المقدمة وفيها سبعة فصول
الفصل الأول: في مدينة كولوسي
كولوسي مدينة في فريجية على الجنوب الغربي من أسيا الصغرى في وادي نهر ليكوس وهو فرع من نهر مياندر عند حضيض جبل كدموس. وفي ذلك الوادي على أمد عشرة أميال أو اثني عشر ميلاً مدينتان الأولى هيرابولس (ص ٢: ٢١ و٤: ١٣ و١٦) والثانية لاودكية (ص ٤: ١٣) وكولوسي أصغر كل منهما. ذكرها من مؤرخي اليونان هيرودوتس واسترابوا وغيرهما ووصفوها بالسعة والنجاح وكثرة السكان وأنها اشتهرت كثيراً بالتجارة. وفي سنة ٦٦ ب. م أي بعد قليل من كتابة هذه الرسالة قُلبت المدن الثلاث بالزلزلة لكنها جُددت سريعاً. وكانت فريجية في عصر بولس من الأملاك الرومانية استولى عليها الرومانيون سنة ١٣٣ ق. م وكانت السكة السلطانية بين أفسس ونهر الفرات تمر بها. ولم يبق منها اليوم سوى أطلالها من قناطر وحنايا وحجارة منحوتة وكسر من الخزف. وعلى أمد نحو ثلاثة أميال من تلك الأطلال قرية اسمها خوني وهي أقرب ما يكون إليها من الأرض المسكونة.
الفصل الثاني: في كنيسة كولوسي
لم يذكر لوقا في أعمال الرسل كنيسة كولوسي مع أنه ذكر كنيسة أفسس وهي غير بعيدة عنها ونستنتج من ذلك أن بولس لم يؤسسها بنفسه ولم يزرها قبل كتابة هذه الرسالة كما يظهر من مقابلة ما في (ص ٢: ١ بما في ص ١: ٤). لكنه أقام سنتين بأفسس قصبة الكورة التي فيها كولوسي فلا بد من أن زاره كثيرون من أهلها ومنهم أبفراس (ص ٤: ١٢). والمرجح أنه آمن بالمسيح بواسطة بولس وأن بولس أرسله إلى مدينته للتبشير فيها وفي هيرابوليس ولاودكية بدليل قوله فيه «ٱلْعَبْدِ ٱلْحَبِيبِ مَعَنَا، ٱلَّذِي هُوَ خَادِمٌ أَمِينٌ لِلْمَسِيحِ لأَجْلِكُمُ» (ص ١: ٧). وشهد الرسول بصحة تعليمه في (ص ١: ٧ و٢: ٦) ومدح غيرته في الوعظ والصلاة (ص ٤: ١٢). ومحبته لبولس حملته على أن يذهب إلى رومية ويشاركه في السجن (ص ١: ٨ وفليمون ٢٣) فيظهر من ذلك أن أبفراس كان أول مبشر في كولوسي أرسله بولس نائباً عنه في مدة إقامته بأفسس سنة ٥٥ و٥٦ (أعمال ١٩: ١٠) في نحو ست سنين قبل كتابة هذه الرسالة وذلك بعد ما «ٱجْتَازَ بِٱلتَّتَابُعِ فِي كُورَةِ غَلاَطِيَّةَ وَفِرِيجِيَّةَ يُشَدِّدُ جَمِيعَ ٱلتَّلاَمِيذِ» (أعمال ١٨: ٢٣). ولو كان قبله لكان زار هذه الكتيبة حينئذ لا محالة ووكّل إليه تأسيس الكنيسة فيها والاعتناء بها وبالكنيستين في هيرابوليس ولاودكية (ص ٤: ١٢ و١٣). فإذاً لنا أن نعد تأسيس كنيسة كولوسي إحدى نتائج أعمال بولس بواسطة أبفراس. وأشار إلى هذا لوقا بقوله «وَكَانَ ذٰلِكَ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ، حَتَّى سَمِعَ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أَسِيَّا، مِنْ يَهُودٍ وَيُونَانِيِّينَ... هٰكَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ تَنْمُو وَتَقْوَى بِشِدَّةٍ» (أعمال ١٩: ١٠ و٢٠).
وكان فليمون أحد أعمدة كنيسة كولوسي صديق بولس وشريكه فالمرجّح أنه اجتمع به في أفسس وآمن بواسطته وكان له يد في تأسيس الكنيسة ونموها. ولذلك اعتبر بولس أن تلك الكنيسة كنيسته (ص ١: ٢٧ و٢: ١ و٢). ولم يذكرها يوحنا الرسول في رؤياه بين كنائس أسيا السبع ولعل علة ذلك أنها كانت معدودة أنها تابعة كنيسة لاودكية لأنها أعظم منها عدداً وغنىً.
كان أكثر أعضاء كنيسة كولوسي من متنصري الأمم (ص ٢: ١٣) ومنهم من متنصري اليهود (ص ٢: ١٦ - ٢). فهم أولاد الألفين الذين نقلهم اسكندر الكبير من بلاد ما بين النهرين وبابل إلى مدن فريجية وليكية ولعل بعضهم ممن أتوا تلك المدن من اليهودية للاتجار.
الفصل الثالث: في كاتب هذه الرسالة
لا ريب في أن كاتب هذه الرسالة بولس كما قيل في (ص ١: ١ و٣٤ و٣٥) وكل ما ذُكر فيها موافق لما عُرف من أمر بولس فإنه ذُكر فيها أتعابه الرسولية وما قاساه من اليهود لكونه رسول الأمم وأشير فيها إلى سجنه (ص ٤: ٣ و١٠ و١٨). وذُكر فيها ثمانية أرفاق للكاتب معلوم أنهم أصدقاء بولس. وتعليمها على وفق تعليم بولس وأسلوب الكتابة أسلوبه ونسبها إليه كل معاصريه من الكتبة المسيحيين.
الفصل الرابع: في زمان كتابة هذه الرسالة
المرجّح أن هذه الرسالة كُتبت في رومية سنة ٦٢ ب. م في نحو الوقت الذي كُتبت فيه الرسالة إلى أفسس والرسالة إلى فليمون في أيام سجن الرسول (ص ٤: ٣ و١٠ و١٨).
الفصل الخامس: في الدواعي لكتابة هذه الرسالة
من الدواعي لكتابة هذه الرسالة مجيء أبفراس من كولوسي إلى رومية بأنباء أحوال الكنيسة فأخبر بولس بإيمان أعضائها ومحبتهم ورجائهم فسره ذلك كثيراً وأنبأه أيضاً بأنه عرضت فيها بعض الضلالات المخيفة فحزن بذلك وأخذ يكتب تحذيراً لهم من الإصغاء إلى تعليم الكذبة ومن الانحراف عن الإيمان الإنجيلي الطاهر وإثباتاً لتعليم أبفراس بعد رجوعه إليهم بشهادته الرسولية بصحة تعليمه. ومنها مجيء أنسيموس إليه آنفاً من كولوسي وتنصره بواسطته وكان حيئنذ يقصد أن يرجعه إلى سيده «لا عبداً بل أخاً محبوباً» فوجه ذلك أفكاره إلى الكتاب والتوصية في أن يرسلوا هذه الرسالة إلى لاودكية ويقرأوا رسالته إليها. فإنه استغنم فرصة الكتابة ليرسل الرسالة معهما (ص ٤: ٩). ومنها توصيته بمرقس ابن أخت برنابا الذي كان بولس يتوقع إرساله إليهم بعد قليل (ص ٤: ١٠). ومنها توقع بولس أنه متى أُطلق من السجن يزوره كما يتبين مما كتبه إلى فليمون الكولوسي وهو قوله «أَعْدِدْ لِي أَيْضاً مَنْزِلاً، لأَنِّي أَرْجُو أَنَّنِي بِصَلَوَاتِكُمْ سَأُوهَبُ لَكُمْ» (فليمون ٢٢). ولا نعلم هل تم لبولس ذلك أو لا لكن نعلم أنه كان في ميليتس بين الوقتين اللذين سُجن فيهما في رومية (٢تيموثاوس ٤: ٢٠).
الفصل السادس: في موضوع هذه الرسالة وغايتها ومضمونها
موضوع هذه الرسالة عظمة الرب يسوع المسيح وكمال ما أتى به من الفداء وأنه صورة الإله غير المنظور وأنه فيه حل كل ملء اللاهوت منذ الأزل وأنه خالق كل البرايا وأنها به تقوم وأنه رب كل ما في السماوات والأرض مما يرى ومما لا يرى وإن كل المسيحيين متحدون بالمسيح وحده اتحاد الأعضاء بالرأس. وأنه به صالح الكل لله وأنه به ينال المؤمنون السلام والحياة والخلاص والسعادة ويحصلون على كل الفضائل والنعمة ليستطيعوا إتمام كل الواجبات وذلك يكون بواسطة الإيمان به والطاعة والشركة معه والصلاة له حتى يكون المسيح لهم وفيهم.
والغاية من بيان عظمة المسيح وكمال عمله هي التحذير من بعض الضلالات التي هي خليط من الفسلفة اليونانية والأوهام اليهودية المعروفة بتاريخ الكنيسة ببدع الغنوسيين. فإنهم اعتقدوا وجود كائنات روحية بين الله والبشر تستحق العبادة وقالوا بأنها دون الله وأعظم من سائر الملائكة والناس وأنها هي التي أبدعت المادة التي هي علة الخطيئة. وأن نيل القداسة يكون بقهر الجسد وإماتته وأنه يجب أن يحفظ بعض الرسوم اليهودية من تقديس السبوت والأهلة والتمييز بين الأطعمة وتحريم أكل اللحم والزيجة. ولذلك حذرهم الرسول من الفلسفة الباطلة والسلوك بمقتضى المبادئ العالمية والتقاليد اليهودية والنوافل كزيادة التواضع وفرط إماتة الجسد وعبادة الملائكة وغير ذلك من تعاليم الباطنيين والأسينيين. والأسينيون (وهم فرقة اليهود أشد من الفريسيين تمسكاً بالرسوم الموسوية) احتقروا الزيجة وامتنعوا عن تناول اللحوم ونهوا عنها كل إنسان بقولهم «لا تمس ولا تذق ولا تجس» فأبان الرسول دفعاً لهذه البدع عظمة فضل المسيح على كل الكائنات وأنه أكمل عملاً كافياً للتطهير والتقديس وأن الإنسان بواسطة المسيح يموت للعالم (فلا يحتاج إلى أن يميت الجسد على ما رأوا) ويقوم مع المسيح للحياة الروحية والطهارة والقداسة. ومما يستحق الاعتبار والالتفات إليه أن ليس في هذه الرسالة اقتباس وإثبات من العهد القديم ولا توبيخ للمؤمنين على سوء معاملتهم في الأدب أو في نظام الكنيسة كما جاء في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. نعم إن فيها تحذيراً من الخطايا التي بين الأمم لكن لا دليل على أن مؤمني كولوسي سقطوا فيها.
ومضمون هذه الرسالة بعد المقدمة المشتملة على التحية والشكر لله على ما أظهره الكولوسيين من الرجاء والمحبة والصلاة بغية تقدمهم في المعرفة والإتيان بالثمر (ص ١: ١ - ١٢) أربعة أقسام:
- الأول: الجزء التعليمي في شخص المسيح وعمله (ص ١: ١٣ - ٢٩) وفيه أن في المسيح النجاة والفداء (ع ١٣ و١٤). وإن المسيح رأس كل شيء في الخليقة والفداء وأن فيه كل الملء (ع ١٥ - ١٩). وأنه أصلح كل شيء لنفسه بدم صليبه (ع ١٠ - ٢٣). وأن الرسول سر بشدائده من أجل المسيح وأتعابه في خدمته وأنه وُكل إليه أن يعلن السر الذي كان مكتوماً وهو خلاص الأمم بالإيمان (ع ٢٤ - ٢٩).
- الثاني: الجزء الخارجي (ص ٢: ١ - ٢٣) وفيه بيان اهتمامه بأهل كولوسي لكي يبقوا مؤسسين ثابتين في الإنجيل الذي تعلموه وأن يحذروا من العدول عن التمسك بالمسيح الرأس بواسطة تعليم الفلسفة الباطلة والأوهام اليهودية التي فيها إنكار رئاسة المسيح (ع ١ - ١٥) وتحذيرات خاصة من الرسوم الخارجية (ع ١٦ و١٧). ومن عبادة الملائكة (ع ١٨ و١٩) بناء على كونهم أمواتاً مع المسيح (ع ٢٠ - ٢٣).
- الثالث: الجزء العملي وهو أنه يجب عليهم أن يعيشوا كما يحق للذين قاموا مع المسيح (ص ٣: ١ - ٢٥ و٤: ١ - ٦). وفيه وجوب أن يمتنعوا عن عدة شرور وهي أن يتجنبوا الشرور التي تختص بالإنسان العتيق (ع ٥ - ١١) وأن يمارسوا الفضائل المختصة بالإنسان الجديد (ع ١٨ و١٩). وواجبات بعض الأولاد والوالدين لبعض (ع ٢٠ و٢١) وواجبات كل من العبيد والسادة للآخر (ع ٢٢ - ٢٥ وص ٤: ١). ووجوب الصلاة والسهر والشكر مع الصلاة الخاصة من أجل الرسول (ص ٤: ٢ - ٤). وما يجب على المؤمنين لغيرهم (ع ٥ و٦).
- الرابع: الجزء الشخصي (ص ٤: ٧ - ١٨). وفيه أنباء أحواله وكلام على هذه الرسالة وفي تيخكس وأنسيموس (ع ٧ - ٩). وتسليم من رفقاء بولس بأسمائهم (ع ١٠ - ١٤). وتحيات إلى بعض أصدقائه بأسمائهم والكلام على الرسالة إلى أهل لاودكية (ع ١٥ - ١٧). والخاتمة والدعاء (ع ١٨).
الفصل السابع: في مقابلة هذه الرسالة بالرسالة إلى أفسس
إن بين هذه الرسالة والرسالة إلى أفسس مشابهة قوية وهذا مما يتوقع أن كونهما من كاتب واحد في وقت واحد وموضوع واحد وحملهما مُرسل واحد. وأشرنا إلى ذلك في مقدمة رسالة أفسس. ومن وجوه المشابهة أن في رسالة أفسس وهي مشتملة على مئة وخمس وخمسين آية ٧٨ عبارة توجد أيضاً في الرسالة إلى كولوسي ومنها إن في كلتيهما بياناً لعظمة المسيح واتحاد المؤمنين به يهوداً وأمماً بمنزلة أنه رأس. إلا أنه أبان في الرسالة إلى أفسس أنه رأس الكنيسة وفي الرسالة إلى كولوسي أنه رأس كل شيء. وما عبر به في رسالة أفسس بدون احتجاج أو إشارة إلى منكر عبر به في رسالة كولوسي مع المقاومة للمعلمين الكاذبين على إنكارهم. والكلام في رسالة أفسس عام يصح أن يوجه إلى كنائس كثيرة وفي رسالة كولوسي خاص للتحذير من ضلالات معيّنة. وذكر في رسالة أفسس أنه باني هيكل الحق كما كان سليمان باني الهيكل الأول وذكر في رسالة كولوسي أنه بانٍ وجندي يبني بيد ويحارب الضلالات بالأخرى كما فعل نحميا في بناء الهيكل الثاني. وأبان في كل من الرسالتين أن علة سجنه في رومية مناداته بأن للأمم حقاً في كنيسة المسيح كاليهود (كولوسي ١: ٢٤ و٤: ٣ وأفسس ٣: ١). وفي الرسالتين تحذير من الكذب ليس في غيرهما (كولوسي ٣: ٩ وأفسس ٤: ٢٥). إن الله حوّل نتيحة الضلالات في كنيسة كولوسي خيراً لكل الكنيسة في كل عصر وأرض لأنه لولاها لم تحصل الكنيسة على هذا البيان لعظمة المسيح ورئاسته العامة وكمال عمل الفداء به.
اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ
المقدمة ع ١ إلى ١٣
١ «بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ، وَتِيمُوثَاوُسُ ٱلأَخُ».
أفسس ١: ١
بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ قال في نفسه مثل ذلك في (أفسس ١: ١) فانظر التفسير هناك.
بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ هذا تصريح بأن رسوليته من نعمة الله لا من عمله أو استحقاقه.
وَتِيمُوثَاوُسُ ٱلأَخُ لم يضم تيموثاوس إليه في مقدمة رسالته إلى أفسس لأن رسالة أفسس عامة خوطب بها عدة كنائس وأما هذه الرسالة فخاصة فذكر تيموثاوس فيها كما ذكره في مقدمات ست رسائل أُخر. ودعاه «الأخ» لأنه كان محبوباً إليه وكان معنياً له في أمور كثيرة ونائبه في غيابه. ومع أن بولس صرّح بأنه «رسول بمشيئة الله» لم يأنف من أن يدعو تيموثاوس «أخاً» وإن كان أصغر منه سناً وأحدث إيماناً وهذا دليل على أن النسبة ذات الشأن في الدين المسيحي هي الإخاء وأن الرسولية وغيرها من الرتب ليست سوى أمور عرضية بالنسبة إلى الإخاء. ولم يجعل الرسول تيموثاوس شريكاً له في هذه الرسالة في غير المقدمة.
٢ «إِلَى ٱلْقِدِّيسِينَ فِي كُولُوسِّي، وَٱلإِخْوَةِ ٱلْمُؤْمِنِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ. نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ٤: ١٧ وأفسس ٦: ٢١ غلاطية ١: ٣
إِلَى ٱلْقِدِّيسِينَ مرّ الكلام على القديسين المراد بهم الأحياء من المؤمنين في تفسير رسالة أفسس (أفسس ١: ١ ورسالة فيلبي ١: ١).
كُولُوسِّي انظر الفصل الأول من مقدمة هذه الرسالة.
ٱلْمُؤْمِنِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ دعاهم «قديسين» بالنسبة إلى الله ودعاهم «إخوة» بنسبتهم إلى غيرهم من المؤمنين ودعاهم «مؤمنين في المسيح» لأن اتحادهم بالمسيح بواسطة الإيمان جعلهم إخوة وإلا لما كانوا إخوة بالمعنى الإنجيلي. فكل المؤمنين بالمسيح إخوة بقطع النظر عن الفرق في السن والمقام والغنى والعلم والتقوى وبُعد بعضهم عن بعض. ولعل بولس أراد أن يلوح إلى التمييز بين الأعضاء الثابتين والراسخين في الإيمان والأعضاء المتزعزعين في الإيمان للضلالات المذكورة في (ص ٢).
لم يخاطب الرسول كنيسة كولوسي كما خاطب كنائس كورنثوس وتسالونيكي وغلاطية بل اقتصر على خطاب مؤمنيها فذهب بعضهم إلى أن علة ذلك حدوث إيمانهم حتى لم يتمكنوا من أن ينتظموا انتظاماً كاملاً.
نِعْمَةٌ... مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا مرّ تفسير ذلك في (رومية ١: ٧) فارجع إليه.
وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ خلت بعض النسخ القديمة من هذه العبارة لكن وجود مثلها في مقدمات سائر رسائل بولس يثبت أنها أصلية.
٣ «نَشْكُرُ ٱللّٰهَ وَأَبَا رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، مُصَلِّينَ لأَجْلِكُمْ».
١كورنثوس ١: ٤ وأفسس ١: ١٦ وفيلبي ١: ٣ و٤: ٦
نَشْكُرُ ٱللّٰهَ افتتح هذه الرسالة بالشكر كما افتتح به أكثر رسائله لكنه لم يأت المدح الذي أتاه في بعض رسائله.
وَأَبَا رَبِّنَا العطف هنا تفسيري فكأنه قال الله أي أبا ربنا.
كُلَّ حِينٍ، مُصَلِّينَ لأَجْلِكُمْ هذا متعلق بقوله «نشكر» والمعنى أننا كلما صلينا من أجلكم شكرنا الله وهو كقوله «لاَ أَزَالُ شَاكِراً لأَجْلِكُمْ، ذَاكِراً إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي» (أفسس ١: ١٦).
٤ «إِذْ سَمِعْنَا إِيمَانَكُمْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتَكُمْ لِجَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ».
أفسس ١: ١٥ وع ٩ وفليمون ٥ عبرانيين ٦: ١٠
إِذْ سَمِعْنَا من أبفراس (ع ٨) وهذه العبارة وحدها ليست بدليل كاف على أن بولس لم يزر كولوسي بالذات وأنه لا يعرف أحوال الإخوة فيها إلا بالسماع لكن هذا يوافق ما استنتجناه من أدلة أخرى تثبت عدم زيارته إياها بالذات قبل كتابة هذه الرسالة. وهو لم يشكر الله على مجرد أنه سمع أنباءهم بل على أن تلك الأنباء كانت سارة.
إِيمَانَكُمْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ هذا مما سمع نبأه وشكر الله عليه. ومعنى «إيمانهم بالمسيح» أن المسيح موضوع إيمانهم ومنشئه فيهم وعلة استمرارهم عليه لأن ثبوتهم في الإيمان نتيجة اتحادهم بالمسيح. وشكره الله على ما حصلوا عليه من الإيمان بتعليم أبفراس اقترن بالخوف من أن يزيغوا عن سنن الحق بتعليم المعلمين المضلين (ص ٢: ٨).
وَمَحَبَّتَكُمْ لِجَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ الحاضرين والغائبين فالمحبة أحد أثمار الإيمان الحق (١كورنثوس ١٣: ٣ وغلاطية ٥: ٦ انظر تفسير أفسس ١: ١٥).
٥ «مِنْ أَجْلِ ٱلرَّجَاءِ ٱلْمَوْضُوعِ لَكُمْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ بِهِ قَبْلاً فِي كَلِمَةِ حَقِّ ٱلإِنْجِيلِ».
٢تيموثاوس ٤: ٨ و١بطرس ١: ٤
مِنْ أَجْلِ ٱلرَّجَاءِ هذا الأمر الثالث من الأمور التي شكر الله عليها. فتلك الأمور الثلاثة وهي الإيمان والرجاء والمحبة التي نُسبت هنا إلى مؤمني كورنثوس ذُكرت في موضع آخر أنها أفضل الفضائل (١كورنثوس ١٣: ١٣). وكل منها ضروري للمسيحي فالإيمان ينظر إلى ما مضى والمحبة تفعل في الحاضر والرجاء ينظر إلى المستقبل. ولم يعن بالرجاء مجرد الشعور الباطن بل موضوع الرجاء أو المرجو وهو الحياة الأبدية. ويعسر على الإنسان أن يذكر الشعور بالرجاء دون أن يذكر معه المرجو. وذكر بولس الأمرين في آية واحدة وهو قوله «بالرجاء خلصنا». وقوله على أثر ذلك «وَلٰكِنَّ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضاً» (رومية ٨: ٢٤). وذلك تصريح بموضوع الرجاء.
ٱلْمَوْضُوعِ لَكُمْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ فهو في حرز حريز أي هو كنز محفوظ لا خوف عليه (متّى ٦: ٢٠). ووضع هنالك على سبيل الثواب والجعالة للمجاهدين (٢تيموثاوس ٤: ٨ و١بطرس ١: ٤). إن جودة الإيمان والمحبة برهان على جودة الرجاء. ولا أساس لرجاء لم يقترن بهما.
ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ بِهِ قَبْلاً لما بُشرتم به وقبلتموه. إنهم يوم سمعوا أن المسيح مخلص سمعوا أيضاً نبأ السعادة السماوية الموضوعة في السماوات لكل من آمن به وتبعه كما قال المسيح للشاب الرئيس «َبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ ٱلْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي» (متّى ١٩: ٢١).
فِي كَلِمَةِ حَقِّ ٱلإِنْجِيلِ في هذا بيان أنّ الإنجيل ليس فقط مجرد بشارة بالرحمة بل أيضاً إعلان حقائق أزلية لا تتغير كالحق نفسه وأن الإنجيل الذي بشر به أبفراس كان الإنجيل الحق الصريح لا شبه الإنجيل الذي نادى بعدئذ به الكذبة وإيضاح أن رجاءهم ليس باطلاً بل حقاً أعلنه الله الحق في إنجيله الحق.
٦ «ٱلَّذِي قَدْ حَضَرَ إِلَيْكُمْ كَمَا فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً، وَهُوَ مُثْمِرٌ كَمَا فِيكُمْ أَيْضاً مُنْذُ يَوْمَ سَمِعْتُمْ وَعَرَفْتُمْ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ بِٱلْحَقِيقَةِ».
متّى ٢٤: ١٤ ومرقس ١٦: ١٥ ورومية ١٠: ١٨ وع ٢٣ مرقس ٤: ٨ يوحنا ١٥: ١٦ وفيلبي ١: ١١ و٢كورنثوس ٦: ١ وأفسس ٣: ٢ وتيطس ٢: ١١ و١بطرس ٥: ١٢
ذكر الرسول في هذه الآية أمرين من أمور الإنجيل الأول عمومه والثاني إثماره.
ٱلَّذِي قَدْ حَضَرَ إِلَيْكُمْ كَمَا فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ أي أن الإنجيل الذي بُشرتم به هو الإنجيل عينه الذي شرع في نشره في العالم كله وأخذ يتأصل في كل موضع على مقتضى أمر المسيح ووعده (متّى ١٣: ٣٨ و٢٤: ١٤ و٢٨: ١٩). فإن دين الإنجيل غير مقصور على بلاد وأمة كما كانت ديانة اليهود وديانة الغنوسيين وديانة الوثنيين بل هو دين يناسب كل العالم. وحين كتب بولس كان قد انتشر في أكثر العالم المعروف وقتئذ (رومية ١: ٨ و١٠: ١٨ و١تسالونيكي ١: ٨ و٢كورنثوس ٢: ١٤). وأشار بولس إلى عموم الإنجيل الذي بشر به إلى أن عمومه برهان على صدقه لأن البدع يغلب أن تكون محصورة في أهل كورة واحدة وقبيلة واحدة.
وَهُوَ مُثْمِرٌ قابل الإنجيل هنا بشجرة ذات ثمر ونموّ (كما قوبل في متّى ٧: ١٧ و١٣: ٣٢ ولوقا ١٣: ١٩). والثمر المشار إليه هو الإيمان والمحبة وسائر الفضائل التي يُظهرها تبّاع الإنجيل في أقوالهم وأعمالهم. ويدل على نمو الإنجيل انتشاره في الأرض وعدد المعترفين به وثبوتهم على رغم المقاومين (أعمال ٦: ٧ و١٢: ٢٤ و١٩: ٢٠). ونمو الإنجيل الذي بشر به أولاً برهان على أن مصدره سماوي وأنه حق فإنه انتشر في كل البلاد على اختلاف ألسنة السكان وكان حيث ينتشر يثبت. فشجرة الإنجيل لم تنضر وقتياً ثم تذبل وتيبس بل كانت تُظهر حياة جديدة على توالي الأزمنة.
