الأصحاح الثاني عشر
التحذير من الرياء والخوف ع ١ إلى ١٢
١ «وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ إِذِ ٱجْتَمَعَ رَبَوَاتُ ٱلشَّعْبِ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَدُوسُ بَعْضاً، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِتَلاَمِيذِهِ: أَوَّلاً تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱلَّذِي هُوَ ٱلرِّيَاءُ».
متّى ١٦: ٦ ومرقس ٨: ١٥، متّى ١٦: ١٢
ذُكرت في هذا الأصحاح أقوال كثيرة قالها المسيح مراراً تقريراً لها في أذهان تلاميذه فعل سائر المعلمين. ففي هذا الأصحاح تسع وخمسون آية خمس وثلاثون منها ذُكرت في أوقات أخرى.
فِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ أي في مدة الحوادث التي ذُكرت في الأصحاح السابق.
ٱجْتَمَعَ رَبَوَاتُ ٱلشَّعْبِ لا نعلم في أي مكان من بيرية اجتمعوا إنما نعلم أن المسيح كان حينئذٍ مسافراً السفر الذي ذُكرت بداءته في ص ١١: ٢٩. وكانت مقاصد المجتمعين مختلفة فكان مقصد البعض مشاهدة الغرائب ومقصد البعض الاستفادة ومقصد البعض شفاء الأمراض ومقصد الآخرين الانتقاد والمقاومة.
لِتَلاَمِيذِهِ كان الخطاب السابق للكنيسة والفريسيين وهنا وجّه المسيح الكلام إلى المؤمنين به لا إلى الاثني عشر وحدهم.
خَمِيرِ أي تعليم الفريسيين. وذكر وجه المشابهة بين الخمير وتعليمهم في الشرح (متّى ١٦: ٦ و١٢).
ٱلرِّيَاءُ حذر المسيح التلاميذ أولاً من الرياء لأنهم في شديد الخطر منه لتعرضهم للاقتداء بالفريسيين المرائين الذين هم رؤساء الدين.
٢ «فَلَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ».
متّى ١٠: ٢٦ ومرقس ٤: ٢٢ وص ٨: ١٧
سبق تفسير هذه الآية في شرح بشارة متّى ١٠: ٢٧ وذكر المسيح فيها أحد أسباب تحذيره للتلاميذ من الرياء وهو أنه لا ينفع صاحبه لأنه ستر القداسة الخداعية الذي يتمزق فتظهر وراءه النجاسة وكثيراً ما يكون ذلك في هذه الحياة ولكن لا بد منه في يوم الدين.
٣ «لِذٰلِكَ كُلُّ مَا قُلْتُمُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ يُسْمَعُ فِي ٱلنُّورِ، وَمَا كَلَّمْتُمْ بِهِ ٱلأُذُنَ فِي ٱلْمَخَادِعِ يُنَادَى بِهِ عَلَى ٱلسُّطُوحِ».
الكلام هنا كالكلام في بشارة متّى (متّى ١٠: ٢٦) فانظر تفسيره هناك. قصد المسيح أن يكون تلاميذه شركاءه في نشر الحق فما علّمهم إياه على انفراد أراد أن ينادوا به علانية لكي ينادي به الذين يتعلّمون منهم. وبذلك ينتشر خبره في كل المسكونة. وكان التلاميذ يضطرون في أزمنة الاضطهاد أن يجتمعوا خفية ويعلّموا غيرهم سراً ولكن تعليمهم كله كان يظهر في وقت الأمن.
٤، ٥ «٤ وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذٰلِكَ لَيْسَ لَـهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ. ٥ بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ ٱلَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَـهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هٰذَا خَافُوا!».
إشعياء ٥١: ٧ و٨ و١٢ و١٣ وإرميا ١: ٨ ومتّى ١٠: ٢٨ ويوحنا ١٥: ١٤ و١٥
راجع الشرح متّى ١٠: ٢٧.
نتعلّم من هاتين الآيتين أن النفس تبقى حية بعد انفصالها عن الجسد. وأن قوة الناس على النفس تنتهي عند الموت. وكثيراً ما تعزّى الشهداء بهذا الكلام زمن الاضطهاد.
يَا أَحِبَّائِي هذه أول مرة ذُكر خطاب المسيح لتلاميذه بهذه الكلمة بياناً لمحبته وثقته بهم. وكررها أيضاً في بشارة يوحنا ١٥: ١٣ - ١٥.
ٱلَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ الخ هو الله وخوف الله يطرد خوف الناس من القلب.
٦، ٧ «٦ أَلَيْسَتْ خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا لَيْسَ مَنْسِيّاً أَمَامَ ٱللّٰهِ؟ ٧ بَلْ شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ أَيْضاً جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ! فَلاَ تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ!».
راجع الشرح متّى ١٠: ٢٩ - ٣١.
يظهر من هذا الكلام أن عناية الله تشمل الأمور الدقيقة وفي ذلك خير عزاء للمسيحي. وقد حقق المسيح لتلاميذه أن الله يعتني بهم عناية خاصة.
خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ جاء في متّى «عصفوران يباعان بفلس» وهنا خمسة بفلسين حسب عادة البيع أنه على قدر زيادة المبيع يقل الثمن. وكل ذلك بيان لخسة قدر العصافير وعظمة عناية الله وشمولها.
٨، ٩ «٨ وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ ٱعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، يَعْتَرِفُ بِهِ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ. ٩ وَمَنْ أَنْكَرَنِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، يُنْكَرُ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ».
متّى ١٠: ٣٢ ومرقس ٨: ٣٨ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ و١يوحنا ٢: ٢٣
راجع الشرح متّى ١٠: ٣٢ و٣٣.
جاء في بشارة متّى «قدام أبي الذي في السماوات» وهنا «قدام ملائكة الله» وكل من القولين يتضمن الآخر لأنه حيث الله في السماء فهنالك الملائكة وحيث الملائكة فهنالك الله.
١٠ «وَكُلُّ مَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَـهُ، وَأَمَّا مَنْ جَدَّفَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلاَ يُغْفَرُ لَـهُ».
متّى ١٢: ٣١ و٣٢ ومرقس ٣: ٢٨ و٢٩ و١يوحنا ٥: ١٦
انظر الشرح متّى ١٢: ٣١ و٣٢.
١١، ١٢ «١١ وَمَتَى قَدَّمُوكُمْ إِلَى ٱلْمَجَامِعِ وَٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَحْتَجُّونَ أَوْ بِمَا تَقُولُونَ، ١٢ لأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يُعَلِّمُكُمْ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا يَجِبُ أَنْ تَقُولُوهُ».
متّى ١٠: ١٩ ومرقس ١٣: ١١ وص ٢١: ١٤
انظر الشرح متّى ١٠: ١٧ - ٢٠.
تحذير من الطمع ع ١٣ إلى ٢١
١٣ «وَقَالَ لَـهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ: يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي ٱلْمِيرَاثَ».
وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ هو ليس بتلميذ لكنه أحد الحاضرين المهتمين بأمورهم الخاصة.
يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي من البلادة أن يطلب الإنسان أموره الخاصة الدنيوية في أثناء الكلام على الروحيات بدون الاعتبار الواجب للمتكلم وللسامعين وللحقائق التي هي موضوع الخطاب. وقد أخطأ هذا السائل غاية المسيح من مجيئه وظنه أتى لكي ينشئ مملكة عالمية يمارس وظائف الحكام السياسيين ويصلح ما فسد من الشرائع السياسية وذلك خلاف تلك الغاية لأنه لم يأت المسيح للتعرض للأمور السياسية بل ليؤسس ملكوتاً روحياً ويحث الناس على اقتناء كنز في السماء وميراث أبدي.
يُقَاسِمَنِي ٱلْمِيرَاثَ طريق قسمة الميراث بُنيت في شريعة موسى (تثنية ٢١: ٧). رأى هذا الرجل تأثير كلام المسيح في السامعين وشاء أن يستخدم ذلك التأثير في فصل الدعوة بينه وبين أخيه.
١٤ «فَقَالَ لَـهُ: يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟».
خروج ٢: ١٤ ويوحنا ١٨: ٣٦
مَنْ أَقَامَنِي الخ هذا استفهام إنكاري معناه أنه لم يقمه أحد قاضياً لا إنسان ولا الله. فلو حكم المسيح لذلك الرجل أو عليه لأقام نفسه مقام الحاكم السياسي وهو أبى ذلك على الدوام. نعم إن المسيح صرّح بأنه ملك إسرائيل لكنه بيّن أن ملكوته روحي (يوحنا ١٨: ٣٦). وهذا السبب الأعظم لرفضه ذلك الطلب. وكان لهذا سبب ثان دون ذاك وهو أنه لم يرد أن يترك حجة لأعدائه يشتكون بها عليه. وهذا كفعله في أمر الزانية (يوحنا ٨: ١١) وفي أمر إعطاء الجزية لقيصر (متّى ٢٢: ١٥). ولعلّ ذلك الإنسان كان آلة للفريسيين ليصطادوا المسيح بما يجيبه به. ومع أن المسيح أبى أن يتعرض لمثل ذلك الأمر علّم مبادئ إذا سلك الناس بمقتضاها بطلت الدعاوي وجرى العدل وأحب الإنسان غيره كنفسه.
وسلوك المسيح في هذا الأمر مثال حسن لكل خدمة الدين ليعتزلوا التعرض لأن يكونوا حكاماً سياسيين. واختبار الكنيسة يبين صلاح ذلك المبدإ أي أن لا يكون رؤساء الدين حكاماً سياسيين. وهذا وفق نصيحة بولس لتيموثاوس (١تيموثاوس ٤: ١٣ و١٤). وليس في ذلك ما ينافي قول الرسول في رسالته الأولى إلى الكورنثيين (١كورنثوس ٦: ١ - ٨) لأن الرسول نصح هنالك التلاميذ أن يقضوا دعاويهم بتوسط بعضهم لبعض بالحسنى.
١٥ «وَقَالَ لَـهُمُ: ٱنْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ ٱلطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ».
١تيموثاوس ٦: ٧ الخ، متّى ٤: ٤
تَحَفَّظُوا مِنَ ٱلطَّمَعِ الطمع شدة الرغبة في الخير الزمني وهو مخالف للوصية العاشرة (خروج ٢٠: ١٧) وعبادة للأوثان (كولوسي ٣: ٥). والأرجح أن المسيح رأى غاية ذلك السائل الطمع. والسائل نفسه أعلن ذلك بقطعه الحديث الروحي بطلبه الدنيوي. وعلى كل حال إنّ علّة الخلاف غالباً في قسمة الميراث هو الطمع الذي يحمل الواحد على أخذ أكثر من حقه والآخر على إباءته ما يحق له.
حَيَاتُهُ ذهب بعضهم أن المقصود هنا حياة الجسد فيكون معنى الآية على ذلك أن المقتنيات مهما كانت كثيرة لا تتكفل بحياة صاحبها لأنها لا تحميه من الموت. فالغني مهما وفر غناه لا يعيش إلى الأبد. وذهب البعض أن معنى الحياة هنا السعادة التي تجعل الحياة محبوبة. فالله مصدر سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة لا مقتنياته. وكلا المعنيين مستقيم ومفيد لأن حياة الإنسان الجسدية متوقفة على إرادة الله لا على المال وسعادته هبة من الله فليست نتيجة ثروته. ولكن خاتمة الكلام في ع ٢١ تدل على أن المقصود بالحياة هو السعادة الأبدية القائمة بكون الإنسان «غنياً لله».
مِنْ أَمْوَالِهِ لا بد من أن يترك كل إنسان أمواله عند الموت ولعله يضطر أن يتركها حالاً فلا يمكن أن تقوم سعادته الحقيقية بها بل بما يبقى له بعد الموت وإلى الأبد فالله وحده مصدر الحياة والسعادة.
١٦ «وَضَرَبَ لَـهُمْ مَثَلاً قَائِلاً: إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ».
لم يذكر هذا المثل أحد من البشيرين غير لوقا. ولا إشارة إلى أن ذلك الغني كان ظالماً. ويظهر أنه حصل على غناه بالوسائط العادية الجائزة وأن نجاحه هبة من الله بواسطة خصب كورته. فلو أحسن التصرف بثروته لكانت بركة له.
١٧ «فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟».
لم يحمله غناه على القناعة ولم يقه من عناء البال. فقصر اهتمامه على خزن أمواله وعزم على الاستعداد لزيادتها وهذا وفق قول الحكيم «مَنْ يُحِبُّ ٱلْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ ٱلْفِضَّةِ، وَمَنْ يُحِبُّ ٱلثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْلٍ» (جامعة ٥: ١٠). ووجه هذا الغني الخطاب إلى نفسه غير ملتفت إلى إرشاد الله. ولم يكترث بالإحسان إلى غيره مع أن أحسن الأمكنة لجمع أمواله بيوت فقراء الأرامل وأفواه جياع اليتامى فلو جمعها هنالك لكان كأنه جمعها في خزانة الله.
١٨، ١٩ «١٨ وَقَالَ: أَعْمَلُ هٰذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَّتِي وَخَيْرَاتِي، ١٩ وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَٱشْرَبِي وَٱفْرَحِي».
جامعة ١١: ٩ و١كورنثوس ١٥: ٣٢ ويعقوب ٥: ٥
خطئ هذا الإنسان بما أتاه (علاوة على ما أظهره به من غباوته) وذلك لستة أمور:
- الأول: أنه لم يفتكر في الله الذي وهب له تلك الخيرات فأنكر بقوله «غلاتي وخيراتي» إن مصدرها الله وأنه ليس سوى وكيل في التصرف بها.
- الثاني: أنه لم يبال بالفقراء وأظهر بقوله «أجمع في مخازني جميع غلاتي» إنه لم يقصد أن ينفق شيئاً منها على غيره. ولم يخطر على باله طريق من طرق التصرف بها سوى جمعها وبلعها.
- الثالث: أنه ظن نفسه الخالدة المخلوقة على صورة الله تشبع من الأطعمة الجسدية وخاطب نفسه بقوله «يا نفس لكِ خيرات كثيرة... استريحي وكلي الخ» كأنها نفس بهيمة وكأن الأكل والشرب أفضل النعم.
- الرابع: أنه لم يحسب حساب الموت وأظهر بقوله «خيرات موضوعة لسنين كثيرة» جهله احتمال أن يأتيه الموت في تلك الليلة عينها.
- الخامس: أنه لم يبال بالأبدية بعد الموت ولم يكترث بحاجات نفسه فيها.
- السادس: أن عاقبة الأمر أظهرت غباوته لأنه خسر نفسه وخسر السماء ولم يكن له أدنى شيء يعتاض به عن ذلك.
٢٠ «فَقَالَ لَـهُ ٱللّٰهُ: يَا غَبِيُّ، هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهٰذِهِ ٱلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟».
أيوب ٢٠: ٢٢ و٢٧: ٨ ومزمور ٥٢: ٧ ويعقوب ٤: ١٤، مزمور ٣٩: ٦ وإرميا ١٧: ١١
فَقَالَ لَـهُ ٱللّٰهُ إن ذلك الرجل لم يلتفت إلى الله لكن عدم التفاته إليه تعالى لم يمنع الله من أن يلتفت إليه. ولم نعلم كيف خاطبه الله أبصوت مسموع خاطبه أم برؤيا أم بإرسال ملاك الموت.
يَا غَبِيُّ أي يا جاهل. ظن ذلك الإنسان أنه حكيم بإعداده الأهراء والمخازن لجمع غلاته ولعلّ جيرانه حسبوه بذلك حكيماً سعيداً لكن الله حسبه «غبياً» وهو نفسه تيقن ذلك عند حلول الأجل وفوات الفرصة لإصلاح الخطأ.
هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ توقع ذلك الإنسان أن يحيا «سنين كثيرة» مع أن الساعات التي بقيت من حياته كانت أقل عدداً من السنين التي توقعها.
تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ المؤمن يستودع الله نفسه اختياراً لاعتقاده أنّه صديقه وأبوه وأما غير المؤمن فالله يطلب منه نفسه إجباراً. وعد ذلك الإنسان نفسه بالراحة والفرح باللذات الجسدية بقوله لنفسه «كلي واشربي وافرحي» ولكن الله طلب حضورها أمامه للمحاكمة والقضاء.
فَهٰذِهِ ٱلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ معنى هذا السؤال أن ذلك الإنسان لا يعرف لمن تكون. أتقسم على كثيرين أم يأخذها من يكره هو أن يرثه إنما يعرف أنه لا يبقى له حق فيها بعد موته دقيقة واحدة.
والسؤال هنا كالسؤال في سفر الجامعة وهو قوله «فَكَرِهْتُ كُلَّ تَعَبِي ٱلَّذِي تَعِبْتُ فِيهِ تَحْتَ ٱلشَّمْسِ حَيْثُ أَتْرُكُهُ لِلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَكُونُ بَعْدِي. وَمَنْ يَعْلَمُ، هَلْ يَكُونُ حَكِيماً أَوْ جَاهِلاً» (جامعة ٢: ١٨ و١٩ قابل بهذا مزمور ٣٩: ٦).
٢١ «هٰكَذَا ٱلَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلّٰهِ».
متّى ٦: ٢٠ وع ٣٣ و١تيموثاوس ٦: ١٧ إلى ١٩ ويعقوب ٢: ٥
هٰكَذَا أي مثل هذا الغبي. وضع المسيح أمامنا أمرين أحدهما إنسان غني والآخر الموت لنتحقق جهل من يتكل على الثروة لأن كل غنى ذلك الرجل لم ينفعه شيئاً ساعة موته. فمثل هذا غير مستعد للأبدية المستقبلة وليس له شيء من الكنوز السماوية.
يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ هذا وصف لكل إنسان دنيوي جعل نفسه أهلاً له وكنزه الأرضي نصيب تلك النفس الوحيد.
وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلّٰهِ الذي يكنز لنفسه فقط بدون التفات إلى الله أو المحتاجين من إخوته البشر فهو فقير لله إذ ليس له ميراث عنده. وهذا لا يقتضي أن اقتناء المال شر بل أنه شر للذي ينفقه على نفسه ولا يسأل عن نصيب آخر.
وأما الغني لله فهو الغني بالإيمان (يعقوب ٢: ٥) والغني بالإعمال الصالحة (ع ٣٣ ومتّى ٥: ٢٠ و١تيموثاوس ٦: ١٨). والغني بمحبة الله (رؤيا ٢: ٩ قابل ص ١٦: ١١ وأمثال ٨: ١٨ و١٩: ١٧).
فكل إنسان إما يجمع لنفسه وإما يجمع لله ومن المحال أن يجمع للاثنين معاً فعليه أن يختار أحدهما فإن اختار الأول هلك هو وكنزه معاً وإن اختار الثاني كان غنى الله غناه إلى الأبد وإن كان فقيراً على الأرض.
الاتكال على الله ع ٢٢ إلى ٣٤
٢٢ - ٣١ «٢٢ وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: مِنْ أَجْلِ هٰذَا أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَلاَ لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. ٢٣ اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ ٱللِّبَاسِ. ٢٤ تَأَمَّلُوا ٱلْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ، وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلاَ مَخْزَنٌ، وَٱللّٰهُ يُقِيتُهَا. كَمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ ٱلطُّيُورِ! ٢٥ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ ٢٦ فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ وَلاَ عَلَى ٱلأَصْغَرِ، فَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِٱلْبَوَاقِي؟ ٢٧ تَأَمَّلُوا ٱلزَّنَابِقَ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ، وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. ٢٨ فَإِنْ كَانَ ٱلْعُشْبُ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ فِي ٱلْحَقْلِ وَيُطْرَحُ غَداً فِي ٱلتَّنُّورِ يُلْبِسُهُ ٱللّٰهُ هٰكَذَا، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ؟ ٢٩ فَلاَ تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ تَقْلَقُوا، ٣٠ فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ ٱلْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ. ٣١ بَلِ ٱطْلُبُوا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ».
متّى ٦: ٢٥، أيوب ٣٨: ٤١ ومزمور ١٤٧: ٩، متّى ٦: ٣٣
سبق الكلام على ذلك الشرح متّى ٦: ٢٥ - ٣٣.
مِنْ أَجْلِ هٰذَا (ع ٢٢) أي لما سبق من بيان أن الغنى الدنيوي قليل النفع لصاحبه وكثير التجربة له.
لاَ تَهْتَمُّوا عدم الاهتمام بالحاجات الدنيوية هنا يقتضي الاتكال على الآب السماوي الذي يمنحها.
ٱلْغِرْبَانَ جاء في متّى بدل ذلك «الطيور» ولكن الذي يصح هنا على الغربان يصح على سائر الطيور فاتخذها بدلاً من الكل كما جاء في سفر أيوب (أيوب ٣٨: ٤١ ومزمور ١٤٧: ٩).
فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ الخ (ع ٢٦) لم يذكر هذه الآية سوى لوقا. ومعناه أن لا فائدة من الاهتمام إذ لا تزيد به الحياة شيئاً فالأجدر أنه لا يأتي بشيء من حاجات الحياة.
لاَ تَقْلَقُوا (ع ٢٩) لم ينقل هذا سوى لوقا ومعناه لا تضطربوا أي لا تترددوا بين الخوف والرجاء.
٣٢ «لاَ تَخَفْ أَيُّهَا ٱلْقَطِيعُ ٱلصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ ٱلْمَلَكُوتَ».
متّى ١١: ٢٥ و٢٦
لاَ تَخَفْ من عدم ما يقوم بالاحتياجات الجسدية فمن كان الله له أباً وصديقاً لزم أن لا يخاف.
ٱلْقَطِيعُ ٱلصَّغِيرُ شبّه المسيح تلاميذه بالخراف لأنه هو راعيهم الصالح (يوحنا ١٠: ١١) ونعت القطيع بالصغير لأن المشبهين به كانوا قليلين بالنسبة إلى الألوف والربوات الكثيرة من أهل هذا العالم وبالنسبة إلى كثرة أعدائهم. ولكن الله لا ينسى ذلك القطيع وإن كان صغيراً.
لأَنَّ أَبَاكُمْ يعلن الله ذاته لمختاريه أبا لا مجرد ملك أو ديان فيجب أن هذا يزيل همومهم بالنظر إلى حاجاتهم الجسدية.
أَنْ يُعْطِيَكُمُ ٱلْمَلَكُوتَ أي ملكوت السماء فمن المحال أن الله يسمح بأن ورثة غنى الملكوت السماوي يعوزهم وسائط هذه الحياة القصيرة لأن الأكبر يشتمل على الأصغر. فيجب أن التفكير في غناهم الروحي الدائم ينفي التفكير في فقرهم الجسدي الزائل.
٣٣ «بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لاَ تَفْنَى وَكَنْزاً لاَ يَنْفَدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، حَيْثُ لاَ يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلاَ يُبْلِي سُوسٌ».
متّى ١٩: ٢١ وأعمال ٢: ٤٥ و٤: ٣٤، متّى ٦: ٢٠ وص ١٦: ٦ و١تيموثاوس ٩: ١٩
انظر الشرح متّى ٦: ١٩ و٢٠.
بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً يحتمل أن المسيح قصد إتمام هذا الأمر حقيقة لتلاميذه حين تركوا كل شيء واتبعوه ليبشروا بكلام الله. ويحتمل أنه قصد أن تلاميذه الأولين يفعلون ذلك في أول نشوء الدين المسيحي وهم فعلوا كذلك (أعمال ٢: ٤٤ و٤: ٣٢). ويحتمل أن تكون الأحوال اليوم موجبة ذلك. وعلى كل حال ذلك واجب علينا إذا أمرنا المسيح به حقيقة. ولكن الأرجح أن المسيح لم يقصد حقيقة إنما أراد أن نتصرف بمالنا الدنيوي في طريق نصل بها إلى الكنز الروحي لأن البيع كثيراً ما يكون بدل شيء بشيء فالذي يعطي الفقراء إكراماً ليسوع يبدل كنزه الأرضي بالكنز السماوي.
نعم إنّ الخلاص هبة لا يمكن أن يُشترى بالصدقات لكن الإنسان البخيل الذي يحسب الغنى خيره الأعظم لا يقدر أن يدخل السماء. والسؤال هنا ليس عما يعمله الإنسان ليخلص بل ماذا يعمل الإنسان في حال الخلاص ليزيد سعادته في السماء.
اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لاَ تَفْنَى هذا مجاز حقيقته الغنى الروحي الأبدي.
٣٤ «لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكُمْ أَيْضاً».
انظر الشرح متّى ٦: ٢١.
الحث على السهر ومثل السيد والعبد ع ٣٥ إلى ٤٠
٣٥ «لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً».
متّى ٢٥: ١ الخ وأفسس ٦: ١٤ و١بطرس ١: ١٣
أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً هذا مجاز معناه أن يكونوا مستعدين للعمل ناشطين فيه غير منهمكين في أمور هذا العالم فكما أن اللابس الثوب الطويل بلا منطقة غير متأهب لسفر أو مستعد للسفر السماوي أو الخدمة الإلهية وأما مشدود الحقوين فهو عازم على العمل وشارع فيه (٢ملوك ٤: ٢٩ و٩: ١ وإرميا ١: ١٧ وأعمال ١٢: ٨).
وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً الإشارة هنا إلى عبيد يتوقعون رجوع سيدهم ليلاً. والمقصود من ذلك أن المسيح سيرجع بعد ذهابه عن تلاميذه إلى السماء. وسبق الكلام على مثل هذا في مثل العشر العذارى (متّى ٢٥: ١ - ١٣).
وقصد المسيح بهذا القول أن يحث تلاميذه على أن يتوقعوا رجوعه دائماً وهم متيقظون غير مثقلين بالنوم الروحي. ولنا من ذلك وجوب أن نستعد أبداً للموت ولرجوع المسيح والاستعداد لأحد هذين الأمرين هو عين الاستعداد للثاني. والذي أوقد الروح القدس في قلبه سُرج الإيمان والرجاء والمحبة والطاعة لا يخشى ظلمات وادي ظل الموت.
٣٦ «وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجِعُ مِنَ ٱلْعُرْسِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَـهُ لِلْوَقْتِ».
تختلف صورة هذا المثل عن صورة مثل العذارى لأن أولئك العذارى كن منتظرات مجيء العريس لكي يرافقن العروس إلى بيته والعبيد هنا كانوا ينتظرون رجوع سيدهم إليهم من العرس وهم في بيته. وهذا السيد إما العريس نفسه يرجع بالعروس ورفيقاتها من بيت أبيها وإما أحد أصحاب العريس حضر الوليمة وعاد.
يَفْتَحُونَ لَـهُ لِلْوَقْتِ هذا إشارة إلى كونهم منتبهين ومستعدين.
٣٧ «طُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ ٱلَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ».
متّى ٢٤: ٤٦
أشار المسيح بهذا إلى إثابته تلاميذه الأمناء المتوقعين رجوعه. وأظهر السيد في المثل تنازلاً غريباً بأنه خدم عبيده. نعم إنّه جرت العادة أن يخدم رب البيت ضيوفه كما فعل إبراهيم وهو غير عالم أن ضيوفه ملائكة (تكوين ١٨: ٧ و٨) ولكن لم تجر العادة أن يخدم السيد عبيده. وأظهر لهم علاوة على ذلك التنازل اعتباراً وإكراماً ومحبة. وأتى سيدنا يسوع المسيح مثل هذه الخدمة بغسله أرجل تلاميذه (يوحنا ١٦: ٤ - ١٢). وأبان بهذا المثل ما قصد أن يفعله لخدامه الأمناء يوم عرسه السماوي. ولا نستطيع أن ندرك الآن كل ما تضمنه هذا التشبيه من الإكرام والسعادة لكننا نعلم أن سعادة المؤمنين تكون كاملة حتى كأن سيدهم نفسه خادمهم هناك. وهذا أمر لو طلبنا شيئاً مثله لكان من أغرب مطامع الطمع.
٣٨ «وَإِنْ أَتَى فِي ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّانِي أَوْ أَتَى فِي ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّالِثِ وَوَجَدَهُمْ هٰكَذَا، فَطُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ».
ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّانِي أي الربع الثاني من الليل وقد سبق الكلام على أقسام الليل في الشرح (متّى ١٤: ٢٥).
ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّالِثِ أي الربع الثالث من الليل وهو ثلاث ساعات بعد نصف الليل. ولم يذكر هنا الهزيع الأول لأنه لم يكن الوقت المناسب للعرس حسب العوائد ولم يذكر الهزيع الرابع لأن العرس ينتهي غالباً قبله. ويغلب أن يكون الناس عرضة للسبات في الهزيع الثاني والثالث خلافاً لتعرضهم في الأول والرابع.
وَوَجَدَهُمْ هٰكَذَا أي ساهرين مستعدين متوقعين رجوعه.
طُوبَى الخ كرر هذه العبارة لزيادة التقرير.
٣٩، ٤٠ «٣٩ وَإِنَّمَا ٱعْلَمُوا هٰذَا: أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي ٱلسَّارِقُ لَسَهِرَ، وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. ٤٠ فَكُونُوا أَنْتُمْ إِذاً مُسْتَعِدِّينَ، لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَان».
متّى ٢٤: ٤٣ و١تسالونيكي ٥: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠ ورؤيا ٣: ٣ و١٦: ١٥، متّى ٢٤: ٤٤ و٢٥: ١٣ ومرقس ١٣: ٣٣ وص ٢١: ٣٤ و٣٦ و١تسالونيكي ٥: ٦ و٢بطرس ٣: ١٢
علّم المسيح تلاميذه وجوب السهر بمثل آخر وهو مثل إنسان سُرق بيته لعدم سهره. وقد ضرب المسيح هذا المثل في وقت آخر. وقد سبق تفسيره في الشرح (متّى ٤٢: ٤٣ و٤٤). وقد جاء هذا التشبيه في سفر الرؤيا ٣: ٣ و١٦: ١٥.
يَأْتِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ انظر الشرح مرقس ١٣: ٣٣.
صرّح المسيح بهاتين الآيتين أنه لا يمكن تلاميذه أن يعرفوا وقت مجيئه الثاني. وترك الوقت مجهولاً ليكون تلاميذه مستعدين أبداً ليتوقعوا مجيئه ساعة فساعة.
مثَل الوكيلين ع ٤١ إلى ٤٨
٤١ «فَقَالَ لَـهُ بُطْرُسُ: يَا رَبُّ، أَلَنَا تَقُولُ هٰذَا ٱلْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضاً؟».
هٰذَا ٱلْمَثَلَ لعلّ بطرس عنى «بهذا المثل» كل ما ذكر بين الآية الثانية والثلاثين والآية الأربعين من التحاذير والوصايا والتشابيه والمواعيد وسماها كلها مثلاً لأن أكثر ألفاظها مجاز. أو لعله قصد مجرد ما قيل في الآية السابعة والثلاثين من خدمة السيد للعبد. وأراد بطرس ان يعرف هل هذا الكلام للتلاميذ فقط أو هو لكل الجمع.
٤٢ - ٤٦ «٤٢ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: فَمَنْ هُوَ ٱلْوَكِيلُ ٱلأَمِينُ ٱلْحَكِيمُ ٱلَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ ٱلْعُلُوفَةَ فِي حِينِهَا؟ ٤٣ طُوبَى لِذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ ٱلَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هٰكَذَا! ٤٤ بِٱلْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. ٤٥ وَلٰكِنْ إِنْ قَالَ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ ٱلْغِلْمَانَ وَٱلْجَوَارِيَ، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَرُ. ٤٦ يَأْتِي سَيِّدُ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا، فَيَقْطَعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ ٱلْخَائِنِين».
متّى ٢٤: ٤٥ و٢٥: ٢١ و١كورنثوس ٤: ٢، متّى ٢٤: ٤٧، متّى ٢٤: ٤٨ الخ، متّى ٢٤: ٥١
أتى المسيح بمثل هذا الكلام في غير هذا الوقت وغير هذه الأحوال وسبق تفسيره في الشرح (متّى ٢٤: ٤٥ - ٥١).
فَقَالَ ٱلرَّبُّ لم يجب المسيح بطرس بالجواب الصريح بل بما يتضمن معناه وهو أن الوعد في ع ٣٧ لم يقصر على الاثني عشر فهو لكل وكيل أمين حكيم من تلاميذه.
ٱلْوَكِيلُ كاليعازر في بيت إبراهيم وكيوسف في بيت فوطيفار.
