الأصحاح الخامس عشر
مباحثة في أنه هل يجب على مؤمني الأمم حفظ الرسوم الموسوية ع ١ إلى ٣٥
١ «وَٱنْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ ٱلإِخْوَةَ أَنَّهُ: إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى، لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا».
غلاطية ٢: ١٢ يوحنا ٧: ٢٢ وع ٥ وغلاطية ٥: ٢ وفيلبي ٣: ٢ وكولوسي ٢: ٨ و١١ و١٦ تكوين ١٧: ١٠ ولاويين ١٢: ٣
وَٱنْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ هذه الآية متعلقة بالآية الثامنة والعشرين من (ص ١٤) والمعنى أنه في أثناء إقامة بولس وبرنابا في أنطاكية للتبشير انحدر القوم. والظاهر بما أنبأ به بطرس من رؤياه في يافا وحلول الروح القدس على كرنيليوس وأصدقائه في قيصرية مما دل على جواز دخول مؤمني الأمم الكنيسة المسيحية بدون أن يتهودوا أولاً ويخضعوا لكل الرسوم الموسوية. وأنه حملت بعضهم الغيرة للشريعة الموسوية على النزول إلى أنطاكية ليجذبوا الإخوة فيهم إلى رأيهم وهو أن يوجبوا على المؤمنين من الأمم حفظ ناموس موسى.
يُعَلِّمُونَ في هذا تلميح إلى دعواهم أنهم أُرسلوا نواباً عن الكنيسة في أورشليم لأنها إذ كانت أم الكنائس اعتنت بطهارة سائر الكنائس في العقائد والأعمال.
ٱلإِخْوَةَ كان أكثر هؤلاء الإخوة من متنصري الأمم.
أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا ما ذُكر في هذه الآية خلاصة تعليمهم لا قولهم بلفظه. وكنوا بالختان هنا عن كل الرسوم الموسوية كما كُني بالصليب عن الإنجيل كله (١كورنثوس ١: ١٨ وغلاطية ٦: ١٢ و١٤ وفيلبي ٣: ١٨).
لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا ما اكتفوا أن يعتبروهم غير أهل للشركة معهم في الكنيسة المنظورة حتى حكموا بأنهم لا شركة لهم مع المخلصين في السماء. فيكون تعليمهم أن الإيمان بالمسيح لا يخلصهم ما لم يختتنوا ويحفظوا سائر ناموس موسى. وهذا المبدأ الأعظم عند الفرقة الأبيونية التي اشتهرت في القرون المسيحية الأولى.
٢ «فَلَمَّا حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ وَمُبَاحَثَةٌ لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ مَعَهُمْ، رَتَّبُوا أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى ٱلرُّسُلِ وَٱلْمَشَايِخِ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ أَجْلِ هٰذِهِ ٱلْمَسْأَلَةِ».
غلاطية ٢: ١ و٣
فَلَمَّا حين نتج عن ذلك التعليم الفاسد ما ذُكر بعد.
حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ لأنهما اعتقدا غير اعتقادهم وحكما بأن تعليمهم ضار لراحة الكنيسة وتقدمها ومضاد لروح الإنجيل. ولعل بعض الإخوة اقتنع بما قالوا وتحزّب لهم وقلقت ضمائر كثيرين من متنصري الأمم الذين دخلوا الكنيسة بلا ختان.
رَتَّبُوا لم يذكر الكاتب من هم الذين رتبوا والأرجح أنهم الحزبان.
أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا باعبتار كونهما من «الأنبياء والمعلمين» وأنهما رسولا الأمم اللذين نظما مؤمني الأمم كنائس بلا التفات إلى مبادئ أولئك المعلمين الذين انحدروا من اليهودية (ص ١٤: ٢٣) فاضطرا أن يفندا مبادئهم الفاسدة دفعاً عن أنفسهما وعن الحق وعن الحرية المسيحية. وذهب أكثر المفسرين أن صعود بولس إلى أورشليم وقتئذ هو الصعود الذي ذكره في (غلاطية ٢: ١ - ٩) وقوله في هذه الرسالة أنه صعد بموجب إعلان لا ينافي ما قيل هنا من أنه صعد بأمر كنيسة أنطاكية فيحتمل أنه بالإعلان وبأمر الكنيسة معاً كما قيل أن الروح أرسله وبرنابا للتبشير وأن الكنيسة أرسلتهما أيضاً.
وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ أي من أعضاء الكنيسة ولعل تيطس كان من جملتهم (غلاطية ٢: ١).
إِلَى ٱلرُّسُلِ الذين اتخذوا أورشليم مركزاً يذهبون منه إلى التبشير ويرجعون إليه كما اتخذ بولس وبرنابا أنطاكية مركزاً كذلك.
وَٱلْمَشَايِخِ هذه ترجمة اللفظة اليونانية التي تُرجمت في (ص ١٣: ٢٣) بالقسوس والظاهر أن المسيحيين في ذلك العصر لم يعتقدوا أن أحداً من الرسل كان رأس الكنيسة وأنه معصوم من الغلط حتى يسألوه دون غيره.
مِنْ أَجْلِ هٰذِهِ ٱلْمَسْأَلَةِ أي مسئلة حفظ متنصري الأمم ناموس موسى. وعلة رفعها إلى كنيسة أورشليم ثلاثة أمور:
- الأول: أن كنيسة أنطاكية لم تكن قادرة على أن تحكم بشيء من تلك المسئلة حكماً جازماً يقنع الجميع به وأنها رأت إطالة الجدال فيها ضارة.
- الثاني: أن كنيسة أورشليم أم الكنائس المسيحية واعتاد اليهود منذ القديم أن يرفعوا كل المسائل الدينية إلى أورشليم كأنها مصدر السلطان الديني وبقوا على ذلك بعد أن تنصروا واقتدى بهم الأمم.
- الثالث: أنه كان فيها الرسل وهم أرباب الاختبار ومن شاهدوا المسيح نفسه وتعلموا منه شفاهاً.
٣ «فَهٰؤُلاَءِ بَعْدَ مَا شَيَّعَتْهُمُ ٱلْكَنِيسَةُ ٱجْتَازُوا فِي فِينِيقِيَّةَ وَٱلسَّامِرَةِ يُخْبِرُونَهُمْ بِرُجُوعِ ٱلأُمَمِ، وَكَانُوا يُسَبِّبُونَ سُرُوراً عَظِيماً لِجَمِيعِ ٱلإِخْوَةِ».
رومية ١٥: ٢٤ و١كورنثوس ١٦: ٦ و١١ ص ١٤: ٢٧
شَيَّعَتْهُمُ ٱلْكَنِيسَةُ إظهاراً للمودة والإكرام. ونُسب التشييع إلى الكنيسة لأن الذين خرجوا معهم للوداع كانوا نواباً عن الكنيسة كلها. وهذا يدل على أن الكنيسة كانت راضية آراء بولس وبرنابا لا آراء المعلمين الذين انحدروا من اليهودية.
فِينِيقِيَّةَ (انظر شرح ص ١١: ١٩).
ٱلسَّامِرَةِ (انظر شرح ص ٨: ٥).
بِرُجُوعِ ٱلأُمَمِ من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الحي الحقيقي.
لِجَمِيعِ ٱلإِخْوَةِ لأن الإخوة الذين في فينيقية والسامرة لم يكونوا متعصبين في ناموس موسى كالمسيحيين في اليهودية فلم يكن من مانع لسرورهم بما يوجب الفرح والشكر.
٤ «وَلَمَّا حَضَرُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَتْهُمُ ٱلْكَنِيسَةُ وَٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِكُلِّ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مَعَهُمْ».
ص ١٤: ٢٧ وع ١٢: وص ٢١: ١٩
قَبِلَتْهُمُ أي رحبت بهم.
بِكُلِّ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مَعَهُمْ معظم الأخبار لبولس وبرنابا فإنهما قصا عليهم حوادث سفرهما إلى قبرس ثم إلى آسيا الصغرى ذاكرين مقاومة اليهود لهما وخصوصاً قبول الأمم للإنجيل. ولا ريب في أنهما ذكرا أنهما عمّداهم وقبلاهم في شركة الكنيسة بدون أن يجبراهم على حفظ الناموس. وهذا الاجتماع كان قبل التئام المجمع فكان مقدمة له.
٥ «وَلٰكِنْ قَامَ أُنَاسٌ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا مِنْ مَذْهَبِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا، وَيُوصَوْا بِأَنْ يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى».
ع ١
ما في هذه الآية كلام لوقا كاتب هذا السفر لا جزء من خبر بولس وبرنابا.
قَامَ أُنَاسٌ للخطاب بعدما فرغ بولس وبرنابا من حديثهما وهؤلاء أتوا قصد أن يعترضوا على الرسولين.
مِنْ مَذْهَبِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ امتاز هذا المذهب بين اليهود بشدة تمسك أربابه برسوم الشريعة الموسوية فبقي المتنصرون من أهله شديدي التمسك بتلك الرسوم وكان بولس أصلاً منهم لكنه آمن بأن يسوع مسيح العالم ومخلصه أما هم فآمنوا بأنه مسيح اليهود ومخلصهم فقط.
يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا ذكروا الختان قبل غيره من رسوم الناموس لأنه كان عندهم أهمها.
يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى هذا تفسير لقولهم «ينبغي» وبيان لوجوب الختان وغيره من الرسوم الناموسية.
٦ «فَٱجْتَمَعَ ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ لِيَنْظُرُوا فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ».
لم يحكم الرسل بهذه المسئلة وحدهم بل دعوا المشائخ للنظر فيها ولعلهم دعوا بعض مشائخ الكنائس المجاورة لأورشليم لأهمية الأمر لنجاح الكنيسة وراحتها في المستقبل. وهذا هو المجمع الأول في الكنيسة المسيحية حضره أكثر رؤساء النصرانية في ذلك الوقت وهذه المسئلة ليست أقل أهمية من غيرها في المسائل الثلاث العظمى التي شغلت أفكار الكنيسة منذ تأسيسها وهي أولها وكانت سنة ٥٠ ب. م. والثاني مسئلة تأسيسها وهي للأقانيم الثلاثة جوهراً واحداً وأنهم متساوون في القدرة والمجد وكانت هذه هي القرن الرابع. والثالثة مسئلة التبرير بالإيمان وكانت في القرن السادس عشر. ومما يحقق أهمية المسألة الأولة أنه يتوقف عليها أن تكون الكنيسة المسيحية فرعاً من الكنيسة اليهودية محصورة في دائرتها الصغيرة أو أن تكون كنيسة جامعة تفتح أبوابها لكل بشر الأرض.
٧ «فَبَعْدَ مَا حَصَلَتْ مُبَاحَثَةٌ كَثِيرَةٌ قَامَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْذُ أَيَّامٍ قَدِيمَةٍ ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ بَيْنَنَا أَنَّهُ بِفَمِي يَسْمَعُ ٱلأُمَمُ كَلِمَةَ ٱلإِنْجِيلِ وَيُؤْمِنُونَ».
ص ١٠: ٢٠ و١١: ١٢
مُبَاحَثَةٌ كَثِيرَةٌ بين الحزبين اليهودي العتيق الذي كان يريد أن يضع نير الرسوم الموسوية على أعناق المؤمنين واليوناني الجديد الراغب في الحرية. وكان موضوع المباحثة نسبة الناموس الرمزي إلى الإنجيل ونسبة موسى إلى المسيح. ولم يبيّن الكاتب من هم المتباحثون ولا ماذا كان كلامهم لكنه اقتصر على ذكر الكلام الختامي.
قَامَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَه لم يستطع بطرس أن ينسى الرؤيا في يافا واختباره في قيصرية حيث سكب الله روحه على كرنيليوس وأصدقائه ودفعه حينئذ عن نفسه أمام كنيسة أورشليم حين شكاه أهل الختان لمخالطته أناساً من الأمم وإدخاله إياهم الكنيسة المسيحية (ص ١١: ٢). ولا ريب في أنه كان لكلامه في المجمع تأثير عظيم لأنه من فائقي الرسل وأكبرهم سناً.
أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْذُ أَيَّامٍ قَدِيمَةٍ أشار بذلك إلى قصة كرنيليوس الذي هو أدخله الكنيسة بلا ختان ولا غيره من الرسوم الموسوية قبل هذه المباحثة بنحو عشر سنين.
ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ (انظر متّى ١٦: ١٨ وأعمال ص ١٠).
بَيْنَنَا أي نحن الرسل وسائر المؤمنين.
بِفَمِي أي بوعظي. كانت الشكوى على بولس وبرنابا أنهما أتيا أمراً جديداً في الدين حسبوه تعديّاً لحقوق اليهود لكن بطرس الذي هو رسول الختان سبقهما إلى ذلك منذ عدة سنين إذ وعظ أناساً من الأمم وقبلهم في الكنيسة.
٨ «وَٱللّٰهُ ٱلْعَارِفُ ٱلْقُلُوبَ شَهِدَ لَهُمْ مُعْطِياً لَهُمُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ كَمَا لَنَا أَيْضاً».
١أيام ٢٨: ٩ وص ١: ٢٤ ص ١٠: ٤٤
ٱللّٰهُ أي أن بطرس لم يأت ما ذُكر من تلقاء نفسه إنما الله هو الذي أمره بما فعل. فاحتجاجه هنا كاحتجاجه في (ص ١١: ٧).
ٱلْعَارِفُ ٱلْقُلُوبَ مرّ هذا النعت في (ص ١: ٢٤) ولأنه تعالى عارف القلوب لا يمكن أن يخفى عليه مؤمنون بالحق شهُد لهم أم لم يُشهد.
شَهِدَ لَهُمْ الخ أي لمؤمني الأمم بسكب روحه عليهم كما سكبه يوم الخمسين علينا نحن مؤمني اليهود (ص ١٠: ٤٥ و٤٦).
٩ «وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ، إِذْ طَهَّرَ بِٱلإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ».
رومية ١٠: ١١ الخ ص ١٠: ١٥ و٢٨ و٤٣ و١كورنثوس ١: ٢٢ و١بطرس ١: ٢٢
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ نحن اليهود أهل الختان المؤمنين بيسوع والوثنيين أهل الغرلة المؤمنين به. إن الله أعلن للفريقين معجزة واحدة (أي حلول الروح القدس) وتأثيراً قلبياً واحداً.
إِذْ طَهَّرَ بِٱلإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ أشار بهذا إلى قوله تعالى في الرؤيا «مَا طَهَّرَهُ ٱللّٰهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ» (ص ١٠: ١٥). إن اليهود حسبوا الأمم نجسين لأنهم غلف وإنهم يطهرون بالختان. ولكن بطرس قال هنا إن الله طهرهم بالإيمان ختان القلب الحقيقي. والبرهان على ذلك أنه تعالى سكب الروح القدس على المؤمنين من الأمم وهم غير مختونين كما سكب على المؤمنين من اليهود. وقوله هنا «طهر بالإيمان» موافق لقول المسيح «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا ١٧: ١٧). لأن كرنيليوس وأصدقاءه آمنوا بإنجيل المسيح الذي يقدس به الروح قلوب المؤمنين.
١٠ «فَٱلآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللّٰهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟».
متّى ٢٣: ٤ وغلاطية ٥: ١
فَٱلآنَ أي وإذا كان الأمر كما ذُكر.
تُجَرِّبُونَ ٱللّٰهَ أي صبره وطول أناته بطلب براهين أُخر على ما أوضحه أحسن إيضاح لأن الله قد صرّح بأن الإيمان هو الشرط الوحيد لدخول الكنيسة فمن يطلب زيادة برهان على ذلك أو شروطاً أُخر فوق الشرط الذي وضعه الله فهو يجربه تعالى.
نِيرٍ أي رسوم الشريعة الموسوية. ولعله قصد أيضاً بهذا النير كل الناموس الذي ظن الناس أنهم يحصلون على البر بحفظه (غلاطية ٥: ١).
لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا الخ هذا إقرار بضعف البشر لا شكوى على الناموس نفسه ولا على الله واضعه. والمعنى أنه إذا كان هذا اختبار آبائنا واختبارنا لذلك النير وجب أن لا نضعه على الأمم أو نوجب عليهم حمله.
١١ «لٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضاً».
رومية ٣: ٢٤ وأفسس ٢: ٨ وتيطس ٢: ١١ و٣: ٤ و٥
الكلمة ذات الشأن في هذه الآية هي «النعمة» وهي مقابلة الناموس. فالنعمة هي رجاؤنا الخلاص لا أعمال الناموس. نعم نمارس تلك الأعمال لكنا لا نخلص بها فإذا مارسها الأمم لا يخلصون بها إنما يخلصون بالنعمة فلماذا نوجب عليهم ما لا يجديهم نفعاً (رومية ٨: ١ وغلاطية ٢: ١٦). وتعليم الخلاص بالنعمة وهو محور كل تعاليم الإنجيل ففيه الرجاء الوحيد للخطأة الهالكين فليس في الصالحين من يغنيه صلاحه عن النعمة وليس في الأشرار من يمنعه شره منها. وخلاصة خطاب بطرس ثلاثة أمور:
- الأول: إن الله قضى بتلك المسئلة منذ سنين فإباءة قضائه الآن تجربة له تعالى.
- الثاني: إن شريعة موسى نير بدليل اختبار السلف للخلاص.
- الثالث: إن نعمة الرب يسوع وحدها كافية للخلاص. وهذا آخر ما ذُكر في هذا السفر من أمور بطرس.
نُؤْمِنُ أي مؤمنو اليهود.
أُولَئِكَ أي مؤمنو الأمم.
١٢ «فَسَكَتَ ٱلْجُمْهُورُ كُلُّهُ. وَكَانُوا يَسْمَعُونَ بَرْنَابَا وَبُولُسَ يُحَدِّثَانِ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلآيَاتِ وَٱلْعَجَائِبِ فِي ٱلأُمَمِ بِوَاسِطَتِهِمْ».
ص ١٤: ٢٧
فَسَكَتَ عن الجدال وكان هذا من تأثير كلام بطرس ومنه أنه صار لبولس وبرنابا فرصة للتكلم وإصغاء من القوم إليهم ولم يكن لكلامه سلطان إنفاذ الحكم في المسئلة.
ٱلْجُمْهُورُ كُلُّهُ نستنتج من هذا أنه كان في المجمع كثيرون من أعضاء الكنيسة غير الرسل والمشائخ كما يظهر أيضاً من (ع ٢٢).
مِنَ ٱلآيَاتِ وَٱلْعَجَائِبِ فِي ٱلأُمَمِ أخبرا قبلاً الكنيسة بمناداتهما الأمم بالإنجيل وتأثيرهما وأخبراها هنا بالآيات والعجائب التي أجراها الله على أيديهما برهاناً على أنه تعالى هو الذي أرسلهما ليبشرا الأمم وأنه رضي تعميدهما الأمم ونظمهما إياهم كنائس بلا خضوع لناموس موسى وإثباتاً لما قاله بطرس في (ع ٨).
١٣ «وَبَعْدَمَا سَكَتَا قَالَ يَعْقُوبُ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، ٱسْمَعُونِي».
ع ١٢: ١٧
قَالَ يَعْقُوبُ كان كلامه بمنزلة الجواب لما سبق من كلام بطرس وبولس وبرنابا وللمسئلة التي اجتمعوا للنظر فيها. وكان جوابه قاطعاً لكل قول في تلك المسئلة.
ويعقوب المذكور هنا هو أخو الرب (انظر غلاطية ١: ١٩ و٢: ٩) وهو كاتب الرسالة المشهورة واعتقد أكثرهم أنه كان رئيس هذا المجمع. ظن بعضهم أنه ليس من الرسل وأنه لم يؤمن بالمسيح قبل صلبه (يوحنا ٧: ٥) لكنه اقتنع من ظهور المسيح له بعد قيامته (١كورنثوس ١٥: ٧). وظن آخرون أنه يعقوب بن حلفي وأنه ابن خالة المسيح وسُمي أخاه في اصطلاح اليهود (تكوين ١٤: ١٦ و٢٩: ١٢ و١٥) والأرجح أنه أقام بأورشليم أكثر من سائر الرسل واعتنى بكنيستها اعتناء خاصاً بمنزلة راع لها (ص ١٢: ١٧ و٢١: ١٨ و١كورنثوس ١٥: ٧ وغلاطية ١: ١٩ و٢: ٩ و١٢).
١٤، ١٥ «١٤ سِمْعَانُ قَدْ أَخْبَرَ كَيْفَ ٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ أَوَّلاً ٱلأُمَمَ لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْباً عَلَى ٱسْمِهِ. ١٥ وَهٰذَا تُوافِقُهُ أَقْوَالُ ٱلأَنْبِيَاءِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ».
ع ٧ عاموس ٩: ١١ و١٢
سِمْعَانُ أي بطرس (متّى ١٠: ٢ و٢بطرس ١: ١).
ٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ أَوَّلاً ٱلأُمَمَ أي قبل أن أخذ بولس وبرنابا يبشرانهم. فإذاً الله حكم في المسئلة لا هما وأجاز ما فعله بطرس وما فعلاه هما.
لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْباً كما أخذ أمة اليهود قديماً.
عَلَى ٱسْمِهِ أي له ومنسوباً إليه ومتكلاً عليه ويتضمن ذلك أن يكون لمجده وإكرامه كما كان الإسرائيليون قبلاً.
أَقْوَالُ ٱلأَنْبِيَاءِ أخذ يعقوب هنا يبرهن أن ما فعل الله بواسطة بولس وبرنابا من قبول الأمم يوافق كلامه للأنبياء وعلى ذلك تكون «الآيات والعجائب» التي ظهرت عند إيمان كرنيليوس وقبوله في الكنيسة والتي اقترنت بتبشير بولس وبرنابا للأمم ليست إلا ختم الله لما أنبأ به بالأنبياء منذ قرون كثيرة.
الطريق التي اتخذها يعقوب لتصديق ما فعله الرسولان يجب أن تكون طريق كل مسيحي في كل عصر وهو أن يقابل كل أمر ديني بأقوال الله فإن وافقها سلم به وإلا وجب رفضه.
١٦ «سَأَرْجِعُ بَعْدَ هٰذَا وَأَبْنِي أَيْضاً خَيْمَةَ دَاوُدَ ٱلسَّاقِطَةَ، وَأَبْنِي أَيْضاً رَدْمَهَا وَأُقِيمُهَا ثَانِيَةً».
اقتصر يعقوب على قول واحد من أقوال الأنبياء مثالاً لسائرها وهذا القول من نبوءة عاموس (عاموس ٩: ١١ و١٢) على ما في ترجمة السبعين التي اعتاد اليهود استعمالها. وهو إنباء بدعوة الأمم إلى الشركة في فوائد مجيء المسيح بدون ذكر الختان أو غيره من الرسوم الموسوية شرطاً ضرورياً لذلك.
سَأَرْجِعُ بَعْدَ هٰذَا أي أنه تعالى يرجع بنعمه وبركاته بعد حدوث المشقات والضيقات المذكورة في (عاموس ٩: ٨ - ١٠).
وَأَبْنِي أَيْضاً خَيْمَةَ دَاوُدَ ٱلسَّاقِطَةَ صرّح الله هنا بأن الكنيسة اليهودية قد سقطت وأنه قصد أن يبنيها جديداً على أطلالها القديمة. ويتضمن هذا الوعد مسرته بشعبه وتمتع الشعب بكل ما سبق من بركاته الروحية وهو أنباء بمجيء المسيح ابن داود وإنشاء مملكة روحية هي الكنيسة المسيحية التي كنيسة اليهود لم تكن إلا استعدادية لها.
١٧ «لِكَيْ يَطْلُبَ ٱلْبَاقُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلرَّبَّ، وَجَمِيعُ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ دُعِيَ ٱسْمِي عَلَيْهِمْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ ٱلصَّانِعُ هٰذَا كُلَّهُ».
ٱلْبَاقُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ أي الذين خارج الكنيسة اليهودية. فالذي فهمه مترجمو السبعينية هو ما فهمه يعقوب وهو أن الله قصد الأمم بما قاله هنا. وهو مفاد الأصل العبراني إلا أنه ذكر أدوم زيادة على ذلك بناء على أن الآدوميين كانوا أعداء للإسرائيليين منذ أول عهدهم ولكنهم مع ذلك لا يخرجون عن دائرة الوعد. فإذاً وعده تعالى أن يبني خيمة داود بالمسيح يتضمن أن الأمم تشارك اليهود في فوائد هذا البناء. وعلامة إنجاز هذا الوعد أنهم يطلبون ذلك بالرغبة كما يفيد قوله في أول هذه الآية «لكي يطلب الخ».
ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ دُعِيَ ٱسْمِي عَلَيْهِمْ كما دُعي على الإسرائيليين قبلاً والمعنى أن الله يجعلهم شعبه. وخلاصة ما اقتبسه يعقوب من نبوءة عاموس أن إقامة خيمة داود الروحية الحقة تتضمن قبول كل مؤمن من نسل آدم من اليهود والأمم في كنيسة المسيح بلا أدنى تلميح إلى وجوب حفظ الرسوم الموسوية.
ٱلرَّبُّ ٱلصَّانِعُ هٰذَا كُلَّهُ الذي ينجز ما وعد لا محالة.
١٨ «مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ».
جَمِيعُ أَعْمَالِهِ أي كل ما يتعلق بإقامة خيمة داود الساقطة ودعوة الأمم. وذلك إنشاء ملكوت روحي يشتمل على اليهود والأمم سواء بدون حفظ الرسوم الموسوية بشرط الإيمان فقط. وهذا مما قصده الله الذي لا يمكن أن يتغيّر وقال يعقوب هذا دفعاً لقول المتهمين بأن قبول الأمم في الكنيسة المسيحية بدعة في الدين. ويلزم من كلام يعقوب حظر مقاومة ما قضى الله به فإنهم إن منعوا الأمم عن الخلاص لعدم اختتانهم قاوموا الله.
١٩ «لِذٰلِكَ أَنَا أَرَى أَنْ لاَ يُثَقَّلَ عَلَى ٱلرَّاجِعِينَ إِلَى ٱللّٰهِ مِنَ ٱلأُمَمِ».
ع ٢٨ ١تسالونيكي ١: ٩
لِذٰلِكَ أي بناء على ما أعلنه الله وشهد به الأنبياء.
أَنَا أَرَى كواحد من المجمع لا كحاكم حكماً فاصلاً. لكن المجمع اقتنع بما قاله هو وما قاله غيره قبله فإنه لم يعترض بعد كلامه أحد أو يتكلم شيئاً وهو عرض على المجمع الرقيم الذي رضيه كلهم (ص ١٦: ٤).
لاَ يُثَقَّلَ بإجبارهم على حفظ الرسوم الموسوية كأنه شرط ضروري للخلاص علاوة على الإيمان.
عَلَى ٱلرَّاجِعِينَ إِلَى ٱللّٰهِ الخ من الآلهة الباطلة إلى الله الحق.
٢٠ «بَلْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ نَجَاسَاتِ ٱلأَصْنَامِ، وَٱلزِّنَا، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلدَّمِ».
تكوين ٤٦: ٢ وخروج ٢٠: ٣ و٢٣ وحزقيال ٢٠: ٣٠ و١كورنثوس ٨: ١ و١٠: ٢٠ و٢٩ ورؤيا ٢: ١٤ و٢٠ و١كورنثوس ٦: ٧ و١٨ وغلاطية ٥: ١٩ وأفسس ٥: ٣ وكولوسي ٣: ٥ و١تسالونيكي ٤: ٣ و١بطرس ٤: ٣ تكوين ٩: ٤ ولاويين ٣: ١٧ و١٧: ١٣ و١٤ وتثنية ١٢: ١٦ و٢٣ و٢٤
بَلْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ ارتأى يعقوب أنهم يكتبون إلى مؤمني الأمم أن يمتنعوا عن أربعة أمور اثنان منها من متعلقات الدين الوثني الذي تركوه. والمقصود من النهي عنهما نفعهم وهو أن يتخلصوا من كل تجارب سيرتهم الأولى ولكي لا يكونوا عثرة لغيرهم. واثنان من متعلقات الشريعة الموسوية والمقصود بالنهي عنهما توقي أن يُعثروا إخوتهم من مؤمني اليهود.
نَجَاسَاتِ ٱلأَصْنَامِ أي مشاركة الوثنيين في ولائمهم الهيكلية والبيتية وحيث يكون اللحم الذي يأكلونه مما ذُبح للأوثان إكراماً وعبادة لها. ولعله قصد أيضاً أن يمتنعوا من أكل ما بقي من ذلك اللحم وبيع في الأسواق. وهو ما قال فيه بولس أن ليس أكله محرماً بنفسه لكنه أوجب اعتزاله حذراً من إعثار الإخوة من مؤمني اليهود الذين حسبوه نجساً ومنجساً (١كورنثوس ١: ١٩ - ٣٣).
وَٱلزِّنَا عجب بعضهم من ذكر الزنا مع بعض الرسوم والأرجح أن عطف الزنا على نجاسات الأمم منعطف المسبب على السبب. والمعنى أن مشاركتهم الأمم في الأول سبب لمشاركتهم إياهم في الثاني أو عرضة لها لأن عبادة الأوثان كثيراً ما تقترن بتلك الرذيلة. لأن الهياكل كثيراً ما كانت بمنزلة المزاني وكاهناتها زانيات فلم يستطع أحد أن يأتي ولائم الهياكل الوثنية بدون أن يتهم بالزنا. والوثنيون القدماء لم يحسبوا ذلك خطيئة البتة لأن ديانتهم أحلّته لهم. فكان على مؤمني الأمم أن يظهروا مقتهم لذلك الإثم الفظيع قولاً وفعلاً.
وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلدَّمِ المخنوق المقتول بلا سفك دم. أراد يعقوب أن يمتنع مؤمنو الأمم عن هذين الأمرين لأنهما من المحرمات عند اليهود إذ نهى عنهما (تكوين ٩: ٤ و٥ ولاويين ٣: ١٧ و٧: ٢٦ وتثنية ١٢: ١٦). فلم يكن في وسع مؤمني الأمم أن يأكلوهما بدون أن يعثروا إخوتهم من مؤمني اليهود فيحصل من ذلك الخصام والتشويش.
وهذه النصائح الأربع اقتضتها أحوال المسيحيين في ذلك الزمان فلم تكن واجبة إلا مع دوام الموجب لحفظها. نعم وجوب حفظ الثاني دائم ولكن لما انتشرت الديانة المسيحية بين الأمم وهنت الوثنية وهُجرت هياكل الأوثان وانتهت نجاساتها. ولما انتشرت بين اليهود رأى المؤمنون منهم أن الذبيحة العظيمة قد قدمت وأنه لم يبق من حاجة إلى الرموز إليها والامتناع عما يحط شأن تلك الرموز.
٢١ «لأَنَّ مُوسَى مُنْذُ أَجْيَالٍ قَدِيمَةٍ لَهُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مَنْ يَكْرِزُ بِهِ، إِذْ يُقْرَأُ فِي ٱلْمَجَامِعِ كُلَّ سَبْتٍ».
ص ١٣: ١٥ و٢٧
لأَنَّ هذا إما تعليل للكتابة إلى الأمم دون اليهود (انظر ع ٢٣) إذ اليهود لا يحتاجون إليها لسمعهم مثلها في مجامعهم دائماً وأما احتراز من أن مؤمني الأمم يغيظون مؤمني اليهود أو يعثرونهم لأن مؤمني الأمم لم يكونوا منفصلين عن مؤمني اليهود الذين لم يفتأوا يسمعون شريعة موسى ويحفظونها بل كانوا يخالطونهم دائماً.
مُوسَى هذا دليل واضح على أن يعقوب اعتقد أن موسى هو كاتب أسفار الشريعة وأنه هو المشترع في أمور العبادة.
فِي كُلِّ مَدِينَةٍ كان لليهود مهاجر في كل المدن الكبيرة شرقي أورشليم وغربيها كمدن قبرس ومصر والمملكة الرومانية وفي أكثرها مجامع اليهود.
إِذْ يُقْرَأُ أي تُقرأ كتبه.
فِي ٱلْمَجَامِعِ سبق الكلام على المجامع في (ص ٦: ٩ ومتّى ٤: ٢٣) وكان دخول تلك المجامع مباحاً للمسيحيين والأمم فلا يصعب عليهم أن يعرفوا عقائد اليهود وأعمالهم فلا حجة لهم في ارتكاب ما يكدّر مؤمني اليهود أو يجرح ضمائرهم ويضع أمامهم حجر صدمة.
كُلَّ سَبْتٍ أي اليوم السابع الذي هو راحة مقدسة لليهود فإذا كانوا لا يسمعون كتب موسى المعيّن للعبادة عندهم.
٢٢ «حِينَئِذٍ رَأَى ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ مَعَ كُلِّ ٱلْكَنِيسَةِ أَنْ يَخْتَارُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَيُرْسِلُوهُمَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ مَعَ بُولُسَ وَبَرْنَابَا: يَهُوذَا ٱلْمُلَقَّبَ بَرْسَابَا، وَسِيلاَ، رَجُلَيْنِ مُتَقَدِّمَيْنِ فِي ٱلإِخْوَةِ».
ص ١: ٢٣
رَأَى أي حكم.
ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ مَعَ كُلِّ ٱلْكَنِيسَةِ وهم أعضاء المجمع لا الرسل فقط ولا الرسل والمشائخ دون سائر الكنيسة.
رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ أي من أعضاء كنيسة أورشليم التي هي أم الكنائس ولعل ذينك الرجلين كانا من مشائخ الكنيسة.
إِلَى أَنْطَاكِيَةَ أرسلوهما إلى أنطاكية لأن الدعوة رُفعت منها إليهم.
مَعَ بُولُسَ وَبَرْنَابَا إظهاراً لثقة كنيسة أورشليم بهما واعتبارهما إياهما ولدفع اتهامهما بتزوير الكتابة إن كانت معهما دون غيرهما أو دفعاً لتوهم أن هذه الكتابة رأي بعض الكنيسة لا كلها.
بَرْسَابَا أي ابن سابا كيوستس الذي ذُكر في (ص ١: ٢٣) ولذلك ظنه بعضهم أخاه ولا نعلم من أمره سوى أنه نبي (ع ٣٢).
سِيلاَ هو سلوانس سُمي بالأول في سفر الأعمال وبالثاني في الرسائل (١تسالونيكي ١: ١ و٢تسالونيكي ١: ١ و٢كورنثوس ١: ١٩ و١بطرس ٥: ١٢) وهو كان رفيق بولس في سفره الثاني للتبشير (ص ١٥: ٤٠) وسجن معه في فيلبي (ص ١٦: ٢٥).
مُتَقَدِّمَيْنِ فِي ٱلإِخْوَةِ يحتمل أنهما كانا ممن رافقوا المسيح وهو على الأرض ولذلك كان لهما احترام زائد.
٢٣ «وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ هٰكَذَا: اَلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ وَٱلإِخْوَةُ يُهْدُونَ سَلاَماً إِلَى ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلأُمَمِ فِي أَنْطَاكِيَةَ وَسُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ».
كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ أي كتبوا الرقيم وأرسلوه بواسطة الأربعة بولس وبرنابا ويهوذا وسيلا ففي العبارة إيجاز الحذف.
اَلرُّسُلُ من هذه الكلمة إلى نهاية (ع ٢٧) مقدمة للرقيم تتضمن تخطئة المعلمين الكذبة وذمهم وتصويب الرسولين ومدحهما.
يُهْدُونَ سَلاَماً أي يسألون الله سلاماً لكم ومثل هذه التحية لم يُذكر في رسائل المسيحيين في غير هذا الموضع من العهد الجديد إلا في رسالة يعقوب (يعقوب ١: ١) وهذا مما يدل على أن الرسالة كانت من إنشاء يعقوب كما يدل على ذلك موافقة الرقيم لأسلوب خطابه.
ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلأُمَمِ لأن الكتابة إليهم دون غيرهم. وهنا أظهرت كنيسة أورشليم مودتها لمؤمني الأمم بأن دعتهم إخوة.
أَنْطَاكِيَةَ وَسُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ هذا يدلنا على غيرة بولس وغيره في زرع كلمة الله في تلك الأماكن وعظمة الحصاد الذي كان منه بنعمة الله. ولولا هذا ما عرفنا أن الأمم في سورية التي هي البلاد المحيطة بأنطاكية وفي كيليكية وهي البلاد المجاور لطرسوس مولد بولس آمنوا بالمسيح جماعات وانتظموا كنائس. ولعل سبب كتابتهم إلى الإخوة في سورية وكيليكية أن المعلمين المفسدين ذهبوا إليهم وأزعجوهم فأرسلوا نواباً عنهم إلى أورشليم.
٢٤ «إِذْ قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ أُنَاساً خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا أَزْعَجُوكُمْ بِأَقْوَالٍ، مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ، وَقَائِلِينَ أَنْ تَخْتَتِنُوا وَتَحْفَظُوا ٱلنَّامُوسَ ٱلَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ».
ع ١ وغلاطية ١: ٧ و٢: ٤ و٣: ١ و٥: ١٢ وتيطس ١: ١٠ و١١
أُنَاساً خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا هذا دليل على أن أولئك المعلمين ادعوا أنهم رسل كنيسة أورشليم ونوابها في ما قالوا فالكنيسة نفت صحة ادّعاء أولئك الذين أزعجوا الكنائس المنتظمة من مؤمني الأمم.
أَزْعَجُوكُمْ أي أزالوا راحة ضمائركم وشكوكم في قبول الله إياكم بمجرد إيمانكم بالمسيح.
مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ هذا مصاب شر من الإزعاج نشأ عن أقوال أولئك المعلمين الفريسية لأنهم أضروا أنفسهم به وجعلوهم عرضة للهلاك الأبدي بأن عدلوا بهم عن الخلاص بالإيمان إلى الخلاص بالأعمال.
ٱلنَّامُوسَ أي الناموس الرمزي الذي زال بإتيان المرموز إليه أو الناموس رمزياً وأدبياً باعتبار جعلهم حفظة علة التبرير والخلاص.
ٱلَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ نفت كنيسة أورشليم أنها أعطت أولئك المعلمين شيئاً من سلطان التعليم ولو استشاروا الرسل قبلاً ما وقع هذا الخلاف.
٢٥، ٢٦ «٢٥ رَأَيْنَا وَقَدْ صِرْنَا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَنْ نَخْتَارَ رَجُلَيْنِ وَنُرْسِلَهُمَا إِلَيْكُمْ مَعَ حَبِيبَيْنَا بَرْنَابَا وَبُولُسَ، ٢٦ رَجُلَيْنِ قَدْ بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا لأَجْلِ ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
ص ١٢: ٥٠ و١٤: ١٩ و١كورنثوس ١٥: ٣٠ و٢كورنثوس ١١: ٤٣ و٢٦
وَقَدْ صِرْنَا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ في هذا تلميح إلى أنهم وإن كان قد حدث شيء بين أعضاء كنيسة أورشليم من اختلاف الآراء (ع ١٤ و١٥) اتفقوا بعد المحاورة كل الاتفاق.
أَنْ نَخْتَارَ رَجُلَيْنِ وَنُرْسِلَهُمَا صرّح المجمع أنه هو الذي اختار النائبين وأرسلهما لا بولس وبرنابا.
حَبِيبَيْنَا هذه شهادة حسنة لهما وبيان لثقة الرسل والمشائخ بهما وإكرام لهما وإقرار بسلطانهما على تعليم الأمم ونظمهما مؤمنيهم كنائس.
بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا الخ هذا يدل على أن أعضاء المجمع عرفوا حوادث أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٠) ولسترة ص ١٤: ١٩). ويتضمن مدحهم شجاعتهما وأنهما عرضا أنفسهما للخطر رغبة في إكرام المسيح وخدمته باعتبار كونه مخلصاً وملكاً ممسوحاً. وأبانوا بقولهم «ربنا» العلاقة بينهم وبين الرسولين وهي أن الذي بذلا أنفسهما لأجله هو ربّنا وربهما.
لم يكن من عادة المسيحيين الأولين أن يمدح بعضهم بعضاً ولعل الموجب لمدح بولس وبرنابا هنا طعن المعلمين المفسدين في صيتهما وسلطانهما وفي معرفة الرسل إياهما رسولين.
٢٧ «فَقَدْ أَرْسَلْنَا يَهُوذَا وَسِيلاَ، وَهُمَا يُخْبِرَانِكُمْ بِنَفْسِ ٱلأُمُورِ شِفَاهاً».
يُخْبِرَانِكُمْ بِنَفْسِ ٱلأُمُورِ التي أخبرناكم بها كتابة. فكان لهما أن يؤكدا لهم أن ذلك الرقيم من المجمع نفسه وأن كل أعضائه اتفقوا عليه وأن بولس وبرنابا مكرمان ومحبوبان لدى جميع الرسل وسائر المسيحيين الذين في أورشليم وكانا مستعدَّين أن يجاوبا كل من يسألهما من كنيسة أنطاكية ويفسرا ما يحتاج إلى التفسير وكل ذلك لكي يجعلا الاتفاق بين أعضاء الكنيسة ويريحوا ضمائر المزعجين.
٢٨، ٢٩ «٢٨ لأَنَّهُ قَدْ رَأَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ وَنَحْنُ، أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلاً أَكْثَرَ، غَيْرَ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءِ ٱلْوَاجِبَةِ: ٢٩ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَمَّا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ ٱلدَّمِ، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلزِّنَا، ٱلَّتِي إِنْ حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ. كُونُوا مُعَافَيْنَ».
ع ٢٠ وص ٢١: ٢٥ ورؤيا ٢: ١٤ و٢٠ لاويين ١٧: ١٤
هاتان الآيتان تشتملان على حكم المجمع وما قبله مقدمة له.
رَأَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ هذا تصريح الرسل والمشائخ والكنيسة بأن ما حكموا به في المجمع هو ما حكم به الروح القدس. وهذا على وفق قول المسيح «إِنِ ٱتَّفَقَ ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا» (متّى ١٨: ١٩ و٢٠). وقوله «وَأَمَّا ٱلْمُعَزِّي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلَّذِي سَيُرْسِلُهُ ٱلآبُ بِٱسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ» (يوحنا ١٤: ٢٦).
وَنَحْنُ باعتبار كوننا وسائل لإعلان المشيئة الإلهية. وما قيل هنا في ما حكم به المجمع لا يدل على أن ما حكم به غيره من المجامع كان بسلطان إلهي إلا أن يبرهن أنه التأم بإرشاد الروح القدس وسياسته.
غَيْرَ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءِ ٱلْوَاجِبَةِ كان وجوبها من مقتضى الأحوال يومئذ فهي وقتية سوى المنع عن الزنا. وحكم بها المجمع لأربع غايات:
- الأولى: حفظ سلام الكنائس المنتظم من مؤمني اليهود والأمم.
- الثانية: إراحة ضمائر مؤمني الأمم.
- الثالثة: حمل مؤمني الأمم على اعتزال التجارب التي اعتادوها في ديانتهم الأولى.
- الرابعة: نفور الكنيسة المسيحية جهراً من رذائل الديانة الوثنية.
عَمَّا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ هذا تفسير «لنجاسات الأصنام» في (ع ٢٠) فراجع التفسير هناك. وسائر الآية هنا كما سبق في الآية العشرين إلا في الترتيب إذ جمع هنا الأطعمة المحرمة وأفرد الزنا أخيراً.
مِنْهَا أي أربعة الأمور المنهيّ عنها.
فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ يحتمل هذا ثلاثة معانٍ:
- الأول: أنهم بذلك يفعلون ما يجب عليهم أمام الله.
- الثاني: أنهم يفعلون ما يجب عليهم لإخوتهم حتى لا يعثر الضعفاء منهم.
- الثالث: إنهم ينفعون أنفسهم. وهنا المجمع مدح من قبل نصحهُ من دون أن يأمر بطاعته أو يحرم من خالفه.
كُونُوا مُعَافَيْنَ هذا ختام الرقيم بالصورة التي اعتادها اليونانيون (ص ٢٣: ٣٠) ومعناه إرادة دوام النجاح نفساً وجسداً.
أباحت كنيسة أورشليم المؤلفة من مؤمني اليهود لمؤمني الأمم ترك الرسوم الموسوية ولكنها بقيت مع سائر مؤمني اليهود تحفظها مع الرسوم المسيحية حفظاً كاملاً وقتاً ثم أخذت تتركها شيئاً فشيئاً إلى أن هدم الرومانيون مدينة أورشليم والهيكل ومن ذلك اليوم تركتها كلها.
٣٠، ٣١ «٣٠ فَهٰؤُلاَءِ لَمَّا أُطْلِقُوا جَاءُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَجَمَعُوا ٱلْجُمْهُورَ وَدَفَعُوا ٱلرِّسَالَةَ. ٣١ فَلَمَّا قَرَأُوهَا فَرِحُوا لِسَبَبِ ٱلتَّعْزِيَةِ».
لَمَّا أُطْلِقُوا أي حين أذن لهم في الذهاب وشيعتهم الكنيسة تودداً وإكراماً.
ٱلْجُمْهُورَ جماعة الكنيسة التي أرسلت بولس وبرنابا إلى أورشليم لأن الرقيم أرسل إليهم جميعاً.
قَرَأُوهَا أي قرأها بعضهم على مسمع الكنيسة كلها.
فَرِحُوا لِسَبَبِ ٱلتَّعْزِيَةِ وهي انقطاع أسباب الجدال. وأعظم منه تحققهم أن إيمانهم لم يكن باطلاً وأن نفوسهم ليست بعرضة لخطر الهلاك من عدم حفظهم ناموس موسى وأن الكنيسة لم تحملهم ثقل الختان وغيره من الرسوم. وأن الأسلوب التي جرت عليه الكنيسة بإرشاد بولس وبرنابا كان مرضياً للروح القدس ولأمّ الكنائس. والذي حملهم على الفرح كان من شأنه أن يفرحهم وغيرهم من ذلك اليوم إلى هذه الساعة لأنه زال به الحاجز الذي منع امتداد الكنيسة ولأنه إعلان الحرية المسيحية التي منحها للكنيسة رئيسها وتفضيل شريعة النعمة على شريعة الأعمال. والحقائق التي تضمنها ذلك الرقيم شرحها وأوضحها بولس في رسالته إلى أهل رومية ورسالته إلى أهل غلاطية.
٣٢ «وَيَهُوذَا وَسِيلاَ، إِذْ كَانَا هُمَا أَيْضاً نَبِيَّيْنِ، وَعَظَا ٱلإِخْوَةَ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ وَشَدَّدَاهُمْ».
ص ١٤: ٢٢ و١٨: ٢٣
قبل أن أرسلتهما كنيسة أورشليم وسبق الكلام على الأنبياء في (ص ١١: ٢٧ و١٣: ١).
وَعَظَا الوعظ هنا يتضمن معنى التعزية. فوعظ في هذه الآية والتعزية في الآية السابقة مشتقان في اليونانية من أصل واحد فالمعنى أنهما عزّياهم بوعظهما في أمر الرقيم الذي أُرسل إليهم وشرحهما إياه وبيان ما أُثبت به من البراهين كما في خطاب بطرس وخطاب يعقوب.
شَدَّدَاهُمْ أي قوّياهم وثبّتاهم في إيمانهم بالمسيح بتعليمهما.
٣٣ «ثُمَّ بَعْدَ مَا صَرَفَا زَمَاناً أُطْلِقَا بِسَلاَمٍ مِنَ ٱلإِخْوَةِ إِلَى ٱلرُّسُلِ».
١كورنثوس ١٦: ١١ وعبرانيين ١١: ٣١
زَمَاناً كافياً لإتمام ما وُكل إليهما.
أُطْلِقَا بِسَلاَمٍ أي سلمت الكنيسة برجوعهما وشيعتهما بالصلاة لله والشكر لهما على غيرتهما المسيحية وتعزيتهما إياهم.
إِلَى ٱلرُّسُلِ أي إلى أورشليم مقام الرسل.
٣٤ «وَلٰكِنَّ سِيلاَ رَأَى أَنْ يَلْبَثَ هُنَاكَ».
يظهر من هذا أن سيلا رجع بعد أن غاب قليلاً أو أنه بدا له أن يقيم بأنطاكية وقتاً إجابة لطلب الإخوة.
٣٥ «أَمَّا بُولُسُ وَبَرْنَابَا فَأَقَامَا فِي أَنْطَاكِيَةَ يُعَلِّمَانِ وَيُبَشِّرَانِ مَعَ آخَرِينَ كَثِيرِينَ أَيْضاً بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ».
ص ١٣: ١
أَمَّا بُولُسُ وَبَرْنَابَا فَأَقَامَا مواظبين على العمل الذي كانا يمارسانه قبل ذهابهما إلى أورشليم (ص ١٤: ٢٨).
مَعَ آخَرِينَ كَثِيرِينَ المرجّح أن أنطاكية كانت مركز التبشير لكل سورية ولذلك كثر فيها المبشرون فكان بعضهم يخرج منها ويعظ في الأماكن المختلفة والباقون يعلّمون الذين يأتون إليهم بغية التعلّم.
مفارقة بولس لبرنابا وشروعه في السفر الثاني ع ٣٦ إلى ٤١
٣٦ «ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ قَالَ بُولُسُ لِبَرْنَابَا: لِنَرْجِعْ وَنَفْتَقِدْ إِخْوَتَنَا فِي كُلِّ مَدِينَةٍ نَادَيْنَا فِيهَا بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ، كَيْفَ هُمْ».
ص ١٣: ٤ و١٣ و١٤ و١٥ و١٤: ١ و٦ و٢٤ و٢٥
بَعْدَ أَيَّامٍ لا نعلم عددها لكن ظنها بعضهم نحو سنة بعد حكم المجمع الأورشليمي وأن بولس شرع في السفر الثاني للتبشير سنة ٥١ ب. م. وظن أكثر الكتبة أنه في المدة بين المجمع وسفر بولس الثاني حدث ما ذُكر في (غلاطية ٢: ١١ - ١٣) من تصرف بطرس في أنطاكية وتوبيخ بولس إياه.
قَالَ بُولُسُ أظهر بولس بهذا شدة عنايته بالكنائس التي أنشأها كما أظهرها في رسائله إليها ويؤيد ذلك قوله «عليّ الاهتمام بجميع الكنائس» (٢كورنثوس ١١: ٢٨ انظر أيضاً أفسس ١: ١٦ وفيلبي ١: ٣).
فِي كُلِّ مَدِينَةٍ في آسيا الصغرى ولعله قصد مدن قبرس أيضاً إذ كان قد أتى إليها في سفره الأول.
بِكَلِمَةِ ٱلرَّبّ أي إنجيل يسوع المسيح.
كَيْفَ هُمْ رغب في أن يعرف هل كثر أعضاء الكنائس وهل تقدم كل عضو منهم في الفضائل الروحيّة.
٣٧، ٣٨ «٣٧ فَأَشَارَ بَرْنَابَا أَنْ يَأْخُذَا مَعَهُمَا أَيْضاً يُوحَنَّا ٱلَّذِي يُدْعَى مَرْقُسَ، ٣٨ وَأَمَّا بُولُسُ فَكَانَ يَسْتَحْسِنُ أَنَّ ٱلَّذِي فَارَقَهُمَا مِنْ بَمْفِيلِيَّةَ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمَا لِلْعَمَلِ، لاَ يَأْخُذَانِهِ مَعَهُمَا».
