات البدنية. ولعلهم جعلوا العشاء الربي وليمة جسدية كما فعلت كنيسة كورنثوس جهلاً وبقيت على ذلك وقتاً قصيراً (١كورنثوس ١١: ٢٠ - ٢٢).
١٤ «لَـهُمْ عُيُونٌ مَمْلُوَّةٌ فِسْقاً لاَ تَكُفُّ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، خَادِعُونَ ٱلنُّفُوسَ غَيْرَ ٱلثَّابِتَةِ. لَهُمْ قَلْبٌ مُتَدَرِّبٌ فِي ٱلطَّمَعِ. أَوْلاَدُ ٱللَّعْنَةِ».
يعقوب ١: ٨ وص ٣: ١٦ وأفسس ٢: ٣
لَهُمْ عُيُونٌ مَمْلُوَّةٌ فِسْقاً فيظهرون بعيونهم ما في قلوبهم من الأفكار الرديئة واشتياقهم إلى اللذّات المحرمة أو إنهم يتوقعون دائماً فرصة لاغتنام اللذّات الجسدية المحظورة.
لاَ تَكُفُّ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ خلافاً لأمر المسيح في قوله «فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ» (متّى ٥: ٢٩) فإنهم يشتهون كل ما ينظرونه.
خَادِعُونَ ٱلنُّفُوسَ غَيْرَ ٱلثَّابِتَةِ (ع ١٨ و٢تيموثاوس ٣: ٦ ويعقوب ١: ١٤). فإنهم كانوا يجتهدون في تلك الولائم أن يصيدوا الناس للشر.
لَهُمْ قَلْبٌ مُتَدَرِّبٌ فِي ٱلطَّمَعِ (١كورنثوس ٥: ١١ وأفسس ٥: ٣ و٥). فزادوا حب المال على الترفه والدعارة.
أَوْلاَدُ ٱللَّعْنَةِ أي أنهم ممن توجب عليهم صفاتهم وأعمالهم اللعنة أو أنهم الذين أعلن الله أنهم ملعونون وعرضة للهلاك (٢تسالونيكي ٢: ٣) أو أنهم لا ينفكون يلعنون غيرهم.
١٥ «قَدْ تَرَكُوا ٱلطَّرِيقَ ٱلْمُسْتَقِيمَ، فَضَلُّوا تَابِعِينَ طَرِيقَ بَلْعَامَ بْنِ بَصُورَ ٱلَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ».
أعمال ١٣: ١٠ وعدد ٢٢: ٥ و٧ وتثنية ٢٣: ٤ ويهوذا ١١ ونحميا ١٣: ٢ ورؤيا ٢: ١٤
قَدْ تَرَكُوا ٱلطَّرِيقَ ٱلْمُسْتَقِيمَ قال بولس لعليم الساحر «أَلاَ تَزَالُ تُفْسِدُ سُبُلَ ٱللّٰهِ ٱلْمُسْتَقِيمَةَ» (أعمال ١٣: ١٠). والطريق المستقيم «طريق الحق» (ع ٢ ومتّى ٢١: ٣٢). و «طريق البر» (ع ٢١ وأمثال ١٦: ٣١) و «طريق الرب» (تكوين ١٨: ١٩) و «طريق السلام» (إشعياء ٥٩: ٨) و «طريق الحكمة» (أمثال ٤: ١١) و «طريق الحياة» (أمثال ١٠: ١٧) و «طريق الخلاص» (أعمال ١٦: ١٧). فهؤلاء كانوا أولاً مسيحيين ثم ارتدوا.
فَضَلُّوا في برّية الضلال ومسالك الخطيئة والموت (يوحنا ٧: ١٢ و٢تيموثاوس ٣: ١٣).
تَابِعِينَ طَرِيقَ بَلْعَامَ بْنِ بَصُورَ (عدد ص ٢٢) قال إن المعلمين الكاذبين أشبهوا بلعام لأنهم قاوموا إرادة الله وطلبوا مشيئة أنفسهم وادعوا أنهم عبيد الله ولم يُخلِصوا العبودية له وجعلوا خدمتهم لله وسيلة للربح القبيح. وكان لهم «قلب متدرب في الطمع» و «خدعوا النفوس غير الثابتة» وأغروا الناس بارتكاب الخطيئة التي بها أغرى بلعام الإسرائيليين وهي الفسق (عدد ٣١: ١٦). ودعاه بطرس هنا «بن بصور» ودعاه موسى «بن بعور» ولعل هذا الفرق ناشئ عن فرق اللفظ في العبرانية والسريانية أو اليونانية. وقال يهوذا إن هؤلاء المعلمين يشبهون قايين وقورح (يهوذا ١١).
ٱلَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ وهي المال الذي أتاه به شيوخ المؤابيين والمديانيين من بالاق ليجعلوا بلعام يلعن إسرائيل (عدد ٢٢: ٧). والمال الذي وعده بالاق به فوق ذلك (عدد ٢٢: ١٧). وقصة بلعام من أولها إلى آخرها تُري أنه علم أن مشيئة الله خلاف طلب بالاق وإنه اشتهى مال بالاق وشاء أن يفعل بمقتضى طلبه ولم يمنعه من ذلك إلا خوف الله وقدرته.
١٦ «وَلٰكِنَّهُ حَصَلَ عَلَى تَوْبِيخِ تَعَدِّيهِ، إِذْ مَنَعَ حَمَاقَةَ ٱلنَّبِيِّ حِمَارٌ أَعْجَمُ نَاطِقاً بِصَوْتِ إِنْسَانٍ».
عدد ٢٢: ٢١ و٢٣ و٢٨ و٣٠
لٰكِنَّهُ حَصَلَ عَلَى تَوْبِيخِ تَعَدِّيهِ كان تعدّيه استمراره على أمل إمكانه أن يلعن إسرائيل ويكسب مال بالاق مع أنه علم أن الله أراد أنه يبارك إسرائيل ورخّص له أن يذهب إلى بالاق على شرط أن يباركهم. وطريق توبيخه في العبارة التالية.
إِذْ مَنَعَ حَمَاقَةَ ٱلنَّبِيِّ حِمَارٌ أَعْجَمُ إن بلعام كان نبياً فوجب أن يكون أحكم من سائر الناس لكنه افتقر إلى إرشاد حمار ليمنعه من إهلاكه نفسه. وأشار بطرس بهذه العبارة إلى حماقة بلعام المذكورة في سفر العدد (عدد ٢٢: ٣٣) ونبأها أن الحمار منعه من التقدّم إلى المكان الذي كان فيه ملاك الرب على وشك أن يضربه بالسيف.
نَاطِقاً بِصَوْتِ إِنْسَانٍ ما أتاه الحمار نجّى بلعام من نتيجة حماقته كما قال الملاك ولكنّ الله أعطى الحمار قوة النطق ليُظهر لبلعام جهله وجوره بضربه الحمار.
تشبيه بطرس المعلمين الكاذبين بأمور أخرى ع ١٧ إلى ٢٢
١٧ «هٰؤُلاَءِ هُمْ آبَارٌ بِلاَ مَاءٍ، غُيُومٌ يَسُوقُهَا ٱلنَّوْءُ. ٱلَّذِينَ قَدْ حُفِظَ لَهُمْ قَتَامُ ٱلظَّلاَمِ إِلَى ٱلأَبَدِ».
يهوذا ١٢ و١٣
هٰؤُلاَءِ هُمْ آبَارٌ بِلاَ مَاءٍ شبههم يهوذا بغيوم بلا ماء. والمسافرون في البادية يقصدون الآبار على أمل أنهم يجدون فيها ماء ينتعشون به ويخلصون من الموت عطشاً لكنهم قد يخيبون وقد يخسرون حياتهم خطاء. كذا من يقصدون المعلمين الكاذبين بغية الانتفاع بهم فيخيبون. وهذا يفيد معنى ما في (أيوب ٦: ١٥ - ٢٠ وإرميا ٢: ١٣ و١٤: ٣).
غُيُومٌ يَسُوقُهَا ٱلنَّوْءُ وهذه الغيوم تنبئ بالمطر وإنعاش البشر والنبات ولكنها رقيقة غير ممطرة تزول دون أن تنفع شيئاً فكذلك أولئك المعلمون فإنهم يعدُون ولا يفون. فهم كالغيوم يتظاهرون بفضائل ليست لهم.