كَمَا فِيكُمْ أَيْضاً كان لهم برهان حسي على أن الإنجيل الذي بُشروا به هو الإنجيل الحق وهو نموه في كولوسي وتقدمه فيها. وقال بولس هذا لئلا يستنتجوا من كلامه أن الإنجيل لم ينمُ عندهم كما نما في سائر العالم.
مُنْذُ يَوْمَ سَمِعْتُمْ الإنجيل ممن نادى لكم به.
وَعَرَفْتُمْ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ بسمعكم الإنجيل. فإنهم عرفوا تلك النعمة باختيارهم. وهي موضوع الإنجيل من أوله إلى آخره حتى يصح أن يُعبر عن الإنجيل بالنعمة وعن النعمة بالإنجيل.
بِٱلْحَقِيقَةِ أي أن الإنجيل على ما هو عليه بلا زيادة ولا نقصان هو إعلان صحيح لنعمة الله. فالذين قبلوا الإنجيل قبلوا بالحقيقة نعمة الله. وفي الإنجيل مناداة بخلاص مجاني وهبه الله لكل إنسان بشرط الإيمان. وهذا بخلاف الإنجيل الذي نادى به الكذبة لأنه اختلاق بشري يجبر تابعيه على ممارسة كثير من الرسوم الشديدة وإماتة الجسد عن المباحات الحسنة فكانت أحمالاً ثقيلة. فإنجيل المسيح أعلن للناس الخلاص مجاناً وإنجيل أولئك أعلن أن الخلاص بالأعمال الشاقة.
٧ «كَمَا تَعَلَّمْتُمْ أَيْضاً مِنْ أَبَفْرَاسَ ٱلْعَبْدِ ٱلْحَبِيبِ مَعَنَا، ٱلَّذِي هُوَ خَادِمٌ أَمِينٌ لِلْمَسِيحِ لأَجْلِكُمُ».
ص ٤: ١٢ وفليمون ٢٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٣ و١تيموثاوس ٤: ٦
كَمَا تَعَلَّمْتُمْ أَيْضاً هذا متعلق بقوله «عرفتم نعمة الله بالحقيقة» والمعنى تحققتم نعمة الله أي الإنجيل كما علمكم أبفراس.
أَبَفْرَاسَ هو من سكان كولوسي (ص ٤: ١٢) وكان حين كتابة هذه الرسالة مأسور مع بولس في رومية (فليمون ٢٣). ويتبين من هذه الرسالة أنه كان مبشراً بالإنجيل في كولوسي. والمرجّح أنه آمن بالإنجيل بدعوة بولس في أفسس وأنه كان نائب بولس في تأسيس كنيسة كولوسي. وذهب بعضهم إلى أنه هو أبفرودتس المكدوني (فيلبي ٢: ٢٥) لكن لا دليل على ذلك إلا إمكان أن يكون أبفراس مختصر أبفرودتس وعليه اعتراضات كثيرة. وعرف بولس تعليم أبفراس لأنه تلميذه ويمكن أنه كان يخبر بولس بتعليمه في كولوسي عند مجيئه إليه.
ٱلْعَبْدِ ٱلْحَبِيبِ قال ذلك بياناً لمنزلته عنده وتثبيتاً لثقة الكولوسيين به وبأنه مبشر بالإنجيل على سنن الحق حتى لا يجوز لهم أن يتركوا تعليمه ويتمسكوا بتعليم المعلمين المحدثين الذين علموا ما ينافي تعليمه.
مَعَنَا هذا يدل على أنه وبولس خادمان لسيد واحد هو الرب يسوع المسيح.
ٱلَّذِي هُوَ خَادِمٌ أَمِينٌ لِلْمَسِيحِ لم يقل «كان» كذلك ليدل على أنه كان ولم يزل كما ذُكر وأنه يجب أن يستمروا على اعتباره والثقة بتعليمه.
لأَجْلِكُمُ شهد أولاً بأمانة أبفراس للمسيح وشهد هنا بأمانته لهم. وشهد الرسول له بكل ما تقدم مع أنه كان معه حينئذ في رومية خادماً بالنيابة عنهم. وكان وجوده مع الرسول واستفادته منه وسيلة زيادة إفادته إياهم بعد رجوعه إليه.
ولا ريب في أن الراعي الذي يكون خادماً أميناً للمسيح يكون كذلك لرعيته.
٨ «ٱلَّذِي أَخْبَرَنَا أَيْضاً بِمَحَبَّتِكُمْ فِي ٱلرُّوحِ».
رومية ١٥: ٣٠
ٱلَّذِي أَخْبَرَنَا أَيْضاً عند وصوله إلى رومية وإتيانه بأنباء مؤمني كولوسي (ص ٤: ١٢).
بِمَحَبَّتِكُمْ فِي ٱلرُّوحِ إن بعض الكولوسيين مالوا إلى تعليم الكذبة وهذا لم يمنعه من أن يمدحهم على ما كان ممدوحاً من أمورهم. قال سابقاً أنه «سمع محبتهم لجميع القديسين» (ع ٤) ونسب هنا تلك المحبة إلى مصدرها وهو الروح القدس (رومية ١٥: ٣٠) وهو مثبتها أيضاً لأنها إحدى أثماره (غلاطية ٦: ٢٢) وموضوعها الله الآب والله الابن والروح القدس الذي هو مصدرها وكل المؤمنين بالمسيح ومنهم الرسول الذي خاطبهم هنا.
٩ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ نَحْنُ أَيْضاً، مُنْذُ يَوْمَ سَمِعْنَا، لَمْ نَزَلْ مُصَلِّينَ وَطَالِبِينَ لأَجْلِكُمْ أَنْ تَمْتَلِئُوا مِنْ مَعْرِفَةِ مَشِيئَتِهِ، فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْمٍ رُوحِيٍّ».
أفسس ١: ١٥ و١٦ وع ٣ و٤ و١كورنثوس ١: ٥ رومية ١٢: ٢ وأفسس ٥: ١٠ و١٧ أفسس ١: ٨
إن الرسول بعد شكره لله على ما حصل عليه مؤمنو كولوسي من المعرفة والنعمة سأله في هذه الآية إلى الآية الثانية عشرة أن يزيد معرفتهم لمشيئة الله الذي يقدّرهم على أن يسلكوا كما يحق للرب
مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي من أجل كل أنبائهم التي سمعها من أبفراس في شأن إيمانهم ورجائهم ومحبتهم وأثمارهم في كل عمل صالح.
مُنْذُ يَوْمَ سَمِعْنَا (ع ٤).
لَمْ نَزَلْ مُصَلِّينَ أي أنا والذين معي. هذا كان أول تأثير أنبائهم فيه ولم يزل إلى حين كتب هذه الرسالة.
وَطَالِبِينَ هذا وما بعده تفصيل وتفسير لقوله «مصلين» إذ فيه بيان مواضيع صلاته.
أَنْ تَمْتَلِئُوا في هذا إشارة إلى أن ما أدركوه إلى ذلك الوقت من المعرفة لم يزل ناقصاً.
مَعْرِفَةِ مَشِيئَتِهِ أي المعرفة التامة لإرادته تعالى. وأتى الرسول بمثل هذه الطلبة في مقدمة أربع رسائل (أفسس ١: ١٧ وفيلبي ١: ٩ وفليمون ٦ وهنا). وهذه المعرفة أسنى أنواع المعارف (أمثال ٢: ٥ وهوشع ٦: ٦ وأفسس ٤: ١٣ و٢بطرس ١: ٢). لم يطلب بولس لهم أن يعرفوا كنه الله الذي بحث عنه فلاسفة اليونان ولا أسراره بل مشيئته لكي يعتقدوا ما يريد أن يعتقدوه وأن يعملوا ما يريد أن يعملوه.
فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْمٍ رُوحِيٍّ هذه وسائط ما طلبه من امتلائهم من المعرفة المذكورة وهي ليست وسائط بشرية بل مفعولات الروح القدس. وفي ذلك بيان عظمة الفرق بين حكمة الإنجيل وحكمة المعلمين المبتدعين فإن حكمتهم ليست سوى «حكاية حكمة» (ص ٢: ٣٢) و«فلسفة باطلة» (ص ٢: ٨) وما مصدرها سوى «الذهن الجسدي» (ص ٢: ١٨). والفرق بين الحكمة والفهم أن الحكمة أعم من الفهم وأنها عقلية وهو عملي.
١٠ «لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ، فِي كُلِّ رِضىً، مُثْمِرِينَ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَنَامِينَ فِي مَعْرِفَةِ ٱللّٰهِ».
أفسس ٤: ١ وفيلبي ١: ٢٧ و١تسالونيكي ٢: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ١ ويوحنا ١٥: ١٦ و١كورنثوس ٩: ٨ وفيلبي ١: ١١ وتيطس ٣: ١ وعبرانيين ١٣: ٢١
في هذه الآية بيان على طلبه لهم معرفة مشيئة الله لأن غايتها السلوك الحسن.
لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ أي للرب يسوع المسيح على قدر الاستطاعة البشرية. إنه لا أحد يستطيع أن يحب المسيح المحبة التي يستحقها ولا أن يكرمه الإكرام الذي يستحقه فهم لا يستطيعون أن يسلكوا كما يحق لربهم لكن يجب على المؤمنين أن يبذلوا جهدهم في ذلك لأنهم للرب فإنهم بحسن سلوكهم بمقتضى سيرة المسيح وتعليمه يكرمونه ويمجدون الله ويتممون مشيئته. وهذا كقوله للأفسسيين «أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ... أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ ٱلَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا» (أفسس ٤: ١). وكقوله لمؤمني فيلبي «عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي ١: ٢٧). إن معرفة مشيئة الله استعداد ضروري للسلوك بمقتضاها. وعمل مشيئة الله وسيلة إلى التقدم في معرفته.
فِي كُلِّ رِضىً لله تعالى. فالذي يجعل غايته الأولى أن يرضى الناس يقع في التجربة (غلاطية ١: ١٠ وأفسس ٦: ٦ و١تسالونيكي ٢: ٤). وليس كذلك من يرغب في أن يرضي الله ورضاه هو غاية حسن السلوك ومثال ذلك أخنوح بدليل قول موسى فيه أنه «سار مع الله» (تكوين ٥: ٥). وقول الرسول «بِٱلإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ ٱللّٰهَ نَقَلَهُ إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى ٱللّٰهَ» (عبرانيين ١١: ٥). وجمع الرسول الأمرين بقوله: «كَمَا تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تَسْلُكُوا وَتُرْضُوا اللهَ» (١تسالونيكي ٤: ١) نعم يجوز لنا أن نجتهد في أن نرضي الناس في المباحثات على شرط أن نطلب أولاً وخصوصاً أن نرضي الله.
مُثْمِرِينَ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ المجاز هنا كما في الآية السادسة والثمر المطلوب هو الأعمال التي توافق مشيئة الله ويطلبها الضمير وتنتج من الإيمان بالمسيح والاتحاد به بواسطة تعليم الروح القدس وإرشاده (يوحنا ١٥: ٨ ومتّى ٧: ١٦).
نَامِينَ فِي مَعْرِفَةِ ٱللّٰهِ أفضل دليل على وجود الحياة الروحية في نفس الإنسان الثمر والنمو. إن الله غير محدود فمعرفته لا تُستقصى فمهما حصل الإنسان عليه منها في كل أطوار حياته الروحية يمكن أن يُزاد عليه بالتوالي هنا وفي السماء فكلما زاد معرفة زاد سعادة واقتداراً على إفادة غيره.
١١ «مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ، لِكُلِّ صَبْرٍ وَطُولِ أَنَاةٍ بِفَرَحٍ».
أفسس ٣: ١٦ و٦: ١٠ أعمال ٥: ٤١ ورومية ٥: ٣
ٍمُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّة طلب الرسول أن يتقووا بكل نوع من أنواع القوة لأن ذلك شرط ضروري لكي يتمموا ما يُطلب منهم في وسط العالم الشرير ويحتملوا خصوصاً كل الضيقات والمصائب المحيطة بهم كما يظهر من سائر الآية.
بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ المراد بمجد الله إما إظهار كل صفاته وأما إظهار بعضها. وأشار هنا إلى مجده بإظهار قدرته وتم ذلك بأن صنع المسيح المعجزات بدليل قول يوحنا يوم حوّل المسيح الماء خمراً «هٰذِهِ بِدَايَةُ ٱلآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ» (يوحنا ٢: ١١). وبالقوة التي أُعطيها المسيح لعمل الفداء (متّى ٢٨: ١٨). ومثل هذه القوة مما يحتاج المسيحي إليه وقد وعد الله أن يمنحها إجابة لصلاة الإيمان.
لِكُلِّ صَبْرٍ وَطُولِ أَنَاةٍ تقدر تلك القوة على ممارستها. والفرق بين «الصبر» و«طول الأناة» إن الصبر ما يظهره الإنسان باحتماله المصائب التي تقع عليه من الله بلا تذمر ولا يأس كما كان من أيوب بدليل قول يعقوب الرسول «قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ ٱلرَّبِّ» (يعقوب ٥: ١١). وإن طول الأناة ما يظهره باحتماله تعديات الظالمين بلا انتقام. ومثال ذلك ما كان من المسيح حين «قيد كنعجة إلى الذبح».
بِفَرَحٍ إن المسيحي فضلاً عن احتياجه إلى قوة إلهية ليحتمل المصائب بالصبر وطول الأناة يحتاج إلى قوة عظيمة منه تعالى تمكنه من أن يفرح بمصائبه (رومية ٥: ٣). ويفرح المسيحي بالرزايا لأنه يقاسيها محبة للمسيح وإطاعة لأمره لتيقنه أنها تكون وسيلة إلى تقديسه وإعداده للسماء وأن عاقبتها راحة وفرح أبدي (يعقوب ١: ٢ و٣ و١بطرس ٤: ١٣). ومثال ذلك «يَسُوعَ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ» (عبرانيين ١٢: ٢). وهو أمر رسله أن يفرحوا في الضيق بقوله «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١١ و١٢). وكذا كان الرسول بدليل قوله «وَإِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ» (فيلبي ٢: ١٧) فالذي يصبر على المصائب السماوية فحسناً يفعل والذي يحتمل ظلم الناس بطول أناة فأحسن يفعل والذي يفرح في المصائب السماوية والأرضية فأحسن الأحسن يفعل.
١٢ «شَاكِرِينَ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ ٱلْقِدِّيسِينَ فِي ٱلنُّورِ».
أفسس ٥: ٢٠ وص ٣: ١٥ أعمال ٢٦: ١٨ أفسس ١: ١١
ذكر الرسول ثلاثة أشياء تتعلق بالسلوك «كما يحق للرب» وهي الأثمار والنمو في معرفة الله والتقوى وأضاف إليها هنا رابعاً وهو الشكر وبهذه الفضيلة يمتاز المسيحيون عن سائر فضلاء الناس.
شَاكِرِينَ ٱلآبَ أي أبا ربنا يسوع المسيح كما يتبين من القرينة (ع ١٣).
ٱلَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ ٱلْقِدِّيسِينَ هذا أول ما ذكره من دواعي الشكر. وضم بولس نفسه إلى قراء رسالته بقوله «أهّلنا» وأبان ذلك بصيغة الماضي لأن ذلك كان عند إيمانهم إذ خلقهم الله جديداً بقوة الروح القدس. وأهّلهم لتلك البركة العظيمة بمجرد نعمته لأنهم لا يستحقون من أنفسهم شيئاً من البركات ويؤيد ذلك قوله «لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا... بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ ٱللّٰهِ» (٢كورنثوس ٣: ٥). و«شركة ميراث القديسين» مبنية على ما جاء في العهد القديم من أن الله أعطى أرض كنعان ميراثاً لشعبه المختار وقسم لكل واحد منه مئة جزءاً والمسيح عيّن لكل مؤمن نصيباً في ملكوت السماء بدليل قوله «ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ» وقوله «مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي ٱلْقِدِّيسِينَ» (أفسس ١: ١١ و١٨). فالقديسون الذين نالوا هذا الميراث والذين سينالونه هم المؤمنون في المسيح ممن يحيون على الأرض والذين يحيون في السماء. وهم لم يملكوا الميراث بقوتهم بل بيمين الله وذراعه (مزمور ٤٤: ٣).
فِي ٱلنُّورِ هذا من صفات ميراث القديسين يدل على أنه مجيد طاهر بهيج عظيم وذكر هذه الصفة مقابلة «لسلطان الظلمة» المذكور في الآية التالية. ويُسمى شركاء ذلك الميراث «بأولاد النور» (لوقا ١٦: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٥). وما قاله هنا موافق لما قاله في دعوة الله له «أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال ٢٦: ١٧ و١٨ انظر أيضاً أعمال ٢٠: ٣٢). والله يؤهل المؤمنين لذلك الميراث في النور بنعمته وهم سالكون في النور على الأرض. فتقديسهم يكون شيئاً فشيئاً هنا ويكمل عند انتقالهم إلى السماء وفي هذه الآية تنتهي مقدمة الرسالة ويبتدئ القسم التعليمي من الأقسام الأربعة التي قُسمت الرسالة إليها.
شخص المسيح وكمال عمل الفداء به ع ١٣ إلى ٢٩
صرّح الرسول في هذا الفصل أننا كنا عبيداً في ملكوت الظلمة وأنقذنا الله من العبودية ونقلنا إلى ملكوت ابنه لنكون ورثته. وذكره ابن الله حمله عل أن ينادي بسمو عظمة المسيح ابن الله الفادي ومجده وقدرته.
١٣ «ٱلَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ ٱلظُّلْمَةِ وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ٱبْنِ مَحَبَّتِهِ».
أفسس ٦: ١٢ وعبرانيين ٢: ١٤ و١بطرس ٢: ٩ و١تسالونيكي ٢: ١٢ و٢بطرس ١: ١١ متّى ٣: ١٧ وأفسس ١: ٦
ٱلَّذِي أَنْقَذَنَا أصل هذا الإنقاذ هو الله والحامل له عليه حبه الفائق بدليل قول المسيح «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٦). وهو ينقذنا إنقاذ الأسير من يد الأسر. و«الإنقاذ» في الأصل اليوناني الخطف من حال الشقاء والخطر. وقال «أنقذ» لا ينقذ إشارة إلى ما أتاه الله منذ آمنوا وقبلوا النجاة.
سُلْطَانِ ٱلظُّلْمَةِ ليس المراد «بسلطان الظلمة» مجرد قوة إبليس الذي يدعي السلطان المطلق بدليل قول ذلك الخصم المحتال للمسيح يوم جربه «لَكَ أُعْطِي هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ كُلَّهُ... لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ، وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ» (لوقا ٤: ٦). بل المراد به كل الشر المقترن بالحال التي صار إليها الإنسان بسقوطه واستمر عليه قبل الفداء. وأضافه إلى «الظلمة» إشارة إلى أنه حال الجهل والضلال والشقاء. وسماه «سلطاناً» إشارة إلى أنه شر شديد التأثير مرتب مستمر هائج أبداً. ويعجز الخاطئ أن يهرب منه بقدرة نفسه.
وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ٱبْنِ مَحَبَّتِهِ إن الله لم يكتف بمجرد تحريرنا من العبودية بل جعلنا ورثة ملكوت المجد فقول الرسول «انقذنا» مبني على ما كان يفعله الظافرون بالشعب الذي ينتصرون عليه وهو أن ينقلوهم من مواطنهم إلى بلاد المنتصر. ومثال ذلك ما فعله تغلت فلاسر بعشرة أسباط إسرائيل إذ سباهم إلى أشور (٢ملوك ١٥: ٢٩ و١٨: ١١). وما فعله نبوخذ نصر بسبطي يهوذا وبنيامين (٢ملوك ٢٥: ١ - ٢١). وسمى حال السعادة «بملكوت ابن محبته» مقابلة لتسميته حال الشقاء «بسلطان الظلمة» الذي أنقذهم منه وتفضيلاً له على ملكوت الملائكة الذي وعدهم المعلمون الكاذبون به (ص ٢: ١٨). وصرّح الإنجيل بفضل المسيح على الملائكة بقوله فيه «صَائِراً أَعْظَمَ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ ٱسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ» وقوله «لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً» (عبرانيين ١: ٤ و١٣ و١٤). وقوله «فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ «ٱلْعَالَمَ ٱلْعَتِيدَ» ٱلَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ» (عبرانيين ٢: ٥). وذلك الملكوت قد أنشأه يسوع على الأرض وهو ملكه والمؤمنون الذين نجوا من سلطان الظلمة شرعوا يملكون ميراثهم لكن حالهم هناك كحال القاصرين الذين قصد الله أن يهب لهم القسم الأعظم من ميراثهم عند بلوغهم في السماء. ودعا المسيح «ابن محبته» لأنه موضوع حبه الخاص وقد سمي «المحبوب» (أفسس ١: ٦) ولأنه فيه تجري محبة الله الآب إلى نفوس البشر. «إن الله محبة» (١يوحنا ٤: ٨ و١٦) وهي خلاصة صفاته وكذلك هي خلاصة صفات الابن. بدليل قول الرسول «بِهٰذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِينَا: أَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ» (١يوحنا ٤: ٩).
١٤ «ٱلَّذِي لَنَا فِيهِ ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا».
أفسس ١: ٧
هذه الآية كالآية السابعة من الأصحاح الأول من أفسس فارجع إلى التفسير هنالك. والغاية منها بيان أن الفداء والمغفرة بيسوع المسيح وحده وأنهما بسفك دمه ولا مدخل فيهما لأعمال الناس الصالحة.
١٥ «ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ».
٢كورنثوس ٤: ٤ وعبرانيين ١: ٣ رؤيا ٣: ١٤
هذه الآية وما بعدها إلى الآية العشرين وصف للمسيح الذي قال أنه «ابن محبته» قصد الرسول به نفي ضلالات المعلمين الكاذبين. وأبان به أولاً ما كان عليه المسيح في الجوهر منذ الأزل وما كان عليه منذ بدء الخليقة باعتبار كونه خالق كل شيء وحافظ كل شيء وما كان للكنيسة منذ تجسده إلى تمجيده. وخلاصة ما قيل هنا في (عبرانيين ١: ٣) وهي على وفق قول يوحنا الرسول في إنجيله (يوحنا ١: ١ - ١٤).
صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ المراد «بالصورة» هنا ظهور ما لا يظهر للإنسان في الآب. ومعنى العبارة أن الله الآب الذي لا يُعلن بدون المسيح قد ظهر به. وليس المراد أن المسيح صورة جوهر الله بل أنه عنوان ما قصد الله إظهاره لنا من صفاته. وعبر عنه أيضاً «بالكلمة» لأنه به أعلنت مشيئة الله الخفية (يوحنا ١: ١) وعُبر عنه أيضاً ببهاء ذلك المجد الذي لا يقدر أحد أن ينظره ويحيا و«برسم» ذلك الجوهر الذي لا يمكن أن يُعرف إلا بواسطة الصورة التي أتى الابن بها (عبرانيين ١: ٣) وعبر عنه يوحنا بما في قوله «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨). ويتضح من هذا أن المسيح الذي كان قبل كل خليقة تراه أو تسمعه سمي «صورة الله» و «كلمة الله» بمقتضى قصده تعالى أن يعلنه للخليقة متى وُجدت. والمراد «بغير المنظور» الذي تعجز الحواس البشرية عن الشعور به وعقل الإنسان عن أن يتصوره ويدركه بدون الابن وكون المسيح «صورة الله» غير مقصور على ما ظهر منه للناس وهو متجسد بل هو عام لكل ما أعلنه من صفات الله وأعماله بواسطة تعليمه وسيرته وأعماله ولا سيما ما أعلنه في عمل الفداء.
بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ دُعي كذلك بياناً لكونه الأول في محبة الآب واعتباره كما في قوله «متَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ» (عبرانيين ١: ٦). ولكونه فوق كل الخلائق في العظمة ووقت الوجود. وهذا المراد من قول الله فيه بلسان داود «أَنَا أَيْضاً أَجْعَلُهُ بِكْراً أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ» (مزمور ٨٩: ٢٧). ولنسبته إلى شعبه باعتبار كونه رئيسهم وملكهم ومخلصهم كما في قوله «ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رومية ٨: ٢٩) ودُعي «البكر من الأموات» لكونه سابقاً ورئيساً لجميع الذين سوف يقومون من الموت (رؤيا ١: ٥). وجاء «البكر» في الكتاب المقدس صفة لمن امتاز عن غيره برضى الله ومحبته كقوله تعالى في الإسرائيليين «إِسْرَائِيلُ ٱبْنِي ٱلْبِكْرُ» (خروج ٤: ٢٢) وقوله في سبط أفرايم «لأَنِّي صِرْتُ لإِسْرَائِيلَ أَباً وَأَفْرَايِمُ هُوَ بِكْرِي» (إرميا ٣١: ٩) وقوله في الكنيسة «كَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (عبرانيين ١٢: ٢٣). وقول الرسول في الآية التالية «إن في المسيح خُلق الكل والكل به وله قد خُلق» يمنع أن يكون معنى قوله «بكر كل خليقة» أن المسيح بعض المخلوقات لاستحالة أن يكون الخالق مخلوقاً. فمعنى قوله «صورة الله» و«بكر كل خليقة» هو أن المسيح كان منذ الأزل مع الله وواحداً معه في الجوهر بدليل قول يوحنا «وكان الكلمة الله» (يوحنا ١: ١). مع أنه يمتاز عن الآب في الأقنومية وأنه يمتاز عن المخلوقات بأنه أعظم منهم جميعاً وأنه كان قبلهم. فكونه «صورة الله» يعلن نسبته إلى الآب وكونه «بكر كل خليقة» يعلن نسبته إلى البرايا. وهذا على وفق قول يوحنا «هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّٰهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا ١: ٢ و٣). وقول الرسول «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً... كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ. ٱلَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين ١: ١ - ٣).
١٦، ١٧ «١٦ فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. ١٧ اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ ٱلْكُلُّ».
يوحنا ١: ٣ و١كورنثوس ٨: ٦ وأفسس ٣: ٩ وعبرانيين ١: ٢ رومية ٨: ٣٨ وأفسس ١: ٢١ وص ٢: ١٠ و١٥ و١بطرس ٣: ٢٢ رومية ١١: ٣٦ وعبرانيين ٢: ١٠
فَإِنَّهُ الفاء للتلعيل وأتى بالعبارة بعدها بياناً لعلة ما قاله في المسيح في الآية السابقة ودفعاً لتوهم أن المسيح مخلوق.
فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ أي العالمين جميعها وفصل ذلك في ما يأتي. والعبارة على وفق قول يوحنا «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا ١: ٣). وقول الرسول في المسيح «وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ، وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ» (عبرانيين ١: ١٠). وهي تبين كيف كان المسيح صورة الله لأن المسيح بخلقه العالمين أعلن قوة الله غير المحدودة وحكمته الفائقة. وهذا يمنع كل المنع من القول بأن المسيح جزء من الخليقة.
مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ هذا تفسير وتفصيل لقوله «الكل» باعتبار الجهات وهو يشمل سماء السماوات حيث يُظهر الله مجده ويسكن الملائكة والقديسون وسماء الكواكب وسكانها والأرض وكل ما فيها من الناس والبهائم والعناصر والقوات المحجوبة فيها.
مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى هذا تفسير وتفصيل ثان للكل بالنظر إلى حقائق المخلوقات من مادية وروحية. والمنظور لنا جزء صغير من البريّة فإننا لا نرى الملائكة ولا سكان الكواكب مما خلقه المسيح.
سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ هذا تفسير وتفصيل ثالث لقوله «الكل» بالنظر إلى المراتب. والمقصود بأهل هذه المراتب الملائكة. وسبق مثل هذا الكلام في (أفسس ١: ٢١) إلا أن ما دعي «عروشاً» هنا دُعي «رياسة» هناك والمعنى واحد لأن المراد «بالعروش» هنا القرب إلى عرش الله بدليل قول صاحب الرؤيا «وَحَوْلَ ٱلْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشاً» (رؤيا ٤: ٤) وإذا أردت المعنى بالتفصيل فارجع إلى تفسير (أفسس ١: ٢١). وغاية بولس هنا بيان أن المسيح أعظم من أعظم المخلوقات بما لا يقاس وأن الذين عبدوا إحدى تلك المراتب بالإكرام الذي لا يجوز لغير المسيح احتقروه. ولم يتعرض الرسول لذكر الممالك الأرضية وملوكها لأنه ليس من خوف أن يميل أحد إلى تفضيلها على المسيح ولم يذكر الأشرار من الملائكة لأن المسيح لم يخلقهم أشراراً.
ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ هذا تكرار ما سبق وبيان أن كل الخليقة خاضعة للمسيح كما جاء في (متّى ٢٨: ١٨ وفيلبي ٢: ٩ و١كورنثوس ١٥: ٢٧) فإنه خلقها لكي يتمجد بها وأن يتم كل ما قصد إجراءه. ولا إشارة هنا إلى أن الخليقة الروحية كانت به وله لأن هذا ذُكر بعد في (ع ١٨ - ٢٠). وما قاله في هذه الآية من أن كل شيء في المسيح خُلق به وله قاله أيضاً في الآب (رومية ١١: ٣٦) وذلك دليل على أن الابن مساوٍ للآب.
اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ في الزمان. فالمعنى أنه أزلي لا منذ بدء الخليقة. وهذا بمعنى قول المسيح نفسه «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا ٨: ٥٨). وكقول الله لموسى «هٰكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج ٣: ١٤).
وَفِيهِ يَقُومُ ٱلْكُلُّ أي يستمر على النظام الذي خُلق عليه. فإن الخليقة لولا المسيح تلاشت ورجعت إلى العدم الذي خُلقت منه فإنه هو الذي يحفظها ويعتني بها ويعمل فيها كقول الرسول في اللاهوت «بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال ١٧: ٢٨). وقوله في المسيح أنه «حَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين ١: ٣). والغنوسين الذين مال الكولوسيون إلى تعليمهم قالوا «بأن حافظ العالم قوة إلهية أصغر من القوة التي خلقته» لكن الرسول نسب الخلق والحفظ كليهما إلى المسيح.
١٨ «وَهُوَ رَأْسُ ٱلْجَسَدِ: ٱلْكَنِيسَةِ. ٱلَّذِي هُوَ ٱلْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّماً فِي كُلِّ شَيْءٍ».
١كورنثوس ١١: ٣ وأفسس ١: ١٠ و٢٢ و٤: ١٥ و٥: ٢٣ أعمال ٢٦: ٢٣ و١كورنثوس ١٥: ٢٠ و٢٣ ورؤيا ١: ٥
في هذه الآية واللتين بعدها بيان نسبة المسيح إلى الكنيسة التي هي خليقته الروحية الجديدة.
وَهُوَ رَأْسُ ٱلْجَسَدِ: ٱلْكَنِيسَةِ الكنيسة التي هي جسد المسيح قسم من «الكل» الذي خُلق فيه وبه وله (ع ١٦) فإن الذي كان في صورة الله هو أيضاً رأس الكنيسة لأنه مصدر حياتها ونموها وقوتها وهو ملكها وحاضر معها على الدوام ويُحبها كما يحب الإنسان جسده. وقد مر تفسير ذلك في (أفسس ١: ٢٢ و٢٣ انظر أيضاً أفسس ٤: ١٢ و١٥ و١٦). قال بولس هذا ليزيل ضلالات المعلمين الكاذبين في كولوسي الذين نسبوا رئاسة الكنيسة إلى الملائكة وإلى ما جاورهم ممن هم أقرب منهم إلى الحضرة الإلهية من المخلوقات.
ٱلَّذِي هُوَ ٱلْبَدَاءَةُ أي بداءة الكنيسة التي هي جزء من «الكل» الذي خلقه على ما جاء في الآية السادسة. وليس المعنى هنا أن المسيح كان قبل الكنيسة فقط بل أنه هو أبدعها أيضاً ومصدر حياتها. قيل سابقاً أنه «بكر كل خليقة» فبالأولى أنه بكر الكنيسة إذ قيل أنه رئيس خلاصها (عبرانيين ٢: ١٠).
بِكْرٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وكذا جاء في (رؤيا ١: ٥). والمعنى أنه أول من قام من الموت لكي لا يموت أيضاً. نعم إن المسيح أقام لعازر وغيره لكنهم ماتوا أيضاً. وسمي «بكراً» لأنه هو أول من قام في الزمان بدليل قول الرسول «إِنْ يُؤَلَّمِ ٱلْمَسِيحُ، يَكُنْ هُوَ أَوَّلَ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ» (أعمال ٢٦: ٢٣) ولأنه أول في المقام ولأنه علة قيامة موتى الناس جميعاً وعربون قيامة شعبه ولذلك سمي «باكورة الراقدين» (١كورنثوس ١٥: ٢٠). وقال في نفسه «أنا هو القيامة والحياة» (يوحنا ١١: ٢٥) وهو الذي «أبطل الموت وأنار الحياة والخلود» (٢تيموثاوس ١: ١٠). وذكر الرسول قيامته برهاناً على صحة دعواه وصرّح بأن النبوءة التي هي «أنت ابني وأنا اليوم ولدتك» تمت بقيامته (أعمال ١٣: ٣٣ ورومية ١: ٣).
لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّماً فِي كُلِّ شَيْءٍ بمقتضى قصد الله أن يكون يسوع القائم من الأموات هو رأس الكنيسة. وقد أبان الرسول تقدم المسيح بأفصح عبارة في (فيلبي ٢: ٩ - ١١) (فارجع إلى التفسير هناك) فهو أعظم من كل الكنيسة كما أنه أعظم من كل الخليقة على ما تقدم آنفاً.
١٩ «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ».
يوحنا ١: ١٦ و٣: ٣: ٣٤ وص ٢: ٩ و٣: ١١
هذه الآية برهان على أن رئاسة المسيح مطلقة وفاقاً لمسرة الله بأن «يحل فيه كل الملء».
فِيهِ أي في المسيح ليستطيع أن يخلق الكل ويفدي شعبه ويقوم متسربلاً بكل ما يقتضيه خلاص ذلك الشعب.
سُرَّ أي الله.
يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ أي كل ملء اللاهوت كما يدل عليه قوله «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (ص ٢: ٩ انظر أيضاً يوحنا ١: ١٤ و١٦ وأفسس ٣: ١٩). والمراد «بملء اللاهوت» كل الصفات الإلهية من عظمة وحكمة وقداسة وسلطة وقدرة ومجد ونعمة للكنيسة. والمراد «بالحلول» الاستمرار لا النزول الوقتي. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يحل في المسيح كل صفات اللاهوت إن لم يكن هو ابن الله «وصورة الإله غير المنظور» فوجب أن يكون إلهاً تاماً وإنساناً تاماً لكي يكون رأس الكنيسة وبدائتها وبكر كل خليقة وباكورة الراقدين وملكاً منتصراً والوسيط الوحيد بين الله والناس. ووجب أن يحل فيه كل ملء اللاهوت لكي يقي كنيسته من أعدائها ويقودها إلى النصرة ولولا ذلك استحالت مصالحة الكنيسة لله ونجاتها من الهلاك الأبدي.
٢٠ «وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى ٱلأَرْضِ أَمْ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
٢كورنثوس ٥: ١٨ أفسس ١: ١٠ أفسس ٢: ١٤ إلى ١٦
وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ الضمير في «به» يرجع إلى المسيح كما يدل عليه قوله «بدم صليبه» فهو واسطة الفداء. والمراد «بالكل» هنا كل قابل للمصالحة من الكل الذي ذُكر في الآية السادسة عشرة. وأشار إلى بعض من صُولح بقوله في الآية التالية «أنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء... قد صالحكم». وأبان من هم المصالحون أكثر إبانة في (أفسس ٢: ١٦) فانظر تفسير ذلك في موضعه. وما قاله الرسول في (رومية ٨: ٢٠ و٢١) يشير إلى أن الخليقة غير الناطقة تشترك أيضاً في فوائد المصالحة ولكن لا دليل في شيء من الكتاب على أن الشياطين تستفيد منها شيئاً ولا الناس الذين ماتوا وهم رافضون للخلاص بالمسيح. ثم أن مصالحة المسيح كل من في السماوات والأرض مع الله تستلزم أنه إله وإنسان. وقوله «يصالح به الكل» لا يستلزم أنه قد تمت مصالحة الكل لأن كثيرين يظهرون بأقوالهم وأعمالهم أنهم غير مصالحين لله.
لِنَفْسِهِ أي للآب الذي سر أن «يحل في المسيح كل الملء» ليكون أهلاً لعمل الفداء (ع ١٩) وهذا يتضح من مقابلة هذه الآية بما في (أفسس ٢: ١٦).
عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ هذا بيان أن المسيح عمل الصلح بدمه الذي سُفك على الصليب كفارة لخطايا الناس. إنه قد تم بموت المسيح حمل الله الذي يرفع خطية العالم كل ما هو ضروري للمصالحة بين الله القدوس العادل والإنسان الخاطئ (يوحنا ١: ١٩ ورومية ٣: ٢٥ وعبرانيين ٩: ١٤ و١٨ و٢٠ و١بطرس ١: ١٩).
بِوَاسِطَتِهِ أي بالمسيح ابن الله وحده لأن كل البهائم التي سُفكت دماؤها على المذابح لم تكن دماؤها سوى رمز إلى الدم الذي سفكه المسيح ولم تكن في نفسها ذات نفع. والمسيح هو وحده صلب من أجل البشر فهو وحده الوسيط بين الله والناس.
سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى ٱلأَرْضِ أَمْ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لعلنا لا نستطيع أن ندرك كل نتائج هذه المصالحة إنما نعلم أنها تعم كل قابل للمصالحة في السماء وعلى الأرض. فإنها مصالحة الله للإنسان ومصالحة الإنسان لله (٢كورنثوس ٥: ١٩ و٢٠) ومصالحة الإنسان للإنسان (لوقا ٢: ١٤ و١٩: ٣٨) ومصالحة اليهود للأمم (أفسس ٢: ١٤ و١٦) ومصالحة الإنسان لضميره. وقال «ما على الأرض أم ما في السماوات» ولم يذكر من في جهنم فإذا لا مصالحة للأبالسة ولا للأشرار الذين كان نصيبهم باختيارهم مع الشياطين في الدنيا وفي الآخرة (يهوذا ٦ و٧). قال الرسول أن الخليقة غير الناطقة تشترك في فوائد المصالحة (رومية ٨: ١٩ - ٢١).
٢١ «وَأَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي ٱلْفِكْرِ، فِي ٱلأَعْمَالِ ٱلشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ ٱلآنَ».
أفسس ٢: ١ و٢ و١٢ و١٩ و٤: ١٨ تيطس ١: ١٥ و١٦
تكلم قبلاً في المصالحة بالمسيح عموماً وتكلم عليها في هذه الآية بالنظر إلى تأثيرها في مؤمني كولوسي خاصة.
وَأَنْتُمُ يا مؤمني كولوسي الذين كنتم أصلاً من الأمم.
كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً أي قبل أن آمنتم (انظر تفسير هذه العبارة في تفسير أفسس ٢: ١٢). وكانوا حينئذ «أجنبيين» لبعدهم عن الله «وأعداء» لأن مشيئتهم مضادة لمشيئة الله. وأصل العداوة الإنسان لا الله (رومية ٥: ١٠ وأفسس ٢: ٢٣).
فِي ٱلْفِكْرِ هذا مركز الشر والعداوة.
فِي ٱلأَعْمَالِ ٱلشِّرِّيرَةِ وهي معلنات الفكر من الشرور الباطنة وهي دليل على كونهم معادين لله وعلى كونهم أجنبيين و«الأعمال الشريرة» عبارة عن كل سيرتهم. ووُصفت أعمالهم بالشر لأن بعضها مخالف لوصايا الله ولا شيء منها إطاعة له وتمجيد لاسمه كما يجب أن تكون الأعمال كلها. وكانت ناشئة عن أفكار شريرة في شأن الله والناس.
قَدْ صَالَحَكُمُ أي الله كما في (ع ٢١) وذلك بعمل واحد وهو موت المسيح. والله في كل ما قيل مصالح ووسيط المصالحة المسيح.
ٱلآنَ أي في العصور الإنجيلية بعد ما فُتح الطريق للأمم إلى الاشتراك في تلك المصالحة كاليهود.
٢٢ «فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِٱلْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ وَلاَ شَكْوَى أَمَامَهُ».
أفسس ٢: ١٥ و١٦ لوقا ١: ٧٥ وأفسس ١: ٤ و٥: ٢٧ و١تسالونيكي ٤: ٧ وتيطس ٢: ١٤ ويهوذا ٢٤
فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ أي بناسوت المسيح. ولعله استعمل هذه العبارة للتمييز بين جسد المسيح الحقيقي وجسده المجازي الذي هو الكنيسة (ع ١٨). وظن كثيرون أنه استعملها دفعاً لزعم الغنوسيين إن أصل الشر في المادة فينتج عندهم بالضرورة إن جسم المسيح لم يكن حقيقياً بل خيالياً (١يوحنا ٤: ٢ و٣). وظن بعضهم أنه استعملها دفعاً لتعليم المعلمين الكاذبين في كولوسي وهو أن المصالحة عمل الملائكة أو غيرهم من المخلوقات المجردة من الأجساد. وهنا أوضح بولس حقيقة ناسوت المسيح لأنه لو لم يتخذ جسد البشرية لم يستطع أن يتألم ويموت ليكون ذبيحة كفارية على مقتضى المصالحة كما أوضح في غير هذا الموضع لاهوته لأنه لولا لاهوت المسيح لم تكن قيمة لموته حتى يكون كفارة لخطأة العالم.
بِٱلْمَوْتِ الكفّاري على الصليب الذي به عمل المسيح المصالحة.
لِيُحْضِرَكُمْ هذا غاية المصالحة ونتيجتها للكولوسيين وفي مواضع أُخر ذُكر نتائج أخر منها لله. والذي يحضرهم لله هو المسيح فهم لا يحضرون أنفسهم له. والمرجّح أن هذا الإحضار يكون عند مجيء المسيح ثانية.
قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ بمقتضى قصد الله في المؤمنين «قبل تأسيس العالم» (أفسس ١: ٤) ويكونون كذلك قدام الله والعالم. وهذا على وفق مشيئة الله لكل المؤمنين بدليل قوله «إِنَّ هٰذِهِ هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ: قَدَاسَتُكُمْ» (١تسالونيكي ٤: ٣). وأول درجاته التبرير الذي هو دفعي ويكون عند الإيمان ويتلوه التقديس التدريجي وهو فعل الروح الذي أرسله المسيح. ودرجته الأخيرة كمال شبه المسيح عند مجيئه (أفسس ١: ٤ ويهوذا ٢٤ ورؤيا ١٤: ٥). وكل درجات الحياة المقدسة متوقفة على المسيح الذي «صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» (١كورنثوس ١: ٣٠).
وَلاَ شَكْوَى لأن المسيح حين يُحضر شعبه أمام أبيه لا يشتكي الله عليهم لأنه غفر خطاياهم ولا الناموس لأن المسيح أوفى كل مطاليبه ولا ضمائرهم لأن الروح القدس قد أنشأ السلام مع الله في قلوبهم ولا الملائكة لأنهم فرحوا حين توبتهم على الأرض وسيفرحون بالترحيب بهم عند دخولهم بين الجنود السماوية.
أَمَامَهُ أي أمام الله كما جاء في (أفسس ١: ٤) لأنه فاحص القلوب وخفايا الأسرار فيحكم في اليوم الأخير بأنه من هم الذين قُدسوا بالمصالحة بموت المسيح.
٢٣ «إِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى ٱلإِيمَانِ، مُتَأَسِّسِينَ وَرَاسِخِينَ وَغَيْرَ مُنْتَقِلِينَ عَنْ رَجَاءِ ٱلإِنْجِيلِ، ٱلَّذِي سَمِعْتُمُوهُ، ٱلْمَكْرُوزِ بِهِ فِي كُلِّ ٱلْخَلِيقَةِ ٱلَّتِي تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، ٱلَّذِي صِرْتُ أَنَا بُولُسَ خَادِماً لَهُ».
أفسس ٣: ١٧ وص ٢: ٧ يوحنا ١٥: ٦ رومية ١٠: ١٨ ع ٦ أعمال ١: ١٧ و٢كورنثوس ٣: ٦ و٤: ١ و٥: ١٨ وأفسس ٣: ٧ وع ٢٥ و١تيموثاوس ٢: ٧
إِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى ٱلإِيمَانِ قال ذلك ليبين لهم أن عليهم مسؤولية في أمر الخلاص فيجب أن يكونوا ثابتين في إيمان الإنجيل ورجائه ومحترسين من كل ما يعدل بهم عن الإنجيل الذي قبلوه. والثبات في الإيمان هو شرط إحضارهم إلى الله قديسين وبلا لوم (ع ٢٢).
مُتَأَسِّسِينَ وَرَاسِخِينَ كما تتأسس البيوت وترسخ على الأساس الصخري (لوقا ٦: ٤٨ و٤٩). وهذا مثل قوله لمؤمني كورنثوس «كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ» (١كورنثوس ١٥: ٥٨). وقوله لمؤمني أفسس «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ» (أفسس ٢: ٢٠ انظر أيضاً أفسس ٣: ١٨ وتفسيره).
غَيْرَ مُنْتَقِلِينَ بتعاليم المعلمين الكاذبين الذين ملتم إلى سمع أقوالهم ولا بغرور الفلسفة العالمية والشهوات الجسدية.
عَنْ رَجَاءِ ٱلإِنْجِيلِ الرجاء المبني على مواعيد الإنجيل ولا سيما رجاء الخلاص بدم المسيح. وهذا الرجاء يقدر المؤمن على الثبات في الإيمان (انظر تفسير أفسس ١: ١٨).
ٱلَّذِي سَمِعْتُمُوهُ ذكر في هذه الآية ثلاثة أسباب لعدم انتقالهم عن رجاء الإنجيل الأول أنهم سمعوه وتحققوا صحته حين بشروا به أولاً بواسطة أبفراس (ع ٧).
ٱلْمَكْرُوزِ بِهِ فِي كُلِّ ٱلْخَلِيقَةِ هذا سبب ثان لعدم انتقالهم عن رجاء الإنجيل وهو عموم الإنجيل لأن ذلك دليل على أنه من الله وأنه حق. فإن الضلال يغلب أن يكون محصوراً في عدد قليل من الناس ومحل محدود. إن المسيح أمر بأن «ينادى بإنجيله للخليقة كلها» (متّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٥) وأخذ الرسل والمسيحيون الأولون بالمناداة به في بلاد كثيرة متفرقة. وحين كتب بولس هذه الرسالة كان الإنجيل منتشراً في أكثر العالم المعروف يومئذ. والدليل على ذلك ما في رسالة بلينيوس الوثني إلى الأمبراطور تريجانس في نحو ذلك الوقت. ففيها أن كثيرين من كل سن ورتبة وجنس سيقوا إلى المحاكم لكونهم مسيحيين لأن عدوى وهمهم تفشت في مدن وقرى كثيرة حتى المزارع. وأجمع جمهور المؤرخين أنه بعد ثلاثين سنة لموت المسيح انتشر الدين المسيحي في أدومية وسورية وما بين النهرين وميدية وبرثية وجانب كبير من آسيا الصغرى ومصر وموريتانية والحبش وأماكن أُخر في شمالي إفريقية وفي بلاد اليونان وإيطاليا وأسبانيا.
تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ أي في كل موضع كقول الشاعر «ليس تحت الزرقاء أحسن منها». ويشار بمثل هذه العبارة إلى عموم الأماكن أو كثرتها واتساعها.
ٱلَّذِي أَنَا بُولُسَ خَادِماً لَهُ هذا السبب الثالث لعدم انتقالهم عن رجاء الإنجيل لأنهم لو تركوا ما علمهم أبفراس كانوا كأنهم تركوا تعليم بولس لأن بولس هو الذي علمه. وتفضيلهم المعلمين المضلين على رسول المسيح يلزم أنهم أعرضوا عن المسيح نفسه الى بولس خادمه ورسوله. وذكر بولس الإنجيل ساقه إلى أن يصرح بالشرف العظيم الذي له من أنه وكيل المناداة به. وفي الآية الآتية أنه مسرور في أتعابه وشدائده بخدمة الإنجيل. ومثل كلامه هنا كلامه في (أفسس ٣: ٧).
٢٤ «ٱلَّذِي ٱلآنَ أَفْرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ، وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ ٱلْمَسِيحِ فِي جِسْمِي لأَجْلِ جَسَدِهِ: ٱلَّذِي هُوَ ٱلْكَنِيسَةُ».
رومية ٥: ٣ و٢كورنثوس ٧: ٤ أفسس ٣: ١ و١٣ ٢كورنثوس ١: ٥ وفيلبي ٣: ١٠ و٢تيموثاوس ١: ٨ و٢: ١٠ أفسس ١: ٢٣
ٱلآنَ أشار بهذا إلى أنه كان يوم كتب هذه الرسالة مسجوناً في رومية ويده مربوطة إلى يد عسكري روماني وإلى الفرق بين حاله يومئذ وحاله قبل ذلك وهو يجول من بلد إلى أخرى للتبشير.
أَفْرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ أيها الذين كنتم أمماً في الأصل. أشار الرسول بذلك إلى أن مناداته بالإنجيل للأمم كانت علة شكاية اليهود عليه وسجنه. وقال مثل ذلك في (أفسس ٣: ١). وعلة فرحه ليست آلامه بل كونها إكراماً للمسيح ونفعاً لكنيسته.
وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ ٱلْمَسِيحِ أي الشدائد التي احتملها المسيح لعلة أن الكنيسة جسده كما تدل عليه القرينة. فاعتبر بولس آلامه جزءاً من مقدار الشدائد المفروضة على الكنيسة عموماً في خدمة ربها. وليس من تلك الشدائد شيء من التكفير للخطيئة لأن المسيح أكمل إلى الأبد كل الآلام الكفارية عن الخطايا حين عُلق على الصليب. وليس في هذه الآلام شيء من النقص يقتضي أن يكملها أحد من المخلوقات لكنه فرض على شعب المسيح أن يشاركه في الآلام غير الكفارية إطاعة لقوله «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متّى ١٦: ٢٤). وشهادة بحق الإنجيل وبياناً لحقيقة إيمانه ولبنيان كنيسته (متّى ٢٠: ٢٢ وعبرانيين ١٣: ١٣ و١بطرس ٤: ١٣).
فِي جِسْمِي ذكر بولس هذا لأن الجسم معرض للآلام أكثر مما سواه من الإنسان ولأنه به تصل الآلام إلى النفس.
لأَجْلِ جَسَدِهِ: ٱلَّذِي هُوَ ٱلْكَنِيسَةُ قال ذلك تصريحاً بأن آلام جسد المسيح هي آلام المسيح عينه فمهما احتملت الكنيسة من الشدائد إنما تحتملها لأجل كمالها في القداسة في التشبه بالمسيح. فالمؤمن بكل تألمةٍ من تألمه وكل دمعةٍ من دمعه وكل تعب من أتعابه لبنيان الكنيسة وكل إنكاره لنفسه في هذا السبيل يتمم العمل الذي ابتدأه ربه ويكمل أبداً على قدر استطاعته نقائص شدائد المسيح. ونسب بولس تكميل تلك الشدائد إلى نفسه خاصة لأنه عضو من جسد المسيح المتألم ولأنه امتاز على غيره بكثرة شدائده في خدمة المسيح. وقيل في النبوءات المتعلقة بالمسيح أنه شارك شعبه في الآلام بدليل قول النبي «في كل ضيقتهم تضايق» (إشعياء ٦٣: ٩). وعظمة محبة بولس للمسيح حملته على أن يفرح بأن أذن له أن يشترك في آلام المسيح ويكمل نقائص شدائده مع كونه على قوله «أصغر الرسل وليس مستحقاً أن يدعى رسولاً». وقال ما يقرب من هذا في (٢كورنثوس ١: ٥).
٢٥ «ٱلَّتِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَـهَا، حَسَبَ تَدْبِيرِ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَى لِي لأَجْلِكُمْ، لِتَتْمِيمِ كَلِمَةِ ٱللّٰهِ».
رومية ١٥: ١٩ و١كورنثوس ٩: ١٧ وغلاطية ٢: ٧ وأفسس ٣: ٢ وع ٢٣
خَادِماً لَـهَا كونه «خادم الإنجيل» (ع ٢٣) جعله أيضاً خادم الكنيسة التي تنادي بالإنجيل وتشهد له بسلوكها واحتمال الشدائد من أجله.