ويصح هذا اللقب على كل المسيحيين لأنهم استودعوا مواهب لا بد من أن يحاسبوا عليها فعليهم اليوم واجبات ولأمنائهم غداً ثواب عظيم لكنه يصح أكثر على خدمة الدين لأنهم يخدمون الكنيسة التي هي بيت الله (١كورنثوس ٤: ١) فكل ما قيل هنا يصدق على كل المسيحيين ولا سيما خدمة الدين.
٤٧، ٤٨ «٤٧ وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيراً. ٤٨ وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيراً يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ».
عدد ١٥: ٣ وتثنية ٢٥: ٢ ويوحنا ٩: ٤١ و١٥: ٢٢ وأعمال ١٧: ٣٠ ويعقوب ٤: ١٧، لاويين ٥: ١٧ و١تيموثاوس ١: ١٣
لم يذكر هذا إلا لوقا. أتى المسيح فيما سبق بما يتضمن الجواب عن سؤال بطرس في ع ٤١ وهو أن كل المؤمنين وكلاء وكلهم مأمورون بذلك وموعودون بالثواب عليه. وأتى في هذين العددين بما يتضمن أنه على المتوظفين في كنيسته المسؤولية العظمى وأن لهم الثواب الأعظم إذا كانوا أمناء والعقاب الأشد إذا كانوا خائنين.
وصرّح المسيح هنا بمبدأ ديني وهو أن مسؤولية الإنسان على قدر معرفته وسمو رتبته ووسائطه وبمقتضى هذا المبدأ يدان في اليوم الأخير.
ٱلَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ كالرسل والتلاميذ الذين سمعوا تعليم المسيح شفاهاً وكل من وصلهم كتاب الله.
لاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ أي لا يتوقع قدوم سيده ولا يسهر ليعد له ما يلزم ولا يقوم بما أوجبه عليه.
فَيُضْرَبُ كَثِيراً هذا مجاز مبني على نسبة السادة إلى العبيد في بيوتهم فإنهم يعاقبون الخائنين من عبيدهم بالضرب. وبالمعنى أن الخطأة الذين يخطئون على رغم ضمائرهم ونص كتاب الله يعاقبون عقاباً شديداً في هذا العالم أحياناً وفي العالم الآتي أبداً.
ٱلَّذِي لاَ يَعْلَمُ لم يرد المسيح بهذا الذي يجهل إرادة الله كل الجهل بل الذي معرفته بالنسبة إلى معرفة المذكور آنفاً كلا شيء فإن معرفة الأول ليست بكاملة فكذلك جهالة الآخر. حتى أن للوثنيين شيئاً من معرفة إرادة الله بواسطة شهادة ضمائرهم وما كتبه الله من صفاته على صفحات الخليقة فليس لخاطئ من عذر (رومية ١: ١٩ و٢٠ و٣٢ و٢: ١٤ و١٥).
يُضْرَبُ قَلِيلاً بالنسبة إلى العلماء وعلى قدر ما له من المعرفة. وعلّة عقابه ليست مخالفته لأوامر مجهولة بل لفعله ما يستحق عليه العقاب وهو مخالفة أنوار الضمير والطبيعة.
ولنا من هذين العددين أن عقاب جهنم درجات كما أن الثواب في السماء أنواع. وهذا وفق ما قيل في (ص ١٠: ١٢ و١٣ و١كورنثوس ١٥: ٤١).
كُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً الخ التعليم هنا مثل التعليم في مثل الوزنات (متّى ٢٥: ١٥ - ٢٩).
إنباء المسيح بمقاومة العالم لدينه ص ٤٩ إلى ٥٣
٤٩ «جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى ٱلأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ ٱضْطَرَمَتْ؟».
ع ٥١
نَاراً النار في الكتاب المقدس عبارة عن ثلاثة أمور رمزية:
- الأول: الرمز إلى تطهير المؤمنين (ملاخي ٣: ٢) بفعل الروح القدس (متّى ٣: ١١).
- الثاني: الرمز إلى الغضب والهلاك (٢تسالونيكي ١: ٨ وعبرانيين ١٢: ٢٩).
- الثالث: الرمز إلى الحروب والمقاومات (مزمور ٦٦: ١٢ وإشعياء ٤٣: ٢ و١بطرس ٤: ١٢) ونتيجته أمران اضطهاد المؤمنين وقتياً. وإبادة الشر أخيراً. والقرينة تدل على أن المعنى هنا الثالث وهي قوله «انقساماً» (ع ٥١) ونتيجته في ع ٥٢ و٥٣.
قال المسيح أن النتيجة الأولى من دخول دينه هذا العالم المملوء ضلالاً وخطيئة هي مقاومة الأعداء لذلك الدين. فيكون كشعلة بين يابس الحطب لأنه يهيج على نفسه كل الانفعالات الطبيعية البشرية الفاسدة. على أن المسيح قصد بذلك الدين إصلاح العالم وإحراق ما فيه من فساد العقائد والأعمال. فاستعارته النار لتأثير دينه في العالم كاستعارته السيف له (متّى ١٠: ٣٤) وقد مرّ تفسيره في محله.
وكل ما ذُكر هنا أول تأثير للدين المسيحي في العالم وأما النتيجة الأخيرة فهي تطهير العالم من الضلال والإثم؟
كان المسيح على الصليب أول ما اتقدت نار الاضطهاد هذه وهو احتمل أشد لهبها. فوقع عليه بعض الأشعة من حرّها بمقاومة الفريسيين له كما ذكر في ص ١١: ٥٣ و٥٤ وأحاط به كل لهبها حين سلّمه رؤساء الكهنة إلى بيلاطس وأماتوه صلباً. ولم تزل بشارة المصلوب منذ يوم صُلب إلى اليوم كإلقاء النار على الأرض فكانت علّة الاضطهاد لتابعيه والإبادة للضلال.
مَاذَا أُرِيدُ لَوِ ٱضْطَرَمَتْ نقول في هذا:
- إن كلمات المسيح هذه تدل على شدة اشتياقه واضطراب أفكاره يومئذ. ومما يدل على ذلك أن كلامه هنا متقطع. ومثله ما جاء في ع ٢٧ و٢٨ من ص ١٢ من إنجيل يوحنا.
- إن معنى المسيح أوضح مما هو في الألفاظ المعبّر بها عنه. وبيان ذلك أن «لو» إما مصدرية فتكون هي وصلتها مفعول به لمحذوف والتقدير «أريد اضطرامها» وهو جواب قوله «ماذا أريد». وإما حرف تمنٍ فيكون المعنى «ليتها اضطرمت». وإما شرطية والجواب محذوف فيكون المعنى «إن اضطرمت فاضطرامها هو مطلوبي فدعوها متقدة وإن كنت أول محترق في لهبها».
- إن يسوع علّم أن إنجيله لا يدخل العالم إلا بأن يحتمل هو أشد الآلام فنفرت طبيعته البشرية من ذلك الألم ولكن لأنه هو الوسيلة الوحيدة لإتمام عمل الفداء اشتاق إلى توقد نيرانه حتى صعب عليه أن يصبر إلى أن تتقد. فكان تردده بين هذين الأمرين من اضطراب أفكاره.
- إنه علّم أيضاً أن إنجيله لا يدخل العالم إلا بأن يكون علّة مقاومة لتلاميذه وانقسام واضطهاد وقتل وأن عاقبة ذلك كله انتصار الحق وإبادة الضلال وتطهير العالم من دنس الخطية. فكان من علل اضطراب أفكاره تردده بين الحزن على تلاميذه والفرح بنتيجة آلامهم.
ذهب بعضهم إلى استحالة كون النار هنا رمزاً إلى الانقاسامات والاضطهادات لأنهم لم يستطيعوا تصور أن المسيح يفرح بها ويشتاق إليها لكن فرحه بذلك كمسرة بولس في ضيقاته (٢كورنثوس ٧: ٤).
- إنه علّم أيضاً أن دخول إنجيله يكون علّة إيقاد نيران الحروب والنوازل في العالم وأن لا خلاص ولا انتصار ولا تطهير كامل إلا بها فلذلك اشتاق إلى اضطرامها.
٥٠ «وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟».
متّى ٢٠: ٢٢ ومرقس ١٠: ٣٨
صِبْغَةٌ أشار المسيح بهذه الصبغة إلى آلامه وموته كما جاء في بشارة (متّى ٢٠: ٢٢). فعلى الكنيسة الآن أن تشارك المسيح في صبغة الآلام.
وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ أي أنا بين أمرين متضادين أريد كلاً منهما. فهذه الحال كحال بولس المذكور في رسالته إلى أهل (فيلبي ١: ٢٣). فإن يسوع كان يشتهي أن يكمل عمل الفداء بموته من أجل الخطاة وكانت طبيعته البشرية تنفر من الآلام التي يقتضيها إيفاؤه الدين عن العالم. وهذا المعنى يقرب من معنى الآية السابقة. وانفعالات المسيح هنا كانفعالاته في بستان جثسيماني. والذي عبّر عنه بالصبغة هنا عبّر عنه بالكأس هناك (ص ٢٢: ٤٢ ويوحنا ١٢: ٢٧).
٥١ - ٥٣ «٥١ أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى ٱلأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ ٱنْقِسَاماً. ٥٢ لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ ٱلآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى ٱثْنَيْنِ وَٱثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. ٥٣ يَنْقَسِمُ ٱلأَبُ عَلَى ٱلابْنِ وَٱلابْنُ عَلَى ٱلأَبِ، وَٱلأُمُّ عَلَى ٱلْبِنْتِ وَٱلْبِنْتُ عَلَى ٱلأُمِّ، وَٱلْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَٱلْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا».
متّى ١٠: ٣٤ وع ٤٩، ميخا ٧: ٦ ويوحنا ٧: ٤٣ و٩: ١٦ و١٠: ١٩، متّى ١٠: ٣٥
معنى الكلام هنا كمعنى الكلام في بشارة متّى ١٠: ٣٤ - ٣٦ فارجع إلى الشرح هناك.
أَتَظُنُّونَ الخ سأل يسوع تلاميذه ذلك ليزيل من أفكارهم توقع انتصار ملكوت المسيح المجيد بدون المقاومة والآلام فكأنه قال لا تظنوا الخ.
توبيخ المسيح الناس على عدم تمييزهم الوقت ع ٥٤ إلى ٥٩
٥٤ - ٥٧ «٥٤ ثُمَّ قَالَ أَيْضاً لِلْجُمُوعِ: إِذَا رَأَيْتُمُ ٱلسَّحَابَ تَطْلُعُ مِنَ ٱلْمَغَارِبِ فَلِلْوَقْتِ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَأْتِي مَطَرٌ. فَيَكُونُ هٰكَذَا. ٥٥ وَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحَ ٱلْجَنُوبِ تَهُبُّ تَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ. فَيَكُونُ. ٥٦ يَا مُرَاؤُونَ، تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاءِ، وَأَمَّا هٰذَا ٱلزَّمَانُ فَكَيْفَ لاَ تُمَيِّزُونَهُ؟ ٥٧ وَلِمَاذَا لاَ تَحْكُمُونَ بِٱلْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ؟».
متّى ١٦: ٢
قد مرّ تفسير هذه الآيات في الشرح (متّى ١٦: ٢ و٣) وذكر متّى أن المسيح خاطب بذلك الكتبة والفريسيين وذكر لوقا أنه خاطب به الناس الذين اقتدوا بهم لكن الوقت في رواية متّى غير الوقت في رواية لوقا. وذكر متّى بعض الآثار الجوية على أسلوب لم يأته لوقا وأبان أن حمرة السماء مساءً علامة الصحو وأبان لوقا أن نشوء السحاب من المغرب علامة مطر وهبوب ريح الجنوب علامة حرٍ وذلك مثل ما جاء في سفر الملوك الأول (١٨: ٤٤) ونبوءة إرميا (٤: ١١).
يَا مُرَاؤُونَ (ع ٥٦) دعاهم مرائين لأنهم لم يحبوا الحق ولم يبحثوا عنه ولم يميزوه مع ادعائهم أنهم أصحاب الحق.
تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ ٱلأَرْضِ لعلّ اليهود اعتادوا تمييز علامات كل من الصحو والمطر بمراقبة قدر الندى على الأرض ومراقبة أوراق النبات فكانوا حكماء في تمييز علامات المطر والحر وجهلاء في تمييز البراهين على أن المسيح قد أتى وهو قائم في وسطهم.
أَمَّا هٰذَا ٱلزَّمَانُ أي زمان مجيء المسيح وعلامات ذلك التي كان عليهم أن يميزوها إتمامه النبوءات المتعلقة به ومجيء يوحنا المعمدان سابقه والمعجزات التي فعلها والتعاليم التي أتى بها.
ٱلْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ (ع ٥٧) أي بمقتضى شهادة عقولكم وضمائركم غير ملتفتين إلى قضاتكم الخادعين الذين منعوكم من الحكم الصحيح في شأن علامات زمان المسيح. «والحق» هنا أن ملكوت المسيح أتى ودعواه أنه المسيح حقة.
٥٨، ٥٩ «٥٨ حِينَمَا تَذْهَبُ مَعَ خَصْمِكَ إِلَى ٱلْحَاكِمِ، ٱبْذُلِ ٱلْجَهْدَ وَأَنْتَ فِي ٱلطَّرِيقِ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ، لِئَلاَّ يَجُرَّكَ إِلَى ٱلْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ ٱلْقَاضِي إِلَى ٱلْحَاكِمِ، فَيُلْقِيَكَ ٱلْحَاكِمُ فِي ٱلسِّجْنِ. ٥٩ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ ٱلْفَلْسَ ٱلأَخِيرَ».
مزمور ٣٢: ٦ وأمثال ٢٥: ٨ وإشعياء ٥٥: ٦ ومتّى ٥: ٢٥، مرقس ١٢: ٤٢ وص ٢١: ٢
تكلم المسيح بهذا الكلام أيضاً في وعظه على الجبل فراجع الشرح هناك (متّى ٥: ٢٥). ومعناه وجوب تجنب رفع الدعاوي إلى الحكومة على قدر الإمكان لأنها علّة القلق والاضطراب والنفقات وتعرض الإنسان لخطر السجن فلذلك يجب أن يصالح الإنسان خصمه قبل أن تُرفع الدعوة إلى القاضي ويبتّ الحكم.
والعلاقة بين هاتين الآيتين وما قبلهما غير واضحة. ظن البعض أنهما من متعلقات قسمة الميراث التي ذكر في ص ١٢: ١٣ وكانت علّة قسم كبير من هذا الخطاب. ولا دليل على أن الكلام هنا مجاز. ولكن إذا أراد أحد أن يتخذه مجازاً رأى المعنى أنه من أحسن الحكمة أن يتصالح الإنسان مع الله بالتوبة والإيمان قبل فوات الوقت وحلول النقمة على الأمم والأفراد. وعلى هذا يكون الله هو القاضي والحاكم معاً.
الأصحاح الثالث عشر
قتل الجليليين ع ١ إلى ٥
١ «وَكَانَ حَاضِراً فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ ٱلْجَلِيلِيِّينَ ٱلَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ».
فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي وقت الخطاب الذي ذُكر في ص ١٢.
ٱلْجَلِيلِيِّينَ هم سكان القسم الشمالي من الأقسام الثلاثة التي قسمت فلسطين إليها (وهي الجليل والسامرة واليهودية) وكانوا تحت حكم هيرودس لا حكم بيلاطس وكانوا أقل تمدناً من سائر سكان فلسطين وأقل خضوعاً لنير الرومانيين وكثيري الفتن.
خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ كان يبلاطس وقتئذ والي اليهودية وكان قاسياً ظالماً يحب سفك الدم فالظاهر أنه أرسل عساكره إلى الجليليين بغتة وهم يقدّمون ذبائحهم في دار الهيكل في أورشليم. ولعلهم كانوا فعلوا شيئاً في المدينة هيّج غضب بيلاطس.
ولم يذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي هذا القتل لكن ذلك لا ينفي الواقع لأن مثل هذه الحوادث أو ما هو أعظم منها كان كثير الوقوع في أيام بيلاطس ولكن ذكر يوسيفوس أن الجليليين كانوا أشراراً جداً وكثيري الميل إلى الفتن. ولم يتضح سبب إخبار الحاضرين يسوع بهذه الحادثة. ولعلّ ذلك جدّة الحادثة ورغبة الناس في إشاعة الأخبار ليظهروا انفعالاتهم ويهيجوا عداوة غيرهم على الظالم.
٢ «فَقَالَ يَسُوعُ لَـهُمْ: أَتَظُنُّونَ أَنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ ٱلْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هٰذَا؟».
تكوين ٤٣: ٢١ وأعمال ٢٨: ٤
سألهم المسيح ذلك إصلاحاً لخطائهم بالحكم من ثلاثة أوجه:
- الأول: ظنهم اولئك الجليليين شراً من غيرهم لأن الله سمح بوقوع تلك النازلة عليهم وهي شر من الموت الطبيعي.
- الثاني: استنتاجهم ذلك أيضاً من أن الجليليين قُتلوا وهم يقدّمون الذبائح التي غايتها إرضاء الله. وحكمهم بأن سماح الله بقتلهم حينئذ علامة رفضه تعالى إلى تقدماتهم لفظاعة آثامهم.
- الثالث: كونهم بنوا حكمهم على خطإ كان شائعاً بين عامة اليهود وهو أن كل نازلة عقاب إثم معيّن. وذلك كحكم أصحاب أيوب عليه. وحكم أهل مليطة على بولس (أعمال ٢٨: ٤). ويتفرع على هذا الحكم الباطل خطاءٌ آخر وهو أن الذي لا يموت كذلك هو بار.
٣ «كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ».
كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ نستفيد من هذا الجواب ثلاثة أمور:
- الأول: أن المسيح لم ينكر أنهم خطاة وأنهم مستحقون العقاب وأن بين الخطية والمصيبة علاقة العلّة بالمعلول لكل بني البشر ولم ينكر أن الإنسان قد يعاقب على بعض الخطايا في هذه الحياة.
- الثاني: أنه أنكر كون هؤلاء الجليليين وحدهم خطأة وأن تلك النازلة برهان على ذلك وأنها أتت عليهم لإثم خاص وفقاً لاعتقاد العامة يومئذ.
- الثالث: أنه أنكر النتيجة التي استنتجوها (اي المخاطبون) وهي أنهم ليسوا بمذنبين لأنه لم يقع عليهم مثل تلك النازلة.
إِنْ لَمْ تَتُوبُوا حول المسيح أفكارهم عن ذنوب غيرهم إلى ذنوب أنفسهم وحكم بأن جميع الجليليين الذين قُتلوا والمخاطبين مذنبون ومستحقون الهلاك وأن الطريق التي تؤدي إلى النجاة للأحياء هي التوبة سريعاً.
فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ الهلاك المقصود هنا إما بيد الرومانيين كما جرى بعد ذلك بنحو أربعين سنة حين أُخرجت مدينتهم وإما بسيف عدل الله. وفحوى كل ما مرّ إصلاح خطإ اليهود بحكمهم بأن المصائب نتيجة ضرورية لخطايا خاصة وتحذير لأمة اليهود من دينونة الله المعدة لها وحثها على التوبة في الحال. وفي هذا إنباء لكل خطاة الأرض غير التائبين بالهلاك الآتي عليهم الذي كان قتل الجليليين رمزاً إليه.
٤، ٥ «٤ أَوْ أُولَئِكَ ٱلثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ٱلَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ ٱلْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَـهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هٰؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ ٥ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ».
نحميا ٣: ١٥ ويوحنا ٩: ٧
أُولَئِكَ ٱلثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ذكر المسيح نازلة أخرى كالأولى والأرجح أنها كانت حديثة العهد مشهورة لكل الحاضرين وأنهم قد استحقوا منها مثل الذي استنتجوه من قتل الجليليين (ع ٢).
ٱلْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ عين سلوام أو بركة سلوام (يوحنا ٩: ٧) خارج سور أورشليم في جهة الجنوب الشرقي والبرج المذكور هنا إما بناء مستقل قرب العين وإما بناء على السور فوق البركة وكذلك سُمي برج سلوام (نحميا ٣: ١٥).
أَتَظُنُّونَ الخ لعلّ السبب الذي حمل المسيح على ذكر هذه الحادثة مع تلك أن الذين قُتلوا فيها ليسوا جليليين وأن الله قتلهم بلا توسط الناس. ومضمون كلام المسيح هنا أن النوازل تصيب اليهود والجليليين وسائر الناس على السواء. وأنها سواء كانت من الله رأساً أو بواسطة الناس ليست بدليل على أن المصابين بها شر من غيرهم. وأن الموت الزمني رمز إلى الموت الروحي. وأن كل نازلة إنذار بالهلاك المعد للباقين إن لم يهربوا منه بواسطة التوبة. وهذا قصد المسيح الأعظم من هذا المثل فيجب علينا أن نحسب كل المجاعات والأوبئة والزلازل والطوفان والزوابع دواعي للناس إلى التوبة.
ولم يقصد المسيح فكره وقتئذ على برج واحد من أبراج أورشليم يسقط على ثمانية عشر رجلاً من اليهود بل رأى بعين النبوءة كل أسوار تلك المدينة وهياكلها وقصورها وبيوتها ساقطة معاً على ألوف وربوات من الشعب فلذلك حذر اليهود وحثهم على التوبة.
ونظر أيضاً حوادث يوم الدين والهلاك الذي يقع على عالم الخطاة ولذلك رفع صوته بإنذارهم وحثهم على التوبة. وهذا أنذار وحث لنا أيضاً.
مثل التينة العقيم ع ٦ إلى ٩
٦ «وَقَالَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ، فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً وَلَمْ يَجِدْ».
إشعياء ٥: ٢ ومتّى ٢١: ١٩
ضرب المسيح هذا المثل بعد أن دعا الناس إلى التوبة بياناً أن إبطاء الله في إجراء الدينونة على الخطأة إنما هو ليعطيهم فرصة للتوبة وأنهم إن لم يتوبوا عوقبوا لا محالة.
لِوَاحِدٍ أشار بهذا الواحد إلى الله.
شَجَرَةُ تِينٍ ... فِي كَرْمِهِ قصد المسيح بهذه الشجرة الأمة اليهودية لأنه جعل لها أفضل الوسائط لكي تأتي بأثمار البرّ لمجده تعالى.
أَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً أشار بذلك إلى أن الله طلب من إسرائيل في كل العصور الخالية أثمار المحبة والإيمان والطاعة التي له حق أن ينتظرها.
وَلَمْ يَجِدْ كان عقم شجرة التين إشارة إلى إثم الأمة اليهودية وكان يؤنبهم على ذلك بفم أنبيائه على توالي الأزمنة (إشعياء ٥: ٢ و٧ وإرميا ص ١٥ وهوشع ١٠: ١).
٧ «فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هٰذِهِ ٱلتِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ ٱلأَرْضَ أَيْضاً؟».
تكوين ٦: ٣ ويوحنا ١٤: ١٦ وورمية ٨: ٢٦ و٢٧
هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ هذا وقت طويل بالنسبة إلى عمر شجرة تين وهو كاف لامتحان الشجرة ليتبين أمثمرة هي أم عقيم. والقصد من ذلك أن الله أعطى شعبه فرصة كافية لكي يرى هل يطيعون وصاياه أو لا. وليس في عدد السنين هنا من إشارة إلى عدد سني وعظ المسيح وإلا وجب أن يكون خراب أورشليم بعد ذلك بسنة واحدة ولكن ذلك لم يقع إلا بعد أربعين سنة.
اِقْطَعْهَا يظهر لنا أن قضاء صاحب الكرم بقطعها مما يتوقع طبعاً في مثل تلك الأحوال. ومن الحق والعدل أن يجري الله رب الشريعة الديان مثل هذا القضاء على شعب غير طائع لأوامره.
لِمَاذَا تُبَطِّلُ ٱلأَرْضَ هذا علّة قطعها فإنها لا تنفع شيئاً وتشغل محل شجرة أخرى مثمرة وتأخذ بعض قوة الأرض عبثاً. كذا كانت أمة اليهود أي أنها كانت غير نافعة بل مضرة لأنها أغاظت الله وعصت أوامره وكانت عثرة لغيرها فصدق عليها قول الرسول «لأَنَّ ٱسْمَ ٱللّٰهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ» رومية ٢: ٢٤). وكذلك كل إنسان لا يأتي بثمر البرّ لأنه علاوة على عدم نفعه مضرّ بكونه عثرة لغيره في سبيل الخلاص.
٨ «فَأَجَابَ: يَا سَيِّدُ، ٱتْرُكْهَا هٰذِهِ ٱلسَّنَةَ أَيْضاً، حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً».
فَأَجَابَ أي الكرام. ويراد به هنا الرب يسوع المسيح الوسيط العظيم الوحيد بين الله والناس (أيوب ٣٣: ٢٣ وزكريا ١: ١٢ وعبرانيين ٧: ٢٥).
ٱتْرُكْهَا هٰذِهِ ٱلسَّنَةَ أَيْضاً لم يرد أن تترك الشجرة في عقم دائم بل أن تمهل ليسعى في إصلاحها.
أَنْقُبَ حَوْلَهَا الخ أي أستعمل كل الوسائط المناسبة لتغذية الشجرة وتنشيطها. وكذا لم يطلب المسيح من الآب أن يترك الإسرائيليين في عصيانهم وإثمهم بل أن يمهلهم مدة قبل إجراء القضاء وهو يستعمل كل وسائط النعمة لعلهم يتوبون ويأتون بأثمار تليق بالتوبة. وتلك الوسائط هو موته للفداء وقيامته وحلول الروح القدس وتعاليم رسله والمعجزات التي أتوها لإثبات مرسليتهم.
٩ «فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً، وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا».
هذا هو مطلوب صاحب الكرم والكرام كليهما فإن حصل سلمت الشجرة. وما يصح على الشجرة يصح على اليهود فلم يقل المسيح لهم أعلم أنكم لا تتوبون وأنه لا بد من أن تهلكوا لكنه بهذا الكلام ترك لهم باب النجاة مفتوحاً يدخلونه بالتوبة. وهذا يعلّمنا أن طول أناة الله إنما هو لإعطاء فرصة للتوبة واكتساب الخلاص (٢بطرس ٣: ١٥). وعلّة تأخير الله ليوم الدين رحمة الله وشفاعة يسوع. والغاية من عفو الله عن الخطاة الآن إنما هو توقيف الدينونة وقتاً.
وَإِلاَّ... تَقْطَعُهَا كما تستحق على عقمها. وأشار المسيح بهذا الكلام إلى أن هلاك إسرائيل لا ريب فيه إن بقي في عصيانه وأن ذلك عقاب عال وأن المسيح يسلم بأنه حق. وقد أتى ذلك بعد أربعين سنة من إنذار المسيح بأن هُدمت أورشليم وخربت اليهودية كلها. وما صدق في هذا المثل على الأمة اليهودية يصدق على كل الناس الذين نحن من جملتهم. فكل من يسمعون الإنجيل ولا يسيرون بمقتضاه هم أشجار تين بلا ثمر في كرم الله.
ولنا هنا ثلاثة أمور ذات شأن:
- الأول: أنه على الناس في البلاد المسيحية أن يأتوا بأثمار البرّ لمجده تعالى أكثر مما كان على اليهود قديماً لأن للمسيحيين وسائط دينية كثيرة لم تكن لأولئك.
- الثاني: إن الخطر الشديد مشرف على كل الذين حصلوا على وسائط النعمة وبقوا بلا ثمر. وأن من الجهالة أن يعيش الناس لأنفسهم لا لله ويظنون أنه لا يلتفت إلى ذلك لأن توقيف الدينونة ليس بعفو دائم ولعلّ «سنة» العفو قد قربت من النهاية.
- الثالث: نتعلّم من هذا عظمة الدين الذي علينا لحلم الله وشفاعة المسيح فلولاهما هلك العالم بأسره منذ أزمان.
شفاء المرأة المنحنية في يوم السبت ع ١٠ إلى ١٧
١٠ «وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ ٱلْمَجَامِعِ فِي ٱلسَّبْتِ».
فِي أَحَدِ ٱلْمَجَامِعِ كان لليهود هيكل واحد في أورشليم لكنه كان لهم مجامع في كل مكان في بلادهم (انظر الشرح متّى ٤: ٢٣) وكان المسيح لا يفتأ ينتهز الفرصة ليخاطب الشعب المجتمع يوم السبت ويعلّمهم ما يتعلق بملكوته إن لم يمنعه من ذلك بعض الرؤساء والكهنة. وكان من عادة اليهود بعد قراءة الناموس أن يدعو رئيس المجمع من حضر من معلمي الدين إلى الخطاب (أعمال ١٣: ١٥).
١١ «وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ ٱلْبَتَّةَ».
ع ١٦
ٱمْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ لو لم يكن لنا سوى ما في هذا العدد من نبإ تلك المرأة لحكمنا بأنه أصابها مرض أضعفها ثم حناها وأيبس عضلات ظهرها وتقوست سلسلتها الفقرية فمنعتها من الانتصاب. ولكن يتبين لنا مما قيل في ع ١٦ أن علّة مصابها شيء آخر غير المرض وهو فعل الشيطان.
١٢ «فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: يَا ٱمْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضَعْفِكِ».
دَعَاهَا من تلقاء نفسه لا إجابة لطلبها. ولعله رأى حضورها المجمع وقتئذ علامة أنها توقعت حضوره هناك والتفاته إليها بالشفاء. ولا بد من ان رئيس المجمع رأى ذلك فوبخها كما تبين من ع ١٤. ونداء المسيح لتلك المرأة أنشأ فيها الرجاء والعزاء والإيمان بأنه يشفيها.
يَا ٱمْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ أي من قيود المرض الجسدي ومن سلطة إبليس. كلام المسيح هو كلام الله الذي «قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ» (مزمور ٣٣: ٩). وغاية المسيح من قوله للمرأة هنا كغايته من قوله لذي اليد اليابسة «مد يدك» (متّى ١٢: ٩) فكأنه قال لها انتصبي.
١٣ «وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ، فَفِي ٱلْحَالِ ٱسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ ٱللّٰهَ».
مرقس ١٦: ١٨ وأعمال ٩: ١٧
وَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ يجب أن نفهم أن فعل المسيح هنا وقوله السابق للمرأة كانا في وقت واحد وغايته تقوية إيمانها وبيان أنه هو الذي يحل بقوته قيود المرض وربط الشياطين.
كان من عادة المسيح أن يُخرج الشياطين من الناس بكلمة بلا وضع يد فمخالفته للعادة هنا دليل على أن حال المرأة كانت مختلفة عن حال غيرها ممن دخلتهم الشياطين.
فِي ٱلْحَالِ ٱسْتَقَامَتْ آمنت وأخذت تنتصب وقوّاها المسيح على ذلك.
مَجَّدَتِ ٱللّٰهَ مجدته بإقرارها أن يسوع شفاها وأنه هو المسيح. وفي ذلك الشفاء أعظم بيان لشفقة المسيح وقوّته.
١٤ «فَرَئِيسُ ٱلْمَجْمَعِ، وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي ٱلسَّبْتِ، قَالَ لِلْجَمْعِ: هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا ٱلْعَمَلُ، فَفِي هٰذِهِ ٱئْتُوا وَٱسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ».
خروج ٢٠: ٩، متّى ١٢: ١٠ ومرقس ٣: ٢ وص ٦: ٧ و١٤: ٣
وَهُوَ مُغْتَاظٌ أي الرئيس ومعظم علّة غيظه تمجيد يسوع كالمسيح. وهذا مثل ما في بشارة متّى (٢١: ١٥ و١٦) واغتاظ أيضاً لما صار بذلك الشفاء من الاستخفاف بتقاليد الشيوخ وأوامرهم في شأن حفظ السبت. فهو لم يود فعل الخير إلا في الطريق التي استحسنها هو. فلو حكم بالصواب لرأى أن الذي يفعل مثل تلك المعجزة لا يمكن أن يتعدى شريعة الله.
سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا ٱلْعَمَلُ هذا حق لكن الشفاء ليس من الأعمال المختصة بتلك الأيام. وادعى الرئيس بهذا القول أن المسيح أتى عملاً عادياً كسائر الأطباء. وتوجيهه كلامه إلى الناس دون يسوع في غير محله لأنهم لم يفعلوا شيئاً. وإن كان قصد المرأة بلومه كان لها أن تجيب بقولها إني لم أطلب إلى يسوع الشفاء. ولكنه قصد خطاب المسيح ووجه الكلام إلى غيره حياء منه وخوفاً من قوته.
١٥ «فَأَجَابَهُ ٱلرَّبُّ: يَا مُرَائِي، أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ ٱلْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟».