ٱلَّذِينَ قَدْ حُفِظَ لَهُمْ قَتَامُ ٱلظَّلاَمِ إِلَى ٱلأَبَدِ الأرجح أن هذا ليس إلا وصفاً للمعلمين الكاذبين وعقابهم من الله. وهو إنباء بالخطر منهم على الكنيسة فضلاً عن إهلاكهم أنفسهم. وقوله فيهم «حفظ لهم» كقوله في الملائكة الذين سقطوا (ع ٥ و١بطرس ١: ٤).
١٨ «لأَنَّهُمْ إِذْ يَنْطِقُونَ بِعَظَائِمِ ٱلْبُطْلِ، يَخْدَعُونَ بِشَهَوَاتِ ٱلْجَسَدِ فِي ٱلدَّعَارَةِ مَنْ هَرَبَ قَلِيلاً مِنَ ٱلَّذِينَ يَسِيرُونَ فِي ٱلضَّلاَلِ».
يهوذا ١٦ وأفسس ٤: ١٧ ع ٢٠ وص ١: ٤
إِذْ يَنْطِقُونَ بِعَظَائِمِ ٱلْبُطْلِ هذا مبني على ما سبق من تشبيههم «بآبار بلا ماء وغيوم بلا مطر» فيدّعون المعرفة الفائقة والحكمة العظيمة وإن تعليمهم ذو شأن.
يَخْدَعُونَ بِشَهَوَاتِ ٱلْجَسَدِ هذا بيان ما يخدعون به الناس ليحملوهم على ارتكاب اللذّات المحظورة فيجعلون التمتّع بالشهوات الجسدية وسيلة لجذبهم إلى شبكتهم للهلاك فعلّموا أنه يحلّ لهم أن يفعلوا ما يشتهون من كل شيء.
فِي ٱلدَّعَارَةِ قال هذا إيضاحاً لمعناه في العبارة السابقة.
مَنْ هَرَبَ قَلِيلاً مِنَ ٱلَّذِينَ يَسِيرُونَ فِي ٱلضَّلاَلِ أي نجوا من ضلال عبادة الأوثان ووقعوا في ضلال شرّ منه أتى به الذين ادّعوا أنهم معلمون مسيحيون فخدعوهم بشهوات الجسد.
١٩ «وَاعِدِينَ إِيَّاهُمْ بِٱلْحُرِّيَّةِ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ عَبِيدُ ٱلْفَسَادِ. لأَنَّ مَا ٱنْغَلَبَ مِنْهُ أَحَدٌ فَهُوَ لَهُ مُسْتَعْبَدٌ أَيْضاً!».
رومية ٦: ١٦ ويوحنا ٨: ٣٤
وَاعِدِينَ إِيَّاهُمْ بِٱلْحُرِّيَّةِ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ عَبِيدُ ٱلْفَسَادِ أي وعدوا غيرهم بما لم يستطيعوا أن يحصّلوه لأنفسهم. فعلّموهم أنه يُباح لهم في الدين المسيحي ما حرّمه الناس وهم تحت رق الفساد فأي حرية يقدرون أن يعلّموهم إياها. فعلّموهم إن التبرير بالإيمان وإن ذلك يحررهم من حفظ الناموس فيجوز للمؤمنين بالمسيح أن يعيشوا كما شاؤوا. وعلّموهم أيضاً أنهم ماتوا للناموس باعتبار كونه واسطة التبرير واستنتجوا من ذلك أنه بطل أن يكون قانون سيرتهم. فقول بطرس الرسول كقول بولس الرسول لأهل غلاطية «فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا ٱلْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ» (غلاطية ٥: ١٣). ولعلهم اعتبروا إن الوصايا التي نشرها المجمع االأول في أورشليم مختصة بالأمم فقط وإن المؤمنين الإسرائيليين معفون من حفظها وهي «أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ نَجَاسَاتِ ٱلأَصْنَامِ، وَٱلزِّنَا، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلدَّمِ» (أعمال ١٥: ٢٠). قال يسوع «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ» (يوحنا ٨: ٣٤).
لأَنَّ مَا ٱنْغَلَبَ مِنْهُ أَحَدٌ فَهُوَ لَهُ مُسْتَعْبَدٌ أَيْضاً (انظر تفسير رومية ٦: ١٦ - ٢٠ و٢كورنثوس ٣: ١٧). قال ذلك بطرس ليُثبت قوله أنهم عبيد الفساد.
٢٠ «لأَنَّهُ إِذَا كَانُوا بَعْدَمَا هَرَبُوا مِنْ نَجَاسَاتِ ٱلْعَالَمِ، بِمَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ وَٱلْمُخَلِّصِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، يَرْتَبِكُونَ أَيْضاً فِيهَا، فَيَنْغَلِبُونَ، فَقَدْ صَارَتْ لَهُمُ ٱلأَوَاخِرُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأَوَائِلِ».
ص ١: ٢ و١١ و٣: ١٨ و٢تيموثاوس ٢: ٤ ومتّى ١٢: ٤٥ ولوقا ١١: ٢٦
بَعْدَمَا هَرَبُوا مِنْ نَجَاسَاتِ ٱلْعَالَمِ أي من نجاسات الديانة الوثنية فهو لم يزل يتكلم في المعلمين الكاذبين «عبيد الفساد» وهم ادّعوا أنهم انفصلوا عن نجاسات العالم وعن كل ما يتعلق بها حين آمنوا بالمسيح.
يَرْتَبِكُونَ أَيْضاً فِيهَا أي في الشهوات الجسدية التي هي شبكة النفوس يصادون بها ويهلكون.
فَقَدْ صَارَتْ لَهُمُ ٱلأَوَاخِرُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأَوَائِلِ هذا على وفق قول المسيح في المرتدين عنه (متّى ١٢: ٤٥). وصحة هذا القول واضحة لأنه لا يقدرون أن يتخذوا جهلهم عذراً لأعمالهم. والمعرفة المذكورة هنا ليست المعرفة للخلاص بل هي ما ذُكر في (ص ١: ٢ و٤ و٨). فإذاً لا شيء هنا ينافي ثبوت المؤمنين. والخلاصة إن دينونة الوثني الذي يهلك في خطيئته وعمايته أخف من دينونة الذي سمع الإنجيل وادّعى أنه قبله وإنه يسير بمقتضاه ثم رجع إلى ممارسة الفواحش التي ادعى أنه اعتزلها. فقابل الرسول هنا الشرير في حالين الحال الأولى يوم كان جاهلاً فأخطأ فهذه قابلها بحاله الثانية وهو يرتكب الخطيئة نفسها بعد ما استنار بالإنجيل ويعرف ما تطلبه منه ديانته من طهارة القلب والسيرة وادّعى أنه قام بذلك.
٢١ «لأَنَّهُ كَانَ خَيْراً لَـهُمْ لَوْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ ٱلْبِرِّ، مِنْ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا يَرْتَدُّونَ عَنِ ٱلْوَصِيَّةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ ٱلْمُسَلَّمَةِ لَـهُمْ».
مزمور ١٨: ٢٤ وعبرانيين ٦: ٤ الخ و١: ٣٦ ويعقوب ٤: ١٧ وص ٣: ٢ وغلاطية ٦: ٢ و١تيموثاوس ٦: ١٤ ويهوذا ٣
في هذه الآية علّة ما قيل في الآية التي قبلها.
كَانَ خَيْراً لَـهُمْ لَوْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ ٱلْبِرِّ «طريق البر» هو «طريق الحق» المذكور في الآية الثانية علّم فيه المسيح ورسله. ودعاه الرسول «طريق البر» ليظهر فظاعة شرّهم في العدول عنه.
مِنْ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا مطاليبه وثواب الذين يسيرون فيه وعقاب الذين مالوا عنه.
يَرْتَدُّونَ عَنِ ٱلْوَصِيَّةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ ٱلْمُسَلَّمَةِ لَـهُمْ أي شريعة الإنجيل الأدبية المقدسة وسماها يهوذا «الإيمان المسلّم مرة للقديسين» وليس المراد بها وصية المسيح الجديدة (يوحنا ١٣: ٣٤) ولا تفسيرها في الوعظ على الجبل (متّى ص ٥ و٦ و٧).