تَدْبِيرِ ٱللّٰهِ المراد بهذا تعيين الله إياه رسولاً للأمم كما يتضح من (أفسس ٣: ٢ - ٩) وكما أشار إليه في (١كورنثوس ٩: ١٧). ومن ذلك التدبير أن الله دعاه ليكون رسولاً ووهب له النعمة والسلطان لعمل الرسولية وأعلن له ما يجب أن ينادي به (أفسس ٣: ٢) ومن هم الذين يرسل إليهم (أعمال ٢٢: ٢١).
لأَجْلِكُمْ أي لأجل الأمم التي أنتم منها. فإن الله عيّنه للأمم خاصة كما عيّن بطرس لليهود كذلك (أفسس ٣: ١ و٢ وغلاطية ٢: ٨).
لِتَتْمِيمِ كَلِمَةِ ٱللّٰهِ أي الإنجيل. إن الله قصد أن يُبشر بالإنجيل الخليقة كلها وهذا القصد لم يتم إلا بتعيين بولس منادياً بالإنجيل للأمم. وفي إكمال هذا القصد قال الرسول «إِنِّي مِنْ أُورُشَلِيمَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى إِللِّيرِيكُونَ، قَدْ أَكْمَلْتُ التَّبْشِيرَ بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ» (رومية ١٥: ١٩).
٢٦ «ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ وَمُنْذُ ٱلأَجْيَالِ، لٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ».
رومية ١٦: ٢٥ و١كورنثوس ٢: ٧ وأفسس ٣: ٩ متّى ١٣: ١١ و٢تيموثاوس ١: ١٠
ٱلسِّرِّ هذا بدل من «كلمة الله» ومعناه أن هذه الكلمة كانت مكتومة عن الناس ولكنها أُعلنت بالوحي (أفسس ١: ٩) وجوهر ذلك السر هو أن للأمم مع اليهود شركة مجانية تامة في كل بركات عهد الله (رومية ١٦: ٢٦) ولمناداة الرسول بذلك السر كان مسجوناً (أفسس ٣: ١) ووجب عليه أن يُعلنه بلا خوف (ص ٤: ٣ و٤ وأفسس ٦: ١٩).
ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ وَمُنْذُ ٱلأَجْيَالِ الدهور الأزمنة الطويلة والأجيال جمع جيل والمراد به هنا مدة ما يعيشه الإنسان. ومعنى العبارة أن ذلك السر كُتم في الأزمنة القريبة فضلاً عن أنه كُتم في الأزمنة البعيدة وأعلن للناس بغتة حتى بهتوا إذ كان وقت إعلانه وقت إتمامه.
ٱلآنَ أي أزمنة الإنجيل بعد صعود المسيح وحلول وقت إتمامه.
أُظْهِرَ أولاً بإعلان سماوي ثانياً بتبشير الرسل وغيرهم من المبشرين وشهد بصحته الروح القدس بالمعجزات.
لِقِدِّيسِيهِ أي المؤمنين جميعاً كما في (ع ٢ وأفسس ١: ١ ورومية ١: ٧).
٢٧ «ٱلَّذِينَ أَرَادَ ٱللّٰهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هٰذَا ٱلسِّرِّ فِي ٱلأُمَمِ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ».
٢كورنثوس ٢: ١٤ رومية ٩: ٢٣ وافسس ١: ٧ و٣: ٨ و١تيموثاوس ١: ١
ٱلَّذِينَ أي القديسين المذكورين في (ع ٢٦).
أَرَادَ ٱللّٰهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ حسب رأي مشيئته الذي قصده في ذاته منذ الأزل فإنه بنعمته دعا الأمم لا لاستحقاق لهم (أفسس ١: ٩).
مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هٰذَا ٱلسِّرِّ أي ما في إعلان هذا السر من مظهرات عظمة نعمة الله ومجده في بيان صفاته المجيدة (ص ٢: ٢ وأفسس ١: ١٧ و١٨ ورومية ١١: ٣٨).
فِي ٱلأُمَمِ أي دعوتهم وإدخالهم بيت الله وجعلهم شركاء الميراث السماوي. وكان ذلك من أعظم معلنات نعمة الله للعالم لأنهم كانوا منذ قرون عديدة متوغلين في أودية الظلام والإثم حتى لم يكن من رجاء لتنويرهم ونجاتهم.
ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ «الذي» تابع «لغنى مجد هذا السر» ولمعنى أن جوهر ذلك الغنى هو أن المسيح يسكن في قلوب مؤمني الأمم فبذلك يتحدون به بواسطة النعمة. إنه من أعجب العجائب أن المسيح يكون للأمم الذين كانوا سابقاً «بِدُونِ مَسِيحٍ... لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلٰهٍ فِي ٱلْعَالَمِ» (أفسس ٢: ١٢).
رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ هذا بدل من «المسيح» باعتبار كونه حالاً فيهم. والمعنى أن كون المسيح حالاً فيهم هو علة رجاء المجد الذي اشترك الأمم فيه بإعلان ذلك السر. وقد أخذ ذلك المجد يظهر حينئذ ويتم عند مجيء المسيح ثانية (رومية ٨: ١٧ و١٨). إن المسيح على رجاء المسيحي ما في السماء كما أنه علة حياته الروحية على الأرض (١تيموثاوس ١: ١).
٢٨ «ٱلَّذِي نُنَادِي بِهِ مُنْذِرِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ إِنْسَانٍ كَامِلاً فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
أعمال ٢٠: ٢٠ و٢٧ و٣١ و٢كورنثوس ١١: ٢ وأفسس ٥: ٢٧ وع ٢٢
أبان بولس في هذه الآية موضوع تعليمه وتعليم رفقائه وهو المسيح وإنجيله خلافاً للمعلمين الذين حذر الكولوسيين منهم.
ٱلَّذِي نُنَادِي بِهِ أي المسيح الذي هو موضوع وعظنا. ويدل على ذلك قوله «لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (١كورنثوس ٢: ٢). وأدخل معه بقوله «ننادي» المعلمين والمبشرين الذين مثله معه وأخرج الذين أتوهم بالتعاليم التي هي خليط من الفلسفة اليونانية والأوهام اليهودية وبعض العقائد الإنجيلية. والمسيح مدار كل كلام الله في العهدين وهو المشار إليه بالرسوم اليهودية ونبؤات الأنبياء كما أنه موضوع تاريخ الإنجيل وتعاليم الرسل. وكان بولس ورفاقه ينادون بأن المسيح ابن الله وابن الإنسان وأنه هو الذي أعلن للناس كل ما يحتاجون إلى معرفته من صفات الله وطريق النجاة من الخطية والموت.
مُنْذِرِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ أي محذّرين إياه من كل تجربة وضلال وخطية مما هم عرضة له والسقوط به على وفق قول المسيح لبولس «لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال ٢٦: ١٨).
مُعَلِّمِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ ما يحتاج إلى معرفته من العقائد وما يجب عليه من الأعمال وداعين مع الإنذار والتعليم إلى التوبة والإيمان.
بِكُلِّ حِكْمَةٍ هذا متعلق «بمنذرين ومعلمين» معاً وأشار به إلى موضوع تعليم الحق وأسلوب تبليغه. وكذلك أمر المسيح تلاميذه بمراعاة الحكمة في تعليمهم بقوله «كُونُوا حُكَمَاءَ كَٱلْحَيَّاتِ» (متّى ١٠: ١٦). والمراد بقوله «كل حكمة» كل أنواع الحكمة (انظر تفسير أفسس ١: ٢٨).
لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ إِنْسَانٍ تكريره قوله «كل إنسان» ثلاث مرات في هذه الآية لتأكيد كل إنسان مسؤول بخلاص نفسه فيقتضي أن يصغي إلى الإنذار والتعليم وأن يطلب الكمال في القداسة لئلا يسمع أحد منهم تعليم الضالين ويهلك. ولا يخفى ما في ذلك من المثال لكل راع مناد بالكلمة ليهتم بخلاص كل نفس من رعيته من ولد وبالغ وفيلسوف وعامي ويحسب كل نفس أنها ذات قيمة لا تُحد. و«الإحضار» المشار إليه يكون أمام عرش الله في اليوم الأخير.
كَامِلاً فِي ٱلْمَسِيحِ أي كاملاً في المعرفة والقداسة وسائر الفضائل الروحية. وهذا لا يمكن إلا للذين اتحدوا بالمسيح بالإيمان واقتيدوا بروحه كقوله «إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ١٣).
٢٩ «ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَتْعَبُ أَيْضاً مُجَاهِداً، بِحَسَبِ عَمَلِهِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّةٍ».
١كورنثوس ١٥: ١٠ ص ٢: ١ أفسس ١: ١٩ و٣: ٧ و٢٠
ٱلأَمْرُ أي إحضار كل إنسان كاملاً في المسيح.
لأَجْلِهِ أَتْعَبُ أَيْضاً كما أبان في قوله «فِي ضَرَبَاتٍ، فِي سُجُونٍ، فِي ٱضْطِرَابَاتٍ، فِي أَتْعَابٍ الخ» (٢كورنثوس ٦: ٥). فلم يكتف بولس بالمناداة بل تعب في سبيل جعلها مؤثرة مثمرة. وانتقل هنا من صيغة الجمع إلى الإفراد لأنه يقدر أن يشهد بما يعلم من شعوره الباطن فلا يستطيع أن يتكلم بمثل هذا عن غيره.
مُجَاهِداً كالمصارع في الملعب. أشار بذلك إلى شدة رغبته في كمالهم ومواظبته على الصلاة من أجله وهذا يشبه قوله للغلاطيين «يَا أَوْلاَدِي ٱلَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ» (غلاطية ٤: ١٩). ويشبه قوله في أبفراس «مُجَاهِدٌ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ بِٱلصَّلَوَاتِ» (ص ٤: ١٢). وما أتاه المسيح وهو يصلي في جثسيماني بدليل قول الإنجيلي «وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ الخ» (لوقا ٢٢: ٤٤). وكا فعل يعقوب وهو يصارع الملاك أي يجاهد معه في الصلاة (تكوين ٣٢: ٢٤ - ٢٩). ولم يشر الرسول هنا إل مجاهدته في مقاومة أعدائه.
بِحَسَبِ عَمَلِهِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّةٍ أي بحسب ما له حق أن يستنظر القوة من المسيح بناء على وعده واختباره الماضي فلم يستند بولس البتة على قوة نفسه. وهذا كقوله «لِتَعْلَمُوا ... مَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ ٱلْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ» (أفسس ١: ١٩). وقوله «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقَوِّينِي» (فيلبي ٤: ١٣). ولعله أشار هنا إلى النعمة الخاصة التي أعطيها باعتبار كونه رسول الأمم كقوله «فَإِنَّ ٱلَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ» (غلاطية ٢: ٨). وقوله «بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ أَنَا مَا أَنَا، وَنِعْمَتُهُ ٱلْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً، بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلٰكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي مَعِي» (١كورنثوس ١٥: ١٠).
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي
ذكره جهاده من أجلهم وتحذيره إياهم من المعلمين المضلين وذا بداءة القسم الاحتجاجي من هذه الرسالة.
أبانته اهتمامه بأهل كولوسي خشية أن يقعوا في أضاليل خطرة (ع ١ - ٣) . وحثه إياهم على الثبات في الحق الذي تعلموه ومدحه إياهم على ما أظهروه من النظام ومن الثبوت (ع ٤ - ٧). وبيان أن الضلالة التي حذرهم منها هي الفلسفة الباطلة والغرور الباطل حسب تقليد الناس (ع ٨). والتصريح بعظمة المسيح وكمال عمله بخلاف التعليم الذي ليس بموجب المسيح (ع ٩ - ٢٣).
١ «فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ، وَلأَجْلِ ٱلَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ، وَجَمِيعِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَرَوْا وَجْهِي فِي ٱلْجَسَدِ».
فيلبي ١: ٣٠ وص ١: ٢٩ و١تسالونيكي ٢: ٢ ص ٤: ١٦ ورؤيا ١: ١١ و٣: ١٤
أَيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ قال سابقاً أنه كان «يجاهد من أجلهم» (ص ١: ٢٩) وأخذ هنا يبين عظمة ذلك الجهاد الروحي وهو أنه شديد مؤلم وأنه مجاهد بأفكاره وصلواته. وكونه مسجوناً منعه من أن يجاهد في مقاومته المعلمين المضلين بينهم شفاهاً.
ٱلَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ الذين هم مثلهم في خطر الضلال. ولاودكية مدينة في قسم من أسيا الصغرى كان يُعرف يومئذ عند الرومانيين بأسيا وهي في كورة فريجية على قربة من كولوسي وهيرابوليس. وهذه المدن الثلاث كولوسي ولاودكية وهيرابوليس على نهر ليكون وهو فرع من نهر مياندر وأكبرها لاودكية وفيها إحدى كنائس أسيا السبع التي كتب إليها يوحنا الرسول في سفر الرؤيا. والأرجح أن بولس أسس هذه الكنيسة لا بنفسه بل بواسطة الذين أرسلهم من أفسس إلى لاودكية. ولعل الكنائس الثلاث كانت كلها تحت عناية أبفراس المبشر لأن بولس أمر الكولوسيين بأن يرسلوا رسالته إليهم إلى أهل لاودكية في تورايخ عدة قرون ثم هُدمت ولم يبق منها سوى أطلاها.
وَجَمِيعِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَرَوْا وَجْهِي فِي ٱلْجَسَدِ أي مؤمني المدن الثلاث المذكورة. أنه كان قد سمع نبأهم من أبفراس وغيره وهو وإن لم يرهم بالذات حملته محبته لنفوسهم وغيرته للمسيح وللحق على أن يهتم بهم خشية أن يضلوا. وهم عرفوه بالخبر ولعلهم رأوا بعض رسائله فلا شك في أنهم عرفوا روحه وأمياله مع أنهم جهلوا منظره.
استنتج أكثر المفسرين مما ذُكر في هذه الآية وفي غيرها من هذه الرسالة أن بولس لم يزر مدينة من تلك المدن الثلاث قبل أن كتب هذه الرسالة.
٢ «لِكَيْ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ مُقْتَرِنَةً فِي ٱلْمَحَبَّةِ لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ ٱلْفَهْمِ، لِمَعْرِفَةِ سِرِّ ٱللّٰهِ ٱلآبِ وَٱلْمَسِيح».
٢كورنثوس ١: ٦ و١تسالونيكي ٣: ٢ و٢تسالونيكي ٢: ١٦ و١٧ ص ٣: ١٤ فيلبي ٣: ٨ وص ١: ٩
لِكَيْ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ فعل هنا كما فعل المسيح في أنه أخذ يعزي تلاميذه وهو مزمع أن يفارقهم بقوله «لا تضطرب قلوبكم الخ» (يوحنا ١٤: ١). والتعزية تفيد فوق إفادتها التسلية عن الأحزان تقوية إيمانهم بالإنجيل ورجائهم مواعيده بدليل قوله «أَيْ لِنَتَعَزَّى بَيْنَكُمْ بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي فِينَا جَمِيعاً، إِيمَانِكُمْ وَإِيمَانِي» (رومية ١: ١٢).
مُقْتَرِنَةً فِي ٱلْمَحَبَّةِ لأن «المحبة رباط الكمال» (ص ٣: ١٤) وهي شرط الاتحاد. والكنيسة المقترنة في المحبة تقترن في الإيمان والرجاء ومقاومة الضلال كما أن الخصومات في الكنيسة تفتح أبواباً لدخول الضلال.
لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ ٱلْفَهْمِ أي الفهم الكامل العظيم. وأبان بولس أهمية هذا الفهم بما أضافه إليه فلم يكتف بأن يقول الفهم بل قال «يقين الفهم» ولم يكتف بهذا حتى أضاف إليه «غنى» ولم يكتف بهذا فزاد عليه لفظة «كل». وأبان أن هذا نتيجة الاقتران في المحبة حتى يقوي أحدهم الآخر على فهم الحق والتمسك به. وهذا كقوله للفيلبيين «وَهٰذَا أُصَلِّيهِ: أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضاً أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي ٱلْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ» (فيلبي ١: ٩). وقوله للأفسسيين «وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا الخ» (أفسس ٣: ١٨). وتكلم الرسول على يقين الرجاء في (عبرانيين ٦: ١١) وعلى يقين الإيمان في (عبرانيين ١٠: ٢٢). و«يقين الفهم» هنا ليس بأقل قيمة منهما لأنه يعسر علينا أن نتصور يقين الإيمان ويقين الرجاء بدون يقين الفهم لموضوع الرجاء والإيمان.
لِمَعْرِفَةِ سِرِّ ٱللّٰهِ ٱلآبِ وَٱلْمَسِيحِ أبان بذلك نوع المعرفة الذي أراد أن يفهموه «لكل غنى يقين الفهم» وهو معرفة اختبارية لا عقلية فقط (ص ١: ٩ و١٠ وفيلبي ١: ٩). وموضوعه سر الله الذي تكلم عليه سابقاً بقوله «أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هٰذَا ٱلسِّرِّ فِي ٱلأُمَمِ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ» (ص ١: ٢٧). وجوهر هذا السر «المسيح فيكم» أي أن المسيح الإله المتجسد حل في الإنسان وهو يعلن سر الله الآب لأنه «كلمة الله» الذي قيل فيه «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨).
اختلف المفسرون في نسبة إحدى تينك الكلمتين إلى الأخرى فرأى بعضهم أن معنى «سر الله الآب والمسيح» إما سر الله أبي المسيح وإما أن سر الله الآب هو المسيح. وليس من المهم أن نحكم بأرجحية أحد القولين لأن سر الله الآب ليس سوى سر المسيح. وسر المسيح ليس سوى سر الله الآب بدليل أن جوهر الآب والابن واحد. ولا يمكننا أن نتكلم في سر المسيح ما لم نشر إلى سر الله الآب كما لو تكلمنا في سر تجسد المسيح وسر الفداء وسر دعوة الأمم فكل ما يُنسب إلى الآب من هذه الأسرار يُنسب إلى الابن فلولا المسيح كان الله الآب لم يزل مكتوماً ولكنه بالمسيح أُعلن.
٣ «ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ».
١كورنثوس ١: ٢٤ و٢: ٦ و٧ و١٢: ٦ الخ وأفسس ١: ٨ وص ١: ٩
ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ أي في المسيح.
جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ أبان الرسول في هذه الآية كيف أن المسيح سر الله الآب لأن هذه الكنوز كانت مخزونة فيه منذ الأزل ولما جاء ملء الزمان أرسله الله ليعلنه للعالم. وتلك الكنوز مخفاة عن القلوب الدنيوية ومعلنة لمن فتح الله عيون قلوبهم بدليل قول المسيح «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ» (متّى ١١: ٢٥). وعبّر عن فوائد الحكمة والعلم الروحية «بالكنوز» بياناً لقيمتها العظيمة لنفس الإنسان إذ هي تؤكد له الخلاص من الخطية والموت وتجعله سعيداً إلى الأبد في السماء. وعلى هذ شبه المسيح ملكوت السماوات بكنز مخفي (متّى ١٣: ٤٤).
٤ «وَإِنَّمَا أَقُولُ هٰذَا لِئَلاَّ يَخْدَعَكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ مَلِقٍ».
رومية ١٦: ١٨ و٢كورنثوس ١١: ١٣ وأفسس ٤: ١٤ و٥: ٦ وع ٨ و١٨
وَإِنَّمَا أَقُولُ هٰذَا الإشارة هنا إلى ما قاله في جهاده من أجلهم في الآية الأولى.
لِئَلاَّ يَخْدَعَكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ مَلِقٍ أبان بهذا علة خوفه عليهم والخطر الذين هم عرضة له بغية أن ينقذهم من الخداع. وأشار بقوله «كلام ملق» إلى «أسرار أخر» و«حكمة أخرى» و«علم آخر» اعتاد السفسطيون تعليمه بكلام يجذب العقل وكان لذلك شبه حكمة والغاية منه التضليل. وصرّح الرسول بأنه لم يأت بمثل ذلك بقوله «وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلإِنْسَانِيَّةِ ٱلْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ ٱلرُّوحِ وَٱلْقُوَّةِ» (١كورنثوس ٢: ٤).
٥ «فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ غَائِباً فِي ٱلْجَسَدِ لٰكِنِّي مَعَكُمْ فِي ٱلرُّوحِ، فَرِحاً، وَنَاظِراً تَرْتِيبَكُمْ وَمَتَانَةَ إِيمَانِكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ٥: ٣ و١تسالونيكي ٢: ١٧ و١كورنثوس ١٤: ٤٠ و١بطرس ٥: ٩
ذكر في هذه الأية علة مختصة به من علل نهيه إياهم عن أن يُخدعوا.
وَإِنْ كُنْتُ غَائِباً فِي ٱلْجَسَدِ يغلب أنه إذا خاب أحد عن غيره التي عنه المسؤولية فيه والعناية به ولكن الرسول حقق لهم أن بعده لم يحمله على أن يغفل عنهم البتة.
لٰكِنِّي مَعَكُمْ فِي ٱلرُّوحِ أي في الأفكار والاهتمام والصلوات لا في الروح القدس أو الوحي. فإنه كان يسبر عليهم كأنه حاضر معهم ولا يفتأ يسأل عنهم. وقال هذا ليبين صدق قوله في الآية الأولى أنه في جهاد من أجلهم ولكي يعتبروه كأنه ناظر إليهم بسلطة رسول المسيح فيتقووا بذلك ليثبتوا ويقاوموا المضلين.
ًفَرِحا معكم في كل أفراحكم.
نَاظِراً تَرْتِيبَكُمْ قال هذا بناء على ما عرفه من أبفراس من أنباء تصرفهم الحسن في الأمور الروحية فإنه ابتهج بذلك وأمكنه أن يتصور ترتيبهم كأنه حاضر معهم. ورغبة بولس في «الترتيب» الكنسي ظاهرة من قوله لأهل كورنثوس «لْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ» (١كورنثوس ١٤: ٤٠).
٦ «فَكَمَا قَبِلْتُمُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ ٱلرَّبَّ ٱسْلُكُوا فِيهِ».
١تسالونيكي ٤: ١ ويهوذا ٣
كَمَا قَبِلْتُمُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ ٱلرَّبَّ بواسطة تعليم أبفراس الذي أرسله بولس وبإرشاد الروح القدس (ص ١: ٥ - ٧). وقال «قبلتم المسيح» لا قبلتم تعليم المسيح ليشير بذلك إلى تمسكهم بالمسيح نفسه باعتبار كونه حياً وحاضراً معهم وأنهم متحدون به بالإيمان. وهم قبلوا المسيح باعتبارهم إياه ابن الله وملكهم وربهم ومخلصهم الوحيد ومصدر حياتهم الجديدة (١كورنثوس ١٢: ٣ و٢كورنثوس ٤: ٨ وفيلبي ٣: ٨ ويوحنا ٦: ٥٧ و١٤: ٢١ و٢٣).
ٱسْلُكُوا فِيهِ أي ابقوا متمسكين بالمسيح وإنجيله عاملين بمقتضى أمره وسيرته بمعونة روحه القدوس. قال ذلك لأن غاية المضلين أن يفسدوا إيمانهم بالمسيح فخشي أن يتحولوا إلى «يسوع آخر» و«إنجيل آخر» كما قال في (٢كورنثوس ١١: ١٤ وغلاطية ١: ٦).
٧ «مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ، وَمُوَطَّدِينَ فِي ٱلإِيمَانِ، كَمَا عُلِّمْتُمْ، مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِٱلشُّكْرِ».
أفسس ٢: ٢١ و٢٢ و٣: ١٧ وص ١: ٢٣
مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ أنزلهم منزلة الشجرة والبناء (كما في ١كورنثوس ٣: ٩ - ١٥ وأفسس ٣: ١٧) في الثبوت والنمو.
فِيهِ أي في المسيح وحده.
وَمُوَطَّدِينَ فِي ٱلإِيمَانِ، كَمَا عُلِّمْتُمْ أي ثابتين في التعليم الذي علمتموه من المبشرين الأولين الذين أرسلتهم إليكم غير ملتفتين إلى معلمي الفلسفة اليونانية والأوهام اليهودية. وقد أنزل الإيمان هنا منزلة الآلة التي بها توطدوا بالمسيح.
مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِٱلشُّكْرِ أي مكثرين الشكر لله مصدر كل بركاتكم الروحية. وكل رسائل بولس توجب على المؤمنين الشكر (انظر تفسير فيلبي ٤: ٦).
٨ «اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِٱلْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِلٍ، حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَسِيحِ».
إرميا ٢٩: ٨ ورومية ١٦: ١٧ وأفسس ٥: ٦ وع ١٨ وعبرانيين ١٣: ٩ متّى ١٥: ٢ وغلاطية ١: ١٤ وع ٢٢ غلاطية ٤: ٣ و٩ وع ٢٠
حذّر الرسول في ما سبق الكولوسيين من الضلال عموماً وأخذ من هنا إلى الآية الخامسة عشرة يبين الضلالة الخاصة التي هم عرضة لها فبين ما هي بطريقين ما في بعضهما من الأكاذيب وما في البعض الآخر من الإنكار للحقائق.
اُنْظُرُوا أي انتبهوا واسهروا لأن الخطر مقبل.
أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ قصد «بأحد» بعض المضلين المعروفين الذين لم يستحسن أن يذكر أسماءهم كما فعل في الرسالة إلى غلاطية (غلاطية ١: ٧). ومعنى «السبي» أخذ المغلوبين في الحرب عبيداً والكولوسيين نجوا من ملكوت الظلمة ونُقلوا إلى ملكوت النور (ص ١: ١٢ و١٣) وكانوا حينئذ عرضة لخطر عبودية أردأ جسداً وروحاً فالعبودية الجسدية للرسوم الخارجية (ع ١٦) والعبودية الروحية للبدع (ع ١٨).
بِٱلْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِلٍ أي بالفلسفة التي هي غرور باطل أو خداع. لم يُرد بولس أن يحذرهم من كل نوع من أنواع الفلسفة مع أنه حسب كثيراً مما سُمي فلسفة جهالة بالنسبة إلى حكمة المسيح (١كورنثوس ٢: ٦). لكنه حذرهم هنا من نوع فلسفة معروف لقرائه شائع في كولوسي. وهو خليط من الفلسفة اليونانية والأوهام اليهودية. وسمي في تاريخ الكنيسة بتعليم الغنوسيين.
حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ هذا أصل الفسلفة الكاذبة فإن معلميها اتخذوا تقليد الناس بدلاً من الإعلانات الإلهية. وكان في اليهود ثلاث فرق عظيمة الفريسيون والصدوقيون والأسينيون. فالصدوقيون نفوا الوحي والتقليد. والفريسيون الأسينيون اشتهروا بالتمسك بالتقاليد. والذي شاع في كولوسي من تلك التقاليد كان مما تمسك به الأسينيون أي الباطنيون فادعوا أن لهم كتباً تتضمن كل كنوز الحكمة التي أخفوها عن الناس سوى العقلاء من تلاميذهم.
حَسَبَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ أبان أصل الفلسفة الباطلة بقوله «تقليد الناس» وأبان مواضيعها بقوله «أركان العالم». والمراد «بأركان العالم» مبادئ العلم التي توافق صغار المبتدئين (غلاطية ٤: ٣ انظر تفسير ذلك) وهي هنا الرسوم الدينية الخارجية كالتي أعطاها الله لليهود استعداداً لقبول تعاليم الإنجيل الروحية. ونسبها إلى «العالم» لانها من الأمور المادية الخارجية المحسوسة.
وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَسِيحِ بهذا تمتاز فلسفة المضلين عن التعليم الحق الذي المسيح بداءته ومركز دائرته ونهايته فالمسيح ليس بمصدر فلسفتهم ولا موضوعها وهم وضعوا بدلاً منه رسوم خارجية ووسطاء من الملائكة.
٩ «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً».
يوحنا ١: ١٤ وص ١: ١٩
في هذه الآية بيان التعليم الصحيح في شأن المسيح فابتدأ كلامه بقوله «فإنه» لأنه قصد دفع الكذب بالحق.
فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ أي في المسيح وحده وهو مسكنه الدائم.
كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ أي مجموع القوى والصفات الإلهية أو كل ما يختص بالجوهر الإلهي (انظر تفسير ص ١: ١٩).
جَسَدِيّاً اعتقد الغنوسيون أن اللاهوت هو جوهر الله المحدود وأنه صدر عنه انبثاقات أو قوات أو صدورات وكلها دون المصدر فصرح بولس بأنه حلّ في المسيح كل ملء اللاهوت في صورة بشرية أي أن الله تجسد ومنذ الأزل حل ملء اللاهوت «في الكلمة» أي الأقنوم الثاني من اللاهوت بدليل قول يوحنا «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يوحنا ١: ١) لكنه منذ تجسَّد حلّ ذلك الملء في المسيح جسدياً بدليل قول الإنجيلي «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ» (يوحنا ١: ١٤ انظر أيضاً ١يوحنا ٤: ٣). والمرجّح أن الرسول قصد بهذا القول أن ينفي عقيدة من عقائد المضلين وهي أن الشر لا ينفك عن المادة فاستنتجوا من ذلك استحالة أن يكون للمسيح جسد حقيقي وهو الله القدوس. ولحلول كل ملء اللاهوت فيه ساغ ليوحنا أن يقول «مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يوحنا ١: ١٦). ولكونه غير محدود أمكن المخلوقات أن تأخذ من ذلك الملء من دون أن ينقص.
١٠ «وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، ٱلَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ».
يوحنا ١: ١٦ أفسس ١: ٢٠ و٢١ و١بطرس ٣: ٢٢ ص ١: ١٦
وَأَنْتُمْ الذين آمنتم بالمسيح وصرتم «فيه».
مَمْلُوؤُونَ فِيهِ من المواهب الروحية التي تجري من المسيح إلى النفس المتحدة به كما جاء في (يوحنا ١: ١٦) وكما طلب الرسول لأجل الأفسسيين بالصلاة (أفسس ٣: ١٩ و٤: ١٣) ونتج من ذلك أن الذين ظنوا أنهم يحتاجون فضلاً عن المسيح إلى الملائكة وغيرهم من الوسطاء المخلوقين هم مبتدعون.
رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ بين كل جنود السماء رتب الملائكة (انظر تفسير ص ١: ١٦) فهو أمام الكل وقبلهم مقاماً وسلطة ومصدر القوة لهم كما أن الرأس للأعضاء. وبُين فضل المسيح على الملائكة في (عبرانيين ١: ١ - ١٤). ونتيجة ما قيل هنا وهنالك أن الذين لهم المسيح حصلوا على كل ما يحتاجون إليه فإنه لا يليق أن تُعبد الملائكة إذ هم عبيد الله كالناس تحت ذلك الرأس (رؤيا ٢٢: ٨ و٩).
١١ «وَبِهِ أَيْضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ».
تثنية ١٠: ١٦ و٣٠: ٦ وإرميا ٤: ٤ ورومية ٢: ٢٩ وفيلبي ٣: ٣ رومية ٦: ٦ وأفسس ٤: ٢٢ وص ٣: ٨ و٩
وَبِهِ أي بالمسيح.
أَيْضاً خُتِنْتُمْ حين آمنتم زيادة على كونكم «مملوئين فيه» فإذاً كان اختتانهم قد تم. وقال ذلك دفعاً لتعليم مضلي كولوسي وجوب أن يختتن مؤمنو الأمم وصرّح بأنهم قد حصلوا على الختان الحقيقي حين آمنوا وتجددت قلوبهم. وأورد ثلاث علامات على حقيقة ذلك الختان الأولى نوع الختان والثانية شموله والثالثة مصدره.
غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ هذه هو العلامة الأولى من علامات حقيقته وهو أنه ختان باطن روحي صنعه الروح القدس لا خارجي صنعته أيدي الناس (انظر تفسير أفسس ٢: ١١ وفيلبي ٣: ٢ و٣).
بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ هذا هو العلامة الثانية على حقيقة الختان وهي أنه شمل الجسد كله وأما الختان اليهودي فكان جزئياً. والمراد «بخلع الجسم البشري» التخلص من كل شهوة جسدية محرمة. وعبّر عن هذا الجسم «بالإنسان العتيق» في (ص ٣: ٩) و«بجسد الخطية» في (رومية ٦: ٦) و«جسد هذا الموت» في (رومية ٧: ٢٤). وليس مراده الجسد الحقيقي لأن الشر غير مختص به فيمكن أن يصير هيكل الله فالكلام مجاز لا حقيقة. وكلمة «خطايا» خلا منها أفضل النسخ ورفضها أكثر المفسرين ولم يعتبروها من الوحي كما بين في الإنجيل ذي الشواهد.
بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ هذا هو العلامة الثالثة على حقيقة الختان الروحي ومعنى العبارة الختان الذي المسيح علته ومصدره غير المأخوذ من موسى ولا من الآباء ويكون باتحاد المؤمنين به. وليس المراد «بالختان» هنا ختان المسيح المذكور في (لوقا ٢: ٢١) لأنه أخذ على نفسه أن يكمل كل بر الناموس عنا. فالمقصود به هنا الختان الروحي.
١٢ «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي ٱلْمَعْمُودِيَّةِ، ٱلَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
رومية ٦: ٤ ص ٣: ١ أفسس ١: ١٩ و٣: ٧ أعمال ٢: ٢٤
مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي ٱلْمَعْمُودِيَّةِ إن المسيح نائب الإنسان فلما مات مات عنه. فمات شعبه معه عن الخطيئة وعن الدينونة ولما دُفن دُفن شعبه معه عن العالم وعن الخطيئة. فالدفن مع المسيح يشير إلى شدة الاتحاد به والاشتراك في نتائج عمله. قيل سابقاً «إننا مملؤون فيه» وإننا مختونون بختانه وزاد على ذلك هنا «أننا مدفونون معه» وهذا إثبات لحقيقة الموت ولانفصال المؤمن عن حياته القديمة في الخطيئة انفصالاً أشد من الانفصال الذي أشار إليه «بالختان» بل أشد مما أشار إليه بالموت نفسه. وقيل أن هذا الانفصال قد تمّ بالمعمودية لأن كل مؤمن يعترف عند معموديته بإيمانه بالمسيح وموته ودفنه للخطية ولأنه حصل في وقت المعمودية بإيمانه بالمسيح والاعتراف بذلك الإيمان جهراً على فوائد كل ما عمله المسيح واشتراه لشعبه بالفداء (انظر تفسير رومية ٦: ٤).
ٱلَّتِي فِيهَا أي بالمعمودية أو بواسطة اتحاده فيها بالمسيح الذي اعترف به فالمعمودية ختم ذلك الاتحاد ورمز إلى المعمودية الروحية.
أُقِمْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ من موت الخطية إلى حياة القداسة (انظر تفسير رومية ٦: ٥ و٦ وأفسس ٢: ٥ و٦).
بِإِيمَانِ عَمَلِ ٱللّٰهِ الخ أي بواسطة تيقنكم ما عمله الله وهو أنه أقام المسيح من الموت. فالإيمان هنا ليس سوى اليد التي بها يمسك المؤمن الله. فعمل الله هنا موضوع الإيمان لا علته فهو كما في (أفسس ١: ١٩ و٢٠). وكثيراً ما ذُكر في الإنجيل أن قيامة المسيح أصل رجاء المؤمنين لأن إيمانهم بأن الله أقام المسيح يتضمن اليقين بأن الله قادر ومستعد أن يقيمهم معه من الموت في الخطيئة إلى الحياة الروحية. وقيامة المسيح وحياته في السماء عربون قيامة كل المتحدين به وعلتها أيضاً فضلاً عن كونها برهان عظمة قوة الله كما يظهر من قول الرسول «لأَنَّكَ إِنِ ٱعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ ٱللّٰهَ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ» (رومية ١٠: ٩). ومن قوله في صلاته من أجل نفسه «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ» (فيلبي ٣: ١٠).
ولا دليل في ما قيل هنا من الدفن مع المسيح والقيامة معه في المعمودية على طريق المعمودية فذلك بيان لشدة الاتحاد بين المؤمن والمسيح حتى كأنه شاركه في دفنه وقيامته. ويعترف المؤمن بذلك في المعمودية سواء كانت معموديته برش الماء عليه أو صبه أو بتغطيسه فيه. ولا إشارة في ذلك إلى قيامة الجسد في اليوم الأخير بل الإشارة إلى القيامة الروحية ولكن لا بد أن القيامة الروحية تتضمن قيامة الجسد وتَضمنها.
١٣ «وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فِي ٱلْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أَحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ ٱلْخَطَايَا».
أفسس ٢: ١ و٥ و٦ و١١
في هذه الآية والاثنتين بعدها بيان فوائد اشتراك المؤمنين في قيامة المسيح.
إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فِي ٱلْخَطَايَا هذا بيان حالهم قبل إيمانهم بالمسيح كما ذُكر سابقاً في (أفسس ٢: ١) فراجع التفسير هناك.
وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ كان مؤمنو كولوسي من الأمم غير مختونين جسدياً ولا روحياً فعاشوا بمقتضى شهوات أجسادهم غير ملتفتين إلى الله ولا إلى القداسة.
أَحْيَاكُمْ أي أحياكم الله (انظر تفسير أفسس ٢: ٥).
مَعَهُ أي مع المسيح حين آمنتم واتحدتم به.
مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ ٱلْخَطَايَا وبرهان ذلك إحياؤه إياهم روحياً. ذكر المسامحة للكولوسيين بقوله «لكم» ولكنها تستلزم المغفرة لكل من يؤمن لأن المغفرة عمل الله مرة لأجل جميع المؤمنين بدليل قوله «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (٢كورنثوس ٥: ١٩) وقوله «مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ٣٢).
١٤ «إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ ٱلَّذِي عَلَيْنَا فِي ٱلْفَرَائِضِ، ٱلَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ».
أفسس ٢: ١٥ و١٦
إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ عندما غفر وفي العبارة بيان كمال المغفرة. والذي محا الصك هو الله محاه بالمسيح بدليل قوله «كما سامحكم الله في المسيح» (أفسس ٤: ٣٢). وهو يمحو خطايا كل إنسان حين يؤمن بناء على الفداء الذي أكمله المسيح مرة واحدة عن خطايا العالم عند موته الذي أكد المغفرة لكل من يأتي إلى الله به. ومعنى قوله «محا الصك» كمعنى قوله «مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ» (أفسس ٢: ١٥) فراجع التفسير هناك. وقصد «بالصك» هنا الناموس كله الذي وجب على الإنسان أن يطيعه لكي ينال الحياة بحفظه. وعبر عنه «بالصك» وهو ورقة الإقرار بالدين لأن الوصايا العشر كتبت على لوحي حجر بإصبع الله. والأمم مكلفون كاليهود بحفظ الناموس الأدبي لأنه مكتوب على قلوبهم فلو حفظوه كانوا تبرروا به ولكن بمخالفتهم إياه دينوا (رومية ٣: ١٩). وحُسبت خطايانا في هذه الآية دَيناً علينا لله أوفاه المسيح عنا. وحُسب ناموس الله «صكاً» على الإنسان كُتب فيه «افعل هذا فتحيا» (لوقا ١٠: ٢٨) و«اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٢٠). والذي كتبه بولس إلى فليمون في شأن أنسيموس يشبه ما يفعله المسيح من أجلنا باعتبار كونه شفيعاً وهو قوله «إِنْ كَانَ قَدْ ظَلَمَكَ بِشَيْءٍ، أَوْ لَكَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَٱحْسِبْ ذٰلِكَ عَلَيَّ» (فليمون ١٨).
ٱلَّذِي عَلَيْنَا ونحن عاجزون أن نوفي لأن الناموس يطلب الطاعة الكاملة التي لا يستطيع الإنسان الساقط أن يقوم بها ويصرّح بالدينونة على كل من لم يحفظوه حفظاً تاماً. وقصد بقوله «علينا» إدخال المعلمين المضلين الذين افتخروا بالناموس.
ٱلْفَرَائِضِ التي مجموعها الناموس.
ٱلَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا قال ذلك تفسيراً لقوله «الذي علينا» وهو أشد دفعاً لتعليم المضلين وجوب حفظ الناموس للتبرير. فالناموس «علينا» بالنظر إلى المطاليب التي يكلفنا بها و«ضدٌّ» بالتهديدات التي يتهددنا بها لمخالفتنا إياه (رومية ٧: ٧ - ١٢ و١٤ وغلاطية ٣: ٢١ وعبرانين ١٠: ٣).
وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ أي من بين الله والإنسان حيث يشتكي على الخاطئ ويقف في طريق تبريره ويطلب دينونته. و«رفع من الوسط» لأن المسيح أطاعه عنا واحتمل العقاب الذي أوجبه علينا.
مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ وبذلك ألغاه وفي هذا إشارة إلى نيل المؤمنين التحرر من دينونة الناموس بموت المسيح لأنه احتمل لعنة الناموس من أجل الجميع (غلاطية ٣: ١٣ انظر أيضاً رومية ٣: ٢١ و٢٢ ورومية ٧: ٢ و٤ و٦).
إن المسيح سُمر على الصليب حقيقة واستعار بولس تسميره للناموس كأن الناموس أُميت بالتسمير لأنه فقد بموت المسيح قوته التي تجبر المؤمن على إطاعته لتخلص نفسه وقوته على الدينونة لمخالفته إياه حتى لم يبق في «الوسط». الناس سمروا المسيح على الصليب وقتلوه عليه ولكن المسيح سمر الناموس عليه وقتله باعتبار كونه علة الدينونة على المؤمن (غلاطية ٣: ١٣ و١بطرس ٢: ٢٤).
١٥ «إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ».
تكوين ٣: ١٥ ومزمور ٦٨: ١٨ وإشعياء ٥٣: ١٢ ومتّى ١٢: ٢٩ ولوقا ١٠: ١٨ و١١: ٢٢ ويوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١ وأفسس ٤: ١٨ و٦: ١٢ وعبرانيين ٢: ١٤ و٢كورنثوس ٢: ١٤
إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أي عرّاهم من القوة على مقاومته كما أن الغالب بجرد المغلوب من أسلحته. و«الرياسات والسلاطين» هم المشار إليهم في قوله «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ ٱلرُّؤَسَاءِ، مَعَ ٱلسَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس ٦: ١٢). فهم قوات الشر أعداء المسيح وأعداؤنا وذُكروا أيضاً في (رومية ٨: ٣٨ و٣٩ و١كورنثوس ١٥: ٢٤ و٢٥). وأشار المسيح إلى انتصاره عليهم بقوله «كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ ٱلْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ ٱلْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ» (متّى ١٢: ٢٩ انظر أيضاً لوقا ١١: ٢٢). ويوافق ذلك أيضاً قول الرسول «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ» (عبرانيين ٢: ١٤). وقول يوحنا «لأَجْلِ هٰذَا أُظْهِرَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ» (١يوحنا ٣: ٨). اتخذ المسيح طبيعة الإنسان لكي يحمل التجربة عنه ويغلبها عنه ولذلك جُرب من إبليس في البرية فغلبه المسيح هناك (لوقا ٤: ١٣). وجُرب منه بواسطة تلميذه بطرس أن يأبى الآلام والموت (متّى ١٦: ٢٣). ومجاهدته للشيطان جُددت قرب موته بدليل قوله «هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ» (لوقا ٢٢: ٥٣). وقوله «اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هٰذَا ٱلْعَالَمِ خَارِجاً» (يوحنا ١٢: ٣١). ومعظم هذه المحاربة كانت يوم آلامه في جثسيماني وانتهت حين عُلق على الصليب في الجلجثة وحينئذ جرّد كل التجريد جميع قوات الشر فغلبهم لنفسه ولكل شعبه الذي رغب بواسطته في أن يغلب التجربة والخطية والموت.
أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ عند صعوده. والكلام مبني على ما اعتاده الملوك يوم يرجعون منتصرين من الحرب فإنهم كانوا يحتفلون بالأسرى والغنائم. وأشار الرسول بهذا إلى قوله مقتبساً «إِذْ صَعِدَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى ٱلنَّاسَ عَطَايَا» (أفسس ٤: ٨ انظر أيضاً أفسس ١: ٢٠ و٢١). وكان «إشهاره إياهم جهاراً» بين الملائكة القديسين وأرواح الأبرار المكملين. وأشار إلى هذا الظفر يوحنا بقوله «فَطُرِحَ ٱلتِّنِّينُ ٱلْعَظِيمُ، ٱلْحَيَّةُ ٱلْقَدِيمَةُ ٱلْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَٱلشَّيْطَانَ، ٱلَّذِي يُضِلُّ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ طُرِحَ إِلَى ٱلأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ. وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً قَائِلاً فِي ٱلسَّمَاءِ: ٱلآنَ صَارَ خَلاَصُ إِلٰهِنَا وَقُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ وَسُلْطَانُ مَسِيحِهِ، لأَنَّهُ قَدْ طُرِحَ ٱلْمُشْتَكِي عَلَى إِخْوَتِنَا ٱلَّذِي كَانَ يَشْتَكِي عَلَيْهِمْ أَمَامَ إِلٰهِنَا نَهَاراً وَلَيْلاً. وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ ٱلْحَمَلِ الخ» (رؤيا ١٢: ٩ - ١١). فكانت قيامة المسيح وصعوده ظفراً جهاراً على أعدائه.
فِيهِ أي بالصليب إيماء إلى أن موت المسيح وسيلة إلى انتصاره على قوات الشر (يوحنا ١٢: ٣١ - ٣٣ وأفسس ٢: ١٦). فبالموت غلب المسيح الذي له سلطان الموت وإكليله الذي من الشوك صار إكليل نصرة (رؤيا ١٩: ١٢) وصليبه بعد ان كان علامة الهوان والعار صار آية الافتخار والنصر.
١٦ «فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَلٍ أَوْ سَبْتٍ».
رومية ١٤: ٣ و١٠ و١٣ رومية ١٤: ٢ و١٧ و١كورنثوس ٨: ٨ ورومية ١٤: ٥ وغلاطية ٤: ١٠
في هذه الآية وما بعدها إلى الآية التاسعة عشرة تحذير من أعمال خاصة تنافي ما سبق وتشير إلى أن المؤمنين ليسوا «مملوئين» في المسيح وأن الصك الذي عليهم لم يُمح وأنهم لم يزالوا تحت رق الرسوم الخارجية.
فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ أي لا تدعوا أحداً يفرض عليكم «فرائض حسب تقليد الناس حسب أركان العالم» (ع ٨) وإن يقنعكم بأنكم مذنبون بعدم إطاعتكم له. وهذا موافق لقوله «مَنْ أَنْتَ ٱلَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ». وقوله «وَأَمَّا أَنْتَ فَلِمَاذَا تَدِينُ أَخَاكَ... لأَنَّنَا جَمِيعاً سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ» وقوله «طُوبَى لِمَنْ لاَ يَدِينُ نَفْسَهُ فِي مَا يَسْتَحْسِنُهُ» (رومية ١٤: ٤ و١٠ و٢٢).
فِي أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ مما حرمته الشريعة الموسوية الرمزية (لاويين ٧: ١٠ - ٢٧). ومما لم يكن على مؤمني الأمم أن يحفظوه لأن في الإنجيل قد بطل التمييز بين اليهود والأمم ومأكولاتهم (أعمال ١٠: ١١ وعبرانيين ٩: ١٠). والقرينة تدل على أن معلمي كولوسي المضلين حملوا تلاميذهم على التسليم بعقائد الغنوسيين فضلاً عن حفظ الرسوم الموسوية التي غايتها قهر الجسد وإماتته رغبة في كسب القداسة. وإلى هذا أشار بولس الرسول بقوله «إِنَّهُ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ يَرْتَدُّ قَوْمٌ عَنِ ٱلإِيمَانِ، تَابِعِينَ أَرْوَاحاً مُضِلَّةً وَتَعَالِيمَ شَيَاطِينَ، فِي رِيَاءِ أَقْوَالٍ كَاذِبَةٍ، مَوْسُومَةً ضَمَائِرُهُمْ، مَانِعِينَ عَنِ ٱلزَّوَاجِ، وَآمِرِينَ أَنْ يُمْتَنَعَ عَنْ أَطْعِمَةٍ قَدْ خَلَقَهَا ٱللّٰهُ لِتُتَنَاوَلَ بِٱلشُّكْرِ» (١تيموثاوس ٤: ١ - ٣). وقوله «وَاحِدٌ يُؤْمِنُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَمَّا ٱلضَّعِيفُ فَيَأْكُلُ بُقُولاً... لاَ تَنْقُضْ لأَجْلِ ٱلطَّعَامِ عَمَلَ ٱللّٰهِ. كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ طَاهِرَةٌ، لٰكِنَّهُ شَرٌّ لِلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَأْكُلُ بِعَثْرَةٍ» (رومية ١٤: ٢ و٢٠) ولذلك حثهم على أن يكونوا أصحاء في الإيمان «لاَ يُصْغُونَ إِلَى خُرَافَاتٍ يَهُودِيَّةٍ وَوَصَايَا أُنَاسٍ مُرْتَدِّينَ عَنِ ٱلْحَقِّ. كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِراً، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضاً وَضَمِيرُهُمْ» (تيطس ١: ١٤ و١٥). ومثل هذا حمله على أن يقول «لَيْسَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أَكْلاً وَشُرْباً، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (رومية ١٤: ١٧).
أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَلٍ أَوْ سَبْتٍ هي أعياد يهودية سنوية وشهرية وأسبوعية أراد المضلون أن يجبروا عليها المؤمنين بالمسيح. وأشار إلى هذه الأعياد النبي بقوله «لاَ تَعُودُوا تَأْتُونَ بِتَقْدِمَةٍ بَاطِلَةٍ. ٱلْبَخُورُ هُوَ مَكْرُهَةٌ لِي. رَأْسُ ٱلشَّهْرِ وَٱلسَّبْتُ وَنِدَاءُ ٱلْمَحْفَلِ... رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي» (إشعياء ١: ١٣ و١٤ انظر أيضاً حزقيال ٤٥: ١٧› وهوشع ٢: ١١). وعلى ذلك قال بولس للغلاطيين «أَتَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ؟ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً» (غلاطية ١٤: ١٠ و١١). وصرّح بولس في عبارة التفسير أن المؤمنين غير مكلفين بحفظ أعياد اليهود وسبوتهم. وغني عن البيان أن قوله هذا لا ينفي وجوب تقديس السبت المسيحي. لأن الأمر يحفظه من الله منذ أول الخليقة البشرية لا من الرسوم الخاصة باليهود ويمتاز عن السبت اليهودي في زمان حفظه وعلته وكيفيته.
١٧ «ٱلَّتِي هِيَ ظِلُّ ٱلأُمُورِ ٱلْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ».
عبرانيين ٨: ٥ و٩: ٩ و١٠: ١
ٱلَّتِي هِيَ ظِلُّ ٱلأُمُورِ ٱلْعَتِيدَةِ هذا موضوع كل الرسالة إلى العبرانيين (انظر عبرانيين ص ٨ و١٠). فالرسوم الموسوية الخارجية لم تكن سوى إشارات إلى أمور روحية متوقعة. فبعد أن أتى المشار إليه زالت ظلاله إذ لم يبق لها من نفع بل تكون ضارة إذا اتكل الإنسان عليها.
وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ المراد «بالجسد» هنا «الأمور العتيدة» بمقابلتها مع «ظلها» والمرموز إليه بمقابلته مع رمزه فكان المسيح جسد «الأمور العتيدة» لأنه جعل لها معنى وجوهراً وقيمة وحياة وهذا موافق لقوله «إِذاً قَدْ كَانَ ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٣: ٢٤). وقوله «لأَنَّ غَايَةَ ٱلنَّامُوسِ هِيَ: ٱلْمَسِيحُ» (رومية ١٠: ٤).
١٨ «لاَ يُخَسِّرْكُمْ أَحَدٌ ٱلْجِعَالَةَ، رَاغِباً فِي ٱلتَّوَاضُعِ وَعِبَادَةِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ، مُنْتَفِخاً بَاطِلاً مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ ٱلْجَسَدِيِّ».
ع ٤ حزقيال ١٣: ٣ و١تيموثاوس ١: ٧
الكلام هنا مبني على ما كان يجري في الألعاب اليوناينة.
لاَ يُخَسِّرْكُمْ أَحَدٌ ٱلْجِعَالَةَ المقصود «بالجعالة» هنا الحياة الأبدية في السماء (١كورنثوس ٩: ٢٤ وفيلبي ٣: ١٤). والمحذر من تخسيره هنا كل واحد من المعلمين المضلين. وطريق تخسير المضلين إياهم الجعالة أن يحملوهم على الاتكال على وسطاء غير المسيح فيمنعوهم من الإتيان إليه رأساً.