ص ١٤: ٥
فَأَجَابَهُ ٱلرَّبُّ علم المسيح أن الرئيس قصد لومه بلومه للجمع فأجابه على ذلك.
يَا مُرَائِي أظهر الرئيس رياءه بأنه ادعى الغيرة لحفظ يوم السبت ولكن لم يحركه إلى ذلك سوى الحسد والبغض. ولولا الرياء ما حكم بما خالف مقتضى الحق والرحمة التي اعتادها الناس في مثل تلك الحال. وأعلن رياءه أيضاً بتوبيخه الشعب الذي شاهد المعجزة وهو يقصد توبيخ صانعها. وبلومه المسيح على ما صنعه للمرأة وهو مما يباح صنعه للبهائم في السبت. وبسوء تفسيره لشريعة الله لأنه اعتبر حل قيود الشيطان عن النفس والجسد تعدياً لتلك الشريعة وفعل الرحمة في يوم السبت تنجسياً لذلك اليوم.
أَلاَ يَحُلُّ الخ بيّن المسيح بهذا الدليل أنه لم يخالف وصية السبت لأن مفسري الشريعة المدققين صرّحوا بأن العمل المذكور لا شيء فيه من المخالفة للشريعة مع أن حل البهيمة وأخذها إلى الماء يشغل وقتاً وتعباً كان جائزاً يوم السبت لأنهما من أعمال الرحمة الضرورية.
١٦ «وَهٰذِهِ، وَهِيَ ٱبْنَةُ إِبْرَاهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا ٱلشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هٰذَا ٱلرِّبَاطِ فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟».
ص ١٩: ٩
وَهٰذِهِ أبان المسيح أن الضرورة هنا أعظم والرحمة أولى لثلاثة أسباب:
- الأولى: أن المحسن إليه امرأة لا بهيمة.
- الثانية: أن تلك المرأة كانت ابنة إبراهيم أي يهودية ولذلك كانت من أحباء الله الأخصاء حسب اعتقاد الرؤساء أنفسهم ومستحقة الرحمة.
- الثالثة: أنّ الشيطان كان قد ربطها ثماني عشرة سنة بقيود ضارة كل الضرر للجسد والروح وأما البهيمة فيربطها الإنسان ليلة واحدة ولو بقيت مربوطة ما تألمت إلا قليلاً بالعطش.
رَبَطَهَا ٱلشَّيْطَانُ لا نستطيع إدراك معنى هذه العبارة إدراكاً تاماً لكن نعلم أن الشيطان لم يتسلط عليها إلا بإذن الله. ويظهر أن أمرها كان كأمر أيوب (أيوب ١: ١٢ و٢: ٦ و٧). ولعلّ أمرها كان كأمر الذين أشار إليهم بولس بقوله «أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هٰذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ ٱلْجَسَدِ الخ» (١كورنثوس ٥: ٥). وقوله «مِنْهُمْ هِيمِينَايُسُ وَٱلإِسْكَنْدَرُ، ٱللَّذَانِ أَسْلَمْتُهُمَا لِلشَّيْطَانِ لِكَيْ يُؤَدَّبَا» (١تيموثاوس ١: ٢٠). ونرى أن للإنسان قوة على أن يضر غيره من الناس كل حياته بأن يجعله سكيراً أو لصاً أو قاتلاً فلا عجب من أن الشيطان يتسلط على تلك المرأة مدة من حياتها لإضرارها. وإذا اعتبرنا أن كل مرض مثل الموت (رومية ٥: ١٢) من نتائج الخطية وعبودية نسل آدم للشيطان فيجوز أن ننسب المرض إلى مصدره الأصلي. وليس في كلام المسيح هنا ما يبطل الوصية الرابعة أو يحط شأنها إنما هو بيان طريق الصواب إلى حفظها.
١٧ «وَإِذْ قَالَ هٰذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ ٱلْجَمْعِ بِجَمِيعِ ٱلأَعْمَالِ ٱلْمَجِيدَةِ ٱلْكَائِنَةِ مِنْهُ».
جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ هذا يبين لنا أن رئيس المجمع لم يكن وحده المعترض على المسيح فالأرجح أنه كان معه فريسيون من سكان تلك الأرض أو ممن تبعوه من الجليل إلى بيرية ليضادوه في التعليم والتأثير وكان مقاومو المسيح غالباً الرؤساء لأنهم خافوا زوال سلطانهم على الشعب بواسطة تعليم المسيح.
وَفَرِحَ كُلُّ ٱلْجَمْعِ لأنهم أعيوا من ثقل نير الطقوس الذي وضعه عليهم رؤساؤهم ولأن نفوسهم لم تقتت من تعليم رؤسائهم فانتعشت وتعزت من تعليم المسيح.
بِجَمِيعِ ٱلأَعْمَالِ ٱلْمَجِيدَةِ أي معجزات أُخر صنعها المسيح في بيرية لم يذكرها لوقا بالتفصيل.
مثل حبة الخردل ع ١٨ و١٩
١٨، ١٩ «١٨ فَقَالَ: مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ، وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟ ١٩ يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ، فَنَمَتْ وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً، وَتَآوَتْ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا».
متّى ١٣: ٣١ ومرقس ٤: ٣٠
أتى المسيح بهذا المثل وقتاً آخر وقد مرّ الكلام عليه في الشرح متّى ١٣: ٣١ و٣٢. ومعظم الغاية من هذا المثل بيان قوة الإنجيل على الانتشار.
مثل الخميرة ع ٢٠ و٢١
٢٠, ٢١ «٢٠ وَقَالَ أَيْضاً: بِمَاذَا أُشَبِّهُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ؟ ٢١ يُشْبِهُ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا ٱمْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيعُ».
متّى ١٣: ٣٣
ضرب المسيح هذا المثل في وقت آخر ومرّ الكلام عليه في شرح بشارة متّى ١٣: ٣٨. ومعظم الغاية من هذا المثل إعلان ما للإنجيل من قوة التغيير للقلوب وللعالم. وفي هذا المثل والمثل الذي قبله بيان ظفر الإنجيل أخيراً وإصلاح أفكار اليهود في شأن ملكوت المسيح من أنه يأتي دفعة ويكون ذا مجد عالمي وقوة خارجية خارقة الطبيعة.
تعاليم المسيح في بيرية وهو سائر إلى أورشليم ع ٢٢ إلى ص ١٨: ١٤
٢٢ «وَٱجْتَازَ فِي مُدُنٍ وَقُرىً يُعَلِّمُ وَيُسَافِرُ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ».
متّى ٩: ٣٥ ومرقس ٦: ٦
فِي مُدُنٍ وَقُرىً هي مدن بيرية وقراها حيث بشّر السبعون قدام المسيح (ص ١٠: ١).
يُسَافِرُ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ هذا جزء من السفر الذي ذُكرت بداءته في (ص ٩: ٥١ ومتّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١ ويوحنا ١٠: ٤٠). ولم يسافر المسيح في طريق مستقيم بل مرّ أولاً في السامرة (ص ٩: ٥٢ و١٧: ١١) ثم عاد إلى بيرية.
سؤال عن عدد الذين يخلصون ع ٢٣ إلى ٣٠
٢٣ «فَقَالَ لَـهُ وَاحِدٌ: يَا سَيِّدُ، أَقَلِيلٌ هُمُ ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ؟ فَقَالَ لَـهُمُ».
وَاحِدٌ نستنتج أن هذا الواحد من جملة المجتمعين غير التلاميذ وليست غايته من سؤاله طلب الفائدة بل مجرد الوقوف على أمر مجهول.
أَقَلِيلٌ هُمُ ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ أي ينجون من العقاب الأبدي ويفوزون بالسعادة السماوية. ومراده معرفة نسبة الذين يخلصون إلى الذين يهلكون وهو موضوع مناظرة عند اليهود. فقال بعضهم أن «الذين يخلصون» هم كل أولاد إبراهيم وقال آخرون هم قليل من أولاده استناداً على أنه لم يخلص من كل جنود الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر سوى اثنين واتفق الفريقان على أن الخلاص مقصور على اليهود.
ولعلّ هذا السائل سمع من المسيح أنه ليس كل اليهود يشتركون في فوائد الملكوت السماوي (ص ١١: ٤٧ - ٥١) فأراد أن يعرف نسبة الخالصين إلى الهالكين أملاً أن يتبين له من الجواب كثرة الذين يخلصون فيزيد اطمئناناً بخلاص نفسه.
فَقَالَ لَـهُمُ السائل واحد لكنه كان نائباً عن الجمع فكان جواب المسيح للجميع لأن ذلك الجواب مما يهمهم كلهم وهم راغبون في سمعه.
٢٤ «ٱجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ يَقْدِرُونَ».
متّى ٧: ١٣، يوحنا ٧: ٣٤ و٨: ٢١ و١٣: ٣٣ ورومية ٩: ٣١
ٱجْتَهِدُوا هذا ليس بجواب على السؤال المذكور بل على ما كان يجب أن يسأل عنه وهو «ماذا أعمل لكي أخلص» فكأن المسيح قال له لا يعنيك أمر غيرك فاطلب خلاص نفسك. وعلى هذا الأسلوب كان جواب المسيح للناموسي (ص ١٠: ٢٩) وجوابه لبطرس (ص ١٢: ٤١) وليهوذا (ليس الإسخريوطي) (ص ١٤: ٢٢ و٢٣).
ومع أن المسيح لم يجب على السؤال عينه نقدر أن نعرف ما هو الجواب من نصوص أُخر في الكتاب المقدس وهو أن عدد المخلصين يزيد على عدد الهالكين إذا حسبنا كل الذين يموتون قبل سن التكليف ممن يخلصون بواسطة المسيح وكل الذين آمنوا به وممن يؤمنون به في الأزمنة الأخيرة. ولعلّ نسبة الهالكين في جهنم إلى الناجين في السماء ليست بأعظم من نسبة المسجونين على الأرض لذنوبهم إلى الذين يتمتعون بحريتهم.
ومعنى الاجتهاد هنا استعمال كل وسائط الخلاص بغيرة ونشاط كالمتصارعين في المشاهد وكالمتحاربين في الوقائع ويجب أن يكون ذلك الاجتهاد قبل الاجتهاد في غيره من الأمور.
مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ استعار المسيح للسماء هنا مدينة أو قصراً مدخل كل منهما ضيق. وقد مرّ الإيضاح عن هذه الاستعارة في شرح بشارة متّى ٧: ١٣ و١٤.
وَلاَ يَقْدِرُونَ الأرجح أن الكلام هنا يتصل بالكلام الذي في العدد الخامس والعشرين وأن المسيح أراد أن يذكر أحد الأسباب المانعة للناس من دخول السماء وهو طلبهم الدخول بعد فوات الوقت. ومن أسباب عدم دخولهم أنهم لم يجتهدوا كما يجب أي كان اجتهادهم قليلاً إلى أمد قصير. وأنهم لم يجتهدوا في ذلك أولاً. وأنهم طلبوا الدخول ببرّ أنفسهم لا ببرّ المسيح وأبوا أن يدخلوا من باب التوبة والإيمان وإنكار الذات وهو الباب الضيق وباب السماء الوحيد. وقول المسيح كثيرون لا يدخلونه مما يوجب شدة الاجتهاد. فكأنه قال للسائل وللجميع الهالكون كثيرون فلذلك كل منكم في خطر الهلاك.
٢٥ «مِنْ بَعْدِ مَا يَكُونُ رَبُّ ٱلْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَغْلَقَ ٱلْبَابَ، وَٱبْتَدَأْتُمْ تَقِفُونَ خَارِجاً وَتَقْرَعُونَ ٱلْبَابَ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، ٱفْتَحْ لَنَا، يُجِيبُكُمْ: لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ!».
مزمور ٣٢: ٦ وإشعياء ٥٥: ٦، متّى ٢٥: ١٠ ص ٦: ٤٦، متّى ٧: ٢٣ و٢٥: ١٢
ِمِنْ بَعْد كثيرون يرون أن هذا الكلام متعلق بالكلام السابق أي أن كثيرين لا يقدرون أن يدخلوا من بعد ما يكون رب البيت قد قام والمعنى أنهم أخروا الطلب إلى أن فات الوقت فكان طلبهم الدخول حينئذ عبثاً. فعلى هذا يكون طلبهم الدخول قرعهم الباب وصراخهم من خارج. وعلّة عدم قدرتهم على الدخول التباطؤ في الطلب فيجب الاجتهاد في الحال لئلا تمر الفرصة بالتباطؤ.
رَبُّ ٱلْبَيْتِ قَدْ قَامَ أشار المسيح بذلك إلى نفسه كأنه صاحب بيت أولم لعائلته وأصدقائه الذين يأتون في الوقت المعين فبعد ما مضى ذلك الوقت أغلق الباب ولم يفتحه بعد لأحد.
ومعنى ذلك أن الله قد عيّن وقتاً لطلب الخلاص وهو الزمن الحاضر أو بالإجمال مدة حياة الإنسان فباب التوبة يُغلق دون كل إنسان عند موته وينتهي حينئذ زمن النعمة.
وقد مرّ تفسير ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ٢٥: ١٠ و١١).
تَقِفُونَ... تَقْرَعُونَ... قَائِلِينَ أشار بذلك إلى انفعالات المرفوضين وأقوالهم وأعمالهم عندما يقفون قدام الله للدينونة الأخيرة.
٢٦، ٢٧ «٢٦ حِينَئِذٍ تَبْتَدِئُونَ تَقُولُونَ: أَكَلْنَا قُدَّامَكَ وَشَرِبْنَا، وَعَلَّمْتَ فِي شَوَارِعِنَا. ٢٧ فَيَقُولُ: أَقُولُ لَكُمْ لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ! تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي ٱلظُّلْمِ».
متّى ٧: ٢٣ و٢٥: ٤١ وع ٢٥، مزمور ٦: ٨ ومتّى ٢٥: ٤١
انظر الشرح متّى ٧: ٢٢ و٢٣.
لاَ أَعْرِفُكُمْ من جملة الهالكين بعض الذين تظاهروا على الأرض أنهم من تلاميذ المسيح وحصلوا على أعظم وسائط النعمة وأعظم اعتبار الناس فهؤلاء لم يكونوا مسيحيين بالحق ولم يعرفهم المسيح من خاصته لأنه لو عرفهم كذلك مرة لعرفهم دائماً.
فَاعِلِي ٱلظُّلْمِ ترك المسيح مثل المتباطئين عن الوليمة وخاطب المتأخرين عن التوبة وهم المشار إليهم بالمثل الذين دينونتهم باقية عليهم لبقائهم في خطاياهم.
٢٨، ٢٩ «٢٨ هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ، مَتَى رَأَيْتُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَمِيعَ ٱلأَنْبِيَاءِ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَأَنْتُمْ مَطْرُوحُونَ خَارِجاً. ٢٩ وَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَمِنَ ٱلْمَغَارِبِ وَمِنَ ٱلشِّمَالِ وَٱلْجَنُوبِ، وَيَتَّكِئُونَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
متّى ٨: ١٢ و١٣: ٤٢ و٢٤: ٥١، متّى ٨: ١١
انظر الشرح متّى ٨: ١١ و١٢.
مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَمِنَ ٱلْمَغَارِبِ الخ أي من كل ممالك الارض. فأشار المسيح بذلك إلى دعوة الأمم إلى الكنيسة واشتراكهم مع الآباء والأنبياء في فوائد ملكوت الله. وفحوى ع ٢٤ أن الهالكين كثيرون فاحذروا أن تكونوا منهم. وفحوى هذين العددين أن الخالصين كثيرون لا من اليهود فقط بل من الأمم أيضاً فاحترسوا من أن لا تكونوا بينهم وإلا فلا منفعة لكم من كثرتهم.
٣٠ «وَهُوَذَا آخِرُونَ يَكُونُونَ أَوَّلِينَ، وَأَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ».
متّى ١٩: ٣٠ و٢٠: ١٦ ومرقس ١٠: ٣١
انظر الشرح متّى ١٩: ٣٠ و٢٠: ١٦ ومرقس ١٠: ٣١.
الأولون هنا الذين صاروا آخرين هم اليهود المتكلون على برّ أنفسهم والآخرون الذين صاروا أولين تبّاع المسيح المهانون من اليهود والأمم. ويصدق هذا الكلام على أفراد الناس وعلى كنائس وعلى ممالك.
تهديد هيرودس ع ٣١ إلى ٣٥
٣١ «فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ تَقَدَّمَ بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَـهُ: ٱخْرُجْ وَٱذْهَبْ مِنْ هٰهُنَا، لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ».
لم يذكر هذا الحادث سوى لوقا.
بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ يحتمل أن هؤلاء الفريسيين ذهبوا إلى هيرودس لكي يشتكوا على المسيح فعادوا إليه بتهديده. ويتبين أن ذلك لم يكن من اختراع الفريسيين لأن جواب المسيح كان موجهاً إلى هيرودس.
ٱذْهَبْ مِنْ هٰهُنَا كانت بيرية يومئذ جزءاً من مملكة هيرودس كالجليل. وعلّة أمر هيرودس له بالذهاب من هنالك أنه علم ميل الشعب إلى المسيح وبغض رؤساء الدين إياه فخاف من الشغب والتشويش. ولم يرد أن يقتله خوفاً من الشعب ولم يرد أن يتركه هنالك خوفاً من الفتنة.
هِيرُودُس هو هيرودس أنتيباس الذي قتل يوحنا المعمدان (متّى ١٤: ١).
يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ الأرجح أن هذا التهديد كان خداعاً من هيرودس لأنه حين وقع المسيح في يده لم يقتله (ص ٢٣: ١١). وإنما هذا الخداع ليخاف المسيح ويذهب من مملكته.
وليس في قول لوقا هنا ما يخالف قوله في موضع آخر أن هيرودس «كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ» (ص ٢٣: ٨) لأنه كان إنساناً متقلب الآراء. فكان يشتهي أحياناً أن يرى يسوع رجاء ان يصنع معجزة أمامه وأحياناً أن يتخلص منه خوف الفتنة وإرضاء للفريسيين وتسكيناً لاضطراب نفسه الذي دل عليه قوله «هٰذَا هُوَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (متّى ١٤: ٢).
٣٢ «فَقَالَ لَـهُمُ: ٱمْضُوا وَقُولُوا لِهٰذَا ٱلثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي ٱلْيَوْمَ وَغَداً، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ أُكَمَّلُ».
فيلبي ٣: ١٢ وعبرانيين ٢: ١٠
لِهٰذَا ٱلثَّعْلَبِ الثعلب حيوان مشهور بالرواغ والاحتيال والقساوة والإضرار. وشبّه المسيح هيرودس به لمشاركته الثعلب في تلك الصفات. ومن أدلة هذا إرساله إليه ذلك التحذير بواسطة الذين يظهرون له الصداقة مماثلاً الثعلب في الخداع بدلاً من أن يقبض عليه علناً بالنظر إلى أنه ملك.
ٱلْيَوْمَ وَغَداً، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ هذا الكلام كان جارياً عندهم مجرى المثل في الدلالة على قصر الوقت (هوشع ٦: ٢) وقصد المسيح من جوابه لهيرودس تبيين أنه لا يخافه لأمرين. الأول أن أعماله لا تقاوم سلطانه لأنها مقصورة على إخراج الشياطين وشفاء المرضى والثاني أنه لا يبقى في مملكة هيروس إلا زمناً يسيراً.
أُكَمَّلُ أي أتمم ما عليّ من الأعمال وأكون متهيئاً لآلامي وموتي كما يبين من (يوحنا ٤: ٣٤ و٥: ٣٦ وعبرانيين ٢: ١٠ و٥: ٩). والأرجح أن هذا الكلام لم يفهم هيرودس معناه المراد.
٣٣ «بَلْ يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ ٱلْيَوْمَ وَغَداً وَمَا يَلِيهِ، لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجاً عَنْ أُورُشَلِيمَ».
يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ ٱلْيَوْمَ وَغَداً وَمَا يَلِيهِ هذا جواب على تهديد هيرودس له ليذهب من بيرية. ومعنى المسيح أنه يذهب من بيرية بعد قليل لا خوفاً من تهديد هيرودس أو تحذير الفريسيين المرائين بل طوعاً لأمر أسمى من أمر هيرودس. ولكنه قصد أن يزور بعض المدن والقرى في بيرية وهو ذاهب إلى أورشليم كما كان قبلاً ع ٢٢. وقوله «ينبغي» يدل على قضاء الله ببقائه حياً على الأرض مدة معينة. وليس المراد من قوله «اليوم وغداً وما يليه» ثلاثة أيام حقيقة بل وقتاً قصيراً كما مرّ في العدد الذي قبل هذا لأن يسوع بقي حياً أكثر من ذلك قبل أن يُرفع على الصليب.
لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ الخ عدم الإمكان هذا أدبي لا مادي. فحكم المسيح أغلبي بدليل أن يوحنا وغيره من الأنبياء قتلوا خارج أورشليم. فكأن المسيح قال أكثر الأنبياء قتلوا في أورشليم وأنا أُقتل هنالك أيضاً ولا بد من ذلك وفقاً لكل شهرتها الماضية في مقاومتها للحق وجورها على الأنبياء ووفقاً لمقاومتها السابقة لي وهي مركز كل المقاومات لي.
ولعلّ المسيح أراد أنه لا يمكن قتل نبي خارج أورشليم بمقتضى الشريعة لأن المجلس الذي يحكم في دعاوي الأنبياء هو في أورشليم فإن حكم ذلك المجلس على أحد بأنه نبي كاذب مجدف قضى عليه بأنه مستحق الموت وسلمه للرومانيين في أورشليم ليجروا ذلك القضاء.
٣٤، ٣٥ «٣٤ يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ ٱلأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا. ٣٥ هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! وَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ: مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
متّى ٢٣: ٣٧، لاويين ٢٦: ٣١ و٣٢ ومزمور ٦٩: ٢٥ وإشعياء ١: ٧ ودانيال ٩: ٢٧ وميخا ٣: ١٢، مزمور ١١٨: ٢٦ ومتّى ٢١: ٩ ومرقس ١١: ١٠ وص ١٩: ٣٨ ويوحنا ١٢: ١٣
ذكر المسيح لأورشليم باعتبار أنها محل آلامه وموته. وتأمله في ذنبها والعقاب المعد لها حملاه على هذه المرثاة التي كانت نظير المرثاة التي تكلم بها يوم وقف أمام تلك المدينة ونظر إليها (ص ١٩: ٤١).
وقد فُسرت هذه الكلمات في متّى ٢٣: ٣٧ - ٣٩.
الأصحاح الرابع عشر
ذهاب المسيح إلى بيت فريسي للعشاء والحوادث هناك ع ١ إلى ٢٤ (بيرية سنة ٣٠)
شفاء مستسقٍ ع ١ إلى ٦
١ «وَإِذْ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَحَدِ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ فِي ٱلسَّبْتِ لِيَأْكُلَ خُبْزاً، كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ».
أَحَدِ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ الأرجح أنه رئيس المجمع كما كان في متّى ٩: ١٨.
لِيَأْكُلَ خُبْزاً أي ليتعشّى. والذي حمل الفريسي على دعوة يسوع إلى العشاء ما ذُكر في شرح ص ٧: ٣٦.
لم يحسب الفريسيون إيلام الولائم يوم الرب تدنيساً للوصية الرابعة إذا أعدوا الأطعمة يوم الجمعة ولم يطبخوا شيئاً في السبت. وقبل المسيح الدعوة إلى العشاء في ذلك اليوم لا للذة بل لأنه مسافر ومحتاج إلى أن ينزل ضيفاً على الناس للضروريات الجسدية ولقصده إفادة المجتمعين بالتعليم.
كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ كان المدعوون كثيرين بينهم جماعة من الفريسيين (ع ٣ و٧) وكانوا أهل ظنه يراقبونه دائماً ليجدوا علّة شكوى عليه ليضعفوا تأثيره في الشعب وليشكوه إلى الحكام. وكانوا مغتاظين منه حينئذ لتوبيخه إياهم (ص ١١: ٤٠ - ٥١).
٢ «وَإِذَا إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ كَانَ قُدَّامَهُ».
إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ أي مصاب بداء الاستسقاء وهو عرض من أعراضه ورم الجسد من احتباس الماء الكثير فيه.
كَانَ قُدَّامَهُ لم يكن هذا المصاب من المدعوين بدليل أن المسيح لما شفاه أطلقه (ع ٤) وهو أتى إما من تلقاء نفسه أملاً أن يراه المسيح ويشفق عليه ويشفيه لكنه لم يجسر أن يطلب الشفاء خوفاً من الفريسيين وإما لإرشاد الفريسيين إياه إلى ذلك لكي يجربوا المسيح بشفائه إياه في السبت فتكون لهم علّة لأن يشكوه. والأرجح الأول أنه ليس من عادة المسيح أن يشفي من لا يؤمن بقدرته على الشفاء والأولى لأنه لا يشفي من رضي أن يكون آلة للفريسيين الذين أرادوا أن يصطادوه.
٣ «فَسَأَلَ يَسُوعُ ٱلنَّامُوسِيِّينَ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ: هَلْ يَحِلُّ ٱلإِبْرَاءُ فِي ٱلسَّبْتِ؟».
متّى ١٢: ١٠
فَسَأَلَ يَسُوعُ لا دليل على أن الفريسيين تكلموا بشيء فإذن يكون جوابه على أفكارهم لأنها كانت ظاهرة له كما لو تكلموا. وقد أظهروا أفكارهم بكلامهم قبل هذا (ص ١٣: ١٤).
ٱلنَّامُوسِيِّينَ الأرجح أن الناموسيين كانوا من جملة الفريسيين وامتازوا عن سائر تلك الفرقة بأنهم جعلوا شريعة موسى موضوع درسهم وتعلمهم.
٤، ٥ «٤ فَسَكَتُوا. فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ. ثُمَّ سَأَلَ: ٥ مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلاَ يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟».
خروج ٢٣: ٥ وتثنية ٢٢: ٤ وص ١٣: ١٥
فَسَكَتُوا (ع ٤) هذا السكوت أظهر حيرتهم فإنهم لو قالوا «يحل» لم يبق طريق لتخطئة المسيح إذا ابرأه ولو قالوا «لا يحل» عرضوا أنفسهم لقول الشعب عليهم أنهم بلا شفقة. وأعلن ذلك السكوت سوء قصدهم لأنه كان يجب عليهم باعتبار أنهم معلمي الشعب أن يصرّحوا حكمهم بأحد الوجهين.
فَأَمْسَكَهُ أظهر المسيح بذلك أنه هو مصدر الشفاء.
وَأَبْرَأَهُ هذا جواب لسؤاله الفريسيين وهو قوله «هل يحل الخ» فبيّن المسيح الفرق العظيم بين عدم شفقة أولئك الذين لم يريدوا أن يتفوهوا بكلمة مساعدة للمصاب وشفقته بأن شفاه وعرّض ذاته لبغض الأعداء.
وكانت علّة إبراء المسيح ذلك المستسقي شفقته عليه. وغايته من شفائه في يوم السبت إزالة ما أضافه الفريسيون إلى الوصية الرابعة من التقاليد والأوامر الثقيلة غير النافعة وتبيين حقيقتها الأصلية كما قصد الله.
وَأَطْلَقَهُ ليذهب إلى بيته لئلا يوبخه الفريسيون لأنه شُفي في السبت كما فعلوا غير مرات (ص ١٣: ١٤ ويوحنا ٩: ٣٤).
ثُمَّ سَأَلَ معنى كلام المسيح هنا كمعنى كلامه في ص ١٣: ١٥ ومتّى ١٢: ١١ فراجع الشرح هناك.
حَالاً هذه السرعة تدل على عدم وجود أدنى شك في جواز ذلك العمل يوم السبت.
وترك المسيح للفريسيين أن يستنتجوا هم أن ما يجوز أن يعمله الإنسان من الخير للبهيمة في يوم السبت شفقة عليها أولى أن يجوز عمله للإنسان كذلك.
٦ «فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُجِيبُوهُ عَنْ ذٰلِكَ».
لم يكن عدم إجابتهم من عدم إرادتهم للجواب بل لأنهم لم يروا ما به يدفعون حجته ولأن الشعب كان مسروراً به. ولعلهم خافوا من القوة التي أظهرها في شفاء الإنسان.
خطاب يسوع للمدعوين ع ٧ إلى ١١
٧ «وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ ٱخْتَارُوا ٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى».
متّى ٢٣: ٦
مَثَلاً سُمي كلام المسيح هنا مثلاً لتضمنه معنى أدبياً متعلقاً بالتواضع الواجب على المدعويين أن يأتوه في الولائم. وهذا يوافق المبدأ الذي أبانه الرسول بقوله «بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً» (فيلبي ٢: ٣ و٤).
وَهُوَ يُلاَحِظُ الأرجح أن هذه الملاحظة كانت قبل تناول الطعام حين اتّكأوا للعشاء قبل شفاء المستسقي.
كَيْفَ ٱخْتَارُوا ٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى أتى الرسل مثل ذلك عند اجتماعهم لأكل الفصح الأخير ووقع بينهم مشاجرة به (لوقا ٢٢: ٢٤) «والمتكآت الأولى» هي ما كانت أقرب من صدر المائدة حيث يجلس رب البيت وكان من مطلوبات الفريسيين المتولدة عن كبريائهم (متّى ٢٣: ٦) وصورة الاتكاء حول المائدة في صفحة ٢٩٠ من المجلد الأول والكلام عليها في شرح بشارة متّى ٢٣: ٦.
٨ «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي ٱلْمُتَّكَإِ ٱلأَوَّلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ».
مَتَى دُعِيتَ خاطب المسيح المفرد تعميماً للخطاب أي ليكون لكل فرد من الحاضرين.
إِلَى عُرْسٍ أي وليمة عرس لأن وليمة العرس تكون كبيرة والمدعوون كثرين.
أَكْرَمَ مِنْكَ أي أعظم منك رتبة أو منصباً أو أكبر منك سناً ولمثل هذا الحق في أن يجلس فوقك بمقتضى العادة.
٩ «فَيَأْتِيَ ٱلَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهٰذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ ٱلْمَوْضِعَ ٱلأَخِيرَ».
ٱلَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ الخ أي رب البيت الذي يحق له أن يعيّن لكل مدعو متكأه وهو يرى أن الذي أتى أخيراً أعظم منك وأنه أهل للمتكأ الذي اتكأت أنت فيه ويأمرك أن تتركه له.
تَبْتَدِئُ هذا يدل على شيء من تكلف ترك متكئه وهو الذي يحمله على التباطوء.
بِخَجَلٍ لأنك ملزوم أن تترك محل الشرف أمام كل المدعوين وتجلس في مكان دونه.
ٱلْمَوْضِعَ ٱلأَخِيرَ أي الذي هو أبعد عن صدر المائدة وذلك لم يكن من اختيار رب البيت بل لمقتضى الحال إذ لم يبق محل فوقه.
١٠ «بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَٱذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلأَخِيرِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ٱلَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ٱرْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ ٱلْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ».
أمثال ٢٥: ٦ و٧
اتَّكِئْ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلأَخِيرِ أي اظهر أنك لا تحسب نفسك أعظم من الآخرين وأنك لست براغب في العظمة والرفعة وأنك لست بمولع في تحصيل حقوقك.
حَتَّى... يَقُولُ لَكَ ينبغي أن يكون ذلك نتيجة غير مقصودة وإلا كان التواضع رياء وخداعاً.
ٱلَّذِي دَعَاكَ يستدل من هذا أن رب البيت كان يستقبل المدعوين عند الباب ويدعوهم إلى الجلوس حول المائدة ولا يحضر المائدة إلا بعد دخول الكل واتكائهم.
يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ لاهتمام رب البيت بك اهتماماً خاصاً وبيان أنك مستحق الإكرام وأنك من المتواضعين. ويتبين من ذلك أنه غير محظور على المسيحي أن يقبل الإكرام من الناس وأن يسر به لكن لا يجوز أن يطلب ذلك ويرغب في الحصول عليه ويدعي أنه مستحق له بل يجب أن يستحق الإكرام بفضائله ولا سيما فضيلة التواضع.
١١ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ».