ص ١٢: ١٢ و٢٥ و١٣: ٥ وكولوسي ٤: ١٠ و٢تيموثاوس ٤: ١١ وفليمون ٢٤ ص ١٣: ١٣
فَأَشَارَ بَرْنَابَا... مَرْقُسَ رغب برنابا في أخذ مرقس معه لانه ابن اخته (كولوسي ٤: ١٠) ولهذا غض النظر عن سوء تصرفه سابقاً بتركه الخدمة في بداءتها.
وَأَمَّا بُولُسُ الخ حسب مرقس أنه غير أهل لخدمة الإنجيل لأنه تركه وبرنابا سابقاً في أول وضعه يده على المحراث (ص ١٣: ١٣). ولعله خاف أيضاً أن يتركهما وهما في شدة الاحتياج إليه. وإن صحّ ما قيل في شرح (ص ١٣: ١٣) من احتمال أنه تركهما إذ لم يرد أن يعرف بولس رسول الأمم كما عيّن الله وأن لذلك يستحق التقدّم على خاله كان ذلك سبباً أعظم مما ذُكر لعدم قبول بولس مرافقته.
٣٩، ٤٠ «٣٩ فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ حَتَّى فَارَقَ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ. وَبَرْنَابَا أَخَذَ مَرْقُسَ وَسَافَرَ فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى قُبْرُسَ. ٤٠ وَأَمَّا بُولُسُ فَٱخْتَارَ سِيلاَ وَخَرَجَ مُسْتَوْدَعاً مِنَ ٱلإِخْوَةِ إِلَى نِعْمَةِ ٱللّٰهِ».
ص ١٤: ٢٦
اختلافهما في الرأي أدى إلى الاختلاف في ما اعتمداه قبلاً إذ لم يرض أحد أن يعدل عن رأيه إلى رأي الآخر. ولكن هذا الاختلاف لم يكن إلا وقتياً ولم ينشأ عنه بغض البتة لأن بولس ذكر برنابا بعدئذ شريكاً له في عمل الرب (١كورنثوس ٩: ٦) ورضي عن مرقس ومدحه (٢تيموثاوس ٤: ١١ وكولوسي ٤: ١٠ و١١) على أن ذلك الاختلاف يثبت قول بولس لأهل لسترة نحن أيضاً بشر (ص ١٤: ١٥) وسمح الله بوقوعه لأعظم خير لأنه صار به فرقتان للتبشير بدلاً من واحدة وأربعة وعشرين بدلاً من اثنين.
مما يثبت صدق الكتاب المقدس أنه لا يستر زلات أفاضل أهله بخلاف كتب المزوّرين فإنها تقتصر على ذكر فضائل أهلها.
وَبَرْنَابَا أَخَذَ مَرْقُسَ الذي اختار أن يأخذه وأبى بولس أخذه.
إِلَى قُبْرُسَ موطنه الأصلي (ص ٤: ٣٦).
فَٱخْتَارَ سِيلاَ وَخَرَجَ لم يذكر الكاتب المدة بين ذهابه وذهاب برنابا ولعله كان بعد وقت كاف لأن يكتب بولس إلى أورشليم يستدعي سيلا منها إن كان قد وصل إليها كما يستنتج من (ع ٣٣) وما ذُكر في الآية الرابعة والثلاثين يشير إلى ما كان بعد رجوعه من أورشليم. وكان سيلا بعد وقت رفيق بطرس الرسول (١بطرس ٥: ١٢).
مُسْتَوْدَعاً مِنَ ٱلإِخْوَةِ الخ أي سألت الكنيسة عناية الله به وحفظه إيّاه وهذا دليل على أن الكنيسة استحسنت ما فعله أي لم تلمه على إباءته استخدام مرقس. وفي هذه الآية أنباء ببداءة سفر بولس الثاني الذي شغل به نحو ثلاث سنين ونصف سنة وذلك من سنة ٥١ إلى سنة ٥٤ ب. م وما بين رجوعه من سفره الأول وشروعه في الثاني خمس سنين.
٤١ «فَٱجْتَازَ فِي سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ يُشَدِّدُ ٱلْكَنَائِسَ».
ص ١٦: ٥
فَٱجْتَازَ فِي سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ اللتين قصبتاهما أنطاكية وطرسوس وهاتان مما لم يذهب إليه في سفره الأول ولا نعلم من أسس الكنائس فيهما. والمرجح أن مؤسسيها في سورية بولس وبرنابا وغيرهما من كنيسة أنطاكية (ع ٣٥) وأن مؤسسها في كيليكية بولس قبل أن دعاه برنابا إلى أنطاكية (ص ٩: ٣٠ و١١: ٢٥ و٢٦).
يُشَدِّدُ ٱلْكَنَائِسَ أي يقويها ويثبتها في الإيمان المسيحي ويتلو عليها رقيم المجمع المرسل إليهم (ع ٢٣).
كان سفر بولس الثاني في البرّ لا في البحر كالأول فاضطر أن يجتاز في سورية وكيليكيّة إلى المدن التي بشّرها في الأول.
الأصحاح السادس عشر
سفر بولس في آسيا الصغرى ع ١ إلى ١٠
١ «ثُمَّ وَصَلَ إِلَى دَرْبَةَ وَلِسْتِرَةَ، وَإِذَا تِلْمِيذٌ كَانَ هُنَاكَ ٱسْمُهُ تِيمُوثَاوُسُ، ٱبْنُ ٱمْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ مُؤْمِنَةٍ وَلٰكِنَّ أَبَاهُ يُونَانِيٌّ».
ص ١٤: ٦ ص ١٩: ٢٢ ورومية ١٦: ٢١ و١كورنثوس ٤: ١٧ وفيلبي ٢: ١٩ و١تسالونيكي ٣: ٢ و١تيموثاوس ١: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٥
ثُمَّ وَصَلَ أي بولس مع رفيقه سيلا.
دَرْبَةَ وَلِسْتِرَةَ زارهما في السفر الأول (انظر شرح ص ١٤: ٦) وذهب إليهما في الثاني من طرسوس في مضيق طورس وهو سلسلة جبال ممتدة من الشمال إلى الجنوب طولها نحو ثمانين ميلاً.
قدم الكاتب في (ص ١٤: ٦) لسترة على دربة لأن بولس أتى إليهما من الغرب فبلغ لسترة قبل دربة وقدم هنا دربة على لسترة لأن بولس أتى إليها من الشرق فبلغ دربة قبل لسترة وهذا من الأدلة على صدق الكاتب.
وَإِذَا تِلْمِيذٌ أي مؤمن بالمسيح لا نعلم أمن دربة هو أم من لسترة لكن القرينة تشير إلى أنه من لسترة وكان ممن تلمذهم بولس في سفره الأول منذ ست سنين قبل هذا لأن بولس دعاه ابنه (١كورنثوس ٤: ١٧ و١تيموثاوس ١: ٢ و١٨ و٢تيموثاوس ١: ٢ و٢: ١). وكتب إليه رسالتين ووضع اسمه في عنوان خمس من رسائله. وهذا التلميذ خدم كنيسة كورنثوس (١كورنثوس ١٦: ١٠) وكنيسة أفسس (١تيموثاوس ١: ٣) وسُجن مع بولس في رومية المرة الأولى (فيلبي ٢: ١٩). وطلب بولس أن يأتي إليه أيام سُجن ثانية هناك في آخر حياته (٢تيموثاوس ٤: ٩ و٢١).
ٱمْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ نعلم من ٢تيموثاوس ١: ١٥ أن اسمها أفنيكي وأنها علّمت ابنها الكتاب المقدس.
أَبَاهُ يُونَانِيٌّ الأرجح أنه وثني إذ لم يذكر الكاتب أنه آمن بالمسيح وهو ليس ممن هادوا ولو كان كذلك لأختتن وختن ابنه ولكنه لم يختن ابنه. ومثل هذا الزواج منعته شريعة موسى (تثنية ٧: ٤ وعزرا ١٠: ٢ و٤٤ ونحميا ١٣: ٢٣). وندر في اليهودية لكنه كثر في مثل ليكأونية مما بعد عن أورشليم واستند من أتوه على ما أتته أستير الملكة زوجة أحشويروس.
٢ «وَكَانَ مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ فِي لِسْتِرَةَ وَإِيقُونِيَةَ».
ص ٦: ٣
لعل تيموثاوس بشّر بالإنجيل في تينك المدينتين بإرشاد مشائخ كنائسها قبل أن استخدمه بولس وكان حديث السن بدليل قول بولس له يوم أمره بخدمة كنيسة أفسس «لا يستهن أحد بحداثتك» (١تيموثاوس ٤: ١٢ قابل هذا بما في ١تيموثاوس ١: ١٣). ولنا من نبإ تيموثاوس معرفة الصفات الواجب أن تكون للمبشر وهي أن يكون عارفاً بالكتب المقدسة حسناً (٢تيموثاوس ٣: ١٥) وأن يكون مشهوداً له من الإخوة وأن يتعلّم خدمة الكنيسة بإرشاد من يزيده علماً واختياراً.
إِيقُونِيَةَ ارجع إلى شرح (ص ١٤: ٢١).
٣ «فَأَرَادَ بُولُسُ أَنْ يَخْرُجَ هٰذَا مَعَهُ، فَأَخَذَهُ وَخَتَنَهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ فِي تِلْكَ ٱلأَمَاكِنِ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَبَاهُ أَنَّهُ يُونَانِيٌّ».
١كورنثوس ٩: ٢٠ وغلاطية ٢: ٣ و٥: ٢
أَنْ يَخْرُجَ هٰذَا مَعَهُ أي يجول معه للتبشير ويكون بمنزلة مرقس في السفر الأول كما كان سيلا بمنزلة برنابا.
خَتَنَهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْيَهُودِ لم يحسب بولس هذا الختان ضرورياً لتيموثاوس بمقتضى اعتقاده بدليل قوله «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً» (غلاطية ٦: ١٥) وبمقتضى اعتقاد مؤمني اليهود إذ حكموا بعدم وجوبه في المجمع (ص ١٥: ١ و٢٨ و٢٩). ولكنه استحسنه ليتمكن تيموثاوس من تبشير اليهود إذ كانوا يعرفون أنه ابن وثني فلو لم يختتن ما سمحوا له أن يتكلم في مجامعهم ولا قبلوه معلماً دينياً. وفعل ذلك على وفق المبدإ الذي ذكره في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وهو قوله «فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ ٱلْيَهُودَ، وَلِلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لأَرْبَحَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (١كورنثوس ٩: ٢٠ انظر أيضاً رومية ١٤: ٢١ و١كورنثوس ٨: ٨ و ١٠: ٢٥ و٢٨ وأعمال ٢١: ٢٣ - ٢٦). ولم يختن تيطس كما ختن تيموثاوس لأن تيطس كان مقتصراً على تبشير الأمم ولو ختنه لكان ذلك اعترافاً بضرورية الختان للخلاص (غلاطية ٢: ٣ و٤). ولنا من ذلك أنه يجب على المسيحيين أن يكونوا راسخين في جوهريات الدين وأن يتساهلوا في العرضيات إذا كان التساهل وسيلة إلى ربح النفوس. وليس في هذا شيء يسند ذلك المبدأ القبيح وهو «أن نفعل السيئات لكي تأتي الخيرات».
٤ «وَإِذْ كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي ٱلْمُدُنِ كَانُوا يُسَلِّمُونَهُمُ ٱلْقَضَايَا ٱلَّتِي حَكَمَ بِهَا ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ ٱلَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ لِيَحْفَظُوهَا».
ص ١٥: ٢٨ و٢٩
ٱلْمُدُنِ التي بشروا فيها سابقاً وهي دربة ولسترة وإيقونية وأنطاكية بيسيدية وغيرهما مما فيها كنائس مسيحيّة.
ٱلْقَضَايَا التي سبق الكلام عليها في (ص ١٥: ٢٢ - ٢٨) وكانت حينئذ ضرورية لراحة الكنيسة ووحدتها مع أن أكثرها وقتيّ.
ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ بالنيابة عن الكنيسة كلها.
٥ «فَكَانَتِ ٱلْكَنَائِسُ تَتَشَدَّدُ فِي ٱلإِيمَانِ وَتَزْدَادُ فِي ٱلْعَدَدِ كُلَّ يَوْمٍ».
ص ١٥: ٤١
تَتَشَدَّدُ فِي ٱلإِيمَانِ أي تزيد ثقة بحقائق الإنجيل وبأن يسوع المسيح هو المخلّص. وما جاء في هذه الآية كان نتيجة افتقاد بولس وسيلا تلك الكنائس وكل ما اقترن به من تعليم وتعزية. فزال بما قصّاه من حكم المجمع موانع انتشار الإنجيل وهي فساد التعليم بوجوب حفظ شريعة موسى فإنهم عدلوا عن الجدال في العرضيات إلى البحث في الجوهريات.
٦ «وَبَعْدَ مَا ٱجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ، مَنَعَهُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِٱلْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا».
فِرِيجِيَّةَ هي القسم الأكبر من أواسط آسيا الصغرى وهي غربي بيسيدية ومن أعظم مدنها كولوسي وهيرابوليس ولاودكية.
غَلاَطِيَّةَ هي قسم من آسيا الصغرى شرقي فريجية استولى عليها الغاليون وهم سكان فرنسا القدماء ومكثوا فيها سنة ٣٠٠ ق. م ونسبوها إلى اسمهم واستولى عليها الرومانيون سنة ٢٦ ب. م وكان اكثر سكانها من الوثنيين وفيها كثيرون من اليهود. ولم يذكر لوقا ما كان من أتعاب بولس ورفيقيه فيها إذ اعتاد أن لا يذكر إلا ما يحدث في المدن الكبيرة لكننا نعلم أنهم شغلوا زمناً طويلاً هناك وحصلوا على نجاح عظيم ونظموا عدة كنائس وكتب بولس إليها رسالة ظهر منها أنه كان محبوباً إلى أهلها كثيراً (غلاطية ٤: ١٤ و١٥).
مَنَعَهُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ لا نعلم بأي وساطة منعهم.
فِي أَسِيَّا المراد بأسيا هنا الغربي من آسيا الصغرى الذي قصبته (أفسس ص ٢: ٩) وهبها أتالوس ملك آسيا للجمهورية الرومانية وفيها الكنائس السبع التي كتب إليها يوحنا الرسول سفر الرؤيا. أراد بولس ان يذهب إليها للتبشير بالإنجيل فلم يأذن له الروح القدس حينئذ لكنه أذن له بعد فبشر فيها ونجح نجاحاً عظيماً.
٧، ٨ «٧ فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ، فَلَمْ يَدَعْهُمُ ٱلرُّوحُ. ٨ فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا وَٱنْحَدَرُوا إِلَى تَرُوَاسَ».
٢كورنثوس ٢: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ١٣
مِيسِيَّا قسم الشمال الغربي من آسيا الصغرة.
بِثِينِيَّةَ شرقي ميسيا على شاطئ البحر الأسود قاعدتها نيقية التي التأم فيها المجمع العام في أيام قسطنطين سنة ٣٢٥.
لَمْ يَدَعْهُمُ ٱلرُّوحُ مع أنهم اجتهدوا في أن يأتوها بغية تبشير أهلها بالإنجيل. ولا ريب في أن سبب منع الروح إيّاهم من الذهاب إلى أسيا وبيثينية قصد الله أن يذهبوا إلى أوربا وأن يعرفوا مقصد الروح بالتدريج.
فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا ولم يمكثوا.
تَرُوَاسَ هي فرضة ميسيا على البوصفور قرب آثار مدينة تروادة التي اشتهرت قديماً بمحاربة اليونانيين إيّاها. ونظم هوميروس الشاعر اليوناني قصيدته المشهورة في تلك الحرب. وذُكرت ترواس أيضاً في (٢كورنثوس ٢: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ١٣ وأعمال ٢٠: ٥) وهذا غاية ما بلغه بولس وسيلا من قارة آسيا. واختصر لوقا تاريخ حوادث هذا السفر بثماني آيات من هذا الأصحاح وآية واحدة من الأصحاح الخامس عشر. وهذا التاريخ وإن كان وجيزاً اشتمل على حوادث شهور كثيرة.
٩ «وَظَهَرَتْ لِبُولُسَ رُؤْيَا فِي ٱللَّيْلِ: رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ قَائِمٌ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!».
رُؤْيَا هذه من الطرق التي اعتاد الله أن يُظهر بها إرادته لعبيده وفي هذا إيضاح الروح ما أُبهم عليهم من قصد الله بمنعهم من الذهاب إلى أسيا وبيثينية قابل بهذا (ص ٩: ١٠ و١٢ و١٠: ٣ و١٧ و١٩ و١١: ٥)
رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ عرفه بولس من ملبوسه أو لهجته أو أخباره. كانت بلاد اليونان يومئذ قسمين الشمالي مكدونية والجنوبي أخائية. وكانت قديماً مكدونية صغيرة لا يعبأ بها وظلت كذلك إلى أيام فيلبس ثم عظمت في أيامه وزادت عظمتها في أيام بولس خاضعة للرومانيين وقصبتها تسالونيكي مقام الحاكم الروماني واشتهرت عند المسيحيين بكونها أول أرض في أوربا بُشر فيها بالإنجيل.
ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ أي اقطع البحر بين ترواس ومكدونية.
وَأَعِنَّا أي ساعد أهل مكدونية ثم سائر اليونان ثم باقي أوربا على الشيطان والجهل والإثم والهلاك ببث بشرى الخلاص. واقتصر على ذكر مكدونية لأنها أول أرض أوربا. ومفاد هذه الاستغاثة أن أهل تلك البلاد في احتياج وخطر وأنهم عاجزون عن إنقاذ أنفسهم وأن الإنجيل الذي بشر به بولس هو وسيلة نجاتهم. وكان اليونانيون والرومانيون مولعين بالفلسفة والفنون ومشهورين بالتجارة والغنى والاقتدار على الرحب ولكنهم كانوا يجهلون الإله الحق وطريق الخلاص وكانوا في غاية الافتقار إلى الغنى الروحي وفي رقّ الشيطان والمعصية.
أعلن الله في هذه الرؤيا احتياج أهل مكدونية إلى بشرى الخلاص وإرادته أن يذهب بولس إليها ويبشر أهلها. ولا دليل فيها على أن أهل مكدونية شعروا بذلك الاحتياج واشتاقوا إلى إرشاد المعلمين المسيحيين فالأمر كله من الله فإنه هو الذي دعا بولس وسيلا أن يناديا للوثنيين الجهلاء الهالكين بخلاص يسوع المسيح وأن يحتملا بتلك المنادة المشقات والأخطار. ونتيجة هذه الرؤيا إدخال الديانة المسيحية إلى أوربا وما ينتج عنها من الفوائد كالتمدن وما يتعلق به. ولو كانت الدعوة إلى الشرق بدلاً من أن تكون إلى الغرب لرجح أن تكون أحوال الهند والصين اليوم كأحوال أوربا وأميركا فيه من معرفة الدين الحق والتمدن وأن تكون أحوال أوربا وأميركا كأحوال الهند والصين فيه.
١٠ «فَلَمَّا رَأَى ٱلرُّؤْيَا لِلْوَقْتِ طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، مُتَحَقِّقِينَ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَعَانَا لِنُبَشِّرَهُمْ».
٢كورنثوس ٢: ١٣
لِلْوَقْتِ أجاب بولس وسيلا دعوة الله بسرعة ومسرة فكانا بذلك قدوة لكل المسيحيين عندما يدعوهم الله إلى التبشير بإنجيله. ولا يزال اليوم مثل استغاثة المكدونيين يُسمع من كل أقطار المسكونة لأنه حيث تكون نفس تجهل طريق الخلاص تصرخ مستغيثة بأهل الإنجيل. وعلى المسيحيين أن يجيبوا الدعوة بالذهاب للتبشير أو ببذل نفقات من يذهبون لذلك. فويل للكنيسة التي تسمع مثل هذه الاستغاثة ولا تغيث نعم وويل لكل من أفرادها إن لم يغث وطوبى لمن يسمع ويغيث (دانيال ١٢: ٣).
طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ أي حاولنا الحصول على وسائل السفر بحراً إلى مكدونية. وصيغة التكلم هنا تدل على اجتماع لوقا كاتب هذا السفر ببولس وسيلا ومشاركته لهما في كل الحوادث الآتية. والظاهر أن هذا بدء مرافقته بولس.
وكان لوقا طبيباً بدليل ما في (كولوسي ٤: ١٠) ومبشراً بدليل قوله في هذه الآية «لنبشرهم» وأقوال كثيرة في رسائل بولس ولم نعرف شيئاً من أمر تنصره ولكن من المحتمل أنه سمع الإنجيل من بولس في طرسوس أو أنطاكية ثم ذهب إلى ترواس وبشر بالإنجيل وأنشأ كنيسة فيها لأن بولس لم يبشر هناك إلا بعد رجوعه من هذا السفر ووُجد فيها عند وصوله عدة من المسيحيين مجتمعين للعبادة (ص ٢٠: ٧) ولعله رافق بولس ليعتني بصحته فضلاً عن التبشير لأن بولس كان قد أتى من غلاطية بعد أن مرض فيها (غلاطية ٤: ١٣ - ١٥) وظل مرافقاً لبولس في أكثر أيام خدمته وكان معه في آخر أيام حياته حين تركه كل من سواه (٢تيموثاوس ٤: ١١).
مُتَحَقِّقِينَ الخ ما رأى الرؤيا سوى بولس لكن رفقاءه تحققوها بشهادته وصدقوا أن الدعوة دعوة الله لا أمر تخيّليّ. كان قصد بولس في أول عزمه على هذا السفر أن يفتقد الكنائس التي أسسها لكن روح الله قاده في طريق لم يقصدها فتبعه راضياً مسروراً.
بلوغ بولس أوربا وحوادث فيلبي ع ١١ إلى ٤٠
١١ «فَأَقْلَعْنَا مِنْ تَرُوَاسَ وَتَوَجَّهْنَا بِٱلٱسْتِقَامَةِ إِلَى سَامُوثْرَاكِي، وَفِي ٱلْغَدِ إِلَى نِيَابُولِيسَ».
فَأَقْلَعْنَا أي شرعنا في السفر بحراً.
بِٱلٱسْتِقَامَةِ هذا يدل على أن الريح كانت موافقة لأن سفن تلك الأيام كانت شراعية (أي ذات قلوع).
سَامُوثْرَاكِي جزيرة في منتصف الطريق بين ترواس ونيابوليس.
فِي ٱلْغَدِ شغلوا بهذا السفر يومين فقط وشغلوا به غير مرّة خمسة أيام (ص ٢٠: ٦).
نِيَابُولِيسَ أي المدينة الجديدة وهي فرضة فيلبي واسمها اليوم كفالو. والقرينة تدل على أنهم لم يمكثوا فيها وعلة ذلك خلوها من اليهود أو الرغبة في بلوغ المدينة الكبرى لانتهاز أحسن الفرص لفعل الخير بين الكثيرين.
١٢ «وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى فِيلِبِّي، ٱلَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ مِنْ مُقَاطَعَةِ مَكِدُونِيَّةَ، وَهِيَ كُولُونِيَّةُ. فَأَقَمْنَا فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ أَيَّاماً».
فيلبي ١: ١
فِيلِبِّي هي مدينة كبيرة نُسبت إلى فيلبس ملك مكدونية إكراماً له فإنه جدّد بناءها وحصنها. حدث فيها سنة ٤٢ ق. م حرب شديدة بين حزبين قائدا أحدهما بروتوس وكاسيوس وقائدا الآخر أوغسطس وأنطونيوس فنتج عنها أن الجمهورية الرومانية تحولت ملكية.
أَوَّلُ مَدِينَةٍ أي أول المدن التي يبلغها المسافر من الشرق إلى الغرب وتستحق أن تعد بين المدن الأولى في مكدونية لأنه لم يُفقها مقاماً سوى تسالونيكي. وهي ليست اليوم إلا قرية صغيرة يحيط بها أطلال كثيرة.
كُولُونِيَّةُ أي مهجر أسكنه أوغسطس قيصر جمهوراً من الجند الروماني تذكاراً لانتصاره هناك وجعل لسكانه كل ما لسطان رومية من الحقوق فساوتها في نظام حكومتها وشرائعها المدنية. وأتى هذه المدينة وقتئذ بولس رسولاً مسيحياً مزمعاً أن ينتصر انتصاراً أعظم من الانتصار على بروتوس ويؤسس مملكة أبقى من مملكة أوغسطس.
١٣ «وَفِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ خَرَجْنَا إِلَى خَارِجِ ٱلْمَدِينَةِ عِنْدَ نَهْرٍ، حَيْثُ جَرَتِ ٱلْعَادَةُ أَنْ تَكُونَ صَلاَةٌ، فَجَلَسْنَا وَكُنَّا نُكَلِّمُ ٱلنِّسَاءَ ٱللَّوَاتِي ٱجْتَمَعْنَ».
تفيد هذه الآية أنه لم يكن في تلك المدينة مجمع لليهود لقلتهم ولذلك اتخذوا معبداً في البرية واختاروا أن يكون عند النهر لما تقتضيه عبادتهم من التطهيرات واسم ذلك النهر كنجس وهو جدول أي نهر صغير.
نُكَلِّمُ ٱلنِّسَاءَ بحقائق الإنجيل. ولم يذكر الكاتب علة وجود النساء فقط وربما كانت العلة خلوّ فيلبي من رجال يهود فإن كلوديوس قيصر كان قد نفى كل اليهود من رومية (ص ١٨: ٢) وكانت فيلبي يومئذ حصناً عسكرياً وشرائعها المدنية كشرائع رومية فربما كان رجال اليهود قد نفوا منها كما نفوا من رومية. أو أن الرجال كانوا غير مكترثين بالدين أو أنه لم يكن وقت الاجتماع القانوني حينئذ ومهما يكن من ذلك فإن بولس رأى فرصة للتبشير فاغتنمها كعادته.
١٤ «فَكَانَتْ تَسْمَعُ ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا لِيدِيَّةُ، بَيَّاعَةُ أُرْجُوانٍ مِنْ مَدِينَةِ ثِيَاتِيرَا، مُتَعَبِّدَةٌ لِلّٰهِ، فَفَتَحَ ٱلرَّبُّ قَلْبَهَا لِتُصْغِيَ إِلَى مَا كَانَ يَقُولُهُ بُولُسُ».
رؤيا ٢: ١٨ لوقا ٢٤: ٤٥
لِيدِيَّةُ اسم شائع بين اليونانيين والرومانيين.
بَيَّاعَةُ أُرْجُوانٍ... ثِيَاتِيرَا كانت ثياتيرا مدينة في آسيا الصغرى واقعة بين برغامس وسرديس وهي إحدى المدن التي كتب يوحنا الرسول سفر الرؤيا إلى كنائسها (رؤيا ٢: ١٨). واشتهرت قديماً بصبغ أحمر كانوا يستخرجونه من ضرب من الصدف في البحر المتوسط. والمحتمل أن ليدية أتت من ثياتيرا إلى فيلبي لكي تبيع ذلك الصبغ والأرجح أنها أتت لتبيع المنسوجات المصبوغة به.
مُتَعَبِّدَةٌ لِلّٰهِ اصطلح لوقا على التعبير عمن تركوا عبادة الأوثان وعبدوا الإله الحق من الأمم بالمتعبدين لما سمعوه من كتب اليهود أو في مجامعهم. فالظاهر أن ليدية كانت من هؤلاء (انظر ص ١٣: ٤٣ و٥٠).
فَتَحَ ٱلرَّبُّ قَلْبَهَا القلب هنا بمعنى مركز الإرادة والعواطف والذهن وفتحه من أعمال الروح القدس فإنه من شأنه أن يلين القلب ويميل به إلى الحق والتسليم بالحق. فالروح الذي أرسل بولس إلى هنالك وفتح شفتيه للتكلم هو فتح قلبها للإصغاء. ولم يفتح الروح قلبها إجباراً بل أظهر لها الحق وهي التفتت إليه وسلمت به اختياراً. ومُغلقات القلب دون الحق الكبرياء والتعصب الجهلي وكره الحق.
١٥ «فَلَمَّا ٱعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ بَيْتِهَا طَلَبَتْ قَائِلَةً: إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ أَنِّي مُؤْمِنَةٌ بِٱلرَّبِّ، فَٱدْخُلُوا بَيْتِي وَٱمْكُثُوا. فَأَلْزَمَتْنَا».
تكوين ١٩: ٣ و٣٣: ١١ وقضاة ١٩: ٢١ ولوقا ٢٤: ٢٩ وعبرانيين ١٣: ٢
فَلَمَّا ٱعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ بَيْتِهَا لا يقتضي هذا أنها أتت ذلك في أول سمعها كلام الحق فتعميدها كان بعد أن اختبرت صحة إيمانها. ولاعتماد أهل بيتها معها نظائر في الإنجيل (ص ١٠: ٤٨ و١٦: ٣٣ و١كورنثوس ١: ١٦) وهذا مما يستدل به على جواز تعميد الأطفال إجراء للمعمودية مجرى الختان عند اليهود. ومن أول إجراء إيمان ليدية أنها اعترفت بإيمانها جهاراً واعتنت بواجباتها الدينية لأهل بيتها فمن لم يعتن بخلاص أهل بتيه يُشك في صحة إيمانه.
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ لأنكم بتعميدكم أياي قد سلمتم بصحة إيماني.
ٱمْكُثُوا أي أقيموا ببيتي مدة إقامتكم بفيلبي. بنت دعوتها إياهم على أنه من استحق أن يعتمد استحق أن يدعو خدم الإنجيل إلى بيته. وهذا أيضاً من أثمار إيمانها لأن إضافة الغرباء من الواجبات المسيحية (رومية ١٢: ١٣ و١تيموثاوس ٣: ٢). إن محبتها للمسيح حملتها على الإحسان إلى عبيده كما فعل السجان هنالك حين آمن (ع ٣٤) والمسيح يحسب إكرام عبيده إكراماً له (متّى ٢٥: ٤٠).
فَأَلْزَمَتْنَا بإلحاحها ولذلك قبل بولس ضيافتها مع رفقائه على خلاف عادته (ص ٢٠: ٣٣ و٣٤) لئلا يُتهم بأنه يخدم الإنجيل لربح دنيوي. والأرجح أنهم كانوا أولاً في الفندق وأن بولس كان ينفق عليهما مما كان يحصله من صناعته ومما يحصله لوقا من معالجة المرضى.
١٦ «وَحَدَثَ بَيْنَمَا كُنَّا ذَاهِبِينَ إِلَى ٱلصَّلاَةِ، أَنَّ جَارِيَةً بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ ٱسْتَقْبَلَتْنَا. وَكَانَتْ تُكْسِبُ مَوَالِيَهَا مَكْسَباً كَثِيراً بِعِرَافَتِهَا».
تثنية ١٨: ١٠
ذَاهِبِينَ من بيت ليدية.
إِلَى ٱلصَّلاَةِ في المعبد الخارجي المذكور في الآية الثالثة عشرة أو مكان في المدينة اتخذوه مجتمعاً دينياً.
جَارِيَةً القرينة تدل على أنها أَمة أي مملوكة.
بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ الحق أنه كان فيها شيطان كما يظهر من (ع ١٨) ولكن لوقا تكلم بمقتضى اعتقاد أهل فيلبي فإن الوثنيين ذهبوا يومئذ إلى أن في هيكل دلفي في بلاد اليونان كاهنات تُعلن الأسرار بوحي أبلو إله ذلك الهيكل ولهذا قصده كثيرون من المحتارين في أمورهم. فظن أهل فيلبي أن تلك الجارية مثل تلك الكاهنات. ولعلها كانت تصاب بالصرع وتصرخ صراخ تلك الكاهنات. وكان مواليها يفسرون صراخها كما شاءوا ليخدعوا الناس.
مَوَالِيَهَا أي أسيادها وعلة أن لها عدة أسياد كثرة ثمنها لكثرة الربح بها.
بِعِرَافَتِهَا أي بإظهارها الخفايا وحوادث المستقبل وهذا إما باطل بجملته وإما حق في بعض الأمور لأنه ربما كان الشيطان الذي فيها يساعدها على إعلان بعض ما لم يستطع البشر معرفته.
١٧ «هٰذِهِ ٱتَّبَعَتْ بُولُسَ وَإِيَّانَا وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسُ هُمْ عَبِيدُ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ ٱلْخَلاَصِ».
متّى ٨: ٢٩ ولوقا ٤: ٣٤
ٱتَّبَعَتْ... وَصَرَخَتْ كانت تأتي ذلك كلما كانوا يذهبون إلى الصلاة.
قَائِلَةً الخ لا بد من أنها سمعت بولس في المعبد إذ تبعته إلى هناك وهو يعظ في الإله العلي وطريق الخلاص فرددت قوله إما مستهزئة بها وإما غير مدركة معناه ولا مكترثة به. أو أن قولها كان شهادة بالحق أُجبر الروح النجس على تأديتها كما شهد الشياطين للمسيح (مرقس ١: ٨ و٥: ٧ ولوقا ٤: ٣٤ و٨: ٢٤).
١٨ «وَكَانَتْ تَفْعَلُ هٰذَا أَيَّاماً كَثِيرَةً. فَضَجِرَ بُولُسُ وَٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلرُّوحِ وَقَالَ: أَنَا آمُرُكَ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا. فَخَرَجَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».
مرقس ١: ٢٤ و٣٤ مرقس ١٦: ١٧
فَضَجِرَ بُولُسُ بعد الاحتمال مراراً. وعلة ضجره أنها كانت تمنع الناس بصراخها من سمع تعليمه وينشأ عنها ازدحام كثيرين من الأرذلين الذين لا يستفيدون من وعظه ولا يتركون بلغطهم سبيلاً إلى استفادة غيرهم. وأنه كان يعد مثل تلك الشهادة من مثل ذلك الشاهد تضر بالحق (وإن كانت حقاً) اقتداء بربه يسوع (مرقس ١: ٣٤). ولعله شفق عليها أيضاً وسئم من استعباد الشيطان إياها.
ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلرُّوحِ أي إلى الجارية التي فيها الروح وهي تتبعه. وهذا دليل على أن ما أصابها لم يكن مرضاً أو فساد عقل بل كان تأثير روح نجس سكنها كما ذُكر في (ص ٥: ١٦).
بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بسلطانه وبالنيابة عنه. ففي هذا اقتدى بولس بيسوع في إخراجه اللجئون من المجنون في كورة الجدريين (لوقا ٨: ٢٦ - ٣٥).
فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ أي حالاً. وما تبيّن هنا من أمر بولس وإطاعة الشيطان له أنه كان الشيطان ساكن تلك الجارية حقيقة. ولا نسمع من أمر هذه الجارية شيئاً بعد ذلك ولكن لا يبعد عن الظن أن المرأتين اللتين جاهدتا مع بولس في الإنجيل هنالك (فيلبي ٤: ٢) اعتنتا بها نفساً وجسداً.
١٩ «فَلَمَّا رَأَى مَوَالِيهَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ، أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ وَجَرُّوهُمَا إِلَى ٱلسُّوقِ إِلَى ٱلْحُكَّامِ».
ص ١٩: ٢٥ و٢٦ و٢كورنثوس ٦: ٥ متّى ١٠: ١٨
رَأَى مَوَالِيهَا علموا من سكوت الجارية أو تغيّر هيئتها وكلامها أنها برئت.
خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ أي خرج الشيطان الذي كان علة ربحهم في الحال ورجائهم الربح في المستقبل.
أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ غضباً وانتقاماً لخسارتهم ربحهم المحرم ولم يبالوا بما حصلت عليه الجارية من النفع بتحريرها من عبودية الشيطان الجائرة. وما هيّجهم على الرسل كان في كل عصر علة مقاومات كثيرة للديانة المسيحية. والظاهر انهم لم يمسكوا لوقا وتيموثاوس لكونهما لم يتظاهرا في الكلام ولا في العمل وهما في منزلة دون منزلة بولس وسيلا.
إِلَى ٱلسُّوقِ حيث دار الحكومة ومجتمع الناس.
٢٠، ٢١ «٢٠ وَإِذْ أَتَوْا بِهِمَا إِلَى ٱلْوُلاَةِ قَالُوا: هٰذَانِ ٱلرَّجُلاَنِ يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ، ٢١ وَيُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلاَ نَعْمَلَ بِهَا، إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ».
١ملوك ١٨: ١٧ وص ١٧: ٦
ٱلْوُلاَةِ صنف من الحكام المذكورين في ع ١٩.
قَالُوا لم يذكروا للحكام علة شكواهم الحقة إذ عرفوا أنها ليست بذنب شرعاً. ولم يكونوا مبالين لتعليم بولس وسيلا ولولا غيظهم من إضاعة مكسبهم ما شكوا عليهما بشيء ولا التفتوا إليهما. ومثل ذلك جرى على المسيح فإن مجلس السبعين حكم عليه بالعقاب بدعوى أنه جدف ولكنهم شكوه إلى بيلاطس بأنه يهيج الفتن (لوقا ٢٢: ٦٦ - ٧١ ويوحنا ١٨: ١٩ و١٩: ١٢).
يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا أي يقلقان أفكار أهل المدينة وما في الآية الحادية والعشرين تفسير لهذه العبارة.
يَهُودِيَّانِ ذكروا ذلك ليحملوا الحكام على كرههما لأن الرومانيين كانوا يكرهون اليهود ويحسبونهم أهل شغب ومكايد وبناء على مثل هذا أمر كلوديوس قيصر بنفيهم من رومية ولا بد من أن ذلك كان معروفاً في فيلبي. ولعل اليهود كانوا قد نفوا منها بناء على ذلك الأمر وعلى أن فيلبي كانت كرومية ثانية (انظر شرح ع ١٢) ولم يفرق الوثنيون بين اليهود والمسيحيين فكان المسيحيون عرضة للنوازل أكثر من غيرهم فاليهود اضطهدوهم لأنهم ليسوا منهم والوثنيون اضطهدوهم باعتبار أنهم يهود.
بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا أشاروا بذلك إلى عقائد اليهود ورسومهم الدينية.
إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ أشاروا بهذا إلى امتيازاتهم عن سائر المدن اليونانية بكون مدينتهم كولونية (ع ١٢) فلم يكن لأهل تسالونيكي مثلاً الحق أن يقولوا مثل هذا. وذكروا أنهم «رومانيون» أي أنهم أشرف الناس ليقابلوا بذلك اليهوديَّين اللذين هما عندهم من أدنى الناس وأن ذنبهما اجتهادهما في تحويلهم عن دينهم وعوائدهم الشريفة إلى دينهما وعوائدهما الدنيئة على قولهم فأقلقا بذلك المدينة. وكان الرومانيون أباحوا لمن استولوا عليهم أن يبقوا في دينهم ويمارسوا رسومه بلا معارضة لكنهم لم يسمحوا بأن يحول أحدٌ أحداً من الرومانيين عن دينه وأن ينشئ ديناً جديداً بغير إذن الحكومة.
٢٢ «فَقَامَ ٱلْجَمْعُ مَعاً عَلَيْهِمَا، وَمَزَّقَ ٱلْوُلاَةُ ثِيَابَهُمَا وَأَمَرُوا أَنْ يُضْرَبَا بِٱلْعِصِيِّ».
٢كورنثوس ٦: ٥ و١١: ٢٣ و٢٥ و١تسالونيكي ٢: ٢
ٱلْجَمْعُ مَعاً عَلَيْهِمَا حرّك موالي الجارية جهلاء الشعب على بولس وسيلا فاتفقوا معهم في الشكوى إلى الولاة فجعلوا الشكاية عامة لا خاصة. والذي حمل الجمع على مشاركة الموالي في ذلك مواساتهم لأهل جنسهم في كره اليهود المبغضين وزعمهم أنهم خسروا نفعاً عظيماً بإزالة بولس وسيلا روح العرافة من الجارية. ولا واسطة للتهييج كظن التعدي على الدين ومثاله التهييج في أفسس (ص ١٩: ٢٧ - ٣٤).
مَزَّقَ ٱلْوُلاَةُ ثِيَابَهُمَا أي أمروا الجلادين بتعريتهما كعادتهم عند الأمر بجلد المذنبين فعروهما بالعنف حتى مزقوا ثيابهما. وعاملوهما كمذنبين بلا فحص تسكيتاً وتسكيناً للجمع الذي كان يصرخ ويهيج وإظهاراً لبغضهم اليهود.
أَنْ يُضْرَبَا بِٱلْعِصِيِّ كان هذا العقاب شديد الألم كثير الإهانة لا يجوز أن يُعاقب به روماني بمقتضى الشريعة الرومانية لما فيه من وفرة الهوان. وكان هذا الضرب إحدى المرات الثلاث التي ذكرها بولس بقوله «ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِٱلْعِصِيِّ» (٢كورنثوس ١١: ٢٥). ولا نعلم أين ضُرب المرتين الأخريين. فإن قيل لماذا لم يطلب بولس وسيلا حقوقهما باعتبار أنهما رومانيان في الحال لا في الغد بعد أن ضُربا (ع ٣٧) قلت لعلهما أتيا ذلك ولم يُسمعا لكثرة ضجيج القوم وعدم تصديقهما إن كانا قد سُمعا.
٢٣ «فَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً فَأَلْقَوْهُمَا فِي ٱلسِّجْنِ، وَأَوْصُوا حَافِظَ ٱلسِّجْنِ أَنْ يَحْرُسَهُمَا بِضَبْطٍ».
ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً هذا يدل على أنهم ضربوهما أكثر مما اعتادوا. والشريعة الرومانية لم تحدد عدد الضربات كالشريعة الموسوية (تثنية ٢٥: ٣) فكانوا يضربون المذنبين ما شاءوا. ولا بد أن ظهر كل منهما كان دامياً لما أنشأ فيه الضرب الشديد على لحمه. وأشار بولس إلى ذلك في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي بقوله «بَعْدَ مَا تَأَلَّمْنَا قَبْلاً وَبُغِيَ عَلَيْنَا كَمَا تَعْلَمُونَ، فِي فِيلِبِّي» (١تسالونيكي ٢: ٢).
أَوْصُوا حَافِظَ ٱلسِّجْنِ جهاراً ليسمع الجميع وليكفوا عن الصراخ والضجيج وليفهموا أن الحكام سيحاكمون بولس وسيلا ويعاقبونهما كما يستحقان. وتوصيتهم السجان تدل على أنهم حسبوهما من شر المذنبين وأكثرهم أضراراً وأنه يقتضي شديد الاحتراس منهما.
٢٤ «وَهُوَ إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هٰذِهِ أَلْقَاهُمَا فِي ٱلسِّجْنِ ٱلدَّاخِلِيِّ، وَضَبَطَ أَرْجُلَهُمَا فِي ٱلْمِقْطَرَةِ».
إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هٰذِهِ ذكر لوقا هذا بياناً لعلة قساوة السجان فإنه فعل ما فعله إطاعة لتوصية الحكام الخاصة.
ٱلسِّجْنِ ٱلدَّاخِلِيِّ كان السجن غالباً ثلاثة أقسام الأول يدخله النور ويتجدد فيه الهواء والثاني داخل بابا حديد محكم الإيصاد والثالث وراء الثاني غلب أن يكون تحت الأرض مثل الكهف وأن لا يُسجن فيه إلا من وجب عليه الموت.
أَرْجُلَهُمَا فِي ٱلْمِقْطَرَةِ هذه واسطة ثانية للاحتراس بمقتضى الوصية. والمقطرة آلة تعذيب وضبط وهي خشبة صلبة ثقيلة فيها خروق لضبط أعضاء المسجونين وغلب أن تكون خروقها خمسة واحد لضبط الرأس واثنان لليدين واثنان للرجلين وكل من خرقَي الرجلين بعيد عن الآخر إلى حد ينشئ ألماً شديداً للمسجون. وسجان فيلبي لم يضبط سوى أرجلهما. واستعمل الناس المقطرة من قديم العصور (أيوب ١٣: ٢٧ وإرميا ٢٠: ٢ و٢٩: ٢٦).
٢٥ «وَنَحْوَ نِصْفِ ٱللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ ٱللّٰهَ، وَٱلْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا».
نِصْفِ ٱللَّيْلِ حرمهما النوم ألم الجراح الناشئة من الضرب وتعذيب المقطرة والجوع (ع ٣٤) ولكن مع تعبهما الجسدي كان ضمير كل منهما مستريحان وقلب كلّ مسنوداً بالنعمة الإلهية.
يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ ٱللّٰهَ لم يستطيعا أن يجثوا للصلاة لكنهما استطاعا أن يرفعا الصوت والقلب إلى السماء ولم يعوّلا لما اصابهما ولم يتذمراً على الله بأن جعل ذلك من عواقب إطاعتهما لأمره في رؤيا ترواس لكنهما وجدا في ذلك كله ما حملهما على الصلاة والتسبيح. ولعل بعض موضوع صلاتهما أن يكون ما أصابهما وما سيصيبهما من محاكمتهما في الغد وسيلة إلى انتشار الإنجيل. وبعض علل التسبيح أنهما حُسبا مستأهلين أن يُهانا من أجل اسم الرب (ص ٥: ٤١) وأنهما ذكرا قول السيد «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١١ و١٢) وأن الله شددهما في ذلك الضيق. اطمئنان بطرس في سجنه مكنه من النوم في شدة ضيقه لكن أحوال بولس وسيلا لم تسمح لهما بالنوم فاعتاضا عنه بالصلاة والتسبيح. والمرجح أنهما ترنما ببعض مزامير داود التي توافق ما كانا فيه.
وَٱلْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا ذكر الكاتب ذلك بياناً أنهما صليا وترنما بأصوات الشجاعة والنشاط والسرور إظهاراً لبرآتهما من الذنب وفرحهما بالروح القدس وأن المسجونين فضلوا الاستماع على النوم وأصغوا بعجب ومسرة إلى تلك الأصوات التي لم يعهدوا مثلها في ذلك المكان.
ولنا من ذلك ثلاث فوائد:
- الأولى: أن الديانة المسيحية تنشئ فرحاً داخلياً لا يدفعه شيء من الأحوال الخارجية.
- الثانية: أنه لا يستطيع أعداء المسيحي أن يسلبوه سروره فإن حرموه كل المنافع الدنيوية لم يستطيعوا أن يحرموه نعمة الله.
- الثالثة: إن من شأن الضمير الصالح منح صاحبه وهو في السجن سلاماً وسعادة لا يمنحها الغنى صاحبه وهو في الفرج.
٢٦ «فَحَدَثَ بَغْتَةً زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ ٱلسِّجْنِ، فَٱنْفَتَحَتْ فِي ٱلْحَالِ ٱلأَبْوَابُ كُلُّهَا، وَٱنْفَكَّتْ قُيُودُ ٱلْجَمِيعِ».
ص ٤: ٣١ ص ٥: ١٩ و١٢: ٧ و١٠
زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ لم تكن الزلزلة عادية بل جعلها الله آية حضوره ليؤكد لعبديه حمايته إياهما وعنايته بهما وإجابته لصلاتهما (ص ٤: ٣١) وتبرئتهما جهاراً من كل ذنب ولتكون وسيلة لنجاتهما وشهادة بصحة الديانة التي بشرا بها.
حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ ٱلسِّجْنِ الأرجح أن علة ذكر هذا كون السجن الداخلي تحت الأرض عند الأساس حتى تزعزع هو أيضاً.
فَٱنْفَتَحَتْ فِي ٱلْحَالِ ٱلأَبْوَابُ كُلُّهَا أي دفعة واحدة لا على التوالي كما لو فتحها إنسان وانفتحت من الباب الخارجي إلى الباب الداخلي وهذا جزء من المعجزة ونتيجة الزلزلة.
وَٱنْفَكَّتْ قُيُودُ ٱلْجَمِيعِ وهذا جزء آخر من المعجزة وغايته الشهادة بصحة الديانة التي بشر بها بولس وسيلا اللذان سمع المسجونون صلاتهما وتسبيحهما. ولا بد من أنهم عرفوا علة سجنهما واستنتجوا أن ما حدث كان مما سمعوه منهما وأن الله أعلن أنه أخذ في تبرئتهما وإنقاذهما. ولولا انفكاك القيود لكان لهم أن يظنوا الزلزلة عادية وانفتاح الأبواب من شدة تأثيرها. ولا بد من أن الله جعل في قلوب المسجونين أن يبقوا في السجن مع الفرص للهرب على أنه يمكن أنهم بقوا فيه من تأثير هول الزلزلة وجهلهم كل الأحوال لظلام الليل.
إن لله كل الوسائط لإنقاذ عبيده فيمكنه أن يرسل ملاكه ليقودهم بسكون من السجن كما أنقذ بطرس (ص ١٢) وأن يرسل زلزلة يزعزع أسس السجن ويخيف المضطهدين ويُطلق من له كما فعل هنا.
٢٧ «وَلَمَّا ٱسْتَيْقَظَ حَافِظُ ٱلسِّجْنِ، وَرَأَى أَبْوَابَ ٱلسِّجْنِ مَفْتُوحَةً، ٱسْتَلَّ سَيْفَهُ وَكَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، ظَانّاً أَنَّ ٱلْمَسْجُونِينَ قَدْ هَرَبُوا».
كان من الطبع أن يظن المسجونين هربوا لما رأى أبواب السجن مفتوحة وعلم أن الشريعة الرومانية توجب قتل من نام في نوبة الحراسة وسمح للمسجونين الموكولين إلى حراسته بالهرب (ص ١٢: ١٩ قابل هذا بما في ص ٢٧: ٤٢) فعزم أن ينتحر خوفاً من عار القتل جهاراً وحسب هذا العار شراً ما يمكن أن يصيبه في عالم الأرواح. وكثيراً ما أتى الرومانيون الانتحار في مثل هذه الأحوال. فإن في تلك المدينة عينها انتحر بروتس وكاسيوس وكثيرون من أعوانهما حين غُلبا في محاربة أوغسطس وأنطونيوس. ورأى مؤرخو ذلك العصر أن ذلك من شجاعتهما ومما يوجب لهما المدح واتخذوهما قدوة في ذلك. ومن فوائد الدين المسيحي أنه أبان فظاعة الانتحار وقلله كثيراً.
رَأَى أَبْوَابَ ٱلسِّجْنِ مَفْتُوحَةً مع أنه أوصدها بأحكام قبل نومه.
ٱسْتَلَّ سَيْفَهُ الذي كان اقتناؤه من واجبات كل سجّان وكان ذلك السيف قريباً منه وقتئذ أو على مقلده وهو نائم.
٢٨ «فَنَادَى بُولُسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيّاً، لأَنَّ جَمِيعَنَا هٰهُنَا».
بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ليسمعه السجّان ويكف عن عزمه. ولا ريب في أن الله أعلن لبولس عزم السجان على الانتحار وأن المسجونين لم يهربوا لأنه كان في السجن الداخلي حيث لا شيء من النور كما يظهر من (ع ٢٩).
لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيّاً أي لا تضر جسدك بإزالة حياته ولا روحك بارتكاب القتل لأنه إثم نهى الله عنه بقوله «لا تقتل» وقال له ذلك إذ شفق عليه ولم يرد أن يهلك نفساً وجسداً. فلو أراد بولس الانتقام منه لقساوته عليهما لسكت وتركه ينتحر. فالديانة المسيحية لا تبرح تقول لكل إنسان يضر جسده ونفسه بالمسكرات وإطلاقه لها العنان في ميدان الشهوات والإصغاء إلى أقوال الكفر «لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً».
جَمِيعَنَا هٰهُنَا أي نحن بولس وسيلا وسائر المسجونين فلا علة لأن تخاف أو تضر نفسك.
٢٩ «فَطَلَبَ ضَوْءاً وَٱنْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ، وَخَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ».
فَطَلَبَ ضَوْءاً لإنارة السجن كله ليتحقق وجود جميع المسجونين ولينفع بولس وسيلا.
ٱنْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ أي إلى السجن الداخلي حيث بولس وسيلا. فالظاهر أنه تحقق أن الزلزلة غير عادية جعلها إلههما آية مسرّته بهما وأنه عرض نفسه لغضب ذلك الإله لاعتدائه عليهما.
خَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ احتراماً وتوقيراً لهما واعترافاً بأنهما في حماية قوة إلهية وأنه قسا عليهما جهلاً.
وَهُوَ مُرْتَعِدٌ خوفاً مما حدث ومما يمكن أن يحدث. وهنا يظهر لما حدثت الزلزلة امتلأ السجان رهبة وكآبة ويأساً وندماً ولكن الرسولين كانا حينئذ في اطمئنان وسلام وفرح. أراد ذاك أن يقتل نفسه وأراد هذان أن يفعلا خيراً بإنقاذ غيرهما من الهلاك نفساً وجسداً. وكذا يكون الفرق في أوقات المرض والموت وفي يوم الدين. فما أجدر بكل إنسان أن يتمسك بالرجاء الموضوع أمامه بيسوع المسيح الذي به وحده ينال الراحة والأمن.
٣٠ «ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟».
لوقا ٣: ١٠ وص ٢: ٣٧ و٩: ٦
أَخْرَجَهُمَا من السجن الداخلي إلى السجن الخارجي لأنه أرحب من ذاك وأوفق للتكلم.
يَا سَيِّدَيَّ خاطبهما بلطف واحترام مخاطبة الأدنى للأعلى.
مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ الخ عرفنا معنى السؤال من الجواب أي أنه سأل عن وسيلة خلاص نفسه الأبدي إذ لم يكن في خوف من الحكام لأنه لم يهرب أحد من المسجونين وعلى فرض أنه كان في خوف منهم لم يتوقع أن يستعين ببولس وسيلا. ولا بد أنه كان قد علم في الأيام والأسابيع التي تقضت على الرسولين في فيلبي أن غاية وعظهما خلاص النفوس. ولا ريب في أنه كان قد سمع قول الجارية وهي تتبعهم «هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسُ هُمْ عَبِيدُ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ ٱلْخَلاَصِ» (ع ١٧) وأن روح الله أيقظ ضميره وأبان له أن نفسه في خطر من العقاب على إثمه وأنه مفتقر إلى خلاص أبدي من غضب ذلك الإله (الذي تحقق قوته بالزلزلة) والهلاك الأبدي. وليس ببعيد أنه سمع يوماً بولس وسيلا يبشران بالمسيح وخلاصه. فعلى كل منا ان يسأل هذا السؤال وأن يتأمل حسناً في الجواب لأنه يهمهما كما كان يهم السجان. وهذا الخلاص نزل ابن الله من السماء إلى الأرض وتألم ومات لكي نحصل عليه.
٣١ «فَقَالاَ: آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ».
يوحنا ٣: ١٦ و٣٦ و٦: ٤٧ و١يوحنا ٥: ١٠
فَقَالاَ أي بولس وسيلا كلاهما.
آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أي تنجو من الخطيئة وعقابها في هذا العالم وفي العالم الآتي بواسطة الإيمان بالمسيح. هذا الجواب جامع لشروط الخلاص بأحسن إيجاز وأوضح بيان وقد صار بركة لألوف وربوات من الناس. ولا ذكر فيه لشيء من الوسائل الاستعدادية كالصلاة وقراءة الكتاب وتوقع نعمة الله إنما هو أمر بمجرد الإيمان في الحال. ولا ذكر فيه لشيء من الأعمال الصالحة كإيفاء القوانين والنذور وزيارة الأماكن المقدسة ولا لوسيط غير المسيح من ملائكة أو قديسين أو رسل. وكان سؤال الناس يوم الخمسين مثل سؤال السجان (ص ٢: ٣٧). وجواب بطرس كجواب بولس معنىً لا لفظاً وهو ما نصه «توبوا وليتعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا» فإن الإيمان يقترن بالتوبة أبداً ووجود أحدهما يستلزم وجود الآخر. وبولس عمّد السجان مع أن وجوب المعمودية لا ذكر له في جوابه هنا.
أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ أي أنت تخلص بإيمانك وأهل بيتك بإيمانهم كما آمنت لا بإيمانك نيابة عنهم. وأظهرا بقولهما ذلك أن أهل بيته في حاجة إلى الخلاص مثله وأن الخلاص معروض عليهم ليشاركوه في الفرح والسلام والأمن.
٣٢ «وَكَلَّمَاهُ وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ».
جَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ من أهله وخدمه ويحتمل أن المسجونين كانوا من السامعين أيضاً. فما أغرب محل هذا الوعظ أنه دار السجن وما أغرب وقته فإنه كان بين منتصف الليل والصبح.
بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ أي بما يشرح ما قاله سابقاً من ان الخلاص بالإيمان بالرب يسوع المسيح فبينا أن اسم يسوع وأعماله وأقواله تُعلن أنه هو المخلص. ولا بد من أنهم أنبآه بذوات الشأن من حوادث حياته وموته وقيامته وأعلماه كيف أوجد المغفرة للمؤمنين وما يجب على من آمن به لله وللناس. ولا بد من أنهما ذكرا من جملة تلك الواجبات المعمودية والعشاء الرباني.
٣٣ «فَأَخَذَهُمَا فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ ٱلْجِرَاحَاتِ، وَٱعْتَمَدَ فِي ٱلْحَالِ هُوَ وَٱلَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ».
فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ ذكر لوقا الوقت ليبيّن أن السجان أتى تلك الخدمة في وقت لم يعتد أن تكون في مثله.
وَغَسَّلَهُمَا مِنَ ٱلْجِرَاحَاتِ أي من دم الجراح التي أنشأها الضرب ومن الوسخ الذي تراكم على تلك الجراح من طرحهما على الظهرين في السجن الداخلي وهما في المقطرة. وهذا أول أثمار إيمانه فإنه رحمة للمتألمين المحتاجين. وقد أتت الديانة المسيحية بمثل تلك الأثمار في كل مكان بلغته فبنت المستشفيات العامة وملاجئ العمي والبكم والعاجزين واليتامى.
كان لبولس قوة على شفاء غيره كما كان لسائر الرسل ولكنه لم ينفع نفسه بتلك القوة.
وَٱعْتَمَدَ بموجب أمر المسيح (متّى ٢٨: ١٩) وضرورة الحال تشير إلى أن تلك المعمودية بالرش.
فِي ٱلْحَالِ حذراً من فوات الفرصة مع تحقق الرسولين صحة إيمانه ووجوب المعمودية التي هي علامة المغفرة وختمها.
وَٱلَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ هذا مما يسند القول بمعمودية الأطفال لأنه إن كان لذلك السجان من صغار فالعبارة تشملهم.
٣٤ «وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً، وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِٱللّٰهِ».
لوقا ٥: ٢٩ و١٩: ٦
أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ من السجن تحت إلى منزله فوق.
قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً كان من أثمار إيمانه أيضاً أن لان قلبه بعد القسوة وقام بضيافة من لم يلتفت إلى طعامهما حين سجنهما. ولا بد من أن الرسولين كانا محتاجين إلى الغذاء حينئذ لأنهما على ما يرجح لم يذوقا طعاماً منذ أمسكا وهما ذاهبان إلى الصلاة في الساعة الثالثة من النهار وهي إحدى أوقات الصلاة المفروضة عند اليهود. ولا يبعد عن الظن أن بولس وسيلا اتخذا فرصة تناول الطعام مع السجان وأهله للغذاء فرصة «لوليمة المحبة التي اعتاد المسيحيون الأولون أن يتخذوها علامة أخوتهم بيسوع المسيح» (ص ٢: ٤٢ و٤٦).
وَتَهَلَّلَ الخ أي فرح. وعلة فرحه وفرح بيته اتكالهم على رحمة الله بيسوع المسيح للخلاص. والحق أنه كان له ما يوجب الفرح لأنه حين اضطجع في مرقده كان وثنياً يجهل المسيح وطريق الخلاص عرضة لغضب الله والهلاك الأبدي واستيقظ نصف الليل خائفاً يؤنبه ضميره وقد عزم على الانتحار هرباً من الأخطار المحيطة به ولكنه لم يطلع النهار إلا وهو مسيحي مستريح الضمير يعرف طريق الخلاص وقد شرع في السير فيه وأهل بيته وكما أنشأ الإنجيل الفرح لهؤلاء أنشأه لأهل السامرة (ص ٨: ٨) وللحبشي (ص ٨: ٣٩) ولكل من آمن به على هذه الأرض.
٣٥ «وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ أَرْسَلَ ٱلْوُلاَةُ ٱلْجَلاَّدِينَ قَائِلِينَ: أَطْلِقْ ذَيْنِكَ ٱلرَّجُلَيْنِ».
ٱلْجَلاَّدِينَ الذين ضربوا الرسولين قبلاً.
قَائِلِينَ الخ على خلاف ما قصدوه حين أمروا بسجنهما فإنهم قصدوا أن يأتوا بهما إلى المحاكمة ويحكموا عليهما بالعقاب أو الموت بحسب الشريعة الرومانية فإنها تأمر بقتل كل مبتدع ديناً جديداً لا تأذن في نشره أرباب الحكومة. ولا نعلم ماذا ثناهم عن عزمهم ولعله تأثير الزلزلة (ويؤيد ذلك أنهم أرسلوا الجلادين في أول الصباح) أو ندمهم على مخالفة الشريعة بأمرهم بضربهما وحبسهما بلا محاكمة أو سؤال عما سبق منهما فأرادوا أن يتخلصوا من ذلك بإطلاقهما خفية.
٣٦ «فَأَخْبَرَ حَافِظُ ٱلسِّجْنِ بُولُسَ أَنَّ ٱلْوُلاَةَ قَدْ أَرْسَلُوا أَنْ تُطْلَقَا، فَٱخْرُجَا ٱلآنَ وَٱذْهَبَا بِسَلاَمٍ».
فَأَخْبَرَ حَافِظُ ٱلسِّجْنِ بُولُسَ لا بد من أنه فرح بإطلاق صديقيه الجديدين وبنجاتهما مما خاف من أن يصيبهما بعد المحاكمة وسره أنه نجا بذلك من الارتباك في ما يجب عليه للولاة في أمرهما وما يجب عليه لله في ذلك ولا ريب في أنه حسب إطلاق الولاة لهما تنازلاً ولطفاً منهم يقبله بولس وسيلا بفرح وشكر.
فَٱخْرُجَا ٱلآنَ لأن الولاة أذنوا في ذلك فلم يبق من مانع لخروجكما.
ٱذْهَبَا بِسَلاَمٍ حيّاهم تحية الأصدقاء عند المفارقة (ص ١٥: ٣٣) ظاناً أنهما يغتنمان فرصة الذهاب في الحال.
٣٧ «فَقَالَ لَهُمْ بُولُسُ: ضَرَبُونَا جَهْراً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ رَجُلاَنِ رُومَانِيَّانِ، وَأَلْقَوْنَا فِي ٱلسِّجْنِ أَفَٱلآنَ يَطْرُدُونَنَا سِرّاً؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا».
ص ٢٢: ٢٥
فَقَالَ لَهُمْ بُولُسُ أي للجلادين. كانت كل كلمة مما قاله بولس دعوة على الولاة لو أراد أن يقيمها فمفاد الأولى أن ضربهم كان شديداً فوق المعتاد فإن ما تُرجم «بالضرب» هنا هو السلخ في الأصل اليوناني. والثانية أنهم أتوا ذلك جهراً أمام كل الجمهور فزاد ذلك الرسولين عاراً فوق الألم الشديد. الثالثة أنهم أتوا ذلك بلا فحص أو محاكمة. والرابعة أنهم فعلوا بهما ذلك وهما ممن حكمت الشريعة الرومانية بمنع ضربهم مطلقاً وسجنهم قبل المحاكمة وإثبات الذنب. وحصل بولس على هذا الحق (مع أنه يهودي) بالإرث (ص ٢٢: ٢٩) ولا نعلم بأي وسيلة حصل سيلا عليه لكنا علمنا أنه كان يسمى بسلوانس (٢كورنثوس ١: ١٩ و١تسالونيكي ١: ١) وهو اسم روماني فلعل أحد أسلافه كأبيه أو جده خدم الدولة الرومانية بالحرب فحصل على ذلك الحق له ولنسله. فالذين اشتكوا عليهم قالوا أنهم هم رومانيون (ع ٢١) ليثبتوا أن الرسولين تعديا على حقوقهم وقالوا أنهما يهوديان ليعيروهما فقال بولس أنهما رومانيان مثلهم ليثبت إنهم تعدوا على حقوقهما وأنهما مستحقان تبرئة الولاة إياهما.
أَفَٱلآنَ أي أبعد هذا الظلم.
يَطْرُدُونَنَا حسب الرسول إطلاقهما على هذا الأسلوب طرداً.
لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا أي ضربونا جهراً فيجب أن يطلقونا جهراً. وغاية بولس من كل هذا ليس بغية الشرف له ولسيلا ولا تخجيل الولاة وتخويفهم انتقاماً بل إكرام الديانة التي ناديا بها وأُهينت بإهانتهما والحصول على الأمن لسائر مؤمني فيلبي بعد ذلك ولتشجيع قلوبهم ولعله أراد أن يعلم الولاة أن يحكموا في الدعاوي بمقتضى الشريعة لا بمجرد صراخ المشتكين.
يحق للمسيحيين أن يطلبوا حماية الشريعة المدنية كغيرهم وأن يطلبوا منها الإنصاف. فالدين المسيحي لا يجبر أهله على ترك حقوقهم.
٣٨ «فَأَخْبَرَ ٱلْجَلاَّدُونَ ٱلْوُلاَةَ بِهٰذَا ٱلْكَلاَمِ، فَٱخْتَشَوْا لَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُمَا رُومَانِيَّانِ».
فَٱخْتَشَوْا كان اختشاؤهم في محله لأنهم بمعامتلهم بولس وسيلا على خلاف ما اقتضته الشريعة الرومانية (Lex Porcia) كانت أموالهم وحياتهم عرضة للفقدان لأنهم كانوا بذلك التعدي كأنهم تعدوا على حقوق كل الشعب الروماني. فلو أراد بولس وسيلا رفع دعواهما لصار المشكو عليهما شاكين والولاة مشكوّا عليهم. ولا حجة لهم لأنهم إن لم يعرفوا أنهما رومانيان كان عليهم أن يسألوهما قبل ضربهما.
٣٩ «فَجَاءُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِمَا وَأَخْرَجُوهُمَا، وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ».
متّى ٨: ٣٤
فَجَاءُوا لا ريب في أن هذا التنازل كان صعباً عليهم لكنهم سروا بأن يخلصوا به من نتائج ما ارتكبوه من الخطإ.
وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ وقاية لهما وحفظاً لراحة المدينة.
٤٠ «فَخَرَجَا مِنَ ٱلسِّجْنِ وَدَخَلاَ عِنْدَ لِيدِيَّةَ، فَأَبْصَرَا ٱلإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ ثُمَّ خَرَجَا».
ع ١٤
عِنْدَ لِيدِيَّةَ أي بيتها الذي نزلوه ضيوفاً وكان يجتمع فيه الإخوة على ما يرجّح.
فَأَبْصَرَا ٱلإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ لم يذهبا من المدينة على أثر خروجهما من السجن بل بقيا وقتاً ليقويا قلوب الإخوة المضطربة بما أصابهما ومما خافوا أن يقع عليهما من أمثاله فعزياهم بذكر حوادث الليل وأقوال الإنجيل. ولم نعرف من أمور الإخوة هنا سوى أمر السجان لكن بولس في رسالته إلى أهل هذه المدينة ذكر شدة محبتهم إياه ومحبته إياهم وليس في تلك الرسالة كلمة لوم لأحد منهم بل فيها كثير من المدح وخص فيها بالذكر أبفروديتوس في (ص ٢: ٢٥). وتلك الكنيسة الوحيدة التي رضي بولس قبول مساعدتها إياه. وهم لم يقتصروا على مساعدته مرة بل ساعدوه مراراً (٢كورنثوس ١١: ٧ - ١٢ وفيلبي ٤: ١٤ - ١٩).
ثُمَّ خَرَجَا من المدينة لأنهما أكملا معظم ما قصداه فيها فإنهما بشرا بالإنجيل وأسسا كنيسة وكانا على أهبة السفر إلى غيرها على أنهما لم يريدا أن يمكثا لأن بقاءهما هنالك ينشأ عنه خطر عليهما وعلى الإخوة. والظاهر أن لوقا لم يخرج معهما بل بقي هنالك للتبشير لأنه عدل عن صيغة التكلم إلى صيغة الغيبة إلى أن رجع الرسولان إلى فيلبي (ص ٢٠: ٥).
الأصحاح السابع عشر
بولس وسيلا في تسالونيكي ع ١ إلى ٩
١ «فَٱجْتَازَا فِي أَمْفِيبُولِيسَ وَأَبُولُونِيَّةَ، وَأَتَيَا إِلَى تَسَالُونِيكِي، حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ ٱلْيَهُودِ».
أَمْفِيبُولِيسَ اسم هذه المدينة مركب من لفظتين يونانيتين معناهما حول المدينة فأمفي حول وبوليس المدينة. وسُميت بذلك لأن نهر ستريمون يحيط بها إلا قليلاً. واسمها اليوم أمبولي وهي مما اشتهر في قديم التواريخ اليونانية وموقعها على أمد ثلاثة وثلاثين ميلاً من فيلبي غرباً.
أَبُولُونِيَّةَ مدينة على غاية ثلاثين ميلاً من أمفيبوليس غرباً. اجتاز بولس وسيلا في هاتين المدينتين ولم يمكثا للتبشير والمرجح أن على ذلك خلوهما من اليهود ليفتتحا التبشير بواسطتهم.
تَسَالُونِيكِي قصبة مكدونية على غاية سبعة وثلاثين ميلاً من أبولونية وعلى غاية مئة ميل من فيلبي في جهة الجنوب الغربي. كان اسمها ثرما جدد بناءها كسندر وحصنها وسماها تسالونيكي إكراماً لزوجته تساليا أخت اسكندر الكبير. وهي فرضة على رأس خليج ثرما اشتهرت في كل عصر بأنها مركز تجاري وسياسي واسمها اليوم سالونيك ولا تزال مدينة كبيرة ناجحة سكانها نحو سبعين ألفاً.
حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ ٱلْيَهُودِ هذا أول مجمع يهودي وجده بولس وسيلا في مكدونية كان في المدينة كثيرون من اليهود يومئذ ولا يزالون كثيرين فيها اليوم. وكان المجمع من أحسن الوسائل لنشر الإنجيل ولم يغفل لوقا عن ذكره في كل مكان وُجد فيه من الأمكنة التي ذهب الرسولان إليها للتبشير.
٢ «فَدَخَلَ بُولُسُ إِلَيْهِمْ حَسَبَ عَادَتِهِ، وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ مِنَ ٱلْكُتُبِ».
لوقا ٤: ١٦ وص ٩: ٢٠ و١٣: ٥ و١٤ و١٤: ١ و١٦: ١٣ و١٩: ٨
حَسَبَ عَادَتِهِ قيل مثل هذا على المسيح (لوقا ٤: ١٦). فكون بولس رئيس الأمم لم يجعله يكف عن بذل جهده في سبيل إرشاد اليهود إلى الإيمان بيسوع المسيح حيث توجه (انظر شرح ص ١٣: ٤٦). وكان يمكنه علاوة على تبشير اليهود في المجمع أن يبشر من مال من الأمم إلى الدين الحق.
وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ لم يلزم من ذلك أن الرسول لم يقم بتسالونيكي سوى ثلاثة أسابيع لان ما ذكره لوقا في سفر الأعمال من نجاح الإنجيل فيها وما ذُكر في رسالتي بولس إليها يستلزم أنه بقي فيها زماناً طويلاً لانه لم يتركها قبل أن أنشأ فيها كنيسة كبيرة أكثر أعضائها من الأمم. وكان يعمل فيها بيديه لتحصيل أسباب المعاش وهو يبشر (١تسالونيكي ٢: ٩). وأتته مساعدة أهل فيلبي وهو هنالك مرتين (فيلبي ٤: ١٦) وذلك مما يريد القول ببقائه في تسالونيكي أكثر من ثلاثة أسابيع لان المسافة بين المدينتين نحو مئة ميل فتقتضي المراسلة بينهما مدة ليست بقليلة. فنستنتج مما ذُكر أن بولس خص من مدة إقامته هنالك ثلاثة سبوت بمخاطبة اليهود دون غيرهم أو أن الربانيين لم يسمحوا له أن يخاطب الشعب في المجمع أكثر من ذلك.
مِنَ ٱلْكُتُبِ أي أسفار العهد القديم فإن أقوال تلك الكتب ينبوع كل تعليم بولس وأساسه.
٣ «مُوَضِّحاً وَمُبَيِّناً أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ».
لوقا ٢٤: ٢٦ وص ١٨: ٢٨ وغلاطية ٣: ١
هذه الأية تفسير للآية الثانية وهي محاجته اليهود من الكتب.
مُوَضِّحاً وَمُبَيِّناً مفسراً ما هو مبهم أو عسر الفهم (كما جاء في لوقا ٢٤: ٣٢) ومذكراً إياهم ما علموه ليكون أساساً لاحتجاجه.
يَنْبَغِي بموجب قضاء الله الأزلي المعلن في كتابه.
أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ هذا أول الأمرين اللذين قصد إثباتهما والمعنى أن فحوى العهد القديم هي أن المسيح الموعود به يموت كفارة عن الإثم. وقد سبق الكلام على ذلك في الشرح (لوقا ٢٤: ٢٦ و٢٧). ومع أن الكتاب صرح بهذا التعليم أبى اليهود قبوله وقتئذ ولم يزالوا يأبونه إلى الآن معتقدين أن المسيح يملك كملك أرضي على عرش داود بأعظم المجد الدنيوي الذي لم ينله أحد من ملوك نسبه.
هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ الخ هذا ثاني الأمرين اللذين قصد إثباتهما وهو أن يسوع الناصري هو المسيح الذي تألم ومات وقام وأن حوادث تاريخه على وفق نبوءات الكتاب. وإثبات ذلك من كتب اليهود يؤثر فيهم أشد التأثير لأنهم يعتقدون أن كل كلمة فيها موحى بها من الله بل يعتقدون أن كل حرف من حروفه كذلك. ومن النبؤات التي استشهدها بولس وتمت بالمسيح:
- أولاً: أنه يولد في بيت لحم (ميخا ٥: ٢).
- ثانياً: أنه يكون من سبط يهوذا (تكوين ٤٩: ١٠).
- ثالثاً: أنه يكون من نسل يسى وسلالة داود (إشعياء ١١: ١ و١٠).
- رابعاً: تعيين وقت مجيئه (دانيال ٩: ٢٤ و٢٧).
- خامساً: هيئته وصفاته وعمله الخ (إشعياء ص ٥٣).
ولا بد من أن بولس ذكر المعجزات التي فعلها يسوع برهاناً على أنه المسيح لأنه ادعى ذلك والله لا يعمل معجزة إثباتاً لدعوى كاذب. ولا بد من أنه ذكر قيامته أيضاً دليلاً على أنه هو المسيح.
٤ «فَٱقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَٱنْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ، وَمِنَ ٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ، وَمِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
ص ٢٨: ٢٤ ص ١٥: ٢٢ و٢٧ و٣٢ و٤٠
كان لتبشير بولس تأثير عظيم في الحال.
فَٱقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أي من اليهود والدخلاء فإنهم سلموا بصحة ما قاله بولس أي الإنجيل.
ٱنْحَازُوا المعنى في الأصل اليوناني أنهم اختاروا نصيب بولس وسيلا نصيباً لهم أي أنهم انضموا إلى الكنيسة المسيحية معترفين بإيمانهم بواسطة المعمودية.
ٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ هم من عبدوا الإله الحق الوحيد من الأمم سواء اعتقدوا صحة الدين اليهودي أم لا (١تسالونيكي ١: ٩ و٢: ١٤ و٤: ٥).
مِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْمُتَقَدِّمَاتِ الخ أي المرتفعات المقام أو الشريفات. ولا بد أن يكون بعض هؤلاء النساء أزواج أعيان من الأمم كن وسيلة لبولس وسيلا إلى مخاطبة رجالهن بالإنجيل.
٥ «فَغَارَ ٱلْيَهُودُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَاتَّخَذُوا رِجَالاً أَشْرَاراً مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ، وَتَجَمَّعُوا وَسَجَّسُوا ٱلْمَدِينَةَ، وَقَامُوا عَلَى بَيْتِ يَاسُونَ طَالِبِينَ أَنْ يُحْضِرُوهُمَا إِلَى ٱلشَّعْبِ».
رومية ١٦: ٢١
نجاح الإنجيل هيّج حسد اليهود هنا كما هيّجه في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٠) فإنه كان يشق عليهم أن يروا كثيرين من الأمم يفرحون بالبركات التي اعتقدوا أنها لهم دون غيرهم.
اتَّخَذُوا رِجَالاً أَشْرَاراً مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ كان اليهود غرباء هنالك ولم يستطيعوا أن ينشئوا شغباً في المدينة إلا بواسطة وطنيي المدينة فاتخذوا واسطة لإنفاذ قصدهم جماعة من أدنياء الشعب البطالين الجهلاء الأردياء القساة واتخذوهم كذلك بالرشوة أو ما شاكلها فإنه كان أهل السوق في اصطلاحهم ما نسميهم اليوم بالأوباش.
سَجَّسُوا ٱلْمَدِينَةَ أي هيّجوا أهلها وكدروهم بازدحامهم وصراخهم.
يُحْضِرُوهُمَا أي بولس وسيلا ضيفي ياسون.
قَامُوا عَلَى بَيْتِ يَاسُونَ أي هجموا عليه. وياسون في اليونانية كيشوع في العبرانية وكان بولس وسيلا في بيته وكان من أقارب بولس (رومية ١٦: ٢١).
إِلَى ٱلشَّعْبِ كانت تسالونيكي مدينة مستقلة كطرسوس يسوسها ولاة رومانيون. وميّز تسالونيكي بالاستقلال أوغسطس قيصر إثابة لها على تحزبها له يوم محاربته بروتس وكاسيوس سنة ٤٢ ق. م. وكان لأرباب المجلس المحلي سلطان الموت والحياة.
٦ «وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوهُمَا، جَرُّوا يَاسُونَ وَأُنَاساً مِنَ ٱلإِخْوَةِ إِلَى حُكَّامِ ٱلْمَدِينَةِ صَارِخِينَ: إِنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ حَضَرُوا إِلَى هٰهُنَا أَيْضاً».
ص ١٦: ٢٠
ٱلإِخْوَةِ هم الذين آمنوا حديثاً بالمسيح (ع ٤).
حُكَّامِ ٱلْمَدِينَةِ الحكام هنا في اليونانية غير الحكام المذكورين في (ص ١٦: ١٩) وعلة ذلك الفرق بين سياسة المدينتين وهذا من تدقيقات لوقا وما وافق به التاريخ العالمي فكان من الأدلة على صحة ما كتبه في هذا السفر.
فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ أي أقلقوها وبلبلوها. هذه الشكوى تدل على أنه قد بلغ تسالونيكي نبأ انتشار الديانة المسيحية انتشاراً عجيباً وهي مع أنهم قصدوا بها تعيير الديانة المسيحية لا تخلو من بعض الحق لأن غايتها «نقض أعمال إبليس» (١يوحنا ٣: ٨) ونفي كل أنواع الشر من العالم كالظلم والقساوة وعبادة الأوثان والفجور والأوهام الباطلة وإقامة عبادة الإله الحق الروحانية موضعها وهذا لا يكون بلا بلبلة إذ الشيطان لا يسلم مملكته باختياره.
إِلَى هٰهُنَا أَيْضاً بغية تفتين مدينتنا.
٧ «وَقَدْ قَبِلَهُمْ يَاسُونُ. وَهٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ قَائِلِينَ إِنَّهُ يُوجَدُ مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ!».
لوقا ٢٣: ٢ ويوحنا ١٩: ١٢ و١بطرس ٢: ١٣
هٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ أي بولس وسيلا وحزبهما وسائر المسيحيين.
ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ اتهموهم بجرم سياسي وهو عصيان قيصر الأمبراطور الروماني والحق أن الذي أغاظهم وحملهم على الشكوى خوفهم إضرار الديانة اليهودية بانتشار الإنجيل وهذه الشكوى تشبه التي كانت عليهما في فيلبي (ص ١٦: ٢٠). وهي مثل شكوى اليهود على المسيح إلى بيلاطس (متّى ٢٧: ١١ و١٢ ومرقس ١٥: ٢ و٣ ويوحنا ١٨: ٣٣ - ٣٧ و١٩: ١ و٢). والمراد بالأحكام هنا السلطة «وقيصر» اسم عام لكل أمبراطور روماني من أيام يوليوس قيصر الأول.
مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ! ملكوت السموات الذي بشر به بولس ليس من هذا العالم (لوقا ٢٣: ٢) فإنه اتى ليملك قلوب الناس لا أجسادهم فلم يكن مبارياً لقيصر ولا مضاداً له. والمشتكون عرفوا ذلك أو كان لهم أن يعرفوه لو أرادوا ولعلهم بنوا شكواهم على ما جاء في تبشير بولس من أن يسوع رب. ولا بد من أن بولس استعمل في وعظه في تسالونيكي عبارات تشبه بعض عباراته في رسالتيه إليها. ولعلهم أشاروا في شكواهم إلى مثلها (كما في ١تسالونيكي ٢: ١٢ و٥: ١ و٢تسالونيكي ١: ٥ و٢: ١). وحولوا ما قاله في مجيء المسيح الثاني للملك إلى أنه يملك الآن على الأرض.
٨ «فَأَزْعَجُوا ٱلْجَمْعَ وَحُكَّامَ ٱلْمَدِينَةِ إِذْ سَمِعُوا هٰذَا».
أَزْعَجُوا ٱلْجَمْعَ أي أقلقوا أهل المدينة جملة بتهييجهم إياهم على المسيحيين.
وَحُكَّامَ ٱلْمَدِينَةِ لأنهم لم يعرفوا أحقة شكواهم أم باطلة ولا ما يجب عليهم أن يفعلوه وخافوا من أن يُشتكى إلى رومية بحدوث العصيان في تسالونيكي.
إِذْ سَمِعُوا هٰذَا أي ما ذُكر من الشكوى على المسيحيين.
٩ «فَأَخَذُوا كَفَالَةً مِنْ يَاسُونَ وَمِنَ ٱلْبَاقِينَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ».
فَأَخَذُوا كَفَالَةً الأرجح أنهم أخذوا مقداراً من الدراهم ضمانة أنهم لا يأتون شيئاً ينافي راحة المدينة أو أن يسافر بولس وسيلا منها.
ٱلْبَاقِينَ الذين قبض عليهم من المسيحيين عند الهياج. والظاهر أن أولئك الحكام كانوا عادلين لا كحكام فيلبي الذين ظلموا الرسولين ليرضوا سفلة الشعب وكان المضطهدون من اليهود والأمم والمضطهدون المسيحيين كلهم لا بولس وسيلا دون غيرهما بدليل ما جاء في (١تسالونيكي ٢: ١٤).
بولس في بيرية ع ١٠ إلى ١٥
١٠ «وَأَمَّا ٱلإِخْوَةُ فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلُوا بُولُسَ وَسِيلاَ لَيْلاً إِلَى بِيرِيَّةَ. وَهُمَا لَمَّا وَصَلاَ مَضَيَا إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ».
ص ٩: ٢٥ وع ١٤
فَلِلْوَقْتِ الأرجح أنهم أرسلوهما في مساء ذلك اليوم عينه وقاية لهما وللكنيسة من سجس جديد وإنجازاً لوعدهم للحكام.
لَيْلاً كما خرج بولس من دمشق (ص ٩: ٢٥).
إِلَى بِيرِيَّةَ هي مدينة في الجنوب الغربي من تسالونيكي وعلى غاية ستين ميلاً منها وتسمى الآن قيرية وسكانها نحو عشرين ألفاً.
مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ كان يهود بيرية أقل عدداً من يهود تسالونيكي لكن كان لهم مجمع حضره الرسولان للتبشير فيه.
١١ «وَكَانَ هٰؤُلاَءِ أَشْرَفَ مِنَ ٱلَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا ٱلْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هٰذِهِ ٱلأُمُورُ هٰكَذَا؟».
ص ٣٤: ١٦ ولوقا ١٦: ٢٩ ويوحنا ٥: ٣٩
أَشْرَفَ عقلاً وأدباً لا نسباً. وأظهروا أشرفيتهم بإخلاصهم وخضوعهم لسلطان الحق واستعدادهم للنظر في دعاوي الديانة الجديدة بلا هوىً.
مِنَ ٱلَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي لأن هؤلاء كانوا كأكثر اليهود الذين رفضوا دعاوي تلك الديانة بلا فحص لأنها لم توافق ما ألفوه من الآراء ولكن أهل بيرية لم يفعلوا فعلهم فإنهم أطاعوا قول المسيح «فَتِّشُوا ٱلْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (يوحنا ٥: ٣٩).
فَقَبِلُوا ٱلْكَلِمَةَ أي سمعوها وسلموا بها.
بِكُلِّ نَشَاطٍ أظهروا بذلك ما كان لهم من الاستعداد وأنهم وجدوا الديانة الجديدة كافية للقيام بحاجات نفوسهم فرغبوا فيها.
فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ الخ أي أسفار العهد القديم فقابلوا ما فيها بتعاليم بولس ليروا صحة هذه التعاليم أو بطلانها ولم يأتوا ذلك في السبوت فقط بل في كل يوم. ومن ذلك العصر صار أهل بيرية مثالاً في لبحث عن الحق.
١٢ «فَآمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْيُونَانِيَّاتِ ٱلشَّرِيفَاتِ، وَمِنَ ٱلرِّجَالِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
فَآمَنَ أي أن النتيجة كانت كما توقع من سجاياهم الحسنة وميلهم إلى الحق ومطالعتهم الأسفار المقدسة إذ لا يؤمن الناس ما لم يسمعوا (رومية ١٠: ٤). وعلى تكذيب بعض الناس أقوال الإنجيل حكمهم عليها قبل أن يسمعوها. فلا يستطيع أحد قراءة الكتاب المقدس بالإخلاص والصلاة ولا يقتنع بصحة دعاوي الدين المسيحي.
مِنْهُمْ أي من يهود بيريّة.
ٱلنِّسَاءِ ٱلْيُونَانِيَّاتِ ٱلشَّرِيفَاتِ أي اللواتي أصلهن وثني وهن من أعيان المدينة كاللواتي آمنّ في تسالونيكي (ع ٤).
ٱلرِّجَالِ الذين أصلهم وثني. المرجح أن بولس وسيلا بقيا في بيرية عدة أسابيع أو بضعة أشهر بدليل كثرة أعمالهما فيها وقول بولس أنه في تلك المدة اجتهد أن يزور أهل تسالونيكي مرة أو مرتين (١تسالونيكي ٢: ١٧ و١٨). ومن العجب أن بولس لم يذكر مسيحي بيريّة في شيء من رسائله مع أنهم كانوا كثيري العدد ممدوحي الأعمال.
١٣ «فَلَمَّا عَلِمَ ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ مِنْ تَسَالُونِيكِي أَنَّهُ فِي بِيرِيَّةَ أَيْضاً نَادَى بُولُسُ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ، جَاءُوا يُهَيِّجُونَ ٱلْجُمُوعَ هُنَاكَ أَيْضاً».
هذا يدل على شدة بغض اليهود لبولس وتعليمه. فمن خواص الإنجيل أن من الناس من يحبونه حتى يريدوا أن يبذلوا أموالهم وحياتهم في سبيله وأن منهم من يبغضونه حتى يحبوا أن يقاصوا مشقة السفر الطويل ليهيّجوا الناس عليه كما فعل اليهود هنا وفي أنطاكية بيسيدية وإيقونية (ص ٢٤: ١٩). ووصفهم بولس بقوله «هُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ لِلّٰهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (١تسالونيكي ٢: ١٥).
١٤ «فَحِينَئِذٍ أَرْسَلَ ٱلإِخْوَةُ بُولُسَ لِلْوَقْتِ لِيَذْهَبَ كَمَا إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَأَمَّا سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ فَبَقِيَا هُنَاكَ».
متّى ١٠: ٢٣
كَمَا إِلَى ٱلْبَحْرِ كان البحر على غاية ستة عشر ميلاً من شرقي بيريّة وكان السفر في البحر أهون وأقصر مدّة منه في البر لأنه لا يشغل سوى ثلاثة أيام. وطريقه في البر صعبة وطولها لا يقل عن ٢٥٠ ميلاً فيشغل قطعها نحو عشرة أيام. والأرجح أن بولس سافر بحراً لأنه لو سافر براً لذكر لوقا كعادته المدن التي مر بها بولس ولعله قال «كما إلى البحر» لا «إلى البحر» لأن رفاق بولس لم يكونوا قد قصدوا فرضة معيّنة حين تركوا بيريّة بل عزموا على أن ينزلوا إلى البحر حيث يجدون سفينة متأهبة للسفر إلى أثينا. ولعل بولس لم يعتمد حين ترك بيريّة أن يتوجه في البحر إلى تسالونيكي شمالاً كما كان يشتهي (١تسالونيكي ٢: ١٧) أو يتوجه فيه إلى أثينا جنوباً أو لعل الكاف في كما للتوكيد كما يفيد أصله اليوناني أحياناً. وهذه نهاية زيارة بولس لمكدونية إجابة لدعوة الرؤيا في ترواس وفي القول «اعبر إلى مكدونية وأعنّا» فزار ثلاث مدن كبيرة فيها وأسس كنيسة مسيحية في كل منها. وعلى تقدمه في السفر غرباً لفتوحات جديدة بالإنجيل ليست كدعوة الرؤيا بل شر أعداء المسيح فإنه منعه من الرجوع وأجبره على التقدم ولا بد من أن كل ذلك كان إتماماً لقصد الله.
وَأَمَّا سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ الخ علة بقائهما إما إخفاء سفر بولس وإما كون سفره وحده أكثر أمناً له.
١٥ «وَٱلَّذِينَ صَاحَبُوا بُولُسَ جَاءُوا بِهِ إِلَى أَثِينَا. وَلَمَّا أَخَذُوا وَصِيَّةً إِلَى سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسَ أَنْ يَأْتِيَا إِلَيْهِ بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ، مَضَوْا».
ص ١٨: ٥
وَٱلَّذِينَ صَاحَبُوا بُولُسَ لإرشاده ووقايته.
وَصِيَّةً إِلَى سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسَ الخ طلبهما ليساعداه على التبشير في أثينا أو في كورنثوس فأتى تيموثاوس إليه وهو في أثينا ولكن بولس أرجعه حالاً من هنالك إلى تسالونيكي. والأرجح أن علة ذلك ما بلغه من أخبار أهلها (١تسالونيكي ٣: ١ - ٥).
بولس في أثينا وخطابه في أريوس باغوس ع ١٦ - ٣٤
١٦ «وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا فِي أَثِينَا ٱحْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى ٱلْمَدِينَةَ مَمْلُؤَةً أَصْنَاماً».
٢بطرس ٢: ٨
بَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا هذا يدل على أن بولس لم يقصد الإقامة بأثينا إلا أن يأتي سيلا وتيموثاوس.
أَثِينَا هي قاعدة أخائية كما أن تسالونيكي قاعدة مكدونية. وكانت عند اليونان منذ العصور الخالية مركز العلم والحكمة والتمدن والصناعة والقوة والسياسة واشتهرت بأنها خدمت البشر بالعلم والحرية. وكانت يوم أتى بولس إليها قد فقدت سلطتها السياسية باستيلاء الرومانيين عليها سنة ٤٠ ق. م لكنها لم تزل ذات مدارس عظيمة (قصدها أفضل الشبان) وأبنية فاخرة جداً.
مَمْلُؤَةً أَصْنَاماً الذي أثر في بولس أكثر من سائر مشاهدها النفيسة أوثانها الكثيرة لأنه رأى حيثما توجه هياكل وتماثيل ومذابح.
قال بيترونيس المؤرخ «أن تجد إلهاً في أثينا أسهل من أن تجد فيها أناساً». وقال برسانياس «أن آلهة أثينا أكثر من آلهة سائر بلاد اليونان». وقال زينفون «ما أثينا سوى مذبح وتقدمة». وقال يوسيفوس المؤرخ الروماني «أن في أثينا تماثيل مختلفة الأنواع والمواد لكل الآلهة». وكانت تماثيلها محيطة بكل ساحة وقائمة في كل زاوية من زوايا الأزقة والشوارع وفي باحة كل دار وفي كل مخدع.
ٱحْتَدَّتْ رُوحُهُ لما في ذلك من الإهانة لله الإله الحق والمخالفة لوصيته والاضرار للناس لما يقترن به من الفواحش والجور (كما بُيّن في رومية ١: ٢٤ - ٢٧). وكثير من تلك الآلهة لم يكن سوى شهوات الإنسان مشخصة. قال سنيكا الفيلسوف «من المحال أن عبدة مثل هذه الآلهة تستحي بشيء من أنواع الفجور».
١٧ «فَكَانَ يُكَلِّمُ فِي ٱلْمَجْمَعِ ٱلْيَهُودَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ، وَٱلَّذِينَ يُصَادِفُونَهُ فِي ٱلسُّوقِ كُلَّ يَوْمٍ».
فِي ٱلْمَجْمَعِ ٱلْيَهُودَ كعادته. كان موضوع مخاطبته اليهود أن يسوع هو المسيح وأن قيامته من الموت برهان على ذلك.
فِي ٱلسُّوقِ محل التجارة والتنزه واجتماع الناس لسمع الأخبار والمحاورات والمناظرات فكان لبولس أن يصادف هنالك الفلاسفة والمعلمين واتباعهم على اختلاف مذاهبهم الفلسفية ولا ريب في أنه دفع عن الحق في كل وقت سمع فيه بعضهم ينكره.
١٨ «فَقَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَلاَسِفَةِ ٱلأَبِيكُورِيِّينَ وَٱلرِّوَاقِيِّينَ، وَقَالَ بَعْضٌ: تُرَى مَاذَا يُرِيدُ هٰذَا ٱلْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ؟ وَبَعْضٌ: إِنَّهُ يَظْهَرُ مُنَادِياً بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ لأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَٱلْقِيَامَةِ».
قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَلاَسِفَةِ كانت فرق الفلاسفة كثيرة ذكر الكاتب اثنتين منها هما اشهرها.
ٱلأَبِيكُورِيِّينَ هم أتباع أبيكوريوس وهو فيلسوف يوناني وُلد في جزيرة ساموس سنة ٣٤٢ ق. م أقام بأثينا مدة طويلة ومات فيها سنة ٢٧٠ ق. م وأوصى بأن يكون بيته وبستانه بعد موته مدرسة لفلسفته ولذلك كثيراً ما دُعي أتباعه بالبستانيين. ومن فلسفته أن في الوجود آلهة لكنهم بعيدون عن العالم لا يبالون بأحزان الناس ولا بآثامهم ولا بشيء من سائر أعمالهم كأنهم أعدام وأن الآلهة في راحة تامة لا يحتاجون إلى قرابين الناس ولا يسمعون صلواتهم وأن المادة أزلية نُظمت ورُتبت اتفاقاً وأن اللذة غاية الإنسان العظمى وأن للإنسان أن يتبع ما شاء من الشهوات ما لم ينشأ عنها ألم. وأن لا حياة سوى الحياة الدنيا فلا خوف من حساب ولا عقاب. وأن النفس مادة كالجسد تموت بموته. وأشار بولس إلى خلاصة فلسفتهم بقوله نقلاً عن قولهم «فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ» (١كورنثوس ١٥: ٣٢). وأتباع هذا المذهب يقاومون الإنجيل لأنه يقاومهم على شهواتهم.
ٱلرِّوَاقِيِّينَ هم أتباع زينو وهو فيلسوف يوناني وُلد في قبرس في سنة ٣٥٠ ق. م علم في أثينا ٥٨ سنة وانتحر سنة ٢٥٨ ق. م وكان يعلم تلاميذه في رواق مزين بالصور ولذلك دُعي أتباعه بالرواقيين. والحكمة عنده هي أن لا يتأثر الإنسان بشيء من الحوادث مفرحاً أو محزناً وأن يسود على الحوادث ولا تسود عليه. وأن يتلقى مهما حدث من لذة أو ألم بالطمأنينة. وأن الدين الحق يقوم بعدم الاكتراث بالانفعالات. وكان مؤمناً بالله لكنه لم يميّز بين الله والعالم إذ العالم والله عنده شيء واحد. وأن كل شيء بقضاء وقدر على الله والعالم سواء. وأن النفوس تعود أخيراً إلى الله أصلها وتفنى فيه. وكان الرواقيون يقاومون الإنجيل لأنه قاومهم على اعتمادهم البر الذاتي وافتخارهم بالحكمة.
ٱلْمِهْذَارُ الكثير الكلام الباطل. وصف الأثينيون بولس بذلك تحقيراً وأصله في اليونانية ملتقط الفتات. وأرادوا به هنا من يلتقط قليلاً من متفرقات الأفكار ويوزعها على الناس فهو قريب من النُتفة في العربية.
بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ قسم الآثينيون الآلهة ثلاثة أقسام وأصل الآلهة هنا في اليونانية تفيد القسم الأدنى من هذه الثلاثة. سجن اليونانيون سقراط الفيلسوف وحكموا عليه بالموت سنة ٣٩٩ ق. م لمثل هذه الدعوى عينها.
لأَنَّهُ... بِيَسُوعَ وَٱلْقِيَامَةِ هذا علة قولهم «منادياً بآلهة غريبة» والمعنى أنه نادى لهم بيسوع والذي أقامه. ولا يعقل أن أولئك الفلاسفة حسبوا القيامة إلهاً وأن بولس جمجم كلامه وأبهم مراده حتى أوهمهم ذلك.
١٩، ٢٠ «١٩ فَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى أَرِيُوسَ بَاغُوسَ، قَائِلِينَ: هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ ٱلَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ. ٢٠ لأَنَّكَ تَأْتِي إِلَى مَسَامِعِنَا بِأُمُورٍ غَرِيبَةٍ، فَنُرِيدُ أَنْ نَعْلَمَ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ».
فَأَخَذُوهُ أخذ الصديق للصديق كما أخذه برنابا من طرسوس (ص ٩: ٢٧).
أَرِيُوسَ بَاغُوسَ أي أكمة المرّيخ وهي تل صخري مشرف على المدينة يُصعد إلى قنته بدرج. وكانت مجالسهم العظمى هنالك وكانت مقاعد القضاة منحوتة في صخرها ولم تزل باقية إلى هذا اليوم. وأخذوا بولس إلى هنالك لأن المكان مناسباً لمخاطبة الجمهور.
هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ ظاهر هذه العبارة لطف وافر ولكنها لا تخلو من بعض التهكم.
ٱلَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ في السوق (ع ١٧).
٢١ «أَمَّا ٱلأَثِينِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَٱلْغُرَبَاءُ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ، فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ إِلاَّ لأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئاً حَدِيثاً».
هذه الآية من كلام لوقا وهي بيان لرغبة رجال أثينا في أن يسمعوا كلام بولس خلافاً لسائر أهل المدن التي زارها لكنهم لم يأتوا ذلك محبة للإنجيل أو رغبة في قبوله.
ٱلأَثِينِيُّونَ بأسرهم أغنياء وفقراء علماء وجهلاء.
ٱلْغُرَبَاءُ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ الذين اتخذوا تلك المدينة وطناً وقتياً لأن طلبة العلم كانوا يقصدونها من سائر البلدان ليحضروا حلقات الفلسفة المتنوعة وكانوا يجرون مجرى أهل المدينة.
فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ هذا من المبالغة والمراد به أن معظم أعمالهم الأُلفة والبحث عن غرائب الحوادث والتعاليم.
شَيْئاً حَدِيثاً أحدث مما سمعوه أمس.
٢٢ «فَوَقَفَ بُولُسُ فِي وَسَطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلأَثِينِيُّونَ، أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيراً».
مدح كثيرون خطاب بولس هنا لأنه كان على وفق مقتضى الحال ولأن بولس أظهر فيه غاية الحكمة بالأسلوب الذي اختاره لإعلان الحق للأثنيين إذ بنى ما أعلنه على ما اعتقدوه قبلاً.
أَرَاكُمْ مما اختبرته وشاهدته في مدينتكم.
مُتَدَيِّنُونَ كَثِيراً اشتهر أهل أثينا بشدة مراعاتهم الأمور الدينية وافتخروا بذلك فاتخذ بولس ذكر ذلك وسيلة إلى أن يرضوه ويصغوا إليه. وهذا ليس من التملق لأنه لم يمدحهم ولم يذمهم على ذلك بل ذكر ما هو الواقع من رغبتهم في العبادة حسب معرفتهم واعتقادهم. وأحب بولس أن يحولهم عن رغبتهم في العبادة الباطلة إلى الرغبة في العبادة الحقة ويقودهم من اعتقادهم آلهة كثيرة موهومة إلى معرفة الإله الواحد القدوس غير المنظور وغير المحدود الأزلي المحب.
٢٣ «لأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ، وَجَدْتُ أَيْضاً مَذْبَحاً مَكْتُوباً عَلَيْهِ: لإِلٰهٍ مَجْهُولٍ. فَٱلَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، هٰذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ».
يوحنا ٤: ٢٢
أَجْتَازُ في أزقة مدينتكم وساحاتها.
مَعْبُودَاتِكُمْ أراد بذلك كل ما يتعلق به من الهياكل والمذابح والتماثيل.
وَجَدْتُ أَيْضاً مَذْبَحاً فوق المذابح المختصة بآلهة معروفة الأسماء والصفات.