٢٢ «قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي ٱلْمَثَلِ ٱلصَّادِقِ: كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ، وَخِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ ٱلْحَمْأَةِ».
أمثال ٢٦: ١١
أوضح الرسول قوله في المعلمين الكاذبين بمثلين يبينان فظاعة رجوعهم إلى حالهم الأولى. ولم يتبيّن أَ مّما تداولته ألسنة الناس مأخوذ هذان المثلان أم من الكتاب المقدس.
قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي ٱلْمَثَلِ ٱلصَّادِقِ: كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ في سفر الأمثال ما يشبه هذا المثل قليلاً وهو قوله «كَمَا يَعُودُ ٱلْكَلْبُ إِلَى قَيْئِهِ هٰكَذَا ٱلْجَاهِلُ يُعِيدُ حَمَاقَتَهُ» (أمثال ٢٦: ١١).
وَخِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ ٱلْحَمْأَةِ «المراغة» المتمرّغ أي مكان التمرغ و «الحمأة» الطين الأسود المنتن. وقوله هذا يشبه قول المسيح بعض المشابهة «لاَ تُعْطُوا ٱلْمُقَدَّسَ لِلْكِلاَبِ، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ ٱلْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ» (متّى ٧: ٦). وبهذين المثلين يظهر أنه لم ينشأ تغيّر حقيقي في طبيعتهم أو تتجدّد قلوبهم بدخولهم في عضوية الكنيسة فلم يكن منهم سوى إصلاح السيرة الخارجية وقتياً وإن طبيعتهم الحقيقية ظهرت بعد حين على رغم كل اعترافهم وتغيّرهم الظاهر. وهذا لا يحسب سقوطاً من النعمة بل يُعد برهاناً على أن التغيُّر الخارجي دون النعمة في القلب لا يأتي بالسيرة المقدسة ويستحيل أن يؤهل الإنسان للسماء.
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ
أظهر الرسول في هذا الأصحاح غايته من كتابة هذه الرسالة وهي بيان إن المسيح سيرجع إلى هذا العالم خلافاً لقول المستهزئين وإن الأرض تحترق وأنه يكون على أثر ذلك سماء جديدة وأرض جديدة وواجبات المؤمنين بالنظر إلى هذه الأمور. وفي هذا الأصحاح ثلاثة أقسام:
- الأول: اعتراضات بعض الناس على رجوع المسيح وهلاك العالم لعدم الإمارات على ذلك والأسباب الطبيعية التي ينشأ عنها خراب العالم وإن ثبوت الأرض إلى الآن يدّل على استمرارها ثابتة (ع ١ - ٤).
- الثاني: دفع الرسول الاعتراضات على رجوع المسيح وفيه تأكيد مجيء المسيح واحتراق الأرض وكل ما فيها وأنه تكون سماوات جديدة وأرض جديدة. ومما يبرهن إمكان تغيُّر نظام الطبيعة هو إهلاك العالم القديم بالماء وما حدث مرّة بالماء يمكن أن يحدث مرّة أخرى بالنار (ع ٥ - ٧). وإن الله لا يحسب الزمان كما يحسبه الناس لأنهم سريعو الزوال فما يجب أن يفعلوه يجب أن يفعلوه حالاً وإلا فهم لا يفعلونه لكن الله أبدي يتمم مقاصده في الأبدية فالتباطوء عنده لا يدل على تغييره قصده (ع ٨ و٩). وإن تباطوء الله نتيجة طول أناته وصبره (ع ١٠ - ١٣). وواجبات المؤمنين بالنظر إلى هذه الأمور وإثبات ما سبق من كلامه (ع ١٤ و١٥). وإن بولس الرسول ذكر في ما كتبه أشياء عسرة الفهم. وأما ما قاله في مجيء المسيح ثانية فكله واضح (ع ١٥ و١٦).
- الثالث: نصيحته الوداعية المبنية على ما سبق وتسبيح (ع ١٧ و١٨).
بيان الغاية من كتابة هذه الرسالة ع ١ و٢
١ «هٰذِهِ أَكْتُبُهَا ٱلآنَ إِلَيْكُمْ رِسَالَةً ثَانِيَةً أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، فِيهِمَا أُنْهِضُ بِٱلتَّذْكِرَةِ ذِهْنَكُمُ ٱلنَّقِيَّ».
ع ٨ و١٤ و١٧ و١بطرس ٢: ١١ وص ١: ١٣
هٰذِهِ أَكْتُبُهَا ٱلآنَ إِلَيْكُمْ رِسَالَةً ثَانِيَةً في هذا تصريح إلى أنه كتب الرسالة الأولى منذ أمد غير بعيد وأنه كتب هذه الرسالة إلى الأشخاص الذين كتبت إليهم الرسالة الأولى أنفسهم. ولعله قصد بقوله «الآن» إن وقت انحلاله قريب والإشارة إلى وجود المستهزئين بينهم.
فِيهِمَا أُنْهِضُ بِٱلتَّذْكِرَةِ في هذا بيان أن غاية الرسالتين واحدة.
ذِهْنَكُمُ ٱلنَّقِيَّ أي غير المتكدر بالشهوات أو الخداع. والكلمة اليونانية التي تُرجمت «بالنقي» هنا ترجمت «بالمخلص» في (فيلبي ١: ١٠). فأراد أن تكون أذهانهم منتبهة لكي تعتبر قيمة مجيء المسيح ثانية. وأفضل طريق إلى إنهاض أذهاننا هو أن نتذكر ما أعلنه الله لنا بواسطة أنبيائه ورسله.
٢ «لِتَذْكُرُوا ٱلأَقْوَالَ ٱلَّتِي قَالَـهَا سَابِقاً ٱلأَنْبِيَاءُ ٱلْقِدِّيسُونَ، وَوَصِيَّتَنَا نَحْنُ ٱلرُّسُلَ، وَصِيَّةَ ٱلرَّبِّ وَٱلْمُخَلِّصِ».
يهوذا ١٧ ولوقا ١: ٧٠ وأعمال ٣: ٢١ وأفسس ٣: ٥ ص ٢: ٢١ وغلاطية ٦: ٢ و١تيموثاوس ٦: ١٤
ٱلأَنْبِيَاءُ ٱلْقِدِّيسُونَ كما سبق في (ص ١: ١٩).
وَوَصِيَّتَنَا نَحْنُ ٱلرُّسُلَ، وَصِيَّةَ ٱلرَّبِّ وَٱلْمُخَلِّصِ أتى بأدلة من العهد القديم والعهد الجديد ليحث المؤمنين على انتظار مجيء المسيح ثانية وفي هذا تفسير لقوله «بالتذكرة» فإنه ذكّرهم بأقوال الأنبياء والرسل والرب ويستلزم التحذيرات من الأنبياء الكذبة (متّى ٧: ١٥ و٢٤: ٥ و١١ ومرقس ١٣: ٢٢ ورومية ١٦: ١٧ وأفسس ٥: ٦ و٢تيموثاوس ٤: ٣). وتكلم الإنجيل في مجيء المسيح ثانية صريحاً (متّى ٢٤: ٢٦ - ٣٠ ومرقس ١٣: ٣٥ - ٣٧ ولوقا ١٢: ٤٠ و١تسالونيكي ٥: ٢ - ٤).
الإنباء بمجيء المستهزئين الذين ينكرون رجوع المسيح ع ٣ و٤
٣ «عَالِمِينَ هٰذَا أَوَّلاً: أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي آخِرِ ٱلأَيَّامِ قَوْمٌ مُسْتَهْزِئُونَ، سَالِكِينَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ».
ص ١: ٢٠ و١تيموثاوس ٤: ١ وعبرانيين ١: ٣ ويهوذا ١٨ وص ٢: ١
هذه النبوة الثانية في هذه الرسالة فالأولى الإنباء بقيام المعلمين الكاذبين (ص ٢: ١ - ١٠).
عَالِمِينَ هٰذَا أَوَّلاً أي موضوع كلام الأنبياء (ص ١: ٢٠) وإنه من أهم الأمور التي يجب أن نذكرها.
أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي آخِرِ ٱلأَيَّامِ هي الأيام المذكورة في (١بطرس ١: ٥) وهي تسبق مجيء المسيح ثانية (أعمال ٢٠: ٢٩ و١تيموثاوس ٤: ١ و٢تيموثاوس ٣: ٢). وذُكر هؤلاء «المستهزئون» في رسالة يهوذا (يهوذا ع ١٨).
مُسْتَهْزِئُونَ كان استهزاؤهم إنكارهم صدق النبوءة ووحي الإنبياء ولكن إتيانهم أثبت النبوءة.
سَالِكِينَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ المحظورة لا بمقتضى مشيئة الله وناموسه. فرجعوا عن أن يلبسوا أثواب الحملان لكي يخدعوا غيرهم بل أعلن طبيعتهم الرديئة (ص ٢: ١٩ ويهوذا ١٦ و١٨) فأشبهت خطاياهم خطايا الذين قبل الطوفان وخطايا سدوم وعمورة.
٤ «وَقَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ؟ لأَنَّهُ مِنْ حِينَ رَقَدَ ٱلآبَاءُ كُلُّ شَيْءٍ بَاقٍ هٰكَذَا مِنْ بَدْءِ ٱلْخَلِيقَةِ».
إشعياء ٥: ١٩ وإرميا ١٧: ١٥ وحزقيال ١١: ٣ و١٢: ٢٢ و٢٧ ومتّى ٢٤: ٤٨ وملاخي ٢: ١٧ وع ١٢ و١تسالونيكي ٢: ١٩ وأعمال ٧: ٦٠ ومزمور ١٠: ٦
أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ أي أين إنجاز الوعد. وهذا كلام استهزاء وإنكار للوعد وادّعاء أنه باطل. وجاء مثل هذا في (مزمور ٧٩: ١٠ وإرميا ١٧: ١٥ وملاخي ٢: ١٧). فكأنهم قالوا هذه النبوءة باطلة ولو كانت حقاً لكانت تمّت قبل الآن وعدم إتمامها الآن دليل على أنها لا تتم. والضمير في «مجيئه» إلى المسيح وأخذوا عبارة «موعد مجيئه» من أقوال المؤمنين التي يعبّرون بها عن إتيانه ثانية بالجسد ليعاقب الأشرار ويثيب الأبرار (متّى ٢٤: ٣ و٢٧ و٣٧ و١تسالونيكي ٢: ١٩ و٣: ١٣ و٢بطرس ٣: ١٢).
لأَنَّهُ مِنْ حِينَ رَقَدَ ٱلآبَاءُ المراد «بالآباء» هنا الذين وُعدوا بمجيء المسيح وهم الجيل المسيحي الأول ونسبة أولئك إلى الكنيسة المسيحية كنسبة إبراهيم وإسحاق ويعقوب إلى الكنيسة اليهودية فإنهم توقعوا سرعة إنجاز الوعد وماتوا قبل أن ينجز. والمراد بقوله «رقد الآباء» ماتوا (يوحنا ١١: ١١ وأعمال ٧: ٦٠ و١٣: ٣٠ و١كورنثوس ١٥: ٦ و١٨ و٢٠ و١تسالونيكي ٤: ١٤). وتشبيه الموت بالرقاد يدل على راحة الموتى ووجودهم أحياء في السماء وقيامة أجسادهم بنشاط جديد.
كُلُّ شَيْءٍ بَاقٍ هٰكَذَا مِنْ بَدْءِ ٱلْخَلِيقَةِ أي لم يزل على حاله منذ موت المؤمنين ومن قبلهم منذ بدء الخليقة.
تفنيد أقوال المستهزئين ع ٥ إلى ٩
٥ «لأَنَّ هٰذَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ: أَنَّ ٱلسَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ وَٱلأَرْضَ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ قَائِمَةً مِنَ ٱلْمَاءِ وَبِٱلْمَاءِ».
تكوين ١: ٦ و٩ وعبرانيين ١١: ٣ ومزمور ٢٤: ٢ و١٣٦: ٦ وكولوسي ١: ١٧
لأَنَّ هٰذَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ أي حين يقولون «كل شيء باق» الخ يغمضون عيونهم عن النظر إلى الحقيقة كما هي معلنة في أقوال موسى وأشار بقوله هذا إلى ما يأتي من كلامه.
أَنَّ ٱلسَّمَاوَاتِ المنظورة.
مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ أي من بدء الخليقة.
بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ لا بالاتفاق ولا بقوة في المادة بل بأمره تعالى (تكوين ١: ٦ - ٩ ومزمور ٣٣: ٦) وهو قول المرنم «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا».
قَائِمَةً مِنَ ٱلْمَاءِ وَبِٱلْمَاءِ بناء على قوله تعالى «لِتَجْتَمِعِ ٱلْمِيَاهُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَلْتَظْهَرِ ٱلْيَابِسَةُ الخ» (تكوين ١: ٩ و١٠ انظر أيضاً مزمور ٢٤: ٢ و١٣٦: ٦). وهذا وصف حال الخليقة في أول أمرها بحسب الظاهر إذ انفصلت المياه التي تحت الجلد عن المياه التي فوقه وظهرت اليابسة.
٦ «ٱللَّوَاتِي بِهِنَّ ٱلْعَالَمُ ٱلْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ ٱلْمَاءُ فَهَلَكَ».
تكوين ٧: ٢١ وص ٢: ٥
هذا وصف العالم وقت الطوفان.
ٱللَّوَاتِي بِهِنَّ أي بواسطة السماوات والأرض لأن السماوات والأرض اشتركن في إنشاء الطوفان بدليل قول الكتاب «فِي ذلك ٱلْيَوْمِ ٱنْفَجَرَتْ كُلُّ يَنَابِيعِ ٱلْغَمْرِ ٱلْعَظِيمِ، وَٱنْفَتَحَتْ طَاقَاتُ ٱلسَّمَاءِ» (تكوين ٧: ١١).
ٱلْعَالَمُ ٱلْكَائِنُ حِينَئِذٍ الخ هذا موافق لقوله «وَلَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱلْعَالَمِ ٱلْقَدِيمِ، بَلْ... جَلَبَ طُوفَاناً عَلَى عَالَمِ ٱلْفُجَّار» (ص ٢: ٥). فتغيّر العالم بالطوفان حتى صار بلا ترتيب فكأن ما بعده كان عالماً جديداً وبذلك بطل قول المستهزئين «كل شيء باق» الخ وتبيّن إمكان أن يتغيّر نظام العالم أيضاً في وقت آخر.
٧ «وَأَمَّا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ ٱلْكَائِنَةُ ٱلآنَ فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ ٱلْكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ ٱلدِّينِ وَهَلاَكِ ٱلنَّاسِ ٱلْفُجَّارِ».
إشعياء ٦٦: ١٥ ودانيال ٧: ٩ و٢تسالونيكي ١: ٧ وعبرانيين ١٢: ٢٩ ومتّى ١٠: ١٥ و١كورنثوس ٣: ١٣ ويهوذا ٧
ٱلْكَائِنَةُ ٱلآنَ أي التي نشاهدها.
فَهِيَ مَخْزُونَةٌ أي محروسة من الهلاك بالماء حسب وعد الله (تكوين ٩: ١١).
بِتِلْكَ ٱلْكَلِمَةِ أي بالقوة التي خلق بها السماوات والأرض نفسها.
مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ أي للهلاك بالنار كما سبقت بعض الأدلة على ذلك (متّى ٥: ٢٢ و٢٩ و١كورنثوس ٣: ١٣ و٢تسالونيكي ١: ٧ وعبرانيين ١٢: ٢ ورؤيا ٢١: ٨). وما ذكره هنا إيضاح لذلك. وفي العهد القديم إشارات إلى تغيُّر هذا العالم (أيوب ١٤: ١٢ ومزمور ١٠٢: ٢٦ و٢٧ وإشعياء ٣٤: ٤ و٥١: ٦ و٦٦: ٢٢). وكان هلاك سدوم وعمورة بالنار رمزاً إلى هلاك الأشرار أخيراً. وإشارات كلمة الله إلى إجراء حكمه بالنار في (مزمور ٥٠: ٣ و٩٧: ٣ وإشعياء ٦٦: ١٥ و١٦ و٢٤ ودانيال ٧: ٩ و١٠). وما قاله كتبة العهد القديم في إتيان الله للدينونة يفسره بطرس بمجيء المسيح ثانية وكما هلك العالم وقتئذ بالماء سيهلك ثانية بالنار.