رَاغِباً فِي ٱلتَّوَاضُعِ أي نوعه الذي لم يكلف الله به أحداً وهذا يحمله على ادعاء أن الإنسان لا يستحق أن يأتي إلى الله بالصلاة ولا أن يجلس على مائدة الرب ولا أن يدعي أن مواعيد الكتاب المقدس له فيمتنع من قبول ما أنعم الله به عليه من البركات. أو المراد «بالتواضع» هنا صورته دون حقيقته مثل الملبوسات الدنيئة وإمارات الذل والكلام الدال على احتقار النفس وما شاكل ذلك من الأقوال والأعمال والكبرياء سائدة في القلب.
وَعِبَادَةِ ٱلْمَلاَئِكَةِ قال أولئك المضلون أن المؤمنين غير مستحقين أن يدنوا من الله فيجب أن يتخذوا الملائكة وسطاء فيعبدوهم بدلاً من الله. وأصل عبادة الملائكة عندهم بعضه من تعليم الأسينيين بناء على أن الناموس أُعطي بواسطة الملائكة (أعمال ٧: ٣٥ وغلاطية ٣: ١٩) وما جاء في نبوءة دانيال من أمر حراسة الملائكة للممالك (دانيال ١٠: ١٠ - ٢١) وبعضه من تعليم الغنوسيين إن جوهر الملائكة متوسط بين جوهر الله وجوهر الناس. وعبادة الملائكة محرمة في الإنجيل (رؤيا ٢٢: ٩).
مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْه هذا أيضاً من ضلال المضلين فإنهم ادعوا أنهم يعرفون الأسرار بالأحلام ورؤى الملائكة وأمثال ذلك.
مُنْتَفِخاً بَاطِلاً لأن التواضع الذي ادعاه المضلون لم يكن إلا ستراً لكبريائهم الوافرة كما قال الرسول في العلم الدنيوي (١كورنثوس ٨: ١). فإنهم انتفخوا بدعواهم أن لهم علماً فوق الطبيعة بما في السماوات من المساكن والسكان.
مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ ٱلْجَسَدِيِّ وصف ذهنه «بالجسدي» لأن علمه غير مبني على الوحي أو الإيمان بل على آراء بشرية طبيعية. فالكلام هنا يشبه قول بولس في «ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ» (رومية ٨: ٧).
١٩ «وَغَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِٱلرَّأْسِ ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِراً وَمُقْتَرِناً يَنْمُو نُمُوّاً مِنَ ٱللّٰهِ».
أفسس ٤: ١٥ و١٦
غَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِٱلرَّأْسِ هذا علة كل الضلالات المذكورة فإن أوهام المضلين وتقاليدهم منعتهم من التمسك بالمسيح رأس الكنيسة. وأن عبادتهم الملائكة هي اتخاذ المخلوقات بدلاً من المسيح الذي هو المركز الوحيد لحياة الكنيسة ونموها وقوتها.
ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ إن مثل هذه العبارة في رسالة أفسس (أفسس ٤: ١٥ و١٦) فارجع إلى التفسير هناك. ومقصوده الآية أنه يجب على كل مؤمن باعتبار كونه عضواً من جسد المسيح أن يقترن بالمسيح الرأس ولا يكتفي باقترانه بغيره من الأعضاء. والضمير في «منه» يرجع إلى الرأس مجازاً وإلى المسيح حقيقة.
بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِراً وَمُقْتَرِناً أشار «بالمفاصل والربط» إلى ما في الجسد الحقيقي من النظام والعضلات والأعصاب التي بها يرتبط بعض الأعضاء ببعض ويجزي فيها الشعور والحياة والتغذية من الرأس إلى كل الجسد. والمراد بها مجازاً أفراد المؤمنين في الكنيسة الذين نالوا باقترانهم بالمسيح واقتران بعضهم ببعض مواهب مختلفة وقوات ونعماً لنفع الجسد كله ولا سيما نموه الذي هو المقصود.
يَنْمُو نُمُوّاً مِنَ ٱللّٰهِ في القداسة والنفع للغير وهذا النمو مصدره الله وغايته مجد الله وشرطه الاتحاد الحي بيسوع المسيح الرأس. واختيار الكنيسة منذ نحو تسعة عشر قرناً يشهد بأن لا حياة لها ولا نمو إلا باقترانها المتين القلبي بالمسيح وأنها نمت نمواً سريعاً وحييت حياة كاملة وهي متمسكة بالمسيح وإنجيله.
٢٠ «إِذاً إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ، فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي ٱلْعَالَمِ، تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ».
رومية ٦: ٣ و٥ و٧: ٤ و٦ وغلاطية ٢: ١٩ وأفسس ٢: ١٥ ع ٨ غلاطية ٤: ٣ و٩
إِذاً أي بناء على ما سبق في (ع ١٨) من قوله «مدفونين معه».
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ كما كان حين آمنتم وكررتم إقراركم بالمعمودية مشتركين في موت المسيح على الصليب ونتائجه.
عَنْ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ أي رسوم الدين الخارجية باعتبار كونها ضرورية للخلاص. وسبق ذكرها في الآية الثامنة. وكانت الكنيسة مفتقرة إليها في طفولتها مدة كونها قاصرة «وتحت أوصياء ووكلاء» (غلاطية ٤: ٣ و٤) قبل أن استعدت لحرية البالغين وحياتهم الروحية. ولكن كل تلك الأركان زالت حين مات المسيح (ع ١٤) وتحررت الكنيسة من عبوديتها (غلاطية ٢: ١٩ و٤: ٩).
ومن المعلوم أن بولس حين حذّر الكولوسيين من الرسوم اليهودية الخارجية ومما أُخذ من الفلسفة اليونانية لم يقصد أن يحذرهم ويحذرنا من ممارسة الرسوم المسيحية الظاهرة التي تفيدنا معاني روحية بشرط أن نستعملها للمنفعة الروحية المقصودة منها وأن لا نتكل على مجرد استعمالها ولا ننسب إليها أكثر مما تستحق لئلا نسلب لها بعض ما للمسيح.
فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي ٱلْعَالَمِ الخ الاستفهام إنكاري والمراد أنه يجب أن لا يكونوا كذلك. ومعنى قوله «كأنكم عائشون في العالم» كأنكم من العالم لا من المؤمنين. والفرائض المذكورة هنا هي التي بُينت في الآية الآتية وهي ما لم يُكلف المسيحيون بها كما ظهر من قوله «لماذا» الخ.
٢١ «لاَ تَمَسَّ، وَلاَ تَذُقْ، وَلاَ تَجُسَّ؟».
١تيموثاوس ٤: ٣
لاَ تَمَسَّ الخ هذه من فرائض المضلين ذُكرت بياناً لتعاليمهم التي هي من «أركان العالم». والأمور الممنوعة بهذه الفرائض باعتبار أنها نجسة هي أطعمة وأشربة وما شاكلها من أسباب المعاش لم يحرمها الله. وهي من قواعد الزهد اعتقدها الذين يرون أن المادة مركز الإثم وأن إماتة الجسد قداسة. وكان بعض تلك المحرمات مما حُرم في شريعة موسى وبعضها مما أضافه الأسينيون ومن ذلك أكل الزيت واللحم ولمس الوثني.
٢٢ «ٱلَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي ٱلاسْتِعْمَالِ، حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ ٱلنَّاسِ».
إشعياء ٢٩: ٣١ ومتّى ١٥: ٩ وتيطس ١: ١٤
ٱلَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي ٱلاسْتِعْمَالِ هذا كلام معترض فهو ليس من فرائض المضلين بياناً لأنواع ما حسبوه نجساً وحرموه وهي من الفانيات التي عيّن الله أنها تتلاشى بالاستعمال حسب قول المسيح «أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى ٱلْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى ٱلْخَلاَءِ، وَذٰلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ ٱلأَطْعِمَةِ» (مرقس ٧: ١٨ و١٩ قابل بهذا ١كورنثوس ٦: ١٣).
وإذ كان الله قد عيّن تلك الأطعمة للاستعمال وللفناء به لم يكن للمضلين أن يحرموها لأنه لا تأثير دائم لها في من يتناولها حسب قول الرسول «لٰكِنَّ ٱلطَّعَامَ لاَ يُقَدِّمُنَا إِلَى ٱللّٰهِ، لأَنَّنَا إِنْ أَكَلْنَا لاَ نَزِيدُ وَإِنْ لَمْ نَأْكُلْ لاَ نَنْقُصُ» (١كورنثوس ٨: ٨).
حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ ٱلنَّاسِ هذا متعلق بالفرائض (ع ٢٠) وصفة لها أُتي بها بياناً لكون المؤمنين غير مكلفين بحفظها لأن مصدرها من الناس لا سلطان لها غير قولهم ومقابلة للوصايا الإلهية. وهو موافق لقول المسيح للفريسيين «قَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ!... وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ» (متّى ١٥: ٦ و٩).
٢٣ «ٱلَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ ٱلْجَسَدِ، لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إِشْبَاعِ ٱلْبَشَرِيَّةِ».
١تيموثاوس ٤: ٨ ع ١٨
ٱلَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ هذا نعت «لوصايا وتعاليم الناس». و«الحكاية» هنا المشابهة فالمعنى أنها تشبه الحكمة ويدعي أهلها أنها حكمة وليست إياها. وهذه المشابهة قائمة بثلاثة أمور ذُكرت في هذه الآية.
بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ أي فوق ما فرضه الله وهي جهلية لأنها باطلة بدليل قول المسيح «بَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ» (متّى ١٥: ٩). وفيها تمرد على الله باتخاذ مشيئة الإنسان بدل مشيئة الله. ومن ذلك عبادة الملائكة المذكورة في الآية الثامنة عشرة.
وَتَوَاضُعٍ وهذا ذُكر أيضاً في الآية الثامنة عشرة وهو تواضع على ما يظهر للناس من الإمارات الخارجية لا تواضع قلبي أمام الله.
وَقَهْرِ ٱلْجَسَدِ بعدم الاعتناء الواجب من طعام وكسوة وسهر والتعرض للحر والبرد باعتبارهم أن الجسد مركز الخطيئة فأوجبوا أن يهان ويُعذب لكي تتطهر بآلامه.
لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا أي ذلك للقهر لا ينفع شيئاً للغاية المطلوبة ولذلك كان بلا قيمة.
إِشْبَاعِ ٱلْبَشَرِيَّةِ أي إزالة قوة الشهوات الطبيعية على استعبادها الإنسان وحملها إياه على ارتكاب المحظورات. ادعى أولئك المعلمون المضلون أنه بواسطة قهر الجسد مراعاة لفرائض في الآية الحادية والعشرين تُكبح الشهوات البشرية وتُكسر قوة التجربة بها حتى لا يستطيع الجسد أن يقاوم الروح ويستعبدها ولكن صرّح الرسول هنا أنه لا نفع من حفظ تلك الفرائض لانتصار النفس على شهوات الجسد. فاختبار كل العالم يشهد بصحة كلام الرسول فإن كل قوانين الناس الجائرة على الطبيعة الإنسانية والنذور الزهدية لا تمنع من ارتكاب الإثم بل تنشئ الكبرياء والاتكال على البر الذاتي فالواسطة الوحيدة إلى كبح الشهوات هي نعمة الله وتجديد القلب بالروح القدس.
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ
يحتوي (ص ٣: ١ - ٢٥ و٤: ١ - ٦) على الجزء العملي من هذه الرسالة وموضوعه الواجبات على الذين قاموا مع المسيح وأن اتحادهم بالمسيح الذي قام توجب عليهم الحياة الجديدة والواجبات المختصة بها (ع ١ - ٤) وبُينت فيه تلك الواجبات أولاً على طريق النفي وهي الأعمال التي يجب اعتزالها (ع ٥ - ١١). وثانياً على طريق الإيجاب وهي الأعمال التي يجب ممارستها (ع ١٢ - ١٧) ثم الواجبات الخاصة على النساء لرجالهن وعلى الرجال لنسائهم (ع ١٨ و١٩). ثم بما يجب على كل من الأولاد والوالدين (ع ٢٠ و٢١). وكل من العبيد والسادة (ع ٢٢ - ٢٥ و٤: ١). والواجبات على المؤمنين لغيرهم من الصلاة والقدوة الصالحة (ص ٤: ٢ - ٦).
ما توجبه الحياة الجديدة على المؤمنين ع ١ إلى ٤
١ «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ ٱلْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ».
رومية ٦: ٥ وأفسس ٢: ٦ وص ٢: ١٢ رومية ٨: ٣٤ وأفسس ١: ٢٠
ذكر الرسول في (ص ٢: ٢٠) الواجبات التي على المؤمنين باعتبار كونهم شركاء موت المسيح وأبان هنا الواجبات عليهم باعتبار كونهم شركاء حياته بناء على قيامتهم معه.
فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ وهو الواقع بناء على اتحادكم به بواسطة الإيمان وباعترافكم بالإيمان به بواسطة المعمودية (رومية ٦: ٤ وأفسس ٢: ٦).
فَٱطْلُبُوا مَا فَوْقُ لأن قيامتكم تستلزم حياة جديدة روحية موافقة لحال المسيح بعد قيامته بالنظر إلى اتحادكم به. و«طلب ما فوق» يستلزم الشوق إليه وتوقعه والسعي في تحصيله وتجنب الأمور التي تمنع منه. والمراد «بما فوق» هو ما عناه الرسول بقوله «ما هو قدام» (فيلبي ٣: ١٢). وما أشار إليه المسيح بقوله «اطلبوا ملكوت الله وبره» (متّى ٦: ٣٣). فمعناه الأمور السماوية التي منها كمال المعرفة والقداسة والمشابهة للمسيح.
حَيْثُ ٱلْمَسِيحُ جَالِسٌ الخ هذا على وفق قوله «إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس ١: ٢٠). والجلوس يشير إلى الإكرام والسلطان بعد الهوان والاتضاع. وجلوس المسيح في السماء يحقق جلوس المؤمنين فيها إلى الأبد بدليل قوله «وَأَقَامَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفسس ٢: ٦).
إن أعظم مسرّات السماء كون المسيح فيها بناسوته الممجد وأنه أعد مكاناً لشعبه بدليل قوله «أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يوحنا ١٤: ٢ و٣). وقوله «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤيا ٣: ٢١). وذكر ذلك كله حثاً لهم على طلب «ما هو فوق».
٢ «ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى ٱلأَرْضِ».
ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ قوله «اهتموا» أشد من قوله «اطلبوا» لأن الطلب يتعلق بالأمور الخارجية والاهتمام يتعلق بالأفكار والأشواق ويشغلها أبداً. والمراد «بما فوق» هو الأمور السماوية وأعظمها يسوع نفسه.
لاَ بِمَا عَلَى ٱلأَرْضِ وهو ما دُعي «بالأرضيات» (فيلبي ٣: ١٩) و«بالأشياء التي في العالم» (١يوحنا ٢: ١٥) ومنها الغنى والشرف واللذات الجسدية. وبعض تلك الأرضيات ضروري فيجب أن نستعمله بدون أن نهتم به الاهتمام الزائد وبعضها جائز فيجب أن نجتهد في أن لا نحبه أكثر مما ينبغي حتى نجعله في منزلة الله. ويجب على كل منا أن يجعل كلاً من الأرضيات وسيلة إلى نيل السماويات (لوقا ١٦: ٩). ويجب أن نعيش على الأرض كغرباء ونزلاء لا كأننا مستوطنون عليها (١بطرس ٢: ١١).
٣ «لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللّٰهِ».
رومية ٦: ٢ وغلاطية ٢: ٢٠ وص ٢: ٢٠ و٢كورنثوس ٥: ٧ وص ١: ٥
في هذه الآية على ما قيل في الآية السابقة.
لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ للعالم والخطية واللذات الدنيوية. وأبان الرسول حقيقة هذا الموت ونوعه في (رومية ٦: ٤ - ٧) فراجع تفسيره وموت المؤمن هنا نتيجة موت المسيح على الصليب واتحاده به بواسطة الإيمان فكما أن الإنسان الميت حقيقة لا يهتم بما حوله من المحسوسات كذلك الميت مع المسيح روحياً لا يهتم بالعالميات.
وَحَيَاتُكُمْ الناتجة عن اتحادكم بواسطة الإيمان بالمسيح الذي قام. وهي حياة النفس الجديدة الروحية التي تبتدئ هنا وتكمل في السماء.
مُسْتَتِرَةٌ عن أبصار العالم فإنه لا يعرف حقيقتها ولا مصدرها ولا قوتها على تطهير النفس وخضوعها لإرادة الله. فالعالم لا يعرف مسرّة تلك الحياة وتعزيتها. وعظمتها مستترة عن الناس حتى أربابها (١يوحنا ٣: ٢).
مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللّٰهِ إن الله مصدر حياة المؤمن والمسيح واسطة نيله إياها. وحياة الآب والابن واحدة بدليل قول المسيح «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا ١٧: ٢١). فحياة المسيح باعتبار كونه ابن الإنسان مستترة عن عيون الذين على الأرض لأنه في السماء وحياته باعتبار كونه ابن الله مستترة عن كل عين لأنه واحد مع أبيه في الجوهر وجوهر اللاهوت لا يرى بدليل قول يوحنا «الله لم يره أحد قط» (يوحنا ١: ١٨).
٤ «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ».
١يوحنا ٣: ٢ يوحنا ١١: ٢٥ و١٤: ٦ و١كورنثوس ٥: ٤٣ وفيلبي ٣: ٢١
مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ بمجيئه الثاني بالقوة والمجد. وأُشير إلى هذا الاستعلان في (١تيموثاوس ٦: ١٤ و٢تيموثاوس ٤: ١ وتيطس ٢: ١٣ و١بطرس ١: ٧). وغير ذلك كثير.
حَيَاتُنَا هذا بدل من المسيح فإنه هو عينه الحياة (يوحنا ١٤: ٦ و١٩) وهو علة حياتنا بدليل قول الرسول «فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (غلاطية ٢: ٢٠). وهو ركن دوامها وغايتها بدليل قوله «لأَنَّ لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ» (فيلبي ١: ٢١). وهو موافق لقول المسيح نفسه «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ» و«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا ١١: ٢٥ و١٤: ٦). فحياة المؤمن كلها بالمسيح ابن الله وابن الإنسان أي بتجسده وبره ودمه وموته وقيامته وصعوده وشفاعته وإرساله الروح القدس وبإتيانه ليأخذه إلى نفسه.
تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ هذا كقوله «إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ» (رومية ٨: ١٧). وقول يوحنا «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ» (١يوحنا ٣: ٢). وقول بطرس «كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ» (١بطرس ٤: ١٣) وقول المسيح نفسه «وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ ٱلْمَجْدَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي» (يوحنا ١٧: ٢٢). ونتيجة ذلك كله أن السر الذي الآن يحجب حياة المؤمنين عن نظر العالم عند مجيء المسيح فالعالم الذي احتقرهم واضطهدهم سينظر مجدهم.
ما توجبه القيامة مع المسيح من اعتزال ما ينافي الحياة الجديدة ع ٥ إلى ١١
٥ «فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ ٱلَّتِي عَلَى ٱلأَرْضِ: ٱلزِّنَا، ٱلنَّجَاسَةَ، ٱلْهَوَى، ٱلشَّهْوَةَ ٱلرَّدِيَّةَ، ٱلطَّمَعَ ٱلَّذِي هُوَ عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ».
رومية ٨: ١٣ وغلاطية ٥: ٢٤ رومية ٦: ١٣ أفسس ٥: ٣ رومية ١: ٢٦ و١تسالونيكي ٤: ٥ أفسس ٥: ٥
أَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ ٱلَّتِي عَلَى ٱلأَرْضِ كما يجب على من ماتوا مع المسيح (ع ٣). وعبر عن إماتة الأعضاء بالصلب بقوله «ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ» (غلاطية ٥: ٢٤). وبإماتة أعمال الجسد بقوله «إِنْ كُنْتُمْ بِٱلرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ ٱلْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ» (رومية ٨: ١٣) وإلى هذا أشار المسيح بقوله «فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ... وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ» (متّى ٥: ٢٩ و٣٠). والقرينة تبين أن الكلام كناية فكنى «بالأعضاء» عن الخطايا التي الأعضاء آلاتها وعنى «بإماتتها» اعتزال المؤمن للخطية وتعبيره عن هذا الاعتزال «بالإماتة» يشير إلى كونه تاماً كانفصال الروح عن الجسد وإلى كونه عسراً مؤلماً. ويختلف عن الموت الحقيقي بأنه اختياري وتدريجي. وقيّد «الأعضاء» بكونها «على الأرض» لأن الأرض موضع استعمال الخطية ولا تعلق لها بسماء القداسة ولأنها تميل إلى ربط أنفسنا بالأرض. وهي مختصة بالإنسان العتيق الذي هو من الأرض أرضي (١كورنثوس ١٥: ٤٧).
ٱلزِّنَا، ٱلنَّجَاسَةَ انظر ما في (أفسس ٥: ٣ وتفسيره).
ٱلْهَوَى هو كل ما زاد على الحد في الشهوات أو الانفعالات على ما في الأصل اليوناني (غلاطية ٥: ٢٤). زاد هذا على ما سبق لأنه أعم منه فيدخل تحته النهم والسكر.
ٱلشَّهْوَةَ ٱلرَّدِيَّةَ أي الانفعالات الشريرة ونعتها «بالردية» إخراجاً للشهوة الجائزة.
ٱلطَّمَعَ ٱلَّذِي هُوَ عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ المراد «بالطمع» حب المال المفرط وكان عبادة أوثان لأن الطماع يضع حب المال في قلبه بدلاً من حب الله ويخدم بماله نفسه لا خالقه.
٦ «ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَأْتِي غَضَبُ ٱللّٰهِ عَلَى أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ».
رومية ١: ١٨ وأفسس ٥: ٦ ورؤيا ٢٢: ١٥ أفسس ٢: ٢ و٢بطرس ٢: ١٤.
ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أي الأمور المذكورة في الآية الخامسة.
يَأْتِي غَضَبُ ٱللّٰهِ الخ (انظر تفسير أفسس ٥: ٦). المراد «بغضب الله» إظهار عدله في العقاب على الإثم (رومية ١: ١٨). ومعظم هذا الغضب يعلنه في يوم الدين ولكن ذلك لا يمنع من أنه يعاقب الأثمة في هذا العالم أيضاً.
٧ «ٱلَّذِينَ بَيْنَهُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً سَلَكْتُمْ قَبْلاً، حِينَ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ فِيهَا».
رومية ٦: ١٩ و٢٠ و٧: ٥ و١كورنثوس ٦: ١١ وأفسس ٢: ٢ وص ٢: ١٣ وتيطس ٣: ٣
بَيْنَهُمْ أي بين أبناء المعصية كما قيل في أمم أفسس قبل إيمانهم (أفسس ٢: ٢ و٣).
أَنْتُمْ يا معشر الكولوسيين كسائر الأمم.
سَلَكْتُمْ قَبْلاً إن الآثام التي مرّ ذكرها هي الآثام التي امتاز بها الوثنيون. وأشار بقوله «سلكتم» إلى أنهم اشتركوا في تلك الآثام اختياراً واستمروا على ارتكابها.
حِينَ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ فِيهَا أي كانت تلك الآثام محيطة بحياتكم إحاطة الهواء بكم لأنكم كنتم بين الوثنيين وأفعالهم تجارب معدية (أفسس ٤: ١٧ - ٢٠). فالعائشون في الروح يسلكون في الروح وكذلك الذين يعيشون في الشهوات يسلكون فيها (غلاطية ٥: ٢٥).
٨ «وَأَمَّا ٱلآنَ فَٱطْرَحُوا عَنْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً ٱلْكُلَّ: ٱلْغَضَبَ، ٱلسَّخَطَ، ٱلْخُبْثَ، ٱلتَّجْدِيفَ، ٱلْكَلاَمَ ٱلْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ».
أفسس ٤: ٢٢ وعبرانيين ١٢: ١ ويعقوب ١: ٢١ و١بطرس ٢: ١ أفسس ٤: ٢٩ و٥: ٤
وَأَمَّا ٱلآنَ لأنكم عدلتم عن العيشة في تلك الشهوات والسلوك فيها.
فَٱطْرَحُوا عَنْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً ٱلْكُلَّ أي كل الآثام التي عبر في الآية الثالثة عن اعتزالها «بالموت» عبر عنه هنا «بالطرح» كما يطرح الإنسان عنه ثوباً بالياً قذراً. وأشار بقوله «أيضاً» إلى وجوب طرح الخطايا المذكورة في هذه الآية مع الخطايا المذكورة في الآية الخامسة.
ٱلْغَضَبَ، ٱلسَّخَطَ، ٱلْخُبْثَ، ٱلتَّجْدِيفَ (انظر تفسير هذا في تفسير أفسس ٤: ٣١).
ٱلْكَلاَمَ ٱلْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ الذي ينشأ عن الأفكار الرديئة فيهيجها المتكلم في السامعين.
٩ «لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ».
لاويين ١٩: ١١ وأفسس ٤: ٢٥ أفسس ٤: ٢٢ و ٢٤
لاَ تَكْذِبُوا (انظر تفسير أفسس ٤: ٢٥).
إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ (انظر تفسير ٤: ٢٢ - ٢٤ والتفسير) نهى في الرسالة إلى أفسس عن الكذب وبيّن أن علة نهيه عنه كون المؤمنين أعضاء بعضهم لبعض فبالكذب يتعدى الإنسان على أخيه في المسيح مع أن له حق أن يخاطب بالصدق. وأشار «بالإنسان العتيق» إلى طبيعته الفاسدة كما كانت قبل تجديده وبذا أشار إليها في (رومية ٦: ٦) وعبر عنها «بالجسد» في (غلاطية ٥: ٢٤).
مَعَ أَعْمَالِهِ أي الأعمال المختصة بالطبيعة الفاسدة. والكذب أحد أثمار تلك الطبيعة فعلى المؤمنين أن يعتزلوه كل الاعتزال لأنهم ادعوا أنهم انفصلوا عن الإنسان العتيق.
١٠ «وَلَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ».
رومية ١٢: ٢ أفسس ٢: ١٠ و٤: ٢٣ و٢٤
وَلَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ (انظر تفسير أفسس ٤: ٢٤) أي الإنسان الجديد وهو الطبيعة الجديدة التي أشار إليها المسيح في قوله لنيقوديموس «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ٣: ٣). فالإنسان الجديد عمل الروح القدس ويًُسمى «الخليقة الجديدة» (٢كورنثوس ٤: ١٦) فالذي يدعى الإنسان العتيق قبل التجديد يدعى الإنسان الجديد بعده.
ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ بفعل الروح القدس يوماً فيوماً. والمعرفة المشار إليها هنا هي روحية وكاملة وموضوعها الله وما أعلنه الله في إنجيله وقد تكلم عليها في (ص ١: ٩ و٢: ٢ وأفسس ١: ١٧ و٤: ١٣). ولعله قال «يتجدد للمعرفة» ولم يقل للقداسة أو لغيرها من الفضائل لدعوى الغنوسيين أن لهم معرفة بالله وأسراره ليست لغيرهم من المؤمنين.
حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ خلق الله الإنسان على صورته في بدء العالم بكلمة قدرته (تكوين ١: ٢٦) ويخلقه على تلك الصورة ثانية بفعل روحه القدوس بدليل قوله «وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ» (أفسس ٤: ٢٤). و«صورة الله» في الخليقة الثانية أجلّ منها في الخليقة الأولى على قدر ما آدم الثاني الرب من السماء هو أجلّ من الإنسان الأول آدم.
١١ « حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ، بَرْبَرِيٌّ سِكِّيثِيٌّ، عَبْدٌ حُرٌّ، بَلِ ٱلْمَسِيحُ ٱلْكُلُّ وَفِي ٱلْكُلِّ».
رومية ١٠: ١٢ و١كورنثوس ١٢: ١٣ وغلاطية ٣: ٢٨ و٥: ٦ وأفسس ٦: ٨ أفسس ١: ٢٣
حَيْثُ أي الدائرة التي تخص الإنسان الجديد.
لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ سبق تفسير ما في هذه الآية في تفسير (غلاطية ٣: ٢٨) والمقصود به أن التمييزات المتعلقة بالمملكة والديانة والمقام لا تقدم ولا تؤخر في الإنسان الجديد وفي نيل بركات العهد الجديد في المسيح. ولا توجد في السماء فلا تليق أن تكون في الكنيسة المسيحية التي هي ملكوت السماء على الأرض وقوله «ختان وغرلة» بيان ليهودي ويوناني.
بَرْبَرِيٌّ اعتبر اليونان كل من لا يتكلم باليونانية بربرياً.
سِكِّيثِيٌّ السكيثيون هم سكان شمالي البحر الأسود وبحر الخزر ويسمون اليوم بالتتر وحسبهم القدماء أشد البربر توحشاً.
عَبْدٌ حُرٌّ هذا عند الناس وأما عند الله فكل مؤمن حر من عبودية الخطية والشيطان لكنه عبد للمسيح (١كورنثوس ٧: ٢٢ وغلاطية ٣: ٢٨). وخلاصة هذه الآية أن الإنجيل لا يلتفت إلى هذه الامتيازات فشرط الخلاص واحد لكل إنسان وهو الإيمان.
بَلِ ٱلْمَسِيحُ ٱلْكُلُّ وَفِي ٱلْكُلِّ أي أن أصل حياة المؤمنين الروحية هو المسيح فمنه تصدر إلى قلوب جميع الناس بقطع النظر عن جنسهم ومقامهم وتؤكد لهم كل الحقوق والبركات المختصة بأبناء الله. فكل المؤمنين واحد في المسيح بدليل قوله «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا ١٧: ٢١). فإذاً اليهود الذين آمنوا بالمسيح لم يبقوا يهوداً بل صاروا مسيحيين ومثلهم مؤمنو اليونانيين والبربريين والسكيثيين فهم بنسبة بعضهم إلى بعض إخوة لأنهم أعضاء جسد المسيح. وأبان الرسول هنا تسوية المسيحيين ووحدتهم إثباتاً لصحة نهيه إياهم عن أن يكذب بعضهم على بعض (ع ٩).
ما توجب القيامة مع المسيح من الفضائل والأعمال الصالحة ع ١٢ إلى ١٧
١٢ «فَٱلْبَسُوا كَمُخْتَارِي ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ».
أفسس ٤: ٢٤ و١تسالونيكي ١: ٤ و١بطرس ١: ٢ و٢بطرس ١: ١ غلاطية ٥: ٢٢ وأفسس ٤: ٢ و٣٢ وفيلبي ٢: ١
فَٱلْبَسُوا أشار الرسول بقوله «لبستم الجديد» (ع ١٠) إلى ما كانوا قد فعلوه يوم آمنوا وتجددوا وأشار بقوله «البسوا» هنا إلى ما يجب أن يستمروا عليه بمقتضى مطاليب الحياة الجديدة من ممارسة الفضائل المختصة بتلك الحياة.
كَمُخْتَارِي ٱللّٰهِ أي بالنظر إلى كونكم كذلك وبمقتضى المسؤولية المبنية على اختياركم.
ٱلْقِدِّيسِينَ هذا وصف «مختاري الله» وبيان وجوب أن يكون كذلك لأنهم موقوفون لخدمة الله ولقداسة القلب والسيرة بدليل قول بطرس «بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ ٱلسَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ» (١بطرس ١: ٢).
ٱلْمَحْبُوبِينَ من الله بدليل قول الرسول «عَالِمِينَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلْمَحْبُوبُونَ مِنَ ٱللّٰهِ ٱخْتِيَارَكُمْ» (١تسالونيكي ١: ٤). وقوله «يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ ٱللّٰهَ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلْمَحْبُوبُونَ مِنَ ٱلرَّبِّ، أَنَّ ٱللّٰهَ ٱخْتَارَكُمْ الخ» (٢تسالونيكي ٢: ١٣).
أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ أي شفقات وهذا مبني على رأي القدماء أن مركز الشفقة الأحشاء ومنه قول زكريا «بأحشاء رأفة إلهنا» (لوقا ١: ٧٨ انظر أيضاً تكوين ٤٣: ٣٠ وتفسير فيلبي ١: ٨).
لُطْفاً، وَطُولَ أَنَاةٍ هذا ما يجب على المؤمن أن يظهره لغيره (انظر نفسير أفسس ٤: ٢ وغلاطية ٥: ٢٢).
تَوَاضُعاً هذا ما يجب على المؤمن أن يشعر به فهو ضد الإعجاب بالنفس (أفسس ٤: ٢).
وَدَاعَةً سبق تفسير هذه الكلمة في (أفسس ٤: ٢).
١٣ «مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ ٱلْمَسِيحُ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً».
مرقس ١١: ٢٥ وافسس ٤: ٢ و ٣٢
مُحْتَمِلِينَ... وَمُسَامِحِينَ أمرهم بهذا باعتبار كونهم أعضاء جسد المسيح الواحد (انظر تفسير غلاطية ٥: ٢٢ وأفسس ٤: ٢ و٣٢ وفيلبي ٢: ١).
إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى أي سبب للشكوى.
كَمَا غَفَرَ لَكُمُ ٱلْمَسِيحُ الخ مع أن له أعظم أسباب الشكوى (ص ٢: ١٣) إن المسيح غفر كل خطاياهم دفعة فعظمة مغفرة المسيح لهم توجب عليهم أن يغفروا لإخوتهم زلاتهم على وفق قول المسيح «إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ الخ» (متّى ٦: ١٤ و١٥). وقوله «كما غفر لكم المسيح» يوجب عليهم أن يغفروا مثله مجاناً المغفرة الكاملة وأن لا يبقى في قلوبهم شيء من الحقد وأن يكونوا مستعدين أن يحسنوا إلى المسيء ويعاملوه كأنه لم يسئ (متّى ٩: ٦ و١٨: ٢٧ وأعمال ٥: ٣١).
١٤ «وَعَلَى جَمِيعِ هٰذِهِ ٱلْبَسُوا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي هِيَ رِبَاطُ ٱلْكَمَالِ».
١بطرس ٤: ٨ يوحنا ١٣: ٢٤ ورومية ١٣: ٨ و١كورنثوس ص ١٣ وأفسس ٥: ٢ وص ٢: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٩ و١تيموثاوس ١: ٥ و١يوحنا ٣: ٢٣ و٤: ٢١ أفسس ٤: ٣
وَعَلَى جَمِيعِ هٰذِهِ ٱلْبَسُوا أي فوق جميع الفضائل المذكورة سابقاً التي أمر الرسول بها بقوله «فالبسوا الخ» (ع ١٢).
ٱلْمَحَبَّةَ الأخوية المسيحية التي وصفها في (١كورنثوس ص ١٣).
ٱلَّتِي هِيَ رِبَاطُ ٱلْكَمَالِ اعتبر المحبة منطقة تجمع سائر الفضائل وتكملها. ولم يقصد بذلك أن المحبة تغني عن سائر الفضائل فمعناه أنه مهما كان للإنسان من الفضائل بلا محبة كان ناقصاً أمراً جوهرياً. ولعله أراد بهذا نقض تعليم المعلمين الغنوسيين أن الكمال بالمعرفة أي المعرفة التي لا يمكن أن يحصل عليها إلا قليلون. وفي هذه المعرفة ومقابتلها بالمحبة قال الرسول «ٱلْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلٰكِنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَبْنِي» (١كورنثوس ٨: ١). فمراد الرسول إن في العلم الدنيوي كمالاً وهمياً وأن في المحبة كمالاً حقيقياً. واتخذ بعضهم هذه الآية برهاناً على أن التبرير بالأعمال لأن الكمال هو البر. وقيل هنا إن «المحبة رباط الكمال» فاستنتج أن الخاطئ يتبرر بالمحبة. والقرينة تدل على أن الذين خاطبهم هم مختارو الله مقدسون محبوبون فإذاً كانوا قد تبرروا بالإيمان.
١٥ «وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ».
رومية ١٤: ١٧ وفيلبي ٤: ٧ و١كورنثوس ٧: ١٥ أفسس ٢: ١٦ و١٧ و٤: ٤ ص ٢: ٧ وع ١٧
لْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ هذا أمر باللام. والذي يملك في القلب يؤثر في كل الأفكار والانفعالات والكلام والأعمال ويرأس الكل.
سَلاَمُ ٱللّٰهِ هذا الذي طلب الرسول أن يستولي على قلوبهم ونُسب إلى الله هنا كما نُسب إليه في (فيلبي ٤: ٧) لأن الله مصدره وهو يرسله بالمسيح حتى يكون عطية المسيح على وفق قوله «سَلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ» (يوحنا ١٤: ٢٧). وذلك السلام هدوء النفس وهو مبني على تيقن النفس أنها مصالحة الله بالمسيح وأن خطايانا قد غفرت. وهذا السلام يمنع من الاهتمام الزائد بالدنيويات ويزيل الخصام من بين الإخوة.
ٱلَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ إن الله دعاهم إلى السلام ليكملهم.
فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ أي في الكنيسة التي هي جسد المسيح والمسيح رأسها. وقد دُعي المسيحيون إلى الاتحاد بالله وبإخوتهم في الكنيسة حين دُعوا إلى الإيمان واتباع ذاك الذي أتى لكي يكون «على الأرض السلام». وقد جاء في رسالة أفسس «جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ» (أفسس ٤: ٤) وهذا يستلزم أن يملك السلام في قلب كل عضو من أعضاء الكنيسة وإلا لم يحق أن يسموا جسداً واحداً.
وَكُونُوا شَاكِرِينَ كما ذُكر في (ص ١: ١٢ و٢: ٧ و٤: ٢). ومعظم الشكر الذي أمرهم به هو الشكر على البركات التي نالوها بالمسيح وباشتراكهم في جسده الذي هو الكنيسة. وكونهم شاكرين أفضل وسيلة إلى أن يملك سلام الله في قلوبهم وإلى حفظ السلام في الكنيسة.
١٦ «لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ ٱلْمَسِيحِ بِغِنىً، وَأَنْتُمْ بِكُلِّ حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، بِنِعْمَةٍ، مُتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ».
١كورنثوس ١٤: ٢٦ وأفسس ٥: ١٩ ص ٤: ٦
لِتَسْكُنْ فِيكُمْ أي في قلوبكم سكنى دائمة كما في هيكل لا في مظلة.
كَلِمَةُ ٱلْمَسِيحِ التي بشّر المسيح بها وأمر تلاميذه بنشرها وهي إنجيله (١تسالونيكي ١: ٨ و٤: ١٥ و٢تسالونيكي ٣: ١). وسُميت «ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَغْرُوسَةَ ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ» (يعقوب ١: ٢١) إشارة إلى أنها ثابتة حية. وسميت «كلمة الحق» (أفسس ١: ١٣) و«كلمة الحياة» بالنظر إلى تأثيرها (فيلبي ٢: ١٦).
بِغِنىً أي بوفرة وسكنى كلمة المسيح بوفرة في المؤمن تجعله يعرف حقائقها أحسن معرفة ويذكرها دائماً ويتأمل فيها نهاراً وليلاً (مزمور ١: ٢) ويدرك معانيها بالتفصيل كمعاني رسومها وأمثالها ونبواتها فتؤثر في سيرته ولا سيما معرفة الذي هو موضوع الإنجيل كله المسيح ابن الله مخلص العالم. فسكنى كلمة الله بغنى في قلب الإنسان يجعله غنياً في التعزية ويقويه على نفع غيره بدليل قول المرنم «شَرِيعَةُ فَمِكَ خَيْرٌ لِي مِنْ أُلُوفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ» (مزمور ١١٩: ٧٢).
بِكُلِّ حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ إن الذين «تسكن فيهم كلمة المسيح بغنىً» يجب أن يظهروا حكمتهم بتعليم غيرهم وإنذارهم على الطريق المذكور. وغاية التعليم والإنذار تقوية إيمان المؤمنين وإرشاد الخطأة إلى التوبة وغرس الحقائق الإلهية في قلوب الجميع لتكون لهم تعزية في الضيقات وتمكنهم من الانتصار على التجربة.
بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ انظر تفسير هذه الكلمات في (أفسس ٥: ١٩). فالذين يتخذون ما ذُكر هنا وسيلة إلى التعليم والإنذار يظهرون أعظم الحكمة لأنه ليس من سبيل أفضل منها إلى ذلك. والتعاليم الحاصلة بها تبقى راسخة في النفس وتأتي بأثمار في الحياة كما يتبين من أحوال الأولاد الذين عُلموا بها في البيوت والمدارس. ولا ريب في أن بولس قصد بالأكثر الأغاني المستعملة في العبادة الجمهورية لكنه أراد أيضاً المستعملة في ولائم المحبة واجتماعاتهم العادية. وذُكرت هذه الأغاني في (أعمال ١٦: ٢٥ و١كورنثوس ١٤: ١٥ و٢٦).
بِنِعْمَةٍ، مُتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ وصف الترنم المقبول بثلاث صفات:
- الأولى: إنه صادر من نعمة الروح القدس.
- الثانية: أن يكون من القلب المملوء شكراً ًومحبة لا من مجرد الشفتين كما في قوله للأفسسيين «مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ» (أفسس ٥: ١٩).
- الثالثة: أن يكون الله موضوعه لا مدح الناس ولا افتخار المرنم بنفسه.
١٧ «وَكُلُّ مَا عَمِلْتُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَٱعْمَلُوا ٱلْكُلَّ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، شَاكِرِينَ ٱللّٰهَ وَٱلآبَ بِهِ».
١كورنثوس ١٠: ٣١ رومية ١: ٨ وأفسس ٥: ٢٠ وص ١: ٢١ و٢: ٧ و١تسالونيكي ٥: ١٨ وعبرانيين ١٣: ١٥
هذه الآية نصيحة عامة تشتمل على كل ما سبق من الواجبات.
كُلُّ مَا عَمِلْتُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ من الروحيات والدنيويات عاماً كان أو خاصاً.
فَٱعْمَلُوا ٱلْكُلَّ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ باعتبار كونكم عبيده وتلاميذه شاهدين بأنكم له بأفواهكم وسيرتكم وممجدين إياه. وهذا مثل قوله «فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئاً، فَٱفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١٠: ٣١). وقول المسيح «ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ» (متّى ٦: ٣٣). وينتج من ذلك أنه لا يجوز للمؤمنين أن يطلبوا إجراء مشيئتهم ولا رضى الناس بل مجد الله بحفظ وصاياه وإظهار صفاته بها. وهذا قانون أساسي للتقوى فعليه تتوقف سعادة الإنسان ونفعه لغيره.
شَاكِرِينَ ٱللّٰهَ وَٱلآبَ بِهِ أي بالمسيح بدليل قوله «شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٥: ٢٠). فيجب أن تكون أعمال المؤمنين كلها مقترنة بالشكر كقوله «فِي كُلِّ شَيْءٍ بِٱلصَّلاَةِ وَٱلدُّعَاءِ مَعَ ٱلشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى ٱللّٰهِ» (فيلبي ٤: ٦). وقال «به» أي بالمسيح لأن المسيح واسطة اقترابنا إلى الله لكي نقبل النعمة منه ونقدم الشكر له ولأنه يجب علينا أعظم الشكر لله لأنه أعطانا ابنه العطية التي «التي لا يعبر عنها» لكي يكون وسيطنا وفادينا (٢كورنثوس ٩: ١٥).
نصائح خاصة في نسب خاصة ع ١٨ إلى ٢٥ وص ٤: ١
كلام هذا الفصل شديد الشبه بالكلام في رسالة أفسس في هذا الموضوع إلا أن ما هنا أخصر مما هنالك.
١٨ «أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ، ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا يَلِيقُ فِي ٱلرَّبِّ».
أفسس ٥: ٢٢ وتيطس ٢: ٥ و١بطرس ٣: ١ أعمال ٥: ٢٩ وأفسس ٥: ٣ و٦: ١
ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ الأمر متعلق بالنساء في هذه الآية كالأمر المتعلق بهن في الرسالة إلى أفسس (أفسس ٥: ٢٢ و٢٤ انظر أيضاً ١بطرس ٣: ١ - ٧). وهو مبني على ما كُتب في سفر التكوين (تكوين ٢: ١٨ - ٢٤).
كَمَا يَلِيقُ فِي ٱلرَّبِّ هذا بيان نوع الخضوع المطلوب وهو ما كان بحسب أمر المسيح وما يسره ويتمجد به ويهب النعمة للقيام به.
١٩ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ، وَلاَ تَكُونُوا قُسَاةً عَلَيْهِنَّ».
أفسس ٥: ٢٥ و١٨ و٢٩ و٣٣ و١بطرس ٣: ٧ أفسس ٤: ٣١
أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ هذا كما في (أفسس ٥: ٢٥) إلا أنه زاد عليه هناك قوله «كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها».
وَلاَ تَكُونُوا قُسَاةً عَلَيْهِنَّ لا بالقول ولا بالفعل. وهذا يمنع من عدم الاكتراث بهن وإهمال ما يحتجن إليه. ولم يقل أحبوا نساءكم ولا تكونوا قساة عليهن إذا كن طائعات بل أطلق ذلك لأنه يخاطب مؤمني الرجال ومؤمنات النساء. إن كثيرين من الرجال يكونون لطفاء وحلماء خارج البيت ويكونون قساة ظالمين فيه فيغيرون أخلاقهم كما يغيرون ثيابهم ويكونون خرافاً في الأسواق وذئاباً في البيوت وهذا مناف لروح الإنجيل. والذي حمل الرسول على كتابة هذا إن أهل عصره لم يكن منهم للنساء الإكرام الذي أمر الإنجيل به الرجال فكنّ بمنزلة الإماء تقريباً.
٢٠ «أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ لأَنَّ هٰذَا مَرْضِيٌّ فِي ٱلرَّبِّ».
أفسس ٦: ١ أفسس ٥: ٢٤ وتيطس ٢: ٩
أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ (انظر تفسير هذا في تفسير أفسس ٦: ١ - ٣).
ٍفِي كُلِّ شَيْء أطلق الأمر لأنه خاطب أولاداً والدوهم مؤمنون لا يأمرون بشيء مناف لشريعة الله.
لأَنَّ هٰذَا مَرْضِيٌّ فِي ٱلرَّبِّ وبرهان ذلك كونه مطلوباً في الشريعة الإلهية (خروج ٢٠: ١٢). ونسبة الأولاد إلى المسيح توجب عليهم أن يبذلوا الجهد في إطاعة أمر الله لأن المسيح يراقبهم وسيثيب الطائعين.
٢١ «أَيُّهَا ٱلآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ لِئَلاَّ يَفْشَلُوا».
أفسس ٦: ٤
أَيُّهَا ٱلآبَاءُ خاطبهم نواباً عن الأمهات في سياسة البيت ولعلهم احتاجوا إلى هذا النصح والإنذار أكثر من الأمهات.
لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ الخ هذا كما في (أفسس ٦: ٤) فراجع التفسير هناك. يجب أن يكون تصرف الآب السماوي في معاملة أولاده قانون معاملة الوالدين لأولادهم (عبرانيين ١٢: ٥). إن الله يؤدب أولاده بالمحبة وكثيرون من الناس لا يؤدبون أولادهم إلا بالغيظ فيكونون عرضة لأن يظلموهم.
٢٢ «أَيُّهَا ٱلْعَبِيدُ، أَطِيعُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ سَادَتَكُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، لاَ بِخِدْمَةِ ٱلْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي ٱلنَّاسَ، بَلْ بِبَسَاطَةِ ٱلْقَلْبِ، خَائِفِينَ ٱلرَّبَّ».
أفسس ٦: ٥ الخ و١تيموثاوس ٦: ١ وتيطس ٢: ٩ و١بطرس ٢: ١٨ ع ٢٠ فليمون ١٦
أَيُّهَا ٱلْعَبِيدُ الخ كلام الرسول للعبيد هنا ككلامه لهم في (أفسس ٦: ٥ و٦ فراجع التفسير هناك). وكلامه في العبيد هنا ليس بأقصر من كلامه فيهم في رسالة أفسس كما كان كلامه في الأزواج والوالدين والأولاد ولعل علة ذلك وجود أنسيمس معه وهو عبد آبق فوجه أفكاره بزيادة إلى هذا الموضوع.
خَائِفِينَ ٱلرَّبَّ سيدكم الحقيقي. قال هذا مقابلة لقوله «سادتكم حسب الجسد» فيجب أن يخافوا من إغاظة الرب بعدم أمانتهم ولا يقتصرون على أن يخافوا سادتهم حسب الجسد.
٢٣ «وَكُلُّ مَا فَعَلْتُمْ فَٱعْمَلُوا مِنَ ٱلْقَلْبِ، كَمَا لِلرَّبِّ لَيْسَ لِلنَّاسِ».
أفسس ٦: ٦ و٧
وَكُلُّ مَا فَعَلْتُمْ من كبار الأعمال وصغارها.
فَٱعْمَلُوا مِنَ ٱلْقَلْبِ أي بالرضى والاختيار لا بالتكلف والاضطرار.
كَمَا لِلرَّبِّ معتبرين خدمتكم للسيد الأرضي جزءاً من الخدمة للسيد السماوي.
٢٤ «عَالِمِينَ أَنَّكُمْ مِنَ ٱلرَّبِّ سَتَأْخُذُونَ جَزَاءَ ٱلْمِيرَاثِ، لأَنَّكُمْ تَخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ ٱلْمَسِيحَ».
أفسس ٦: ٨ و١كورنثوس ٧: ٢٢
عَالِمِينَ أي لأنكم عالمون. ذكر هذا علة لأن يكونوا طائعين.
مِنَ ٱلرَّبِّ سيدكم الحق.
سَتَأْخُذُونَ جَزَاءَ ٱلْمِيرَاثِ فإذاً جزاؤكم من الرب مؤكد أثابكم سادتكم الأرضيون أو لا. وهذه المجازاة كافية للتعويض عن كل أتعاب العبودية وآلامها. وميراثهم الذي اقتناه لهم من الرب هو الخلاص (١كورنثوس ٣: ٢٤ و٢٥) وإن لم يكن لهم ميراث على الأرض إذ الميراث الأرضي للبنين لا للعبيد.
لأَنَّكُمْ تَخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ ٱلْمَسِيحَ قال ذلك ليؤكد لهم نيل الجزاء لأن سيدهم السماوي يراقب خدمتهم للناس ويعتبرها خدمة له وهو قادر أن يجازي كل من يخدمونه بالعدل والمسرّة وسيفعل ذلك بدليل قول الرسول «عَالِمِينَ أَنْ مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ ٱلْخَيْرِ فَذٰلِكَ يَنَالُهُ مِنَ ٱلرَّبِّ، عَبْداً كَانَ أَمْ حُرّاً» (أفسس ٦: ٨).
٢٥ «وَأَمَّا ٱلظَّالِمُ فَسَينَالُ مَا ظَلَمَ بِهِ، ولَيْسَ مُحَابَاةٌ».
تثنية ١٠: ١٧ ورومية ٢: ١١ وأفسس ٦: ٩ و١بطرس ١: ١٧
خاطب العبيد بهذه الآية تعزية لهم وحملاً لهم على الخدمة بالأمانة والصبر وهم يحتملون الظلم لأن الله يسأل عن حقوقهم ويعوّض عليهم عن كل ما احتملوه من الجور.
َ أَمَّا ٱلظَّالِمُ فَسَينَالُ مَا ظَلَمَ بِهِ بموجب القانون العام وهو «ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ» (غلاطية ٦: ٧). وهذا يجوز إطلاقه على السيد الظالم والعبد الخائن ولكن القرينة تدل على أن مقصود الرسول تحذير الظالم من السادة وتعزية المظلوم من العبيد. ووقت المجازاة هو يوم مجيء المسيح للدينونة.
لَيْسَ مُحَابَاةٌ لم يكن في شريعة الرومانيين أيام بولس شيء من الحقوق للعبيد فبيّن لهم الرسول أن الأمر ليس كذلك أمام منبر المسيح بل أن لهم هنالك واحد يسأل عن حقوقهم بلا نظر إلى المقام أو الغنى وليس عنده تمييز بين العبيد والسادة.
ص ٤: ١
١ «أَيُّهَا ٱلسَّادَةُ، قَدِّمُوا لِلْعَبِيدِ ٱلْعَدْلَ وَٱلْمُسَاوَاةَ، عَالِمِينَ أَنَّ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً سَيِّداً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
أفسس ٦: ٩
قَدِّمُوا لِلْعَبِيدِ ٱلْعَدْلَ وَٱلْمُسَاوَاةَ أي أعطوهم حقوقهم بلا ظلم ولا محاباة. وليس كلام الرسول مقصوراً على واجبات السادة المؤمنين للعبيد المؤمنين بل هو عام فإن أكثرهم كان يومئذ من الوثنيين. ولم يقصد «بالمساواة» أن يجعل السادة العبيد مساوين لهم بل أن يعاملوهم على السواء. ولا ريب في أنه قصد أن يذكروا أن عبيدهم في بعض الاعتبارات مساوون لهم أمام الله لأنهم من دم واحد وأنهم مثله في كونهم عرضة للمرض والموت وفي كونهم ذوي نفوس خالدة وأن المسيح مات من أجلهم كما مات من أجل السادة فيفتح أبواب السماء للجميع على السواء. وما كان من غرض المسيح ورسله أن يغيّروا شريعة الرومانيين في شأن العبيد وأن ينادوا بتحريريهم دفعة بل أن يبشروا بالإنجيل الذي فيه القاعدة الذهبية التي هي قوله تعالى «كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ» (متّى ٧: ١٢). وأمثالها من التعاليم التي نتيجتها إبطال الاستراقاق من العالم شيئاً فشيئاً. وكذا كانت النتيجة في كل بلد أثر فيها الإنجيل.