أيوب ٢٢: ٢٩ ومزمور ١٨: ٢٧ وأمثال ٢٩: ٢٣ وإشعياء ١٤: ١٣ إلى ١٥ ومتّى ٢٣: ١٢ وص ١٨: ١٤ وفيلبي ٢: ٥ إلى ١١ ويعقوب ٤: ٦ و١بطرس ٥: ٥
هذا مبدأ من مبادئ الديانة المسيحية كرّره المسيح مراراً وقد مرّ تفسيره في شرح بشارة متّى ٢٣: ١٢. وما قيل في رسالة بطرس الأولى ٥: ٥ يدل على أن تلاميذه لم ينسوه. وهو قانون عام في السماء وغالب على الأرض. فذكر المسيح هذا المبدإ هنا يظهر أن كلامه السابق غير مقصور على التصرف في الولائم بل يفيد أن التواضع واجب في كل أحوال الحياة.
خطاب لرب البيت ع ١٢ إلى ١٤
١٢ «وَقَالَ أَيْضاً لِلَّذِي دَعَاهُ: إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ ٱلْجِيرَانَ ٱلأَغْنِيَاءَ، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً، فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَاةٌ».
وجّه المسيح خطابه قبلاً للمدعوين ولكنه وجّهه الآن إلى رب البيت الذي دعاهم.
إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً الأرجح أن أكثر المدعوين حينئذ من الأعيان أو الأغنياء ولعلّ رب البيت دعاهم ليسروا به ويدعوه إلى بيوتهم كما دعاهم. ووصف المسيح هنا الوليمة التي يجوز للمسيحي أن يولمها ويسر المسيح بها ويجازي مولمها عليها في السماء. فإذا كانت وليمة الأصحاب حسنة فالوليمة التي وصفها المسيح هنا أحسن.
فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ... وَلاَ ٱلْجِيرَانَ ٱلأَغْنِيَاءَ ليس مراد المسيح أن يمنع من الإيلام للأصدقاء والأغنياء لكنه قصد أن لا يُكتفى بذلك ويُترك الفقراء والمساكين. وأن صنع الولائم للأصدقاء وللأغنياء ليست بفضيلة دينية يُثاب عليها في السماء. على أنّه قصد أن يمنع ولائم الترفه والولائم التي الغاية منها إظهار غنى المولم وفخره واللذة بالمشتهيات من طعام وشراب التي تهيج الشهوات الجسدية وتقتضي نفقات وافرة لا تبقي شيئاً لمساعدة البائسين فهذه الولائم لا ترضي المسيح ولا ثواب عليها عند الله.
لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً الخ الذي يدعو أصحابه بغية أن يدعوه هم فهو كتاجر لا مضيف لأن الضيافة تقتضي أن يُنفق على الضيف لمجرد إكرامه لا لانتظار المكافأة. فالذي يدعو أصحابه لكي يسر بهم يستوفي أجره بتلك المسرة وكذا من يدعوهم لإظهار سخائه وغناه فكفى الداعي ما ناله من مطلوبه فلا يظن أن له بذلك فضلاً عند الله وأن له ثواباً في السماء.
١٣ «بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَٱدْعُ ٱلْمَسَاكِينَ: ٱلْجُدْعَ، ٱلْعُرْجَ، ٱلْعُمْيَ».
نحميا ٨: ١٠ و١٢
ٱلْمَسَاكِينَ الخ هم الذين لا طعام لهم ولا قدرة على تحصيل القوت الضروري بالعمل.
١٤ «فَيَكُونَ لَكَ ٱلطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَـهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ، لأَنَّكَ تُكَافَى فِي قِيَامَةِ ٱلأَبْرَارِ».
فَيَكُونَ لَكَ ٱلطُّوبَى من مدح الضمير ومدح الله واللذة بعمل الخير ويكون لك في السماء أجر عظيم. وهذا وفق قوله تعالى «مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ» (أعمال ٢٠: ٣٥).
لَيْسَ لَـهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ لا يقدرون أن يدعوك إلى الولائم ولا يستطيعون مكافأتك بطريق أُخرى لكن مع ذلك لا يكون إنفاقك عليهم باطلاً.
لأَنَّكَ تُكَافَى أي أن الله يثيبك. ووعده يؤكد ذلك. لكن تلك الإثابة على سبيل النعمة لا سبيل الأجرة لأن الثواب عظيم والعمل زهيد وهو واجب على كل حال. وغني عن البيان أن الإحسان الذي يُثاب عليه يُؤتى شفقة على الفقراء وإطاعة لأمر الله لا للافتخار وبغية الأجر.
قِيَامَةِ ٱلأَبْرَارِ أي في اليوم الأخير الذي يثيب الله فيه الأتقياء على كل أعماله الصالحة التي أتوها على الأرض (متّى ١٠: ٤٢ و٢٥: ٣٤ - ٣٦). ولا داعي للمسيح هنا إلى ذكر قيامة الأشرار ولهذا لم يذكرها فلا يلزم من ذلك أن الأشرار لا يقومون أو أنهم يقومون في وقت آخر. وكيف كان الأمر لا يقومون قيامة مجيدة للسعادة والثواب إلا الأبرار. وتسمى قيامتهم «قيامة الحياة» (يوحنا ٥: ٢٩). والذي قاله المسيح لرب البيت يُقال لكل إنسان لأن المسيح لا يريد أن ننسى الفقراء ونهملهم بل يود أن نساعدهم على قدر طاقتنا. ويجب أن نعولهم بالضروريات أكثر من حبه أن نولم لجيراننا وأقربائنا وأصحابنا غير المحتاجين. ويتبين من كلام ربنا هنا أن نتوقع يوم القيامة. ونعمل كل ما يثاب عليه في ذلك اليوم ولو أمراً يسيراً مثل أنه ألفقراء ندعو إلى الطعام أم الأغنياء. وإن الله يثيب الأتقياء في اليوم الأخير حسب أعمالهم لا لأجلها.
مثَل العشاء العظيم ع ١٥ إلى ٢٤
١٥ «فَلَمَّا سَمِعَ ذٰلِكَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَـهُ: طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزاً فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
رؤيا ١٩: ٩
وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ قَالَ هذا القائل ليس من تلاميذ المسيح بل من اليهود الذين كانوا يتوقعون أن يأتي المسيح ملكاً زمنياً فإنه سمع قول المسيح بالثواب في قيامة الأبرار وفهم بتلك القيامة إعلان ملكوت المسيح المجيد كسائر اليهود. وتوقع أن يكون أول زمن تأسيسه وقت احتفال عظيم ووليمة نفيسة. وتحقق أنه من المدعوين إلى تلك الوليمة لا محالة لأنه يهودي. ولم يسأل نفسه هل قبلت دعوة الله وهل خلا قلبي من الشهوات الجسدية التي تكون سبباً لرفضي منها. ووجه المسيح هذا المثل إليه وإلى أمثاله تحذيراً لهم. فكأنه قال أي نفع إن طوبتم من حضروا تلك الوليمة إن لم تقبلوا أنتم الدعوة إليها. وهذا المثل غير المثل المذكور في بشارة متّى ٢٢: ١ - ١٤.
١٦ «فَقَالَ لَـهُ: إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيماً وَدَعَا كَثِيرِينَ».
متّى ٢٢: ٢
إِنْسَانٌ أشار المسيح بهذا إلى الله لأنه ضرب المثل على أثر قول أحد الضيوف «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله».
عَشَاءً عَظِيماً هذا إشارة إلى وليمة الإنجيل التي يذوق المدعوون بعض أطائبها الروحية الآن ويتمتعون بكلها في السماء.
وتنبأ بهذه الوليمة إشعياء (إشعياء ٢٥: ٦). ومرّ الكلام على وجه الشبه بين بركات الإنجيل والوليمة في الشرح (متّى ٢٢: ٢). ويصح أن يعبّر عن وليمة الإنجيل بعشاء عظيم لأن ربها ملك السماء الأعظم وقد استعد لتلك الوليمة قروناً كثيرة.
وَدَعَا كَثِيرِينَ هذا من جملة الأدلة على أن العشاء عظيم والمدعوون هنا اليهود العارفون كالكهنة والكتبة والشيوخ والفريسيين وسائر العلماء الذي عرفوا الكتب المقدسة أحسن معرفة وادعوا الغيرة للناموس وزيادة البر. وجعلتهم زيادة معرفتهم وادعائهم ما ذكر بمنزلة المدعوين أولاً إلى ملكوت الله. وكانت هذه الدعوة دعوة استعداد للحضور لا دعوة حضور. ويظهر مما يأتي أنهم قبلوا الدعوة وإلا لم يأت الخادم ثانية ليخبرهم بحلول وقت العشاء.
فاليهود ادعوا أنهم متوقعون المسيح ومستعدون للترحيب به وأنهم هم الضيوف في الوليمة السماوية لا غيرهم من الناس.
١٧ «وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُوِّينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ».
أمثال ٩: ٢ و٥
عَبْدَهُ أشار بالعبد هنا إلى كثيرين وأفرده بالنظر إلى مقتضى المثل. والذي أرسله الله أولاً ليدعو إلى وليمة الإنجيل هو يوحنا المعمدان ثم يسوع نفسه ثم الرسل والمبشرون الذين نادوا بأن المسيح قد أتى وأخذ يؤسس ملكوته.
لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ لم يكن كل شيء معداً إلا بعد أن أتى المسيح الموعود به انظر الشرح متّى ٢٢: ٤.
١٨ - ٢٠ «١٨ فَٱبْتَدَأَ ٱلْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَـهُ ٱلأَوَّلُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. ١٩ وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. ٢٠ وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِٱمْرَأَةٍ، فَلِذٰلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ».
تثنية ٢٤: ٥
ٱلْجَمِيعُ لا يحسن أن يُفهم من ذلك أن كل رؤساء اليهود وعلمائهم رفضوا المسيح لأن بعضهم آمن به كنيقوديموس ويوسف الرامي وغيرهما. لكنهم كانوا قليلين كما ظهر من قول الرؤساء «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ ٱلرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ» (يوحنا ٧: ٤٨).
بِرَأْيٍ وَاحِدٍ كانت الأعذار بعدم قبول الدعوة مختلفة لكنه كان روح الكل واحداً فكانوا كأنهم اتفقوا على رأي واحد.
يَسْتَعْفُونَ علّة استعفاء رؤساء اليهود الحقيقية هي ما في قوله «فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي» (يوحنا ١٥: ٢٤). وعدم رغبتهم في الروحيات التي دعاهم المسيح إليها. وكان بعض أعذارهم يختلف عن بعض وكلها كاذباً. على أنها لو صحت لكانت غير كافية. وجميعها مبني على الأهواء الدنيوية كمحبة المال والمتاجر واللذات وهذه ليست شريرة بالذات لكنها صارت كذلك بتقديمها على غيرها ولأنها تمنع أصحابها عن طلب الخير الروحي السماوي. وكلها تبين الاستخفاف برب الوليمة وعدم الاكتراث بما أعده. ومما يبين بطلانها كونهم قد قبلوا الدعوة في أول الأمر.
وطلب الأول الإعفاء بحجة الاضطرار فقال «أنا مضطر... أسألك أن تعفيني» وطلب الثاني الإعفاء بحجة عزمه على أمر سابق فقال «أنا ماض... أسألك أن تعفيني». وأما الثالث فلم يطلب الإعفاء بل اكتفى بقوله «لا أقدر أن أجيء». فعذر الثالث كان مقبولاً حسب شريعة موسى لو كانت الدعوة إلى حرب (تثنية ٢٤: ٥) ولكنه لم يُقبل في عدم المجيء إلى وليمة قبل الدعوة إليها قبلاً.
ومثل هذه الأعذار الباطلة كل الأعذار التي يوردها الناس في عدم اهتمامهم بخلاص نفوسهم وعدم قبولهم المسيح الآن مخلصاً لهم. ومهما ظهرت لهم تلك الأعذار كافية الآن فهي غير كافية لدى الله ولا تظهر لهم كافية في يوم الدين.
٢١ «فَأَتَى ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذَلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ: ٱخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا ٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْجُدْعَ وَٱلْعُرْجَ وَٱلْعُمْيَ».
فَأَتَى... وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ هذا من أعراض المثل بالنسبة إلى الناس فإن الله يعلم كل شيء بلا حاجة إلى أن يخبره أحد.
غَضِبَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ لأنه علم أن تلك الأعذار باطلة وأن علّة استعفائهم بغضهم إياه ولأنهم أهانوه بذلك. وكذا يغضب الله على كل من لا يؤمن به ولا يقبل إنجيله.
ٱخْرُجْ... إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ يستدل من قوله «شوارع المدينة» أن الدعوة الثانية كانت لليهود كالأولى إلا أنها للعشارين والخطاة منهم وهم معدودون من أدنياء الشعب وهم المشار إليهم في ع ١٣. فالله يدعو إلى وليمته الروحية أمثال هؤلاء وفقاً لنصح المسيحي للفريسي أن يفعل في الوليمة الأرضية.
٢٢ «فَقَالَ ٱلْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ».
قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ أي دعوا الناس من الشوارع وأتوا بهم. وكذا كان في الإقبال إلى المسيح «وَكَانَ ٱلْجَمْعُ ٱلْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ» (مرقس ١٢: ٣٧).
وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ كذلك السماء واسعة ومعدّات فداء المسيح ونعمة الله غير محدودة تكفي العالم كله.
٢٣ «فَقَالَ ٱلسَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: ٱخْرُجْ إِلَى ٱلطُّرُقِ وَٱلسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي».
ٱلطُّرُقِ وَٱلسِّيَاجَاتِ هذه في خارج المدينة. وأشار بهذا الكلام إلى دعوة الأمم. وعبّر عنهم بمصطلحات اليهود فإنهم كانوا يحسبون الأمم مثل كناسة مدينتهم المقدسة. فعلى هذا صارت دعوة الإنجيل لخطأة كل الأجيال الذين يشعرون بافتقارهم إلى المسيح ونعمته.
أشار المسيح بالدعوة الأولى والثانية إلى ما كان من دعوة الإنجيل في الماضي والحال وبالدعوة الثالثة إلى ما يكون في مستقبله إلى ما يصير من يوم الخمسين إلى نهاية العالم.
وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُولِ لا بالإجبار أو بالرغم بل بشدة الإلحاح لأن الذين مساكنهم السياجات يرون أنفسهم ليسوا أهلاً للدخول إلى قصور الأغنياء والتعشي هنالك فيحتاجون إلى من يحقق لهم أنه يرحب بهم هنالك. وكذلك على المبشرين أن يستعملوا كل ما في طاقتهم من البراهين القاطعة المبنية على تهديدات الناموس أو مواعيد الإنجيل ليقنعوا الناس بأن يقبلوا المسيح ودعوته. وهذا وفق قول بولس «فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ نُقْنِعُ ٱلنَّاسَ» (٢كورنثوس ٥: ١١). وقوله «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ ٱللّٰهِ» (رومية ١٢: ١). وقوله «كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ» (٢كورنثوس ٥: ٢٠). وهذا الكلام يدل على رغبة الله في خلاص الجميع وأنه لا يرفض أحداً لفقره أو لجهله أو لخطاياه السالفة.
حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي يدل هذا على كثرة الناس الذين يؤمنون أخيراً بالمسيح ويخلصون. فيتم قصد الرحمة الإلهية للخلاص وإن كان بعض اليهود والأمم يستخفون بنعمته ويهلكون.
٢٤ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ ٱلرِّجَالِ ٱلْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي».
متّى ٢١: ٤٣ و٢٢: ٨ وأعمال ١٣: ٤٦
لا يلزم من كلام رب البيت هنا على من رفضوا دعوته وأهانوه أن لا يخلص أحد من اليهود أو من الفريسيين أو من سائر علمائهم بل إنّ جميع الذين يرفضون دعوة الخلاص يهلكون لا محالة (أمثال ١: ٢٨ ومتّى ٢٥: ١١ و١٢). وينتج من ذلك أنّ المتباطئ عن قبول الدعوة في خطر عظيم لأنه يقاوم الروح القدس الذي يحثه على القبول. وأن رافضي الخلاص اليوم سيطلبونه عبثاً أخيراً. وذهب البعض إلى أن نهاية المثل في الآية الثالثة والعشرين وأن هذه الآية من كلام المسيح على نفسه فكأنه قال «لأني رب الوليمة السماوية أصرّح لكم أنكم لا تذوقون عشائي السماوي لانكم رفضتموني».
خطاب المسيح للجمع في شروط التلمذة ع ٢٥ إلى ٣٥
٢٥ «وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَـهُمْ».
سَائِرِينَ مَعَهُ كان المسيح سائراً في بيرية إلى أورشليم فازدحم عليه الناس ليشاهدوا معجزاته ويسمعوا تعليمه. والأرجح أنهم لم يسيروا معه كل الطريق بل كانوا يأتون إليه جماعات ويذهبون على التوالي.
فَٱلْتَفَتَ أي وقف قليلاً ليفهّم الناس ما يحتاجون إليه لكي يكونوا تلاميذه حقيقة لا ممن يقتصروا على المشاهدة والتعجب.
٢٦ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً».
تثنية ١٣: ٦ و٣٣: ٩ ومتّى ١٠: ٣٧، يوحنا ١٢: ٢٥، رؤيا ١٢: ١١
معنى هذه الآية كمعنى الآية ٣٧ من ص ١٠ من بشارة متّى إلا أن الكلام أشد فانظر الشرح هناك.
يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ الخ لم يقصد المسيح بهذا أن يبغض الإنسان والديه وأهل بيته حقيقة كما يظهر من سلوكه مع أمه (يوحنا ١٩: ٢٥ - ٢٧) بل عنى أنه يجب أن تكون محبته لهم أقل من محبته له حتى يكون حبه لهم بالنسبة إلى حبه إياه كالبغض إلى المحبة. ويوضح أن هذا هو المراد من ذكره البغض للنفس مع البغض للوالدين والإخوة. ولا ريب في أنه يجب علينا أن نحب أقاربنا وأن نعز حياتنا الجسدية ونعتني بها ولكن إذا اضطررنا أن نختار بين المسيح وأقاربنا وحياتنا وجب علينا أن نفعل كأننا أبغضناهم أي لا نلتفت إليهم وأن نلتصق بالمسيح. فخير لنا أن نغيظ أفضل أصحابنا الأرضيين من أن نغيظ الذي مات على الصليب من أجلنا.
٢٧ «وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً».
متّى ١٦: ٢٤ ومرقس ٨: ٣٤ وص ٩: ٢٣ و٢تيموثاوس ٣: ١٢
انظر الشرح متّى ١٠: ٣٨.
علمنا من الآية السابقة وجوب أن نستعد إكراماً للمسيح أن نخسر أصحابنا على الأرض وحياتنا الجسدية. ومن هذه الآية وجوب أن نحتمل المشقة والعار كل يوم من أجل المسيح.
٢٨ - ٣٠ «٢٨ وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ ٱلنَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ ٢٩ لِئَلاَّ يَضَعَ ٱلأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ ٱلنَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، ٣٠ قَائِلِينَ: هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ».
أمثال ٢٤: ٢٧
يعلّمنا المسيح (من ع ٢٨ - ٣٠) أن نحسب النفقة التي تلزمنا باتباعه قبل الشروع في خدمته. وفسر المسيح مقصوده بمثلين لم يذكرهما إلا لوقا. والأول مثل بناء البرج. والثاني إنشاء الحرب.
أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً يقتضي ذلك نفقة وافرة فالإنسان الحكيم يشتغل قبل أن يبتدئ البناء وقتاً كافياً بأن يحسب قدر النفقة اللازمة لبنائه ويستشير المختبرين مثل ذلك الأمر ثم يعتمد مقصده إذا وجد أنه قادر. وذلك لكي لا يبتدئ يبني ثم يضطر إلى ترك البناء لحزنه وخسرانه وتعريض نفسه لهزء الناس كما يفعل الجهلاء.
وأشار المسيح بهذا التشبيه إلى وفرة النفقة على من أراد أن يكون له تلميذاً كخسرانه محبة الأصحاب واعتبار عامة الناس والمال حتى الحياة نفسها. ودعا الحاضرين إلى التأمل في أنهم أمستعدون هم لتلك الخسارة أم غير مستعدين. وليس قصد المسيح من ذلك تقليل رغبة أحد في الخلاص فإنه يشاء أن الكل يقبلون إليه وينالون الحياة الأبدية. لكنه لم يرغب في أن يتبعه أفواج من الناس وهم يتوقعون المراتب الدنيوية والمجد العالمي والانتصار على الأعداء ويرجعون عند وقوع المصائب لأن ذلك ضرر لنفوسهم وعثرة للغير ممن يريدون الإقبال عليه وعار لكنيسة المسيح. وهذا وفق قول الجامعة «أَنْ لاَ تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلاَ تَفِيَ» (جامعة ٥: ٥).
٣١، ٣٢ «٣١ وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ ٱلَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ ٣٢ وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذٰلِكَ بَعِيداً، يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ».
هذا المثل يوضح جهالة الإنسان الذي يشرع في محاربة من هو أقوى منه بدون استعداد ونظر في العواقب. لأنه يعرض بذلك جسده وأجساد جنوده للقتل وأمواله وملكه للخسارة مع أن الحكمة تدل على طريق أكثر أمناً ونفعاً له.
ومعنى ذلك الروحي وجوب نظر العواقب في الأمور الدينية حتى لا يشرع الإنسان في شيء عاقبته العار والخسارة. فنكتفي بمقصود المثل الروحي بقطع النظر عن أعراضه. ومن أراد الوقوف على تفسير تلك الأعراض لبعض المفسرين فلينظر ما نورده له هنا.
إن الملك الذي له عشرة آلاف هو الإنسان الذي يرغب في خلاص نفسه ويجتهد في الحصول عليه بأعماله الصالحة فقوته على تحصيل ذلك الخلاص في عينيه تعدل قوة عشرة آلاف جندي في الحرب. وان الملك الثاني الذي له عشرون ألفاً هو الله الذي أنشأ الشريعة المقدسة وهو غيور في أن يطيعه الناس الطاعة الكاملة وليس للخاطئ الطالب الخلاص أدنى رجاء أن يحفظ تلك الشريعة من تلقاء نفسه وأن يدخل السماء ببره الذاتي. وعلى هذا يكون رجاؤه نجاح عمله باطلاً. فطريق الحكمة الوحيدة أن يترك كل اجتهاده في تبرير نفسه بأعماله الصالحة ويلقي نفسه على رحمة الله قابلاً شروط الصلح وهي التوبة والإيمان وإنكار الذات. ولكن الأحسن الاكتفاء بمقصود المثل الروحي وقطع النظر عن أعراضه كما ذكرنا.
٣٣ «فَكَذٰلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً».
معنى ذلك أن عار الإنسان وخسارته وهو يدعي أنه تلميذ المسيح ولم يستعد لإنكار الذات كعار باني البرج الجاهل والملك المحارب حمقاً وخسارتهما.
٣٤، ٣٥ «٣٤ اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلٰكِنْ إِذَا فَسَدَ ٱلْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ ٣٥ لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ، فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجاً. مَنْ لَـهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!».
متّى ٥: ١٣ ومرقس ٩: ٥٠
انظر الشرح متّى ٥: ١٣ ومرقس ٩: ٥٠.
الأصحاح الخامس عشر
تذمر الفريسيين على المسيح لقبوله الخطاة ع ١ و٢
١، ٢ «١ وَكَانَ جَمِيعُ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. ٢ فَتَذَمَّرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: هٰذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُم».
متّى ٩: ١٠، أعمال ١١: ٣ وغلاطية ٢: ١٢
جَمِيعُ ٱلْعَشَّارِينَ أي كثيرين منهم وهم أكثر الجمع. وقد مرّ الكلام عليهم في الشرح متّى ٩: ١٠ و١١.
يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ كانوا يأتون إلى المسيح على التوالي لا ليشاهدوا معجزاته فقط بل ليسمعوا تعليمه أيضاً. وأظهروا باقترابهم إليه رغبتهم في الفائدة لأنهم شعروا بإثمهم واحتياجهم إلى مغفرة الله ولم يجدوا في تعليم رؤساء اليهود ما يدلهم على طريق المصالحة لله كما في تعليم المسيح. لأن أولئك الرؤساء حسبوا هؤلاء العشارين أشراراً نجسين لا يستحقون أن يدنوا منهم ويتعلّموا وأنه لا فائدة من تعليمهم إذ لا يُرجى أن يدخلوا السماء.
فَتَذَمَّرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ ادعى هؤلاء طهارة عجيبة وبراً سامياً (انظر الشرح متّى ٥: ٢٠). فاحتقروا العشارين وأبغضوهم لأجل مهنتهم وقبح سيرتهم. وأظهروا ذلك بتذمرهم في قلوبهم أو بمخاطبة بعضهم بعضاً.
هٰذَا قالوا ذلك استخفافاً به كأنه لم يستحق أن يلقب بمعلم أو رباني أو نبي لأنه كان يعلّم العشارين.
يَقْبَلُ خُطَاةً أي يلطف بهم ويأذن لهم في أن يتعلّموا منه. ودل كلامهم على كبريائهم وتعجبوا من عمل المسيح وهزئهم به. فليس لهم شفقة على أولئك الخطاة ولا رغبة في خلاصهم ولم يأتوا أدنى الوسائط إلى ترجيعهم إلى الله والقداسة. ولم يستطيعوا أن يدركوا مقاصد المسيح بقبوله إياهم. واستنتجوا من فعله أنه خاطئ كسائر العشارين زعماً أنه لو لم يكن كذلك ما عاشرهم. وأنه لو كان نبياً مقدساً لطلب معاشرة القديسين والأبرار كالفريسين أنفسهم وتجنب معاشرة أولئك النجسين لكن فعل ما فعل بغية خلاصهم. فالذي حسبه اليهود عاراً على المسيح حسبه المسيح شرفاً عظيماً وهو خير لنا لأننا خطاة محتاجون إلى قبوله إيانا. وشكوى الفريسيين عينها برهان على أن يسوع هو المسيح.
وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ فعل ذلك في الجليل كما ذُكر في متّى ٩: ١٠ و١١. ولعله فعل مثله في بيرية حينئذ لتكون له فرصة لتعليمهم وإقناعهم بخلوص حبه لهم (انظر رؤيا ٣: ٢٠).
وتذمر الفريسيون عليه قبلاً لهذه العلّة عينها وجاوبهم بضربه مثل الطبيب والمرضى وقد مرّ تفسير ذلك في شرح ص ٥: ٢١. وجاوبهم هنا بضرب ثلاثة أمثال تبريراً لذاته بما فعل وإظهاراً لرحمة الله للخطاة التائبين. وكتب لوقا إنجيله لفائدة الأمم وكانت غايته أن يؤكد لهم استعداد الله لقبولهم ولذلك أكثر من إيراد الأمثال التي تظهر رحمة الله.
مثل الخروف الضال ع ٣ إلى ٧
٣، ٤ «٣ فَكَلَّمَهُمْ بِهٰذَا ٱلْمَثَلِ: ٤ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَـهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا، أَلاَ يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لأَجْلِ ٱلضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟».
خروج ٣٤: ٦ و١١ إلى ١٥ ومتّى ١٠: ٦ و١٨: ١٢
ورد هذا المثل في بشارة متّى ١٨: ١٢ - ١٤. والغاية منه هنالك إظهار قيمة خروف واحد والغاية من إيراده هنا إظهار شفقة الراعي في طلبه.
أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ أي غايتي من هذا السؤال أن أبين لكم أنه إذا كان أحد منكم لا يكره أن يتعب هذا التعب لرد خروف ضال أفمن الغريب أن أتعب أنا لإنقاذ نفس ضالة.
فِي ٱلْبَرِّيَّةِ المراد بالبرية هنا أرض لم تفلح ترعى فيها الغنم ويمكن أن تضل فيها لفرط اتساعها.
وَيَذْهَبَ لأَجْلِ ٱلضَّالِّ هذا مما يجب على الراعي أن يفعله. وكان يجب على المسيح أن يفعل مثله للناس الضالين تتميماً لواجباته باعتبار كونه راعي النفوس (إشعياء ٤٠: ١٧ وحزقيال ٣٤: ٦ و١١ - ١٥).
حَتَّى يَجِدَهُ أشار المسيح بذلك إلى كل ما عمله لأجل الخطأة وتألم من أجلهم منذ ترك السماء ووُلد في بيت لحم إلى أن رجع إلى السماء بعد موته على الصليب. فلم يرسل المسيح ملاكاً أو رئيس ملائكة ليجد الضالين لكنه ذهب هو نفسه ليجدهم.
٥ «وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً».
حمله الخروف على منكبيه ضرروي لأن الخروف الضال كان قد أعيا من الجولان فلم يضربه الراعي بل حمله فكان في راحة وأمن. كذلك المسيح بمعاشرته العشارين والخطاة طلب أن يردهم إلى القداسة والنجاة من الهلاك الأبدي. ويعتني بتعليمهم بالرفق. وأن يصونهم من تجارب الشيطان ويوصلهم إلى السماء ويسر بكل ما فعل من ذلك.
٦ «وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو ٱلأَصْدِقَاءَ وَٱلْجِيرَانَ قَائِلاً لَـهُمُ: ٱفْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي ٱلضَّالَّ».
إشعياء ٤٠: ١١ ومتّى ٩: ٣٦ و١بطرس ٢: ١٠ و٢٥
يَدْعُو ٱلأَصْدِقَاءَ وَٱلْجِيرَانَ لم يذكر المسيح هؤلاء في ضربه لهذا المثل قبلاً (متّى ١٨: ١٢ - ١٤) ومن مقتضيات الطبع أن الذي يجد خروفه يدعو أصدقاءه إلى الفرح معه. وذكر المسيح ذلك لكي يعطي فرصة ليقابل الفرح بوجدان الخروف بفرح السماء بخلاص خاطئ.
٧ «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ».
ص ٥: ٣٢
فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ يعرف القديسون والملائكة قيمة النفس وعظمة العذاب الذي يقع على النفس الهالكة وعظمة السعادة التي تنالها النفس الخالصة. ويعرفون محبة المسيح للخطاة وما احتمله لأجل خلاصهم ولذلك يفرحون عند توبة الخاطئ.
ويقابل المسيح هنا فرح السماء لتوبة خاطئ واحد بتذمر الفريسيين والكتبة عليه لطلبه خلاص الخطأة.
بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ ذكر في المثل فعل الراعي فقط لأن الخروف لا يتوقع أنه يندم ولكنه ذكر هنا توبة الخاطئ لأنها شرط ضروري لخلاصه وهو قادر على ذلك وواجب عليه.
وفي هذا العدد إشارة إلى عظمة فرح السماء أخيراً حين يجتمع فيها ربوات وربوات لا تحصى من الخطاة التائبين الذين يفرحون مع المسيح.
وعلّم المسيح في هذا المثل كنيسته أن تتمثل به في طلب الضالين في برية العالم الواسعة وأن يفرحوا بسمعهم أنباء الإنجيل بين الأمم وقبولهم الخلاص.
مثل الدرهم المفقود ع ٨ إلى ١٠
٨ «أَوْ أَيَّةُ ٱمْرَأَةٍ لَهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً، أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ ٱلْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِٱجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟».
أمثال ٢٠: ٢٧ وصفنيا ١: ١٢
معنى هذا المثل كمعنى المثل السابق وهو إظهار محبة المسيح وشفقته في طلب الخطأة الضالين وفرحه بنجاتهم.
أَيَّةُ ٱمْرَأَةٍ لا مقصد من ذكر المرأة بدل الإنسان إلا أن كنس البيت من أعمال المرأة غالباً ولا من ذكر البيت خاصة ولا من ذكر عدد العشرة دون غيره ولا من ذكر السراج إلا بيان قيمة المفقود ورغبة صاحبته في وجدانه وفرحها بذلك.
عَشَرَةُ دَرَاهِمَ الدرهم نقد يوناني قيمته كقيمة الدينار الروماني (انظر الشرح متّى ٢٠: ٢) وقيمة الدينار أربعة غروش ونصف غرش وهو أجرة الفاعل في اليوم فقيمة عشرة دراهم خمسة وأربعون غرشاً.
أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً قيمة درهم لامرأة لها عشرة دراهم أعظم من قيمة خروف لصاحب مئة خروف.
أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً الخ أوقدت المصباح لكي تفتش عن الدرهم في بعض زوايا البيت المظلمة التي لم يقع عليها ضوء الشمس وكنست البيت لكي يقع نظرها على كل جزء من أجزاء أرض البيت وهذان العملان يظهران اهتمام المرأة بالدرهم المفقود وفرط رغبتها واجتهادها في إصابته. وكل ذلك إشارة إلى قيمة نفوس الخطأة عند الرب وحزنه على فقدان واحدة منها فإنه ترك السماء لينشد النفوس الضالة ويخلصها.