٨ «وَلٰكِنْ لاَ يَخْفَ عَلَيْكُمْ هٰذَا ٱلشَّيْءُ ٱلْوَاحِدُ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، أَنَّ يَوْماً وَاحِداً عِنْدَ ٱلرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ».
مزمور ٩٠: ٤
في هذه الآية الجواب الثاني على اعتراض المستهزئين.
وَلٰكِنْ لاَ يَخْفَ عَلَيْكُمْ الأمر الذي يجهله غيركم باختياره وتقودكم معرفته إلى كل الحق.
أَنَّ يَوْماً وَاحِداً عِنْدَ ٱلرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ الخ أي أنه لا يجوز أن نحكم على الله كما نحكم على الناس لإبطائه في إنجاز مواعيده لأنه لا يقيس الزمان كالناس. فالفرق بين الوقت الطويل كألف سنة والوقت القصير كيوم واحد يتعلق بالناس لا بالله. فيوم واحد عند الإنسان الذي حياته معدودة أكثر كثيراً من ألوف السنين عند الله. فالذي يحسبه الناس إبطاء في الوعد ليس كذلك عند الله. فإن أبطأ إنسان في إنجاز مواعيده فربما لا يحصل على فرصة لإنجازها ولكن لله الأبدية فينجز مواعيده متى شاء. فعلى المؤمن أن يتكل على مواعيد الله وليس للكافر أن يشك أو أن ينسب إلى الله النسيان أو التغيّر في مقاصده وعدم إنجازه وعده بمجيء المسيح. وما قاله بطرس هنا في إبطاء الله عن إنجاز وعده قاله المرنم في مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى أبدية الله وهو ما نصه «لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ» (مزمور ٩٠: ٤). إن ثواب البار على بره وعقاب الشرير على إثمه مؤكد سواء أكان بعد يوم أم كان بعد ألف سنة.
٩ «لاَ يَتَبَاطَأُ ٱلرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ ٱلتَّبَاطُؤَ، لٰكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ».
حبقوق ٢: ٣ وعبرانيين ١٠: ٣٧ ورومية ١٣: ١١ و٢: ٤ ورؤيا ٢: ٢١ و١تيموثاوس ٢: ٤
لاَ يَتَبَاطَأُ ٱلرَّبُّ المراد «بالرب» هنا الله الآب والمراد بقوله «لا يتباطأ» أنه لا يتأخر أكثر مما تقتضيه حكمته.
عَنْ وَعْدِهِ بمجيء المسيح ثانية.
كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ ٱلتَّبَاطُؤَ أراد «بالقوم» هنا المستهزئين أو بعض الناس بالنظر إلى آرائهم المعتادة فإنهم يحسبون «التباطوء» نتيجة الإباء أو النسيان أو العجز أو غاية شخصية.
لٰكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا لأنه أزلي أبدي فأزليته وأبديّته لا توجبان عليه العجلة.
وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ فما يظهر لنا أنه تباطوء فليس هو إلا نتيجة نعمة الله وإرادته نفع البشر كلهم لا نفع المختارين فقط. وهذه العبارة كقول النبي «هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ؟ أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا» وقوله «حَيٌّ أَنَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال ١٨: ٢٣ و٣٣: ١١) وقول الرسول في الله «ٱلَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (١تيموثاوس ٢: ٤). فإذا خطئ الإنسان بتعدّيه شريعة الله فصبر الله عليه ليس بدليل على أنه لا يعاقبه كما أوعد بل ذلك دليل على حلم الله عليه ليعطيه فرصة للتوبة وعلى هذا صبر الله عن أن يدين عالم الأشرار بإرسال المسيح ليدين العالم فيجب أن نتخذ تباطؤه آية على أنه لا يريد هلاك أحد وإلا فسهل عليه أن يهلك المعتدين حالاً.
بَلْ أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ فعدم إرادة الله أن يهلك أحد ليس بدليل على أنه لا أحد يهلك لأنه لا يقصد كل ما يشاء فأوامره تدل على مشيئته. ولو قصد كل ما شاء لم يكن من عصيان في العالم فهو يريد أن يكون الناس كلهم أبراراً وسعداء إلى الأبد ولا يستلزم ذلك أن يكونوا كذلك وإلا لم يكن من خطيئة أو ألم في الدنيا.
تأكيد مجيء المسيح ثانية وأنه بغتيٌّ والواجبات المبنية على ذلك ع ١٠ إلى ١٣
١٠ «وَلٰكِنْ سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي ٱللَّيْلِ، يَوْمُ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي فِيهِ تَزُولُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ ٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ ٱلأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا».
١تسالونيكي ٥: ٢ ومتّى ٢٤: ٤٣ ورؤيا ٣: ٣ و١٦: ١٥ و١كورنثوس ١: ٨ ومتّى ٢٤: ٣٥ ورؤيا ٢١: ١ وإشعياء ٣٤: ٤ و٢٤: ١٩ وميخا ١: ٤ وغلاطية ٤: ٣
وَلٰكِنْ سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي ٱللَّيْلِ، يَوْمُ ٱلرَّبِّ إن حلم الله مهما عظم فلا بد من أن ينتهي أخيراً بغتة. والذي سُمي «يوم الرب» هنا سُمي «يوم المسيح» في (٢تسالونيكي ٢: ٢) و «يوم الرب يسوع» في (٢كورنثوس ١: ١٤) ونُسب ذلك «اليوم» إلى المسيح لأنه هو الديّان يومئذ. وهذا يشبه النبوءات بمجيئه (يوئيل ١: ١٥ وإشعياء ٢: ١٢ وملاخي ٣: ٢) فهي تصدق على مجيئه الأول ومجيئه الثاني. وقوله «سيأتي» يؤكد مجيئه على رغم الشك والإنكار. وقوله «كلص في الليل» من قول المسيح الذي سمعه بطرس (متّى ٢٤: ٤٣ ولوقا ١٢: ٣٩ انظر ١تسالونيكي ٥: ٢ ورؤيا ٣: ٣ و١٦: ١٥) ووجه الشبه أنه بغتيٌّ لا هائل.
فِيهِ تَزُولُ ٱلسَّمَاوَاتُ (متّى ٢٤: ٣٥) والمراد «بالسماوات» هنا المنظورة (مزمور ١٠٢: ٢٦ وإشعياء ٣٤: ٤ ورؤيا ٢١: ١١). فإنه يستحيل أن تزول السماء التي هي مسكن الله.
بِضَجِيجٍ كما تقتضي تلك التغيرات.
تَنْحَلُّ ٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً ظن بعض المفسرين أن المراد «بالعناصر» هنا الأجرام السماوية لكونها مكونة من العناصر لأن زوالها مذكور في يوم مجيء الرب بدليل قوله «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ تُظْلِمُ ٱلشَّمْسُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَٱلنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (متّى ٢٤: ٩ و٢٠ انظر أيضاً إشعياء ١٣: ٩ و١٠ و٢٤: ٢٣ و٣٤: ٤ ويوئيل ٢: ٣١).
وظن بعض المفسّرين أن المقصود «بالعناصر» الأصول الأربعة التي اعتقد القدماء أن المادة مؤلفة منها وهي النار والهواء والماء والتراب. وذُكرت الكلمة اليونانية الأصلية سبع مرات في العهد الجديد وقد تُرجمت هنا بكلمة «عناصر» وبكلمة أركان في (عدد ١٢ وفي غلاطية ٤: ٣ و٩ وكولوسي ٢: ٨ و٢٠ وعبرانيين ٥: ١٢) ولا شيء يدل على تعيين معناها. ولعل المقصود بها ما سُمي «بقوّات السماوات» في (متّى ٢٤: ٢٩) ومعنى العبارة أن السماوات تزول بانحلالها إلى الأجزاء التي تركبت منها.