لإِلٰهٍ مَجْهُولٍ هذا إثبات لقوله «متدينون كثيراً». وشهد يوسانياس وفيلستريتوس بأنه كان في أثينا مذابح مكتوب عليها «لإله مجهول». وجاء في التواريخ اليونانية أنه تفشى وباء شديد في أثينا ونسبوه إلى غضب أحد الآلهة وأرادوا أن يعرفوا من هو فاستشاروا أبيميندس فأمرهم أن يُطلقوا الغنم في المدينة وأنه حيث تربض إحداها قرب هيكل أو صنم يذبحونها هناك رجاء أن تأتي الغنمة إلى مقام الإله الذي غضب عليهم فيرفع نقمته عنهم. لكن بعضها ربض حيث لا صنم ولا هيكل فأقاموا في المربض مذبحاً وكتبوا عليه «لإله مجهول» اعتقاداً أنه هو الذي أرسل النقمة وهو الذي يقدر أن يرفعها. وبهذا سلموا بأن ديانتهم مع وفرة آلهتها غير وافية بأن تبيّن لهم كل المعبودات حتى لا تتركهم يجهلون من عبادته لا بد منها لدفع البلاء. فأخذ بولس في أن يُعلن لهم من سلموا باحتياجهم إلى معرفته. وفي هذا العنوان برهان على «أن العالم لم يعرف الله بالحكمة» (١كورنثوس ١: ٢١) وأنه لا يستطيع الإنسان بواسطة حكمته أن يعرف من شأنه تعالى ما فيه الكفاية لراحة العقل.
وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ الخ أي وأنتم لا تعلمون اسمه ولا صفاته ولا العبادة التي ترضيه. فبذلك العنوان أقررتم بوجود إله يستحق العبادة مجهول الاسم والصفات فإيّاه أعلن لكم وهو الإله الواحد الحي. وبهذا خلّص بولس نفسه من التهمة التي بها حُكم على سقراط بالموت وهي أنه نادى بآلهة جديدة وأنبأهم بمن اعترفوا بجهلهم إيّاه وتوصل إلى مقدمة لطيفة لخطابه. ولو خاطب اليهود في مجمعهم لكان أخذ موضوع خطابه من ناموس موسى لكنه في خطابه اليونانيين في أريوس باغوس اتخذ موضوع خطبته عنوان أحد مذابحهم الوثنية.
لم يطعن بولس في العبادة الوثنية بل اتخذ المبدأ الغريزي الحامل على العبادة الإلهية وبيّن لهم وجوب الجري بمقتضاه في سنن الصواب.
٢٤ «ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هٰذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلأَيَادِي».
ص ١٤: ١٥ متّى ١١: ٢٥ ص ٧: ٤٨
شرع بولس في ما يأتي يبيّن صفات الإله الحق الواحد وأعماله وطريق عبادته الواجبة.
ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ هذا تصريح بتوحيد الله مناف لاعتقادهم كثرة الآلهة وبأنه مبدع كل شيء خلافاً للمعتقدين أزلية المادة وانتظامها اتفاقاً.
إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ هذا لازم عن كونه خالق كل شيء. ومعناه أن الله متسلط على كل ما خلق وسائسه ومعتنٍ به. وينتج من ذلك أنه الإله الذي يجب أن نعبده وتخافه وحده وأنه ليس من إله سواه.
لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ الخ لأنه خالق الكل فهو مالئ الكل غير محدود فلا يُحصر في هيكل أحدثه الناس. ولا بد من أنهم شعروا بغرابة هذا القول وهم محاطون بهياكل فاخرة فاعتبروها مساكن الآلهة. إن بولس سمع هذه العبارة في خطاب استفانوس (ص ٧: ٤٨ و٥٨) ولا ريب في أنه اغتاظ حينئذ منها كسائر اليهود الذين اعتبروا هيكلهم في أورشليم مسكن الله وأن القول بخلاف ذلك تجديف. ولكنه هنا نادى بتلك العبارة عينها وفي هذا منافاة لضلالهم في أمر المعابد فتعليمه هنا على وفق تعليم المسيح للمرأة السامرية في قوله «تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ» (يوحنا ٤: ١٢).
لا شيء في قول بولس هنا مناقض لكون الله أعلن آية مجده في قدس الأقداس في خيمة الاجتماع وفي هيكل سليمان ولا مانع فيه للمسيحيين من أن يحسبوا الكنيسة بيت الله وأنها مقدسة لأن ذلك لا يلزم منه أن الله محدود أو محصور في مكان.
٢٥ «وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ».
مزمور ٥٠: ٨ تكوين ٢: ٧ وعدد ١٦: ٢٢ وأيوب ١٢: ١٠ و٢٧: ٣ و٣٣: ٤ وإشعياء ٤٢: ٥ و٥٧: ١٦ وزكريا ١٢: ١
وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ المراد بأيدي الناس هنا الناس باعتبار أن أيديهم آلة خدمتهم. هذا تصريح آخر بما يخالف اعتقادهم في شأن الله وطريق عبادته أبان به عدم افتقار الله إلى خدمة الإنسان وغناه عن ذبائحهم. فالأثينويون كسائر الوثنيين قدّموا لآلهتهم قرابين نفيسة وذبائح وافرة وأولموا ولائم فاخرة لها وأنفقوا ثروتهم على تزيين هياكلهم كأن تلك الآلهة اقتاتت بالذبائح وافتقرت إلى القرابين وسروا بها. وصرح بولس بأن الله غني عن كل ذلك بناء على قوله آنفاً «أنه خالق الكل ورب الكل» .وهذا على وفق قول داود «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مزمور ٥١: ١٦ انظر ايضاً مزمور ٥٠: ١ - ١٢). هذا وأن الله مع غناه عن عبادة الإنسان بغية مسرّته تعالى ومجده يرضى عبادتنا بغية خيرنا وسعادتنا وإظهار شكرنا له على كل آلائه الزمنية والروحية فيليق بالإنسان ويجب عليه أن يقدمها (يوحنا ٤: ٢٣).
إِذْ هُوَ يُعْطِي مبدأ العبادة الوثنية هو أن العابد يجعل معبوده مديوناً له لكن بولس أبان أنه لا يمكن أن يكون الله مديوناً لعباده لأنه هو الواهب كل شيء لهم ولاحاجة له إلى شيء.
حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ المراد بالحياة والنفس هنا شيء واحد فالعطف للتفسير فهو كقوله «فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً» (تكوين ٢: ٧). وأراد «بكل شيء» مقومات الحياة فالله الذي وهب الحياة هو الذي يحفظها على الدوام ويعتني بكل نفس من أنفاسها. وهذا يبيّن شدة افتقار الإنسان إلى الله وينتج عن ذلك أن الله في غاية الغنى عنه.
٢٦ «وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ، وَحَتَمَ بِٱلأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ».
تثنية ٣٢: ٨
علّم بولس آنفاً توحيد الله وأخذ هنا يعلّم وحدة الأصل البشري وهذا مما لم يعلّمه أحد من المعلمين الوثنيين فإنهم كما اعتقدوا آلهة كثيرة اعتقدوا أصولاً كثيرة للبشر. ولعل بولس قصد في هذه الآية توبيخ اليونانيين على زهوهم بأنهم أشرف الناس أصلاً لأنهم نشأوا من تربة أتيكا على زعمهم. فقسموا البشر قسمين اليونان والبربر فحسبوا أن الطبع يقضي بأن تكون نسبة البربر إلى اليونان كنسبة العبيد إلى السادة.
مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ أي كل صنوف البشر ذات طبيعة واحدة من أصل واحد. وهذا موافق لما قيل في الأصحاح الأول من سفر التكوين من ان كل البشر من أب واحد هو آدم. ولا ينافي هذا ما يُشاهد من اختلاف صنوف البشر في الألوان والهيآت واللغات لأن ذلك الاختلاف لعللٍ معروفة كأحوال الإقليم واختلاف المأكولات والعادات وأمثال ذلك.
وَحَتَمَ بِٱلأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ في تاريخ الأمم. وذلك من جهة أزمنة ارتقاء بعضها وانخفاض الآخر وانتصار هذه وانكسار تلك وحضرهم ومهاجرتهم.
بِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ بمقادير ممالك الأمم ومواقعها على اختلافها. وأمضى ذلك بفصل بعضها عن بعض بتخوم طبيعية كالجبال والبحار والأنهر وبعنايته الإلهية وسياسته وهي الفاعل الأعظم. وصرّح الرسول في هذه الآية بأن الله قضى بكل الأحوال التي تؤثر في أخلاق الناس وخلقهم. وهذا مناف لآراء الفلاسفة الوثنيين فإنهم نسبوا كل شيء إلى الاتفاق أو الاضطرار (المعروف بالقدر الأعمى).
٢٧ «لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللّٰهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً».
رومية ١: ٢٠ إرميا ٢٣: ٢٣ وص ١٤: ١٧ ورومية ١٠: ٦ و٨
صرّح الرسول هنا بغاية الله من خلقه الإنسان ووضعه إيّاه حيث يشاهد أعماله وهي أن يعرف خالقه ويعبده.
لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللّٰهَ أي يرغبوا في الحصول على معرفته بمشاهدة آيات حكمته وقوته وجودته في أعماله. أنه تعالى لم يعلن نفسه للناس في طريق يجبرهم على الاعتراف بوجوده وصفاته لكنه أراد أن يكون الإنسان حراً في ما يعتقده ولذلك أعلن نفسه في طريق يمكن الذين يطلبونه من أن يجدوه.
لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ بمشاهدتهم أعماله واستدلالهم بها فهم يستطيعون معرفة وحدانية الله ومعرفة صفاته من أعمال الخليقة والعناية والوسائط محصورة في هذا دون الوحي. وعلّم بولس وثنيي لسترة مثل هذه الحقيقة (ص ١٤: ١٥ و١٧ قابل هذا بما في رومية ١: ١٨ - ٢١). وبقوله «يتلمسونه» شبه الأمم الذين يطلبون معرفة الله بمشاهدة أعماله بالإنسان الملتمس مراده في الظلمة وهذا حال الوثنيين الذين لا وحي لهم. وقوله «لعلهم» الخ دلالة على أن أكثرهم لم يجدوا الله. ويثبت ذلك أيضاً كتابتهم على المذبح «لإله مجهول» ووفرة آلهتهم دليل قاطع على جهلهم أواحد المعبود أم ألوف. ويثبته أيضاً عجزهم عن معرفة أنه أظلت الآلهة تعتني بالعالم أم تركته لشأنه بعدما خلقته ومثل هذا ريبهم في طريق العبادة المرضية.
مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً أي مع قربه إليهم حتى لا يحتاجوا إلا إلى مد أيديهم ليجدوه لأن الله أوجد وسائط كافية لمعرفته إذا اتخذت (وهي شواهد أعماله) فالحق على الإنسان في الجهل لا على الله لأنه نتيجة عماية الإنسان الاختيارية. وفي قول «ليس بعيداً» منافاة لقول الأبيكوريون أن الآلهة بعد الخلق اعتزلت العالم وكل التفات إلى البشر وكل عناية بهم ومنافاة لاعتقاد أكثر الوثنيين على اختلاف فرقهم لأنهم اعتقدوا أن مسكن الآلهة قنة جبل أولمبوس أو هياكل بعيدة عن أكثرهم. وأراد بقوله «كل واحد منا» كل فرد من أفراد البشر. وشهادة ضمائرهم من قواطع البرهان على ذلك وأشار إلى هذه الشهادة بقوله «شَاهِداً أَيْضاً ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً» (رومية ٢: ١٥). وقوله هنا كقول موسى «إِنَّ هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةَ ٱلَّتِي أُوصِيكَ بِهَا ٱلْيَوْمَ لَيْسَتْ عَسِرَةً عَلَيْكَ وَلاَ بَعِيدَةً مِنْكَ. لَيْسَتْ هِيَ فِي ٱلسَّمَاءِ حَتَّى تَقُولَ: مَنْ يَصْعَدُ لأَجْلِنَا إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَيَأْخُذُهَا لَنَا وَيُسْمِعُنَا إِيَّاهَا لِنَعْمَلَ بِهَا؟ وَلاَ هِيَ فِي عَبْرِ ٱلْبَحْرِ حَتَّى تَقُولَ: مَنْ يَعْبُرُ لأَجْلِنَا ٱلْبَحْرَ وَيَأْخُذُهَا لَنَا وَيُسْمِعُنَا إِيَّاهَا لِنَعْمَلَ بِهَا؟ بَلِ ٱلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ جِدّاً، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ لِتَعْمَلَ بِهَا» (تثنية ٣٠: ١١ - ١٤).
٢٨ «لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ».
كولوسي ١: ١٧ وعبرانيين ١: ٣ تيطس ١: ١٢
لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ هذا برهان على قربه تعالى منا لأنه علة وجودنا وبقائنا. وذهب بعضهم إلى أن الرسول أشار بذلك إلى ثلاثة أمور:
- الأول: حياتنا الروحية.
- والثاني: حياتنا الحيوانية.
- والثالث: وجودنا المطلق. ورأى آخر أن مراد الرسول إنّا لولا الله لم نكن ذوي حياة بشرية ولم نستطع الحركة كما يتحرك الجماد كالنجوم وأشكالها التي هي ليست حية ولم نوجد مطلقاً. والأرجح أن الرسول قصد بتلك الأمور الثلاثة حياتنا وكل ما يتعلق بها من القوى الجسدية والعقلية وأفعالها وانفاعلاتها. وصرّح بأن علة هذا كله قربنا من الله وقرب الله منا.
كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ استشهد بعض شعراء اليونان ليدل على أن ما قاله ليس من رأيه أو رأي اليهود خاصة بل هو رأي علمائهم أيضاً. والذي استشهده من أولئك الشعراء أراتوس اليوناني. وُلد هذا الشاعر في كيليكية نحو سنة ٢٧٧ ق. م وما ذكره الرسول من قوله أخذه عنه بلفظه. وجاء مثل معناه في قول كلينش وهو شاعر آخر من اليونانيين كان في نحو سنة ٣٠٠ ق. م. وتربية بولس وهو صغير في طرسوس التي اشتهرت بمدارسها العلمية جعلته يألف أقوال الشعراء اليونانيين ويختبرها. واقتبس في بعض رسائله بعض أقوال شاعرين آخرين وهما مينندر وأبيمنديس (١كورنثوس ١٥: ٣٣ وتيطس ١: ١٢).
ذُرِّيَّتُهُ أي نسله.
٢٩ «فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ ٱللّٰهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ ٱللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ».
إشعياء ٤٠: ١٨
فَإِذْ أي بناء على شهادة عقولكم وشعرائكم.
ذُرِّيَّةُ ٱللّٰهِ المستلزمة أننا مماثلون له. والمعنى أنا من طبيعة الإنسان نقدر أن نتوصل إلى صفات الله خالقه. فالإنسان نفس حية عاقلة فيلزم أن يكون خالقه روحاً حياً عاقلاً.
لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ لأن هذا الظن هذيان. وقال نظن ولم يقل تظنوا تلطفاً كأنه يجب عليه كما يجب عليهم الاحتراس من الضلال المذكور. وفيه تلميح إلى أن ذلك الضلال عام أكثر الناس كما هو الواقع منذ العصور وهو ضلال كل العالم الوثني.
ٱللاَّهُوتَ أي الجوهر الإلهي.
شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ لأن كلا منها جماد لا يستطيع أن يهب ما ليس له من الصفات. وصفات الإنسان معروفة ومعلوم أنها ليست للجماد فمن الهذيان أن نعتبر الجماد كالإنسان الحي العاقل. فالأولى أن يكون هذياناً أن نعتبر الجماد كالله خالق الإنسان وواهب الحياة والعقل وأن نعبده كما اعتبر أهل أثينا وعبدوا تمثال زفس الذهب وأهل أفسس تماثيل هيكل أرطاميس الفضية وسائر الوثنيين تماثيل الرخام التي لا تحصى في أثينا.
نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ أي منحوتات. كانت منحوتات أثينا في غاية الإتقان لم يقدر على أن ينحت الناس مثلها قبلها وبعدها ولكن ليس من اتفاق يستطيع أن يجعل الجماد حياً ويجعل له صفات إلهية فالحجر المنحوت لا يزال حجراً فتغير الهيئة لا يغير الجوهر.
٣٠ «فَٱللّٰهُ ٱلآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ».
لوقا ٢٤: ٤٧ وتيطس ٢: ١١ و١٢ و١بطرس ١: ١٤ و٤: ٣ ص ١٤: ١٦ ورومية ٣: ٢٥
ٱلآنَ أي أيام التشبير بالإنجيل وإعلان الله نفسه لكل الناس لا لأمة واحدة لأنه انتهت أيام جهل الإنسان وأوقات صبر الله.
يَأْمُرُ بسلطان كملك لا يغض الطرف عن العصيان وهو يأمر بواسطة الإنجيل والمنادين به.
جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ قوله في كل مكان زيادة لتقرير الشمول والمعنى أنه يأمر كل فرد من أفراد البشر بلا استثناء بخلاف ما فعل قبل عهد الإنجيل من اختصاصه اليهود بأوامره.
أَنْ يَتُوبُوا أي يرجعوا عن أفكارهم الباطلة وأعمالهم السيئة ولا سيما عبادة الأوثان. والتوبة لفظة غريبة عن أذهان الأثينويين فمع كل علمهم لم يفهموا معناها ولم يشعروا بوجوبها ففلسفتهم لم تعلمهم أن يبغضوا الخطيئة ويرجعوا عن ارتكابها. وهنا يجب على المسيحيين الآن أن ينشروا أمر الله بين الوثنيين ويدعوهم إلى معرفة الحق وطريق الخلاص.
مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ لم يخَف بولس من أنه نسب الجهل إلى الأثينويين المتفاخرين بأنهم فاقوا سائر البشر بالمعرفة لأنه بنى ذلك على شهادة ما كتبوه على مذبحهم. والمراد «بأزمنة الجهل» كل الأوقات التي مضت قبل الإنجيل لأن أكثر الناس فيها جهلوا الله وعبدوا الأوثان. وكانت جديرة بأن تسمى بأزمنة الخطيئة والفساد ولكنه اقتصر على إضافتها إلى الجهل تلطفاً.
ومعنى «تغاضى الله عن تلك الأزمنة» أنه ترك أهلها الوثنيين يرتشدون بشهادة الطبيعة ولم يمنعهم عن العبادة الباطلة بوحي إو إعلان لهم كما فعل لليهود ولم يعاقبهم كما يستحقون. وهذا مثل ما جاء في (ص ١٤: ١٦) فراجع التفسير هناك وقابله بما في (رومية ٣: ٢٥).
٣١ «لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
ص ١٠: ٤٢ ورومية ٢: ١٦ و١٤: ١٠ ص ٢: ٢٤
ذكر بولس في هذه الآية العلة التي أوجبت التوبة على الوثنيين وهي أن الإله الذي أمر بالتوبة قاصد أن يلاحظ أيطيع الناس أم لا وأن يعاقب العصاة. فإنه قد مضى يوم جهل الإنسان وأناة الله وأتى يوم إعلان إرادته وأمره بالتوبة وبعده يأتي يوم الحساب أمام الديان الذي عيّنه الله.
أَقَامَ يَوْماً أي عيّن وقتاً للدينونة الآخرة كما قال بطرس في خطابه للأمم في قيصرية (ص ١٠: ٢٢).
ٱلْمَسْكُونَةَ كل البشر من يهود وأمم.
بِٱلْعَدْلِ بلا محاباة ولا ظلم في المحاكمة. وفي هذا تلميح إلى أن عدل الله يقتضي الحساب والجزاء وأنه بواسطة تلك المحاكمة يظهر عدل الله أعظم ظهور أمام كل خلائقه.
إن آريوس باغوس حيث خطب بولس كان محل المحاكمة. وفي هذا تلميح إلى أن عدل الله يقتضي الحساب والجزاء وأنه بواسطة تلك المحاكمة يظهر عدل الله أعظم ظهور أمام كل خلائقه.
بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ أي اختاره الله ديّانا وهذا الرجل هو المسيح كما يظهر من (ص ١٠: ٤٢ ويوحنا ٥: ٢٥ ومتّى ص ١٥). ولا ريب في أنه كان يريد أن يبيّن ذلك لو صبروا عليه.
مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً أي اتى البيان المقنع لكل من يصغي إليه.
إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ صرّح بولس في خطبته هنا كما صرح في سائر خطبه أن قيامة المسيح أثبتت كل دعاويه (انظر شرح ص ١: ٢٢) ومن تلك الدعاوي أن الله عيّنه ديّاناً للعالمين.
٣٢ «وَلَمَّا سَمِعُوا بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ: سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هٰذَا أَيْضاً!».
لَمَّا سَمِعُوا بِٱلْقِيَامَةِ كانت القيامة عند قدماء اليونان من ضروب المحال وخلاصة عقائدهم في الموتى قول استيلوس الشاعر اليوناني «من مات فليس له قيامة» فذكر بولس القيامة أثّر في السامعين تأثيراً أوقفه عن الخطاب وكما جرى هنا جرى على استفانوس في أورشليم من اليهود (ص ٧: ٥٧).
كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ الاستهزاء هنا كالاستهزاء في (ص ٢: ١٣) فإنهم حسبوا كلام بولس كلام مجنون أو سكران يستحق أن يضحك به.
وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ لم يلزم مما قالوه أنهم اعتبروا إمكان القيامة أكثر ممن استهزئوا لكنهم كانوا ألطف منهم كلاماً.
سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هٰذَا أَيْضاً أي عن كل فحوى خطابه لا القيامة فقط. وهذا أسلوب لطيف للاستعفاء من السمع. ولعل المستهزئين منهم هم الأبيكوريون أهل الطيش واللهو والآخرين الرواقيون الذين أكثر من هؤلاء وقاراً ورصانة. ولعل كلامه أثر في بعضهم وقتياً فأجابوا عليه مثل جواب فيلكس الوالي (أعمال ٢٤: ٢٥) ولم يبالوا بعد ذلك بشيء مما سمعوا من خطابه. ومهما يكن السبب فإنهم لم يسمحوا لبولس أن يتمم خطبته وينبئهم بالمسيح وطريق الخلاص به.
٣٣ «وَهٰكَذَا خَرَجَ بُولُسُ مِنْ وَسَطِهِمْ».
وَهٰكَذَا خَرَجَ أي على الحال التي سبقت ترك رسول الأمم آريوس باغوس وفارق أيّمة اليونانيين المفتخرين بالحكمة والتمدن والدين وبعضهم مستهزئ وبعضهم غير مكترث بالأمر والباقون يتوقعون فرصة أخرى لم تكن. وقوله «خرج» يدل على أنه كان حراً لم يؤخذ إلى آريوس باغوس إجباراً للمحاكمة (ع ١٩).
ولم نسمع بعد هذا أن بولس زار أثينا ثانية ومع أنه كتب خمس رسائل إلى ثلاث مدن أُخر يونانية (كتب إلى فيلبي واحدة وإلى تسالونيكي اثنتين وإلى كورنثوس اثنتين) لم يذكر أثينا في واحدة منها فبقيت إلى بعد أيام قسطنطين الكبير مركز الديانة والفلسفة الوثنية وكانت آخر مدن أوربا التي قبلت الديانة المسيحية.
٣٤ «وَلٰكِنَّ أُنَاساً ٱلْتَصَقُوا بِهِ وَآمَنُوا، مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ ٱلأَرِيُوبَاغِيُّ، وَٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا دَامَرِسُ وَآخَرُونَ مَعَهُمَا».
وَلٰكِنَّ هذا الاستدراك يدل على أن خدمة بولس في أثينا لم تكن بلا ثمر على أن ذلك الثمر كان قليلاً بالنسبة إلى ما جنى في فيلبي وتسالونيكي.
أُنَاساً ٱلْتَصَقُوا بِهِ أي اتبعوه وسلموا بتعليمه غير مكترثين بهزء المستهزئين ومقاومة المقاومين.
وَآمَنُوا بما قاله في خطابه للفلاسفة وبالمسيح الذي كان ينادي به دائماً.
مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ ٱلأَرِيُوبَاغِيُّ أي هذا كان ممن آمنوا ولا ريب في أنه كان ذا شأن لأن نسبته إلى آريوس باغوس دليل على أنه من أعضاء ذلك المجلس الذي كان يومئذ أسمى مجالس العالم فإنه لم يعيّن فيه عضو ما لم يكن قد بلغ سن الستين وكان قبل ذلك قاضياً في مجلس آخر. وما قيل هنا كل ما نعرف من أمره.
دَامَرِسُ لا نرى علة لذكرها إلا أنه لم يؤمن سواها من النساء في أثينا.
إن تأثير خطاب بولس في أثينا وإن يكون قليلاً على ما ظهر لم يكن عبثاً لأن كنيسة المسيح انتفعت بما فيه من الحكمة والقوة من ذلك اليوم إلى هذه الساعة فتعلم منه المبشرون بالإنجيل الحجج المناسبة لإقناع الوثنيين بعبادة الإله الوحيد الحي ودعوتهم إلى التوبة وإنذارهم بالدينونة الآتية.
الأصحاح الثامن عشر
بولس في كورنثوس ع ١ إلى ١٧
١ «وَبَعْدَ هٰذَا مَضَى بُولُسُ مِنْ أَثِينَا وَجَاءَ إِلَى كُورِنْثُوسَ».
وَبَعْدَ هٰذَا أي بعد حوادث أثينا والمدة مجهولة لكن يُستنتج من القرينة وما في (ص ١٧: ١٦) أنها كانت قصيرة.
مَضَى بُولُسُ مِنْ أَثِينَا لأنه لم يتوقع النجاح فيها.
جَاءَ إِلَى كُورِنْثُوسَ مدينة على غاية خمسين ميلاً من أثينا غرباً هي قصبة أخائية أحد قسمي بلاد اليونان كما أن فيلبي قصبة مكدونية القسم الآخر. كانت مبنية على برزخ ضيق لها فرضتان غربية واسمها ليكيوم وشرقية واسمها كنخريا هدمها الرومانيون سنة ١٤٦ ق. م لأن أهلها أهانوا سفراءهم وبقيت خربة نحو مئة سنة ثم بناها يوليوس قيصر. ولما زارها بولس كان قد مر على تجديدها سبع وثمانون سنة وكان مجدها حينئذ أعظم من مجدها الأول. واشتهرت بعظمة متجرها وغناها وبهاء صروحها وهياكلها وفجورها بدليل قول المؤرخين أنه كان في هيكل موقوف للزهرة ألف كاهنة زانية حصلت المدينة على كثير من ثروتها من دخل ذلك الهيكل من التقدمات. وأشار بولس في بعض رسائله إلى تلك الحالة الأدبية (١كورنثوس ٥: ١ و٦: ٩ و١١ و١٣ - ١٩). قصد بولس التبشير في هذه المدينة لوفرة أهلها وكثرة زوارها وغزارة اليهود المهاجرين إليها. ولا ريب في أن الروح القدس الذي دعاه إلى مكدونية أومأ إليه أن يأتي إلى كورنثوس. وصارت هذه المدينة مركزاً رابعاً للديانة المسيحية تنتشر منه أشعة الإنجيل في آخائية. بقي فيها بولس سنة ونصف سنة (ع ١١) وكتب فيها الرسالتين إلى تسالونيكي.
٢ «فَوَجَدَ يَهُودِيّاً ٱسْمُهُ أَكِيلاَ، بُنْطِيَّ ٱلْجِنْسِ، كَانَ قَدْ جَاءَ حَدِيثاً مِنْ إِيطَالِيَا، وَبِرِيسْكِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ لأَنَّ كُلُودِيُوسَ كَانَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يَمْضِيَ جَمِيعُ ٱلْيَهُودِ مِنْ رُومِيَةَ. فَجَاءَ إِلَيْهِمَا».
رومية ١٦: ٣ ١كورنثوس ١٦: ١٩ و٢تيموثاوس ٤: ١٩
فَوَجَدَ يَهُودِيّاً ٱسْمُهُ أَكِيلاَ أي يهوديا في الأصل لكنه كان حينئذ مسيحياً تنصر في رومية على أرجح الأقوال من تأثير حوادث يوم الخمسين (ص ٢: ٩).
بُنْطِيَّ ٱلْجِنْسِ أي ممن ولدوا في بنطس من متشتتي اليهود الذين كتب بطرس رسالته الأولى إليهم (١بطرس ١: ١) وهي بلاد في القسم الشمالي الشرقي من آسيا الصغرى.
بِرِيسْكِلاَّ مصغر بريسكا في الرومانية وهذا يدل على أن هذه المرأة رومانية وذُكرت بلا تصغير في (٢تيموثاوس ٤: ١٩). فهذه وزوجها أكيلا علّما أبلّس وبذلك نستدل على أنها كانت امرأة عاملة مختبرة الكتاب المقدس ذُكر اسمها غالباً قبل اسم زوجها (ع ١٨ ورومية ١٦: ٣ و٢تيموثاوس ٤: ١٩).
لأَنَّ كُلُودِيُوسَ... مِنْ رُومِيَةَ كلوديوس هو أمبراطور رومية الرابع ملك من سنة ٤١ ب. م إلى سنة ٥٤. ذكر سويتونيوس المؤرخ الروماني أنه نفى اليهود من رومية لكثرة فتنهم.
فَجَاءَ إِلَيْهِمَا أي إلى مسكنهما كأنه عرفهما صديقين وفي ذلك ما يثبّت أنهما تنصرا قبل مشاهدته.
٣ «وَلِكَوْنِهِ مِنْ صِنَاعَتِهِمَا أَقَامَ عِنْدَهُمَا وَكَانَ يَعْمَلُ، لأَنَّهُمَا كَانَا فِي صِنَاعَتِهِمَا خِيَامِيَّيْنِ».
ص ٢٠: ٣٤ و١كورنثوس ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨
اعتاد اليهود جميعاً أن يعلموا أولادهم الصنائع حتى الموقوفين منهم للعلم والشريعة والدين لكي يستطيعوا المعاش بها إذا اقتضت الحال ويخلصوا من تجارب البطالة. قيل في التلمود جواباً لقولهم «ما الواجبات على الوالد لولده» أن يختنه ويفقهه بالتوارة ويعلمه صناعة.
وَكَانَ يَعْمَلُ للحصول على أسباب المعاش له وللذين معه كما عمل في أفسس (ص ٢٠: ٣٤ و١كورنثوس ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨).
خِيَامِيَّيْنِ كانت الخيام تُصنع قديماً إما من الجلود وهو مما ندر وإما من منسوجات شعر المعزى وهذا مما غلب. وكان هذا الشعر كثيراً في كيليكية ولم يزل اسم نسيح هذا الشعر في الفرنسية والإسبانية والإيطالية ما معناه كيليكياً ولعل بولس مولود كيليكية تعلم تلك الصناعة هنالك.
٤ «وَكَانَ يُحَاجُّ فِي ٱلْمَجْمَعِ كُلَّ سَبْتٍ وَيُقْنِعُ يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ».
ص ١٧: ٢
هذا مثل ما فعل في سلاميس (ص ١٣: ٥). وفي أنطاكية (١٣: ١٤). وإيقونية (ص ١٤: ١) وتسالونيكي (ص ١٧: ٢). وبيرية (ص ١٧: ١٠). وأثينا (ص ١٧: ١٧).
يُونَانِيِّينَ متهودين أو مائلين إلى الدين اليهودي.
٥ «وَلَمَّا ٱنْحَدَرَ سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، كَانَ بُولُسُ مُنْحَصِراً بِٱلرُّوحِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِلْيَهُودِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
ص ٧: ١٤ و١٥ أيوب ٣٢: ١٨ وص ١٧: ٣ وع ٢٨
سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ أي من تسالونيكي إحدى مدنها. انتظرهما بولس في أثينا (ص ١٧: ١٦) فأتى إليه تيموثاوس وهو فيها فأرجعه إلى تسالونيكي وقتياً (١تسالونيكي ٣: ١ و٢).
مُنْحَصِراً بِٱلرُّوحِ اشتدت روحه غيرة للشهادة بما للمسيح لشدة محبته له ولشدة حاجة الكورنثيين إلى تلك الشهادة لتوقف خلاصهم عليها وأنشأ الروح القدس فيه هذه الغيرة. وصريح العبارة أن سيلا وتيموثاوس وجداه في تلك الحال. والكلمة في الأصل اليوناني تشير إلى شدة انفعالاته وقتئذ وهذا مثل قول المسيح في نفسه «لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟» (لوقا ١٢: ٥٠).
بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي أن المسيح الموعود به في العهد القديم هو يسوع وهذه خلاصة محاجته في الآية الرابعة.
٦ «وَإِذْ كَانُوا يُقَاوِمُونَ وَيُجَدِّفُونَ نَفَضَ ثِيَابَهُ وَقَالَ لَهُمْ: دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ. أَنَا بَرِيءٌ. مِنَ ٱلآنَ أَذْهَبُ إِلَى ٱلأُمَمِ».
ص ١٣: ٤٥ و١بطرس ٤: ٤ نحميا ٥: ١٣ ومتّى ١٠: ١٤ وص ١٣: ٥١ لاويين ٢٠: ٩ و١١ و١٢ و٢صموئيل ١: ١٦ وحزقيال ١٨: ١٣ و٣٣: ٤ حزقيال ٣: ١٨ و١٩ و٣٣: ٩ وص ٢٠: ٢٦ ص ١٣: ٤٦ و٢٨: ٢٨
شدة غيرته للحق أنشأت فيهم مثلها للمقاومة كما حدث في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٤ - ٥٧).
يُجَدِّفُونَ يحتمل الأصل اليوناني أنهم شتموا بولس ورفاقه وحقروهم أو خطئوا إلى الله بأن نكروا لاهوت المسيح.
نَفَضَ ثِيَابَهُ كما في (ص ١٣: ٥١) وذلك إشارة إلى أن الله رفضهم لأنهم رفضوا الحق وإلى أن بولس فعل كل ما في طاقته ليقنعهم ولكنهم أبوا تركهم في العماية التي اختاروها وللهلاك الذي استحقوه. وهذه الإشارة من مصطلحات اليهود أمر المسيح رسله بها (متّى ١٠: ١٤).
دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ أي اللوم على أنفسكم في هلاككم. والعبارة من (حزقيال ٣٣: ٤) وبمثل هذا الكلام حمل اليهود على أنفسهم وأولادهم مسؤولية قتل المسيح (متّى ٢٧: ٢٥).
أَنَا بَرِيءٌ هذا تفسير لمراده من نفض ثيابه أي ليس عليّ شيء بهلاككم.
مِنَ ٱلآنَ أَذْهَبُ باعتبار كوني رسولاً ومبشراً. وكلامه مقصور على يهود كورنثوس كما قُصر على يهود أنطاكية بيسيدية في (ص ١٣: ٣٦).
٧ «فَٱنْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَجُلٍ ٱسْمُهُ يُوسْتُسُ، كَانَ مُتَعَبِّداً لِلّٰهِ، وَكَانَ بَيْتُهُ مُلاَصِقاً لِلْمَجْمَعِ».
ٱنْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ أي من المجمع حيث كان يحاجّ اليهود المجدفين.
وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ اتخذه بمنزلة مجمع لمقابلة الناس وتعليمه إيّاهم فلا يلزم من هذا أنه ترك منزله مع أكيلا.
يُوسْتُسُ اسم روماني.
كَانَ مُتَعَبِّداً لِلّٰهِ أي الإله الحق. واصطلح لوقا على الإشارة بمثل هذه العبارة إلى الأمم الذين تهودوا وعبدوا يهوه كما جاء في (ص ١٣: ٤٣ و٥٠ و١٦: ١٤ و١٧: ٤ و١٧). وزاد ويستس على إيمانه بالله اعتقاده أن يسوع هو المسيح.
بَيْتُهُ مُلاَصِقاً لِلْمَجْمَعِ اختار بولس هذا البيت لمناسبته لاجتماع الناس ولإعلان انفصاله عن يهود ذلك المجمع المقاومين المجدفين.
٨ «وَكِرِيسْبُسُ رَئِيسُ ٱلْمَجْمَعِ آمَنَ بِٱلرَّبِّ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ، وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلْكُورِنْثِيِّينَ إِذْ سَمِعُوا آمَنُوا وَٱعْتَمَدُوا».
١كورنثوس ١: ١٤
كِرِيسْبُسُ اسم روماني لكن من الواضح أن كريسبس كان يهودياً أصيلاً أو دخيلاً. وكونه دخيلاً لم يكن عند اليهود مانعاً أن يكون رئيس مجمع.
آمَنَ بِٱلرَّبِّ أي أن يسوع هو المسيح الحق وأنه رب ومخلص.
مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ أي أهل بيته من كبير وصغير.
إِذْ سَمِعُوا بشارة الإنجيل.
آمَنُوا أي تنصروا.
وَٱعْتَمَدُوا كان ممن اعتمدوا واحد عمده بولس بيده على خلاف عادته وهو كريسبس (١كورنثوس ١: ١٤). ومن البينات على قوة تأثير الإنجيل أنه انتصر هذا الانتصار في تلك المدينة الشريرة وانتظمت فيها كنيسة ناجحة. فيجب أن لا نيأس من مثل ذلك التأثير أين بُشر بالإنجيل وليس من مكان مظلم لا يقدر الإنجيل على إنارته ولا من مكان نجس لا يقدر على تطهيره.
٩ «فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِبُولُسَ بِرُؤْيَا فِي ٱللَّيْلِ: لاَ تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ».
ص ٢٣: ١١
الرؤيا هنا إعلان من الله ولا نعلم هل ظهر له المعلن أو لا.
لاَ تَخَفْ في هذا إشارة إلى أن بولس كان حينئذ عرضة للخوف واليأس نظراً لشدة مقاومة اليهود وللشر المستولي على تلك المدينة. نعم إن بولس كان شجاعاً كثير الأمل لكنه كان إنساناً فلا عجب من احتياجه أحياناً إلى التعزية والتشجيع وهو محاط بالتجارب والبلايا كما أشار إلى ذلك بقوله «كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ» (١كورنثوس ٢: ٣).
١٠ «لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ، لأَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ».
إرميا ١: ١٨ و١٩ ومتّى ٢٨: ٢٠
أبان أن كونه معه وحمايته إياه علة الاطمئنان.
أَنَا مَعَكَ بنوع خاص للإعانة والوقاية. ووعد المسيح رسله بمثل هذا الوعد في (متّى ٢٨: ٢٠).
لاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ أي لا يوقع بك ضراً. وما أراد الرب بذلك أنه لا يقاومه أحدٌ لأنه قاومه كثيرون بعد ذلك (ع ١٢ - ١٧) إنما أراد أن المقاومين لا يستطيعون إضراره أو منعه من التبشير.
لأَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً هذا علة أن يكون شجاعاً يتكلم بجراءة. قصد الله أن يأتي بكثيرين من أهل كورنثوس إلى الإيمان والخلاص وأن يكون ذلك بواسطة تبشير بولس. وبإعلانه هذا القصد لبولس أكد له أنه لا يقدر أحد أن يقتله فيبطل قصد الله. ولا شيء ينشط المبشر كأمل النجاح بإرشاد الناس إلى المسيح. ولم تكن علة رجاء إيمان الوثنيين في كورنثوس إلا قصد الله خلاصهم ولا علة لتوبة خطاة العالم وإيمانهم بالمسيح وخلاصهم إلا قصد المنعم الأزلي خلاص المختارين. وقول الله «أن ليس شعباً» الخ لتشجيع بولس يذكرنا قوله تعالى لتشجيع إيليا النبي «قَدْ أَبْقَيْتُ فِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَةَ آلاَفٍ، كُلَّ ٱلرُّكَبِ ٱلَّتِي لَمْ تَجْثُ لِلْبَعْلِ» (١ملوك ١٩: ١٨).
١١ «فَأَقَامَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ يُعَلِّمُ بَيْنَهُمْ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ».
يظهر من هذا أن بولس صدق الوعد وأطاع الأمر.
أَقَامَ مستريحاً مطمئناً.
سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ هذا أطول وقت تقضّى عليه في موضع واحد منذ ابتدأ أسفاره للتبشير إلى تلك الساعة وأتى فيه الأعمال الوافرة التي أشار إليها في رسالتيه إلى أهل كورنثوس وهي أنه جمع المؤمنين في تلك المدينة ونظمهم كنيسة وبشر أهل المدن والقرى المجاورة لها ومن ذلك تأسيسه كنيسة في كنخريا (رومية ١٦: ١) ويؤيد ذلك قوله في مقدمة رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس «كَنِيسَةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ أَجْمَعِينَ ٱلَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ» وأخائية نحو نصف بلاد اليونان. وفوق هذا كله كتب في تلك المدة رسالتيه إلى أهل تسالونيكي اللتين لم يقصر نفعهما على تلك الكنيسة بل عم كل الكنائس المسيحية منذ ذلك العهد إلى هذه الساعة.
بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ أي بشارة الخلاص بيسوع المسيح.
١٢ «وَلَمَّا كَانَ غَالِيُونُ يَتَوَلَّى أَخَائِيَةَ، قَامَ ٱلْيَهُودُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى بُولُسَ، وَأَتَوْا بِهِ إِلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ».
غَالِيُونُ هو أخو سنيكا الرواقي الفيلسوف الروماني المشهور الذي كان استاذ نيرون الأمبراطور. تولى كورنثوس سنة ٥٣ ب. م. شهد مؤرخو ذلك العصر بجودة أخلاقه وحسن سجاياه وبأنه كان حليماً مترفقاً بالجميع محبوباً إلى الجميع غير مداهن ولا مراء. ولعله تولى يوم كان بولس يبشر هنالك. وطمع اليهود لحلمه في أنهم يقدرون على الإيقاع ببولس ورفقائه كما يريدون.
أَخَائِيَةَ القسم الجنوبي من قسمي بلاد اليونان اللذين قسمهما إليهما الرومانيون بعد استيلائهم عليها وكانت كورنثوس قاعدتها.
قَامَ كما فعل اليهود في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٠). ويهود تسالونيكي (ص ١٧: ٥).
كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ اعتاد الولاة الرومانيين أن يطوفوا في أيام معينة في ساحة المدن المتولين عليها ليسمعوا دعاوي عامة الناس وينظروا فيها. ونقل بعضهم كرسي الحكومة ليجلس عليه عند الحكم وكان عندهم لذلك الكرسي شأن عظيم واحترام خاص فانتهز اليهود الفرصة حين جلس غاليون على كرسيه فقبضوا على بولس وأتوا به إليه وشكوه له.
١٣ «قَائِلِينَ: إِنَّ هٰذَا يَسْتَمِيلُ ٱلنَّاسَ أَنْ يَعْبُدُوا ٱللّٰهَ بِخِلاَفِ ٱلنَّامُوسِ».
بِخِلاَفِ ٱلنَّامُوسِ إن الذي أغاظ اليهود هو تعليم بولس تعليماً يخالف ناموس موسى لكنهم لم يصرحوا بذلك لغاليون فتركوا لفظة الناموس مبهمة آملين أنه يفهم بها الشريعة الرومانية المانعة من كل الأديان الحديثة التي لم يأذن أرباب الحكومة الرومانية فيها. وهذه مثل الشكوى على بولس وسيلا في فيلبي وعليها ضُربا وسُجنا بأمر الولاة.
١٤ «وَإِذْ كَانَ بُولُسُ مُزْمِعاً أَنْ يَتَكَلَّمَ، قَالَ غَالِيُونُ لِلْيَهُودِ: لَوْ كَانَ ظُلْماً أَوْ خُبْثاً رَدِيّاً أَيُّهَا ٱلْيَهُودُ، لَكُنْتُ بِٱلْحَقِّ قَدِ ٱحْتَمَلْتُكُمْ».
ص ٢٣: ٢٩ و٢٥: ١١ و١٩
أَنْ يَتَكَلَّمَ للمحاماة عن نفسه ولدفع الشكوى.
قَالَ غَالِيُونُ المرجح أنه حكم وقتاً كافياً هنالك ليسمع أنباء بولس وتعليمه ولا بد من أنه علم تعصب اليهود وميلهم إلى التشويش. وكان مضمون جوابه أن الدعوى باطلة بنفسها فلا حاجة للمشكو عليه ان يتفوه بشيء للدفع عن نفسه وأن ما اتهموه به ليس بجرم بمقتضى الشريعة الرومانية.
لَوْ كَانَ فرض غير الواقع.
ظُلْماً تعدياً على أحد في ماله أو شخصه أو شيء من حقوقه.
خُبْثاً رَدِيّاً معظم الفرق بين الظلم والخبث هنا أن الأول تعدٍّ ظاهر والثاني تعدٍّ خفي وأن الخبث أكثر ما يكون في الأدبيات والظلم أكثر ما يكون في الماديات. ويشتمل الاثنان على كل أنواع الجرائم التي ينظر فيها الرومانيون بمقتضى شريعتهم ويعاقبون عليها.
بِٱلْحَقِّ قَدِ ٱحْتَمَلْتُكُمْ أي سمعت دعواكم مهما كانت طويلة أو مما يثقل سمعها لأن ذلك من مقتضيات رتبتي وفي كلامه تعريض بأنه كان يستثقل كل دعاوي اليهود.
١٥، ١٦ «١٥ وَلٰكِنْ إِذَا كَانَ مَسْأَلَةً عَنْ كَلِمَةٍ، وَأَسْمَاءٍ، وَنَامُوسِكُمْ، فَتُبْصِرُونَ أَنْتُمْ. لأَنِّي لَسْتُ أَشَاءُ أَنْ أَكُونَ قَاضِياً لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ. ١٦ فَطَرَدَهُمْ مِنَ ٱلْكُرْسِيِّ».
إِذَا كَانَ هذا تسليم بالواقع لا فرض غير الواقع كالسابق.
مَسْأَلَةً أراد بها البحث أو الجدال.
كَلِمَةٍ أراد بالكلمة القول تمييزاً للعمل كالظلم والخبث فاعتبر المسائل الدينية مجرد ألفاظ.
وَأَسْمَاءٍ ليست أموراً محسوسة حقيقية. ولا ريب في أن غاليون عرف أن اليهود اغتاظوا من تسمية بولس يسوع الناصري بالمسيح ولم يرد أن يحكم بينهم وبين بولس بأنه هل كان يسوع يستحق ذلك الاسم أو لا.
وَنَامُوسِكُمْ أي شريعتكم اليهودية. فأوضح لهم أنه لم يُخدع بما أتوه من الإبهام في الشكوى بلفظة الناموس. ويظهر أيضاً أنه كان عارفاً الجماعة المسيحية ولم يعتبرها سوى فرقة من اليهود وأن المسيحيين كما لليهود من الحقوق.
فَتُبْصِرُونَ أَنْتُمْ فهذا كقول رؤساء الكهنة ليهوذا الاسخريوطي حين ندم على تسليمه يسوع ورد أجرة الخيانة (متّى ٢٧: ٣ - ٥). والمعنى أن الشريعة الرومانية لا تعاقب الإنسان على آرائه في الدين فمن متعلقات الشريعة اليهودية أن تثبت إن كان يسوع هو المسيح أو أن تنفي ذلك. فكأنه قال لهم انظروا في ذلك بموجب شريعتكم واقضوا بمقتضاها. وهو كقول بيلاطس لليهود في أمر المسيح «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَٱحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ» ولكنهم أبوا ذلك لأنهم أرادوا أن تكون الدعوى جنائية عقابها الموت لا دينية عقابها القطع من المجمع (يوحنا ١٨: ٣١).
لَسْتُ أَشَاءُ... قَاضِياً لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ أراد «بهذه الأمور» مجادلات اليهود الدينية ولا سيما جدالهم في شأن يسوع ورفضهم إياه. ولم يخطر على بال غاليون أن تلك المسئلة التي استخف بها كأنها مما لا يستحق الالتفات إليها ولو دقيقة واحدة هي من أعظم المسائل التي تعرض للعقل البشري. ولم يعرف أن يسوع الناصري موضوع هذا الجدال الذي حسبه يهودياً حقيراً هو ملك الملوك ورب الأرباب وأنه «تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبي ٢: ١٠ و١١).
فَطَرَدَهُمْ مِنَ ٱلْكُرْسِيِّ عامله بمقتضى قوله لهم. أبى أن يسمع كلامهم بعد وأن يحتمل حضورهم أمامه. وقوله «طردهم» يدل على أنهم ذهبوا على رغمهم.
١٧ «فَأَخَذَ جَمِيعُ ٱلْيُونَانِيِّينَ سُوسْتَانِيسَ رَئِيسَ ٱلْمَجْمَعِ، وَضَرَبُوهُ قُدَّامَ ٱلْكُرْسِيِّ، وَلَمْ يَهُمَّ غَالِيُونَ شَيْءٌ مِنْ ذٰلِكَ».
١كورنثوس ١: ١
ٱلْيُونَانِيِّينَ إن هؤلاء الوثنيين أبغضوا اليهود دائماً وشاهدوا اضطهادهم لبولس وسمعوا شكواهم عليه ولم يرضوا بشيء من ذلك ولما رأوا أن غاليون حكم ببطلان دعوى اليهود واستخف بهم انتهزوا الفرصة لأن يتشفوا من بغضهم إياهم.
سُوسْتَانِيسَ رَئِيسَ ٱلْمَجْمَع اعتبروه نائب سائر اليهود ولعله كان قائد المضطهدين لبولس.
وَضَرَبُوهُ قُدَّامَ ٱلْكُرْسِيِّ فعلوا به ما قصد اليهود أن يُفعل ببولس.
وَلَمْ يَهُمَّ غَالِيُونَ لم يتعرض لإنقاذ سوستانيس ولا لمنع اليونانيين عن ارتكابهم ما يخالف النظام. والظاهر أنه لعلة لا نعرفها لم يصعب عليه ضربهم لذلك الرئيس. وقلما أهم الرومانيين أن يهان اليهود.
كان معظم علماء الرومانيين في عصر بولس غير مكترث بأمور الديانة إذ تحققوا ما في عبادتهم الوثنية من الجهالة ولم يتعلموا شيئاً مما يتعلق بالإله الحق وعبادته الروحية. ولكنه لم يتضح من تصرف غاليون في هذه المسئلة شيء سوى أنه اعتبرها دعوى دينية لا علاقة لها بالشريعة الرومانية. وكذا أبى فيلكس وفستوس واليا سورية أن يحكما على بولس بما أراده اليهود بناء على أن تلك الأمور ليست من متعلقات الشريعة الرومانية (ص ٢٤ وص ٢٦).
رجوع بولس إلى سورية ع ١٨ إلى ٢٣
١٨ «وَأَمَّا بُولُسُ فَلَبِثَ أَيْضاً أَيَّاماً كَثِيرَةً، ثُمَّ وَدَّعَ ٱلإِخْوَةَ وَسَافَرَ فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى سُورِيَّةَ، وَمَعَهُ بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ، بَعْدَمَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي كَنْخَرِيَا لأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ».
عدد ٦: ١٨ وص ٢١: ٢٤ رومية ١٦: ١
فَلَبِثَ أَيْضاً بعد سكوت هياج اليهود ولم يكن من معارض له.
ٱلإِخْوَةَ أي المؤمنين من أهل كورنثوس الذين انتظموا كنيسة مسيحية.
فِي ٱلْبَحْرِ أي بحر إيجيا وهو جزء من البحر المتوسط فاصل بين اليونان وآسيا.
إِلَى سُورِيَّةَ قاصداً أنطاكية مقامه الذي ابتدأ السفر منه ولكنه كان عازماً أن يزور أورشليم أولاً للعيد القادم (ع ٢١).
بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ المذكورين في (ع ٢). وقدم الكاتب هنا بريسكلا على زوجها ولعل ذلك لأنها أكثر منه علماً ونباهة لأن ذلك لا يكون بلا علة فلا نعلم غير العلة المذكورة.