٩، ١٠ «٩ وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو ٱلصَّدِيقَاتِ وَٱلْجَارَاتِ قَائِلَةً: ٱفْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ ٱلدِّرْهَمَ ٱلَّذِي أَضَعْتُهُ. ١٠ هٰكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ».
تَدْعُو ٱلصَّدِيقَاتِ وَٱلْجَارَاتِ مشاركة هؤلاء لتلك المرأة في فرحها إشارة إلى مشاركة جنود السماء للمسيح في مسرته بخلاص الخاطئ. وفي ذلك توبيخ آخر للفريسيين على عدم اكتراثهم بخلاص نفوس العشارين والخطأة وتبرير آخر لعمله بقبوله إياهم وأكله معهم لكي يفيدهم.
مثل الابن الضال ع ١١ إلى ٣٢
١١ «وَقَالَ: إِنْسَانٌ كَانَ لَـهُ ٱبْنَانِ».
حُسب هذا المثل تاج أمثال المسيح كلها وإنجيلاً مختصراً ضمن إنجيل يُظهر محبة الله المنقذة التي هي غاية الإنجيل كله.
ومقصود المسيح به كمقصوده في المثلين السابقين إظهار رحمة الله للخطأة ورغبته في قبول الراجعين إليه بالتوبة والتوبيخ للفريسيين المتذمرين عليه. ولم يتلفظ المسيح بالنتيجة بل تركها لتأمل السامع والقارئ.
ولهذا المثل تقدم على المثلين السابقين في إيضاح قيمة النفس. فالمفقود في الأول واحد من مئة وفي الثاني واحد من عشرة وفي الثالث واحد من اثنين وقيمة خروف لدى صاحب مئة خروف دون قيمة درهم لدى صاحبة عشرة دراهم ولكن قيمة الولد لدى أبيه أعظم من كل تلك الخراف والدراهم بما لا يقاس.
وله التقدم عليهما في إظهار عواطف الله للضالين. وفي الأول بيان أن أتعاب ابن الله وآلامه من أجل الخاطئ مبنية على شفقته كشفقة الراعي على الخروف الضال الذي صار عرضة لافتراس المهلك. وفي الثاني بيان اهتمام المسيح بإصابة المفقود ورغبته في ذلك بناء على قيمة النفس التي أعطاه الآب إياها كاهتمام المرأة ورغبتها في إصابة درهمها الثمين في عينيها. وفي الثالث اشتياق الله الآب إلى رجوع الخاطئ إليه كاشتياق الوالد الحنون إلى ابنه الضال.
وفي المثل الثالث أمران زائدان على ما في كل من المثل الأول والمثل الثاني.
الأول: بيان ما يجب أن يعمله الخاطئ نفسه لكي يرجع وهو التوبة وهذا لا يمكن بيانه في مثل الخروف الضال ومثل الدرهم المفقود.
الثاني: بيان أن الخطيئة ليست بمانع من رجوع الخاطئ ولا من مسرة الله برجوعه فإنه لا يصح أن يُنسب إلى الخروف والدرهم ذنب يوجب غضب الراعي على خروفه وغضب المرأة على درهمها حتى لا يعودا يسألان عنهما. وأما الابن الضال فعلم أنه أخطأ إلى أبيه وأن لأبيه حقاً أن يغضب عليه ويرفضه ولكنه مع ذلك رحب به حين رجع كذلك الله يرحب بالخطأة التائبين.
إِنْسَانٌ المراد به هنا الآب السماوي الذي «كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (٢كورنثوس ٥: ١٩).
ٱبْنَانِ المراد بالأكبر منهما الفريسيون والكتبة وبالأصغر العشارون والخطاة. ويصح أن يراد بالأكبر اليهود وبالأصغر الأمم. ويصح أيضاً أن يراد بالأول كل المتكبرين المتكلين على برّ أنفسهم يهوداً وأمماً وبالثاني كل الذين يعترفون بآثامهم ويرجعون عنها إلى نهاية الزمان.
١٢ «فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ ٱلَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ ٱلْمَالِ. فَقَسَمَ لَـهُمَا مَعِيشَتَهُ».
تثنية ٢١: ١٧، مرقس ١٢: ٤٤
أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ هذا طلب غير شرعي ولا يحسن بالابن أن يطلبه من أبيه. ولا دليل على أن ذلك كان سائغاً في الشريعة اليهودية نعم إنّ إبراهيم قسم ماله على أولاده في حياته لكنه أتى ذلك اختياراً منعاً لانشقاق العائلة (تكوين ٢٥: ٥ و٦) وطلب هذا الابن ذلك القسم ليمكنه الإنفاق على شهواته الجسدية. وهذا إشارة إلى أول خطوة من خطى الإنسان في سبيل الخطية وخلاصته أن يتحرر من الله وشريعته ويكون إلهاً لنفسه تابعاً ميل قلبه (تكوين ٣: ٥). فكل إنسان إذا تبع ميله الطبيعي كان كالابن الأصغر في رغبته في لذات العالم والخطيئة.
فَقَسَمَ لَـهُمَا مَعِيشَتَهُ اختياراً وتلطفاً لا على رغمه. وكان ثلثا المال للأكبر والثلث للأصغر حسب شريعة موسى (تثنية ٢٧: ١٧) فأعطى الابن الأصغر قسمه وأبقى عنده قسم الأبن الأكبر. كذا الله يترك الإنسان حراً ولا يجبره على خدمة غير مرضية ليختبر هل عبوديته لشهواته وللشيطان أهون من الخدمة لله تعالى (رومية ١: ٢١ و٢٨).
١٣ «وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ ٱلابْنُ ٱلأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَـهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ».
جَمَعَ... كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ لعلّ حادثة مثل هذه ليست بغريبة في تلك الأيام وهي أن شاباً يهودياً يترك اليهودية ويسافر إلى إسكندرية أو كورنثوس أو رومية ويبلغ أهله أنه ينفق أمواله على الزواني (ع ٣٠) غير مكترث بدينه ولا مهتم بأبيه. والمراد بالكورة البعيدة نسيان الله بالبعد القلبي لا البعد المكاني. وهذا البعد يتبع حالاً الاستقلال عن الله ومحبة الخليقة تنزع من القلب محبة الخالق.
بَذَّرَ مَالَـهُ لا أحد مسرف كالخاطئ فإنه ينفق على شهواته القوة والمواهب والبركات التي منحه الله إياها لمجده تعالى ولخير الناس وهذا عاقبة الاستقلال عن الله.
بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ لأن الخطيئة استولت عليه فكان كالخروف في حال ضلاله والدرهم وهو مفقود.
١٤ «فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ».
حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ لم يكن حدوث المجاعات في الأيام القديمة من غرائب الأمور لأنه لم تكن السفن ووسائط نقل الطعام كثيرة كما في هذه الأيام (انظر أعمال ١١: ٢٨).
فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ كان تمتع الابن بحريته وتصرفه حسب شهواته إلى حين ثم كثرت عليه النوائب فأفلس في وقت المجاعة وجاع كثيراً. وهذا يدلنا طبعاً على أن أصحابه الأشرار تركوه. والمراد بتلك المجاعة عدم إمكان لذّات هذا العالم أن تشبع النفس فإنها تشتهي محبة الله والحق وراحة الضمير والخبز من السماء (يوحنا ٦: ٣٢). وجوع الجسد ليس شيئاً بالنسبة إلى جوع النفس التي شعرت ببعدها عن الله (إرميا ٢: ١٩ و١٧: ٥ و٦). فشعور النفس باحتياجها إلى الله هو فعل الله عينه وذلك الشعور كصوت الله يدعو الضال إلى وطنه السماوي.
١٥، ١٦ «١٥ فَمَضَى وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَأَرْسَلَـهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. ١٦ وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ».
ص ١٦: ٢١
وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ لم يكن ذلك عملاً شريراً فإنه أتى ذلك رغبة في إصلاح شأنه. فخير له أن يجوع وهو مع الخنازير من أن يشبع في ولائم الزواني. وكان يجب عليه عند ذلك أن يرجع إلى بيت أبيه ولكنه استحيا أن يفعل ذلك لكبريائه حينئذ فظن أنه يحصّل وسائط معاشه بتعبه فذهب أمله عبثاً.
فَأَرْسَلَـهُ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ طلب هذا الابن التخلص من خدمة أبيه الخفيفة فاضطر إلى خدمة أجنبي ثقيلة تُعد عند اليهود أنجس وأكره خدمة.
ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ يستدل بهذا أن عمله كان أن يذهب إلى البرية حيث شجر الخرنوب ويجني ثمره ويطرحه للخنازير.
فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ أي لم يعطه أحد طعاماً غير الخرنوب واضطر إلى أكل ذلك لأنه لم يهتم أحد به. ولم يشبع من ذلك الثمر لأنه ليس من المغذيات الحسنة الموافقة للإنسان. على أن تلك الحال الرديئة كانت خيراً له من حاله وهو يهيم في أودية شهواته لأنه لو بقي في حال الترفة لظل بعيداً عن بيت أبيه لكن مصائبه كانت بركات له إذ قادته إلى التوبة والرجوع. وخلاصة نتائج ضلاله أنه بدل صرّح أبيه بالبرية وعشرة أهله بعشرة الخنازير وخيرات ذلك الصرح بالخرنوب وشبعه بالجوع. والمعنى الروحي من ذلك هو أن الإنسان بعدما يشعر بأن لذات هذا العالم ليست كافية لتشبع نفسه وبان بعده عن الله علّة الشقاء يجتهد أن يصلح نفسه بالآداب الظاهرة دون الديانة القلبية فيكون معتمده حفظ أعمال الناموس بغية راحة الضمير فيجد أنه أردأ من ذي قبل بدلاً عمّا رامه من الإصلاح.
١٧ «فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً!».
فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ لأنه كان في حال جهله كالمجنون (جامعة ٩: ٣). فمن ينقاد لشهواته يشبه البهيمة بل المجنون.
فرجوع الابن إلى نفسه الخطوة الأولى من رجوعه إلى أبيه ورجوع الخاطئ إلى نفسه استعداد لرجوعه إلى الله لأنه يسير حينئذ بمقتضى العقل والضمير لا الشهوات.
كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي ذكر الابن حال بيت أبيه وقابلها بحالته التعيسة فإنه صار أجيراً ولكنه دون الأجراء في بيت أبيه. ولس للأجراء في هذا المثل من معنى روحي سوى الأصاغر في بيت الله. فالخاطئ يقابل حاله بحال واحد منهم فيحزن لعظمة الفرق بينهما.
يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ بدل الخرنوب. وزيادة الخبز على أجراء أبيه مقابل الجوع الذي يهلكه.
أَنَا أَهْلِكُ جُوعاً ذلك إشارة إلى نتيجة الخدمة للعالم بدلاً من الخدمة لله فالشعور بالشقاء استعداد للرجوع إليه تعالى.
١٨ «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَـهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ».
أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي نتج هذا العزم من تأمله في سوء الحال التي صار إليها وذكره أن له أباً وثقته بمحبة أبيه وبأنه يغفر له فلم ييأس ويهلك كبعض الضالين. كذلك الخاطئ الذي يشعر بأنه هالك لبعده عن الله يعزم على الرجوع إليه بالتوبة ولكنه لا يفعل ذلك إلا بأن يجذبه الآب السماوي ولا يستطيعه إلا بوسيط أعده الآب (عبرانيين ١٠: ١٩ - ٢٢).
أَخْطَأْتُ الاعتراف بالخطيئة شرط ضروري للمغفرة ولا تكون التوبة صحيحة بدونه (١يوحنا ١: ٩ و١٠).
ولم يعتذر الابن بشبيبته وطيشه وجهله وقوة التجربة بل اعترف بذنبه. وهكذا يليق بكل أثيم أن يصلّي قائلاً كالعشار «اللهم ارحمني أنا الخاطئ».
إِلَى ٱلسَّمَاءِ أي إلى الله. علامة التوبة الحقيقية هي شعور الخاطئ بأنه أخطأ إلى الله وأن ذلك أعظم جرماً من الإخطاء إلى الناس. كذا كانت توبة داود بدليل قوله «إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ» (مزمور ٥١: ٤).
وَقُدَّامَكَ لأنه تركه واستهان بنصائحه وعيّره بسيرته الردية وبدّد ماله. فمن أخطأ إلى الله والناس وجب أنه بعد اعترافه لله يعترف لمن أخطأ إليه من الناس وإن صعب عليه أن يتضع أمامهم أكثر مما يصعب عليه الاتضاع أمام الله.
١٩ «وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ».
لَسْتُ مُسْتَحِقّاً الخ من علامات التوبة الحقيقية التواضع وأفضل برهان على أن الإنسان مستحق القبول رؤيته أنه غير مستحق.
٢٠ «فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَه».
أعمال ٢: ٣٩ وأفسس ٢: ١٣ و١٧ ويعقوب ٤: ٨
فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ أظهر بأعماله الصالحة صحة توبته وإيمانه فكل انفعالاته ودموعه ومقاصده الخيرية لم تنفعه لو لم يعمل بموجبها فالذي فعله الابن في المثل كالذي فعله العشارون والخطاة بإتيانهم إلى المسيح (ع ١). وكل خاطئ يولد ثانية حيثما يترك العالم ويشرع في الرجوع إلى الله وإلى القداسة وإلى السماء.
وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ يظهر من هذا أن أباه كان يتوقع رجوعه ويرقبه.
فَتَحَنَّنَ عرف ابنه حالاً مع كل ما صار إليه من سوء الحال. ولم يحتج إلى ما يعطف قلبه على ابنه من التضرعات فإنه رقّ له بلا واسطة.
وَرَكَضَ لعلّ الابن كان بطيء السير لخجله فلم يصبر أبوه إلى أن يصل إليه فلاقاه سائراً جزءاً من الطريق دلالة على مسرته برجوعه.
وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ علامة حبه له (تكوين ٤٥: ١٤ و٤٦: ٢٩ و٢صموئيل ١٤: ٣٣).
وَقَبَّلَـهُ كان ذلك علامة الصفح والسلام والمحبة (تكوين ٣٣: ٤ و٢صموئيل ١٤: ٣٣ ومزمور ٢: ١٢).
وفي هذا بيان عظمة محبة الله للخطأة واستعداده لقبول الراجعين إليه بالتوبة فإن الله يراقبهم في كل تيههم وهو الذي يخلق فيهم الرغبة في الرجوع إليه. ومحبة الآب هي علّة عمل الفداء «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ الخ» (يوحنا ٣: ١٦).
وهذا المثل شرح لهذه الآية. فركض الوالد لملاقاة ولده إشارة إلى إرسال الله ابنه يسوع من عرشه السماوي إلى هذه الأرض ومحل اجتماعه بالخاطئ هو الصليب على الجلجثة وقبله الصفح إشارة إلى تمام المصالحة التي هي غاية الفداء.
٢١ «فَقَالَ لَـهُ ٱلابْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً».
مزمور ٥١: ٤
لم يشر الآب إلى خطيئة ولده بشيء من إمارات وجهه ولا بلفظة من كلامه. وحقق رضاه عليه بقبلة المغفرة ومع ذلك كله اعترف الابن بذنبه لأن إظهار الآب محبته لابنه جعلته يشعر كل الشعور بما ارتكبه من الإثم بعصيانه على والده الرؤوف. فالمسيحيون الحقيقيون لا يزالون مدة الحياة يعترفون بخطاياهم ويحزنون عليها كلما أظهر الله محبته لهم. وقد جاء مثل ذلك في نبوءة حزقيال فإنه بعدما حقق الله لبني إسرائيل تجديد قلوبهم وتطهيرهم من كل نجاساتهم وأصنامهم وإحيائهم وتليين قلوبهم وسكون روحه فيهم (حزقيال ٣٦: ٢٥ - ٢٧) قيل فيهم «فَتَذْكُرُونَ طُرُقَكُمُ ٱلرَّدِيئَةَ وَأَعْمَالَكُمْ غَيْرَ ٱلصَّالِحَةِ، وَتَمْقُتُونَ أَنْفُسَكُمْ أَمَامَ وُجُوهِكُمْ مِنْ أَجْلِ آثَامِكُمْ» (حزقيال ٣٦: ٣١).
ولم يكمّل الابن ما قصد أن يقوله هو «اجعلني كأحد أجرائك» إما لأن أباه لم يدعه يكمل الجملة وإما لأن أباه اعتنقه وقبله واعترف فعلاً بأنه ابنه فلم يبق محل لطلبه أن يكون بمنزلة الأجير. فلو طلب ذلك لكان طلبه دليلاً على شكه في مغفرة أبيه له. أو على كبريائه بأنه لم يرد أن يقبل النعمة مجاناً أو كان ذلك اتضاعاً ليس في محله.
٢٢ «فَقَالَ ٱلأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتِماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ».
إشعياء ٦١: ١٠ وزكريا ٣: ٤ و٥ ورؤيا ٣: ١٨، زكريا ١٠: ١٢ وأفسس ٦: ١٥
ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَ... خَاتِماً فِي يَدِهِ هما علامة الرضى التام والإكرام (تكوين ٤١: ٤٢ وأستير ٣: ١٠ وإرميا ٢٢: ٢٤ ودانيال ٥: ٢٩ ويعقوب ٢: ٢).
وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ كان لبس الحذاء تمييزاً للبنين عن العبيد لأنهم كانوا حفاة. وفي هذا كله مقابلة حاله في الغربة بحاله في بيت أبيه فصار له بدل العري الحلة الأولى وبدل الخدمة القاسية الخاتم والحذاء اللائقين بالابن والعجل المسمن بدل الخرنوب.
ومعنى كل ما ذُكر أن الله يقبل التائب إليه بعلامات المحبة والرضى برفعه عنه كل الدينونة ويغفر له كل المغفرة ويهب له كل حقوق الابن ويعامله كأنه لم يضل عنه بل يعامله كأنه مستحق الثواب لأجل نفسه بل إكراماً ليسوع المسيح. وليس لنا أن نجد تفسيراً مخصوصاً للحلة والخاتم والعجل المسمن فهي كلها علامة رضى الله يهب بعضها للمؤمنين على الأرض وبعضها في السماء.
٢٣، ٢٤ «٢٣ وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، ٢٤ لأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَٱبْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ».
ع ٣٢ وأفسس ٢: ١ و٥: ١٤ ورؤيا ٣: ١
ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ هو عجل يُطعم في البيت إما لوليمة أو تقدمة. وكان هنا للوليمة. وتلك الوليمة إشارة إلى فرح الوالد برجوع ولده. فكان قصده من ذلك كقصد الراعي من دعوة أصدقائه وجيرانه للفرح معه على وجدانه خروفه الضال (ع ٦) وكقصد المرأة من دعوى صديقاتها وجاراتها لتشاركها في فرحها على وجدان الدرهم المفقود (ع ٩).
لأَنَّ ٱبْنِي اعترف بقوله هذا بابنه أمام الحاضرين وصرّح بأن له كل حقوق الابن.
كَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ هذا شرح لما سبقه وهو قوله «كان ميتاً فعاش» لأنه حسب بعده عنه وهو خاطئ موتاً وحزنه عليه كحزنه على ميت. وكانت تلك الوليمة إشارة إلى فرح الله بالخاطئ الذي نال منه المغفرة وفرح الخاطئ بنواله المغفرة. فنتيجة هذا المثل كنتيجة كل من المثلين السابقين وهي أنه «يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ» (ع ٧ و١٠).
وما قيل في الابن من أنه «كان ميتاً فعاش» يليق كثيراً أن يقال في الخاطئ قبل توبته وبعدها لأنه كان ميتاً بالنظر إلى الله وإلى القداسة وإلى رجاء السماء (١يوحنا ٣: ١٤ وأفسس ٢: ١ - ٦ و١بطرس ٢: ٢٥) وهنا نهاية المثل من جهة تعلقه بالخاطئ.
٢٥ «وَكَانَ ٱبْنُهُ ٱلأَكْبَرُ فِي ٱلْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ ٱلْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً».
ٱبْنُهُ ٱلأَكْبَرُ قصد المسيح بالابن الأكبر الكتبة والفريسيين الذين تذمروا عليه (ع ٢) وهو أيضاً كناية عن كل من يدّعي البرّ الذاتي ونظره إلى الخطاة كنظر هؤلاء إليهم.
ادّعى الكتبة والفريسيون أنهم حافظو الناموس. وكان يمكن كلاً منهم بالنظر إلى اعتقاده برّ نفسه أن يقول للآب السماوي كما قال الابن الأكبر لأبيه «قط لم أتجاوز وصيتك» فالمسيح أجابهم على فرض صحة دعواهم وبين لهم على ذلك الفرض أنه لا محل لتذمرهم عليه.
فِي ٱلْحَقْلِ كان هناك ليراقب الفعلة فلم يتأخر عن خدمة خارجية لأبيه مع أنه لم يعتبره حق الاعتبار ولم يكن له روح الطاعة كما يظهر من ع ٢٩.
صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً ذلك من علامات الفرح ومكملات الوليمة. وكان الذين يأتون مثل ذلك يُستأجرون غالباً.
٢٦ «فَدَعَا وَاحِداً مِنَ ٱلْغِلْمَانِ وَسَأَلَـهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟».
هذا من الإمارات التي دلت على شراسة أخلاقه لأنه لم يدخل حالاً ويشارك المبتهجين في ابتهاجهم بل أرسل يستخبر عن علّة الفرح كأنه لا حق لأهل البيت أن يأتوا مثل ذلك في غيبته.
٢٧ «فَقَالَ لَـهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ، لأَنَّهُ قَبِلَـهُ سَالِماً».
اعتقد الخادم أن ابن سيده الأكبر يفرح معهم متى عرف العلّة.
٢٨ «فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ».
فَغَضِبَ أظهر بذلك رداءة أخلاقه وأن لا محبة في قلبه لأخيه ولا اعتبار لائق لأبيه. فلو شارك أباه في شعوره لرحب بأخيه الراجع وفرح مع الفارحين. فكان ذلك منه بمنزلة تذمر الكتبة والفريسيين على المسيح لقبوله الخطاة.
لَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ ذلك لغيظه فإنه أبى أن يدخل بيتاً أخوه فيه.
فَخَرَجَ أَبُوهُ الخ أظهر أبوه بذلك حلمه وتنازله لأنه ترك الوليمة والضيوف وابنه الأصغر وخرج ليطلب إلى ابنه الأكبر أن يدخل كأن السرور لا يكمل وأحد ولديه حزين.
والآب السماوي رغب في أن يدخل الكتبة والفريسيون ملكوت السماء كما دخل العشارون والخطأة وأظهر طول أناته وشدة رغبته في إتيانهم إليه كما فعل ذلك الأب الأرضي.
٢٩ «فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي».
يذكرنا هذا الجواب صلاة الفريسي في الهيكل (ص ١٨: ١٠ و١٢). وهو كلام إنسان مدّع البرّ الذاتي.
جَدْياً هو أقل قيمة من العجل ولا سيما العجل المسمّن فتذمر الابن الأكبر بأنه لم يأخذ ما هو الأرخص مع أن أخاه نال ما هو الأغلى.
٣٠ «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ ٱبْنُكَ هٰذَا ٱلَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ ٱلزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَـهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ».
ٱبْنُكَ لم يتنازل إلى أن يدعوه أخاه فأظهر بهذا إهانته لابيه وتمرده على إرادته وشدة محبته لذاته.
أَكَلَ مَعِيشَتَكَ أي أسباب معاشك. وذكر ذلك ليدل على أن ما أتلفه علّة الخسارة العظمى لكن الآب مع علمه بما أتاه ابنه الأصغر غفر له لأنه تاب فكان على أخيه أن يفعل كذلك.
مَعَ ٱلزَّوَانِي لم يذكر هذا سابقاً في المثل. وأتى به الابن الأكبر ليجعل أخاه مكروهاً في عيني أبيه ولا نعلم أحقٌ هو أم باطل وعلى كلا الحالين تاب الابن الأصغر ونال مغفرة أبيه فليس للابن الأكبر حق أن يغضب ويأبى المغفرة.
ذَبَحْتَ لَـهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ كأنه كله لمجرد بهجة أخيه. والحق أنه ذبح لكل أهل البيت وكانت الوليمة إظهاراً للفرح العام. ونتيجة كلامه اتهام أبيه بالمحاباة بدعوى أنه شح عليه (ع ٢٩) وجاد على أخيه.
٣١ «فَقَالَ لَـهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ».
يَا بُنَيَّ دعاه ابناً مع أنه لم يدعه أباً. وأظهر بذلك لطفه وحلمه لكي يطفئ نار غيظه وحسده. ولم يلمه على خشونته وقساوته.
أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ قال ذلك بياناً لعدم إيلام وليمة له كأنه قال له أنت لم تغب عن البيت قط ولم تقرب من الهلاك حتى تحتاج إلى الابتهاج المخصوص والوليمة لرجوعك سالماً.
وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ هذا بيان أنه يجب أن لا يخاف خسراناً برجوع أخيه لأن كل المال له وليس بعد ذلك من قسمة أخرى. وليس في هذا من معنى روحي إلا البيان أن لا حق للفريسيين والكتبة في أن يتذمروا فالله لم يظلمهم بقبول العشارين والخطاة وهم لم يخسروا بذلك شيئاً لأن عهود الله باقية لهم كاملة ولهم الناموس والأنبياء وطقوس الديانة الموسوية وتعليم العلماء. وكل وسائط النعمة مباحة لهم إذا شاءوا استعمالها.
٣٢ «وَلٰكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ».
ع ٢٤
كَانَ يَنْبَغِي برّر الآب نفسه في ما فعله لأن العلّة التي حملته على ذلك كافية وهي أمران الأول أن المفقود وُجد والثاني أن الميت عاش.
أَخَاكَ أنكر الابن الأكبر هذه النسبة بقوله لأبيه «ابنك» (ع ٣٠) فذكره أبوه إياها دليلاً على وجوب أن يشترك في الفرح. والعشارون والخطاة إخوة للكتبة والفريسيين لأنهم كلهم أولاد آدم وزادهم قرابة أنهم جميعاً أولاد يعقوب فكان يجب عليهم أن يفرحوا بخيرهم ويحزنوا على خطاياهم.
والمسيح لم يتمم المثل لكي نعلم هل اقتنع الابن الأكبر من أبيه ورضي بأخيه أو لا لكننا نعرف أن الكتبة والفريسيين المقصودين بالابن الأكبر بقوا متكبرين يحتقرون غيرهم ولا يكترثون بخلاصهم.
فإن اعتبرنا الأمة اليهودية الآن بمنزلة الابن الأكبر وسائر أهل الأرض بمنزلة الأبن الأصغر رأينا الابن الأكبر بعد ما ينيف على ١٨٠٠ سنة لا يزال واقفاً خارج كنيسة المسيح مغتاظاً حسداً مستنكفاً من مشاركة المؤمنين من الأمم المتمتعين بالوليمة الروحية السماوية.
ويصح أيضاً أن نأخذ الابن الأكبر رمزاً إلى كل الناس المدعين البر الذاتي في كل زمان ومكان وهم كل من يتكلون على التقوى الخارجية وينظرون إلى الذين خطاياهم ظاهرة للناس كانهم مقطوعون عن رجاء الخلاص.
الأصحاح السادس عشر
مثل وكيل الظلم ع ١ إلى ١٣
١ «وَقَالَ أَيْضاً لِتَلاَمِيذِهِ: كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَـهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَـهُ».
لِتَلاَمِيذِهِ أي للمؤمنين به على سمع الفريسيين أيضاً (ع ١٤) لا للاثني عشر فقط. وكان بعض أولئك التلاميذ من العشارين والخطاة. وكان ما سبق في ص ١٥ موجهاً خصوصاً إلى الكتبة والفريسيين المتذمرين عليه.
ولم يذكر هذا المثل إلا لوقا وغايته بيان حكمة استعداد الإنسان لما تحتاج إليه نفسه في المستقبل أي أن يتخذ الخيرات الزمنية وسيلة إلى السعادة الأبدية.
إِنْسَانٌ غَنِيٌّ ليس لهذا من معنى روحي. فالمقصود تمثيل إنسان دنيوي يقيس كل أمر بمقياس أهل العالم. والظاهر من سياق الحديث أن هذا الإنسان الغني لم يتولَّ أمور أملاكه بل سلمها إلى وكيل يعتني بها ويجمع له حاصلاتها.
وَكِيلٌ ليس لهذا معنى روحي أيضاً. وكانت نسبته إلى الغنى كنسبة أليعازر لإبراهيم (تكوين ٢٤: ٢ - ١٢) وكنسبة يوسف إلى فوطيفار (تكوين ٣٩: ٤) فأخذ من الفعلة ما لسيده من الغلال وحاسب السيد بها. وكان أكثر أمثاله الوكلاء عبيداً لكن هذا كان حراً (ع ٣ و٤) وكانت وظيفته مما تمكنه من اختلاس ما شاء لأنه أُمِّن على أموال كثيرة وعين سيده لم ترقبه دائماً.
فَوُشِيَ بِهِ لم يصرّح المثل أحقّة كانت تلك الوشاية أم باطلة والأرجح أنها حقّة لأنه لم ينكرها وتصرفه بعد ذلك أثبت أنه غير أمين على مال سيده.
بَذِّرُ أَمْوَالَـهُ ينفقها على لذاته بدل أن يعطيها سيده.
٢ «فَدَعَاهُ وَقَالَ لَـهُ: مَا هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ».
مَا هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ ليس هذا استفهاماً عن حقيقة الوشاية بل تعجباً وتوبيخاً من أمر واقع لا يستطيع الوكيل إنكاره.
عَنْكَ بعد أن اتكلت عليك بكل ثقة.
أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ الخ هذا دليل على أنه لم يكن للسيد من وسيلة إلى الاستيلاء على ما له إلا بطرد الوكيل من وكالته وأمره إياه بتقديم صورة الحساب.
وليس في تلك المعاملة من إشارة إلى معنى روحي كالموت أو يوم الدينونة. إنما هي دلالة على أن الخيانة ليست بنافعة للإنسان ولو في هذا العالم لأنها عرضة للظهور أبداً وخسران للخائن إذ يضيع بها مركزه وصيته.
٣ «فَقَالَ ٱلْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي ٱلْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ».
مَاذَا أَفْعَلُ أظهر هذا الوكيل في حيرته واضطرابه الحكمة. أولاً بأنه شغل وقتاً بتأمله حسناً في ما يجب أن يعمله. فصار بذلك مثالاً لأبناء النور لأنه ما من شيء أضر من العمل بلا روية.
لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ أي لم أتعود العمل الشاق كالأجير الذي ينقب الأرض وليس لي قدرة على تحصيل أسباب المعاش بمثل هذا العمل.
وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ منعته كبرياؤه أن يحصّل ما يحتاج إليه بالتسول بعد شرف وظيفته ولا عذر له في الاستعطاء من آفة أو مرض ومع ذلك لم يستح أن يسرق مال سيده ففضل أن يسميه الناس لصاً على أن يسموه مستعطياً.
٤ «قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ ٱلْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ».
قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ هذا يدل على انتهاء حيرته واضطرابه إذ خطر على باله المهرب من ذلك فعزم حالاً على الجري فيه. وكان يجب أن يقوده كشف خيانته وخسارته مركزه إلى التوبة والاعتراف بذنبه لسيده ورد ما اختلسه. لكنه عزم بدلاً من ذلك على الخيانة إلى آخر فرصة بقيت له وعلاوة على تبذير مال سيده سابقاً اعتمد نهبه أيضاً لسبيل نفعه في المستقبل وانتقاماً من سيده على طرده إياه.
ولنا من ذلك أن الخطية الواحدة تقود إلى خطية أخرى طبعاً وأن الذي يبتدئ يخون في القليل تقوده شهواته وإبليس أخيراً إلى أن يخون في الكثير ما لم يخطفه روح الله من شفير هاوية الهلاك.
٥ «فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟».
من الواضح أن ما جرى هنا كان في غيبة السيد قبل أن سلم الوكيل إليه الحساب والصكوك التي على أرباب العمل في عقاره. ولم يكن سبب سؤاله لمديوني سيده عن مقدار ديونهم جهله إياه لأن الصكوك في يده لكنه قصد أن ينبه المديونين على ذلك المقدار.
٦ «فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَـهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱجْلِسْ عَاجِلاً وَٱكْتُبْ خَمْسِينَ».