وَتَحْتَرِقُ ٱلأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا هذا كقول المرنم «الأرض وملؤها» و «المسكونة وملؤها» (مزمور ٢٤: ١ و٥٠: ١٢) والمراد به أعمال الخليقة وأعمال الإنسان.
لا نعلم من أمر مجيء المسيح وما يتعلق به غير ما أُعلن في أربعة مواضيع في الكتاب المقدس إلا قليلاً وأعظمها ما في هذه الرسالة والثلاثة الأخر هي ما في (متّى ٢٥: ٣١ - ٤٦ و١تسالونيكي ٤: ١٣ - ١٨ ورؤيا ٢٠: ١١ - ١٥) وفيهما من الأمور ذات الشأن اثنان:
الأول: تأكيد مجيء المسيح.
والثاني: إتيانه بغتة والعالم في غفلة عن ذلك. واحتراق العالم المذكور متوقف على مجرد أمره. ويسهل علينا أن نفهم كيف يحرق الله العالم إذا تأملنا في أن جوف الأرض على رأي كثيرين من الفلاسفة نار على أشد الحرارة وأن الجزء المسكون من الأرض ليس سوى قشرة رقيقة بالنسبة إلى جرم الأرض فيسهل كسرها وانفجار ما فيها من النيران. والذي يرجح أن العالم يهلك بالنار هو أنه منذ مئتي سنة أو ثلاث مئة سنة وجه الفلكيون أنظارهم إلى ثلاثة عشر كوكباً من الثوابت كانت معلومة واختفت وظهر في بعضها أعراض الاحتراق بالنار فإنها كانت في أول الأمر شديدة الإضاءة ولون ضوئها أبيض ثم ضعف ضوءها واصفرّ ثم احمرّ ثم أربدّ أي صار كلون الرماد واختفى كل الاختفاء. والسماوات والأرض تدوم على حالتها الحاضرة بعناية الله الدائمة وقوته الحافظة فلا يحتاج احتراقها إلا أن يرفع الله حفظه إياها فترجع إلى ما كانت عليه قبل التكوين.
١١ «فَبِمَا أَنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَنْحَلُّ، أَيَّ أُنَاسٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ فِي سِيرَةٍ مُقَدَّسَةٍ وَتَقْوَى؟».
فَبِمَا أَنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَنْحَلُّ المراد بهذه السماوات والأرض. والمراد بانحلالها رجوعها إلى عناصرها كما في (ع ١٠).
أَيَّ أُنَاسٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ إذا كان العالم رهن الزوال نتج من ذلك طبعاً وجوب أن لا نحب العالم ولا نكنز كنوزنا على الأرض حتى تكون قلوبنا فيها. وأنه يجب أن نكون مستعدين دائماً للملكوت السماوي الذي لا يتزعزع. وفي قول الرسول هنا حث للمؤمنين على السهر والتقوى والصلاة لكي يشغلوا الوقت الباقي لهم بخدمة المسيح باجتهاد وأمانة وأن يحتملوا الضيقات بالصبر.
١٢ «مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ ٱلسَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ».
١كورنثوس ١: ٧ وإشعياء ٣٤: ٤ و٢٤: ١٩ وميخا ١: ٤ وغلاطية ٤: ٣
مُنْتَظِرِينَ أي متوقعين يوم الرب بثقة ورجاء وابتهاج حتى لا يأتينا كلص في الليل. وهذا على وفق قول بولس «مُنْتَظِرِينَ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (تيطس ٢: ١٣).
طَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ ٱلرَّبِّ لأن هذا هو الغاية التي وعد لأجلها المسيح بأن يكّمل انتصاره ويشارك شعبه في فرحه فذلك يوم سروره وفداء العالم لأنه منذ يوم صعد المسيح من الأرض كانت الكنيسة كعروس منتظرة بعلها والشهداء والمؤمنون في كل تلك المدة يصرخون إلى الله قائلين «حَتَّى مَتَى أَيُّهَا ٱلسَّيِّدُ ٱلْقُدُّوسُ وَٱلْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا» ويصلي المؤمنون قائلين «تَعَالَ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ يَسُوعُ» (رؤيا ٦: ١٠ و٢٢: ٢٠). وهذا مضمون قوله في الصلاة الربانية «ليأت ملكوتك» لأن هذا الملكوت ليس ملكوت النعمة فقط بل ملكوت المجد. وهو من مضامين وعظ بطرس في رواق سليمان وهو قوله «فَتُوبُوا وَٱرْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ، لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ ٱلْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ. وَيُرْسِلَ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ ٱلسَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا ٱللّٰهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ» (أعمال ٣: ١٩ - ٢١). وطول ذلك اليوم غير معيّن ويستحيل أن يكون أربعاً وعشرين ساعة لاستحالة أن يُدان ربوات لا تحصى من البشر والملائكة في مثل هذه المدة.
ٱلَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ ٱلسَّمَاوَاتُ هذا يدل على أن كل الأمور المذكورة آنفاً تتعلق بمقتضى قضاء الله بمجيء يوم الرب (قابل بما في ميخا ١: ٤ وملاخي ٤: ١ وإشعياء ٣٤: ٤).
إن الكتاب المقدس يذكر من جملة حوادث ذلك اليوم الدينونة العامة.
١٣ « وَلٰكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا ٱلْبِرُّ».
إشعياء ٦٥: ١٧ و٢٥ و٦٦: ٢٢ ورؤيا ٢١: ١ و٢٧ ورومية ٨: ٢١ وإشعياء ٦٠: ٢١
بِحَسَبِ وَعْدِهِ أي وعد الله المذكور في (إشعياء ٣٠: ٢٦ و٦٥: ١٧ - ٢٥ و٦٦: ٢٢ - ٢٤).
سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا ٱلْبِرُّ معنى «البر» هنا القداسة أو السير بمقتضى إرادة الله (إشعياء ٦٥: ٢٥ ورؤيا ٢١: ٢٦). إنه كما أن العالم تطهّر قديماً بالماء من الأشرار كذلك يتطهّر بالنار إلى الأبد. وسكنى البر فيه يستلزم دوامه أبداً وهذا الوعد موافق لما في (رومية ٨: ٢٠ - ٢٢).
إن السماوات الجديدة والأرض الجديدة لا تظهر إلا بعد زوال السماوات والأرض الأولى أي بعد الدينونة. فالرسول لم يقل شيئاً يدل على إتيان المسيح إلى الأرض الجديدة ليسكن مع قديسيه قبل الدينونة. ولم يتضح تغيّر الأرض أنه هل يكون كاملاً كالخليقة الجديدة أو يكون إصلاحاً بعد الإحراق ولم يتبيّن أتكون الأرض الجديدة مسكناً دائماً للقديسين الممجدين أم تكون أحد المنازل الكثيرة التي تُسكن وقتياً. فإذا قصد الله أن يسكنها القديسون كانت حينئذ موافقة لأجساد الناس بعد القيامة. وهذه الآية تؤكد لنا أن ما تتميز به السماوات الجديدة والأرض الجديدة عن العتيقة هو أنه يسكن فيها البرّ أي القداسة. وهذا موافق لما في (١كورنثوس ٦: ٩ و١٠ وعبرانيين ١٢: ١٤). وهذا يؤكد سعادة سكانها بأنه لا يدخلها خطيئة ولا شيء من نتائجها الضارة.
واجبات المؤمنين بالنظر إلى ما سبق ع ١٤ إلى ١٦
١٤ «لِذٰلِكَ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، إِذْ أَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ هٰذِهِ، ٱجْتَهِدُوا لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ، فِي سَلاَمٍ».
ص ١: ١٠ و١كورنثوس ١٥: ٥٨ وفيلبي ٢: ١٥ و١تيموثاوس ٦: ١٤ ويعقوب ١: ٢٧ و١تسالونيكي ٥: ٢٣ و١بطرس ١: ٧
لِذٰلِكَ أي لما ذُكر.
إِذْ أَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ هٰذِهِ أي ما ذُكر في (ع ١٢ و١٣). وانتظارهم علّة وجوب الاجتهاد المطلوب.