بَعْدَمَا حَلَقَ رَأْسَهُ الضمير هنا لبولس ولو كان الذي حلق رأسه أكيلا لم يكن من داع أن يذكر لوقا ذلك إذ هو إنسان غير مشهور ولا ممن يهم الناس أمرهم.
كَنْخَرِيَا هي فرضة كورنثوس الشرقية كان فيها كنيسة مسيحية (رومية ١٦: ١).
عَلَيْهِ نَذْرٌ النذر هو الوعد لله والمرجّح أن نذره كان مقصوراً على شخصه لعلة ما. وهل كان ذلك النذر لنجاة من خطر أو لنجاح في تبشيره أو ليُري اليهود أنه لم يكره الديانة اليهودية وأنه ليس عدواً لها كما اتهموه ذلك لا نعلمه. وأمثال النذور الشخصية كثيرة في الكتاب المقدس منها ما في (تكوين ٢٢: ٢٠ ولاويين ٢٧: ٢ وعدد ٣٠: ٢ وتثنية ٢٣: ٢١ وقضاة ١١: ٣٠ و١صموئيل ١: ١١ و٢صموئيل ١٥: ٧ ومزمور ٦٥: ١ وجامعة ٥: ٤). وكان حلق الراس عند نهاية مدة النذور من الرسوم المتلعقة بإيفائه كما هو مفصل في (عدد ٦: ١ - ٢١ انظر أيضاً أعمال ٢١: ٢٤). وليس في ما أتاه بولس ما ينافي إيمانه وأعماله المسيحية. نعم أنه لم يرد أن يجبر مؤمني الأمم على حفظ الرسوم الناموسية ولم يحسبها ضرورية للخلاص إلا أنه استحسن أن يمارسها هو كعادته منذ صغره.
١٩ «فَأَقْبَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ. وَأَمَّا هُوَ فَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ وَحَاجَّ ٱلْيَهُودَ».
أَفَسُسَ مدينة كبيرة في آسيا الصغرى (انظر الكلام عليها في شرح ص ١٩: ١). المرجّح أن السفن كانت قد اعتادت أن تُرسي في مرفإها بين مرسى كورنثوس ومرسى أفسس يومان أو ثلاثة أيام.
وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ أي أن بولس ترك بريسكلا وأكيلا في أفسس وظل سائراً إلى سورية.
وَأَمَّا هُوَ بعد أن ذكر لوقا ترك بولس رفيقيه في أفسس عاد إلى ذكر ما فعله بولس مدة تربصه القصيرة في أفسس.
فَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ يظهر من ذلك أن رغبته في خلاص أمته اليهودية لم تفتر بجور يهود كورنثوس عليه واعتزاله اجتماعاتهم (ع ٦).
حَاجَّ سبق شرح هذا في (ع ٤ وص ١٧: ٢ و١٧.
قال يوسيفوس إن اليهود كانوا كثيرين في أفسس وحصلوا على مثل حقوق الرومانيين المدنية كسائر سكان كورنثوس.
٢٠، ٢١ «٢٠ وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ زَمَاناً أَطْوَلَ لَمْ يُجِبْ. ٢١ بَلْ وَدَّعَهُمْ قَائِلاً: يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ أَعْمَلَ ٱلْعِيدَ ٱلْقَادِمَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَلٰكِنْ سَأَرْجِعُ إِلَيْكُمْ أَيْضاً إِنْ شَاءَ ٱللّٰهُ. فَأَقْلَعَ مِنْ أَفَسُسَ».
ص ١٩: ٢١ و٢٠: ١٦ ١كورنثوس ٤: ١٩ وعبرانيين ٦: ٣ ويعقوب ٤: ١٥
الظاهر أن يهود أفسس استحسنوا وعظ بولس حتى سألوه أن يبقى عندهم واعظاً.
يَنْبَغِي... ٱلْعِيدَ ٱلْقَادِمَ فِي أُورُشَلِيمَ ظن أكثر المفسرين أن ذلك العيد كان عيد الخمسين وعلى ذلك أنه نذر السفر في ذلك البحر قبل عيد الفصح لشدة الخطر على السفن لأنها كانت شراعية يومئذ وكان يؤمَن بعد الفصح. والذي يسافر بحراً من هنالك حينئذ يمكنه أن يصل أورشليم قرب عيد الخمسين. ولا نعلم علة عزمه الشديد على أن يحضر ذلك العيد في أورشليم ولعلها رغبته في اجتماعه باليهود الكثيرين الآتين أورشليم في ذلك الحين من كل أقطار المسكونة وتبشيره إياهم بالمسيح ومشاهدته مؤمني اليهود هنالك ليشجعهم ويثبتهم في إيمانهم ويخبرهم بنتائج تبشيره الأمم أو لعلها مما أوجبته متعلقات نذره. قال يوسيفوس أن الشريعة اليهودية أوجبت على الناذرين أن يحضروا أورشليم ويقوموا ببعض الرسوم الدينية في الهكيل قبل مرور ثلاثين يوماً من حلق رؤوسهم فلو فاته عيد الخمسين في أورشليم لم يكن له عيد آخر قبل تشرين الأول وحينئذ يكون «السفر في البحر خطراً» (ص ٢٧: ٩).
سَأَرْجِعُ كما فعل (ص ١٩: ١) ومكث هنالك ثلاث سنين (ص ٢٠: ٣١).
٢٢ «وَلَمَّا نَزَلَ فِي قَيْصَرِيَّةَ صَعِدَ وَسَلَّمَ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ، ثُمَّ ٱنْحَدَرَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ».
قَيْصَرِيَّةَ انظر شرح (ص ٨: ٤٠) وكانت يومئذ مينا أورشليم كيافا اليوم. ولا ريب في أن بولس ابتهج بمشاهدة فيلبس المبشر هناك (ص ٨: ٤٠ و٢١: ٨).
صَعِدَ إلى أورشليم وهذه زيارته الرابعة إيّاها بعد تنصره.
سَلَّمَ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ أي كنيسة أورشليم أم الكنائس فأظهر بذلك احترامه ومودته لها. وفي هذا غاية الاختصار لأنباء هذه الزيارة ولا بد من أن اجتماعه بالرسل وسائر الإخوة كان ساراً جداً بعد تلك المفارقة الطويلة.
ٱنْحَدَرَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ أي أنطاكية سورية التي سبق ذكرها في (ص ١١: ١٩ و٢٦) وبوصوله إليها انتهى سفره الثاني للتبشير وشغل بهذا السفر نحو ثلاث سنين وهي من سنة ٥١ إلى سنة ٥٤ ب. م وهذه الزيارة آخر زيارات بولس لأنطاكية.
٢٣ «وَبَعْدَمَا صَرَفَ زَمَاناً خَرَجَ وَٱجْتَازَ بِٱلتَّتَابُعِ فِي كُورَةِ غَلاَطِيَّةَ وَفِرِيجِيَّةَ يُشَدِّدُ جَمِيعَ ٱلتَّلاَمِيذِ».
غلاطية ١: ٢ و٤: ١٨ ص ١٤: ٢٢ و١٥: ٣٢ و٤١
هذا بداءة سفر بولس الثالث للتبشير شغل به نحو أربع سنين من سنة ٥٤ إلى سنة ٥٨.
غَلاَطِيَّةَ وَفِرِيجِيَّةَ كورتان في آسيا الصغرى أسس بولس في مدنهما كنائس مسيحيّة في سفره السابق (ص ١٦: ٦).
يُشَدِّدُ جَمِيعَ ٱلتَّلاَمِيذِ عقلاً وروحاً. لا ريب في أن الكنائس حصلت على تعزية ومساعدة من تلك الزيارة وأنها كلفت بولس تعباً ليس بقليل. والمرجّح أنه لم تحدث حينئذ حوادث ذات شأن ولذلك لم يذكر لوقا شيئاً منها لكنه أسرع إلى ذكر الجزء الأهم من أتعاب بولس مدة إقامته الطويلة في أفسس.
أبلّوس الاسكندري ع ٢٤ إلى ٢٨
٢٤ «ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَفَسُسَ يَهُودِيٌّ ٱسْمُهُ أَبُلُّوسُ، إِسْكَنْدَرِيُّ ٱلْجِنْسِ، رَجُلٌ فَصِيحٌ مُقْتَدِرٌ فِي ٱلْكُتُبِ».
١كورنثوس ١: ١٢ و٣: ٥ و٦ و٤: ٦ وتيطس ٣: ١٣
هذا الفصل مقدمة مجيء بولس إلى أفسس.
يَهُودِيٌّ أصلاً وتربية.
إِسْكَنْدَرِيُّ اسكندرية مدينة في مصر نُسبت إلى بانيها اسكندر الكبير وكانت وقتئذ المدينة الثانية عظمة واشتهاراً في المملكة الرومانية. اشتهرت بوفرة متجرها وإحكام مدارس العلوم اليونانية والعلوم العبرانية فيها. سكنها كثيرون من اليهود منذ عهد الملوك البطليموسيين خلفاء اسكندر وفيها اختلطت عقائدهم الدينية بالفلسفة اليونانية. وكان الشروع في ذلك سنة ٢٨٥ ق. م. وعُرفت تلك الترجمة بترجمة السبعين. وكان في تلك المدينة مكتبة هي أعظم مكاتب العالم في ذلك العصر.
فَصِيحٌ أي قادر على التعبير عن المراد بأحسن كلام وأسلوب وتحتمل الكلمة اليونانية أيضاً أنه كان قد أحكم كل العلوم ولا سيما علم التاريخ.
مُقْتَدِرٌ فِي ٱلْكُتُبِ أي ممتازاً بمعرفة أسفار الله واستطاعة تفسيرها ليشعروا بقوتها.
٢٥ «كَانَ هٰذَا خَبِيراً فِي طَرِيقِ ٱلرَّبِّ. وَكَانَ وَهُوَ حَارٌّ بِٱلرُّوحِ يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ بِتَدْقِيقٍ مَا يَخْتَصُّ بِٱلرَّبِّ. عَارِفاً مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا فَقَطْ».
رومية ١٢: ١١ ص ١٩: ٣
كَانَ هٰذَا خَبِيراً قبل مجيئه إلى أفسس.
فِي طَرِيقِ ٱلرَّبِّ أي ديانة المسيح كما في ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣ و٢٢: ٤ و٢٤: ١٤ و٢٢.
حَارٌّ بِٱلرُّوح شعر قلبه بما أدركه عقله ومن كان كذلك فلا بد أن يظهر حرارة روحه قولاً وفعلاً.
يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ عبر بذلك عن محادثته أفراد الناس ووعظه الجماعات.
بِتَدْقِيقٍ على قدر ما عرف من الإنجيل.
مَا يَخْتَصُّ بِٱلرَّبِّ مما عرف من إنجيل يسوع المسيح.
عَارِفاً مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا فَقَطْ أي يوحنا المعمدان. كانت معمودية يوحنا أمراً امتازت به خدمته عن خدمة من سلفه ولذلك لُقب بالمعمدان (متّى ٣: ١). وأُطلقت المعمودية على كل خدمته من باب تسمية الكل باسم الجزء ولأن الذين اعتقدوا اعتقاد يوحنا أظهروا ذلك بقبولهم معموديته. ولا نعلم أتعلّم أبلوس من يوحنا المعمدان رأساً أم تعلّم من تلاميذه الذين ذهبوا إلى مصر. وإذ كان لم يعرف من أمر يسوع سوى ما عرفه واختبره يوحنا مدة حياته لم يكن كفوء للتبشير المسيحي. نعم أن يوحنا علم أن المسيح قد أتى لأنه عمّده وشهد له وتحقق أنه صنع معجزات. ولا بد من أن أبلّوس بلغه في اسكندرية نبأ صلب يسوع وقيامته. والمرجح أنه لم يبلغه خبر حلول الروح القدس يوم الخمسين وما عرفه التلاميذ وقتئذ من روحانية ملكوت المسيح أي أنه لم يكن ملكاً ظاهراً منتصراً على الأرض كما ظن قبلاً التلاميذ كلهم من تلاميذ يوحنا وتلاميذ يسوع. ولم يكن عالماً بأن موت المسيح كفارة عن خطايا العالم وأن الناس استغنوا به عن كل ذبائح الهيكل وسائر رسوم الشريعة الموسوية.
٢٦ «وَٱبْتَدَأَ هٰذَا يُجَاهِرُ فِي ٱلْمَجْمَعِ. فَلَمَّا سَمِعَهُ أَكِيلاَ وَبِرِيسْكِلاَّ أَخَذَاهُ إِلَيْهِمَا، وَشَرَحَا لَهُ طَرِيقَ ٱلرَّبِّ بِأَكْثَرِ تَدْقِيقٍ».
يُجَاهِرُ فِي ٱلْمَجْمَعِ الظاهر من هذا أن أبلّوس حضر المجمع بمنزلة رباني (Rabbi) على سنن بولس وأبان أن عنده نبأ يريد قصه على أهل المجمع فدعاه الشيوخ إلى التكلم كعادتهم في مثل هذه الاحوال (ص ١٣: ١٥). وكان فحوى خطابه كفحوى مناداة يوحنا المعمدان في البرية ودعاهم إلى التوبة والإيمان بالمسيح على قدر معرفته.
سَمِعَهُ أَكِيلاَ وَبِرِيسْكِلاَّ يتضح من ذلك أنهما كانا يحضران المجمع ليسمعا أبلّوس. ولعل أكيلا اعتاد أن يخاطب الناس هنالك.
شَرَحَا لَهُ طَرِيقَ ٱلرَّبِّ الخ أي أوضحا له كل التعليم الإنجيلي كما تعلماه من بولس ومن ذلك أن المسيح قد أكمل الناموس كله وأن موته كان فداء للعالم وأنه لم يبق من حاجة إلى ذبائح الهيكل. وأنبآه بموهبة الروح القدس وبأن التبرير بالإيمان بمعنى المعمودية المسيحية والعشاء الرباني. وإصغاء أبلوس إلى هذين ورضاه أن يعلماه دليل قاطع على فرط تواضعه وشدة رغبته في معرفة الحق لأنه كان عالماً فصيحاً متعلماً في مدارس الاسكندرية العليا وهما بالنسبة إليه بسيطان جداً.
٢٧ «وَإِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَجْتَازَ إِلَى أَخَائِيَةَ كَتَبَ ٱلإِخْوَةُ إِلَى ٱلتَّلاَمِيذِ يَحُضُّونَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوهُ. فَلَمَّا جَاءَ سَاعَدَ كَثِيراً بِٱلنِّعْمَةِ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا».
١كورنثوس ٣: ٦
إِلَى أَخَائِيَةَ لا ريب أن أبلّوس قصد كورنثوس قصبة أخائية بناء على أخبار أكيلا وبريسكلا إياه بنجاح الكنيسة هناك ويؤيد ذلك ما في (ص ١٩: ١ و١كورنثوس ١: ١٢)
كَتَبَ ٱلإِخْوَةُ هذا أول ذكر رسائل التوصية في الإنجيل التي اعتادتها الكنيسة كثيراً بعد ذلك (٢كورنثوس ٣: ١) لأن المسيحيين كانوا يومئذ يكثرون الجولان يجول بعضهم للتبشير والبعض هرباً من الاضطهاد. فالذي كان يحمل رسالة توصية من كنيسة مسيحية يجد الترحيب به في غيرها من الكنائس حين يقدم لها الرسالة. وإعطاء الإخوة في أفسس تلك الرسالة لأبلّوس دليل على اعتبارهم إياه كثيراً. واتخذ حزب أبلّوس بعدئذ إتيانه إليهم بتلك التوصية دليلاً على أنه أفضل من بولس لأنه أتاهم بلا توصية فأجاب بولس على ذلك بقوله أنه لم يحتج إلى مثلها لأن الكنيسة التي أسسها هي نفسها رسالته وأوضح ذلك بقوله «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (٢كورنثوس ٣: ٢).
سَاعَدَ كَثِيراً بِٱلنِّعْمَةِ الخ أي أن النعمة الخاصة التي وهبها له الروح القدس قدرته على نفع كنيسة كورنثوس كثيراً لا مجرد عمله وفصاحته. وشهد بولس لجودة خدمته الرب هناك بقوله لكنيسة كورنثوس «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى الخ» (١كورنثوس ٣: ٦ - ١٠). وساعد المؤمنين إما بتقويته إيّاهم في المعرفة والإيمان وإما بمحاورته عنهم اليهود غير المؤمنين.
٢٨ «لأَنَّهُ كَانَ بِٱشْتِدَادٍ يُفْحِمُ ٱلْيَهُودَ جَهْراً، مُبَيِّناً بِٱلْكُتُبِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ».
ص ٩: ٢٢ و١٧: ٣ وع ٥
لأَنَّهُ هذا تعليل لمساعدته الكثيرة وهو دليل على أن معظم مساعدته للكنيسة كان بمناظرته اليهود الذين لم يؤمنوا. والذي أعده لذلك تمرّنه في مدارس الاسكندرية المشهورة واقتداره في أسفار الوحي (ع ٣٤). وكان بولس قد اعتزل المجمع لشدة مقاومة أهله له وعنادهم. والظاهر أن ذلك العالم الإسكندري الفصيح كان قوي الحجة متقلداً سيف الروح الذي هو كلمة الله فغلبهم وقطع حجتهم فلم يستطيعوا جواباً. وفي هذه الآية والتي قبلها صفتان ضروريتان للمبشر المسيحي. الأولى القدرة على إفادة المؤمنين والثانية القوة على إقناع غير المؤمنين.
وما هنا كل ما ذكره لوقا من أمر أبلّوس لكنا نعلم من رسائل بولس أنه كان مكرماً معتبراً في كنيسة كورنثوس حتى صار له حزب فيها (١كورنثوس ١: ٢٢). ولما كتب بولس من أفسس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس كان أبلّوس معه في أفسس وألحّ عليه أن يرجع إلى كورنثوس فلم يُرد ولعل ذلك لخوفه من التحزب فيها لكنه وعده أن يرجع بعد حين (١كورنثوس ١٦: ١٢). ثم ذكره بولس قرب نهاية حياته نحو ٦٥ ب. م بقوله «جَهِّزْ زِينَاسَ ٱلنَّامُوسِيَّ وَأَبُلُّوسَ بِٱجْتِهَادٍ لِلسَّفَرِ» (تيطس ٣: ١٣) وهذا يدلنا على أن الصداقة بينهما بقيت شديدة إلى آخر حياة بولس وذلك نحو عشر سنين.
الأصحاح التاسع عشر
خدمة بولس في أفسس ع ١ إلى ٤١
١ «فَحَدَثَ فِيمَا كَانَ أَبُلُّوسُ فِي كُورِنْثُوسَ أَنَّ بُولُسَ بَعْدَ مَا ٱجْتَازَ فِي ٱلنَّوَاحِي ٱلْعَالِيَةِ جَاءَ إِلَى أَفَسُسَ. فَإِذْ وَجَدَ تَلاَمِيذَ»
١كورنثوس ١: ١٢ و٣: ٥ و٦
فِيمَا كَانَ أَبُلُّوسُ فِي كُورِنْثُوسَ أي قبل وصول بولس إلى أفسس.
ٱجْتَازَ فِي ٱلنَّوَاحِي ٱلْعَالِيَةِ أي كورة غلاطية وكورة فريجية وهما مرتفعتان عن أفسس لأنها في الساحل (ص ١٨: ٢٣). وسكت لوقا عن حوادث هذا السفر الطويل جرياً على عادته أن لا يفصل غير أمور الأماكن التي دخلها بولس حديثاً.
جَاءَ إِلَى أَفَسُسَ إنجازاً لوعده في (ص ١٨: ٢). وتلك المدينة مركز خدمته في ذلك السفر وهو سفره الثالث كما كانت كورنثوس مركز الجزء الآخر من خدمته في السفر الثاني. وأفسس مدينة كبيرة قديمة جعلها الرومانيون قصبة كورة آسيا. موقعها على مصب نهر كيستر على التخم الغربي من آسيا الصغرى. اشتهرت يومئذ بسعة متجرها وثروتها وعبادتها للأوثان وممارسة أهلها السحر وكان فيها ملعب يسع ثلاثين ألف مشاهد. قصد بولس أن يجعلها حصن الدين المسيحي في آسيا كما جعل كورنثوس حصن هذا الدين في بلاد اليونان. كان فيها هيكل أرطاميس وهذا الهيكل بُني سنة ٦٠٠ ق. م واحترق ليلة ولادة اسكندر الكبير سنة ٣٥٦ ق. م ثم جُدد فصار إلى بهاء أعظم من بهائه الأول حتى حُسب يومئذ من عجائب الدنيا السبع. وهُدمت أفسس سنة ٢٦٢ ب. م ولم تزل في موقعها أطلال كثيرة واسعة وقرية صغيرة اسمها اليوم أيّاسالوك.
فَإِذْ وَجَدَ تَلاَمِيذَ كان هؤلاء التلاميذ يهوداً في الأصل تتلمذوا أولاً ليوحنا المعمدان ثم اعترفوا بالمسيح على قدر ما عرفه يوحنا.
٢ «سَأَلَهُمْ: هَلْ قَبِلْتُمُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لَمَّا آمَنْتُمْ؟ قَالُوا لَهُ: وَلاَ سَمِعْنَا أَنَّهُ يُوجَدُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ».
ص ٨: ١٦
هَلْ قَبِلْتُمُ حين اعتمدتم.
ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ أي تأثيره العجيب كالتكلم بالألسنة والتنبوء اللذين كانا يليان المعمودية والإقرار بالإيمان (ص ٢: ٣٨ و٨: ١٧ و٩: ١٧ و١٠: ٤٤ - ٤٨ و١١: ١٥ و١٦ و١٥: ٨). ونستنتج من سؤال بولس أن ذلك التأثير كان كثيراً ما يحدث على أثر المعمودية لا أنه حسبه من الضروريات.
لَمَّا آمَنْتُمْ بالمسيح كما أعلنه يوحنا المعمدان. وكان ذلك الإيمان غير كامل.
وَلاَ سَمِعْنَا أَنَّهُ يُوجَدُ الخ أي لم يبلغنا حين آمنا واعتمدنا أن الروح القدس يوجد في الكنيسة أو في المؤمنين إذ لم يذكر لنا أحد حينئذ اسم الروح القدس. ومن المحال أن يكون هؤلاء باعتبار كونهم يهوداً أصلاً أو تلاميذ يوحنا أو تلاميذ المسيح لم يسمعوا شيئاً من أمور الروح القدس لأن أسفار العهد القديم مملوءة بذكره. وذكره يوحنا المعمدان بقوله «هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ» (متّى ٣: ١١). فيلزم أن يكون معناهم أحد أمرين إما ما ذكرناه آنفاً أنهم حين المعمودية لم يسمعوا اسمه وإما أنهم لم يسمعوا أنه أُعطي للناس بعلامات ظاهرة كما جاء معناه في قوله «لأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ» (يوحنا ٧: ٣٩). فإذاً هم كأبلّوس لم يسمعوا شيئاً من أنباء حوادث يوم الخمسين وإعطائه مواهبه العجيبة للمؤمنين (ص ١٨: ٢٥) لأن المرجح أنهم تركوا اليهودية قبل صلب المسيح. ولأن غاية مناداة يوحنا كانت تمهيد الطريق لمجيء المسيح لم يكن من داع إلى أن يعلن لتلاميذه كثيراً من أمور الروح القدس فلا عجب من نقص معرفة تلاميذه بذلك الروح. ووجود مثل هؤلاء التلاميذ في أفسس بعيدين عن موضع كرازة يوحنا بعد ثلاثين سنة من وفاته دليل قاطع على شدة ما كان له من التأثير.
٣ «فَسَأَلَهُمْ: فَبِمَاذَا ٱعْتَمَدْتُمْ؟ فَقَالُوا: بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا».
ص ١٨: ٢٥
فَبِمَاذَا ٱعْتَمَدْتُمْ أي ما الإيمان الذي اعترفتم به حين اعتمدتم أو كيف أمكنكم أن تعتمدوا وأنتم لم تسمعوا شيئاً من أمور الروح القدس.
بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا هذا علة كافية لعدم سمعهم نبأ الروح القدس لأنهم لو تعمدوا بالمعمودية المسيحية لسمعوا ذكر الروح القدس لا محالة لأنها هي «بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» كما أمر المسيح (متّى ٢٨: ١٩). وكانت معمودية يوحنا علامة التوبة والإيمان بالمسيح المتوقع أن يأتي. نعم أنّه علّم أن يسوع الناصري هو المسيح يوحنا ١: ٢٩ و٣٦ و٣: ٢٦ و٣٠) لكن لم يكن لتلاميذه أن يعرفوا شيئاً من تعليم المسيح ومن نبإ موته كفارة عن الخطيئة ونبإ قيامته وصعوده وسكبه الروح القدس على التلاميذ. ولا دليل على أن يوحنا ذكر في معموديته اسم أحد الأقانيم فلم تكن معموديته سوى علامة التوبة والإيمان على ما ذُكر.
٤ «فَقَالَ بُولُسُ: إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ قَائِلاً لِلشَّعْبِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ، أَيْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
متّى ٣: ١١ ويوحنا ١: ١٥ و٢٧ و٣٠ وص ١: ٥ و١١: ١٦ و١٣: ٢٤ و٢٥
أبان بولس هنا أن خدمة يوحنا لم تكن سوى خدمة إعداد لطريق الرب فلم تكن كافية لبيان حقيقة الديانة المسيحية ولا مما يمنح الخلاص إنما دلت الناس على المسيح الذي هو «حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩).
٥ «فَلَمَّا سَمِعُوا ٱعْتَمَدُوا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
ص ٨: ١٦
هذه الآية من كلام لوقا ذكرها بياناً لتأثير كلام بولس في نفوس السامعين ولا ريب في أنه بسط الكلام في المسيح أكثر مما ذُكر هنا فآمنوا وأظهروا إيمانهم بقبولهم المعمودية المسيحية.
بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوع أي بالمعمودية المسيحية كما رُسمت في (متّى ٢٨: ١٩ انظر شرح ص ٢: ٣٨ و١١: ٤٨).
يتضح مما قيل هنا أن معمودية يوحنا غير معمودية المسيح وأنها لا تغني عنها لأنها ليست سوى إعداد لتلك (متّى ٣: ١١). فالمرجح أن كثيرين من الثلاثة الآلاف الذين اعتمدوا يوم الخمسين كانوا من تلاميذ يوحنا. وبين المعموديتين أربعة فروق:
- الأول: أن معمودية يوحنا كانت بالإيمان بالمسيح الذي سيأتي والمعمودية المسيحية كانت للإيمان بالمسيح الذي قد أتى.
- الثاني: أن الأولى كانت وقتية كسائر خدمة يوحنا والثانية دائمة إلى نهاية العالم.
- الثالث: أن الأولى كانت إعداداً للنظام المسيحي لا بدل الختان والثانية كانت سراً أعطاه المسيح للكنيسة بدلاً من الختان.
- الرابع: أن الثانية كانت باسم أقانيم اللاهوت الثلاثة والأولى لا دليل على أنها كانت باسم أحد تلك الأقانيم.
٦، ٧ «٦ وَلَمَّا وَضَعَ بُولُسُ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْهِمْ، فَطَفِقُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ وَيَتَنَبَّأُونَ. ٧ وَكَانَ جَمِيعُ ٱلرِّجَالِ نَحْوَ ٱثْنَيْ عَشَرَ».
ص ٦: ٦ و٨: ١٧ ص ٢: ٤ و١٠: ٤٦
ما ذُكر هنا كما ذُكر في (ص ١٠: ٤٦) إلا أن الروح القدس هناك حل قبل المعمودية وبدون وضع الأيادي.
وَضَعَ بُولُسُ يَدَيْهِ علامة موهبة الروح (انظر شرح ص ٨: ١٧).
يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ (انظر شرح ص ٢: ١٧ و١٨ و١٠: ٤٦).
وَيَتَنَبَّأُونَ (انظر شرح ص ٢: ١٧ و١١: ٢٧).
نَحْوَ ٱثْنَيْ عَشَرَ فقط لا كل مؤمني أفسس المشار إليهم في (ص ١٨: ٢٧) وذكر لوقا دفعاً لتوهم أنهم كلهم كانوا مثل هؤلاء الاثني عشر في طفولية الإيمان.
٨ «ثُمَّ دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ، وَكَانَ يُجَاهِرُ مُدَّةَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ مُحَاجّاً وَمُقْنِعاً فِي مَا يَخْتَصُّ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
ص ١٧: ٢ و١٨: ٤ ص ١: ٣ و٢٨: ٢٣
وجه بولس أفكاره إلى اليهود وبذل أتعابه في سبيل نفعهم كعادته وأتى ذلك أيضاً إجابة لطلبهم السابق (ص ١٨: ٢٠). والمراد «بملكوت الله» هنا التعليم المسيحي أو الديانة الجديدة كما في (ص ١: ٣ و٨: ١٢). ومعنى قوله «محاجاً ومقنعاً» أنه بيّن حقيقة تلك الديانة بالأدلة القاطعة ودفع الاعتراضات عليها وحث اليهود على قبولهم إياها. وفعله هنا كفعله في كورنثوس (ص ١٨: ٤).
٩ «وَلَمَّا كَانَ قَوْمٌ يَتَقَسَّوْنَ وَلاَ يَقْنَعُونَ، شَاتِمِينَ ٱلطَّرِيقَ أَمَامَ ٱلْجُمْهُورِ، ٱعْتَزَلَ عَنْهُمْ وَأَفْرَزَ ٱلتَّلاَمِيذَ، مُحَاجّاً كُلَّ يَوْمٍ فِي مَدْرَسَةِ إِنْسَانٍ ٱسْمُهُ تِيرَانُّسُ».
٢تيموثاوس ١: ١٥ و٢بطرس ٢: ٢ ويهوذا ١٠ ص ٩: ٢ وع ٢٣ وص ٢٢: ٤ و٢٤: ١٤
لَمَّا «لما» هنا ظرفية تعليلية وهي تشير إلى زمن انفصال بولس من مجمع اليهود وعلة ذلك الانفصال.
يَتَقَسَّوْنَ بعدم إيمانهم بحقائق الإنجيل ورفضهم أن يقبلوا يسوع مسيحاً والخلاص بموته. وعلة ذلك التقسي إما تحذير رؤساء الدين في أورشليم من بولس وتعليمه وإما حسدهم إذ رأوا الأمم المبغضين يشاركون اليهود في مواعيد نسل إبراهيم.
شَاتِمِينَ شتماً كالتجديف في (ص ١٣: ٤٨ و١٨: ٦).
ٱلطَّرِيقَ أي الدين المسيحي ويعبر عنه أيضاً «بطريق الرب» (ص ١٨: ٢٥) و «طريق الخلاص» (ص ١٦: ١٧). واحتقارهم هذا الطريق احتقار لمنشئه الله ولذلك يحق أن يُحسب تجديفاً.
أَمَامَ ٱلْجُمْهُورِ المجتمع في المجمع. الظاهر أن مقاومتهم كانت بعنف وصراخ حتى تعذرت المحاورة. ولعل معنى «الجمهور» أهل السوق من الوثنيين قصد اليهود تهييجهم على بولس بما فعلوا كما فعل يهود تسالونيكي (ص ١٧: ٥).
ٱعْتَزَلَ عَنْهُمْ اعتزالاً دائماً.
أَفْرَزَ ٱلتَّلاَمِيذَ عن اليهود غير المؤمنين ومن المجمع ونظمهم كنيسة ما فعل في كورنثوس (ص ١٨: ٦ و٧). ومن الغريب أن الذين حملوه على ذلك هم اليهود الذين دعوه سابقاً إلى المكث عندهم ومخاطبته إياهم (ص ١٨: ٢٠).
مُحَاجّاً علم بهذا الأسلوب لأنهم أجبروه بمقاومتهم على إيراد تعليمه على طريق الجدال.
كُلَّ يَوْمٍ ليلاً ونهاراً (ص ٢٠: ٣١) وهذا دليل على كثرة أتعابه في التبشير وهو يعمل في صناعته ليحصل على أسباب المعاش (ص ٢٠: ٣٤).
فِي مَدْرَسَةِ... تِيرَانُّسُ هل تيرانس هذا رابيّ يهودي فتح تلك المدرسة لتدريس الشريعة الموسوية وتقاليد الشيوخ أو هو فيلسوف يوناني فتح تلك المدرسة لتعليم المنطق والبيان أو الفلسفة ذلك لا نعلمه والأرجح أنه فيلسوف يوناني. ومهما يكن أصله فلا ريب أنه كان قد تنصر. ولا نعلم أسكن بولس معه في تلك المدرسة أم انفرد بها. أو مجاناً أخذها أم بالأجرة وليس في ذلك شيء من الأهمية.
١٠ «وَكَانَ ذٰلِكَ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ، حَتَّى سَمِعَ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أَسِيَّا، مِنْ يَهُودٍ وَيُونَانِيِّينَ».
ص ٢٠: ٣١
مُدَّةَ سَنَتَيْنِ من وقت اعتزاله المجمع. وبشّر فيهما بولس في مدرسة تيرانّس لأنه لم يكن للتلاميذ حينئذ كنيسة مسيحية فكانوا يجتمعون للعبادة في أي مكان وجدوه مناسباً لذلك.
كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ أي الكلمة التي الرب مصدرها وموضوعها.
أَسِيَّا قُسمت أسيا الصغرى عند اليونان إلى اثنتي عشر قسماً ثلاثة منها على الجنوب وهي كيليكية وبمفيلية وليكية وثلاثة على الغرب وهي كاريا وليديا وميسيا وثلاثة على الشمال وهي بيثينية وبفلاغونية وبنتس وثلاثة في وسطها وهي كبدوكية وغلاطية وفريجية وأما بيسيدية وليكأونية المذكورتان في (ص ١٣ وص ١٤) فهما جزءان مما جاورهما وكانا متغيرين فيُحسبان جزئين من هذه وجزئين من تلك. وجمع الرومانيون ثلاثة منها وهي كاريا وليديا وميسيا إلى كورة واحدة سموها آسيا وجعلوا قاعدتها أفسس وهي المرادة في الآية. وكان فيها الكنائس السبع التي كتب إليها يوحنا سفر الرؤيا وهي كنائس أفسس وسميرنا وبرغامس وثياتيرا وسرديس وفيلادلفيا ولاودكية إلا أن لاودكية كانت داخلة في فريجية.
وكان من وسائل انتشار الإنجيل في تلك الكورة على ما ذُكر أن الناس كانوا يأتون أفسس من كل أقطار كورتها للتجارة أو للعبادة فكانت لهم فرصة لسمع الإنجيل. ومن تلك الوسائل أنهم كانوا يسمعون الإنجيل من شفاه بولس ورفقائه الذين منهم لوقا وتيموثاوس وتيطس وأبفراس وهم يجولون للتبشير في المدن والقرى هناك. والأرجح أنه أُسست يومئذ كنائس آسيا الصغرى المذكورة آنفاً وحينئذ كتب بولس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وذكر فيها أعماله في أفسس.
١١، ١٢ «١١ وَكَانَ ٱللّٰهُ يَصْنَعُ عَلَى يَدَيْ بُولُسَ قُوَّاتٍ غَيْرَ ٱلْمُعْتَادَةِ، ١٢ حَتَّى كَانَ يُؤْتَى عَنْ جَسَدِهِ بِمَنَادِيلَ أَوْ مَآزِرَ إِلَى ٱلْمَرْضَى، فَتَزُولُ عَنْهُمُ ٱلأَمْرَاضُ، وَتَخْرُجُ ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ مِنْهُمْ».
مرقس ١٦: ٢٠ وص ١٤: ٣ و٢ملوك ٤: ٢٩ وص ٥: ١٥
قُوَّاتٍ غَيْرَ ٱلْمُعْتَادَةِ الذي جعل هذه المعجزات تمتاز عن غيرها هو أنها صُنعت على بعدٍ بواسطة أمتعة مست جسد بولس لا كثرة تلك المعجزات ولا عظمتها. ولم يُذكر في الكتاب أن بولس صنع شيئاً من المعجزات مدة خمس سنين قبل ذلك وهي منذ أخرج روح العرافة من الجارية في فيلبي (ص ١٦: ١٨).
عَنْ جَسَدِهِ أي مما لبسه أو مما مس جسده من غير ملبوساته.
بِمَنَادِيلَ معنى أصلها اليوناني ما يُمسح به العرق عن الوجه ثم أُطلقت على القطع الصغيرة من المنسوجات (لوقا ١٩: ٢٠ ويوحنا ١١: ٢٤ و٢٠: ٧).
مَآزِرَ هي في اليوناني ما يلبسها الصناع عند العمل على مقدم الجسد وقاية لما تحتها من الثياب. ويحتمل المعنى أن تلك الأمتعة كانت مما استعمله بولس وأن الناس استعاروها منه وحملوها إلى المرضى ليشفوا بها ثم ردوها إليه. ويحتمل أن الناس اتوا بها من بيوتهم ومسوا بها جسد بولس وأخذوها إلى المرضى.
لا داعي أن نظن شفاء المرضى بتلك الوسيلة كان وهماً من الأغبياء لم يصدقه بولس فإن تلك الأمتعة كانت بمنزلة ظل بطرس (ص ٥: ١٥) ومنزلة هدب ثوب يسوع (متّى ٩: ٢٠ و٢١). ومنزلة الطين الذي طلى به المسيح عيني الأعمى (يوحنا ٩: ٦). والجاعل لتلك الوسائل هذا الفعل قوة الله العاملة بها للشفاء وإيمان الذي شُفي. فتلك الوسائل كلها لولا علم الله عبث وكان أقلها بنعمة الله فعالاً.
قضى الله أن يشفي المرضى بتلك الوسائل لأن بها شُفي كثيرون على مسافات بعيدة لا يمكن أن يشفوا بغيرها من الوسائط ولكي لا يكون شيء من الريب في مصدر ذلك الشفاء كما يمكن أن يكون لو حدث بكلمة من فم بولس دون أمر محسوس. وتلك المناديل والمآزر لم تكن لها قوة في نفسها بل كانت أدلة على قوة الله التي وهبها لرسوله تصديقاً لتعليمه فتعلم أهل أفسس بذلك أن لصلاة الإيمان ومنديل من الرسول قوة أعظم من قوى كل تعاويذهم ورقاهم وتمائمهم.
ٱلْمَرْضَى البعيدين عن بولس والعاجزين عن المجي إليه.
ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ كان شر الأمراض ينتج من دخول الشياطين في الإنسان وكان إخراجها من أعظم الأدلة على القوة الإلهية كما في (ص ٥: ١٦ و٨: ٧). فكان لبولس أن يقول في نفسه لأهل أفسس ما قاله فيها لأهل كورنثوس «إِنَّ عَلاَمَاتِ ٱلرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ» (٢كورنثوس ١٢: ١٢).
١٣ «فَشَرَعَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْيَهُودِ ٱلطَّوَّافِينَ ٱلْمُعَزِّمِينَ أَنْ يُسَمُّوا عَلَى ٱلَّذِينَ بِهِمِ ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، قَائِلِينَ: نُقْسِمُ عَلَيْكَ بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يَكْرِزُ بِهِ بُولُسُ!».
متّى ١٢: ٢٧ مرقس ٩: ٣٨ ولوقا ٩: ٤٩
كثر في تلك الأيام الذين ادعوا القوة على إخراج الشياطين بالعزائم والرقي والتعاويذ وأنهم على قول يوسيفوس اتصل بهم أكثرها بالتسلسل من سليمان الحكيم. وكثر يومئذ هؤلاء المدعون لزيادة عدد الذين سكنتهم الشياطين في عصر المسيح والرسل على ما كانوا قبل ذلك وبعده (انظر ص ٥: ١٦ وقابل به متّى ١٢: ٢٧). واشتهرت أفسس يومئذ أكثر مما سواها من المدن بكثرة هؤلاء وشهرتهم وكان منهم أولاد سكاوا. ومن أمثالهم سيمون الساحر في السامرة (ص ٨: ٩) وعليم الساحر في قبرس (ص ١٣: ٦) وكثيراً ما حرّم الكتاب المقدس السحر ومشاورة أهله والاتكال عليهم (لاويين ١٩: ٣١ وإشعياء ٨: ١٩).
ٱلطَّوَّافِينَ أي الذين يجولون من مدينة إلى مدينة لإخراج الشياطين من المسكونين ومن المرضى الذين ادعى هؤلاء الطوافون أن علة أمراضهم سكن الشيطان فيهم.
أَنْ يُسَمُّوا... بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أي يتخذون اسمه وسيلة إلى إخراج الأرواح النجسة. ولا ريب في أنهم سمعوا بولس يستعمل هذا الاسم ورأوا أن له فاعلية عظيمة على يده فقصدوا أن يمتحنوا فاعلية ذلك الاسم ليُخرجوا به الشياطين توصلاً إلى الربح. وكان هؤلاء يستعملون سابقاً يهوه اسم الله الأعظم أو أسماء بعض الملائكة أو اسم سليمان فلما شاهدوا بولس ينجح باستعمال اسم يسوع رغبوا في الاقتداء به.
نُقْسِمُ عَلَيْكَ ظنوا أنهم بهذه العبارة يجبرون الأرواح الشريرة على طاعتهم.
بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يَكْرِزُ بِهِ بُولُسُ كان اسم يسوع أو يشوع شائعاً بين اليهود فنعتوه «بالذي» الخ تمييزاً له عن غيره ممن سموا بهذا الاسم.
١٤ «وَكَانَ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا هٰذَا سَبْعَةَ بَنِينَ لِسَكَاوَا، رَجُلٍ يَهُودِيٍّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ».
ما ذُكر في هذه الآية مثال من أمثلة كثيرة أو هو بيان لما سبق.
يَهُودِيٍّ أصلاً بقطع النظر عن اعتقاده حينئذ.
رَئِيسِ كَهَنَةٍ كان هذا لقب كبير الأحبار في أورشليم أو زعيم قسم من الأربعة والعشرين التي قُسم كهنة اليهود إليها. لكن يعسر تصديق أن من كان في مثل تلك الرتبة الدينية العالية يكون في أفسس ويمارس بنوه مثل تلك المهنة الدنيئة المحرمة في الشريعة اليهودية. فالمحتمل أن ذلك اللقب كان لذي رتبة دينية في مجمع اليهود في أفسس أو أنه دعى ذلك اللقب كذباً ترويجاً لسحره والأرجح أنه يهودي مرق من دينه إلى الوثنية وصار كاهناً في هيكل أرطاميس فإنه كثيراً ما شوهد اسم «رئيس الكهنة» على المسكوكات والحجارة من آثار أفسس المختصة بالعبادة الوثنية.
١٥ «فَقَالَ ٱلرُّوحُ ٱلشِّرِّيرُ لَهُمْ: أَمَّا يَسُوعُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ، وَبُولُسُ أَنَا أَعْلَمُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَنْ أَنْتُمْ؟».
فَقَالَ ٱلرُّوحُ ٱلشِّرِّيرُ على قسم بني سكاوا. وهذا الروح كالمذكور في (متّى ٨: ٢٨) في شدة قوته واستخدامه لسان الإنسان ليعبر به عن أفكاره هو.
يَسُوعُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ وأُسلّم بسلطانه الإلهي على إخراج الشياطين (متّى ٨: ٢٩ ومرقس ١: ٢٤ ولوقا ٤: ٣٤).
بُولُسُ أَنَا أَعْلَمُهُ أنه خادم يسوع وأنه أُعطي سلطاناً على إخراج الأرواح (ع ١٢).
وَأَمَّا أَنْتُمْ الخ هذا كلام غيظ واستخفاف فكأنه قال أي سلطان لكم فإنكم لستم بيسوع ولا ببولس فأي حق لكم أن تقسموا عليّ بذلك الاسم الذي نقشعر منه (يعقوب ٢: ١٩).
١٦ «فَوَثَبَ عَلَيْهِمُ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱلرُّوحُ ٱلشِّرِّيرُ، وَغَلَبَهُمْ وَقَوِيَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى هَرَبُوا مِنْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ عُرَاةً وَمُجَرَّحِينَ».
وَثَبَ عَلَيْهِمُ ٱلإِنْسَانُ نسب في الآية السابقة التكلم الذي هو للإنسان إلى الروح النجس وهنا نسب قوة الروح النجس إلى الإنسان وكل من النسبتين حق لأن الإنسان والروح النجس اشتركا في العمل فالروح أعطى الإنسان القوة حتى قدر أن يثب على السبعة ويغلبهم.
عُرَاةً لما وثب عليهم مزق أثوابهم وعرّاهم كل التعرية أو بعضها.
١٧ «وَصَارَ هٰذَا مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أَفَسُسَ. فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَكَانَ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ يَتَعَظَّمُ».
لوقا ١: ٦٥ و٧: ١٦ وص ٢: ٤٣ و٥: ٥ و١١
ذُكرت هذه الحادثة هنا لشدة تأثيرها في الناس لأن المعزّمين كفوا بعد ذلك عن التعزيم على الأرواح باسم يسوع ولتحقيقها لكل أهل أفسس أن معجزات بولس امتازت عن أعمال السحر والخداع.
فَوَقَعَ خَوْفٌ كما وقع في أورشليم حين ضرب الله حنانيا وسفيرة بالموت لكذبهما على الروح القدس لأنه ظهر للجميع وجود قوة سرية لا تُقاوم ولم يُشاهد لها من نظير في تلك المدينة المشهورة بمهارة سحرتها وهي ليست إلا قوة الله الفاعلة بيد بولس رسوله فوجب عليهم أن يخافوه تعالى خوف الهيبة والوقار. ولا ريب في أنه وقع مثل ذلك الخوف في مصر لما ظهر الفرق بين عجائب موسى وأعمال السحرة.
وَكَانَ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ يَتَعَظَّمُ يجب هنا أن ننتبه إلى الاسم الذي تعظم فإنه ليس هو اسم بولس الذي صنع المعجزات بل هو اسم يسوع الذي كرز به بولس (ع ١٣) وفعل المعجزات به وهذا الاسم أهانه المعزّمون فانكسارهم تعظيم لاسم من أهانوه.
١٨ «وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُوا يَأْتُونَ مُقِرِّينَ وَمُخْبِرِينَ بِأَفْعَالِهِمْ».
متّى ٣: ٦
ما ذُكر في هذه الآية نتيجة الحادثة في ما قبلها.
ٱلَّذِينَ آمَنُوا ما نُسب إليهم يمكن أنهم أتوه عند إيمانهم والأرجح أنهم لم يأتوه إلا بعد حين أي أنهم بقوا وقتاً بعد إيمانهم يمارسون السحر سراً وهم لم يشعروا بالخطيئة في ذلك لكنهم بعد الحادثة المذكورة انتبهت ضمائرهم وأجبرتهم على ترك السحر وعلى الاعتراف بسوء فعلهم وذلك لأنهم تحققوا بها أن الله مع بولس وأن إنذاره حق وأنه تعالى يغضب على كل من يشتغل بالسحر.
يَأْتُونَ مُقِرِّينَ أي معترفين جهراً على مشهد من الناس كما يتبين من الآية التالية مما اقترن باعترافهم من أعمالهم.
مُخْبِرِينَ بِأَفْعَالِهِمْ أي بما فعلوه من الشر بعد معموديتهم وتعهدهم أنهم يعتزلون كل خداع وما يتعلق بخدمة الشيطان لأنه لا يخلو من أنهم ادعوا إخراج الشياطين كذباً أو مارسوا السحر أو استشاروا السحرة المعزمين. والاعتراف العلني بالأعمال الجهرية مما يجب لنوال المغفرة.
١٩ «وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ ٱلسِّحْرَ يَجْمَعُونَ ٱلْكُتُبَ وَيُحَرِّقُونَهَا أَمَامَ ٱلْجَمِيعِ. وَحَسَبُوا أَثْمَانَهَا فَوَجَدُوهَا خَمْسِينَ أَلْفاً مِنَ ٱلْفِضَّةِ».
ذكر في هذه الآية أعمالهم المقارنة باعترافهم الموافقة له ولولا تلك الأعمال كان اعترافهم عبثاً.
يَسْتَعْمِلُونَ ٱلسِّحْرَ من عرافة وغيرها كتفسير الأحلام وإعلان الأسرار كإبانة المسروق والسارق وكشف الكنوز والخبايا ووسائل المحبة والقبول وتمييز أيام السعد من أيام النحس وحوادث الإنسان المستقبلة والتمائم العرافية والعزائم والرقى وأمثالها من المدعيات الباطلة. وكل ذلك محرم لانه اجتهاد الإنسان في إدراك السرائر المختصة بالله فهو مخالف لقول الكتاب «ٱلسَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلٰهِنَا، وَٱلْمُعْلَنَاتُ لَنَا وَلِبَنِينَا إِلَى ٱلأَبَدِ» (تثنية ٢٩: ٢٩).
ٱلْكُتُبَ اشتهر في الأزمنة القديمة ما عُرف «بالكتب الأفسسية» وهي ما نُقل من الألفاظ المكتوبة على أثواب أرطاميس وتاجها وزنارها وقدميها وقواعد تماثيلها ولم يكن لها معنى في لغة من اللغات ومنها «أسكيون» و «كتكيون» و «ليكس» و «تيتراس». وكان الناس يكتبونها ويحملونها أحرازاً ويلفظون بها في أوقات الخطر. قال يوستاتيوس اليوناني أنه في الألعاب الأولمبيادية صرع مصارع أفسسي كل من صارعه ثم وجدوا رباطاً على وظيفه مكتوباً فيه بعض ألفاظ الكتب الأفسسية فلما أُخذ الرباط منه كان يُصرع بسهولة. ولا بد من أنه كان من كتب السحر المذكورة في هذه الآية غير الكتب الأفسسية مما يشتمل على الوسائل إلى كل ما ذكرناه من تفسير الأحلام وما بعده.
خَمْسِينَ أَلْفاً مِنَ ٱلْفِضَّةِ إن كان المقصود بالفضة هنا الدرهم اليوناني (كما يرجح) فقيمته خمسة غروش ونصف غرش وقيمة المجموع ٢٧٥٠٠٠ غرش أو ما يزيد على ألفي ليرة إنكليزية. وإن كان المقصود بها الشاقل اليهودي كان المبلغ ما يقرب من ثلاثة أضعاف ذلك. ولا يخفى أن قيمة النقود يومئذ كانت أغلى من قيمتها اليوم كثيراً وبلغت أثمان تلك الكتب المبلغ المذكور لقلتها ولعظمة الأسرار التي تعلنها على زعمهم.
أتى يسوع نوراً للعالم ليزيل كل ظلماته فكانت ظلمة هذه الأباطيل تتبدد أمام إنجيله حيث دخل. فمهما خسر الإنسان من تركه من المحرمات كالسحر وبيع المسكرات والمقامرة والربا الزائد يجب أن لا يحسب خسارته مصاباً وأن يقتدي بمؤمني أفسس لأنه «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه».
٢٠ «هٰكَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ تَنْمُو وَتَقْوَى بِشِدَّةٍ».