إشعياء ٥: ١ وحزقيال ٤٥: ١٠ و١١ و١٤
مِئَةُ بَثِّ البث مكيال عبراني للسوائل يساوي الإيفة أو نحو اثنتين وعشرين أقة وثلاثة أرباع الأقة ولا نعلم هل كان هذا كل ما كان عليه من الدين بعد المحاسبة أو كان المرتّب عليه كل سنة من أجرة الأرض وهذا هو الأرجح.
زَيْتٍ كانوا يأكلون الزيت وقتئذ ويصطبحون به ويتّجرون كما في هذه الأيام. والظاهر أن هذا الرجل كان مستأجراً من ذلك السيد أرضاً فيها أشجار الزيتون وما ذكره كان نصيب السيد من غلتها.
خُذْ صَكَّكَ كان الصك في يد الوكيل فأعطاه المستأجر لكي يبدله بغيره ويكتب خمسين بدل المئة ويصدقه الوكيل بخطه أو توقيعه.
عَاجِلاً أي قبل أن يأخذ سيده الصكوك منه كما أنذره. ولم يكن لذلك الوكيل حق في تغيير هذا الصك فكان عليه أن يصون كل حقوق سيده لكنه خسره نصف دخله من الزيت وربح الأجير ذلك وجعله ممنوناً له وشريكاً في الاختلاس حتى لا يستطيع أن يشكوه إلى سيده في ما بعد إذا ثقل عليه. فارتكب إثماً فوق إثم فإنه اختلس وجعل غيره مختلساً.
٧ «ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَـهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱكْتُبْ ثَمَانِينَ».
١ملوك ٤: ٢٢ و٢أيام ٢: ١٠ و٢٧: ٥ وحزقيال ٤٥: ١٣
ثُمَّ قَالَ لآخَرَ هذا فلاح استأجر من السيد أرضاً للزرع.
مِئَةُ كُرِّ الكرّ هو الحومر ويعدل نحو مئة وأربعين أقة.
ٱكْتُبْ ثَمَانِينَ الأرجح أن ذلك كان أجرة الأرض في السنة. وفعل الوكيل هنا كما فعل في السابق اختلس وجعل غيره يختلس. فخسر السيد خُمس غلة الأرض من الحنطة.
ولم يذكر المثل ما فعله الوكيل لسائر الفعلة بل ترك للقارئ أن يقيس ما بقي على ما مرّ.
٨ «فَمَدَحَ ٱلسَّيِّدُ وَكِيلَ ٱلظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ فِي جِيلِهِمْ».
يوحنا ١٢: ٣٦ ورومية ١٣: ١٢ وأفسس ٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٥
فَمَدَحَ ٱلسَّيِّدُ وَكِيلَ ٱلظُّلْمِ لينتبه القارئ أن الذي مدح الوكيل ليس هو المسيح بل سيد الوكيل. ولم يصوب المسيح ذلك الوكيل بدليل أنه دعاه وكيل الظلم. والسيد الذي مدحه هو أحد «أبناء هذا الدهر». ولم يذكر المثل بأي واسطة علم السيد بتغيير الصكوك أو هل عرف كل ذلك بالتفصيل إنما رأى بعد طرد وكيله من الوكالة أن الفعلة قبلوه في بيوتهم واعتنوا به فحكم بأن ذلك لا يكون إلا باتفاق بينهم وبينه قبل عزله ولا يكون ذلك إلا بواسطة الاختلاس.
فأظهر الوكيل بما أتاه صفتين من صفاته الخيانة والحكمة. أما الحكمة فتدبيره وسائط راحته في المستقبل. ولم يذكر في المثل شيء من قول السيد في أمر الخيانة لكنه اقتصر على أنه مدح الوكيل على حكمته.
أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أي الذين يحيون لهذا الدهر وحده ويختارون نصيبهم في هذا العالم وتتعلق قلوبهم بالمقتنيات الدنيوية أحكم في اكتساب المال من المسيحي في اكتساب الكنز السماوي. فليس المعنى أن الدنيويين أحكم من المسيحيين في الأمور الدنيوية.
أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ هذا لقب للمسيحيين لأنهم يسيرون في نور كتاب الله وروحه القدوس ولأنهم متنورون من السماء ولأنهم يحبون النور ويتبعونه (يوحنا ١٢: ٣٦ و١تسالونيكي ٥: ٥ وأفسس ٥: ٨). إن الله نور والمسيحيين هم أبناء الله فلذلك هم أبناء نور (١يوحنا ١: ٦). وسمّوا أبناء النور مقابلة لأبناء هذا الدهر الذين أعمالهم أعمال الظلمة كعمل وكيل الظلم المذكور.
فِي جِيلِهِمْ أي في معاملتهم لأمثالهم من محبي العالم. ومعنى الآية كلها وهي قوله «لأن أبناء هذا الدهر الخ» إن أهل الدنيا يظهرون الحكمة في أمورهم الدنيوية أكثر مما يظهره المسيحيون منهم في الأمور الروحية. وذلك في ثلاثة أشياء:
- الأول: العزم الثابت. قال وكيل الظلم «قد علمت ماذا أفعل» وبقي على ذلك إلى النهاية.
- الثاني: استنباط الوسائل إلى بلوغ الغاية.
- الثالث: الغيرة والاجتهاد في استعمال تلك الوسائل بانتهاز الفرص والانتباه. ومن المعلوم أن أهل هذا العالم يجتهدون في اكتساب المال أكثر مما يجتهد المسيحيون في خلاص نفوسهم.
٩ «وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ ٱلظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي ٱلْمَظَالِّ ٱلأَبَدِيَّةِ».
دانيال ٤: ٢٧ ومتّى ٦: ١٩ و١٩: ٢١ وص ١١: ٤١ و١٢: ٣٣ و١تيموثاوس ٦: ١٧ إلى ١٩
أَنَا أَقُولُ لَكُمُ أي أيها التلاميذ (خلافاً لقول وكيل الظلم لنفسه) أنتم أولاد النور ولا شركة لكم في أعمال الظلمة والخيانة ومع ذلك تقدرون أن تتعلّموا شيئاً من أعمال أولئك الخائنين.
ٱصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ لم يقل المسيح اصنعوا أموال الظلم أصدقاء أي أحببوها بل اصنعوا الأصدقاء بواسطتها. ولم يقل أخزنوا الأموال أو اقتنوا بواسطتها البيوت والحقول والثياب الفاخرة وأولموا الولائم لكن قال اصنعوا «أصدقاء». وقوله «اصنعوا لكم أصدقاء» مبني على قول وكيل الظلم في العدد الرابع فإنه قصد أن يجعل له أصدقاء بواسطة مال سيده ليقبلوه في بيوتهم. وقال المسيح أنه يجب على المسيحيين أن يتمثلوا به في استعمال أمواله لكي يحصلوا على السعادة المستقبلة لكن يأتون ذلك بوسائط عادلة. فإن أنفقنا أموالنا على فقراء المسيح وسددنا حاجاتهم جعلناهم أصدقاءنا إلى الأبد. وإن أنفقنا مالنا في طريق يؤدي إلى خلاص النفوس الهالكة كان الذين خلصوا بواسطتنا أصدقاءنا في السماء. وعلى هذا يكون الملائكة الذين يفرحون بتوبة كل خاطئ يتوب أصدقاءنا لأننا وسطاء توبتهم. والمسيح الذي مات لأجلهم يكون صديقاً لنا وكذلك الآب الذي أحبهم وأرسل المسيح ليخلصهم.
مَالِ ٱلظُّلْمِ أي المال المعتاد. وأضيف إلى الظلم لا لأن كل مال نتيجة الظلم لكن لكثرة ما يكون كذلك. وسمي كذلك مقابلة بالمال الباقي. ولأن المال فان خادع يعِد الإنسان بالسعادة ولم يُنله إياها. ومعنى الجملة كلها وفي قوله «اصنعوا لكم الخ» انفقوا مالكم بطريق يكون بها شاهداً لكم في السماء يوم الدين لا عليكم. فيكون ذلك إن أنفقتموه على الفقراء إكراماً لله وإن أنفقتموه في سبيل انتشار الإنجيل وخدمة الله وكنيسته وخلاص العالم. فتعلّمنا صريحاً أن الإنسان يمكنه أن ينفق ماله في سبيل يزيد بها سعادته السماوية لا بأن يشتري بماله رضى الله ومغفرة الخطايا ومنزلة في السماء فيمكننا أن نزيد سعادتنا السماوية بواسطة أمانتنا في التصرف بأموالنا. وذلك وفق قول المسيح «ٱكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي ٱلسَّمَاءِ» (متّى ٦: ٢٠) وقول الرسول «وَأَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فِي أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا أَسْخِيَاءَ فِي ٱلْعَطَاءِ... مُدَّخِرِينَ لأَنْفُسِهِمْ أَسَاساً حَسَناً لِلْمُسْتَقْبَلِ» (١تيموثاوس ٦: ١٨ و١٩).
حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ أي متم.
يَقْبَلُونَكُمْ أي الأصدقاء المذكورون آنفاً الذين ربحتموهم بواسطة أموالكم فإن كانوا من الفقراء الذي أنفتقتم عليهم أم ممن اهتدوا إلى الخلاص بواسطة ما أنفقتموه على المقاصد الدينية فهم ينتظرونكم في السماء ليرحبوا بكم. (فالمثل صوّر لهم كل من الفريقين توفّي قبلهم). ولكن ينبغي أن نعلم أن أولئك المحسن إليهم لا يفتحون أبواب السماء للمحسنين إنما يرحبون بهم وهم داخلون بواسطة إيمانهم بالمسيح.
ٱلْمَظَالِّ ٱلأَبَدِيَّةِ أي السماء ونعتت هذه المظال بأنها أبدية مقابلة لها بالمساكن الأرضية الزائلة.
اتخذ وكيل الظلم بخيانته وحكمته أصدقاء دنيويين قبلوه في بيوتهم الأرضية (ع ٤) فيجب على المسيحيين أن يتخذوا بتصرفهم في الأموال بالحكمة والعدل أصدقاء سماويين يقبلونهم في المواطن السماوية.
وخلاصة مثل وكيل الظلم ثلاثة أمور. الأول: والأعظم وجوب النظر في المستقبل. فإن كان الأشرار يبذلون ما في وسعهم من الحكمة بغية اقتناء البيوت الزائلة بالخداع فكم بالحري يجب على تلاميذ المسيح أن يستفرغوا كل ما عندهم من الحكمة لكي يقتنوا المساكن الباقية. والثاني وجوب إنفاق المال بالحكمة فإن كان ذلك الوكيل الشرير تصرف في ما وصلت إليه يده من المال في سبيل أدت به إلى غايته اللئيمة فكم يجب على تلاميذ المسيح أن يتصرفوا في أموالهم بالحكمة لكي يربحوا الخير الأبدي. لكن يجب أن لا يستنتج من ذلك أن الخطأة يستطيعون الحصول على المغفرة والسماء بواسطة صدقاتهم فخطاب المسيح كان لتلاميذه الذين هم أبناء النور وورثة السماء بإيمانهم به. والثالث وجوب أن يحسب كل إنسان نفسه وكيل الله تعالى وأن ماله ليس له بل لربه. وإن لم يصح أن نحسب المراد بالغني الله. ووكيل الظلم كل إنسان. وأنه لا بد من أن تأتي ساعة يدعو السيد فيها كل إنسان للمحاسبة. فمن أسمى طرق الحكمة أن نستعمل مال الله الذي وكله إلينا في طريق ترضيه تعالى وتؤدي بنا إلى السعادة الأبدية ويجب أن نشكره تعالى على أنه أوجد طريقاً نستطيع بها أن نبدل مال الظلم بمال الحق والكنز الفاني بالكنز الباقي.
١٠ «اَلأَمِينُ فِي ٱلْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ، وَٱلظَّالِمُ فِي ٱلْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ».
متّى ٢٥: ٢١ وص ١٩: ١٧
أوصى المسيح تلاميذه في الكلام السابق بأن يتصرفوا في أموالهم بالحكمة وأوصى في هذه الآية واثنتين غيرها بالأمانة لكي لا يظن أحد أن المسيح مدح خيانة وكيل الظم ولكي لا يتوهم السامع أن المال ذو شأن عظيم في نفسه. والكلام في هذه الآية جار مجرى المثل. فقد غلب أن الذي يصدق في الأمور الصغيرة يصدق في الكبيرة والذي يخدع ويكذب في الأولى يخدع ويكذب في الأخرى إذا مكنته الفرصة. لأن تصرفه في الأمور الصغيرة التي لا يفحص عنها يظهر طبيعته الحقيقية ومبادئه التي يسلك بمقتضاها.
فِي ٱلْقَلِيلِ المقصود بذلك الأمور العالمية كالمال وهي مما لا قيمة له بالنسبة إلى البركات الروحية التي عبّر عنها هنا «بالكثير». وغاية التعليم في هذه الآية أن الإنسان الأمين حق الأمانة في الزمنيات يكون أميناً في الروحيات. والأمين للناس يكون أميناً لله. وأن الله يمتحن الإنسان بواسطة الأمور الدنيوية الزهيدة لكي يتبين هل هو مستحق أن يدخل ملكوت السماء ويؤمن على غناه. وهذا مثل ما جاء في متّى ٢٥: ٢١ ولوقا ١٩: ١٧.
١١ «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ ٱلظُّلْمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى ٱلْحَقِّ؟».
مَالِ ٱلظُّلْمِ (انظر ع ٩) أي مال هذا العالم وسماه مال الظلم لان كثيراً منه يُجمع ظلماً ويُنفق باطلاً ويُحبس بخلاً ولأنه يخدع مقتنيه ويقود إلى الخطية وليس فيه خير بالذات وكله فانٍ.
مَنْ يَأْتَمِنُكُمْ أي لا أحد يأتمنكم لأنه لا أحد غير الله يقدر على أن يعطي الإنسان الغنى الحقيقي ويستحيل أن يعطيه غير أمين على المال الدنيوي. ولأن الذي لم يتصرف في أمور هذا العالم بأمانة وصدق وسخاء واستقامة ليس من الأتقياء ولا من الراجين دخول السماء.
ٱلْحَقِّ اي الغنى الحقيقي الذي هو رضى الله وكنز السماء (متّى ٦: ١٩ و٢٠) وميراث القديسين والملكوت المعد منذ تأسيس العالم. ويعطينا الله مال الظلم ليتبين هل نحن مستحقون نوال «الحق» أي المال الحق.
١٢ «وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ، فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟».
هذه الآية تقرير للسابقة وتفسير لها.
مَا هُوَ لِلْغَيْرِ هذا ما أشار إليه في الآية السابقة بمال الظلم وسُمي ما هو للغير لأن لا أحد من الناس يحق له ادعاء أن ماله لنفسه فالمال لله والإنسان وكيله ملزوم أن ينفقه كما أمره الله. وسُمي كذلك أيضاً لأنه ينتقل أبداً من إنسان إلى إنسان فلا يستطيع أن يمسكه وهو حي لأن السوس والصدأ يأكلانه وأن السارقين يسرقونه ولا أن يأخذه وهو ميت (متّى ٦: ١٩ و١تيموثاوس ٦: ١٩).
مَا هُوَ لَكُمْ أي الغنى السماوي الذي يبقى لكم إلى الأبد بعد أن يهبه الله لكم. وعبّر عنه بطرس بقوله «مِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (١بطرس ١: ٤).
ويجري السادة الأرضيون على هذا المبدإ وهو أنهم يجربون أمانة خدمهم بالأمور الحقيرة قبل أن يأتمنوهم على الأمور العظيمة والله السيد الأعظم كذلك. فالمسئلة هنا هي أنه كيف يقدر الله أن يعطينا كنزاً سماوياً يبقى لنا إلى الأبد ونحن لسنا بأمناء على الكنز الأرضي الذي أُعطيناه عارية وقتاً قصيراً والمحقق أنه لا يعطينا إياه لأنه يعرف أننا لا نؤتمن عليه.
١٣ «لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَال».
متّى ٦: ٢٤
قد مرّ إيضاح ذلك في الشرح متّى ٦: ٢٤. أتى المسيح بهذا أولاً في وعظه على الجبل وكرره هنا ليبين ما هي الأمانة التي يطلبها وهي اختيار الله رباً عظيماً لا المال أو ليدفع وهم من يظن أنه يقدر أن يرضي في وقت واحد إله هذا العالم وإله السماء ويتمتع بغنى كل من الأرض والسماء وليظهر لتلاميذه ما يجب عليهم من جهة المال الذي يأتمنهم الله عليه فلا يجوز أن يخدموه باعتبار أنه إلههم بل يجب أن يستعملوه في خدمة إله السماء حسب أمره.
توبيخ المسيح للفريسيين ع ١٤ إلى ١٨
١٤ «وَكَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً يَسْمَعُونَ هٰذَا كُلَّهُ، وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ، فَٱسْتَهْزَأُوا بِه».
متّى ٢٣: ١٤
وَكَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً يَسْمَعُونَ وجه المسيح كلامه إلى تلاميذه (ع ١) ولكن الفريسيين كانوا حاضرين فسمعوه.
هٰذَا كُلَّهُ أي كل الكلام على قلة قيمة المال.
وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ كانت محبة المال من أخص صفات الفريسيين.
فَٱسْتَهْزَأُوا بِهِ لأنهم حسبوا كلام المسيح توبيخاً لهم على حبهم المال. وعلّة استهزائهم ما قاله المسيح في الآية التاسعة في استعمال المال لخير الغير لكي يكون المحسنون أغنياء في السماء وما قاله في الآية الثانية عشرة من أن أموال الناس ليست لهم وأنهم وكلاء الله على ماله وما قاله في الآية الثالثة عشرة من خدمة السيدين وتعذر أن يحب الإنسان الله والمال معاً وعلى زعم الفريسيين أن المسيح لم يصدق بذلك لأنهم تحققوا أنهم يدخلون السماء وينالون رضى الله مع فرط محبتهم للمال. ولا عجب من استهزائهم لأن مبادئ الحكمة السماوية يظهر أبداً للدنيويين أنها جهالة.
١٥ «فَقَالَ لَـهُمْ: أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ! وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ. إِنَّ ٱلْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ ٱلنَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ ٱللّٰهِ».
ص ١: ٢٩، مزمور ٧: ٩، ١صموئيل ١٦: ٧
تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ ادعى الفريسيون القداسة وقلوبهم مملوءة بخلاً وطمعاً واجتهدوا في أن يظهروا للناس أنهم أبرار ولم يسألوا عن أحوال قلوبهم قدام الله.
ٱللّٰهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ هذا وفق ما جاء في ١صموئيل ١٦: ٧ ومزمور ٧: ٩ وإرميا ١٧: ١٠. فالناس ينظرون أعمال غيرهم ويسمعون أقوالهم وينخدعون من جهة طبيعة الإنسان الحقيقية لكن الله ينظر إلى القلب ويعلم الحقيقة فكأن المسيح قال لهم أن الله يعرف رياءكم. وهذا تحذير لهم وتنبيه على أن تقواهم الظاهرة باطلة في عيني الله لأنه تعالى لا يُخدع.
إِنَّ ٱلْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ ٱلنَّاسِ الخ ليس المعنى أن كل ما يعتبره الناس ويفتخرون به يكرهه الله بل أن ما يفعله الإنسان بنيّة رديئة هو رجس عند الله وإن كان ذلك العمل حسناً بالذات. ومن أمثلة ذلك أكثر أعمال الفريسيين لأنهم كانوا يأتون صلواتهم وصدقاتهم ويمارسون أحوالهم لكي يراهم الناس.
وقول المسيح حق لأن الله وحده يعرف القلب فهو يحكم بخلاف ما يحكم الناس لأنهم لا يستطيعون أن يدركوا سوى الظواهر. وكان الفريسيون يرون حبهم المال أمراً حسناً مع أنه عند الله عبادة أوثان (كولوسي ٣: ٥) ورجس قدامه. وتقواهم الظاهرة رآها الناس شيئاً ورآها الله شيئاً آخر.
١٦ «كَانَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ».
متّى ٤: ١٧ و١١: ١٢ و١٣ وص ٧: ٢٩ و١٥: ١
انظر الشرح متّى ١١: ١٢.
العلاقة بين بعض أقوال المسيح هنا والبعض ليس بواضح. وعبّر لوقا عنها في هذا الفصل بالإيجاز.
كَانَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا معنى ذلك أن كل ما كتب وقيل في زمن العهد القديم من أول نبي إلى آخر أنبيائه أي من موسى إلى يوحنا المعمدان تمهيد لملكوت الله في العصر المسيحي.
وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي منذ مجيء يوحنا إلى الآن وهو المدة التي بشر فيها يسوع وتلاميذه بملكوت الله.
كُلُّ وَاحِدٍ أي كثيرون من كل صنف حتى أدنى العشارين والخطاة.
وقول المسيح في هذه الآية توبيخ للفريسيين فكأنه قال أنتم تفتخرون بناموس العهد القديم وطقوسه وتتكلون عليه وتظنون أنكم داخل ملكوت الله وأن العشارين والخطاة خارجه والحق أنهم سبقوكم إليه ودخلوا وبقيتم أنتم في الخارج.
١٧ «وَلٰكِنَّ زَوَالَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ».
مزمور ١٠٢: ٢٦ و٢٧ وإشعياء ٤٠: ٨ و٥١: ٦ ومتّى ٥: ١٨ و١بطرس ١: ٢٥
انظر الشرح متّى ٥: ١٨.
أظهر المسيح أنه لم يأت لكي يبطل الناموس بما قاله هنا وهو كلامه على أبديته فدفع بذلك أعظم اعتراضات الفريسيين عليه.
١٨ «كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ ٱمْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُلٍ يَزْنِي».
متّى ٥: ٣٢ و١٩: ٩ ومرقس ١٠: ١١ و١كورنثوس ٧: ١٠ و١١
انظر الشرح متّى ٥: ٣١ و٣٢ و١٩: ٣ - ٩.
لعلّ العلاقة بين هذه الآية والتي قبلها تبيينه للفريسيين بطلان برهم الذاتي (ع ١٥). فكأنه قال لهم أنتم متكلون على الناموس لتتبرروا وتخلصوا فانظروا أنكم مخالفون لذلك الناموس في أمر الطلاق وقس على ذلك ما بقي.
ولعلّ المسيح قصد بهذا القول أن يبيّن لأهل بيرية التعليم الصحيح في شأن الزيجة أي ثبوت عقد الزيجة وشر الطلاق.
مثل الغني ولعازر ع ١٩ إلى ٣١
١٩ «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ ٱلأُرْجُوَانَ وَٱلْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً».
رؤيا ١٨: ١٢
يسوغ لنا أن نسمي ما قاله يسوع في هذا الفصل مثلاً على أنه ليس كالمثل في كل شيء وليست حوادثه كلها مجازية فيحتمل أن بعضها حقيقي تاريخي. وهو قسمان:
الأول: بيان حالَي شخصين على الأرض (ع ١٩ - ٢١).
الثاني: بيان حاليهما بعد الموت (ع ٢٢ - ٣١).
وغاية المسيح من هذا المثل توبيخ الفريسيين على حب المال والذات واحتقار القريب وإظهاره لهم بطلان رجائهم ودعواهم ببيان عاقبتهم.
وغايته منه أيضاً بيان ما قاله في شأن استعمال المال وإثباته فرفع الحجاب بين العالم الحاضر وعالم الأرواح ليبين أن سوء استعمال الإنسان لماله في مدة حياته علّة شقائه الأبدي وليعلن جهل وخطاء الإنسان الذي يكتفي أن يترفه في هذه الدار ولا يكترث بحاجات نفسه بعد الموت.
إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لعلّ المسيح قصد به إنساناً معلوماً لم يذكر اسمه إكراماً لأقربائه أو لعله قصد غير معيّن لكثرة أمثاله.
ٱلأُرْجُوَانَ وَٱلْبَزَّ هما من الملبوسات الجميلة الفاخرة وكثيراً ما ذكرا معاً كأنهما مما يختص بالملوك على أن الأغنياء لبسوهما أيضاً (أستير ١: ٦ و٨: ١٥ ورؤيا ١٨: ١٢). وكان يأتي الأرجوان غالباً من صور والبز من مصر. وكان يلبسهما هذا الغني كل يوم لا في أيام الاحتفالات والأعياد فقط وهذا دليل الافتخار والتنعم.
يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ أي يتلذذ يوماً فيوماً بولائم نفيسة. وخلاصة ما قيل من جهة هذا الإنسان أنه غير مهتم بشيء من ارتكاب الفواحش وأنه لم يحصل ماله بغير الحق ولكنه كان من أبناء هذا الدهر (ع ٨) وممن يعتنون باللذات الجسدية دون اللذات الروحية وحاجات النفس هنا وفي الآخرة وأنه لم يفتكر في واجباته لله ولا في واجباته للمحتاجين الذين مثل لعازر المطروح قدام بيته فلم يصنع له أصدقاء من مال الظلم (ع ٩) إنما عاش للذته وأهلك نفسه.
٢٠ «وَكَانَ مِسْكِينٌ ٱسْمُهُ لِعَازَرُ، ٱلَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِٱلْقُرُوحِ».
مِسْكِينٌ ٱسْمُهُ لِعَازَرُ وهو غير لعازر أخي مريم ومرثا. وكان هذا الاسم شائعاً يومئذ بين اليهود. ذكر الله في كتابه اسم الفقير وترك اسم الغني وهذا خلاف ما يفعل الناس. ومعنى «لعازر» الله عون.
طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ الذين طرحوه هنالك أقرباؤه أو أصحابه وهذا يدلنا على أنه كان عاجزاً عن الإتيان بنفسه وقصدوا بطرحه هناك أن ينظره الغني فيحسن إليه وكانوا معتادين أن يضعوا الفقراء على أبواب الأغنياء والهياكل (أعمال ٣: ٢). فامتحن الله الغني بواسطة ذلك المسكين لكي يعطيه فرصة ليصنع له أصدقاء من ماله بواسطته رحمته له.
مَضْرُوباً بِٱلْقُرُوحِ كان علاوة على فقره وعجزه معذباً بقروح مؤلمة وكانت تلك القروح نتيجة فقره وعدم الاكتراث به.
٢١ «وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ ٱلْفُتَاتِ ٱلسَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ ٱلْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ ٱلْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ».
يَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ ٱلْفُتَاتِ هذا كان اشتهائه واشتهاء أقربائه ولم يقل المثل أَحصل على ذلك أم لا. والظاهر من القصة أنه لم يرج من الغني سوى الفتات الذي كان يسقط من مائدة الغني ويحمله الخدام إلى لعازر من تلقاء أنفسهم لا بأمر الغني.
وذكر الفُتات هنا مقابلة للنفائس التي كان يتنعّم بها الغني كل يوم.
كَانَتِ ٱلْكِلاَبُ تَأْتِي الخ كانت الكلاب تأتي إلى هنالك بغية ما ابتغاه لعازر أي الفتات. وذكر المثل لحس الكلاب قروح لعازر بياناً لتعاسة حاله التي بلغت مبلغاً عظيماً حتى حملت الكلاب على الشفقة وإظهاراً لكونه كان عارياً لا ممرّض له سوى الكلاب تلميحاً إلى أن الغني لم يكترث به البتة. والذي زاد إثم الغني بإهماله ذلك المسكين ثلاثة أمور:
- الأول: أن المسكين كان عند بابه فكان لا بد له من أن يراه ويعرف سوء حاله.
- والثاني: أن لعازر كان متروكاً من الناس وفي غاية الاحتياج إلى ذلك الغني.
- والثالث: أن كل ما كان يحتاج إليه ذلك المسكين كان كالعدم بالنسبة إلى غناه.
فإذا قابلنا أحوال الغني بأحوال لعازر رأينا الأول مكتسياً بالأرجوان والبز والثاني عارياً ظاهر القروح. والأول يتنعم كل يوم بوليمة والثاني يشتهي الفتات. والأول له خدم كثيرة تقوم بقضاء كل حاجاته والثاني لا خادم له سوى الكلاب. وهذا حال كل منهما في هذا العالم (ع ٢١).
٢٢ «فَمَاتَ ٱلْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ».
متّى ١٣: ٤١ و١٨: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤
فَمَاتَ ٱلْمِسْكِينُ لم يقل المثل شيئاً من أمر جنازته أو دفنه لعدم اهتمام الناس به.
حَمَلَتْهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أي حملت نفسه وهذا وفق اعتقاد اليهود لأنهم اعتقدوا أن الملائكة تحمل أنفس المتوفين الأتقياء ولا ريب في أن ذلك حق بدليل قول الكتاب «أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ (أي الملائكة) أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ ٱلْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا ٱلْخَلاَصَ» (عبرانيين ١: ١٤). ولا أهمية لأي نوع كان من أنواع الدفن لجسد لعازر إذ كانت الملائكة حملت نفسه إلى السماء.
إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ كان إبراهيم أبا كل الأمة اليهودية واعتقد اليهود أن الحلول في حضن إبراهيم حظ كل يهودي مؤمن. والكلام مأخوذ من عوائد الولائم لأنه كان كل من المدعوين يتكئ على حضن غيره كما اتكأ يوحنا البشير على حضن المسيح في العشاء الرباني (يوحنا ١٣: ٢٣) ومنه القول أن المسيح في حضن الآب (يوحنا ١: ١٨) فالاتكاء في حضن إبراهيم إشارة إلى نوال الراحة التامة والإكرام الزائد واللذة الكاملة. وكثيراً ما يعبّر الكتاب عن السماء كأنه محل وليمة وأن القديسين يتكئون هنالك مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب (متّى ٨: ١١). وحضن إبراهيم هنا مثل الفردوس في ص ٢٣: ٤٣.
فما أعظم التغير الذي طرأ على حال لعازر فإنه انتقل من باب حيث أحاطت الكلاب به إلى الفردوس السماوي وذلك ليس لأنه كان فقيراً على الأرض بل لأنه كان تقياً كما يظهر من القرينة.
وَمَاتَ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً لم يمنع الغنى الموت عنه.
وَدُفِنَ حصل جسده بعد موته على الإكرام الذي كان له في حياته. ولم ينقصه شيء من الاحتفال والنفقة على جثته. وهذا كل ما أمكن ماله أن يهبه له ونهاية منفعته منه وهو غير شاعر بشيء من ذلك. ولم يقل المثل أن الملائكة حملته إلى العالم الآخر كما حملت لعازر.
٢٣ - ٢٥ «٢٣ فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، ٢٤ فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ٱرْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هٰذَا ٱللَّهِيبِ. ٢٥ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ٱبْنِي ٱذْكُرْ أَنَّكَ ٱسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذٰلِكَ لِعَازَرُ ٱلْبَلاَيَا. وَٱلآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ».
مزمور ٩: ١٧ ومرقس ٩: ٤٣ ورؤيا ١: ١٨، زكريا ٤: ١٢، إشعياء ٦٦: ٢٤ ومرقس ٩: ٤٤ الخ، أيوب ٢١: ١٣ وص ٦: ٢٤
في هذه الآيات مجاز أعلنت به أمور حقيقية مهمة في أحوال عالم الأرواح عبّر عنها المسيح بأسلوب المحادثة بين إبراهيم ولعازر كما يمكن أن يحدث في هذا العالم بين اثنين تفصل بينهما حفرة عميقة ونسب إلى أرواح الموتى ما لا يصدق إلا على الناس الأحياء على الأرض. فعلينا أن ننتبه للحقائق الجوهرية المقصودة بهذا القول ولا نعتبر أن صورة الكلام هي الأمر الجوهري متذكرين أولاً أن المجاز الأرضي لا يوضح الحقائق الروحية كل الإيضاح. وثانياً إنا لا نعلم من أمر عالم الأرواح ما يقدّرنا على أن نحكم بما يمكن أن يحدث هناك وبما لا يمكن حدوثه كذلك.
فِي ٱلْهَاوِيَةِ (ع ٢٣) هو «هادس» في اليونانية و «شأول» في العبرانية. ويشار به غالباً إلى مسكن أرواح الموتى قبل القيامة. واعتقد اليهود غالباً واليونانيون الوثنيون أن فيه محل راحة ومحل عذاب تبقى في كل منهما ما فيه من النفوس إلى يوم القيامة وحينئذ يُنقل الأتقياء إلى السماء والأشرار إلى جهنم (رؤيا ٢٠: ١٤). فالمسيح صاغ مثله على اصطلاح الفريقين ولم يصدق ذلك الاعتقاد.