ٱجْتَهِدُوا قوله «اجتهدوا» هنا كقوله في (ص ١: ١٠) لأنه بلا الاجتهاد لا يكون من تقدُّم في القداسة ولا من استعداد للسماء.
لِتُوجَدُوا عِنْدَهُ أي عند المسيح في حضرته حين يأتي ليفحص عن قلوب الناس وأعمالهم (متّى ٢٢: ١١).
بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ عَيْبٍ هذا كقول بولس في الكنيسة «لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (أفسس ٥: ٢٧). إن الديّان قدوس فلذلك وجب على الذين يُدانون أن يجتهدوا في اعتزال دنس الخطيئة. وهذا خلاف ما كان عليه المعلمون الكاذبون الذين حذّرهم بطرس منهم بقولهم أنهم «أدناس وعيوب» (ص ٢: ١٣). وكذا يجب أن يخلو من الدنس والعيب الذين يدخلون إلى عرس الخروف (رؤيا ١٩: ٨ و٢١: ٢). لا طريق إلى أن نكون عند المسيح بلا دنس ولا عيب إلا أن نحترس من الخطيئة وأن نستعمل كل وسائل النعمة من درس كتاب الله وطلب تقديس الروح القدس فالذين يطلبون ذلك يجدونه.
فِي سَلاَمٍ أي في حال يوافق نيل السلام الأبدي وهذا يستلزم سلام الضمير بين الناس وبينهم وبين الله. قال الله «لا سلام للاشرار» (إشعياء ٤٨: ٢٢ و٥٧: ٢١) ولكنه قال في شعبه «كَنَهْرٍ سَلاَمُكَ وَبِرُّكَ كَلُجَجِ ٱلْبَحْرِ» (إشعياء ٤٨: ١٨).
١٥ «وَٱحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلاَصاً، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا ٱلْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمُعْطَاةِ لَهُ».
أعمال ٩: ١٧ و١٥: ٢٥ وص ٣: ٢ و١كورنثوس ٣: ١٠ وأفسس ٣: ٣
ٱحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلاَصاً أي اعتبروا حلم الله علامة أنه يريد أن كل الناس يخلصون ولا تحسبوا ذلك كما حسب البعض أنه دلالة على أن المسيح لا يأتي ثانية أبداً. يستنتج الناس اليوم أن الله لا يعاقب الأشرار وأنه لا يجري ما أنذر به ولكن الكتاب المقدس يعلّمنا أن الله لا يعاقب المجدف في الحال ولا الذي يدنس يوم الرب ولا اللص ولا الزاني لكي يعطيه فرصة ليتوب ويخلص (انظر تفسير رومية ٢: ٤).
كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا ٱلْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً الضمير في «إليكم» لكنائس أسيا. والرسائل التي كتبها بولس إلى كنائس أسيا هي رسائل غلاطية وأفسس وكولوسي والمرجّح أن منها الرسالة إلى العبرانيين. وهذا يحقق أربعة أمور:
- الأول: أن بطرس قرأ رسائل بولس وعرف مضمونها.
- الثاني: أنه اعتقد إن الذين كتب هو إليهم يعرفونها أيضاً.
- الثالث: أنه اعتبر بولس أخاً محبوباً مع أن بولس اضطر أن يوبخه (غلاطية ٢: ٢).
- الرابع: أنه اعتبر بولس معلماً يعتمد عليه في حقائق الإنجيل وأن تعليمه تعليم رسول ملهم وأنه حق إلهي. وإذا قابلنا ما كتبه بطرس بما كتبه بولس نرى دلائل أن بطرس قرأه ومن أمثال ذلك مقابلة ما في (أفسس ١: ٣ وما في ١بطرس ٣: ١. وما في كولوسي ٣: ٨ وما في ١بطرس ٢: ١. وأفسس ٥: ٢٢ و١بطرس ١: ٣. و١تسالونيكي ٥: ٦ و١بطرس ٥: ٨. و١كورنثوس ١٦: ٢٠ و١بطرس ٥: ١٤ ورومية ٨: ١٨ و١بطرس ٥: ١ ورومية ٤: ٢٤ و١بطرس ١: ٢١. ورومية ١٣: ١ - ٤ و١بطرس ٢: ١٣ و١٤. و١تيموثاوس ٢: ٩ و١بطرس ٣: ٣ و١تيموثاوس ٥: ٥ و١بطرس ٣: ٥). والكنائس التي كتب إليها بطرس رسالتيه هي الكنائس التي أسسها بولس ورفقاؤه وخدمها وكتب رسائله إليها.
بِحَسَبِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمُعْطَاةِ لَهُ نسب بطرس إلى بولس حكمة غير بشرية فعظم حكمته. ولم يحتقر حكمته البشرية لكن بالنظر إلى كونه رسولاً كان ذا حكمة أعظم أخذها من الله أبي الأنوار (يعقوب ١: ٥ و١٧). وهذا لشهادة بولس لنفسه (١كورنثوس ٣: ١٠ وغلاطية ٢: ٩).
١٦ «كَمَا فِي ٱلرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضاً، مُتَكَلِّماً فِيهَا عَنْ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ، ٱلَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ ٱلْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ ٱلْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ ٱلثَّابِتِينَ كَبَاقِي ٱلْكُتُبِ أَيْضاً، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ».
ع ١٤ وعبرانيين ٥: ١١ وص ٢: ١٤ وإشعياء ٢٨: ١٣ وع ٢
كَمَا فِي ٱلرَّسَائِلِ كُلِّهَا علاوة على التي كتبها إلى كنائس أسيا منها رسالته إلى أهل رومية ورسالتاه إلى أهل كورنثوس والرسالة إلى أهل فيلبي وكلها أربع عشرة رسالة. ولعل بعضها كُتب قبل رسالتي بطرس بخمس عشرة سنة. ولا يستلزم ذلك أن رسائل بولس كانت مجموعة مجلداً واحداً ولا أن كل الكنائس عرفتها كلها والأرجح إن كل كنيسة حفظت الرسالة التي أُرسلت إليها بحرص وطلبت كل ما أمكنها الحصول عليه من غيرها.
مُتَكَلِّماً فِيهَا عَنْ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ لم يتضح جلياً ما قصده بقوله «هذه الأمور» وربما أراد قوله «أناة ربنا» (ع ١٥). والمرجّح أنه ما قاله في مجيء المسيح ثانية وهلاك العالم وما يجب على المؤمنين بالنظر إليها وبدع المعلمين الكاذبين المهلكة.
فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ ٱلْفَهْمِ ظن بعضهم أنه أراد بهذه «الأشياء» ما كتبه بولس في مجيء المسيح ثانية (١كورنثوس ١٥: ٢٠ - ٢٨ و١تسالونيكي ٤: ١٣ - ١٧). وظن غيرهم أنه أراد بذلك تعليم بولس في شأن التبرير والحرية المسيحية وفي إنسان الخطيئة (٢تسالونيكي ٢: ٣). ولا عجب في أن يكون في الإعلان الإلهي أمور يعسر على الإنسان فهمها ولكن كل ما هو ضروري للخلاص واضح لكل إنسان. و «الأمور العسرة الفهم» يتعلق معظمها بالأمور المستقبلة والأمور الروحية التي يصعب على الإنسان الطبيعي أن يقبلها والتي هي مخالفة لآرائنا العادية. وأوحى الله بها حثاً للإنسان على الدرس وطلب مساعدة الروح القدس.
يُحَرِّفُهَا غَيْرُ ٱلْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ ٱلثَّابِتِينَ الذين ادعوا أنهم معلمون ومفسرون وهم غير متعلمين من الله ولا من إنسان فلا يكون لهم مبادئ راسخة. ومن أمثال هؤلاء هيميناس وفيليتس اللذان استنتجا من تعليم بولس في (أفسس ٢: ٥ وكولوسي ٢: ١٢) «إن القيامة مضت» (٢تيموثاوس ٢: ١٨). ولعل بطرس أشار إلى تعليم بولس بالتبرير بالإيمان بلا أعمال فاستنتج منه بعضهم أن لا حاجة إلى الأعمال الصالحة. أو إلى تعليمه الحرية المسيحية فبنوا عليه إباحة كل شيء للمؤمن (١كورنثوس ٦: ١٢ - ٢٠ وغلاطية ٥: ١٣ - ٢٦ انظر أيضاً رؤيا ٢: ٢٠).