ص ٦: ٧ و١٢: ٢٤
في هذا الوقت كتب بولس من أفسس إلى أهل كورنثوس قوله الموافق لما في هذه الآية «لأَنَّهُ قَدِ ٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ عَظِيمٌ فَعَّالٌ، وَيُوجَدُ مُعَانِدُونَ كَثِيرُونَ» (١كورنثوس ١٦: ٩).
هٰكَذَا أي بواسطة تبشير بولس ومعجزاته وانتصاره على السحر.
٢١ «وَلَمَّا كَمَلَتْ هٰذِهِ ٱلأُمُورُ، وَضَعَ بُولُسُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ بَعْدَمَا يَجْتَازُ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ يَذْهَبُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، قَائِلاً: إِنِّي بَعْدَ مَا أَصِيرُ هُنَاكَ يَنْبَغِي أَنْ أَرَى رُومِيَةَ أَيْضاً».
ص ٢٠: ٢٢ ورومية ١٥: ٢٥ وغلاطية ٢: ١ ص ١٨: ٢١ ورومية ١٥: ٢٤ إلى ٢٨
هٰذِهِ ٱلأُمُورُ أخص هذه الأمور ما جرى بينه وبين السحرة والأرجح أنها تشتمل على الحوادث المتعلقة بتبشير بولس ورفاقه بالإنجيل في أفسس والمدن المجاورة لها وتأسيس الكنائس فيها وهي ما شغل ثلاث سنين (ص ٢٠: ٣١). ومنها ثلاثة أشهر شغلها بوعظه في مجمع اليهود وسنتان شغلهما بالتعليم في مدرسة تيرانس وجولانه في تلك الكورة قبل مقاومته الطوافين المعزمين (ع ١٣) وتسعة أشهر بعد ذلك قبل الشغب الذي هيجه ديمتريوس (ع ٢٣).
فِي نَفْسِهِ بإرشاد الروح القدس.
مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ هما القسمان اللذان قسم الرومانيون بلاد اليونان إليهما حين استولوا عليها. وغاية بولس من السفر إليهما إنهاض غيرة التلاميذ الروحية وإصلاح ما نشأ من الخلل في الكنائس الحديثة ولا سيما كنيسة كورنثوس كما ذُكر في الرسالتين إليها وإكمال جمع الإحسان لفقراء المسيحيين في أورشليم كما ذُكر في (رومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ - ٣).
إِلَى أُورُشَلِيمَ ليحمل إليها ما جمع من الإحسان كما يظهر من (ص ٢٦: ٣١ و١كورنثوس ١٦: ١ - ٩ ورومية ١٥: ٢٥).
قَائِلاً لأصدقائه.
أَنْ أَرَى رُومِيَةَ أيضاً ليبشر بالإنجيل هناك على وفق قصده أن يجعل كل مركز كبير في المملكة الرومانية مركزاً للدين المسيحي أيضاً لأنه اعتبر ملكوت المسيح الروحي مما يجب أن يكون في كل مملكة أرضية. فإنه بنشوء هذا الملكوت في رومية يكون قد تأسس في مراكز العالم الثلاثة الكبرى وهي أورشليم وبلاد اليونان ورومية. فالأولى مركز الديانة اليهودية والثانية مركز الفلسفة والثالثة مركز السلطة. ولا يتم هذا القصد إلا بأن يذهب إلى رومية ويبشر فيها. وكان قد قصد ذلك منذ زمان طويل (رومية ١: ٣ و١٥: ٢٣ و٢٤ و٢٨). نعم أنه أتم هذا القصد لكنه لم يكن كما توقع لأنه ذهب إليها أسيراً مقيّداً.
٢٢ «فَأَرْسَلَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ ٱثْنَيْنِ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَخْدِمُونَهُ: تِيمُوثَاوُسَ وَأَرَسْطُوسَ، وَلَبِثَ هُوَ زَمَاناً فِي أَسِيَّا».
ص ١٣: ٥ رومية ١٦: ٢٣ و٢تيموثاوس ٤: ٢٠
إِلَى مَكِدُونِيَّةَ أي فيلبي وتسالونيكي أكبر مدنها كما هو المرجّح.
يَخْدِمُونَهُ أي يساعدونه في الجسديات والتبشير (ص ١٣: ٥ و١تسالونيكي ٣: ٢ و٢كورنثوس ٨: ٢٣ ورومية ١٦: ٢١ وفيلبي ٢: ٢٥ وكولوسي ٤: ١١ وفليمون ١٣).
تِيمُوثَاوُسَ أمر بولس تيموثاوس بأنه بعد إكمال خدمته في مكدونية يذهب إلى كورنثوس لكي يُعد الكنيسة لمجيئه وليجمع إحسانها للفقراء أورشليم (١كورنثوس ٤: ١٧ - ١٩ و١٦: ١٠).
أَرَسْطُوسَ المرجح أنه هو المذكور في (رومية ١٦: ٢٣ و٢تيموثاوس ٤: ٢٠). وكونه «خازن مدينة أفسس» لا يمنع من أن يكون مساعداً لبولس لاحتمال أنه كان في تلك الوظيفة قبل خدمته لبولس أو بعدها وإن كان خازناً مدة إقامة بولس هناك فمن المحتمل أن واجبات مأموريته لا تمنعه من أن يترك أفسس وقتياً.
زَمَاناً بعد ذهاب تيموثاوس وأرسطوس على أنه كان يقصد أن يذهب على أثرهما بعد قليل (ع ٢١) ولعله أقام زمناً أكثر مما قصد أولاً.
٢٣ «وَحَدَثَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ شَغَبٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ بِسَبَبِ هٰذَا ٱلطَّرِيقِ»
٢كورنثوس ١: ٨ ص ٩: ٢ و١٨: ٢٦
وَحَدَثَ... شَغَبٌ هذا يدل على أنه كان في راحة وسكون بعد انتصاره على الطوّافين المعزّمين إلى ذلك الوقت.
هٰذَا ٱلطَّرِيقِ أي الدين المسيحي. وسُمّي هذا الدين «بالطريق» لأنه طريق الإيمان والصلاح والقداسة والخلاص والسعادة والسماء (ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٢: ٤ و٢٤: ١٤ و٢٢).
٢٤ «لأَنَّ إِنْسَاناً ٱسْمُهُ دِيمِتْرِيُوسُ، صَائِغٌ صَانِعُ هَيَاكِلِ فِضَّةٍ لأَرْطَامِيسَ، كَانَ يُكَسِّبُ ٱلصُّنَّاعَ مَكْسَباً لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
ص ١٦: ١٦ و١٩
صَانِعُ هَيَاكِلِ فِضَّةٍ هذا بيان لقوله «صائغ». وكانت هذه الهياكل تماثيل صغيرة لهيكل الإلاهة أرطاميس الكبير. وكانت تُباع كثيراً والمشترون يأخذونها لتساعدهم على عبادة تلك الإلاهة. وكانت أيضاً بمثابة إحراز للمسافرين وللسكان وتذكاراً لزوار هيكلها الذين قصدوه من الأقطار. وكان حمل أمثال هذه الهياكل من عوائد الوثنيين القديمة التي سقط فيها الإسرائيليون أيضاً بدليل قوله «بَلْ حَمَلْتُمْ خَيْمَةَ مُولُوكَ، وَنَجْمَ إِلٰهِكُمْ رَمْفَانَ، ٱلتَّمَاثِيلَ ٱلَّتِي صَنَعْتُمُوهَا لِتَسْجُدُوا لَهَا» (ص ٧: ٤٣). فاشتغل كثيرون بصنع تلك الهياكل وحصلوا به على أرباح وافرة.
ٱلصُّنَّاعَ الصاغة شركاء ديمتريوس وغيرهم من أرباب تلك الصناعة.
٢٥ «فَجَمَعَهُمْ وَٱلْفَعَلَةَ فِي مِثْلِ ذٰلِكَ ٱلْعَمَلِ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ سِعَتَنَا إِنَّمَا هِيَ مِنْ هٰذِهِ ٱلصِّنَاعَةِ».
ٱلْفَعَلَةَ أي الأجراء في الصياغة.
سِعَتَنَا الخ أي ثروتنا. يتضح من ذلك أن الغاية العظمى من هذا الاجتماع والخطاب الربح الشخصي وأما المحاماة عن الدين فكان أمراً ثانوياً.
٢٦ «وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَتَسْمَعُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفَسُسَ فَقَطْ، بَلْ مِنْ جَمِيعِ أَسِيَّا تَقْرِيباً، ٱسْتَمَالَ وَأَزَاغَ بُولُسُ هٰذَا جَمْعاً كَثِيراً قَائِلاً: إِنَّ ٱلَّتِي تُصْنَعُ بِٱلأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً».
مزمور ١١٥: ٤ وإشعياء ٤٤: ١٠ إلى ٢٠ وإرميا ١٠: ٣
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَتَسْمَعُونَ أي أن الأمر واضح مسلّم به لا موهوم.
أَفَسُسَ... جَمِيعِ أَسِيَّا تَقْرِيباً هذا على وفق ما في الآية العاشرة من جهة وعظ بولس في الكور المجاورة لأفسس وهو دليل على تأثير كلمة الله ببركة الروح على أتعاب الرسول. وشهادة ديمتريوس في هذه الآية كشهادة أفلينيوس والي بيثينية المجاورة لأفسس للأمبراطور ترجانوس بانتشار الديانة المسيحية بعد مدة ليست بطويلة قال فيها انتشر هذا الوهم (أراد به الدين المسيحي) كالعدوى بين عدد وافر من الناس ذكوراً وأناثاًً كباراً وصغاراً أغنياء وفقراء شرفاء وأدنياء فتُركت هياكل الآلهة بلا عبدة ومذابحها بلا ذبائح.
ٱلَّتِي تُصْنَعُ بِٱلأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً هذا كما قال بولس في أثينا (ص ١٧: ٢٩) فتفسير ديمتريوس كلام بولس حق وخوفه من زوال الديانة الوثنية وانقطاع ربحه بانتشار الدين المسيحي كان في محله.
٢٧ «فَلَيْسَ نَصِيبُنَا هٰذَا وَحْدَهُ فِي خَطَرٍ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ فِي إِهَانَةٍ، بَلْ أَيْضاً هَيْكَلُ أَرْطَامِيسَ ٱلإِلٰهَةِ ٱلْعَظِيمَةِ أَنْ يُحْسَبَ لاَ شَيْءَ، وَأَنْ سَوْفَ تُهْدَمُ عَظَمَتُهَا، هِيَ ٱلَّتِي يَعْبُدُهَا جَمِيعُ أَسِيَّا وَٱلْمَسْكُونَةِ».
نَصِيبُنَا أي ربحنا لأن التبشير بالإنجيل قلل اعتبار الأوثان فنتج عن ذلك كساد التماثيل.
بَلْ أَيْضاً لو نادى ديمتريوس ورفقاؤه في الشعب لنقصان ربحهم في تجارتهم بسبب مناداة بولس ما هيّج ذلك الشعب عليه فاضطروا أن ينادوا بأضرار تهم الجميع ولم يروا وسيلة لذلك أحسن من قولهم أن دينهم في خطر من قبل التبشير بالإنجيل.
هَيْكَلُ أَرْطَامِيسَ كان هيكل أرطاميس مبنياً من رخام أبيض اشترك في نفقة بنائه كل مدن آسيا حتى أن النساء بذلت جواهر حلاها في سبيل ذلك. وكان طوله ٤٢٥ قدماً وعرضه ٢٢٠ قدماً وكانت دعائم ما سُقف منه ١٢٧ عموداً علو كل منها ٦٠ قدماً وكانت من أنفس الرخام وكل منها هدية ملك ٩١ منها بيض و٣٦ ملونة. وكان معلقاً عليها هدايا لا تثمن هي تقدمات الشكر ممن حصلوا على نجاح عظيم أو نجاة من خطر. وكان فيه تماثيل وصور صنعها أمهر النحاتين والمصورين اليونانيين. قيل أن إحدى الصور التي من صنع أباليس بلغت نفقتها ما يساوي خمسة آلاف ليرة إنكليزية.
ٱلإِلٰهَةِ ٱلْعَظِيمَةِ نُعتت بالعظيمة تمييزاً لها عن آلهة أخرى أدنى منها وعن تماثيلها في غير أفسس. زعم عبدتها أن تمثالها هبط من السماء. وكان ذلك التمثال من خشب وكثيراً ما طبعوا صورة أرطاميس على مسكوكات النقود ويظهر من تلك الصورة أنها كانت قبيحة المنظر. كان نصف بدنها الأعلى مغطى بالثديّ الكبيرة إشارة إلى أنها مانحة الخصب والتغذية وكان النصف الأسفل منشوراً مربعاً مغطى بصور النحل وسنابل الحنطة والأزهار. وكانت عظمة تلك الإلاهة متوقفة على عظمة هيكلها.
يُحْسَبَ لاَ شَيْءَ هذا ينتج بالضرورة من تسليم الناس بقول بولس «ٱلَّتِي تُصْنَعُ بِٱلأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً» (ع ٢٦).
سَوْفَ تُهْدَمُ عَظَمَتُهَا تنبأ ديمتريوس بما تمّ أخيراً وهو لا يعلم أنه نبي. ولم تكن الواسطة لهدم تلك العظمة إلا ما ذكره وهو التبشير بالإنجيل. فإن ذلك الهيكل لم يبق منه اليوم سوى أطلاله.
يَعْبُدُهَا جَمِيعُ أَسِيَّا وَٱلْمَسْكُونَةِ ليس في هذا القول كثير من المبالغة إذا أُريد «بالمسكونة» المملكة الرومانية كما كان شائعاً فإنه لم يكن في العالم كله نظير هيكلها في العظمة إلا هيكل أبلون في دلفي. وكان عبدتها لا يُحصون يقصدون هيكلها من كل دان وقاص.
خلاصة ما استطاعه ديمتريوس من تبجيل أرطاميس أن هيكلها زينة المدينة وأنها مصدر ربح الصاغة. فما أعظم الفرق بين هذا الوصف ووصف المبشرين المسيحيين للديانة المسيحية فإنهم يصفونها بأن مجدها قدرتها على أن تجعل الناس أتقياء على الأرض وممجدين في السماء.
٢٨ «فَلَمَّا سَمِعُوا ٱمْتَلأُوا غَضَباً، وَطَفِقُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ ٱلأَفَسُسِيِّينَ».
يظهر من هذه الآية ما كان لخطاب ديمتريوس من شديد التأثير في أهل صناعته فإنهم اتقدوا غيظاً خوفاً على ربحهم وغيرة لدينهم.
عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الخ قوله «عظيمة» هي الكلمة ذات الشأن في هذه العبارة. وفي هذه العبارة جوهر اعتقادهم وهو أن هذه الإلاهة التي عبدوها تستحق أن توصف بالعظمة فهي عظيمة الآن وتبقى كذلك مهما افترى الناس عليها. وتضمن صراخهم شكوى عليهم. بعض الناس أنهم تآمروا على إهانة أرطاميس التي هي فخر الأفسسين ومجدهم وإلا لم يكن من داع إلى ذلك الصراخ وقد عرفوا أن هذه الشكوى لا تقع إلا على اليهود وحسبوا بولس منهم.
٢٩ «فَٱمْتَلأَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا ٱضْطِرَاباً، وَٱنْدَفَعُوا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى ٱلْمَشْهَدِ خَاطِفِينَ مَعَهُمْ غَايُوسَ وَأَرِسْتَرْخُسَ ٱلْمَكِدُونِيَّيْنِ، رَفِيقَيْ بُولُسَ فِي ٱلسَّفَرِ».
رومية ١٦: ٢٣ و١كورنثوس ١: ١٤ ص ٢٠: ٤ و٢٧: ٢ وكولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤
ٱمْتَلأَتِ ٱلْمَدِينَةُ انتشر الهياج من الصاغة إلى جمهور المدينة على خلاف رتبهم وصنائعهم فإنهم استنتجوا من الصراخ أن بعض اليهود الأجانب أهان إلاهتهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الأمر حدث في شهر أيار الذي وقفه كل أهل آسيا على عبادة أرطاميس ولذلك كثر عدد المجتمعين في المدينة وزادوا غيرة في عبادتها وهم كانوا على غاية الاستعداد للتهيج بمثل ذلك الأمر. وأُستدل على حدوثه في شهر أيار من اجتماع وجوه آسيا حينئذ في أفسس فإن هؤلاء كانوا يأتون إلى أفسس في ذلك الشهر للقيام بواجبات العيد (انظر شرح ع ٣١).
ٱنْدَفَعُوا... إِلَى ٱلْمَشْهَدِ مقتدياً بعضهم ببعض كعادة الناس في مثل تلك الحال. وذهبوا إلى المشهد لأنه مجتمع الجمهور ومنازلة بعض الأبطال لبعض والمحاربة للوحوش في ساحته. وكان ذلك المشهد يسع ثلاثين ألف مشاهد ولم تزل آثاره إلى اليوم.
خَاطِفِينَ مَعَهُمْ غَايُوسَ وَأَرِسْتَرْخُسَ الأرجح أنهم مروا بمحلة اليهود وخطفوا هذين الرجلين وأن بولس كان حينئذ في شديد الخطر منهم (١كورنثوس ١٥: ٣٢ و٤: ٩) لكنه نجا منه كما نجا من مثله في تسالونيكي (ص ١٧: ٦) ولعل هذا الوقت هو ما أنقذه فيه بريسكلا وأكيلا معرضين نفسيهما للموت بذلك (رومية ١٦: ٣ و٤). وغايوس اسم يوناني (وهو كابوس في اللاتينية) كان شائعاً يومئذ وذُكر في الإنجيل أربعة سموا به غايوس الكورنثي الذي عمّده بولس ونزل عليه ضيفاً (١كورنثوس ١: ١٤ ورومية ١٦: ٢٣). وغايوس الدربي (ص ٢٠: ٤) وغايوس الأفسسي وهو الذي كتب إليه يوحنا الرسول رسالته الثالثة. وغايوس المذكور هنا ولعله هو الذي كتب إليه يوحنا. وأرسترخس رجل من تسالونيكي (ص ٢٠: ٤) رافق بولس إلى فلسطين وكان معه حين غرقت السفينة (ص ٢٧: ٢) وكان معه في رومية يوم حبسه الأول (كولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤).
٣٠ « وَلَمَّا كَانَ بُولُسُ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَ ٱلشَّعْبِ لَمْ يَدَعْهُ ٱلتَّلاَمِيذُ».
يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ المشهد حيث اجتمع الجمهور وأراد هذا الدخول لاهتمامه برفيقيه آملاً أن يساعد على تسكين الهيجان بما يقوله. وكيف كان الأمر فإنه لم يرد أن يكونا عرضة للخطر دون مشاركته لهما فيه ومحاماته عنهما.
لَمْ يَدَعْهُ ٱلتَّلاَمِيذُ أي المسيحيون من أهل أفسس فإنهم كانوا مختبرين غيرة أهل أفسس لأرطاميس وعارفين بما يقع من الخطر على بولس من أولئك الجمهور المتقد غيظاً.
٣١ «وَأُنَاسٌ مِنْ وُجُوهِ أَسِيَّا كَانُوا أَصْدِقَاءَهُ أَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ إِلَى ٱلْمَشْهَدِ».
وُجُوهِ أَسِيَّا أي أهل الرتب الخاصة على ما يفيد الأصل اليوناني وهم عشرة يُختارون كل سنة من مدن آسيا المختلفة وكانت أعمالهم ترتيب الذبائح والملاعب التي تؤتى في شهر أيار عبادة لأرطاميس وكانت النفقة كلها على وفرتها من أموالهم لأن الذبائح كانت كثيرة وكان عليهم أن يأتوا بوحوش الملاعب من بلاد بعيدة وأن يستأجروا الأبطال المشهورين من بلادهم وغيرها فمن الضرورة أنهم كانوا من أرباب الثروة والمراتب العالية. ويظهر لنا قدر الاحترام الذي كان لبولس من هؤلاء أنهم حسبوه من أصدقائهم واعتنوا بسلامته.
أَصْدِقَاءَهُ كانت صداقتهم له شخصية لا يلزم منها أنهم آمنوا بتعاليمه وإلا لم يبقوا يخدمون الإلاهة.
أَرْسَلُوا الأرجح أنهم أرسلوا رسلاً بكلام شفاهي.
لاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ الخ إلى الجمهور الهائج بنار التعصب الديني الطالب من يشفي غيظه به.
٣٢ «وَكَانَ ٱلْبَعْضُ يَصْرُخُونَ بِشَيْءٍ وَٱلْبَعْضُ بِشَيْءٍ آخَرَ، لأَنَّ ٱلْمَحْفَلَ كَانَ مُضْطَرِباً، وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَدْرُونَ لأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا قَدِ ٱجْتَمَعُوا!».
هذا بيان لما يتوقع أن يكون فيه مثل ذلك الجمهور. وكان كل ما فعلوا نتيجة توهمهم وقوع الاعتداء أما على مدينتهم أو على دينهم أو على الاهتهم أو هيكل أرطاميس لكنهم كانوا لم يعرفوا ما هو ذلك التعدي ولا من هم المعتدون.
٣٣ «فَٱجْتَذَبُوا إِسْكَنْدَرَ مِنَ ٱلْجَمْعِ، وَكَانَ ٱلْيَهُودُ يَدْفَعُونَهُ. فَأَشَارَ إِسْكَنْدَرُ بِيَدِهِ يُرِيدُ أَنْ يَحْتَجَّ لِلشَّعْبِ».
١تيموثاوس ١: ٢٠ و٢تيموثاوس ٤: ١٤ ص ١٢: ١٧
إِسْكَنْدَرَ... وَكَانَ ٱلْيَهُودُ يَدْفَعُونَهُ بغية أن يتقدمهم خطيباً. وبما أن اليهود كانوا أعداء بولس نستنتج أن اسكندر كان عدوه. ولعله هو الذي أشار إليه بولس بقوله «إِسْكَنْدَرُ ٱلنَّحَّاسُ أَظْهَرَ لِي شُرُوراً كَثِيرَةً» (٢تيموثاوس ٤: ١٤). والأرجح أن قصدهم من دفعهم إياه إلى الخطابة ليبين للجمهور أن اليهود ليسوا بمسيحيين فهم ليسوا شركاء بولس ورفيقيه وأنهم كرهوه وكرهوا كل أعماله.
٣٤ «فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ يَهُودِيٌّ، صَارَ صَوْتٌ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمِيعِ صَارِخِينَ نَحْوَ مُدَّةِ سَاعَتَيْنِ: عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ ٱلأَفَسُسِيِّينَ!».
١ملوك ١٨: ٢٦ ومتّى ٦: ٧
عَرَفُوا أَنَّهُ يَهُودِيٌّ عرفوا ذلك من هيئته أو ثيابه ولهجته. وكان الوثنيون يبغضون اليهود دائماً وكان كافياً لنفارهم من سمع اسكندر أنه كان من أولئك المبغضين. وعرفوا أنه من المحال أن يتكلم يهودي بما يرفع شأن أرطاميس التي ظنوا وقوع الإهانة عليها.
عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الخ ما أتوا به هنا مثل ما أتى به كهنة البعل فإنهم كانوا «مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى ٱلظُّهْرِ (يصرخون) «يَا بَعْلُ أَجِبْنَا» (١ملوك ١٨: ٢٦). وهذا يذكرنا قول المسيح «حِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا ٱلْكَلاَمَ بَاطِلاً كَٱلأُمَمِ» (متّى ٦: ٧). وكان ما فعلوه جزءاً من عبادتهم لأرطاميس كما في (ع ٢٨) أيضاً. وقصدوا فوق ذلك أن يظهروا فرط غيرتهم وإكرامهم لإلاهتهم المهانة.
٣٥ «ثُمَّ سَكَّنَ ٱلْكَاتِبُ ٱلْجَمْعَ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلأَفَسُسِيُّونَ، مَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي لاَ يَعْلَمُ أَنَّ مَدِينَةَ ٱلأَفَسُسِيِّينَ مُتَعَبِّدَةٌ لأَرْطَامِيسَ ٱلإِلٰهَةِ ٱلْعَظِيمَةِ وَٱلتِّمْثَالِ ٱلَّذِي هَبَطَ مِنْ زَفْسَ؟».
ثُمَّ سَكَّنَ ٱلْكَاتِبُ ٱلْجَمْعَ الظاهر أن نار غضبهم خمدت قليلاً بعد أن صرخوا نحو ساعتين فحضر بعض الحكام وأمرهم بالسكوت فسكتوا. وكان هذا الكاتب رب منزلة سامية في أفسس وكان من واجبات منزلته أن يحفظ سجلات المحكمة ويحضرها عند الحاجة وكان الناس قد اعتادوا أن يكرموه ويطيعوه.
مَنْ... لاَ يَعْلَمُ أي كل إنسان يعلم فلا حاجة لأن تنادوا كذلك كأن ما تنادون به أمر مجهول يُفتقر إلى إعلانه. وعلى فرض أن يهودياً أنكر ذلك فهل إنكاره ينفي شهادة كل العالم.
مَدِينَةَ ٱلأَفَسُسِيِّينَ مُتَعَبِّدَةٌ والكلمة اليونانية المترجمة بمتعبدة ( νεωκορον) أي مكنسة هيكلها كناية عن شدة تعبدها لها. وكانت هذه الكلمة مكتوبة على كثيرين من مسكوكاتها ولم يزل بعض تلك المسكوكات محفوظاً إلى الآن. وكان الأفسسيون يحسبون من أعظم ممجدات مدينتهم امتيازها عن سائر المدن بخدمتها وحراستها لهيكلها العظيم فحسدها على ذلك الملوك والأمبراطورون.
ٱلَّذِي هَبَطَ قال أفلينيوس المؤرخ «أن ذلك التمثال من أقدم العاديات فإن الهيكل خرب وجدد سبع مرات وذلك التمثال محفوظ فيه» وأن الناس اعتقدوا أنه هبط من السماء.
زَفْسَ أي المشتري وهو عندهم إله الآلهة. ما قاله الكاتب في هذه الآية للأفسسين سكن غضبهم بعض التسكين فحوّل أذهانهم من الغضب إلى الافتحار بمدينتهم وهيكلهم وإلاهتهم. والظاهر أن ذلك الكاتب لم يكن من المتعصبين ولا ممن يميلون إلى الاضطهاد.
٣٦ «فَإِذْ كَانَتْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءُ لاَ تُقَاوَمُ، يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا هَادِئِينَ وَلاَ تَفْعَلُوا شَيْئاً ٱقْتِحَاماً».
هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءُ أي أن مدينة أفسس حارسة الهيكل والتمثال الذي هبط من السماء.
ًلاَ تَفْعَلُوا شَيْئاً ٱقْتِحَاما أي بلا تأمل ونظر في العواقب فإنكم إذا بقيتم هائجين ارتكبتم الاقتحام الذي لا يحسن بكم.
٣٧ «لأَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِهٰذَيْنِ ٱلرَّجُلَيْنِ، وَهُمَا لَيْسَا سَارِقَيْ هَيَاكِلَ، وَلاَ مُجَدِّفَيْنِ عَلَى إِلٰهَتِكُمْ».
ع ٢٩
أشار الكاتب بما في هذه الآية إلى أنهم قد وقعوا في ما حذرهم منه لأنهم قبضوا على رجلين لم يذنبا بشيء إلى الهيكل أو إلى الإلاهة.
أَتَيْتُمْ بالإجبار والإهانة.
هٰذَيْنِ ٱلرَّجُلَيْنِ لعله أشار بيده إلى أرسترخس وغايس حين قال ذلك.
لَيْسَا سَارِقَيْ هَيَاكِلَ لم يتهمها أحد بهذا الذنب ولم يدع أحد فقدان شيء من الهيكل.
وَلاَ مُجَدِّفَيْنِ الخ نعم أن بولس تكلم في مواعظه على بطلان العبادة الوثنية وعلى أنها جهل كما يتبين من خطابه لأهل أثينا (ص ١٧: ٢٩) لكنه لم يطعن في معبود خاص من معبودات اليونانيين أو الرومانيين لعلمه أن ذلك لا يحمل عبدتها إلا على الغضب والمقاومة. والطريق التي اختارها بولس لمفارقة الضلال هي أفضل الطرق في كل عصر وهي أنه أظهر الحق ليُظهر فضله على الباطل بالمقابلة أي أنه نسخ الظلمة بالنور بدون أن يطعن في الظلمة فإنه لم يخفض مقام أرطاميس أمام عبدتها بل رفع شأن المسيح لينظروا الفرق بينهما ويختاروا الأفضل. وزاد الكاتب على ما قاله في الآية السادسة والثلاثين من أن ما فعلوه لا يحسن بهم أنه ظلم لأنهم قبضوا على رجلين لم يذنبا بشيء.
٣٨ «فَإِنْ كَانَ دِيمِتْرِيُوسُ وَٱلصُّنَّاعُ ٱلَّذِينَ مَعَهُ لَهُمْ دَعْوَى عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّهُ تُقَامُ أَيَّامٌ لِلْقَضَاءِ، وَيُوجَدُ وُلاَةٌ، فَلْيُرَافِعُوا بَعْضُهُمْ بَعْضاً».
ص ١٦: ١٩ و١٧: ٦
أشار الكاتب في هذه الآية إلى طريق أفضل من القبض على الأبرياء اقتحاماً وجرهم إلى المشهد وهي طريقة شرعية مظهرة للحق وحكم بأن الدعوة ليست بجمهورية وإنما هي شخصية.
كَانَ دِيمِتْرِيُوسُ وَٱلصُّنَّاعُ... لَهُمْ دَعْوَى أي إن ظنوا أن أحداً اعتدى عليهم وجب أنهم هم يشتكون عليه لا المدينة كلها وأن محل إقامة الدعوى المحكمة لا المشهد. فأظهر بما قاله أنه عرف أن غيرة ديمتريوس وجماعته لعبادة أرطاميس خداعاً ورياء والغرض ربحهم لا شرفها.
تُقَامُ أَيَّامٌ لِلْقَضَاءِ في أماكن مخصوصة إما في السوق كما في فيلبي (ص ١٦: ١٩) وإما في غيرها كما في كورنثوس (ص ١٨: ١٣).
يُوجَدُ وُلاَةٌ أي قضاة ينظرون في الدعاوي ويحكموا بمقتضى الشريعة.
فَلْيُرَافِعُوا بَعْضُهُمْ بَعْضاً أي المشتكي يبسط شكواه والمُشتكى عليه يحامي عن نفسه ما استطاع.
٣٩ «وَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ شَيْئاً مِنْ جِهَةِ أُمُورٍ أُخَرَ، فَإِنَّهُ يُقْضَى فِي مَحْفِلٍ شَرْعِيٍّ».
بعد أن بيّن مقتضى الحكمة والعدل في الدعاوي الشخصية بيّن مقتضى ذلك في الدعاوي الجمهورية مدنية أو عامة.
وَإِنْ كُنْتُمْ وجه هنا خطابه رأساً إلى ديمتريوس وزمرته.
أُمُورٍ أُخَرَ غير الأمور الشخصية التي تُرى في المحاكم الصغرى.
فَإِنَّهُ يُقْضَى أي يُحكم به على وفق الحوادث بمقتضى الشريعة المتعلقة به فلا يبقى في صحة الحكم.
فِي مَحْفِلٍ شَرْعِيٍّ أشار بذلك إلى أن المحفل الذي كانوا فيه حينئذ ليس بشرعي فلا محل للنظر في الدعاوي فيه. فالأرجح أن الكاتب أشار إلى محفل يُقام كل ثلاثة أشهر في المدن الكبيرة يحضره قضاة معينون للحكم في الدعاوي المستأنفة من المحاكم الصغرى.
٤٠ «لأَنَّنَا فِي خَطَرٍ أَنْ نُحَاكَمَ مِنْ أَجْلِ فِتْنَةِ هٰذَا ٱلْيَوْمِ. وَلَيْسَ عِلَّةٌ يُمْكِنُنَا مِنْ أَجْلِهَا أَنْ نُقَدِّمَ حِسَاباً عَنْ هٰذَا ٱلتَّجَمُّعِ».
بعد أن أبان الكاتب أن اجتماعهم الاقتحامي في غير موضعه مع وجود الطرق القانونية للإنصاف ذكر سبباً أعظم مما سبق لوجوب العدول عنه وهو أنه ذو خطر على جميع الذين اشتركوا فيه بل على جميع أهل أفسس أيضاً لأن الحكومة الرومانية كانت لطيفة في سياسة الممالك التي استولت عليها في سوى الهياجات الجمهورية فإنها كانت شديدة فيها.
لأَنَّنَا أي كل أهل المدينة رؤساء ومرؤوسين.
خَطَرٍ هذه هي عين الكلمة التي استعملها ديمتريوس (ع ٢٧) في نصيبه ونصيب الصاغة. ومراده «بالخطر» هنا أن الدولة الرومانية تحرم مدينة أفسس الحقوق السياسية التي منحتها إياها وهو من أعز الأشياء عندهم.
نُحَاكَمَ أي تُقام علينا الدعوى في رومية ويطلب منا علة هذا الهياج الجمهوري.
وَلَيْسَ عِلَّةٌ كافية للاحتجاج فنكون عرضة للعقاب.
حِسَاباً أي حججاً نتبرأُ بها.
٤١ « وَلَمَّا قَالَ هٰذَا صَرَفَ ٱلْمَحْفَلَ».
صَرَفَ ٱلْمَحْفَلَ أمر المجتمعين بالانصراف باعتبار أنه حاكم فأطاعوا.
كان خطاب هذا الكاتب بمقتضى الحكمة ومما يستحق المدح فإنه أرضاهم أولاً بأن مدح غيرتهم الدينية وحولهم من جهة الغضب إلى جهة الافتخار بأنهم حفظة تمثال أرطاميس وهيكلها وبيّن لهم جودة ما لهم من الوسائل لفض الدعاوي الشخصية والجمهورية ثم أنذرهم بالخطر من سوء العاقبة. فاتخذ الله فصاحة هذا الكاتب الأفسسي وقاية لحياة بولس كما استخدم غاليون الوالي الروماني العادل لحمايته في كورنثوس (ص ١٨: ١٢ - ١٦). وكما استخدم الواليين فيلكس وفستوس لإنقاذ بولس من مؤامرة اليهود (ص ٢٤: ٣٢ و٣٣ وص ٢٥: ٤).
الأصحاح العشرون
سفر بولس من أفسس إلى اليونان ع ١ إلى ٦
١ «وَبَعْدَمَا ٱنْتَهَى ٱلشَّغَبُ، دَعَا بُولُسُ ٱلتَّلاَمِيذَ وَوَدَّعَهُمْ، وَخَرَجَ لِيَذْهَبَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ».
١كورنثوس ١٦: ٥ و٢كورنثوس ٢: ١٢ و١٣ و٧: ٥ و٦ و١تيموثاوس ١: ٣
بَعْدَمَا ٱنْتَهَى ٱلشَّغَبُ أي الفتنة التي أنشأها ديمتريوس ورفقاؤه وأزالها الكاتب الأفسسي بحكمته. وذهاب بولس من أفسس ليس من معلولات ذلك الشغب بل مما عقبه لأنه كان قد عزم قبلاً على الذهاب (ص ١٩: ٢١).
وَدَّعَهُمْ بياناً لمودّته الأخوية وعنايته الرسولية.
إِلَى مَكِدُونِيَّةَ حيث أرسل أمامه تيموثاوس وأرسطوس (ص ١٩: ٢٢) وأوصى تيموثاوس أن يظل سائراً من هنالك إلى كورنثوس لينذر كنيستها ويعظها ويصلح شؤونها حتى لا تُبقي شيئاً يحمل بولس حين يصل إليها على التوبيح أو التأديب (١كورنثوس ٤: ١٧ و٢١). وكتب بولس إلى تلك الكنيسة أن تقبل الأخ تيموثاوس بالترحيب والإكرام وأن لا تستهين بحداثته (١كورنثوس ١٦: ١٠ و١١).
والظاهر أنه على أثر ذهابهما أتى إلى أفسس أناس من أهل خلوي (١كورنثوس ١: ١١) وأخبروه بشدة الخصومات في كنيسة كورنثوس وأن أحد أعضاء الكنيسة عائش في الزنا مع امرأة أبيه (١كورنثوس ٥: ١). وأنه أتاه رقيم من كنيسة كورنثوس على أيدي استفانوس ورفاقه (١كورنثوس ١٦: ١٧) يتضمن عدة مسائل تتعلق بالكنيسة (١كورنثوس ٨:١) فكتب إليهم أجوبتها وهي ما تُعرف بالرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس وأرسلها مع استفانوس ورفاقه وأرسل معهم تيطس على أمل أن يرجع إليه سريعاً ويخبره بتأثير رسالته في الكنيسة وتوقع أن يجده في ترواس فلم يجده فقلق من ذلك كثيراً. ومع أنه وجد في تلك المدينة باباً مفتوحاً للتبشير بالإنجيل لم يمكث إلا قليلاً وأسرع إلى مكدونية لكي يواجه تيطس فيها (٢كورنثوس ٢: ١٢ و١٣) فلقيه بعد قليل من بلوغه إياها فاطمأن بما أنبأه به من أحوال الكنيسة (٢كورنثوس ٧: ١٣) وحينذ كتب رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس. ونستنتج مما قيل في (رومية ١٥: ١٩) أنه ذهب على أثر ذلك إلى الليريكون للتبشير بالإنجيل وهي بلاد موقعها غربي مكدونية.
٢ «وَلَمَّا كَانَ قَدِ ٱجْتَازَ فِي تِلْكَ ٱلنَّوَاحِي وَوَعَظَهُمْ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ، جَاءَ إِلَى هَلاَّسَ».
تِلْكَ ٱلنَّوَاحِي أي مدن مكدونية ومنها فيلبي وتسالونيكي وبيرية وبلاد الليريكون كما ذُكر في شرح الآية الأولى.
هَلاَّسَ كان هذا اسم مدينة في بلاد اليونان ثم سُميت به كورتها الصغيرة ثم أُطلق على القسم الجنوبي من بلاد اليونان فهو اسم ثان لأخائية.
٣ «فَصَرَفَ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ إِذْ حَصَلَتْ مَكِيدَةٌ مِنَ ٱلْيَهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سُورِيَّةَ صَارَ رَأْيٌ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى طَرِيقِ مَكِدُونِيَّةَ».
ص ٩: ٢٣ و٢٣: ١٢ و٢٥: ٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٦
صَرَفَ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ والمرجّح أنه تقضى عليه أكثر هذه المدة في كورنثوس وأنه كتب حينئذ رسالتيه لأهل رومية ولأهل غلاطية. ولم يذكر لوقا في هذا السفر أمور تلك الزيارة بالتفصيل لكن نعلم من رسالة بولس إلى أهل رومية أنه نزل في كورنثوس ضيفاً على غايوس (رومية ١٦: ٢٣) وأن أكيلا وبريسكلا رجعا من أفسس إلى رومية (رومية ١٦: ٣) وأنه رجع معهما إلى هنالك أناس تعرّف بهم في أفسس وكورنثوس. ونستنتج من هذا أن أمر كلوديوس بذهاب اليهود من رومية كان قد نُسخ أو نُسي (ص ١٨: ٢)
مَكِيدَةٌ المراد بالمكيدة هنا مؤامرة سرّية في القتل.
مِنَ ٱلْيَهُودِ الذين أظهروا سابقاً بغضهم لبولس ولم يمكنهم الوالي من بغيتهم (ص ١٨: ١٤).
أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سُورِيَّةَ الأرجح أنه عزم على النزول في سفينة من كنخزيا ميناء كورنثوس وأن يذهب فيها إلى سورية رأساً كما فعل سابقاً (ص ١٨: ١٨) فبلغه أن اليهود كمنوا له لكي يقتلوه إما في السفينة وإما في طريقه إليها فعدل عن عزمه وسافر براً في طريق مكدونية شمالاً.
عَلَى طَرِيقِ مَكِدُونِيَّةَ ومنها إلى ترواس وما يليها من البلاد إلى سورية.
٤ «فَرَافَقَهُ إِلَى أَسِيَّا سُوبَاتَرُسُ ٱلْبِيرِيُّ، وَمِنْ أَهْلِ تَسَالُونِيكِي: أَرِسْتَرْخُسُ وَسَكُونْدُسُ وَغَايُسُ ٱلدَّرْبِيُّ وَتِيمُوثَاوُسُ. وَمِنْ أَهْلِ أَسِيَّا: تِيخِيكُسُ وَتُرُوفِيمُسُ».
ص ١٩: ٢٩ و٢٧: ٢ وكولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤ ص ١٩: ٢٩ ص ١٦: ١ أفسس ٦: ٢١ وكولوسي ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢ ص ٢١: ٢٩ و٢تيموثاوس ٤: ٢٠
فَرَافَقَهُ بعض المؤمنين للمساعدة على التبشير كما جرت العادة ولحمل إحسان الكنائس إلى كنيسة أورشليم ويكونوا باكورة الأمم للمسيح. ولم يرافقه هؤلاء من كورنثوس بل سبقوه في البحر إلى ترواس ومن هنالك رافقوه.
سُوبَاتَرُسُ هذا مختصر سوسيباترس المذكور في (رومية ١٦: ٢١) وهو من أنسباء بولس.
ٱلْبِيرِيُّ أي من أهل بيرية التي رحب يهودها ببولس (ص ١٧: ١١).
أَرِسْتَرْخُسُ هو المذكور في (ص ١٩:٢٩).
سَكُونْدُسُ اسم لاتيني معناه الثاني ولم يُذكر في غير هذا الموضع من العهد الجديد.
وَغَايُسُ ٱلدَّرْبِيُّ هذا غير غايوس المذكور في (ص ١٩: ٢٩) لأن ذاك مكدوني في الأصل وهذا من دربة ليكأونية.
تِيخِيكُسُ هو رسول بولس إلى الكنائس (أفسس ٦: ٢١ و٢٢ وكولوسي ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢).
وَتُرُوفِيمُسُ هو من أهل أفسس (ص ٢١: ٢٩) حضر مع بولس في أورشليم فكان حضوره علة قبض اليهود على بولس وسجنه على غير قصد منه (ص ٢١: ٢٩) تركه بولس بعد ذلك في ميليتوس مريضاً (٢تيموثاوس ٤: ٢٠).
٥ «هٰؤُلاَءِ سَبَقُوا وَٱنْتَظَرُونَا فِي تَرُوَاسَ».
هٰؤُلاَءِ السبعة المذكورون.
ٱنْتَظَرُونَا عدل لوقا هنا عن صيغة الغيبة التي جرى عليها منذ ذهاب بولس من فيلبي قبل هذا بخمس سنين إلى صيغة التكلم. ونستنتج من ذلك أنه رجع إلى مرافقة بولس. والأرجح أنه لم يتركه من هذا الوقت (أي سنة ٥٧ ب. م) إلى السنة الثانية والستين التي فيها وُكلت حراسته إلى العكسري في رومية.
تَرُوَاسَ انظر شرح (ص ١٦: ٨).
٦ «وَأَمَّا نَحْنُ فَسَافَرْنَا فِي ٱلْبَحْرِ بَعْدَ أَيَّامِ ٱلْفَطِيرِ مِنْ فِيلِبِّي، وَوَافَيْنَاهُمْ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ إِلَى تَرُوَاسَ، حَيْثُ صَرَفْنَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ».
خروج ١٢: ١٤ و١٥ و٢٣: ١٥ ص ١٦: ٨ و٢كورنثوس ٢: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ١٣
أَيَّامِ ٱلْفَطِيرِ أي أسبوع الفصح وهي من ١٥ نيسان في حساب اليهود إلى ٢٢ منه.
خَمْسَةِ أَيَّامٍ شغلوها بقطع بحر إيجيان الفاصل بين آسيا وأوربا والمسافة نحو ١٧٠ ميلاً على أن هذه المسافة قطعها بولس قبلاً بيومين (ص ١٦: ١١) والأرجح أن هذا الفرق كان لاختلاف الريح. ولا ريب في أن بولس حين بلغ ترواس ذكر الرؤيا التي رآها فيها والمكدوني يدعوه قائلاً «اعبر إلينا وأعنا» وكانت حينئذ بلاد أوربا أمامه بلا مبشر ولا كنيسة وأكثر سكانها عبدة أوثان فأجاب تلك الدعوة وذهب إليها. وهنا رجع إلى حيث ابتدأ سفره بعد خمس سنين ومعه ثلاثة من باكورة المسيحيين في أوربا وترك في مدن مكدونية وأخائية كثيراً من الكنائس المسيحية المنتظمة في نجاح وقد انتشرت خميرة الإنجيل إلى كل الكور المجاورة لها.
الاجتماع في ترواس ع ٧ إلى ١٢
٧ «وَفِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزاً، خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي ٱلْغَدِ، وَأَطَالَ ٱلْكَلاَمَ إِلَى نِصْفِ ٱللَّيْلِ».
يوحنا ٢٠: ٢٦ و١كورنثوس ١٦: ٢ ورؤيا ١: ١٠ ص ٢: ٤٢ و٤٦ و١كورنثوس ١٠: ١٦ و١١: ٢ الخ
فِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ أي يوم الأحد. يظهر من هذا أن يوم قيامة المسيح صار يوم اجتماع المسيحيين للعبادة لأنه ذُكر هنا كأمر معهود مسلم به وقد ذُكر في (١كورنثوس ١٦: ٢) وقد جعلوه يوم جمع الإحسان للفقراء فلو لم يكن الاجتماع العام ما ناسب أن يكون يوماً لذلك الجمع. وجاء كذلك أيضاً في (رؤيا ١: ١٠) وسُمي هنالك يوم الرب. فاتضح أن التلاميذ اتفقوا على حفظ يوم الأحد وتعيينه للعبادة منذ قيامة الرب ويدل على هذا ما جاء في (يوحنا ٢٠: ١٩ و٢٦) ففي الآية التاسعة عشرة ذكر اجتماع الرسل للعبادة في أول الأسبوع وفي السادسة والعشرين ذكر اجتماعهم أيضاً لها بعد «ثمانية أيام» أي أسبوع حسب اصطلاح اليهود. ولكن المتنصرين من اليهود ظلوا يحفظون يوم السبت أيضاً إلى أن أُخربت أورشليم ومن ثم لم يحفظوا سوى الأحد إلا فرقة الأبيونيين المتوغلين في اليهودية أكثر من النصرانية.
لِيَكْسِرُوا خُبْزاً كان معظم قصدهم تناول العشاء الرباني طوعاً لأمر الرب (متّى ٢٦: ٢٦) وكانوا يأتون ذلك على أثر وليمة المحبة (ص ٢: ٤٢ و٤٦ و١كورنثوس ١١: ٢٠ - ٢٢) وغلب إتيانهم ذلك في العشية.
أَطَالَ ٱلْكَلاَمَ الخ علة إطالته الوعظ كون ذلك الوقت آخر فرصة توقعها لمخاطبتهم ولانشغال بعض ذلك الوقت بسقوط أفتيخس وما تعلق به فلا عجب أن شغل قسماً عظيماً من الليل بالحديث الروحي والمسائل والأجوبة.
٨ «وَكَانَتْ مَصَابِيحُ كَثِيرَةٌ فِي ٱلْعُلِّيَّةِ ٱلَّتِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهَا».
ص ١: ١٣
مَصَابِيحُ كَثِيرَةٌ لم نعلم ما العلة التي أوجبت ذكر هذا الأمر الذي يظهر أنه ليس ذي شأن. قال بعضهم ذكر ذلك على وفق عادة اليهود في الاجتاعات ليلاً. وقال آخر أن المسيحيين أكثروا المصابيح دفعاً لظن أعدائهم أنهم اجتمعوا ليلاً لأعمال سرية قبيحة. وقال غيره ذُكر بياناً لعلة نوم أفتيخوس لأن زيادة الحرارة بكثرة المصابيح فضلاً عن ازديادها بكثرة الناس توجب النعاس. والأرجح أن لوقا لما كتب هذه الحادثة صور أمامه كل شيء كما رآه العلّية وكثرة المصابيح والازدحام والشاب الجالس في الكوّة وذكره كما هي بجوهرياتها وعرضياتها.
٩ «وَكَانَ شَابٌّ ٱسْمُهُ أَفْتِيخُوسُ جَالِساً فِي ٱلطَّاقَةِ مُتَثَقِّلاً بِنَوْمٍ عَمِيقٍ. وَإِذْ كَانَ بُولُسُ يُخَاطِبُ خِطَاباً طَوِيلاً، غَلَبَ عَلَيْهِ ٱلنَّوْمُ فَسَقَطَ مِنَ ٱلطَّبَقَةِ ٱلثَّالِثَةِ إِلَى أَسْفَلُ، وَحُمِلَ مَيِّتاً».
ٱلطَّاقَةِ أي الكوة مفتوحة المصراعين لتجديد الهواء لأن هواء العلّية كان يفسد بأنفاس الناس وأبخرة المصابيح. والأرجح أن علة جلوسه في الكوة أنه ما لقي مجلساً آخر لكثرة المجتمعين.
ٱلطَّبَقَةِ ٱلثَّالِثَةِ كان التلاميذ الأولون يجتمعون في العلية في أورشليم (أعمال ١: ١٣) لأنه لم يكن لهم من كنيسة. وكان المسيحيون في كل الأماكن التي دخلتها الديانة الجديدة اضطروا أن يجتمعوا في أوفق ما يستطيعون وجدانه من الأماكن للاجتماع وغلب أن تكون مجتمعاتهم علالي المساكن.
حُمِلَ مَيِّتاً حقيقة.
١٠ «فَنَزَلَ بُولُسُ وَوَقَعَ عَلَيْهِ وَٱعْتَنَقَهُ قَائِلاً: لاَ تَضْطَرِبُوا لأَنَّ نَفْسَهُ فِيهِ».
١ملوك ١٧: ٢١ و٢ملوك ٤: ٣٤ متّى ٩: ٢٤
فَنَزَلَ بُولُسُ من العلّية إلى ساحة الدار أو الزقاق.
وَقَعَ عَلَيْهِ وَٱعْتَنَقَهُ كما فعل إيليا في إقامة ابن الشونمية (١ملوك ١٧: ٢١) وأليشع (٢ملوك ٤: ٣٣ - ٣٥). وفعله كذلك دل على رقة قلبه وشفقته وعلى رغبته الشديدة في رجوع الحياة إليه ولا بد من أنه قرن ذلك العمل بالصلاة سراً أو علانية.
قَائِلاً للأقرباء وسائر التلاميذ المحيطين بهما.
لاَ تَضْطَرِبُوا أي لا تقلقوا آيسين ولا تولولوا كما يفعل أهل الميت عادة.
لأَنَّ نَفْسَهُ فِيهِ أي رجعت إليه. وهذا يذكرنا قول المسيح «لم تمت الصبية لكنها نائمة» (مرقس ٥: ٣٩) وكان الواقع كما قال (ع ١٢) فكانت زيارة بولس الأولى لترواس مقترنة برؤيا سماوية وإعلان وزيارته الثانية لها بمعجزة.
١١ «ثُمَّ صَعِدَ وَكَسَّرَ خُبْزاً وَأَكَلَ وَتَكَلَّمَ كَثِيراً إِلَى ٱلْفَجْرِ. وَهٰكَذَا خَرَجَ».
صَعِدَ إلى العلية.