عَالِمِينَ أي أنكم تعلمون.
أَنَّ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً سَيِّداً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أي يسوع المسيح الذي عليكم أن تطيعوه وأنكم عتيدون أن تعطوه حساباً (أنظر تفسير أفسس ٦: ٩).
اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ
خاتمة الرسالة ع ٢ إلى ١٨ وفيها خمسة أمور
- الأول: وجوب الصلاة من أجل الغير ولا سيما الرسول نفسه ووجوب التصرف بالحكمة مع الذين خارج الكنيسة (ع ٢ - ٦).
- الثاني: توصية بتيخيكس وأنسيمس (ع ٧ - ٩).
- الثالث: تحيات من بعض رفقاء الرسول لأهل كولوسي (ع ١٠ - ١٤).
- الرابع: توصية تتعلق بكنيسة لاودكية وتوصية لأرخيّس (ع ١٥ - ١٧).
- الخامس: الوداع (ع ١٨).
وجوب الصلاة من أجل الغير ع ٢ إلى ٦
٢ - ٤ «٢ وَاظِبُوا عَلَى ٱلصَّلاَةِ سَاهِرِينَ فِيهَا بِٱلشُّكْرِ، ٣ مُصَلِّينَ فِي ذٰلِكَ لأَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضاً، لِيَفْتَحَ ٱلرَّبُّ لَنَا بَاباً لِلْكَلاَمِ، لِنَتَكَلَّمَ بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَنَا مُوثَقٌ أَيْضاً، ٤ كَيْ أُظْهِرَهُ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ».
لوقا ١٨: ١ ورومية ١٢: ١٢ وأفسس ٦: ١٨ و١تسالونيكي ٥: ١٧ و١٨ص ٢: ٧ و٣: ١٥ أفسس ٦: ١٩ و٢تسالونيكي ٣: ١ و١كورنثوس ١٦: ٩ و٢كورنثوس ٢: ١٢ متّى ١٣: ١١ و١كورنثوس ٤: ١ وأفسس ٦: ١٩ وص ١: ٢٦ وص ٢: ٢ أفسس ٦: ٢٠ وفيلبي ١: ٧
كلام الرسول في هذه الآيات ككلامه في (أفسس ٦: ١٨ - ٢٠). وأشار بقوله «لنا» (ع ٣) إلى الرسل والمبشرين عامة وإلى نفسه وتيموثاوس (١تيموثاوس ١: ١) وأبفراس خاصة (ع ١٢ و١٣) وقوله «ليفتح الرب باباً للكلام» على وفق قوله «قد انفتح لي باب عظيم فعّال» (١كورنثوس ١٦: ٩). وقوله «لَمَّا جِئْتُ إِلَى تَرُوَاسَ، لأَجْلِ إِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ وَٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ فِي ٱلرَّبِّ» (٢كورنثوس ٢: ١٢). والمراد بذلك إزالة كل الموانع من سبيل التبشير بالإنجيل وكان أعظم الوسائل له لفتح باب الإنجيل إطلاقه من السجن ولذلك رغب في أن يُطلق من سجنه. وسألهم أن يصلوا من أجله بغية الإطلاق. وأراد «بسر المسيح» كون الخلاص مباحاً للأمم كما لليهود بشرط الإيمان (أفسس ٣: ٣ و٤). وقوله «من أجله أنا موثق» يوافق قوله «أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ» (أفسس ٦: ٢٠).
إن مناداة بولس بخلاص الأمم بدون تكليفهم بحفظ الرسوم اليهودية متعلق بقوله «مصلين» (ع ٣) والمراد أن يُطلق من سجنه حتى يستطيع أن يقوم بكل مطاليب رسوليته بمقتضى الدعوة الإلهية بجولانه للتبشير من مدينة إلى مدينة ومن بلاد إلى بلاد كما فعل سابقاً (رومية ١: ١٣ و١٤ و١٥: ١٦).
٥ «اُسْلُكُوا بِحِكْمَةٍ مِنْ جِهَةِ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ، مُفْتَدِينَ ٱلْوَقْتَ».
أفسس ٥: ١٥ و١تسالونيكي ٤: ١٢ أفسس ٥: ١٦
اُسْلُكُوا بِحِكْمَةٍ أي باستقامة وحلم واعتزال كل ما يهيج التعصب ويجلب العار على اسم المسيح والدين المسيحي (متّى ١٠: ١٦ وأفسس ٥: ١٥).
ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ أي الأمم الخارجة عن كنيسة المسيح فسلوك المسيحيين بالحكمة مع هؤلاء الوثنيين واسطة إلى إرشادهم إلى المسيح وخلاصه لأنه يغلب أن يكون سلوك المؤمنين المقدس أعظم وسيلة من الكلام إلى إقناع الناس بصحة الدين المسيحي.
مُفْتَدِينَ ٱلْوَقْتَ لكي نشغله بالتبشير بالمسيح وإنجيله بغية خلاص الهالكين (أفسس ٥: ١٧ انظر تفسير ذلك).
٦ «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تُجَاوِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ».
جامعة ١٠: ١٢ وص ٣: ١٦ لاويين ٢: ١٣ ومرقس ٩: ٥٠ أمثال ٢٦: ٤ و٥ و١بطرس ٣: ١٥
لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ «للذين هم من خارج» كما تدل القرينة.
بِنِعْمَةٍ أي بلطف ليرضي السامعين ويجذبهم إلى الحق فيظهر به روح الديانة وروح المحبة. ومصدر هذه النعمة نعمة الله في قلوبهم. وهذا موافق لقول المرنم «ٱنْسَكَبَتِ ٱلنِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ» (مزمور ٤٥: ٢).
مُصْلَحاً بِمِلْحٍ للملح فائدتان إحداهما جعل الطعام لذيذاً للذوق بدليل قول المسيح «اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلٰكِنْ إِذَا صَارَ ٱلْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ» (مرقس ٩: ٥٠). والثانية حفظ المواد من الفساد كما يفيد قول المسيح «أَنْتُمْ مِلْحُ ٱلأَرْضِ الخ» (متّى ٥: ١٣). وقصد الرسول هنا الفائدة الأولى أي وجوب أن يظهروا في كلامهم الديني اللطف وروح الديانة فإنها في الكلام بمنزلة الملح في الطعام فيشوقان المخاطب إلى الإصغاء والقبول فيجب أن لا يكون خشناً يمجه الذوق.
لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تُجَاوِبُوا الخ أي كل من يرغب في معرفة المسيح ودينه. وهذا يستلزم وجوب أن يكون المتكلم قد عرف الحق بالدرس والاختبار وأنه قد شعر بقوته وتيقن أنه قوة الله وحكمة الله للخلاص وأن يكون راغباً في نفع المخاطبين وأن يجعل كلامه مما يقتضيه المكان والزمان مقدار فهم السامع. وأفضل مثال لبيان معنى الرسول ما أتى به المسيح من الأمثال في مخاطبته لتلاميذه.
توصية بتيخيكس وأنسيمس ع ٧ إلى ٩
٧، ٨ «٧ جَمِيعُ أَحْوَالِي سَيُعَرِّفُكُمْ بِهَا تِيخِيكُسُ ٱلأَخُ ٱلْحَبِيبُ، وَٱلْخَادِمُ ٱلأَمِينُ، وَٱلْعَبْدُ مَعَنَا فِي ٱلرَّبِّ، ٨ ٱلَّذِي أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ لِهٰذَا عَيْنِهِ، لِيَعْرِفَ أَحْوَالَكُمْ وَيُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ».
أفسس ٦: ٢١ أفسس ٦: ٢٢
الكلام في هاتين الآيتين مثل كلامه في (أفسس ٦: ٢١ و٢٢) لفظاً ومعنىً فراجع تفسيرهما. وعلينا أن نذكر أن بولس كتب إحدى الرسالتين على أثر الأخرى وأرسلهما مع مُرسل واحد وأن كولوسي كانت قريبة من أفسس.
تِيخِيكُسُ هو أحد سكان أسيا (أعمال ٢٠: ٤) رافق بولس في سفره الثالث للتبشير سنة ٥٨ ب. م وكان معه يوم كتب هذه الرسالة (نحو سنة ٦٢ و٦٣) وكان معه أيضاً يوم كتب الرسالة إلى تيطس (نحو سنة ٦٧ ب. م تيطس ٣: ١٢) وأرسله إلى أفسس (٢تيموثاوس ٤: ١٢). والأوصاف التي وصفه بها الرسول أبانت أنه شاركه في خدمة المسيح وأنه كان محبوباً ومكرماً لديه وأنه وقف نفسه للرب كالرسول ولذلك اضطُهد معه. وأرسله الرسول بهذه الرسالة لأمرين الأول إخباره إياهم بأحواله والثاني استخباره عن أحوالهم في وقت ضيقتهم لكي يتعزوا ويتشجعوا بذلك.
٩ «مَعَ أُنِسِيمُسَ ٱلأَخِ ٱلأَمِينِ ٱلْحَبِيبِ ٱلَّذِي هُوَ مِنْكُمْ. هُمَا سَيُعَرِّفَانِكُمْ بِكُلِّ مَا هٰهُنَا».
فليمون ١٠
مَعَ أُنِسِيمُسَ هو أحد أهل كولوسي وعبد فليمون (انظر فليمون ١٠ - ١٧) أبق من سيده وأتى إلى رومية وتعرف ببولس هناك وآمن بواسطته بالمسيح وقُبل في عضوية الكنيسة فرده بولس إلى سيده مصحوباً برقيم وهو المعروف برسالة فليمون.
ٱلأَخِ ٱلأَمِينِ ٱلْحَبِيبِ لأنه مؤمن بالمسيح ومتحد به. ويتبين من قول الرسول أنه كان ممن يوثق بهم وأنه كان عزيزاً على الرسول فإنه أكرمه بوصفه إياه بالوصف الذي وصف به تيخيكس وأنه ذكرهما معاً كما ترى.
ٱلَّذِي هُوَ مِنْكُمْ أي من كولوسي فما أعظم ما كان الفرق بين معرفتهم إياه يوم كان عندهم وبين ما صار إليه زمن إرسال هذه الرسالة إليهم فإنه صار أخاً بعد أن كان عبداً وأميناً بعد أن كان خائناً ومحبوباً بعد أن كان مهاناً (فليمون ١١ و١٦).
هُمَا سَيُعَرِّفَانِكُمْ الخ بأموري الشخصية وأحوال كنيسة رومية وعمل الإنجيل في ضواحيها.
تحيات من بعض رفقاء الرسول لأهل كولوسي ع ١٠ إلى ١٤
١٠ «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ أَرِسْتَرْخُسُ ٱلْمَأْسُورُ مَعِي، وَمَرْقُسُ ٱبْنُ أُخْتِ بَرْنَابَا، ٱلَّذِي أَخَذْتُمْ لأَجْلِهِ وَصَايَا. إِنْ أَتَى إِلَيْكُمْ فَٱقْبَلُوهُ».
أعمال ١٩: ٢٩ و٢٠: ٤ و٢٧: ٢ وفليمون ٢٤ أعمال ١٥: ٣٧ و٢تيموثاوس ٤: ١١
أَرِسْتَرْخُسُ هو أحد سكان تسالونيكي ذُكر أولاً أنه خُطف أمام المشهد في أفسس وكان في شديد الخطر يوم هيجان ديمتريوس (أعمال ١٩: ٢٩). ورافق بولس عندما رجع من مكدونية إلى أسيا وتوجه إلى رومية (أعمال ٢٠: ٤) وكان مع بولس في قيصرية بعد نهاية سجنه وسافر معه إلى رومية (أعمال ٢٧: ٨).
ٱلْمَأْسُورُ مَعِي لا ندري هل أُسر معه إضطراراً أو اختياراً.
مَرْقُسُ ابن أخت برنابا كاتب البشارة الثانية المعروفة باسمه. وسمي أيضاً يوحنا وهو اسمه اليهودي وأما مرقس فهو اسمه الروماني واسم أمه مريم وهي أخت برنابا كان بيتها في أورشليم محل اجتماع التلاميذ للصلاة وصلوا هنالك حين كان بطرس في السجن وأتى إليه حين أُطلق (أعمال ١٢: ١٢ و٢٥). أما هو فتركهما في برجة ورجع (أعمال ١٣: ٢٥). وأراد برنابا أن يأخذه معه في السفر الثاني للتبشير ولم يستحسن بولس ذلك لأنه تركهما في برجة في السفر الأول فاختلفا في أمره وانفصلا فأخذه برنابا معه إلى قبرس وكان ذلك قبل كتابة هذه الرسالة بثلاث عشرة سنة. والظاهر أن بولس رضي عنه وتحقق أمانته لأنه كان وقت كتابة هذه الرسالة شريك أتعابه في رومية (فليمون ٢٤). وكان مزمعاً أن يزور الكنائس في أسيا الصغرى بدليل ما في هذه الآية. وعرف أنه كان بعد هذا مع بطرس في بابل (١بطرس ٥: ١٣). وكان أيضاً مع تيموثاوس في أفسس حين كتب بولس إلى تيموثاوس ورغب الرسول في أن يأتي إليه بدليل قوله «خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ» (٢تيموثاوس ٤: ١١).
ٱلَّذِي أَخَذْتُمْ لأَجْلِهِ وَصَايَا قال ذلك بياناً أنه هو الذي أنبأهم به إما بالكتابة وإما بلسان مرسل ولا نعلم ما تلك الوصايا.
إِنْ أَتَى إِلَيْكُمْ فَٱقْبَلُوهُ يتضح من هذا أن مرقس كان على وشك أن يبارح رومية وأنه لم يكن مسجوناً وأنه كان متوقعاً أن يزور كنائس أسيا ومن جملتها كنيسة كولوسي وأراد بقوله «اقبلوه» أن يعتبروه أخاً في المسيح موثوقاً بأمانته.
١١ «وَيَسُوعُ ٱلْمَدْعُوُّ يُسْطُسَ، ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ. هٰؤُلاَءِ هُمْ وَحْدَهُمُ ٱلْعَامِلُونَ مَعِي لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِينَ صَارُوا لِي تَسْلِيَةً».
يَسُوعُ ٱلْمَدْعُوُّ يُسْطُسَ هذا الرجل لم يُذكر في غير هذا الموضع. ومعنى «يسطس» تقي وكان هذا اللقب شائعاً بين اليهود والدخلاء ولقب به برسابا (أعمال ١: ٢٣) ودخيل من كورنثوس (أعمال ١٨: ٧).
ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ وهم الأربعة المذكورون.
هٰؤُلاَءِ هُمْ وَحْدَهُمُ ٱلْعَامِلُونَ مَعِي معلوم أن يهود رومية كانوا أعداءه (أعمال ٢٨: ٢٣ - ٢٩). وفي قوله إشارة إلى أن أكثر متنصري اليهود في رومية تجنب بولس بتعليمه قبول المؤمنين من الأمم في الكنيسة من دون أن يتهودوا (فيلبي ١: ١٥ و٢: ٢٠).
١٢ «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ أَبَفْرَاسُ، ٱلَّذِي هُوَ مِنْكُمْ، عَبْدٌ لِلْمَسِيحِ، مُجَاهِدٌ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ بِٱلصَّلَوَاتِ، لِكَيْ تَثْبُتُوا كَامِلِينَ وَمُمْتَلِئِينَ فِي كُلِّ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ».
ص ١: ٧ وفليمون ٢٣ رومية ١٥: ٣٠ متّى ٥: ٤٨ و١كورنثوس ٢: ٦ و١٤: ٢٠ وفيلبي ٣: ١٥ وعبرانيين ٥: ١٤
أَبَفْرَاسُ (انظر تفسير ص ١: ٧).
عَبْدٌ لِلْمَسِيحِ تصح هذه النسبة لكل مؤمن لكن بولس لم ينسب ذلك إلا إلى نفسه واثنين من رفقائه وهما تيموثاوس (فيلبي ١: ١). وأبفراس. ونسبه يعقوب إلى نفسه وكذلك يهوذا والظاهر أنه دلّ بهذا إلى خدمة عظيمة خاصة.
مُجَاهِدٌ... بِٱلصَّلَوَاتِ هذا يشير إلى شوق شديد وحرارة شديدة في الصلوات والمواظبة عليها (رومية ١٥: ٣٠).
لِكَيْ تَثْبُتُوا كَامِلِينَ وَمُمْتَلِئِينَ فلا تفسد نفوسكم بتعليم الذين يمزجون حقائق الإنجيل بالفلسفة العالمية والتقاليد اليهودية فإن الغنوسيين ادعوا الكمال وملء القداسة بتعاليمهم. وقد أثبت الرسول بما مرّ أن الكمال بالمسيح (ص ٢: ١٠).
فِي كُلِّ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ كما فعل المسيح (يوحنا ٤: ٣٤ و٦: ٣٨) وكما يطلب من تلاميذه أن يفعلوا (متّى ٧: ٢١ انظر أيضاً عبرانيين ١٣: ٢١ و١يوحنا ٢: ١٧).
١٣ «فَإِنِّي أَشْهَدُ فِيهِ أَنَّ لَهُ غَيْرَةً كَثِيرَةً لأَجْلِكُمْ، وَلأَجْلِ ٱلَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ، وَٱلَّذِينَ فِي هِيَرَابُولِيسَ».
فَإِنِّي أَشْهَدُ فِيهِ قال ذلك بناء على ما عرفه من كلام أبفراس وما سمعه من صلواته. وذكر هذا تقوية لحبهم إياه وتعزية لهم بتحققهم أنه مواظب على الصلوات من أجلهم.
لَهُ غَيْرَةً كَثِيرَةً أي رغبة شديدة في إصلاحهم جسدياً وروحياً واهتمام عظيم بأن لا ينحرفوا عن منهج الحق.
لاَوُدِكِيَّةَ قصبة فريجية سماها بهذا الاسم أنطيوخس الاثني إكراماً لامرأته لاودوكية. انظر المقدمة صفحة ٦١.
هِيَرَابُولِيسَ مدينة في فريجية على أمد ستة أميال من كولوسي شمالاً كان فيها كثير من الهياكل الوثنية ولذلك سُميت بهذا الاسم لأن معناه «المدينة المقدسة» وأشهر هياكلها هيكل أبلون. واشتهرت بالحمامات الطبيعية الحارة وهي اليوم قرية صغيرة تُسمى «بمبوك قلعة سي». والمرجح أن الإنجيل دخل تلك المدن الثلاث كولوسي ولاودكية وهيرابوليس القريب بعضها من بعض بواسطة أبفراس الذي أرسله بولس إليها لتلك الخدمة. وكل من تلك المدن هدمته الزلزلة في أيام طيباريوس قيصر بعد كتابة هذه الرسالة بقليل.
١٤ «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ لُوقَا ٱلطَّبِيبُ ٱلْحَبِيبُ، وَدِيمَاسُ».
٢تيموثاوس ٤: ١١ وفليمون ٢٤
لُوقَا كاتب البشارة الثالثة وأعمال الرسل (انظر ترجمته في مقدمة بشارته).
ٱلطَّبِيبُ ٱلْحَبِيبُ لأنه كان يعالج جسده بالصناعة الطبية ويسند قلبه بصداقته. ولا بد أن صحة بولس كانت قد انحرفت لما قاساه من الأتعاب والمشقات والسجن فاحتاج إلى العلاج.
دِيمَاسُ ذُكر في رسالة فليمون (فليمون ٢٤) ولم يصفه الرسول بشيء من صفات المدح ولعله رأى فيه استعداداً للارتداد الذي حدث بعد ذلك وذُكر في (٢تيموثاوس ٤: ١٠).
توصية تتعلق بكنيسة لاودكية وتوصية لأرخبس ع ١٥ إلى ١٧
١٥ «سَلِّمُوا عَلَى ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ، وَعَلَى نِمْفَاسَ وَعَلَى ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي بَيْتِهِ».
رومية ١٦: ٥ و١كورنثوس ١٦: ١٩
ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ أي أفراد المؤمنين الذين دعاهم كنيسة اللاودكيين في الآية التالية وسألهم أن يسلموا عليهم لقربهم منهم.
نِمْفَاسَ لا نعلم من أمره سوى ما ذُكر هنا فإنه يُعلم منه أنه أحد الإخوة وأن الاجتماع للعبادة كان في بيته. ولنا من ذلك أنه كان من عمدة الكنيسة وأنه من أهل السعة.
وَعَلَى ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي بَيْتِهِ (انظر تفسير رومية ١٦: ٥). يتضح من هذا أن كثيرين من الإخوة كانوا يجتمعون للعبادة في بيته فاستحسن بولس أن يرسل إليهم سلاماً خاصاً. كون المسيحيين في العصور الأولى قليلين ومضطهدين منهم من تشييد المعابد فاضطروا أن يعبدوا الله في بعض بيوت السكن ولا ذكر لبنائهم كنائس خاصة قبل القرن الثالث.
١٦ «وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هٰذِهِ ٱلرِّسَالَةُ فَٱجْعَلُوهَا تُقْرَأُ أَيْضاً فِي كَنِيسَةِ ٱللاَّوُدِكِيِّينَ، وَٱلَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَا أَنْتُمْ أَيْضاً».
١تسالونيكي ٥: ٢٧
مَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هٰذِهِ ٱلرِّسَالَةُ التي كان بولس يكتبها حينئذ. والمرجّح أنه قصد أن تقرأ جهاراً على العادة المذكورة في (أعمال ١٥: ٢١ و٢كورنثوس ٣: ١٥ و١تسالونيكي ٦: ٢٨).
فَٱجْعَلُوهَا تُقْرَأُ أَيْضاً فِي كَنِيسَةِ ٱللاَّوُدِكِيِّينَ لعله أوصاهم بذلك رغبة في نفع اللاودكيين بها ورهبة من أن يخفيها بعض الإخوة في كولوسي معاندة لبولس.
وَٱلَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ الخ لا توجد رسالة قانونية إلى لاودكية وقد أجمع المفسرون على أن الرسالة المشار إليها هنا هي الرسالة إلى أفسس لأنهم اعتبروها رسالة إلى كل الكنائس المجاورة لأفسس لا إلى كنيسة أفسس وحدها. وأن تيخيكس حمل نسخة منها إلى لاودكية وهو مار بها في طريقه إلى كولوسي. وذكر بعض الكتبة في القرن السادس أنه ظهرت رسالة إلى اللاودكيين لكن ليس فيها شيء يدل على أنها قانونية وهي لم تزل معروفة اليوم وفيها أقوال مختارة من رسائل بولس ولا زيادة على ذلك. وحكم المجمع النيقوي بأنها مزورة وحذّر الكنائس من قبولها قانونية.
١٧ «وَقُولُوا لأَرْخِبُّسَ: ٱنْظُرْ إِلَى ٱلْخِدْمَةِ ٱلَّتِي قَبِلْتَهَا فِي ٱلرَّبِّ لِكَيْ تُتَمِّمَهَا».
فليمون ٢ و١تيموثاوس ٤: ٦
أَرْخِبُّسَ دعاه بولس في رسالته إلى فليمون «المتجند معنا» (فليمون ٢٠). ولم يُذكر إلا هنا وهناك والمظنون أنه ابن فليمون وأن أبفية أمه لأن الثلاثة ذُكروا معاً في رسالة فليمون التي هي رقيم خاص. وكان قد تولى خدمة في الرب ولم نعلم أراعياً كان أم مبشراً أم شيخاً أم شماساً. استحسن بولس أن يرسل توصية خاصة به ويحثه على القيام بما يجب عليه بالأمانة تعزية وتقوية له وهو عرضة للتجارب. وأراد أن هذه التوصية تصدقها الكنيسة لتزيدها سلطاناً أو لكونه كان يومئذ غائباً من كولوسي خادماً لكنيسة في لاودكية أو هيرابوليس ولعل أرخبس أخذ على نفسه القيام بعمل أبفراس مدة إقامة أبفراس في رومية.
الوداع ع ١٨
١٨ «اَلسَّلاَمُ بِيَدِي أَنَا بُولُسَ. اُذْكُرُوا وُثُقِي. اَلنِّعْمَةُ مَعَكُمْ. آمِينَ».
١كورنثوس ١٦: ٢١ و٢تسالونيكي ٣: ١٧ عبرانيين ١٣: ٣ عبرانيين ١٣: ٢٥
اَلسَّلاَمُ بِيَدِي أَنَا بُولُسَ أتى بمثل هذا في خاتمة الرسالة الثانية إلى تسالونيكي إلا أنه زاد عليه قوله «ٱلَّذِي هُوَ عَلاَمَةٌ فِي كُلِّ رِسَالَةٍ. هٰكَذَا أَنَا أَكْتُبُ» (٢تسالونيكي ٣: ١٧ انظر أيضاً ١كورنثوس ١٦: ٢١ و٢كورنثوس ١٣: ١٥ وغلاطية ٦: ١١). وغايته بذلك تثبيت صحة الرسالة لأنه أملاها على غيره فكتبها.
اُذْكُرُوا وُثُقِي العلاقة بين هذه العبارة والتي قبلها واضحة لأن يده اليمنى التي يكتب بها كانت مربوطة بيد عسكري روماني فعسر عليه أن يكتب بها فاقتصر على كتابة السلام وكانت كتابته تدل على أنه هو كاتبها لعدم إحكامها بما ذكر. والمعنى أنكم متى رأيتم خطي فاذكروا أني موثوق من أجلكم والتفتوا إلى كلامي من نصائح وتحذير وصلوا من أجلي. وهذا مثل قوله «أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ ٱلَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ» (أفسس ٣: ١٣). وقوله «أَخِيراً يَا إِخْوَتِي تَقَوَّوْا فِي ٱلرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ» (أفسس ٦: ١٠). وقوله «حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي ٱلأَمَاكِنِ أَجْمَعَ الخ» (فيلبي ١: ١٣ و١٤). وقوله «وَإِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ» (فيلبي ٢: ١٧).
اَلنِّعْمَةُ مَعَكُمْ أي نعمة الله في المسيح وهي تتكفل لهم بكل ما يحتاجون إليه.
Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D-70007
Stuttgart
Germany