كَبَاقِي ٱلْكُتُبِ أَيْضاً، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ قال بطرس إن الذين حرّفوا تعاليم بولس لهلاكهم حرّفوا أيضاً باقي الكتب المقدسة.
اتفق أكثر المفسرين أنه قصد «بالكتب» هنا كتب العهد القديم والذي يستحق الملاحظة هنا أن بطرس يتكلم في رسائل بولس بالعبارة التي تكلم بها في كتب موسى والأنبياء.
ختم بطرس كل ما كتبه بالشهادة بصحة ما كتبه بولس كما ختم ملاخي نبوءته بشهادته بصحة ما كتب موسى بقوله «اُذْكُرُوا شَرِيعَةَ مُوسَى عَبْدِي ٱلَّتِي أَمَرْتُهُ بِهَا فِي حُورِيبَ عَلَى كُلِّ إِسْرَائِيلَ» (ملاخي ٤: ٤). وختم يوحنا إنجيله بإظهار أهمية ما كتبه بقوله «أَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا ٢٠: ٣١). وختم بولس آخر رسالة من رسائله ببيان نفع الكتاب المقدس كله بقوله «أَمَّا أَنْتَ فَٱثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ وَأَيْقَنْتَ، عَارِفاً مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ. وَأَنَّكَ مُنْذُ ٱلطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ ٱلْكُتُبَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ ٱللّٰهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ ٱلَّذِي فِي ٱلْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ ٱللّٰهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (٢تيموثاوس ٣: ١٤ - ١٧).
وختم يهوذا رسالته بقوله «وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ فَٱذْكُرُوا ٱلأَقْوَالَ ٱلَّتِي قَالَهَا سَابِقاً رُسُلُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (يهوذا ١٧). وخاتمة العهد الجديد كله كلمات البركة للذين يحفظون أقوال الكتاب والويل لمن ينقّص منها أو يزيد عليها (رؤيا ٢٢: ١٩).
وما أثبته بطرس من السلطان لرسائل بولس يوافق ما صرّح به بولس نفسه من أمر سلطانه الإلهي على ما كتبه (١تسالونيكي ٢: ١٣ و٢تسالونيكي ٢: ١٥ وأفسس ٣: ٣ - ٥ انظر أيضاً أعمال ١٥: ٢٨).
لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ فعلوا ذلك باختيارهم وعاقبهم الله كما استحقوا فلا لوم على بولس ولا على غيره من الكتبة الملهمين. ولم يشر بطرس إلى مفسّر ملهم من الله أو إلى المجامع أو الكهنة ليثبت أنهم هم المفسرون الأشياء العسرة الفهم فترك الأمر كما تركه الله وهي أن يطلب كل مفسر إرشاد الروح القدس.
بنى بعض التقليديين على قول بطرس هنا أن عامة الناس لا تستطيع أن تفهم الكتاب المقدس فإذاً لا يجوز أن يكون بين أيديهم. ولكن لكون بعض الأمور عسرة الفهم لا يستلزم أن غيرها لا ينتفع بها. وخلاصة تعليم بطرس هنا التحذير من قبول تفسير مخالف لتعليم الروح القدس الواضح في سائر العهد الجديد وهذا يختلف كل الاختلاف عن قول بعض التقليديين أنه لا يجوز للعامة أن تطالع الكتب الإلهية.
التحذير من الضلال ومن الأمور بالنمو والتسبيح ع ١٧ و١٨
١٧ «فَأَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ إِذْ قَدْ سَبَقْتُمْ فَعَرَفْتُمُ، ٱحْتَرِسُوا مِنْ أَنْ تَنْقَادُوا بِضَلاَلِ ٱلأَرْدِيَاءِ فَتَسْقُطُوا مِنْ ثَبَاتِكُمْ».
١كورنثوس ١٠: ١٢ وص ٢: ٧ و١٨ ورؤيا ٢: ٥
أَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ إِذْ قَدْ سَبَقْتُمْ فَعَرَفْتُمُ مجيء المعلمين المفسدين وسوء تعليمهم وسيرتهم وتضليلهم لبعض الناس. وذلك مما كتبه في هذه الرسالة.
ٱحْتَرِسُوا مِنْ أَنْ تَنْقَادُوا كما انقاد غيركم حتى برنابا (غلاطية ٢: ١٣).
بِضَلاَلِ ٱلأَرْدِيَاءِ أي المعلمين الكاذبين والمستهزئين (ص ٢: ١ - ٣ و٣: ٣).
فَتَسْقُطُوا مِنْ ثَبَاتِكُمْ أي من التمسك بحق الإنجيل والأمور الروحية إلى الضلال. حذرهم من الضلال لأنه مضر بالنفس إضرار السم بالجسد. وكون المؤمن عرضة للسقوط في الضلال يوجب عليه أن يجتهد في درس الكتاب الإلهي وأن يقابل بعض أجزائه ببعض ويطلب أفضل الوسائل لإدراك المعنى وأن يقرأ ذلك الكتاب طالباً إرشاد الروح القدس وحفظه إياه من الخطإ.
١٨ «وَلٰكِنِ ٱنْمُوا فِي ٱلنِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. لَهُ ٱلْمَجْدُ ٱلآنَ وَإِلَى يَوْمِ ٱلدَّهْرِ. آمِينَ».
ص ١: ٢ و١١ و٢: ٢٠ ورومية ١١: ٣٦ و٢تيموثاوس ٤: ١٨ ورؤيا ١: ٩
ٱنْمُوا فِي ٱلنِّعْمَةِ أوجب علينا التقدّم في كل من النعمة والمعرفة بيسوع المسيح. إن التقدم في النعمة أي القداسة جوهر الدين المسيحي والحياة الروحية والمسيح منشئ هذه النعمة كما أن النموّ في النبات والحيوان ضروري لبلوغ الكمال كذلك النموّ الروحي في النفس وهذا لا يمكن إلا باتخاذ وسائل النموّ ولا سيما درس الكتاب الإلهي وطلب إرشاد الروح القدس وانتظار الله في الصلاة (أفسس ٤: ١٥ وكولوسي ١: ١٠) وقوله «انمو الخ» أمر يوجب علينا الجري بمقتضاه وهو نفسه شرط السعادة والخلاص لأن عدم النموّ دليل على عدم الحياة فمتى بطل النموّ ابتدأ الموت. والكمال في التقوى نتيجة الاجتهاد ككمال تحصيل القوة الجسدية والمعرفة والثروة فلا أحد يحصل على درجة سامية في شيء بلا اجتهاد.
وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فيسوع المسيح موضوع تلك المعرفة باعتبار ذاته وصفاته وأعماله وأنه نبي وملك وكاهن فعلينا أن نعرفه بالنظر إلى نسبته إلينا واختبارنا إياه باعتبار كونه مخلّصنا وصديقنا ومرشدنا وسيدنا (يوحنا ١٧: ٣ و١كورنثوس ١: ١٠). فمهما حصّل الإنسان من المعرفة في العلوم الدنيوية لا ينفع نفسه شيئاً ما لم يعرف المسيح بالإيمان ويسِر معه.
لَهُ ٱلْمَجْدُ أي كل المجد في كل زمان إلى الأبد (قابل ما في رومية ١٦: ٢٧ بما في ٢تيموثاوس ٤: ١٨). يرغب شعب الله في تمجيد المسيح فوق كل شيء على وجه الأرض وهذا يكون موضوع تسابيحهم وعباداتهم في السماء (رؤيا ١: ٥ و٦ و٥٦: ١٢ و١٣).
ابتدأ الرسول هذه الرسالة بطلب أن «تكثر للمؤمنين النعمة والسلام بمعرفة الله ويسوع ربنا» (ص ١: ١٢). وختمها «بوجوب التقدم في الحياة الروحية وفي المعرفة لحمايتهم من بدع الذين حذرهم منهم في الرسالة». وكانت النهاية تعظيم المسيح دون التحيّات الوداعية ودون أدنى إشارة إلى رفقائه أو إلى مَن كتب إليهم.
Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D - 70007
Stuttgart
Germany