وَكَسَّرَ خُبْزاً وَأَكَلَ الأرجح أن هذا هو العشاء الرباني الذي كان الاجتماع لأجله وأنه حين وقع أفتيخوس لم يكن قد أنجزه لكن يحتمل أنه الطعام الذي تناوله بولس قبل السفر.
وَتَكَلَّمَ في الأمور الروحية على سبيل الحديث لا الوعظ.
إِلَى ٱلْفَجْرِ هذا دليل قاطع على غيرة بولس في الخطاب ورغبة الناس في السماع.
١٢ «وَأَتَوْا بِٱلْفَتَى حَيّاً، وَتَعَزَّوْا تَعْزِيَةً لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ».
حَيّاً هذا يسند قولنا في شرح ع ٩ أنه مات حقيقة فلو كان قد أُغشي عليه لقال منتبهاً أو منتعشاً. وهذا علة عودهم إلى العلية واستئناف بولس الخطاب بعد النازلة.
وَتَعَزَّوْا الخ بعوده حياً.
سفر بولس من ترواس إلى ميليتس ع ١٣ إلى ١٦
١٣ «وَأَمَّا نَحْنُ فَسَبَقْنَا إِلَى ٱلسَّفِينَةِ وَأَقْلَعْنَا إِلَى أَسُّوسَ، مُزْمِعِينَ أَنْ نَأْخُذَ بُولُسَ مِنْ هُنَاكَ، لأَنَّهُ كَانَ قَدْ رَتَّبَ هٰكَذَا مُزْمِعاً أَنْ يَمْشِيَ».
نَحْنُ أي لوقا الكاتب ورفقاؤه سوى بولس.
فَسَبَقْنَا أي سافرنا قبل بولس وأن ذُكر خروجه قبل هذا (انظر ع ١١).
إِلَى ٱلسَّفِينَةِ التي قصدوا السفر فيها. ولا نعلم إن كانت هي التي أتوا فيها إلى ترواس أم غيرها. فإن كانت هي التي أتوا فيها فلعلها هي سبب إقامتهم سبعة أيام في ترواس لكي توزع محمولها وتحمل غيره أو لتوقّع الملاحين الريح الموافقة.
أَسُّوسَ هي فرضة جنوبي ترواس على أمد ٢٤ ميلاً منها.
نَأْخُذَ بُولُسَ في السفينة بمقتضى ما رتب.
مُزْمِعاً أَنْ يَمْشِيَ كان الطريق إلى أسوس براً نحو نصف الطريق إليها في البحر لأنه منحن حول رأس لكتوم. ولماذا اختار بولس أن يمشي نحو سبع ساعات ذلك لا نعلمه. ربما قصد ذلك بغية الرياضة أو بغية الانفراد للصلاة والتأمل مما لم يستطعه في السفينة أو لمرافقة بعض الإخوة من أهل ترواس.
١٤ «فَلَمَّا وَافَانَا إِلَى أَسُّوسَ أَخَذْنَاهُ وَأَتَيْنَا إِلَى مِيتِيلِينِي».
أَخَذْنَاهُ كما رتب.
مِيتِيلِينِي هي قصبة جزيرة لسبس واليوم تُسمى الجزيرة كلها ميتيليني باسم قصبتها والمسافة بينها وبين أسوس ثلاثون ميلاً.
١٥ «ثُمَّ سَافَرْنَا مِنْ هُنَاكَ فِي ٱلْبَحْرِ وَأَقْبَلْنَا فِي ٱلْغَدِ إِلَى مُقَابِلِ خِيُوسَ. وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلآخَرِ وَصَلْنَا إِلَى سَامُوسَ، وَأَقَمْنَا فِي تُرُوجِيلِيُّونَ، ثُمَّ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي جِئْنَا إِلَى مِيلِيتُسَ».
٢تيموثاوس ٤: ٢٠
ثُمَّ سَافَرْنَا كان من عادة الملاحين في تلك الأيام أن يرسوا ليلاً إذا أمكنهم توقياً للخطر ويسافروا نهاراً.
خِيُوسَ جزيرة كبيرة وافرة الخصب طولها نحو ٣٢ ميلاً واسمها اليوم شيو وصاقس والمسافة بينها وبين ميتيليني ستون ميلاً.
سَامُوسَ جزيرة كبيرة في طريقهم ولم تزل معروفة بهذا الاسم وهي ذات آكام كثيرة اشتهرت بكونها مولد فيثاغورس الفيلسوف اليوناني وبوفرة عبادة يونو امرأة زفس والمسافة بينها وبين خيوس نحو سبعين ميلاً.
تُرُوجِيلِيُّونَ مدينة في البر شرقي ساموس وعلى أمد عشرين ميلاً منها.
مِيلِيتُسَ مدينة على مصب نهر قيستر بينها وبين أفسس مسافة ٣٠ ميلاً وأفسس نفسها على ذلك النهر.
١٦ «لأَنَّ بُولُسَ عَزَمَ أَنْ يَتَجَاوَزَ أَفَسُسَ فِي ٱلْبَحْرِ لِئَلاَّ يَعْرِضَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ وَقْتاً فِي أَسِيَّا، لأَنَّهُ كَانَ يُسْرِعُ حَتَّى إِذَا أَمْكَنَهُ يَكُونُ فِي أُورُشَلِيمَ فِي يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ».
ص ١٨: ٢١ و١٩: ٢١ و٢١: ٤ و١٢ و٢٤: ١٧ ص ٢: ١ و١كورنثوس ١٦: ٨
أَنْ يَتَجَاوَزَ أَفَسُسَ أن يمر بها بحراً ولا يدخلها خوفاً من أن يتعوّق هنالك كثيراً من إلحاح أصدقائه عليه بالإقامة وشدة ميله إلى إجابتهم. فإن قيل ما الفرق بين ذهابه إلى أفسس وإرساله إلى شيوخها أن يوافوه إلى ميليتس قلنا أن تجربة العاقة في ميليتس أقل منها في أفسس وهو في ميليتس على أهبة السفر في أي وقت عزمت فيه السفينة الإقلاع.
إِذَا أَمْكَنَهُ هذا يدل على شيء من الرب في بلوغ السفينة مرساها المقصود في الوقت المراد. وهذا الريب من شأن كل مسافر في سفينة شراعية لاحتمال سكون الريح أو هبوب الريح المضادة لجهة السير أو لشغل أرباب السفينة وقتاً طويلاً بتوزيع المحمول في الفرَض التي على الطريق.
فِي أُورُشَلِيمَ فِي يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ لا نعلم كل الأسباب التي حمتله على الاجتهاد في ذلك ولعل منها أن يحصل على فرصة الاجتماع بربوات الزوار الآتين من كل أقطار المسكونة في ذلك العيد وأن يقنع اليهود منهم بأن يسوع هو المسيح والمتنصرين من اليهود أن يرتضوا بمشاركة الأمم في فوائد الدين المسيحي بدون الخضوع لرسوم الناموس. وأن يبرر نفسه قدامهم من اتهام أعدائه إياه باحتقاره الديانة اليهودية. ويحتمل أيضاً أن الحامل له على ذلك رغبته في حضور العيد واشتراكه مع غيره في الفوائد الروحية التي قصد الله أن تكون في الأعياد. ولم يكن بينه وبين العيد يومئذ سوى ثمانية وعشرين يوماً فإنه لم يترك فيلبي إلا بعد نهاية أسبوع الفصح. فشغل بالسفر من فيلبي إلى ترواس خمسة أيام (ع ٦) وأقام بترواس سبعة أيام (ع ٧) وشغل بالسفر من ترواس إلى ميليتس خمسة أيام وتقضى عليه أربعة أيام في ميليتس ومجموع ذلك واحد وعشرون يوماً فالباقي من التسعة والأربعين يوماً ما بين العيدين ثمانية وعشرون يوماً شغلها بالسفر إلى أورشليم وتفصيل ذلك ما يأتي. تقضى علي من ميليتس إلى خيوس يوم ومنها إلى رودس يوم ومنها إلى بتارا يوم ومنها إلى صور خسمة أيام وأقام بصور سبعة أيام. ومنها إلى بتولمايس يوم واقام بها يوماً. ومنها إلى قيصرية يوم وأقام بها سبعة أيام. ومنها إلى أورشليم ثلاثة أيام والمجموع ثمانية وعشرون يوماً. والمسافة بين فيلبي وأورشليم على خط مستقيم نحو ألف ميل ولكن المسافة التي قطعها بولس براً وبحراً ليست أقل من ألف وخمس مئة ميل.
خطاب بولس لقسوس أفسس ع ١٧ إلى ٢٨
١٧ «وَمِنْ مِيلِيتُسَ أَرْسَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَٱسْتَدْعَى قُسُوسَ ٱلْكَنِيسَةِ».
ص ١١: ٣٠ وع ٢٨ وص ١٤: ٢٣ وتيطس ١: ٥
المراد «بالكنيسة» في هذه الآية جماعة المؤمنين في أفسس وحدها لأن قصر الوقت لم يسمح له أن يدعو قسوس المدن المجاورة لها. والمسمون «قسوساً» هنا سُموا «أساقفة» في الآية الثامنة والعشرين. وهذا يبين أنهما اسمان لذوي رتبة واحدة. وعلة دعوته لهؤلاء القسوس أنهم نواب الكنيسة كلها وأن لهم تأثيراً عظيماً في قسوس سائر كنائس آسيا. ولعل النسبة بين كنيسة أفسس وكنائس آسيا كالنسبة بين كنيسة أورشليم وسائر كنائس اليهودية. ومهما تكن النسبة فإنه عندما خاطبهم بولس خاطب بواسطتهم قسوس كل تلك الكورة بل قسوس كل كنيسة في كل مكان ولذلك كتب هنا بوحي روح الله.
١٨ «فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ دَخَلْتُ أَسِيَّا، كَيْفَ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ ٱلزَّمَانِ».
ص ١٨: ١٩ و١٩: ١ و١٠
قَالَ لَهُمْ ليس لنا من خطاب بولس هنا سوى خلاصته على ما يرجح ولكن هذا الخطاب من أهم خطابات بولس المذكورة في هذا السفر في إيضاح واجبات الرعاة المسيحيين لرعاياهم في كل مكان وزمان ويمكننا قسمة هذا الخطاب ثلاثة أقسام:
- الأول: ذكر ما سلف من سيرته بينهم وأسباب سرعة ذهابه عنهم (ع ١٨ - ٢٤).
- الثاني: حثه إياهم على الأمانة وتحذيره إياهم من أخطار المستقبل (ع ٢٥ - ٣١).
- الثالث: تذكيره إياهم أتعابه بينهم وحثهم على الاقتداء به (ع ٣٢ - ٣٥) وختم كلامه باستيداعه إياهم نعمة الله وبذكر شيء من أقوال لم تذكر في غير هذا الموضع.
أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أمانتي وحسن سيرتي وخلوص محبتي فتقدرون أن تحكموا بصدق ما أقول لأنكم قد اختبرتموني ثلاث سنين وإن قال أعدائي خلاف ما أقول. وقول بولس هنا يذكرنا قول صموئيل لبني إسرائيل بعدما اختاروا شاول ملكاً لهم (١صموئيل ١٢: ١ - ٢٥) قابل هذا بخطاب يشوع الوداعي للإسرائيليين (ص ٢٣ وص ٢٤).
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ دَخَلْتُ منذ ثلاث سنين.
كَيْفَ كُنْتُ مَعَكُمْ باعتبار أني كنت ساكناً بينكم صديقاً ومبشراً ورسولاً ليسوع المسيح.
كُلَّ ٱلزَّمَانِ الذي تقضى عليّ في أفسس.
١٩ «أَخْدِمُ ٱلرَّبَّ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ وَدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَبِتَجَارِبَ أَصَابَتْنِي بِمَكَايِدِ ٱلْيَهُودِ».
ع ٣
أَخْدِمُ ٱلرَّبَّ هذا وما بعده تفصيل لقوله «كيف كنت معكم» وهذا مثل قوله «بولس عبد ليسوع المسيح» (رومية ١: ١ وغلاطية ١: ١٠ وفيلبي ١: ١ وتيطس ١:١) والمراد أنه قد قام بكل ما يجب عليه باعتبار كونه مسيحياً ورسولاً.
بِكُلِّ تَوَاضُعٍ استشهدهم أنه لم يتظاهر بشيء من الكبرياء ولم يرغب في أن يمدحه الناس ولا في أن يسود رعية المسيح ولا في أن يفتخر بكونه رسولاً أو بصنعه المعجزات أو بنجاح أتعابه. فالإنسان يغلب أن يزيد تواضعاً كلما زاد علماً وقداسة.
وَدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ علة هذه الدموع شفقته على الذين قاوموا الحق لهلاك أنفسهم وأهانوا المخلص الذي هو أحبه وأن الذين أراد الخير لهم جاوزه بالبغض وفرط رغبته في خلاص الهالكين (٢كورنثوس ٢: ٤ وفيلبي ٣: ١٨ و٢تيموثاوس ١: ٤) وذكر بولس دموعه ثلاث مرات في هذا الخطاب هنا وفي (ع ٣١ وع ٣٧). وكذا بكى المسيح لشعوره بأحزان غيره (يوحنا ١١: ٣٥) ولحزنه على أورشليم لأنها لم تتب (لوقا ١٩: ٤١). ودموع بولس دليل قاطع على رقة قلبه وشعوره مع إخوته بمصائبهم وشدة رغبته في نفعهم ولكن فلاسفة اليونان علموا تلاميذهم أن يميتوا كل هذه الإحساسات وأن يحترسوا كل الاحتراس من إظهارهم أمارتها.
وَبِتَجَارِبَ أي مصائب.
بِمَكَايِدِ ٱلْيَهُودِ أي بذل جهدهم في منع نفعه للناس وإفساد صيته وإتلاف حياته.
إنهم أبغضوه لغيرته ليسوع ولنجاحه في اقتياد الناس إلى الإيمان به ولا سيما شدة رغبته في خلاص الأمم الذين هم أبغضوهم. ولا نبأ بمكايد اليهود في أفسس غير ما ذُكر في (ص ١٩: ٩). ولا ريب في أن عداوتهم لم تقل عن عداوة اليهود في دمشق وكورنثوس وتسالونيكي وأنطاكية بيسيدية وأورشليم.
٢٠ «كَيْفَ لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ إِلاَّ وَأَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ جَهْراً وَفِي كُلِّ بَيْتٍ».
ع ٢٧
ما في هذه الآية بيان لأمانة بولس باعتبار كونه مبشراً وراعياً واجتهاده في تعليم الناس كلمة الله وتوبيخه للخطأة.
لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ أي أني لم أترك وسيلة من وسائل النفع لنفوسكم خوفاً من أن أخسر محبتكم وأهيّج غضبكم.
أَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ ما أفاده في العبارة السابقة سلباً أفاده هنا إيجاباً والمعنى أنه أعلن لهم الحق كما أعلن في كتاب الله.
جَهْراً في مجمع اليهود في مدرسة تيرانس حيث الاجتماعات العامة.
وَفِي كُلِّ بَيْتٍ أشار بهذا إلى مخاطبته الأفراد على انفراد في شأن نفوسهم. وهذا وما قبله يشتمل على كل وسائل تبليغ الحق للناس فالراعي الأمين لا يكتفي باتخاذ إحدى هاتين الطريقتين دون الأخرى فإن كثيرين من الناس لا يؤثر فيهم كلام الواعظ وهو يخاطبهم مع الجماعة ولكنه يؤثر فيهم حالاً إذا خاطبهم على انفراد قائلاً لهم كما قال ناثان لداود «أنت هو الرجل» (٢صموئيل ١٢: ٧).
٢١ «شَاهِداً لِلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ بِٱلتَّوْبَةِ إِلَى ٱللّٰهِ وَٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
ص ١٨: ٥ مرقس ١: ١٥ ولوقا ٢٤: ٤٧ وص ٢: ٣٨
صرّح بولس في ما سبق أن خدمته بينهم كانت بالتواضع والوداد والاجتهاد والأمانة وبيّن هنا ما كان موضوع مخاطبته لهم.
شَاهِداً كانت خلاصة تعليمه الشهادة للحق على وفق قول المسيح لرسله «تكونون لي شهوداً» (ص ١: ٨).
لِلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ أي لكل صنوف الناس لأنهم كلهم خطأة محتاجون على السواء والإنجيل لكلهم وشروط الخلاص واحدة للجميع.
بِٱلتَّوْبَةِ إِلَى ٱللّٰهِ هذا أول الأمرين اللذين يعمّان كل شهادة بولس للحق وهو ضرورية التوبة وهي الرجوع من الخطيئة إلى القداسة ومن العصيان لله إلى الخضوع له وكانت التوبة «إلى الله» لأن الخاطئ خطئ إليه تعالى والله نفسه يدعو إلى التوبة ويعد بالمغفرة وأنه هو وحده يقدر أن يغفر الخطيئة.
ٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِرَبِّنَا الخ هذا الأمر الثاني من تلك الشهادة وهذا الإيمان يتضمن الاتكال على المسيح مخلصاً وشفيعاً «لأنه مات على الصليب من أجل خطايانا وهو جالس الآن عن يمين الله ليشفع فينا وليس بأحد غيره الخلاص» (انظر شرح ص ٤: ١٢ ومرقس ١٦: ١٦). وهذان الأمران أي التوبة والإيمان يشتملان على كل ما يجب على الإنسان لنوال الخلاص ولا ينفصل أحدهما الأخر. فلا يمكن الإيمان الحقيقي ما لم يكن القلب تائباً والتوبة بلا إيمان لا تؤدي إلى اليأس.
٢٢ «وَٱلآنَ هَا أَنَا أَذْهَبُ إِلَى أُورُشَلِيمَ مُقَيَّداً بِٱلرُّوحِ، لاَ أَعْلَمُ مَاذَا يُصَادِفُنِي هُنَاكَ».
ص ١٩: ٢١
انتقل بولس في هذه الآية من التكلم في الماضي إلى التكلم في المستقبل.
مُقَيَّداً بِٱلرُّوحِ مضطراً على القيام بما يخبرني ضميري أنه واجب عليّ غير مكترث بتهديد أعدائي وغير ممنوع من الذهاب بإلحاحات أصدقائي.
لاَ أَعْلَمُ الخ فكونه رسولاً ملهماً ليعلم الناس ويصنع المعجزات وينبئ ببعض المستقبلات لم يقدره على أن يعلم كل الأمور ولا سيما مستقبل حياته.
مَاذَا يُصَادِفُنِي هُنَاكَ أي في أورشليم. لم يعلم نوع الخطر الذي يقع عليه هناك ولا عاقبته أيحيا بعده أو يموت به. فعلى كل مسيحي أن يسير في طريق الواجبات غير مبال بالأهوال فما يسمح الله به وهو سائر في تلك الطريق هو الأفضل.
٢٣ «غَيْرَ أَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقاً وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي».
ص ٢١: ٤ و١١ و١تسالونيكي ٣: ٣
هذا تفسير لما قاله في الآية السابقة والمعنى أن الروح القدس الذي حجب عني النوازل التي تصادفني في أورشليم كشف لي الذي يجب أن اتوقعه بالإجمال حيث توجهت.
فِي كُلِّ مَدِينَةٍ أي في كثير منها لأنه جُلد في بعضها وسُجن في آخر ورُجم في غيره وكان الخطر عليه في كل مكان.
قَائِلاً إما بإعلان له برؤيا أو حلم أو بالإعلان لغيره من الأنبياء فأنبأه به كما في (ص ٢١: ١٠ - ١٢) أو بما اختبره من مصائبه في فيلبي وتسالونيكي وكورنثوس وغيرها فكان دليلاً على ما يتوقعه أيضاً وهذا إنجاز بما أُعلن له يوم آمن بقوله «لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي» (ص ٩: ١٦).
وُثُقاً كما أصابه في سجن فيلبي وما ذُكر في (٢كورنثوس ١١: ٢٣).
شَدَائِدَ كالجلد والرجم.
تَنْتَظِرُنِي أي معدة لي حتى أتوقع وقوعها عليّ.
٢٤ «وَلٰكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَٱلْخِدْمَةَ ٱلَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ».
ص ٢١: ١٣ ورومية ٨: ٣٥ و٢كورنثوس ٤: ١٦ و١٧ ٢تيموثاوس ٤: ٧ ص ١: ١٧ و٢كورنثوس ٤: ١ و١١: ٥ و٢٣ غلاطية ١: ١ وتيطس ١: ٣
لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ يعني أن توقعه تلك الشدائد لا يغير شيئاً من عزمه على الذهاب. فمحبة بولس للمسيح وغيرته في خدمته جعلتاه ينسى نفسه ولا يهتم بالمخاوف. وهذا موافق لقوله «لِذٰلِكَ أُسَرُّ بِٱلضَّعَفَاتِ وَٱلشَّتَائِمِ وَٱلضَّرُورَاتِ وَٱلٱضْطِهَادَاتِ وَٱلضِّيقَاتِ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ١٢: ١٠ انظر أيضاً فيلبي ١: ٢١ و٣: ٧ - ١٥).
وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي فأنا مستعد أن أبذلها في خدمة المسيح فإن القيام بالواجبات أعدّه أثمن من الحياة. ومثل هذا يجب على كل مسيحي. وإذا خير بين خسارة حياته وترك واجباته وجب أن يختار الأول.
حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي هذا ما عزم عليه عزماً لا يرجعه عنه قيود ولا موت. وعنى «بالسعي» العمل الذي عيّنه الرب له باعتبار كونه مؤمناً ورسولاً (أعمال ٩: ١٥ - ١٧ وغلاطية ١: ١٧). وأراد «بالسعي» هنا العدو والمحاضرة أي السباق. ووجه تشبيه الرسول عمله بالمحاضرة الاجتهاد في إدراك الجعالة والسرور بنوالها فإن هذا الرسول كثيراً ما شاهد المتسابقين في الميدان يوم كان في المدن المعتادة ذلك ولا سيما كورنثوس فأحب إيضاح مراده الروحي باستعارة ما عهدوه في ملاعبهم (قابل هذا بما في ص ١٣: ٣٥ ورومية ٩: ١٦ و١كورنثوس ٩: ٢٤ و٢٦ وغلاطية ٢: ٢ و٥ و٧ وفيلبي ٢: ١٦ و٣: ١٤ وعبرانيين ١٢: ١). ومن ذلك قوله في آخر حياته «قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ، وَأَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ الخ» (٢كورنثوس ٤: ٧ و٨) وكان فرح بولس بخدمة الرب كفرح السابقين في المحاضرة. وهذا الفرح نتاج راحة ضميره ومدحه إياه ورضى الله به.
وَٱلْخِدْمَةَ هذا تفسير للسعي الذي أراد به الرسولية والتبشير بالإنجيل (انظر ص ١: ١٧ و٢٥ وقابل ذلك بما في رومية ١١: ١٣).
أَخَذْتُهَا مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ دعوة يسوع إيّاه إلى هذه الخدمة جعلتها سارة جداً وأثمن من حياته. وكانت تلك الدعوة عندما آمن (ص ٩: ١٥ و١٧ انظر أيضاً ص ٢٢: ١٥ و٢١).
لأَشْهَدَ تأدية الشهادة ليسوع وبصدق دينه هي الخدمة الرسولية. وكان بولس قادراً على أن يشهد للإنجيل من اختباره تأثيره في نفسه. وتلك التأدية وكلها الله إلى كل خدمه المبشرين.
بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ وهي أن الله يغفر لكل الذين يؤمنون بالمسيح ويخلصهم وهذا من أسرّ الأنباء لعالم الخطأة الهالكين.
وللرعاة في هذه الآية أربع فوائد:
- الأولى: إن لكل منهم سعياً يسعاه أي خدمة يقوم بها.
- الثانية: أنه يجب عليهم أن لا يمتنعوا عن القيام بتلك الخدمة خوفاً من الشدائد أو الموت فمن عمل إرادة الله اطمأن فالخوف على من لم يعلمها ويجعل الله عدواً له.
- الثالثة: إن على كل منهم أن يسير في سبيل تكون نهايتها سلاماً وفرحاً.
- الرابعة: إنه يجب على كل منهم أن لا يسأل عن كيفية موته أو وقته بل يجتهدوا في أن يكون إذا أتاه الموت مزاولاً تتميم أمر الرب.
٢٥ «وَٱلآنَ هَا أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً، أَنْتُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِينَ مَرَرْتُ بَيْنَكُمْ كَارِزاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
ع ٣٨ ورومية ١٥: ٢٣
أَنَّكُمْ أنتم قسوس كنيسة أفسس ونوابها.
لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً يتضح من ذلك أن بولس لم ينتظر أن يرجع إلى أفسس أيضاً وأن يراهم بعد فظن أنه يودّعهم ويودّع بلادهم الوداع الأخير وبنى هذا الظن على قصده أن يذهب إلى بلاد أخرى للتبشير وهي إيطاليا وأسبانيا (ص ١٩: ٢١ ورومية ١٥: ٢٣ - ٢٨) وعلى اختباره النوازل والأخطار في الزمن السابق وعلى معرفته بكثرة الأعداء العازمين على قتله ولا سيما الذين في أورشليم التي كان متوجهاً إلها وعلى شهادة الروح المذكورة في (ع ٢٣) وعلى احتمال أنه لا يجدهم كلهم أحياء إن رجع إليهم. والأرجح أن الأمر كان على خلاف ما ظن حينئذ لأنه رجع إلى ترواس (٢تيموثاوس ٤: ١٣) وإلى ميليتس (٢تيموثاوس ٤: ١٣) وإلى أفسس (١تيموثاوس ١: ٣).
بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي باستيلائه تعالى على قلوب الناس في الأرض بواسطة المسيح (انظر شرح متّى ٣: ٢).
٢٦ «لِذٰلِكَ أُشْهِدُكُمُ ٱلْيَوْمَ هٰذَا أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ ٱلْجَمِيعِ».
ص ١٨: ٦ و٢كورنثوس ٧: ٢
لِذٰلِكَ أي لما شاهدتم من سيرتي وأتعابي بينكم.
أُشْهِدُكُمُ أني أتكلم بالحق في ما سأقوله.
ٱلْيَوْمَ هٰذَا أي آخر يوم من أيام اجتماعنا هنا.
بَرِيءٌ مِنْ دَمِ أراد بالدم هنا الموت أي موت النفس. ومعنى العبارة أنه إن هلك أحد منهم فلا ذنب عليه لأنه علمهم وأنذرهم. وهذه العبارة مأخوذة من نبوءة (حزقيال ٣: ١٧ - ٢١ و٣٣: ١ - ٩) حيث بيّن الله المسؤولية على الرقيب. ولم يرد بولس بما قاله أنه بلا خطيئة بل إنه أراد أن ضميره مستريح بأنه قام بواجبات رسوليته.
ٱلْجَمِيعِ أي اليهود والأمم.
٢٧ «لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ مَشُورَةِ ٱللّٰهِ».
ع ٢٠ لوقا ٧: ٣٠ ويوحنا ١٥: ١٥ وأفسس ١: ١١
لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ أي لم أمتنع من التكلم خوفاً من غضب الناس أو طمعاً في رضاهم لعلمي أن الحق مكروه بل صرّحت به علناً لكل إنسان. فيمكن أن يخطأ المبشر بسكوته حين يجب أن يتكلم أو بجعله العرضيّات جوهريّات أو الجوهريّات عرضيّات.
بِكُلِّ مَشُورَةِ ٱللّٰهِ مما يتعلق بخلاص النفوس كاحتياج الخاطئ إلى المغفرة والتوبة ومجازاة العالم في يوم الدين على كل ما فعلوه من خير أو شر (ع ٢١). وهذا أساس ما قاله في الآية السابقة من «أنه بريء من دم الجميع». فرفع بولس بمناداته لهم بكل «مشورة الله» ما عليه من المسؤولية ووضعها عليهم. وعلى كل المبشرين اليوم أن ينادوا بكل مشورة الله لأنه تعالى طالب ذلك منهم ولأن السامعين يفتقرون إلى تلك المشورة ليدركوا الخلاص. والذي يجب على المبشرين أن ينادوا به يجب على السامعين أن ينتبهوا له وإلا فلا نفع للمناداة.
٢٨ «اِحْتَرِزُوا إِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ ٱلرَّعِيَّةِ ٱلَّتِي أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ».
١تيموثاوس ٤: ١٦ و١بطرس ٥: ٢ ع ١٧ أفسس ١: ٧ و١٤ وكولوسي ١: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٢ و١٤ و١بطرس ١: ١٩ ورؤيا ٥: ٩
بعد ما صرّح بولس بأمانته حثهم على التمثل به.
اِحْتَرِزُوا أي اهتموا بالغيرة والاجتهاد والمواظبة.
لأَنْفُسِكُمْ أي لخلاصها ولتقوية إيمانها ومحبتها للمسيح وللرسوخ في العقائد الإنجيلية وطهارة السيرة (كولوسي ٤: ١٧ و١تيموثاوس ٤: ١٤). والاحتراز لأنفسهم على هذا الأسلوب شرط ضروري لنفعهم غيرهم ونبههم الرسول هذا التنبيه لعلمه أنهم عرضة لتجارب شديدة.
ٱلرَّعِيَّةِ أي الكنيسة التي أنتم نظارها وبها سمّى المسيح تلاميذه (لوقا ١٢: ٣٢). وبها سمى بطرس جماعة المؤمنين الذين كتب إليهم (١بطرس ٥: ٢ و٣). وكثيراً ما سمى أنبياء العهد القديم شعب الله المختار «بالرعية» (إشعياء ٤٠: ١١ و٦٣: ١١ وإرميا ١٣: ١٧ و٢٣: ٢ و٣١: ١٠ و٥١: ٢٣ وحزقيال ٣٤: ٣ وميخا ٧: ١٤ وزكريا ١٠: ٣ و١١: ٤ و٧: ١٧). وسمّى يسوع نفسه «الراعي الصالح» والمؤمنين «خرافه» (يوحنا ١٠: ١ - ١٦). وسمّى بطرس المسيح «راعي نفوسنا» (١بطرس ٢: ٢٥) و «رئيس الرعاة» ١بطرس ٥: ٤).
أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً لأن الروح القدس هو الذي عيّن هذه الخدمة في الكنيسة وهو الذي يدعو بعض الناس باطناً إليها وهو الذي يهب من دعاهم إليها المواهب التي يقتضيها القيام بما يجب عليهم وأنه هو الذي يرشد الكنيسة إلى أن تنتخب خدمها (ص ٦: ٥) أو لأنه هو الذي ينتخبهم بلا واسطة (ص ١٣: ٢) ولأنهم رُسموا بإرشاد ذلك الروح والصلاة له. والأساقفة هنا هم القسوس في الآية السابعة عشرة فيتضح من هذا أن الرتبة واحدة ويوضح الالتفات إليه أنه كلما ذُكرت أنواع الخدمة في الكنيسة لم يُذكر القسيس والأسقف معاً كأنهما ممتازان.
لِتَرْعَوْا أي لتعملوا وتقوا من الخطر وتسوسوا كما يفعل الراعي لغنمه.
كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ أي كنيسة المسيح لأنه إله كما أنه إنسان. ونُسبت الكنيسة هنا إلى الله كما نُسبت إليه في (١كورنثوس ١: ٢ و١٠: ٣٢ و١١: ١٦ و٢٢ و١٥: ٩ و٢كورنثوس ١: ١ وغلاطية ١: ١٣ و١تسالونيكي ٢: ١٤ و٢تسالونيكي ١: ٤ و١تيموثاوس ٣: ٥).
ٱقْتَنَاهَا اي امتلكها بأن بذل حياته من أجلها.
بِدَمِهِ أي بدم المسيح الذي هو إله وإنسان والدم هنا كناية عن الحياة بدليل قول الرسول «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ» (رومية ٣: ٢٥). فإذاً الكنيسة ثمينة جداً في عيني المسيح نظراً للثمن الذي اشتراها به (١بطرس ١: ١٨ و١٩). وذكر بولس هذا لقسوس أفسس ليرغبهم في الأمانة بخدمة الكنيسة المسلمة إليهم. هذا فوق ما قاله في الآية السابعة والعشرين من أنهم مدعوو الروح القدس. وهذه الآية من الأدلة على لاهوت المسيح.
٢٩ «لأَنِّي أَعْلَمُ هٰذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذَهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى ٱلرَّعِيَّةِ».
متّى ٧: ١٥ و٢بطرس ٢: ١
أَعْلَمُ لم يبيّن أبالوحي كان عالماً أم بما شاهده في كنائس أخرى أم بمعرفته خبث القلب البشري وكثرة التجارب الخارجية.
ذَهَابِي مفارقتي إيّاكم بسفر أو موت. فكان بحضوره بينهم بعناية الله واسطة وقايتهم من الأخطار المتوقعة.
ذِئَابٌ الذئاب أعداء الغنم أبداً فحسن أن يلقب الرسول أعداء الكنيسة الخارجيين بالذئاب كما لقّبها بالرعيّة. وقصد بهؤلاء الأعداء المضطهدين والمعلمين الضارين ولا سيما اليهود منهم. وسبقت في الإنجيل استعارة الذئاب للاشرار (متّى ٧: ١٥ و١٠: ١٦ ولوقا ١٠: ٣ ويوحنا ١٠: ١٢)
خَاطِفَةٌ أي مفترسة مهلكة.
لاَ تُشْفِقُ الخ نقصد أن تبدّدها وتهلكها وقد رأينا إنجاز هذه النبوءة في ما كتبه بولس إلى تيموثاوس بعد ست سنين وهو قوله «أَنْتَ تَعْلَمُ هٰذَا أَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ فِي أَسِيَّا ٱرْتَدُّوا عَنِّي» (٢كورنثوس ١: ١٥). وما كتبه بطرس إليهم وإلى غيرهم وهو قوله «لاَ تَسْتَغْرِبُوا ٱلْبَلْوَى ٱلْمُحْرِقَةَ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ» (١بطرس ٤: ١٢).
٣٠ «وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ».
١تيموثاوس ١: ٢٠ و١يوحنا ٢: ١٩
وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ أي من كنيسة أفسس نفسها. أشار الرسول بهذا إلى الذين يغارون ظاهراً للحق وهم يعلمون الكذب ويأتي بعضهم ذلك محبة للقوة والجاه والرئاسة. وليس للكنيسة أن تخاف من الأعداء الخارجية إذا سلمت من الأعداء الداخلية.
رِجَالٌ تأثيرهم كتأثير الذئاب في الآية السابقة وليسوا بأقل ضرراً منها.
مُلْتَوِيَةٍ أي غير مطابقة لمقياس الحق والاستقامة أي كتاب الله.
لِيَجْتَذِبُوا هذا غاية تعليمهم ونتيجته.
ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ أي أنهم يعدلون بتلاميذ المسيح عن العقائد الصحيحة وشركة القديسين إلى عقائدهم المبتدعة المضلة والانشقاق. وما أنبأ به بولس هنا يوافق ما كتبه يوحنا الرسول إلى كنيسة أفسس بعد سنين وهو أن تلك الكنيسة تركت محبتها الأولى للمسيح وأنه دخلها معلمون مفسدون من فرقة النيقولاويين (رؤيا ٢: ٢ - ٧). وما كتبه بولس في خمسة مبتدعين من تلك الكنيسة وهم هيمينايس واسنكدر (١تيموثاوس ١: ٢٠) وفيليتس (٢تيموثاوس ٢: ١٧) وفيجلس وهرموجانس (٢كورنثوس ١: ١٥). ولا يبعد عن الظن أن هيمينايُس وهرموجانس كانا من القسوس الذين خاطبهم حينئذ وقال لهم «منكم أنتم سيقوم الخ».
٣١ «لِذٰلِكَ ٱسْهَرُوا، مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَاراً، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ».
ص ١٩: ١٠
لِذٰلِكَ أي لما أنبأتكم به من المخاطر.
ٱسْهَرُوا كونوا منتبهين (١تسالونيكي ٥: ٦ و١٠) ومحترزين (١بطرس ٥: ٨).
مُتَذَكِّرِينَ سيرتي بينكم نحو ثلاث سنين (ص ١٩: ٨ - ١٠) واقتدوا بي.
لَيْلاً وَنَهَاراً في كل الأوقات المناسبة للتعليم بلا نظر إلى راحته ولذته (ع ١٩).
لَمْ أَفْتُرْ أي لم أترك فرصة.
أُنْذِرَ أنبه على الخطر وأشير على طريق النجاة. وقصد هنا ما وعظ به الناس على انفراج لا بين الجمهور.
بِدُمُوعٍ هذا بيان لشفقته عليهم وغيرته على خلاصهم فلم يكتف بأن يقنعهم بقوة الحجج بل زاد على ذلك أنه أعلن فرط رغبته في نفعهم وإنقاذهم من الخطر. قال أحد قدماء الشعراء إذا أردت أن تبكيّني فابكِ فقلما أثر في السامعين كلام من أنذر بعذاب جهنم ووصف آلام المسيح فداء للخطأة ومحبة لهم بلا انفعال تظهره إمارات وجهه.
٣٢ «وَٱلآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي لِلّٰهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، ٱلْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثاً مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُقَدَّسِينَ».
عبرانيين ١٣: ٩ ص ٩: ٣١ ص ٢٦: ١٨ وأفسس ١: ١٨ وكولوسي ١: ١٢ و٣: ٢٤ وعبرانيين ٩: ١٥ و١بطرس ١: ٤
وَٱلآنَ قال هذا إيماء إلى ختام كلامه.
أَسْتَوْدِعُكُمْ وديعة ثمينة وكل الله إليّ حفظها فأردّها عند ذهابي إليه.
وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ هي الكلمة المنادى بها للخلاص بنعمة الله كما في (ص ٢٤ وفي ص ١٤: ٣٠) وهي الواسطة التي يحفظ الله بها المؤمنين لأنها حية فعالة الخ (عبرانيين ٤: ١٢) أو هي وعد الله بمقتضى النعمة أن يحفظ المؤمنين.
تَبْنِيَكُمْ أحب بولس أن يشبه الحياة المسيحية ببناء على أساس وطيد يعلو شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ الكمال. والمعنى أن كلمة الله تمكن الإنسان من الارتقاء في التقوى مع وفرة الأخطار والتجارب (١كورنثوس ٣: ١٠ و١٢: ١٤ وأفسس ٢: ٢٠ وكولوسي ٢: ٧).
ًمِيرَاثا نصيبهم من المواهب التي يعطيهم الله إيّاها باعتبار أنهم أولاده (أفسس ١: ١١ و٥: ٥ وكولوسي ١: ١٢ و٣: ٢٤).
ٱلْمُقَدَّسِينَ المؤمنين باعتبار أنهم بلغو غاية خلاصهم (١تسالونيكي ٤:٣ وعبرانيين ١٢: ١٤) فلا بد للمخلصين من أن يكونوا مقدسين.
٣٣ «فِضَّةَ أَوْ ذَهَبَ أَوْ لِبَاسَ أَحَدٍ لَمْ أَشْتَهِ».
١صموئيل ١٢: ٣ و١كورنثوس ٩: ١٢ و٢كورنثوس ٧: ٢ و١١: ٩ و١٢: ١٧
قال ذلك دفعاً لاتهام بعض أعدائه إيّاه أنه جعل الديانة ستراً لطمعه في المال (٢كورنثوس ٧: ٢ و١٢: ٧ و٨ و١تسالونيكي ٢: ٥). فإن غايته وهو بينهم لم تكن ربح أموالهم والثواب في قول الرب «نعماً أيها العبد الصالح والأمين». وقول بولس هنا كقول صموئيل في تبرئة نفسه من الطمع (١صموئيل ١٢: ٣).
٣٤ «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ».
ص ١٨: ٣ و١كورنثوس ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨
احتجّ بمعرفتهم أنه تكلم بالحق كما احتجّ في الآية الثامنة عشرة.
حَاجَاتِي علّم بولس أن المبشرين يستحقون أن يأخذوا أسباب المعاش ممن يبشرونهم لكنه لم يدّع هذا الحق لنفسه خوفاً من أن يتهمه أحد بالطمع فيكون ذلك عثرة في سبيل نفعه (١كورنثوس ٩: ١١ - ١٥ و٢كورنثوس ١١: ٧ - ١٢ و١٢: ١٣ - ١٦ و٢تسالونيكي ٣: ٧ - ١٢). وحصل على تلك الأسباب بعمله في صناعة الخيام (ص ١٨: ٣ و١٨ و١٩). وكتب من أفسس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وقال فيها «إِلَى هٰذِهِ ٱلسَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ، وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا» (١كورنثوس ٤: ١١ و١٢).
وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي نستنتج من ذلك أن بعض رفقائه كان ضعيفاً غير قادر على تحصيل أسباب المعاش أو أنه أرسلهم إلى أماكن أخرى للتبشير فشغلوا به أكثر الوقت حتى لم يكن لهم فرصة لتحصيل تلك الأسباب لأن من مبادئ بولس «أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً» (٢تسالونيكي ٣: ١٠).
هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ لعله رفع يديه أمامهم وهو يتكلم.
٣٥ «فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ ٱلضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ».
رومية ١٤: ١ و١٥: ١ و١كورنثوس ٩: ١٢ وغلاطية ٢: ١٠ و٦: ٢ وأفسس ٤: ٢٨ و١تسالونيكي ٤: ١١ و٥: ١٤ و٢تسالونيكي ٣: ٨
فِي كُلِّ شَيْءٍ من الأزمنة والوسائل.
هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ كما عملت بيدي اختياراً.
وَتَعْضُدُونَ ٱلضُّعَفَاءَ أي كل المحتاجين إلى المساعدة لعلّة جسديّة أو روحيّة.
مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ لم تُذكر هذه الكلمات في البشائر الأربع ولا نعجب من ذلك إذا قرأنا قول أحد البشيرين «وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ ٱلْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ ٱلْكُتُبَ ٱلْمَكْتُوبَةَ» (يوحنا ٢١: ٢٥). ولا عجب من أن الرسل حفظوا هذه الكلمات وذكرها للناس ودليل ذلك قول بولس «متذكرين» كأنه اعتاد أن يذكرها لهم.
مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ الخ كل إنسان يعرف غبطة الأخذ أي القبول من الله ومن إخوته البشر ولكن المسيح حكم بأن العطاء أكثر غبطة وله أن يحكم لأنه لا أحد أعطى مثله إذ بذل حياته عنا فهو حكم مختبر. والذي يُعطي غيره يشارك الله سبحانه في غبطته فإنه تعالى لا يكف عن العطاء بسخاء ويسرّ بذلك. فالذي يعطي المحتاجين يُغبط بمشاهدته النفع الناتج عما أعطى وبتذكره إياه وبثوابه يوم الجزاء بمقتضى الوعد (متّى ٢٥: ٣٤ - ٣٦).
٣٦ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ وَصَلَّى».
ص ٧: ٦٠ و٢١: ٥
جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ لتأثيره في الروح وحرارته في الصلاة. لو كان من العادة الغالبة الجثوّ في الصلاة لم يكن من حاجة إلى ذكره. ونعلم من كتب المسيحيين الأولين أنهم اعتادوا الوقوف في العبادة الجمهورية في الكنائس وغيرها.
وَصَلَّى أنه تقدمهم في الصلاة نائباً عن الجميع. ولنا مما صلاه من أجل الأفسسيين صلاة (أفسس ٣: ١٤ - ٢١) نستنتج منها ما كانت صلاته حينئذ.
٣٧ «وَكَانَ بُكَاءٌ عَظِيمٌ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، وَوَقَعُوا عَلَى عُنُقِ بُولُسَ يُقَبِّلُونَهُ».
تكوين ٤٥: ١٤ و٤٦: ٢٩
ما ذُكر هنا يبين لنا شدة المودة بين بولس وأولئك القسوس باعتبار أنه صديق لهم ووالد ومرشد روحي وشدة حزنهم على فراقه.
قليلون الذين كانوا كبولس في قدر ما كان محبوباً إلى البعض وقدر ما كان مبغضاً إلى الآخرين.
٣٨ «مُتَوَجِّعِينَ، وَلاَ سِيَّمَا مِنَ ٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا: إِنَّهُمْ لَنْ يَرَوْا وَجْهَهُ أَيْضاً. ثُمَّ شَيَّعُوهُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ».
ع ٢٥
أنه إذا رُجي اللقاء على الأرض بعد الفراق فذلك تعزية ليست بقليلة ولكنه إذ لم يبق سبيل إلى ذلك فألم الفراق شديد.
ٱلَّتِي قَالَهَا (ع ٢٥) لمثل هؤلاء ومن كان حال كحالهم عزاء في أن المسيح الصديق الأعز يمكث مع الماكثين ويسافر مع المسافرين.
شَيَّعُوهُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ إظهاراً لحبهم وإكرامهم له (ص ١٥: ٣). قال بعضهم أن في هذا الخطاب بيان ما يجب على القسيس عموماً وهو أن يكون «خادماً للرب» (ع ١٩).
وبيان ما يجب عليه خصوصاً وهو أن يكون «محترز لنفسه وللرعية» (ع ٢٨).
وخلاصة ما يجب أن يكرز به من التعليم وهي «التوبة إلى الله والإيمان بالرب» (ع ٢١).
ومواضع الكرازة «جهاراً وفي كل بيت» (ع ٢٠).
وكيفية التبشير وهي أن «لا يفتر من أن ينذر كل واحد» (ع ٣١) «بكل تواضعه ودموع كثيرة» (ع ١٩).
والأمانة وهي أن «لا يؤخر شيئاً من الفوائد» (ع ٢٠) وأن «يكون بريئاً من دم الجميع» (ع ٢٦) وأن يخبر الناس «بكل مشورة الله» (ع ٢٧).
والخلوص وإنكار الذات «غير مشته ذهباً أو فضة أو لباساً» (ع ٣٣).
والصبر والاحتمال غير محتسب لشيء من الشدائد وغير حاسب نفسه ثمينة عنده حتى يتمم بفرح سعيه والخدمة التي أخذها من الرب يسوع (ع ٢٤).
وذكر هنا سببين يوجبان على القسيس أن يخدم الكنيسة كما ذُكر وهما أن الروح القدس أقامه لهذه الخدمة وأن الكنيسة التي يخدمها قد اقتناها المسيح بدمه (ع ٢٨).
الأصحاح الحادي والعشرون
سفر بولس من ميليتس إلى أورشليم ع ١ إلى ١٦
١ «وَلَمَّا ٱنْفَصَلْنَا عَنْهُمْ أَقْلَعْنَا وَجِئْنَا مُتَوَجِّهِينَ بِٱلٱسْتِقَامَةِ إِلَى كُوسَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي إِلَى رُودُسَ، وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى بَاتَرَا».
ٱنْفَصَلْنَا عَنْهُمْ أي نحن بولس ورفقاؤه عن قسوس أفسس وفي تعبيره بالانفصال عن الذهاب إشارة إلى أن الفراق كان مؤلماً.
بِٱلٱسْتِقَامَةِ فإذاً كانت الريح موافقة لهم.
كُوسَ جزيرة صغيرة كثيرة الخصب واقعة على أمد أربعين ميلاً من ميليتس جنوباً طولها ثلاثة وعشرون ميلاً تسمى اليوم استنخو. اشتهرت قديماً بجودة خمرها ومنسوجاتها وبهيكل اسكولابيوس إله الطب وبمدرسة الطب المنسوبة إليه وبكونها مولد بقراط الطبيب المشهور.
رُودُسَ أي ورد وسُميت بذلك لكثرة وردها وهي جزيرة كبيرة حسنة وافرة الخصب طولها ستة وأربعون ميلاً وعرضها ثمانية عشر ميلاً وهي على أمد خمسين ميلاً من كوس جنوباً شرقياً وفي جانبها الشمالي مدينة تسمى باسمها اشتهرت قديماً بالجغرافيين اليونانيين أي علماء تخطيط الأرض فجعلوها مبدأ الطول كما جعل الإنكليز كرينويج. واشتهرت أيضاً بصناعة السفن واتساع متجرها بحراً وبهيكل الشمس الكبير وبتمثال أبلون النحاسي المعدود من عجائب الدنيا السبع كان علوه مئة قدم وخمس أقدام أُقيم سنة ٢٩٠ ق. م وانقلب وانكسر شيئاً بزلزلة حدثت سنة ٢٢٤ ق. م وبعد أن بقيت أجزاؤه مطروحة تسعة قرون اشتراها إنسان ونقلها فكانت محمول تسع مئة جمل على ما قيل. ولم تزل هذه المدينة عامرة معروفة باسمها القديم وهي مرفأ لكل السفن المارة بجهاتها.
بَاتَرَا هي مدينة في ليكية على غاية أربعين ميلاً من رودس كان فيها هيكل وحي لأبلون كان القدماء يقصدونه بغية أن ينبئهم بما في المستقبل ولم يبق من تلك المدينة سوى أطلالها.
٢ «فَإِذْ وَجَدْنَا سَفِينَةً عَابِرَةً إِلَى فِينِيقِيَّةَ صَعِدْنَا إِلَيْهَا وَأَقْلَعْنَا».
سَفِينَةً يظهر من هذا أن السفينة التي أتوا فيها من ترواس لم تظل سائرة في طريقهم فانتقلوا إلى أخرى كانت متأهبة للسفر إلى فينيقية وكانت سفن التجارة يومئذ تمخر كثيراً بين مواني ليكية وفينيقية والمسافة بينهما نحو ٣٤٠ ميلاً.
فِينِيقِيَّةَ ريف في سورية الغربي (انظر شرح ٢ ١١: ١٩).
٣ «ثُمَّ ٱطَّلَعْنَا عَلَى قُبْرُسَ، وَتَرَكْنَاهَا يَسْرَةً وَسَافَرْنَا إِلَى سُورِيَّةَ، وَأَقْبَلْنَا إِلَى صُورَ، لأَنَّ هُنَاكَ كَانَتِ ٱلسَّفِينَةُ تَضَعُ وَسْقَهَا».
ٱطَّلَعْنَا أي نظرنا على بعد.
قُبْرُسَ (انظر شرح ص ٤: ٣٦ و١١: ١٩ و٢٠ و١٣: ٤ و١٥: ٣٩).
يَسْرَةً إذ كانوا مارين في غربي قبرس لا بينهما وبين سورية.
صُورَ كانت أكبر مواني فينيقية وأشهر مدنها التجارية (انظر ص ١٢: ٢٠).
٤ «وَإِذْ وَجَدْنَا ٱلتَّلاَمِيذَ مَكَثْنَا هُنَاكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَكَانُوا يَقُولُونَ لِبُولُسَ بِٱلرُّوحِ أَنْ لاَ يَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
ص ٢٠: ٢٣ وع ١٢
وَجَدْنَا ٱلتَّلاَمِيذَ كان الإنجيل قد دخل صور منذ زمن طويل (ص ١١: ٢٩ و١٥: ٣). والأرجح أن المسيحيين في صور كانوا قليلين بالنسبة إلى الوثنيين فيها. وكانوا كافين لأن يصدق عليهم قول المرنم «هُوَذَا فِلِسْطِينُ وَصُورُ مَعَ كُوشَ. هٰذَا وُلِدَ هُنَاكَ» (مزمور ٨٧: ٤). وقول إشعياء في صور «تَكُونُ تِجَارَتُهَا وَأُجْرَتُهَا قُدْساً لِلرَّبِّ» (إشعياء ٢٣: ١٨).
مَكَثْنَا هُنَاكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ المدة التي شغلتها السفينة بالتفريغ والتأهب.
بِٱلرُّوحِ أي بوحي الروح القدس (ص ١: ٢ و١١: ٢٨).
أَنْ لاَ يَصْعَدَ الخ إذا كان خائفاً على حياته أو سلامته. وهذا لم يكن نهياً إلهياً بل إعلاناً لبعض الإخوة والأنبياء بما على بولس من الخطر في أورشليم ولهذا ألحوا عليه بأن لا يذهب. والظاهر أن الروح أعلن لبولس وجوب الذهاب مهما كان عليه من الخطر.
٥، ٦ «٥ وَلٰكِنْ لَمَّا ٱسْتَكْمَلْنَا ٱلأَيَّامَ خَرَجْنَا ذَاهِبِينَ، وَهُمْ جَمِيعاً يُشَيِّعُونَنَا مَعَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلأَوْلاَدِ إِلَى خَارِجِ ٱلْمَدِينَةِ. فَجَثَوْنَا عَلَى رُكَبِنَا عَلَى ٱلشَّاطِئِ وَصَلَّيْنَا. ٦ وَلَمَّا وَدَّعْنَا بَعْضُنَا بَعْضاً صَعِدْنَا إِلَى ٱلسَّفِينَةِ. وَأَمَّا هُمْ فَرَجَعُوا إِلَى خَاصَّتِهِمْ».
ص ٢: ٣٦ يوحنا ١: ١١
ٱلأَيَّامَ السبعة التي اضطروا أن يمكثوا فيها هنالك (انظر شرح ع ٤).
مَعَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلأَوْلاَدِ حضور هؤلاء مع الرجال يدل على شدة التأثير في قلوبهم من زيارة بولس لهم تلك المدة القصيرة وأظهروا له مودتهم جميعاً بهذا التشييع.
فَجَثَوْنَا عَلَى رُكَبِنَا (ص ٢٠: ٣٦).
وَصَلَّيْنَا لا ريب في أن بولس هو الذي تقدمهم بالصلاة.
صَعِدْنَا... فَرَجَعُوا الخ هذا كلام مشاهد عياناً تكلم بما اختبره.
٧ «وَلَمَّا أَكْمَلْنَا ٱلسَّفَرَ فِي ٱلْبَحْرِ مِنْ صُورَ، أَقْبَلْنَا إِلَى بُتُولِمَايِسَ، فَسَلَّمْنَا عَلَى ٱلإِخْوَةِ وَمَكَثْنَا عِنْدَهُمْ يَوْماً وَاحِداً».
قضاة ١: ٣١
أَكْمَلْنَا ٱلسَّفَرَ فِي ٱلْبَحْرِ مِنْ صُورَ فانتهى بذلك سفرهم بحراً.
بُتُولِمَايِسَ أي عكا واسمها في العهد القديم عكوّ (قضاة ١: ٣١). وسُميت وقتياً بطلمايس إكراماً لبطليموس ملك مصر. والمسافة بينها وبين صور ٣٠ ميلاً.
عَلَى ٱلإِخْوَةِ لم تخبر بانتشار الإنجيل في بتولمايس بسوى ما قيل في التبشير به في فينيقية عموماً (ص ١١: ١٩ و١٥: ٣).
٨ «ثُمَّ خَرَجْنَا فِي ٱلْغَدِ نَحْنُ رُفَقَاءَ بُولُسَ وَجِئْنَا إِلَى قَيْصَرِيَّةَ، فَدَخَلْنَا بَيْتَ فِيلُبُّسَ ٱلْمُبَشِّرِ، إِذْ كَانَ وَاحِداً مِنَ ٱلسَّبْعَةِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ».
أفسس ٤: ١١ و٢تيموثاوس ٤: ٥ ص ٦: ٥ و٨: ٢٦ و٤٠
قَيْصَرِيَّةَ على أمد ٣٦ ميلاً من بتولمايس وهي مدينة بناها هيرودس الكبير وجعلها فرضة اليهودية ومركز السلطة الرومانية في تلك الأرض (انظر شرح ص ٨: ٤٠ وانظر ص ٩: ٣٠ و١٠: ١ و١٢: ١٩ و١٨: ٢٢ و٢٣: ٢٣ و٢٤ و٣٣). وهذه المدينة على الشمال الغربي من أورشليم وعلى غاية نحو سبعين ميلاً منها. وهذه الزيارة هي الثالثة من زيارات بولس لها. كانت الأولى بمروره من أورشليم إلى طرسوس (ص ٩: ٣٠) والثانية برجوعه من أورشليم إلى أنطاكية بعد نهاية سفره الثاني للتبشير (ص ١٨: ٢٢).
فِيلُبُّسَ أحد السبعة المذكورين في (ص ٦: ٥ و٦) الذين عُيّنوا للاعتناء بالفقراء واشتهر هو واستفانوس بقوة التبشير وكان ممن طُردوا من أورشليم في الاضطهاد الذي ثار على أثر مقتل استفانوس فتشتت به جميع التلاميذ (ص ٨: ١).
ٱلْمُبَشِّرِ المبشرون خدم الكنيسة سموا مبشرين لإرسالهم للتبشير بالإنجيل فليست المبشرية رتبة مخصوصة بل يصح أن يُعتبر الشمامسة والقسوس والرسل مبشرين (١كورنثوس ١: ١٧ و٢تيموثاوس ٤: ٥). وامتاز الأنبياء عنهم بالوحي. ذُكرت رسامة فيلبس شماساً (ص ٦: ٥ و٦) ولم يُذكر تعيينه مبشراً لكن ذُكر أنه مارس خدمة المبشر وبشّر أولاً أهل السامرة (ص ٨: ٥) ثم بشّر الوزير الحبشي (ص ٨: ٢٦ و٢٧) ثم بشّر جميع المدن من أشدود إلى قيصرية (ص ٨: ٤٠) والظاهر أنه بقي هنالك منذ ذلك الوقت راعياً للكنيسة وذلك نحو عشرين سنة.
٩ «وَكَانَ لِهٰذَا أَرْبَعُ بَنَاتٍ عَذَارَى كُنَّ يَتَنَبَّأْنَ».
يوئيل ٢: ٢٨ وص ٢: ١٧
عَذَارَى كونهن عذارى علة وجودهم في بيت أبيهن ولو كنّ متزوجات لكن في بيوت رجالهن فلا علاقة بين كونهن عذارى وكونهن نبيات. ولا ذكر في العهد الجديد ولا في كتب المسيحيين الأولين لكون العذارى رتبة من الرتب الدينية كالرهبانية اليوم.
كُنَّ يَتَنَبَّأْنَ الظاهر أنهن كن يتنبأن في البيت مع الأفراد من النساء والرجال لا في مجتمعات العبادة الجمهورية لأن ذلك مخالف لتعليم الرسول (١كورنثوس ١٤: ٣٤ و٣٥ و١تيموثاوس ٢: ١٢). وكان تنبوهن إنجازاً لقول النبي «فيتنبأ بنوكم وبناتكم» (يوئيل ٢: ٢٨ انظر شرح أعمال ٢: ٢٨). والمحتمل أنهن كنّ يتنبأن بما سيصيب بولس في أورشليم كما فعل أنبياء صور وأغايوس (ع ٤ و١٠ و١١) ولذلك ذكر لوقا تنبؤهن هنا.
١٠، ١١ «١٠ وَبَيْنَمَا نَحْنُ مُقِيمُونَ أَيَّاماً كَثِيرَةً، ٱنْحَدَرَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ نَبِيٌّ ٱسْمُهُ أَغَابُوسُ. ١١ فَجَاءَ إِلَيْنَا، وَأَخَذَ مِنْطَقَةَ بُولُسَ، وَرَبَطَ يَدَيْ نَفْسِهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَ: هٰذَا يَقُولُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ: ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي لَهُ هٰذِهِ ٱلْمِنْطَقَةُ هٰكَذَا سَيَرْبِطُهُ ٱلْيَهُودُ فِي أُورُشَلِيمَ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى أَيْدِي ٱلأُمَمِ».
ص ١١: ٢٨ و١ملوك ٢٢: ١١ وإشعياء ٢٠: ٢ وإرميا ١٣: ١ الخ وحزقيال ٤: ١ الخ ص ٢٠: ٢٣ وع ٣٣
أَيَّاماً كَثِيرَةً رغب بولس في حضور العيد في أورشليم (ص ٢٠: ١٦) والظاهر أنه لم يرد أن يبلغها قبله. (قابل ع ١١ من ص ٢٤ مع ع ١ منه).
مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ من أورشليم أو غيرها من مدنها والأرجح أن أغابوس سمع بوصول بولس وعرف ما عليه من الخطر فأتى ليحذّره.
أَغَابُوسُ ذُكر آنفاً أنه نبي فتنبأ بالجوع أيام الأمبراطور كلوديوس (ص ١٠: ٢٧ - ٣٠) والأرجح أنه كان يبشر أيضاً.
فَجَاءَ إِلَيْنَا أي إلى بيت فيلبس منزلنا.
وَأَخَذَ مِنْطَقَةَ بُولُسَ، وَرَبَطَ جرياً على سنن الأنبياء القدماء في إيضاح نبوآتهم بالإشارة المحسوسة. ومنها مشي إشعياء النبي حافياً (إشعياء ٢٠: ٢ و٣). وطمر إرميا منطقته في شق صخرة على شاطئ الفرات (إرميا ١٣: ٤ - ٩). وأخذ حزقيال لبنة ورسمه عليها مدينة أورشليم وجعله عليها حصاراً (حزقيال ٤٠: ١ و٢) وأمثال ذلك كثيرة.
وَقَالَ: هٰذَا يَقُولُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كان كل الذين أنبأوا بأخطار بولس قد تكلموا عليها إجمالاً. أما أغابوس ففصّل ذلك فأبان أن اليهود يهجمون عليه ويكونون علة لتقييده أسيراً عند الرومانيين.
ٱلأُمَمِ أي الرومانيين لأن الأمم عند اليهود كل الذين ليسوا بيهود.
١٢ «فَلَمَّا سَمِعْنَا هٰذَا طَلَبْنَا إِلَيْهِ نَحْنُ وَٱلَّذِينَ مِنَ ٱلْمَكَانِ أَنْ لاَ يَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
طَلَبْنَا... نَحْنُ وَٱلَّذِينَ مِنَ ٱلْمَكَانِ أي رفقاء بولس في السفر ومسيحيو قيصرية وكان طلبهم نتيجة محبتهم لبولس وخوفهم عليه من الخطر. والظاهر أن بولس قد أخبرهم أنه كان مقيداً بالروح أن يذهب إلى أورشليم (ص ٢٠: ٢٢).
١٣ «فَأَجَابَ بُولُسُ: مَاذَا تَفْعَلُونَ؟ تَبْكُونَ وَتَكْسِرُونَ قَلْبِي. لأَنِّي مُسْتَعِدٌّ لَيْسَ أَنْ أُرْبَطَ فَقَطْ، بَلْ أَنْ أَمُوتَ أَيْضاً فِي أُورُشَلِيمَ لأَجْلِ ٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
ص ٢٠: ٢٤
مَاذَا... وَتَكْسِرُونَ قَلْبِي كان إظهار خوفهم عليه وشدة إلحاحهم مما آلمه شديداً كأنه كسر لقلبه. وسؤاله إشارة إلى أن كل إلحاحهم عبث لأنه لا يعدل به عن قصده ولا يخفف شيئاً من الخطر الذي كان عليه.
لأَنِّي مُسْتَعِدٌّ هذا موافق لقوله «أن الروح يشهد في كل مدينة قائلاً أن وثقاً تنتظرني» (ص ٢٠: ٢٣).
أَنْ أَمُوتَ أَيْضاً أي إذا كان الموت لا يمنعه من الذهاب فهل يمنعه القيد منه. وكانت إحساسات المسيحيين الأولين مثل إحساس بولس وهي التي جعلت ألوفاً وربوات يموتون شهداء للدين المسيحي مسرورين.
لأَجْلِ ٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ محبة وإطاعة وشكراً له وغيرة على مجده ورغبة في التبشير بإنجيله. قال هذا لأنه رأى يسوع يدعوه إلى خدمته في أورشليم.
١٤ «وَلَمَّا لَمْ يُقْنَعْ سَكَتْنَا قَائِلِينَ: لِتَكُنْ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ».
متّى ٦: ١٠ و٢٦: ٤٢ ولوقا ١١: ٢ و٢٢: ٤٢
لَمْ يُقْنَعْ أي لم يعدل عن قصده بإلحاحهم ونبوأتهم إطاعة لأمر الرب لا عناداً ولا استحقاقاً بالتماس أصدقائه ولا عدم تصديقه نبوآتهم.
لِتَكُنْ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ استنتجوا من بقاء بولس على عزمه أن قصده كان مبنياً على الإرادة الإلهية فعبارتهم هنا هي كالطلبة الثانية من الصلاة الربانية (لوقا ١١: ١٢) وكصلاة المسيح نفسه في البستان (لوقا ٢٢: ٤٢).
١٥ «وَبَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ تَأَهَّبْنَا وَصَعِدْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ».
بَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي أيام إقامتهم بقيصرية (ع ١٠).
تَأَهَّبْنَا أي أعددنا ما نحتاج إليه في الطريق وبعد وصولنا إلى أورشليم. وكان معهم ما جمعوه من الإحسان فلا بد من أنهم حملوه إلى هنالك.
١٦ «وَجَاءَ أَيْضاً مَعَنَا مِنْ قَيْصَرِيَّةَ أُنَاسٌ مِنَ ٱلتَّلاَمِيذِ ذَاهِبِينَ بِنَا إِلَى مَنَاسُونَ، وَهُوَ رَجُلٌ قُبْرُسِيٌّ، تِلْمِيذٌ قَدِيمٌ، لِنَنْزِلَ عِنْدَهُ».
وَجَاءَ أَيْضاً مَعَنَا إلى أورشليم.
إِلَى مَنَاسُونَ، وَهُوَ رَجُلٌ قُبْرُسِيٌّ وُلد في قبرس لكنه كان ساكناً يومئذ في أورشليم.
تِلْمِيذٌ قَدِيمٌ من المتنصرين أولاً أو أنه تلميذ المسيح نفسه أو أنه آمن في يوم الخمسين الذي حل فيه الروح القدس على التلاميذ. ولعله من القبرسيين الذين ذهبوا إلى أنطاكية وبشروا اليونانيين هناك (ص ١١: ١٩ و٢٠).
لِنَنْزِلَ عِنْدَهُ هذا يستلزم أنه كان له بيت في أورشليم ملك أو مستأجَر.
اجتماع بولس بإخوة أورشليم وقبوله نصحهم بإتيان ما يرضي متنصري اليهود ع ١٧ إلى ٢٦
١٧ «وَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَنَا ٱلإِخْوَةُ بِفَرَحٍ».
ص ١٥: ٤
لَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ هذه المرة الخامسة من إتيان بولس إلى أورشليم بعد ذهابه منها بغية اضطهاد المسيحيين (ص ٩: ٢) وكان ذلك سنة ٥٨ ب. م.
قَبِلَنَا بولس ورفاقه وكان منهم بعض متنصري الأمم.
ٱلإِخْوَة بعض المؤمنين الذين التقوا بهم إما في باب المدينة وإما في بيت مناسون لأنهم لم يواجهوا الكنيسة ولا شيوخها إلا في غد ذلك اليوم (ع ١٨).
بِفَرَحٍ لكونهم إخوة في الرب وبعضهم ممن عرفوهم وأحبوهم ولم يجتمعوا منذ عدة سنين كانت سني خطر ومشقات وخدمة وافرة.
١٨ «وَفِي ٱلْغَدِ دَخَلَ بُولُسُ مَعَنَا إِلَى يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ جَمِيعُ ٱلْمَشَايِخِ».
ص ١٢: ١٧ و١٥: ١٣ وغلاطية ١: ١٩ و٢: ٩ و١٢
يَعْقُوبَ هو الذي ذُكر في (ص ١٢: ١٧ و١٥: ١٣) فانظر الشرح هناك. ومن عدم ذكر غيره من الرسل نستنتج أنهم لم يكونوا هناك.
مَعَنَا ذكر حضور رفاق بولس معه في ذلك الاجتماع دليل على أن بولس اعتبر من الأمور المهمة أن تتعرّف بهم كنيسة أورشليم وتتخذهم إخوة.
جَمِيعُ ٱلْمَشَايِخِ كان هذا الاجتماع أعمّ من الذي قبله وأكثر نظاماً.
١٩ «فَبَعْدَ مَا سَلَّمَ عَلَيْهِمْ طَفِقَ يُحَدِّثُهُمْ شَيْئاً فَشَيْئاً بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلأُمَمِ بِوَاسِطَةِ خِدْمَتِهِ».
ص ١٥: ٤ و١٢ ورومية ١٥: ١٨ و١٩ ص ١: ١٧ و٢٠: ٢٤
سَلَّمَ عَلَيْهِمْ كما اقتضت العادة من إظهار الإكرام والمودة.
طَفِقَ يُحَدِّثُهُمْ قصّ عليهم بالتفصيل والتدقيق أنباء سفره للتبشير بالإنجيل وما حمله على الذهاب من آسيا إلى أوربا ونجاحه بين أمم كورنثوس وأفسس ومدن مكدونية والكنائس التي أسسها والضيقات التي ألمت به والنجاة منها. وأخبرهم بما جمعه من إحسان الكنائس في كل تلك الجهات لأجل فقراء كنيسة أورشليم وقدّم لهم المجموع.
ٱلأُمَمِ هم الذين عيّنه الله رسولاً إليهم.
٢٠ «فَلَمَّا سَمِعُوا كَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱلرَّبَّ. وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تَرَى أَيُّهَا ٱلأَخُ كَمْ يُوجَدُ رَبْوَةً مِنَ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ جَمِيعاً غَيُورُونَ لِلنَّامُوسِ».
ص ٢٢: ٣ ورومية ١٠: ٢ وغلاطية ١: ١٤
لَمَّا سَمِعُوا أنباء بولس التي أثبتها حضور عدّة من مؤمني الأمم.
يُمَجِّدُونَ ٱلرَّبَّ فرحوا بنجاح الإنجيل نجاحاً عظيماً ورأوا فيه علامات حضور المسيح مع رسوله فنسبوا كل الفضل إليه تعالى باعتبار كونه مصدر النعم وإن كل بركة من فيض نعمته وجاء مثل هذا في (ص ١١: ١٨).
قَالُوا لَهُ برأي واحد ولعل يعقوب كان نائب الجميع في ما اتفقوا عليه.
أَيُّهَا ٱلأَخُ هذا إمارة المودة لشخصه وإقرار كل الكنيسة بأنهم استحسنوا ما فعله وصدقوه.
كَمْ يُوجَدُ رَبْوَةً أرادوا بذلك وفرة الجمهور لا بيان العدد وهم جميع متنصري اليهود الذين جاءوا للعيد من جميع الأقطار لا متنصرو يهود أورشليم فقط. ولا نظن في هذا القول شيئاً من المبالغة لأنه قيل منذ خمس وعشرين سنة قبل ذلك أن عدد الرجال المسيحيين في أورشليم وحدها نحو خمسة آلاف (ص ٤: ٤) والكنيسة لم تنفك تنمو وتمتد يوماً فيوماً منذ ذلك الوقت.
جَمِيعاً أي أكثرهم.
غَيُورُونَ امتاز اليهود عمن سواهم بشدة غيرتهم لدينهم فلما تنصر بعضهم بقي شديد الغيرة بل أنه زاد إظهاراً لتلك الغيرة خيفة أن يُتهم بأنه ترك الدين اليهودي وأن يسخر ما للأمة المختارة من الحقوق إذا قصر في الرسوم الموسوية. وكانت في ذلك الوقت محاورات كثيرة في نسبة الديانة المسيحية إلى الديانة اليهودية وانقسم الناس في تلك المسئلة مذاهب واشتد التعصب بينهم وريب بعضهم في بعض ومراقبة كل فريق للآخر.
لِلنَّامُوسِ أي الناموس الرمزي القائم بتمييز الأطعمة والتطهيرات والأعياد. وعلل غيرة متنصري اليهود لرسوم الناموس خمس:
- الأولى: إن الله رسمها وهم تربوا على ممارستها.
- الثانية: إن الرسل خضعوا لها وهم في أورشليم (لوقا ٢٤: ٥٣ وأعمال ٣: ١).
- الثالثة: إنه لم تكن في الكنيسة مباحثة في شأن ترك اليهود تلك الرسوم حين يتنصرون. فالمسئلة في جواز ترك تلك الرسوم كانت مقصورة على الأمم فقط وحكم المجمع قُصر عليهم أيضاً.
- الرابعة: إن المسيح ما نهى المؤمنين عن ممارسة تلك الرسوم لكنه ترك للكنيسة أن تتركها متى رأت أنها حصلت على كل فوائدها به وأن لا حاجة إليها بعده.
- الخامسة: إن الله لم يعلن شيئاً يبيّن عدم رضاه حفظ تلك الرسوم لأنه رأى قرب وقت خراب المدينة وهدم الهيكل وإبطال الذبائح مما يتعذر حفظها.
٢١ «وَقَدْ أُخْبِرُوا عَنْكَ أَنَّكَ تُعَلِّمُ جَمِيعَ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ ٱلٱرْتِدَادَ عَنْ مُوسَى، قَائِلاً أَنْ لاَ يَخْتِنُوا أَوْلاَدَهُمْ وَلاَ يَسْلُكُوا حَسَبَ ٱلْعَوَائِدِ».
أُخْبِرُوا عَنْكَ الذين أشاعوا ذلك هم أعداء بولس وإخوة كاذبون دخلوا الكنيسة المسيحية ليردوا الروحانيين إلى الاتكال على الرسوم اليهودية الزائلة التي لم يبق فيها نفع. وكثيراً ما منع هؤلاء الكذبة امتداد الإنجيل وهيّجوا العداوة لبولس وأقنعوا بعض الكنيسة أنه نهى اليهود الذين تنصروا عن إطاعة ناموس موسى.
ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ أي الذين في شتات المملكة الرومانية (يوحنا ٧: ٣٥ ويعقوب ١: ١ و١بطرس ١: ١).
ٱلٱرْتِدَادَ عَنْ مُوسَى أي رفض الناموس الذي أُوحي به إلى موسى.
قَائِلاً الخ لم يذكر من الرسوم التي نهى بولس عن حفظها على قولهم سوى اثنين وهما الختان والسلوك حسب العوائد أي الرسوم العرضية الرمزية. وهذا افتراء باطل فإن بولس قال في تعليمه «دُعِيَ أَحَدٌ وَهُوَ مَخْتُونٌ، فَلاَ يَصِرْ أَغْلَفَ. دُعِيَ أَحَدٌ فِي ٱلْغُرْلَةِ، فَلاَ يَخْتَتِنْ. لَيْسَ ٱلْخِتَانُ شَيْئاً، وَلَيْسَتِ ٱلْغُرْلَةُ شَيْئاً، بَلْ حِفْظُ وَصَايَا ٱللّٰهِ. اَلدَّعْوَةُ ٱلَّتِي دُعِيَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ فَلْيَلْبَثْ فِيهَا» (١كورنثوس ٧: ١٨ - ٢٠). نعم أنه علّم أن تلك الرسوم ليست بضرورية للخلاص ولكنه لم يقل أنها محظورة على متنصري اليهود ولم يتضح لهم بترك عوائد آبائهم وشريعة موسى. وأعماله كانت تكذب هذه التهمة لأنه هو نفسه مارس تلك الرسوم ومنها ختنه لتيموثاوس (ص ١٦: ٣) وحلق رأسه في كنخريا (ص ١٨: ١٨) وحضوره يومئذ العيد.
٢٢ «فَإِذاً مَاذَا يَكُونُ؟ لاَ بُدَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ يَجْتَمِعَ ٱلْجُمْهُورُ، لأَنَّهُمْ سَيَسْمَعُونَ أَنَّكَ قَدْ جِئْتَ».
مَاذَا يَكُونُ أي الطريق الأفضل لإزالة هذا الوهم من أذهان كثيرين من متنصري اليهود. وفي كلامهم ما يدل على أنهم لم يصدقوا تلك التهمة.
لاَ بُدَّ... يَجْتَمِعَ ٱلْجُمْهُورُ أي جماعة أصحاب الغيرة للناموس من اليهود ومتنصريهم المذكورين الذين لا بد من أن يحضروا ذلك العيد (وهو عيد الخمسين) وأن يجتمعوا ويسألوا عنك ويتكلموا في أمرك ويراقبوك ليروا أحق ما سمعوه عنك أم لا. فاليهود الذين لم يؤمنوا هم يبغضونك والذين تنصروا منهم يشكون فيك.
سَيَسْمَعُونَ الخ لأهمية المسئلة عندهم واشتهارك فيها بواسطة تهمة الذين اتهموك. وكلام المشائخ هنا يتضمن أنهم خائفون على بولس من إظهار الإخوة غيظهم لما سمعوا عنه وأنهم راغبون في أن يزيلوا من أذهانهم ذلك الوهم ومن قلوبهم البغض ويجعلوهم مسرورين ببولس ومقتنعين بإخلاصه.
٢٣ «فَٱفْعَلْ هٰذَا ٱلَّذِي نَقُولُ لَكَ: عِنْدَنَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ عَلَيْهِمْ نَذْرٌ».
ٱفْعَلْ هٰذَا لتكذيب التهمة وإزالة الأوهام وإرضاء الإخوة ذوي الغيرة للناموس.
عِنْدَنَا أي في عنايتنا نحن كنيسة أورشليم.
أَرْبَعَةُ رِجَالٍ من متنصري اليهود.
عَلَيْهِمْ نَذْرٌ الأرجح أن هذا النذر كان من نوع نذور النذير (عدد ٦: ١ - ٢١) وهو كنذر بولس أيضاً (ص ١٨: ١٨) فراجع الشرح هناك.
٢٤ «خُذْ هٰؤُلاَءِ وَتَطهَّرْ مَعَهُمْ وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمْ لِيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ، فَيَعْلَمَ ٱلْجَمِيعُ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا أُخْبِرُوا عَنْكَ، بَلْ تَسْلُكُ أَنْتَ أَيْضاً حَافِظاً لِلنَّامُوسِ».
عدد ٦: ٢ و٥ و١٣ و١٨ وص ١٨: ١٨
خُذْ هٰؤُلاَءِ لعنايتك.
تَطهَّرْ مَعَهُمْ اخضع لرسوم التطهير المعتادة الجارية على أيدي الكهنة التي تمكنك من مشاركة هؤلاء الأربعة في فروض إيفاء النذر النهائية.
أَنْفِقْ عَلَيْهِمْ أي أدِّ عنهم ثمن الذبائح والتقدمات وسائر ما يحتاجون إليه لإيفاء نذرهم ومن ذلك خروف حولي عن كل المحرقة ونعجة عن كل ذبيحة خطيئة وكبش عن كل ذبيحة سلامة وسل فطير من دقيق أقراص ملتوتة بزيت ورقاق فطير ملتوتة بزيت مع تقدمتها وسكائبها. فالمرجّح أن هؤلاء الأربعة كانوا فقراء غير قادرين على القيام بنفقة ذلك.
لِيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ كان من فروض ذلك النذر أنهم يُطلقون الشعر من يوم ينذرون إلى يوم يوفون (عدد ٦: ٥) وكانت مدة ذلك غالباً ثلاثين يوماً يحلقون في نهايتها (عدد ٦: ١٨) وهذا أيضاً مما يحتاج إلى النفقة للكاهن أو اللاوي الذي يحلق الشعر. وكان من عوائد اليهود أن يقوم غنيهم بنفقة فقيرهم. قال يوسيفوس أنه حين أتى أغريباس الأول من رومية إلى أورشليم ليتولى الملك قام بنفقة حلق رؤوس كثيرين مما نذروا وأتى ذلك إظهاراً لغيرته على الرسوم اليهودية لمثل القصد الذي قصده أصدقاء بولس في نصحهم له.
لَيْسَ شَيْءٌ الخ أي لا صحة لشيء من تهمهم. لأنهم إذا رأوك مشتركاً في العوائد الدينية منفقاً على غيرك للقيام بها اتخذوا ذلك دليلاً قاطعاً على بطل تهمة المتهمين وبياناً أنك لست بعدو لموسى وأنك لم تنه متنصري اليهود عن حفظ الناموس. وهذا أحسن وسيلة لإزالة الأوهام والشكوك وتكذيب الإخوة الخادعين. وكل الأخوة المسيحيين الذين يحضرون العيد من كل أقطار المسكونة يشهدون بما شاهدوا بعد رجوعهم إلى أوطانهم باحترامك الرسوم الموسوية.
٢٥ «وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا مِنَ ٱلأُمَمِ، فَأَرْسَلْنَا نَحْنُ إِلَيْهِمْ وَحَكَمْنَا أَنْ لاَ يَحْفَظُوا شَيْئاً مِثْلَ ذٰلِكَ، سِوَى أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ، وَمِنَ ٱلدَّمِ، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلزِّنَا».
ص ١٥: ٢٠ و٢٩
ذكروا هذه الآية دفعاً لظن أحد إبطال شيء من الحرية التي حُكم بها لمؤمني الأمم وهي تحريرهم من حفظ الشريعة الرمزية ولأنهم علموا أن بولس لا يقبل رأيهم إلا على هذا الشرط.
أَرْسَلْنَا نَحْنُ إِلَيْهِمْ أرادوا بذلك الرقيم الذي اتفق المجمع عليه وأرسله إلى الكنائس ومضمونه أن لا شيء عليهم من الرسوم سوى الامتناع عما يعثر إخوتهم اليهود (ص ١٥: ٢٠ - ٢١) أما الزناء فقد منعته الشريعة الأدبية الأبدية.
٢٦ «حِينَئِذٍ أَخَذَ بُولُسُ ٱلرِّجَالَ فِي ٱلْغَدِ، وَتَطَهَّرَ مَعَهُمْ وَدَخَلَ ٱلْهَيْكَلَ، مُخْبِراً بِكَمَالِ أَيَّامِ ٱلتَّطْهِيرِ، إِلَى أَنْ يُقَرَّبَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ٱلْقُرْبَانُ».
ص ٢٤: ١٨ عدد ٦: ١٣
أَخَذَ بُولُسُ ٱلرِّجَالَ جرياً على نصيحة يعقوب والمشائخ لأنهم نواب كنيسة أورشليم أم الكنائس ونصحوا له بما رأوه مناسباً لنفع الكنيسة وسلامها عموماً. فقبل ذلك على وفق قوله «فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرّاً مِنَ ٱلْجَمِيعِ، ٱسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ ٱلأَكْثَرِينَ. فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ ٱلْيَهُودَ، وَلِلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لأَرْبَحَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ... صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ ٱلضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً»(١كورنثوس ٩: ١٩ - ٢٢). فلو رأى في ذلك شيئاً مضاداً لمبادئه المسيحية وواجباته لربه ما سلّم به. وهو غير مناف لما كتبه في رسائله من أن الناموس لا يبرّر الخاطئ ولا يخلصه وأن الاتكال عليه يجعل الإيمان عبثاً وأنه ليس على أحد من الأمم أن يخضع للناموس بغية الخلاص. وعدم إصابة الغاية المقصودة منه ليس بدليل على أنه خطيئة ولعله نال تلك الغاية بإقناع مؤمني اليهود أنه بريء مما رُمي به من التهم. والذين هجموا عليه هم اليهود غير المؤمنين. والأرجح أن المؤمنين منهم أحبوا بولس أكثر من ذي قبل وحزنوا على مصابه بأن قُبض عليه في الهيكل وهو يعبد حسب عوائد آبائهم.
ٱلْهَيْكَلَ أي إحدى أدوُّره.
وَتَطَهَّرَ مَعَهُمْ كما يجب على شريك النذير عند إيفاء نذره (ع ٢٤).
مُخْبِراً بِكَمَالِ أَيَّامِ ٱلتَّطْهِيرِ أي أنه أخبر الكهنة بما بقي من أيام النذر وهي سبعة (ع ٢٧) ليعدوا الحيوانات الذبيحة في وقتها وأخبرهم أيضاً بأنه صار شريكاً للذين علمهم النذر وأنه مستعد للنفقة عليهم على وفق العادة.
ٱلْقُرْبَانُ الذي أمر به في (عدد ٦: ١ - ٢١ انظر شرح ع ٢٤).
هياج اليهود على بولس وإنقاذ أمير الكتيبة إياه ع ٢٧ إلى ٣٦
٢٧ «وَلَمَّا قَارَبَتِ ٱلأَيَّامُ ٱلسَّبْعَةُ أَنْ تَتِمَّ، رَآهُ ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَسِيَّا فِي ٱلْهَيْكَلِ، فَأَهَاجُوا كُلَّ ٱلْجَمْعِ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ ٱلأَيَادِيَ».
ص ٢٤: ١٨ ص ٢٦: ٢١
قَارَبَتِ ٱلأَيَّامُ ٱلسَّبْعَةُ أن تتم يمكن أن أيام ذلك النذر لم تكن أكثر من سبعة أيام والأرجح أنها ثلاثون كالعادة اشترك فيه بولس بعد مضي ثلاثة وعشرين يوماً منها وأخبر الكهنة يوم اشتراكه والأيام السبعة الآخرة أهم تلك المدة لأنه يُقدم فيها أكثر القرابين (خروج ٢٩: ٣٧ ولاويين ١٢: ٢ و١٣: ٦ وعدد ١٢: ١٤ و١٩: ١٤).
ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَسِيَّا أو اليهود الذين أتوا للعيد من غربي آسيا الصغرى أي من أفسس وما حولها حيث اجتمع بولس باليهود وجادلهم فما استطاعوا أن يشفوا غيظهم منه هنالك لانتصاره عليهم (ص ٢٠: ١٩) فلما رأوه في أورشليم عرفوه فاتقدت نيران غضبهم لاعتبارهم إياه مرتداً عن شريعة موسى وزعموا أنه لم يدخل الهكيل إلا وهو محتقر إيّاه ولعلهم راقبوه قبلاً كالجواسيس ليجدوا فرصة للشكوى عليه.
أَهَاجُوا كُلَّ ٱلْجَمْعِ حرّكوا المجتمعين ليشاركوهم في بغضهم لبولس والانتقام منه.
أَلْقَوْا عَلَيْهِ ٱلأَيَادِيَ كأنه مجرم يبغي الفرار.
٢٨ «صَارِخِينَ: يَا أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ، أَعِينُوا! هٰذَا هُوَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي يُعَلِّمُ ٱلْجَمِيعَ فِي كُلِّ مَكَانٍ ضِدّاً لِلشَّعْبِ وَٱلنَّامُوسِ وَهٰذَا ٱلْمَوْضِعِ، حَتَّى أَدْخَلَ يُونَانِيِّينَ أَيْضاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَدَنَّسَ هٰذَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلْمُقَدَّسَ».
ص ٦: ١٣ و٢٤: ٥ و٦
ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ خاطبوهم بذلك تهييجاً للتعصّب الطائفي.
أَعِينُوا على وقاية هذا المكان المقدّس من تنجيس هذا المجدّف.
هٰذَا هُوَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي سمعتم كلكم خبره وشاهده كثيرون منكم.
يُعَلِّمُ ٱلْجَمِيعَ فِي كُلِّ مَكَانٍ هذا دليل على انتشار صيت بولس وتأثير تبشيره وأهمية تعليمه عند اليهود وخوفهم من ذلك التعليم.
ضِدّاً لِلشَّعْبِ أي اليهود الأمة المختارة التي زعموا أن بولس تعدى على حقوقها بجعله الأمم شركاءها في المواعيد والمواريث.
ٱلنَّامُوسِ شريعة موسى التي فُرز اليهود بحفظها عن سائر الأمم.
هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ أورشليم المدينة المقدسة ولا سيما الهيكل الذي هو مركز الدين اليهودي. وكان قولهم هنا كقولهم يوم مقتل استفانوس والمحتمل أن بولس كان شريكاً لهم فيه يومئذ (ص ٦: ١٢ - ١٤).
حَتَّى أي فوق كل ما سبق.
يُونَانِيِّينَ أي أناساً من الأمم فلم يريدوا سكان بلاد اليونان خاصة.
ٱلْهَيْكَل أي أحد أدوّره الداخلية وراء دار الأمم فإنه كان محظوراً على الأمم أن يجتازوا تلك الدار بإعلان عُلق على عمود بين تلك الدار ودار النساء وهذه صورته «يحظر على كل أجنبي أن يتجاوز هذا الجدار المحيط بالهيكل فليعلم كل أجنبي أنه إن تجاوزه فقُبض عليه داخلاً قُتل ودمه على نفسه». فمن تجاوز من الأمم ذلك العمود كان تحت خطر الموت. قال يوسيفوس أن الرومانيين أذنوا لليهود أن يقتلوا الروماني إذا خالف ما في ذلك الإعلان (انظر الكلام على أدور الهيكل في شرح متّى ٢١: ١٢).
دَنَّسَ اتخذوا المكان المقدس كغيره من الأماكن وذلك إهانة له.
ٱلْمَوْضِعَ ٱلْمُقَدَّسَ المفروز لعبادة الله بمقتضى السنن اليهودية.
٢٩ «لأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ رَأَوْا مَعَهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ تُرُوفِيمُسَ ٱلأَفَسُسِيَّ، فَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ بُولُسَ أَدْخَلَهُ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ».
ص ٢٠: ٤
كَانُوا قَدْ رَأَوْا قبلما شاهدوا بولس في الهيكل وهو في بعض أسواق المدينة.
تُرُوفِيمُسَ أحد متنصري الأمم الذين أتوا من أخائية ليرافقوا بولس وسبقوه إلى ترواس (ص ٢٠: ٤) وعرفه الذين من آسيا حالاً لأنه من أفسس قصبة آسيا.
كَانُوا يَظُنُّونَ حملهم على هذا الظن زعمهم أن بولس عدو الدين اليهودي ومحتقر الهيكل واتخاذهم ذلك الظن بمنزلة اليقين بلا فحص.
٣٠ «فَهَاجَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا، وَتَرَاكَضَ ٱلشَّعْبُ وَأَمْسَكُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْهَيْكَلِ. وَلِلْوَقْتِ أُغْلِقَتِ ٱلأَبْوَابُ».
ص ٢٦: ٢١
فَهَاجَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا كان ذلك زمان العيد واليهود على غاية من الغيرة الدينية وازدحام ربواتهم الكثيرة جعلهم مستعدين للهياج كما هو من خواص الازدحام. وكانت تلك الشكوى من أشد المهيّجات لليهود.
تَرَاكَضَ ٱلشَّعْبُ إلى الهيكل حيث ارتفع الصراخ.
أَمْسَكُوا بُولُسَ بالعنف.
جَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْهَيْكَلِ من الدار المحظور على الأمم دخولها.
أُغْلِقَتِ ٱلأَبْوَابُ أي أبواب الهيكل والمرجّح أن الكهنة أغلقوها منعاً لرجوع بولس ورفيقه المظنون إلى الهيكل وتدنيس الهيكل بدمهما إن قُتلا فيه ودفعاً للشغب في المكان المقدس وتخلّصاً من مسؤولية كل ما يحدث من هيجان العامة.
٣١ «وَبَيْنَمَا هُمْ يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، نَمَا خَبَرٌ إِلَى أَمِيرِ ٱلْكَتِيبَةِ أَنَّ أُورُشَلِيمَ كُلَّهَا قَدِ ٱضْطَرَبَتْ».
أَنْ يَقْتُلُوهُ ضرباً المرجّح أنهم كانوا يلكمونه لأنه لو كان معهم أسلحة لقتلوه حالاً. وأرادوا قتله لزعمهم أنه دنس الهكيل بإدخال واحد من الأمم إليه. إنه بمقتضى الإعلان كان لهم أن يقتلوا تروفيمس لو وجدوه ولكنهم أرادوا قتل بولس لاعتباره أعظم ذنباً من ذاك لأنه أدخل ذلك اليوناني على زعمهم.
نَمَا خَبَرٌ من الحراس الرومانيين المعيّنين لحراسة الهيكل وكل ما فيه ولمراقبة الحوادث في الأعياد لأنه يُخشى حينئذ من الشغب. وكان قرب الهيكل على زاويته الشمالية الغربية قلعة رومانية اسمها انطونيا عليها أربعة أبراج علو كل من ثلاثة منها ثمانون قدماً وعلو الآخر مئة قدم وعشرون قدماً وكان هذا مشرفاً على الهيكل كله ومتصلاً به بدرج وكان في تلك القلعة جند من العسكر الروماني لمنع الفتن ولسياسة المدينة.
أَمِيرِ ٱلْكَتِيبَةِ كلوديوس ليسياس (ص ٢٣: ٢٦). والكتيبة هنا فرقة من الجند عدد رجالها ألف لأنها سُدس اللجئون واللجئون ستة آلاف (انظر شرح متّى ٨: ٢٩). وذُكرت الكتيبة في (متّى ٢٧: ٦٥ و٦٦).
٣٢ «فَلِلْوَقْتِ أَخَذَ عَسْكَراً وَقُوَّادَ مِئَاتٍ وَرَكَضَ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا رَأَوُا ٱلأَمِيرَ وَٱلْعَسْكَرَ كَفُّوا عَنْ ضَرْبِ بُولُسَ».
ص ٢٣: ٢٧ و٢٤: ٧
عَسْكَراً وَقُوَّادَ مِئَاتٍ فإذاً هم ثلاث مئة على الأقل لأن كل قائد يأتي بمئة.
رَكَضَ من القلعة إلى دار الأمم لتسكين الشغب لا لإنقاذ إنسان بريء من الظلم.
إِلَيْهِمْ أي إلى ضاربي بولس بغية قتله.
كَفُّوا الخ الأرجح أن الأمير أمرهم بالكف فامتنعوا خوفاً من أن يوقع بهم ويقتلهم.
٣٣ «حِينَئِذٍ ٱقْتَرَبَ ٱلأَمِيرُ وَأَمْسَكَهُ، وَأَمَرَ أَنْ يُقَيَّدَ بِسِلْسِلَتَيْنِ، وَطَفِقَ يَسْتَخْبِرُ: تُرَى مَنْ يَكُونُ وَمَاذَا فَعَلَ؟».
ص ٢٠: ٢٣ وع ١١
يُقَيَّدَ بِسِلْسِلَتَيْنِ إلى جنديين على جانبيه كما قُيّد بطرس (ص ١٢: ٦). وكانت غاية الأمير من ذلك تسكين الهياج وإعلان أنه يحفظه للمحاكمة والعقاب إذا كان مذنباً. وفي تقييد بولس إنجاز لنبوءة أغابوس (ص ٢١: ١١). وأمر بتقييده لظنه ان اليهود لم يعاملوه كذلك لو لم يكن قد ارتكب ذنباً على كل الجمهور.
٣٤ «وَكَانَ ٱلْبَعْضُ يَصْرُخُونَ بِشَيْءٍ وَٱلْبَعْضُ بِشَيْءٍ آخَرَ فِي ٱلْجَمْعِ. وَلَمَّا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَعْلَمَ ٱلْيَقِينَ لِسَبَبِ ٱلشَّغَبِ، أَمَرَ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ».
ٱلْبَعْضُ يَصْرُخُونَ بِشَيْءٍ وَٱلْبَعْضُ بِشَيْءٍ آخَرَ كما فعل الهائجون في مشهد أفسس (ص ١٩: ٣٢).
أَنْ يَعْلَمَ ٱلْيَقِينَ أي لم يستطع الأمير أن يعرف من الناس من هو المذنب وما ذنبه لاختلاط الأصوات.
إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ في قلعة أنطونيا مكان الجند وسجن المجرمين (ع ٣١) لحفظه والوقوف على حقيقة ما كان.
٣٥ «وَلَمَّا صَارَ عَلَى ٱلدَّرَجِ ٱتَّفَقَ أَنَّ ٱلْعَسْكَرَ حَمَلَهُ بِسَبَبِ عُنْفِ ٱلْجَمْعِ».
عَلَى ٱلدَّرَجِ الموصل بين ساحة الهكيل والقلعة وكان هنالك درجان عريضان أو سلّمان من الحجر.
أَنَّ ٱلْعَسْكَرَ حَمَلَهُ أي حمل بولس لكثرة ازدحام الناس عليه ليقتلوه. والأرجح أن لوقا شاهد بولس محمولاً على أيدي العكسر وذكر ذلك إظهاراً لشدة غضب اليهود.
٣٦ «لأَنَّ جُمْهُورَ ٱلشَّعْبِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ صَارِخِينَ: خُذْهُ!».
لوقا ٢٣: ١٨ ويوحنا ١٩: ١٥ وص ٢٢: ٢٢
خُذْهُ إلى المقتل وهذا كقول الذين طلبوا صلب المسيح وحملوا بيلاطس على تسليمه للموت (لوقا ٢٣: ١٨ ويوحنا ١٩: ١٥). فما طلبوه للسيد أولاً طلبوه لعبده الأمين ثانياً.
استئذان بولس الأمير أن يخاطب الشعب ع ٣٧ إلى ٤٠
٣٧ «وَإِذْ قَارَبَ بُولُسُ أَنْ يَدْخُلَ ٱلْمُعَسْكَرَ قَالَ لِلأَمِيرِ: أَيَجُوزُ لِي أَنْ أَقُولَ لَكَ شَيْئاً؟ فَقَالَ: أَتَعْرِفُ ٱلْيُونَانِيَّةَ؟»
قَارَبَ... أَنْ يَدْخُلَ ٱلْمُعَسْكَرَ أي لما بلغ أعلى السلم وبعُد عن الازدحام.
أَيَجُوزُ أي أتأذن.
أَتَعْرِفُ ٱلْيُونَانِيَّةَ يظهر من ذلك أن بولس خاطب الأمير باليونانية والأمير لم يتوقع هذا بل كان يعتقد أنه لا يحسن التكلم بسوى العبرانية.
٣٨ «أَفَلَسْتَ أَنْتَ ٱلْمِصْرِيَّ ٱلَّذِي صَنَعَ قَبْلَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ فِتْنَةً، وَأَخْرَجَ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ أَرْبَعَةَ ٱلآلاَفِ ٱلرَّجُلِ مِنَ ٱلْقَتَلَةِ؟».
ص ٥: ٣٦
أَفَلَسْتَ أَنْتَ ٱلْمِصْرِيَّ ظن ذلك إما للفظة سمعها من الشعب وإما لشدة غضب الشعب الدالة على أنه كان من شر الناس والأمير لم يعهد شراً من المصري ولأن فتنة المصري كانت حديثة العهد ولأنه قد هرب والوالي أمر بالتفتيش عنه ووعد بإثابة من يمسكه. وذكر يوسيفوس هذا المصري في تاريخه المشهور وقال انه قائد فرقة اللصوص والقتلة الذين أقلقوا اليهودية وما جاورها وادعى أنه نبيّ فجمع نحو ثلاثين ألفاً من الأتباع ووعدهم بأنه إذا وقف معهم على جبل الزيتون يأمر أسوار أورشليم بالسقوط فتطيع أمره ويقودهم حينئذ لنهبها.
وقال في موضع آخر من ذلك التاريخ أن كثيرين من أتباعه زالت ثقتهم به فتركوه حتى أنه لما ذكر عددهم ثانية نقص كثيراً عما كان أولاً. وقال أن المصري أتى بجيشه من البرية إلى جبل الزيتون فحاربهم فيلكس الوالي هناك وقتل أربع مئة منهم وأسر مئتين وهرب المصري وتشتت سائر جيشه.
أَرْبَعَةَ ٱلآلاَفِ رَّجُلِ هذا أقل جداً من العدد الذي ذكره يوسيفوس ولا نعرف علة الفرق أَمن غلط الأمير هي أم من غلط يوسيفوس وربما ذكر الأمير الكماة منهم وذكر يوسيفوس عدد النفوس التابعة له من الرجال والنساء والأولاد.
ٱلْقَتَلَةِ ومعناهم في الأصل اليوناني المِشمَلّيون أي حملة المشامل وهي سيوف قصيرة تغطى بالثياب فكانوا يدخلون بين المزدحمين في المحافل والولائم والأسواق ويطعنون الناس خفية ويتوارون فلا يعلم بهم أحد. فكان كل من يبغض أحداً ويريد قتله سراً يستأجر بعض المشمليين ليقتله. وكانوا في أول أمرهم شرذمة قليلة ثم كثروا وصاروا جماعة كثيرة اشتهروا في أيام الحوادث المتعلقة بخراب أورشليم.
٣٩ «فَقَالَ بُولُسُ: أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ طَرْسُوسِيٌّ، مِنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ غَيْرِ دَنِيَّةٍ مِنْ كِيلِيكِيَّةَ. وَأَلْتَمِسُ مِنْكَ أَنْ تَأْذَنَ لِي أَنْ أُكَلِّمَ ٱلشَّعْبَ».
ص ٩: ١١ و٢٢: ٣
مَدِينَةٍ غَيْرِ دَنِيَّةٍ كان لبولس حق في أن يصف مدينته بذلك لأنها كانت عظيمة غنية وافرة المدارس العلمية منحها الرومانيون كثيراً من الامتيازات السياسية.
أَنْ أُكَلِّمَ ٱلشَّعْبَ كان بولس يأمل أن يقنع الشعب ببرائته مما اتُهم به ويتخذ ذلك فرصة ليبشرهم بيسوع وإنجيله.
٤٠ «فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ، وَقَفَ بُولُسُ عَلَى ٱلدَّرَجِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى ٱلشَّعْبِ، فَصَارَ سُكُوتٌ عَظِيمٌ. فَنَادَى بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ قَائِلاً».
ص ١٢: ١٧
أَذِنَ لَهُ تحقق الأمير مما قاله بولس في نفسه ومما ظهر له من هيئته أنه من الوجهاء وتوقع أن يعرف من خطابه علة ذلك الشغب فأذن له في الخطاب والظاهر أنه أمر أحد الجنديين بإطلاق إحدى يدي الرسول من سلسلتها بدليل أنه أشار بيده.
فَصَارَ سُكُوتٌ عَظِيمٌ كانت العلة الأولى لذلك وجود الأمير والعسكر والثانية رغبتهم في أن يعرفوا في أي الأمور كان الحديث بينه وبين الأمير على مرأى منهم. والثالثة استغرابهم طلب بولس أن يخاطبهم ولا سيما ما ذُكر من أنه خاطبهم بالعبرانية (ص ٢٢: ٢).
وَقَفَ... عَلَى ٱلدَّرَجِ كان ذلك منبراً غريباً والخطيب أغرب منه فإنه كان أسيراً محاطاً بالجنود وكان المخاطبون ألوفاً من الهائجين المغتاظين الراغبين في سفك دم خطيبهم.
بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ أي الآرامية وهي العبرانية الممزوجة بالكلدانية وكانت لغة الأمة اليهودية بعد رجوعها من بابل. والظاهر أنهم توقعوا أن يخاطبهم باليونانية لكنه اختار لغة الشعب الخاصة لكي يرضيهم شيئاً لأنه كان قد اتُهم باحتقار شريعتهم فخاطبهم بلغة الشريعة عينها.