وَهُوَ فِي ٱلْعَذَابِ لا لأنه كان غنياً في دنياه إذ لا خطية في الغنى فإن إبراهيم كان من أغنى أهل الشرق وكذلك أيوب وداود لكن لأنه عاش لهذا العالم فقط ولم يتب إلى الله كما سترى في (ع ٣٠) من أنه طلب إلى إبراهيم أن يرسل من ينهي إخوته عن أن يفعلوا كما فعل هو.
وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ... وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ ذكر هذا بياناً أن شقاء الأشرار يعظم بمقابلته بسيادة الأبرار.
يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ (ع ٢٤) اتخذ ما كان له من النسبة الأرضية إلى إبراهيم حجة على استحقاقه شفقة إبراهيم الخاصة وإجابته لطلبه. وهذا على وفق زعم اليهود أن كل مختون يأمن من عذاب الجحيم.
أَرْسِلْ لِعَازَرَ قال ذلك كأن طرح لعازر عند بابه على الأرض كان مستلزماً العلاقة بينهما.
لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ الخ زعم اليهود أن المتوفين يستطيعون أن يرى بعضهم بعضاً في عالم الأرواح ويعرفه ويخاطبه فتكلم المسيح هذا على وفق زعمهم توصلاً إلى تعليم الحقائق المتعلقة بذلك العالم.
وعبّر عن شدة العذاب في الجحيم بما اعتاد الناس على الأرض أن يعبّروا به عن الآلام وعن طلب الراحة بالوسائط التي يتوصل بها إليها في الدنيا.
ومعظم الفرق بين حال الغني وحال لعازر في العالمين يتضح مما ذكر أنه كما اشتهى لعازر الفتات من مائدة الغني كذلك اشتهى الغني قطرة مما يتمتع به لعازر. ولو قيل للغني حين كان كلاهما على الأرض «هل تحتاج إلى شيء من هذا المسكين المطروح تكسوه القروح» لأنف من ذلك شديد الأنفة ولكن حين صار لعازر في حضن إبراهيم بلغ من التنعم مبلغاً عظيماً حتى تمنى الغني أن يحصل على أقل شيء من سعادته.
ولم يطلب الغني شفقة الله لعلمه أن وقت ذلك قد فات ولم يطلب النجاة من العذاب والدخول إلى حيث لعازر لتيقنه أن ذلك محال.
وهذه هي الصلاة الوحيدة التي ذُكر في الكتاب المقدس أنها وُجهت إلى قديس في السماء فلير القارئ أي نفع كان منها.
يَا ٱبْنِي (ع ٢٥) لم ينكر إبراهيم نسبة الغني إليه لكنه لم يسلّم بأنها علّة استحقاقه المساعدة. ومما يتبين شدة عذابه أن الذي كان يتنعم بالولائم كل يوم على الأرض طلب في الجحيم قطرة واحدة من الماء ولم يحصل عليها.
ٱذْكُرْ من أشد عذاب الأشرار في الجحيم أن يذكروا حوادث حياتهم على الأرض كالمراحم التي لم يشكروا الله عليها وفرص الخلاص التي لم ينتهزوها والخطايا التي ارتكبوها ونذورهم التي لم يفوا بها فإن ضميرهم يوبخهم على كل ما يذكرون من ذلك (أمثال ٥: ١٢ - ١٤).
وليس كلام إبراهيم هنا قدحاً في الغني ولم ينتج عن قساوة لكنه يقطع رجاء الغني كل نجاة.
ٱسْتَوْفَيْتَ (متّى ٦: ٢) شاع استعمال هذه العبارة بياناً لنوال الإنسان كل ما له حق أن يتوقعه من ديون أو هبات وغيرها. والمعنى هنا أن لا حق له أن ينتظر بعد ذلك شيئاً من البركات الإلهية لأن زمان نوالها قد انتهى.
خَيْرَاتِكَ العطايا الزمنية كالغنى وأمثاله. ونُسب الخيرات إليه لأنه اختارها نصيباً وفضّلها على كل ما سواها من فوائد الحياة فهو قد زرع للجسد فلم يبق له أن يحصد إلا فساداً (غلاطية ٦: ٨ ولوقا ٦: ٢٤ و١تيموثاوس ٦: ٩ و١٠).
لِعَازَرُ ٱلْبَلاَيَا أي الفقر والمرض والألم. ولم يُنسب البلايا إلى لعازر كما نسب الخيرات إلى الغني لأن لعازر لم يختر البلايا نصيباً بل قبلها من يد الله. ولعله لم يحسبها مصائب بل سرّ بها كما سرّ بولس بضيقاته (٢كورنثوس ١٢: ٩ و١٠) ولا شك أنها كانت امتحاناً له وإعداداً لنوال الخيرات. فالغني لم يرحم غيره في حياته فلم يُرحم بعد موته. ولم يصنع له أصدقاء من مال الظلم فلم يُقبل «في المظال الأبدية».
٢٦ «وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْعُبُورَ مِنْ هٰهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا».
وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ أي علاوة على كون شقائك نتيجة توغلك في الشهوات الدنيوية وحب الذات.
هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ أشار بهذا إلى الفاصل الأبدي بين المخلصين والهالكين فلم يبقَ لأهل الجحيم من وسيلة للعبور لا برحمة الله ولا بتوبتهم.
أُثْبِتَتْ بإرادة الله وقضائه بناء على عدله. فحكمه بذلك أبدي لا يتغير.
مِنْ هٰهُنَا إِلَيْكُمْ لكي يعزّي الهالكين شفقة عليهم.
وَلاَ ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ الخ بغية النجاة من العذاب فعلى من يتوقعون اليوم نفع صلواتهم من أجل الموتى أو قرابينهم أن يراجعوا قول إبراهيم للغني.
٢٧، ٢٨ «٢٧ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذاً يَا أَبَتِ أَنْ تُرْسِلَـهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي، ٢٨ لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ، حَتَّى يَشْهَدَ لَـهُمْ لِكَيْلاَ يَأْتُوا هُمْ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِ ٱلْعَذَابِ هٰذَا».
بعد أن يئس الغني من استجابة صلاته من أجل نفسه صلّى من أجل أقربائه الأحياء على الأرض. ولا يستلزم ذلك أن الهالكين يسألون عن خلاص أصدقائهم أو يطلبون طلبات كهذه لكن ذُكر هنا سؤال الغني ليكون جواب إبراهيم له وسيلة إلى التعليم الذي أراد المسيح بيانه.
وإذا سلمنا أن الهالكين يسألون مثل هذا فغايتهم من ذلك هي أن لا يزيد عذابهم بمجيء هؤلاء ليبكتوهم بأنهم هم كانوا سبب هلاكهم بما أتوه بسوء القدوة. وليس في كون إخوته خمسة معنى روحي إنما هو من مكملات المثل. والشهادة التي طلب أن يرسل بها إلى إخوته هي بيان أن النفس تحيا بعد الموت. وبيان شقائه إنذاراً لهم بشر عواقب العيش للجسد فقط. وطلب أن يكون لعازر الشاهد لهم لأنهم عرفوا أنه مات فيصدقون أنه أتاهم برسالة من عالم الأرواح.
٢٩ «قَالَ لَـهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ».
إشعياء ٨: ٢٠ و٣٤: ١٦ ويوحنا ٥: ٣٩ و٤٥ وأعمال ١٥: ٢١ و١٧: ١١ ورومية ١٠: ١٧
عِنْدَهُمْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءُ أي خمسة أسفار موسى وسائر كتب العهد القديم.
لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ أي ليطيعوهم. ولم يقبل إبراهيم هنا كما قال في أمر العبور من الفردوس إلى الجحيم من أن بينهما هوة عظيمة لا يمكن أن تعبّر بل قال ما مضمونه أن لا حاجة إلى إرسال لعازر. وفي قول إبراهيم شهادة بقيمة كتب العهد القديم أن فيها نوراً كافياً ليقود الإنسان إلى السماء إذا استنار به. فيمكن أخوة الغني أن يتعلّموا منها أن العيشة الدنيوية خطية ووجوب التوبة وعبادة الله والاستعداد للموت والأبدية. وإذا صحت هذه الشهادة من جهة موسى والأنبياء فكم بالحري تصح من جهة كتاب الله المشتمل اليوم على أقوال موسى والأنبياء والمسيح ورسله فأي عذر لمن لا يسمع منهم.
٣٠ «فَقَالَ: لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ».
طلب الغني مثل طلب اليهود من المسيح آية خاصة إثباتاً للإعلان الإلهي (متّى ١٢: ٣٣ و١٦: ١.
٣١ «فَقَالَ لَـهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ».
يوحنا ١٢: ١٠ و١١
يُصَدِّقُونَ أي يقتنعون بخطيتهم وجهلهم وحقيقة الخلود ووجوب التوبة والرجوع إلى الله.
وما قيل في هذه الآية من جهة إخوة الغني يصدق بالنظر إلى كل أهل العالم غير المؤمنين أي أن زيادة البراهين على صحة دين الله لا تقنعهم لأن علّة عدم إيمانهم ليست ضعف البراهين أو قلتها بل إغماض عيونهم وقساوة قلوبهم فلو زادت الشمس ضياء لم ينظر الأعمى وزيادة البراهين لا تقنع القلب القاسي.
والذي أثبت ما قيل هنا أنه بعد أن قال المسيح هذا المثل بقليل رجع من عالم الأرواح لعازر بيت عنيا أخو مريم ومرثا ولم يكن تأثير رجوعه في اليهود سوى أن طلبوا أن يقتلوه ليخفوا شهادته (يوحنا ١١: ٤٧ و٥٠). وظن هيرودس أن يسوع هو يوحنا قام من الأموات ولكنه لم يستفد من ذلك شيئاَ. وتحقق رؤساء الكهنة من شهادة عساكرهم أن يسوع قام من الأموات ولكنهم لم يستفيدوا منه البتة (متّى ٢٨: ١١).
وخلاصة التعليم في مثل الغني ولعازر أحد عشر أمراً:
- إن نجاح الإنسان في هذا العالم ليس بدليل على محبة الله له وأن ضيقته ليست بدليل على عدم مسرته به.
- إن الفقر مع محبة الله خير من كل غنى العالم ورضى الناس بدون تلك المحبة.
- إن الموت حكم على كل بشر ينتهي به سرور الغنى الدنيوي وحزن الفقير المؤمن وهذا تعتني بنفسه الملائكة حاملة إياها إلى النعيم.
- إن النفس تحيا بعد موت الجسد.
- إن النفوس في العالم الأخير قسمان المخلصون والهالكون وهما الأخيار والأشرار على هذه الأرض.
- إن سعادة الأخيار وشقاء الأشرار يبتدئان عند الموت ويدومان إلى الأبد. فليس النفس في سبات بين الموت والقيامة.
- إن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على اللذات العالمية والسعادة الأبدية.
- إنه لا بد من ثواب الأبرار وعقاب الأشرار وانفصال كل من الفريقين عن الآخر إلى الأبد.
- إن مجرد العيشة الدنيوية بالغفلة عن الواجبات الدينية خطية وتوجب العقاب على مرتكبها.
- إن قوة الذكر تبقى للنفوس في العالم الأخير.
- إن وسائط النعمة التي منح الله الناس إياها كافية لتنويرهم وخلاصهم فالذين يهملونها يجب أن لا ينتظروا أن الله ينبههم بالمعجزات لكي يتوبوا ويؤمنوا. فمن العبث أن ينتظر الناس رجوع أحد الموتى إليهم ليخبرهم ما سمع ورأى في عالم الأرواح.
الأصحاح السابع عشر
تحذيرات المسيح لتلاميذه ع ١ إلى ١٠
١ «وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ ٱلْعَثَرَاتُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ!».
متّى ١٨: ٦ و٧ ومرقس ٩: ٤٢ و١كورنثوس ١١: ١٩
لِتَلاَمِيذِهِ أي كل تابعيه الحاضرين وكان بعضهم رسلاً (ع ٥) وما سبق من الكلام على الغني ولعازر كان للفريسيين (ص ١٦: ١٤ و١٥).
لاَ يُمْكِنُ علّة ذلك وجود الناس في عالم شرير وكونهم ضعفاء مائلين إلى السقوط ولكن في السماء لا عثرة إذ ليس هنالك من خطية.
ٱلْعَثَرَاتُ أي كل ما هو سبب لسقوط الناس في الإثم ولجعلهم يشكون في صدق ديانة المسيح أن ينكرونها. ومن تلك العثرات الهزء والتمليق والاضطهاد والقدوة الردية ومقاومة الفريسيين للمسيح واتهامهم إياه كذباً. فمثل هذه العثرات منع الناس من الإيمان بالمسيح وجعل تلاميذه في خطر السقوط. ومنها محبة التلاميذ للعالم وعدم مغفرة بعضهم لبعض.
وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ انظر الشرح متّى ١٨: ٧.
هذا الويل لكل من يجعلون أحد تلاميذ المسيح يسقط في الخطيئة من أعظم مضطهد مثل نيرون إلى التلميذ الدنيوي الذي يضل إخوته بسوء سيرته.
٢ «خَيْرٌ لَـهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي ٱلْبَحْرِ، مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ».
هذا الكلام جارٍ مجرى المثل وقد مرّ معناه في شرح بشارة متّى (متّى ١٨: ٦).
٣، ٤ «٣ اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَٱغْفِرْ لَـهُ. ٤ وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَٱغْفِرْ لَـهُ».
لاويين ١٩: ١٧ و١٨ وأمثال ١٧: ١٠ ومتّى ١٨: ١٥ و٢١ ويعقوب ٥: ١٩ و٢٠
اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ أما من أن تجعلوا إخوتكم يسقطون في الخطيئة لحقدكم وعدم العفو عنهم. (وذكر المسيح هذه العثرة لأن السقوط بها أسهل منه بغيرها ونتيجتها أردأ لمسببها). وأما من أن يسقطوا بالعثرات التي يسببها إخوتكم لا أعداؤكم فقط ومن أن تُغلبوا بها إذ لم تغفروا لهم في الحال. انظر الكلام على ذلك في الشرح (متّى ١٨: ١٥ و٢١ و٢٢).
سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ (ع ٤) كناية عن مرارٍ غير معينة (مزمور ١٢: ٦ ومتّى ١٢: ٤٥ ولوقا ١١: ٢٦) والمعنى مثل معنى قوله «سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ» (متّى ١٨: ٢٢) لأنه لم يقل سبع مرات فقط بل سبع مرات في اليوم.
٥ «فَقَالَ ٱلرُّسُلُ لِلرَّبِّ: زِدْ إِيمَانَنَا».
شعر الرسل باحتياجهم إلى زيادة الإيمان لكي يقدروا على حفظ كل أوامر المسيح ولا سيما وصيته بأن يغفروا لإخوتهم وأن يقووا على العثرات وكان عليهم أن يطلبوا دائماً زيادة الإيمان لكن طلبهم إياها حينئذ أظهر عدم ثقتهم الواجبة بأن الله يعطيهم قوة على القيام بما عليهم لأن إجابة المسيح لطلبهم تتضمن شيئاً من التوبيخ لهم على ذلك الطلب.
٦ «فَقَالَ ٱلرَّبُّ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهٰذِهِ ٱلْجُمَّيْزَةِ ٱنْقَلِعِي وَٱنْغَرِسِي فِي ٱلْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ».
متّى ١٧: ٢٠ و٢١: ٢١ ومرقس ٩: ٢٣ و١١: ٢٣
انظر شرح بشارة متّى ١٧: ٢٠ و٢١: ٢١.
صرّح المسيح هنا بقوة الإيمان فقال أن الإيمان بالله يقدر الرسل على عمل عجائب عظيمة في عالم المادة ويقدر كل تلاميذه على غلبة المصاعب في العالم الروحي التي تظهر للإنسان الطبيعي أن دفعها يمتنع امتناع نقل الشجرة من الأرض إلى قلب البحر بكلمة. وللإيمان هذه القوة العجبية لأنه يحرك قوة الله غير المحدودة.
في جواب المسيح إيماء إلى أنه كان على التلاميذ أن يؤمنوا بمحبة الله وبأنه يهب لهم نعمة كافية لكي يقوموا بما هو عليهم من الواجبات.
٧، ٨ «٧ وَمَنْ مِنْكُمْ لَـهُ عَبْدٌ يَحْرُثُ أَوْ يَرْعَى، يَقُولُ لَـهُ إِذَا دَخَلَ مِنَ ٱلْحَقْلِ: تَقَدَّمْ سَرِيعاً وَٱتَّكِئْ. ٨ بَلْ أَلاَ يَقُولُ لَـهُ: أَعْدِدْ مَا أَتَعَشَّى بِهِ، وَتَمَنْطَقْ وَٱخْدِمْنِي حَتَّى آكُلَ وَأَشْرَبَ، وَبَعْدَ ذٰلِكَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ أَنْتَ».
ص ١٢: ٣٧
وَمَنْ مِنْكُمْ خاطبهم كأنهم مثل سائر الناس في معاملة بعضهم لبعض. وغايته من قوله هنا أن الأعمال الصالحة لا تستحق الأجر في ذاتها فذكرهم أنهم ليسوا سوى خدم وأن كل قوى أجسادهم وعقولهم ونفوسهم لسيدهم الله وأنه يجب عليهم أن يخدموه تعالى بسرور وتواضع وصبر كلما طلب خدمتهم. فشبّه خدمته لله بخدمة العبيد لساداتهم الأرضيين ليظهر لهم أن لا حق لهم أن يتوقعوا من الله أن يعاملهم معاملة أحسن من معامتلهم لعبيدهم.
عَبْدٌ أي رقيق مشترى بالمال لا حق له أن ينتظر أجرة غير أكله وكسوته.
يَحْرُثُ أَوْ يَرْعَى ذكر المسيح هذين العملين لأنهما من أنواع الأعمال التي كان السادة يكلفون العبيد إياها.
يَقُولُ... تَقَدَّمْ سَرِيعاً وَٱتَّكِئْ أي لا يقول له ذلك لأنه يتضمن الراحة واللذة قبل الفراغ من شغل النهار.
أَعْدِدْ يظهر من ذلك أنه بقي عل العبد أن يعمل أعمال البيت بعد الفراغ من أعمال الحقل فلم يكن له أن يتوقع الطعام والراحة قبل إتمامه ما يجب عليه إلى نهاية النهار وأن ليس له أن ينتظر بعد ذلك سوى الأكل والاستراحة.
تَمَنْطَقْ هذا ما يضطر إليه ذو الثياب الطويلة الواسعة عند الشروع في العمل. والمقصود من ذلك تعليم التلاميذ ثلاثة أمور:
- إنه يجب عليهم أن يخدموا سيدهم السماوي بالمسرّة والصبر إلى نهاية الحياة هنا.
- إنه لا حق لهم أن يتوقعوا الراحة واللذة بعد العمل القصير لكن لهم ذلك في السماء بعد إكمال العمل الشاق الطويل.
- وجوب أن يتكلوا على سيدهم السماوي في أن يثيبهم على أتعابهم كما يشاء.
٩ «فَهَلْ لِذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فَضْلٌ لأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ؟ لاَ أَظُنُّ».
هذا يدل على أن السادة لم يعتادوا أن يشكروا عبيدهم على أحكام الأعمال العادية ولم يكن للعبيد أن يتوقعوا الشكر على ذلك. ونتيجة ذلك أنه ليس لعبيد الله أن ينتظروا مدحه تعالى وشكره لهم على إتمامهم ما يجب عليهم. فخلاصة التعليم في الآية السابعة والآية الثامنة أنه يجب على عبيد الله الآب الاجتهاد في العمل والمواظبة عليه. وفي الآية التاسعة والآية العاشرة وجوب التواضع والقناعة في طلب الثواب على العمل.
١٠ «كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا».
أيوب ٢٢: ٣ و٣٥: ٧ ومزمور ١٦: ٢ ومتّى ٢٥: ٣٠ ورومية ٣: ١٣ و٦: ٢٣ و١١: ٣٥ و١كورنثوس ٩: ١٦ و١٧ وفليمون ١١
لنا من هذه الآية أن إثابة كل المؤمنين في السماء من النعمة لا من الاستحقاق. وهذا وفق قول الرسول «وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية ٦: ٢٣). ويعلمنا أن ليس لأفضل الناس أن يتوقع أجرة على بره وأعماله الصالحة وأنه لا يمكن للصالحين أن يأتوا أعمالاً نافلة يجبر بها نقص غيرهم.
عَبِيدٌ بَطَّالُونَ أي أناس لا يفعلون فوق ما يجب عليهم. والمسيحيون «عبيد بطالون» لخمسة أسباب:
- إن الله لا يحتاج إليهم ولا يربح شيئاً من أعمالهم.
- إنه هو يهب لهم كل الحاجات الجسدية وهذا اكثر مما يستحقونه على خدمتهم إياه فليس تعالى بمديون لهم.
- إنه يعطيهم نعمة يقدرون بها على القيام بما يجب عليهم له وبطاعتهم لله يردون له ما له (أيوب ٢٢: ٢ و٣ ورومية ١١: ٣٥ و١كورنثوس ٤: ٧).
- إنهم لا يستطيعون عمل ما هو فوق الواجبات عليهم مهما اجتهدوا فلا فضل لهم عند الله لأن خدمتهم لله دين حق عليهم.
- إن كل الناس قصروا عن إكمال الواجب «إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية ٣: ٢٣).
وهذا العدد يعلّمنا التواضع والاتكال على مجرد استحقاق المسيح لنوال الخلاص وعظمة محبة الله ورحمته فإنه مع أنا عبيد بطالون يتنازل لمخاطبة كل منا قائلاً «نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متّى ٢٥: ٢١ و٢٣) ويعاملنا في السماء معاملة الأب لأولاده ويجعلنا ورثة المجد السماوي ويعدنا بعروش وأكاليل وكنوز لا تفنى وسرور لا يتناهى. فخير لنا أن نسمي أنفسنا الآن «عبيداً بطالين» بالتواضع والاتكال على برّ المسيح ويقول لنا المسيح أخيراً «يا مباركي أبي» من أن نسمي أنفسنا اليوم بالكبرياء والاتكال على البرّ الذاتي أفاضل الأبرار فيقول المسيح في اليوم الأخير فينا «العبد البطال اطرحوه إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الاسنان».
وهذه نهاية مواعظ المسيح التي بداءتها الأصحاح الخامس عشر.
شفاء عشرة برص ع ١١ إلى ١٩
١١ «وَفِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ ٱجْتَازَ فِي وَسَطِ ٱلسَّامِرَةِ وَٱلْجَلِيلِ».
متّى ١٩: ١ وص ٩: ٥١ و٥٢ ويوحنا ٤: ٤
فِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لم يحقق الزمان الذي صنع فيه يسوع هذه المعجزة لكن نعلم أنه كان في أثناء ذهابه الأخير إلى أورشليم الذي ذكرت بدائته في ص ٩: ٥١ ومتّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١. والأرجح أنها صُنعت في أول ذلك الذهاب بعدما منعه السامريون من الدخول إلى مدينتهم (ص ٩: ٥٢ - ٥٦).
فِي وَسَطِ ٱلسَّامِرَةِ وَٱلْجَلِيلِ أي الأرض التي بين هذين البلدين. ولعله سار على التخم من الغرب إلى الشمال ثم اجتاز الأردن بعد صنع المعجزة ودخل بيرية.
١٢ «وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ ٱسْتَقْبَلَـهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ، فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ».
لاويين ١٣: ٤٦ وعدد ٥: ٢
وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ الأرجح أن هذه الحادثة كانت خارج باب السور حيث اعتاد المتسولون أن يجتمعوا ليطلبوا الصدقة.
عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ مرّ الكلام على مرض البرص في الشرح متّى ٨: ٢. كانت إصابة هؤلاء العشرة بمرض واحد علّة ائتلافهم مع اختلافهم في الجنس والآراء.
فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ وفقاً لشريعة موسى لأن مرضهم كان نجساً (لاويين ١٣: ٤٦ وعدد ٥: ٢ و٢ملوك ١٥: ٥).
١٣ «وَصَرَخُوا: يَا يَسُوعُ يَا مُعَلِّمُ، ٱرْحَمْنَا».
وَصَرَخُوا ليلتفت يسوع إليهم لأنهم لم يجسروا أن يدنوا منه. وصرخوا كلهم بصوت واحد لأن العلّة مشتركة. ودلوا بذلك على شقاء حالهم وطلبهم المعونة والإيمان بقوة المسيح وشفقته.
يَا يَسُوعُ عرف هؤلاء المسيح والقوات التي صنعها مع أنهم اعتزلوا الناس لمرضهم وهم من أهل قرية حقيرة لا يقصدها الناس إلا قليلاً. فهؤلاء الذين اتفقوا على أن نادوا المسيح في ضيقهم نسوا إلا واحداً منهم أن يشكروه في فرحهم.
١٤ «فَنَظَرَ وَقَالَ لَـهُمُ: ٱذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ. وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهَرُوا».
لاويين ١٣: ٢ و١٤: ٢ الخ ومتّى ٨: ٤ وص ٥: ١٤
فَنَظَرَ هذا وفق ما ظهر للحاضرين أنه نتيجة صراخهم والحق أن المسيح عرفهم قبلاً والأرجح قصد إبراءهم بمجيئه إلى تلك القرية.
أَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ راجع الشرح متّى ٨: ٤. أمر يسوع في الحادثة التي ذكرها متّى الإنسان أن يُري نفسه للكاهن بعد الشفاء وهنا أمر البرص بمثل ذلك قبله. فإن الأبرص كان مضطراً حسب شريعة موسى أن يُري نفسه للكاهن عندما يُشفى ويقدّم تقدمة معينة ويأخذ الشهادة منه بأنه قد طهر (لاويين ص ١٤). وأظهر يسوع بذلك الأمر اعتباره للشريعة الموسوية الطقسية التي كانت على وشك الزوال وامتحن إيمانهم بطاعتهم لأمره أن يفعلوا كأنهم طهروا (أي أن يذهبوا إلى الكهنة) متكلين عليه أن يشفيهم وهم سائرون مع أنه لم يلمسهم ولم يروا أدنى تغير في مرضهم. كذلك يجب على كل المسيحيين أن يشرعوا في كل واجبات الديانة متكلين على الله أن يعطيهم القوة والنعمة الضروريتين للقيام بذلك.
وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ لم يقولوا «أي نفع من أن نذهب قبل الشفاء اشفنا أولاً فننطلق» لكنهم أظهروا إيمانهم بذهابهم في الحال ولإيمانهم شفاهم يسوع. والأرجح أن ذلك حدث عندما ذهبوا فصلح دمهم الفاسد وعادت أجسادهم كما كانت في أيام الصحة.
١٥ «فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ شُفِيَ، رَجَعَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ».
فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ... رَجَعَ لا بد من أن الجميع شعروا بشفائهم ولكنهم بقوا سائرين إلى الكهنة ثم إلى أوطانهم وأعمالهم ما عدا هذا الواحد.
يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ حسب تمجيده للمسيح تمجيداً لله.
بِصَوْتٍ عَظِيمٍ هذا دليل على شدة محبته وفرحه وشعوره بوجوب الشكر لمن شفاه.
١٦ «وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِراً لَـهُ. وَكَانَ سَامِرِيّاً».
وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ هذا دليل على التواضع علاوة على الشكر والمحبة. والأرجح أنه اقتنع أن الذي شفاه هو المسيح وعَبَده لهذا الاعتبار.
وَكَانَ سَامِرِيّاً مرّ الكلام على ما يتضمن ذلك في الشرح (متّى ١٠: ٥ و٦).
وفي هذا أن بقية الذين شفوا كانوا من اليهود.
١٧ «فَقَالَ يَسُوعُ: أَلَيْسَ ٱلْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ ٱلتِّسْعَةُ؟».
أَلَيْسَ ٱلْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا كان الذين طلبوا التطهير عشرة والذين نالوا الشفاء العشرة فكان على العشرة أن يرجعوا ليشكروا لأن ذلك لا يكلفهم سوى تعب قليل ولا يعيقهم عن سفرهم إلا قليلاً ولم يتوقع المسيح أكثر من ذلك ولكن تلك الأصوات التي ارتفعت في الضيق انقطعت عند الفرج.
والمسيح عمل بذلك عشر معجزات معاً بدون لمس أو واسطة أخرى. ودل سؤاله على أنه يحفظ حساب المراحم التي يمنحها.
فَأَيْنَ ٱلتِّسْعَةُ لم يأت المسيح ذلك بغية الاستخبار لأنه عرف أنهم ذهبوا إلى الكهنة مسرورين بالبركة ناسين واهبها. فالاستفهام للتعجب والحزن والاشتياق لانه اشتاق أن يراهم راجعين إليه لينالوا منه بركة أعظم من شفاء أجسادهم وهي شفاء نفوسهم من مرض الخطية. فعملهم من أمثلة الكفر بالنعمة. وهذا غير منقطع النظير فله أمثال كثيرة. والله يسأل مثل هذا السؤال الآن الذين أنعم عليهم بآلاء كثيرة ويتوقع منهم أن يشكروه ولكن أكثرهم مثل أولئك التسعة يقبلون النعم وينسون المنعم.
١٨ «أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْداً لِلّٰهِ غَيْرُ هٰذَا ٱلْغَرِيبِ ٱلْجِنْسِ؟».
٢ملوك ١٧: ٢٤ إلى ٤١
كان التسعة الذين طهروا من اليهود فيحق أن يتوقع منهم فضائل أكثر مما يتوقع من السامري لأنهم نالوا من وسائط النعمة ما لم ينله. وفضلوا السنن الطقسية على فرض الشكر للمنعم وهو يهودي مثلهم. أما السامري فمع أنه من أمة لا يعاملها اليهود (يوحنا ٤: ٩) رجع ليشكره ولم يعثر بما فعله الباقون فتركهم ورجع وحده.
١٩ «ثُمَّ قَالَ لَـهُ: قُمْ وَٱمْضِ. إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ».
متّى ٩: ٢٢ ومرقس ٥: ٣٤ و١٠: ٥٢ وص ٧: ٥٠ و٨: ٤٨ و١٨: ٤٢
إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ أي نجىّ نفسك. كان إيمان هذا السامري الأول المماثل لإيمان رفقائه التسعة علّة شفاء جسده. وصار إيمانه الثاني الذي أظهره برجوعه إلى يسوع للشكر والاعتراف أنه المسيح على شفاء نفسه وعلّة بركة أعظم من الأولى وهو أقوى من الأول.
تعليم في شأن ملكوت الله ع ٢٠ إلى ٣٧
٢٠ «وَلَمَّا سَأَلَـهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ: مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ؟ أَجَابَهُمْ: لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ بِمُرَاقَبَةٍ».
ص ١٤: ١
سَأَلَـهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ لم نعلم غايتهم من هذا السؤال إنما نعلم أنهم كانوا كثيراً ما يسألونه ليهزأوا به وليجدوا علّة للشكاية عليه. ولعلّ هؤلاء من أحسن رجال فرقتهم ممن توقعوا مجيء المسيح الموعود به وملكه ملكاً أرضياً وأرادوا أن يسمعوا يسوع الرباني المشهور في ذلك الأمر. والظاهر من جواب المسيح أنهم انتظروا أن يكون إتيان المسيح بقوة إلهية ظاهرة عجيبة.
مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أي ملك المسيح.
لاَ يَأْتِي... بِمُرَاقَبَةٍ أي أنه يفرق عن الملك الأرضي كل الفرق لأنه لا يأتي بآيات خارجية ظاهرة لعيون الذين يراقبونه أي لا يأتي بآيات من الآثار الجوية ولا بتكتّب الجيوش بأسلحتهم وألويتهم في الأرض لكنه يأتي رويداً بالهدوء فلا ينبه الأنظار إليه إلا بنتائجه. وبداءة هذا الملك كان في مذود بيت لحم وكان تابعوه وقتئذ بعض العشارين وصيادي السمك من الجليل. فلم ير رؤساء اليهود والفريسيون علامات إتيانه فلم يؤمنوا بأنه أتى.
٢١ «وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ، لأَنْ هَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ».
يوحنا ١: ٢٦ ورومية ١٤: ١٧
وَلاَ يَقُولُونَ أي صدقاً لأن الذين يقولون كذباً كثيرون.
هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ أي في أورشليم أو في السامرة أو في البرية قرب بحر طبرية حيث انتظر اليهود أن يظهر المسيح.
مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ يختلف تفسير هذا الكلام باختلاف تعييننا للمخاطبين فإن قلنا هم الفريسيين كما يستدل من ع ٢٠ كان المعنى كمعنى قول يوحنا المعمدان «فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ ٱلَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ» (يوحنا ١: ٢٦) فيكون كقول المسيح «قد انتصب ملكوت الله بينكم وأنتم سائلون متّى يأتي ملكوت الله. وحضر الملك وأخذ ينادي بشرائع المملكة ومبادئها وجمع خاصته وأنتم في غفلة عن ذلك». وإن قلنا هم عموم الناس من الفريسيين وغيرهم كان قصد المسيح بيان حقيقة ذلك الملكوت حيث أتى أو سيأتي أي أنه ملكوت روحي ينتصب في قلوب الناس ويُخضع أفكارهم وشهواتهم ومقاصدهم وعواطف قلوبهم. فحيث يتوب الناس عن الخطيئة ويؤمنون بالمسيح ويولدون ثانية من الروح القدس فهنالك ملكوت الله داخل قلوبهم. وهذا موافق قول المسيح «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ٣: ٣) وقول الرسول «لَيْسَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أَكْلاً وَشُرْباً، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (رومية ١٤: ١٧). والتفسيران صحيحان ولكن الأرجح بدلالة القرينة هو الأول.
٢٢ «وَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: سَتَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ وَلاَ تَرَوْنَ».
متّى ٩: ١٥ ويوحنا ١٧: ١٢
قَالَ لِلتَّلاَمِيذِ ما يأتي مما يتعلق بمجيئه الثاني.
تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا الخ يحتمل هذا الكلام معنيين:
الأول: اشتياق الكنيسة بعد زمان إلى أيامها الماضية حين كان ابن الإنسان معها بالجسد وذلك وفق قول المسيح مشيراً إلى نفسه «سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ (أي عن بني العرس) فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ» (متّى ٩: ١٥).
والثاني: اشتياقها إلى مجيئه الثاني كما وعد. والاشتياق الأول صلة إلى الثاني.
وَلاَ تَرَوْنَ أي لا تنظرونه في الجسد في حال اتضاعه لأنه يكون قد صعد. ولا تشاهدونه آتياً بالمجد لأن وقت ذلك الإتيان لم يكن قد حان ص ٥: ٣٤ ومتّى ٩: ١٥ ومرقس ٢: ١٩) وهذا إنباء للكنيسة بأنها تحتاج إلى أن تسلك مدة بالإيمان.
٢٣ «وَيَقُولُونَ لَكُمْ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ. لاَ تَذْهَبُوا وَلاَ تَتْبَعُوا».
متّى ٢٤: ٢٣ ومرقس ١٣: ٢١ وص ٢١: ٨
هذا كقوله في بشارة متّى (متّى ٢٤: ٢٤ - ٢٧) فراجع تفسيره.
هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ هذه تنبيهات يأتيها الذين ظنوا أنهم رأوا علامات ظاهرة لمجيء المسيح ملكاً أرضياً فحذر المسيح تلاميذه من أن يُخدعوا وأن يذهبوا إلى حيث أشار أولئك لأنه لم يقصد المجيء حينئذ.
لم يقصد المسيح بما ذُكر نفي ظهور العلامات المتعلقة بمجيئه الثاني بل نفى ذلك في زمان تكلمه أو ما يقرب منه.
٢٤ «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلْبَرْقَ ٱلَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ».
متّى ٢٤: ٢٧
أبان المسيح في هذه الآيات علامات مجيئه الثاني في نهاية العالم.
كَمَا أَنَّ ٱلْبَرْقَ الخ أي أنه يأتي بغتة إتياناً بيناً تشاهده كل عين في كل مكان (انظر الشرح متّى ٢٤: ٢٧). ولا منافاة بين هذا القول وما قيل في ع ٢٠ و٢١ لأن هذين العددين يشرحان حال ملكوت المسيح من بداءة زمن الكرازة إلى نهايته وهذا العدد إشارة إلى وقت مجيء المسيح الثاني بالمجد ونهاية الزمان الحاضر.
٢٥ «وَلٰكِنْ يَنْبَغِي أَوَّلاً أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ».
مرقس ٨: ٣١ و٩: ٣١ و١٠: ٣٣ وص ٩: ٢٢
أنبأ بأنه يسبق مجيئه الثاني ورفض الأمة اليهودية إياه وتألمه (انظر متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ ولوقا ٢٤: ٢٦ وأعمال ٣: ١٨).
وقصد «بهذا الجيل» الأمة اليهودية.
وما ذُكر هنا هو أعظم الحوادث المتعلقة بمجيئه الأول واستعداد لمجد مجيئه الثاني لأنه قدّم نفسه اختياراً للرفض والآلام إرادة فداء العالم.
٢٦، ٢٧ «٢٦ وَكَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً فِي أَيَّامِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ. ٢٧ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيُزَوِّجُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ ٱلْفُلْكَ، وَجَاءَ ٱلطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ ٱلْجَمِيعَ»
تكوين ٧ ومتّى ٢٤: ٣٧
انظر الشرح متّى ٢٤: ٣٧ - ٣٩ وقابل ذلك بما في ٢ بطرس ٣: ٣٤.
هذا بيان لكون أكثر الناس غير متوقع مجيئه الثاني. فبطوءه يحمل الناس على الاطمئنان والتوغل في اللذات الجسدية.
أَيَّامِ نُوحٍ أي مدة مئة وعشرين سنة حين بنى نوح الفلك وأنذر الناس بالطوفان ودعاهم إلى التوبة.
٢٨، ٢٩ «٢٨ كَذٰلِكَ أَيْضاً كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ لُوطٍ، كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، وَيَغْرِسُونَ وَيَبْنُونَ. ٢٩ وَلٰكِنَّ ٱلْيَوْمَ ٱلَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ، أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَأَهْلَكَ ٱلْجَمِيعَ».
تكوين ١٩، تكوين ١٩: ١٦ إلى ٢٥
فِي أَيَّامِ لُوطٍ لم يذكر متّى ذلك في ما نقله من هذا الخطاب واكتفى بذكر أيام نوح فالمثالان بمعنى واحد وهو أن الناس كانوا في غفلة ويكونون كذلك عند مجيء المسيح. وكثيراً ما أشار المسيح في مواعظه إلى مصاب تينك المدينتين (ص ١٠: ١٢ ومتّى ١٠: ١٥ و١١: ٢٣). وأشار إليهما أيضاً بطرس في رسالته الثانية ٢: ٧.
أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً تكوين ١٩: ٢٤.
٣٠ «هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ يُظْهَرُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ».
٢تسالونيكي ١: ٧
يُظْهَرُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أي يُبين للعالم كأنه كان وراء حجاب رُفع بغتة فظهر لكل عين (كولوسي ٣: ٣ و٤ و٢تسالونيكي ١: ٧ و١بطرس ١: ٧).
٣١ «فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ مَنْ كَانَ عَلَى ٱلسَّطْحِ وَأَمْتِعَتُهُ فِي ٱلْبَيْتِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَهَا، وَٱلَّذِي فِي ٱلْحَقْلِ كَذٰلِكَ لاَ يَرْجِعْ إِلَى ٱلْوَرَاءِ».
متّى ٢٤: ١٧ و١٨ ومرقس ١٣: ١٥ و١٦
سبق مثل هذه النصائح في نصح المسيح لتلاميذه زمن خراب أورشليم لأنه كان رمزاً إلى هلاك العالم (انظر الشرح متّى ٢٤: ١٦ - ١٨). والمعنى أنه يجب على المسيحيين أن لا يكترثوا حينئذ بمقتنياتهم الدنيوية بل أن يوجهوا أفكارهم إلى إعلان المسيح العظيم.
فاتضح من كلام المسيح أن حال العالم عند مجيء المسيح ثانية تكون كحاله في الأزمنة الثلاثة وهي زمان الطوفان وزمان خراب سدوم وعمورة وزمان خراب أورشليم.
٣٢ «اُذْكُرُوا ٱمْرَأَةَ لُوطٍ».
تكوين ١٩: ٢٦
هذا الإنذار مبني على ما حدث في أيام لوط ع ٢٨ فإن امرأة لوط خالفت نهي الرب عن أن تنظر إلى ورائها فهلكت. بقي قلبها في سدوم مع أن قدميها خرجتا منها (تكوين ١٩: ١٧ و٢٦).
والذي يجب أن نذكره من أمرها أربعة أمور:
- الأول: خطر الاستخفاف بتهديدات الله ومخالفة أوامره.
- الثاني: أن التفات المسيحي إلى الوراء بعد سيره في طريق الحياة يُعد رجوعاً ويُعاقب عليه كذلك. والمراد بالالتفات إلى الوراء هنا اشتهاء اللذات الدنيوية ومعاشرة الاشرار.
- الثالث: أن حصول الإنسان على أفضل وسائط الخلاص لا تتكفل بخلاصه لأن امرأة لوط حصلت على تنبيه الله وإرشاد الملائكة ومرافقة لوط البار وكان خارج سدوم وفي طرق الأمن.
- الرابع: أن الإنسان قد يكون قريباً من الخلاص ويهلك.
٣٣ «مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا».
متّى ١٠: ٣٩ و١٦: ٢٥ ومرقس ٨: ٣٥ وص ٩: ٢٤ ويوحنا ١٢: ٢٥
انظر الشرح متّى ١٠: ٣٩.
يصح هذا القانون في كل حين فالذي ينكر المسيح لينقذ جسده من الموت ويعيش عيشة دنيوية يخسر نفسه إلى الأبد. وذُكر هذا القانون في الكلام على اليوم الأخير بياناً لكون الذي صرف حياته على الأرض ليحصل على الأمن الجسدي ولذات العالم ومجده يجد في اليوم الأخير أنه خسر كل خيراته الدنيونة ونفسه أيضاً. وعكسه الذي يخسر كل شيء هنا لأجل المسيح يجد في اليوم الأخير أنه ربح كل شيء. وفي كلام المسيح هنا تلميح إلى أنه يكون قبل مجيئه وقت امتحان شديد لإيمان الناس به ومحبتهم له وأنهم يضطرون إلى أن يختاروا بين حياة الجسد وحياة النفس.
٣٤ - ٣٦ «٣٤ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ يَكُونُ ٱثْنَانِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ، فَيُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلآخَرُ. ٣٥ تَكُونُ ٱثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ مَعاً، فَتُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ ٱلأُخْرَى. ٣٦ يَكُونُ ٱثْنَانِ فِي ٱلْحَقْلِ، فَيُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلآخَرُ».
متّى ٢٤: ٤٠ و٤١ و١تسالونيكي ٤: ١٧
جاء مثل هذا في نبإ خراب أورشليم انظر الشرح متّى ٢٤: ٤٠ و٤١. وأشار به المسيح هنا إلى الانفصال العظيم الأبدي بين المؤمنين وغير المؤمنين في اليوم الأخير.
٣٧ «فَقَالُوا لَـهُ: أَيْنَ يَا رَبُّ؟ فَقَالَ لَـهُمْ: حَيْثُ تَكُونُ ٱلْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ ٱلنُّسُورُ».
أيوب ٢٩: ٣٠ ومتّى ٢٤: ٢٨
أَيْنَ يَا رَبُّ هذا سؤال التلاميذ وأما سؤال الفريسيين فكان قولهم «متّى يأتي ملكوت الله». ولم يدرك التلاميذ أن المسيح قصد بكلامه السابق عموم هلاك العالم في يوم الدين فظنوه يتكلم على نازلة معينة في مكان محدود. وكان جواب المسيح حينئذٍ كجوابه على السؤال عن خراب أورشليم (متّى ٢٤: ٢٨) إلا أنه تكلم هناك على هلاك الأشرار ونجاة الأبرار. وتكلم هنا على هلاك الأشرار فقط. ومعنى الجواب هنا أنه حيث تكون الخطيئة والفساد فهناك تكون رسل الله للعقاب (متّى ١٣: ٤٩).
الأصحاح الثامن عشر
مثل المرأة الملحة ع ١ إلى ٨
١ «وَقَالَ لَـهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ».
ص ١١: ٥ و٢١: ٣٦ ورومية ١٢: ١٢ وأفسس ٦: ١٨ وكولوسي ٤: ٢ و١تسالونيكي ٥: ١٧
هذا المثل يشبه مثل وكيل الظلم (ص ١٦: ١ - ٨) في أن تعاليمه مبنية لإفادة الأخيار على أعمال الأشرار.
لَـهُمْ أي للتلاميذ.
فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى أي بياناً لوجوب الصلاة.
كُلَّ حِينٍ المراد بالصلاة «كل حين» أنه يجب على الإنسان أن لا يهمل الصلاة بل بواظب عليها دائماً وأن يكون مشتاقاً إلى بركة الله عليه وإلى معونته أبداً. وأن يصلّي كلما أراد الشروع في أمر ذي شأن. وأن يكون قلبه مستعداً أبداً لسؤال الله عند الحاجة. وأن يمارس الصلاة في الحزن والفرح. وفي زمن التجربة والشكوك والاضطهاد. لأنه محتاج كل حين إلى الله وبركاته الجسدية والروحية فينبغي أن يصلّى في كل حين (أفسس ٦: ١٨ و١تسالونيكي ٥: ١٧).
وَلاَ يُمَلَّ معنى هذا السلب كمعنى الإيحاب السابق فهو توكيد له أي أنه يجب على الإنسان أن لا يهمل الصلاة إذا لم يستجبه الله حالاً بل أن يواظب عليها.
٢ «كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لاَ يَخَافُ ٱللّٰهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَاناً».
فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ كان من الواجب حسب شريعة موسى أن يُقام في المدن قضاة يجلسون في الأبواب ليقضوا بالعدل (تثنية ١٦: ١٨ وخروج ٢٦: ٦ و٩ ولاويين ١٩: ١٥). وكانت منزلة القاضي تمكنه من عمل الخير أو عمل الشر بحكمه عدلاً أو ظلماً.
لاَ يَخَافُ ٱللّٰهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَاناً أي لا تؤثر فيه الأسباب التي تحمل الناس على الحكم بالعدل. فلو خاف الله لمنعه ضميره من الظلم وحثّه على إنصاف المظلوم من غيره ولو هاب الناس اعتزل ما يجلب عليه لومهم واجتهد في القيام بحقوق القضاء وربح مدحهم. ويغلب أن تقترن مهابة الناس ومراعاة حقوقهم بخوف الله فإذا انتفى أحدهما انتفى الثاني.
٣ «وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي».
أَرْمَلَةٌ كانت الأرملة عرضة للجور والظلم في كل زمان ومكان لطمع أهل العدوان فيها إذ يسهل خداعها ويقل من يحامي عنها. وأمر الله القضاة أن يعتنوا بالأرامل اعتناء خاصاً (إرميا ٢٢: ٣).
كَانَتْ تَأْتِي مراراً كثيرة.
أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي يتبين من سؤالها أنه اعتدى عليها من هو أقوى منها فسألت القاضي دفع ذلك الاعتداء عدلاً. وكان مما يجب على القاضي أن ينصفها بمقتضى وظيفته والشفقة على الأرملة المظلومة.
٤ «وَكَانَ لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلٰكِنْ بَعْدَ ذٰلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَخَافُ ٱللّٰهَ وَلاَ أَهَابُ إِنْسَاناً».
كَانَ لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ بقي مدة طويلة يسد أذنيه عن صراخها ويغلق قلبه عن الشفقة عليها وضميره لم يتنبه لإنصافها.
٥ «فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي».
ص ١١: ٨
عزم أخيراً على أن يلتفت إلى الأرملة للجاجتها ودفع إقلاقها إياه وامتناعه بذلك عن لذاته.
٦ «وَقَالَ ٱلرَّبُّ: ٱسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي ٱلظُّلْمِ».
ٱسْمَعُوا أي انتبهوا لما يستنتجه المسيح من ذلك من سمع الله لصلاة المؤمنين. والأرجح أن القاضي لم يذكر ذلك لفظاً لكن الله عرف أفكاره وأعلنها حتى كأنه أوضحها هو بنفسه.
٧ «أَفَلاَ يُنْصِفُ ٱللّٰهُ مُخْتَارِيهِ، ٱلصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟».
٢بطرس ٣: ٩ و١٥ ورؤيا ٦: ١٠
أَفَلاَ يُنْصِفُ ٱللّٰهُ حاشا لله أن يشبه ذلك القاضي في صفاته أو مبادئه. ولكن إذا كان قاضي الظلم قد سمع وانتقم لصاحبة الحق فكم بالأولى يفعل كذلك الله قاضي العدل. وإذا أصغى الإنسان القاسي المحب للذات فكم بالأحرى يصغي الله الرحيم الحنان. وإذا كانت لجاجة الأرملة قد أثرت في قاضي يكرهها أفلا تؤثر في الله صلاة مختاريه الذين يحبهم ووعدهم بالاستجابة. وخلاصة هذا الكلام أنه لو كان الله تعالى مثل قاضي الظلم لسمع الصلاة فكم بالأولى يسمعها وهو عادل رحيم مستعد أن يسمع ويستجيب.
مُخْتَارِيهِ هذا من ألقاب المحبة وهو يثبت عناية الله بشعبه لأنه يدل على أن الله اختاره من عالم الإثم منذ الأزل خاصة له (أفسس ١: ٤ وكولوسي ٣: ١٢ و١تسالونيكي ١: ٤ و١بطرس ١: ٢).
ٱلصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً هذا كلام جار مجرى المثل يشار به إلى المواظبة على الصراخ. ويمتاز مختاروا الله عن غيرهم بأنهم يرفعوا صلواتهم إليه على الدوام. فإذا كانت لجاجة المرأة الأرملة قد نجحت عند القاضي مع كل موانع النجاح فبالأولى أن تنجح لجاجة المؤمنين عند الله إذ عنده لذلك كل الاستعداد للسمع والاستجابة.
وصراخ المختارين إليه تعالى للنجاة من خصومهم كصراخ الأرملة للنجاة من خصمها لأنه قيل «وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: حَتَّى مَتَى أَيُّهَا ٱلسَّيِّدُ ٱلْقُدُّوسُ وَٱلْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا» (رؤيا ٦: ١٠). على أن كون أولاد الله مختاروه هو معظم العلّة لسمعهم واستجابتهم لا لجاجتهم.
وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ أي يبطئ عن استجابتهم فيظهر لهم أنه لا يلتفت إلى صراخهم لطول المدة بين تقديمهم الصلاة واستجابة الله لها. نعم إنّ القاضي مطل المرأة الأرملة كرهاً وأبى إنصافها قصداً والله يظهر لشعبه أنه كذلك مع أن الأمر بخلافه لأن ما يظهر للإنسان وقتاً طويلاً هو ليس كذلك عند الله وإن تمهّل فذلك لأسباب حكمته ومحبته لا لكراهته طلباتنا.
٨ «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً! وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ ٱلإِيمَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ؟».
عبرانيين ١٠: ٣٧ و٢بطرس ٣: ٨
أَقُولُ لَكُمْ لرفع كل شك ولتأكيد ما يأتي.
إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً أي في أول ما يرى ذلك موافقاً فهو لا يُبقي المسيحي في بوطة البليّة أكثر مما يلزم لكي يمحصه. وعلى هذا جرى المسيح في تمهله على عائلة لعازر في بيت عنيا (يوحنا ١١: ٦) وفي تركه تلاميذه يتعذبون في البحر أكثر الليل ولم يأت لمساعدتهم إلا في الهزيع الرابع (متّى ١٤: ٢٤ و٢٥).
مَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ سبق الكلام على مجيء ابن الإنسان لدينونة الأشرار (ص ١٧: ٢٤ - ٣٧). وذُكر هنا لنجاة الأخيار أيضاً. وأكثر الإشارة إلى مجيئه الأخير لدينونة العالم ويصح حمله أيضاً على مجيء المسيح من وقت إلى وقت بروحه لينجي الأبرار ويعاقب الأثمة.
أَلَعَلَّهُ يَجِدُ ٱلإِيمَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ الإيمان المشار إليه هو الإيمان بالله وبفاعلية الصلاة وهو الذي يجعل شعب الله يصلّون كل حين ولا يملّون. وفي هذا السؤال إشارة إلى أن المسيح لا يجد عند إتيانه إيماناً عند شعبه لما يصيبهم من النوازل. وفي قوله «ولكن» إشارة إلى أنه كان يجب على شعب الله أن لا يشكوا في فاعلية الصلاة نظراً إلى ما في هذا المثل من توكيد استجابته.
وخلاصة معنى هذا السؤال أن الخطر على المختارين هو ضعف إيمانه بفاعلية الصلاة لا عدم إنصاف الله إياهم.
مثل الفريسي والعشار ع ٩ إلى ١٤
٩ «وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ ٱلآخَرِينَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ».
ص ١٠: ٢٩ و١٦: ١٥
غاية هذا المثل تعليم وجوب التواضع في الصلاة وكانت غاية المثل السابق وجوب الإلحاح فيها والاستمرار عليها.
لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ رأى المسيح أن بعض الذين اجتمعوا حوله اتكلوا على برهم لخلاصهم لا على رحمة الله ولا على برّ المسيح وذلك يقود إلى الكبرياء الدينية. ولعلّ المسيح رأى في بعض تلاميذه الحقيقيين الميل إلى هذه الكبرياء فحذرهم بهذا المثل منها. ولو قصد توبيخ الفريسيين فقط لم يضرب لهم مثل إنسان منهم كان ما فعله لائقاً وممدوحاً حسب اعتقادهم وما كان ذلك مثلاً بل خبراً. والحق أن كل الناس مائلون إلى الاتكال على البرّ الذاتي فذلك المثل نافع للكل.
وَيَحْتَقِرُونَ ٱلآخَرِينَ أي الذين اعتبروهم أقل براً منهم فالثقة بالنفس تقود صاحبها إلى احتقار غيره.
١٠ «إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَٱلآخَرُ عَشَّارٌ».
صَعِدَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ أي المكان المعتاد للصلاة وكان أعلى من المدينة. ومحل الصلاة فيه إحدى أدؤره وهي دار النساء (انظر الشرح متّى ٢١: ١٢).
وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ كان الفريسيون غيورين في حفظ طقوس الدين والأعمال الأدبية في الظاهر معتزلين الخطايا القبيحة ولذلك اعتبروا أنفسهم أبراراً ولم يشعروا بآثام قلوبهم وذنوبهم أمام الله (انظر الشرح متّى ٣: ٢٧).
وَٱلآخَرُ عَشَّارٌ لم يكن للعشارين رجاء تبرير أنفسهم أمام الله بحفظ طقوس الديانة ولا بسيرتهم الظاهرة (انظر الشرح متّى ٥: ٤٦ و٩: ١٠).
١١ «أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هٰكَذَا: اَللّٰهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ ٱلْخَاطِفِينَ ٱلظَّالِمِينَ ٱلزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هٰذَا ٱلْعَشَّار».
مزمور ١٣٥: ٢ إشعياء ١: ١٥ و٥٨: ٢ ورؤيا ٣: ١٧
أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ الوقوف الذي اعتاده اليهود في الصلاة (١ ملوك ٨ : ٢٢ و٢ أيام ٦: ١٢ ومتّى ٦: ٥ ومرقس ١١: ٢٥). وكانوا حين يريدون إظهار غاية التواضع أو الإلحاح يجثون أو يركعون (٢أيام ٦: ١٣ ودانيال ٦: ١٠ وأعمال ٩: ٤٠ و٢٠: ٣٦ و٢١: ٥).
يُصَلِّي بالنظر إلى اعتقاده أن ما أتاه صلاة لا بالنظر إلى ما رآه الله.
أَنَا أَشْكُرُكَ هذا الكلام بداءة حسنة للصلاة لو كانت مقترنة بتواضع وعدم تعيير للغير لكنه أخطأ بأن جعل شكره وسيلة لافتخاره بفضائله.
أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ قسم أهل العالم إلى قسمين هو القسم الأول وسائر الناس القسم الثاني ولم ير في نفسه إلا الصلاح ولم ير في غيره سوى الشر وكان موضوع شكره لله برّ نفسه.
ِٱلْخَاطِفِينَ ٱلظَّالِمِينَ ٱلزُّنَاة قسم الناس غيره أقساماً بالنظر إلى صنوف آثامهم. فأمكنه أن يرى خطايا الغير ويعلنها ولكنه لم ير واحدة من آثامه. فلو قاس نفسه بشريعة الله المقدسة بدلاً من أن يقيسها بالأشرار لصلّى أحسن من ذلك. ولو نظر إلى الأشرار بالحنو بدلاً من الهزء لحسنت صلاته.
وَلاَ مِثْلَ هٰذَا ٱلْعَشَّارِ رأى الفريسي ذلك العشار داخلاً إلى الهيكل فحسبه كأنه مثال الخطاة الذين ذكرهم وشر منهم. وكان قد عدد فضائله في ما مضى سلباً وذكرها هنا إيجاباً.
١٢ «أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي ٱلأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ».
أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي ٱلأُسْبُوعِ افتكر أنه عمل أعمالاً نافلة لأن موسى لم يأمر اليهود إلا بصوم واحد في السنة وهو يوم الكفارة (لاويين ١٦: ٢٩ وعدد ٢٩: ٧) لكنه صام كبقية الفريسيين اليوم الثاني والخامس من كل أسبوع أي الأثنين والخميس (انظر الشرح متّى ٦: ١٦).
وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ مطاليب الشريعة هي عشر أثمار الحقل والبهائم (عدد ١٨: ٢١ ولاويين ٢٧: ٣٠) وإنما هو قدّم كل عُشر مقتنياته حتى النعنع والشبّث والكمون (متّى ٢٣: ٢٣). وبذلك جعل الله مديوناً له واعتبروا الصوم وإعطاء العشور أعظم من أثقل الناموس.
ونقائص صلاة الفريسي ثلاث:
- إنه ليس في صلاته اعتراف بالخطيئة فإنه اكتفى بذكر فضائله وأعماله النافلة واتكل عليها للخلاص.
- إنه لم يشعر فيها باحتياجه إلى الله ولم يطلب شيئاً منه.
- إنه ليس فيها شيء من التواضع فإنه جعل بره الذاتي موضوع الكبرياء والافتخار.
١٣ «وَأَمَّا ٱلْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئ».
فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ أي كان بعيداً عن الفريسي وعن بقية الساجدين في الهيكل وعن المقدس. وكان ذلك دليلاً على تواضعه وشعوره بخطاياه.
لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ كان إطراقه دليلاً على خجله وشعوره بدناءته أمام الله حتى اعتقد أنه لا يستحق أن يرفع عينيه إلى مسكن قدسه تعالى. وهذا وفق قول عزرا «ٱللّٰهُمَّ إِنِّي أَخْجَلُ وَأَخْزَى مِنْ أَنْ أَرْفَعَ يَا إِلٰهِي وَجْهِي نَحْوَكَ، لأَنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ كَثُرَتْ فَوْقَ رُؤُوسِنَا، وَآثَامَنَا تَعَاظَمَتْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (عزرا ٩: ٦).
قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ كان ذلك علامة خارجية لفرط حزنه (ص ٢٣: ٤٨) وشكواه على نفسه.
ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ عبّر عن نفسه كأنه لا خاطئ على الأرض سواه. والفريسي عبّر عن نفسه كأنه لا صالح على الأرض سواه. وكلماته هنا تشير إلى شعوره بخطيئته وتوبته الحقيقية وانسحاق قلبه وعدم استحقاقه واحتياجه إلى المغفرة وشوقه إلى نوالها وإيمانه برحمة الله.
وتظهر جودة صلاة العشار من خمسة أمور:
- إن ما أتى به دعاء لاخطاب مجرد.
- إنه سأل الله حاجاته الشخصية فلم يلتفت إلى خطايا غيره بل قصر النظر على خطايا نفسه.
- إن صلاته اقترنت بالتواضع وبالاعتراف بإثمه.
- إنه اتكل على رحمة الله.
- إن صلاته كانت من قلبه لا من شفتيه فقط.
١٤ «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هٰذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِع».
أيوب ٢٢: ٢٩ ومتّى ٢٣: ١٢ وص ١٤: ١١ ويعقوب ٤: ٦ و١بطرس ٥: ٥ و٦
أَقُولُ لَكُمْ قال ذلك توكيداً لصحة ما يقوله وإن ظن السامعون خلاف ذلك.
هٰذَا أي العشار الذي دان نفسه.
مُبَرَّراً بقضاء الله. أي أن الله رضيه وأجاب صلاته. فسأله تعالى أن يرحمه فغفر له ولذلك صار باراً في عينيه. والمثل لم يذكر سبب هذا التبرير لكننا نعلم أن علّة تبرير الخاطئ التائب المؤمن دم المسيح وشفاعته.
ولعلّ المعنى هنا أن العشار نال من الله راحة الضمير والفرح الناتج من الشعور بالغفران من الله.
دُونَ ذَاكَ أي الفريسي الذي برر نفسه. والمعنى أنه لم يتبرر شيئاً فخطاياه بقيت عليه لأنه لم يشعر بثقلها ولم يطلب مغفرتها فنزل من الهيكل وقلبه قاس كما كان وهو داخل إليه ولم يرضه الله ولم يقبل صلاته.
لأَنَّ كُلَّ مَنْ الخ سبق الكلام على ذلك في الشرح (متّى ٢٣: ١٢ وص ١٤: ١١). رفع الفريسي نفسه لكن قضاء الله وضعه. ووضع العشار نفسه فرفعته رحمة الله.
قبول المسيح للأطفال ومباركته إياهم ع ١٥ إلى ١٧
١٥، ١٦ «١٥ فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ ٱلأَطْفَالَ أَيْضاً لِيَلْمِسَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمُ ٱلتَّلاَمِيذُ ٱنْتَهَرُوهُمْ. ١٦ أَمَّا يَسُوعُ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ: دَعُوا ٱلأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هٰؤُلاَءِ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
متّى ١٩: ١٣ ومرقس ١٠: ١٣، ١كورنثوس ١٤: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢
انظر الشرح (متّى ١٩: ١٣ - ١٥ ومرقس ١٠: ١٣ - ١٦).
ٱلأَطْفَالَ ذكر متّى ومرقس أن الذين قدّموا أولاد صغار ولا ريب في أنه كان بينهم أطفال أطلقهم لوقا على الجميع فلا مناقضة.
١٧ «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَـهُ».
مرقس ١٠: ١٥
انظر الشرح متّى ١٨: ٣.
الرئيس الغني ع ١٨ إلى ٣٠
١٨ - ٢٧ «١٨ وَسَأَلَـهُ رَئِيسٌ: أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟» ١٩ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ. ٢٠ أَنْتَ تَعْرِفُ ٱلْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِٱلزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ. ٢١ فَقَالَ: هٰذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. ٢٢ فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذٰلِكَ قَالَ لَـهُ: يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ. بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى ٱلْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي. ٢٣ فَلَمَّا سَمِعَ ذٰلِكَ حَزِنَ، لأَنَّهُ كَانَ غَنِيّاً جِدّاً. ٢٤ فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ، قَالَ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ! ٢٥ لأَنَّ دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ!. ٢٦ فَقَالَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا: فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟ ٢٧ فَقَالَ: غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ».
متّى ١٩: ١٦ ومرقس ١٠: ١٧، خروج ٢٠: ١٢ إلى ١٦ وتثنية ٥: ١٦ إلى ٢٠ ورومية ١٣: ٩، أفسس ٦: ٢ وكولوسي ٣: ٢٠، متّى ٦: ١٩ و٢٠ و١٩: ٢١ و١تيموثاوس ٦: ١٩، أمثال ١١: ٢٨ ومتّى ١٩: ٢٣ ومرقس ٢٠: ٢٣ إرميا ٣٢: ١٧ وزكريا ٨: ٦ ومتّى ١٩: ٢٦ وص ١: ٣٧
انظر الشرح متّى ١٩: ١٦ - ٢٦ ومرقس ١٠: ١٧ - ٢٧.
رَئِيسٌ (ع ١٨) الأرجح أنه كان رئيس مجمع اليهود وهذا ما زاده لوقا على رواية متّى ومرقس فإنهما رويا أنه كان شاباً أتى جارياً إلى يسوع وأن يسوع أحبه وهذا لم يذكره لوقا.
٢٨ - ٣٠ «٢٨ فَقَالَ بُطْرُسُ: هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. ٢٩ فَقَالَ لَـهُمُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، ٣٠ إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هٰذَا ٱلزَّمَانِ أَضْعَافاً كَثِيرَةً، وَفِي ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ».
متّى ١٩: ٢٧، تثنية ٣٣: ٩، أيوب ٤٢: ١٠
انظر شرح متّى ١٩: ٢٧ - ٢٩ ومرقس ١٠: ٣٢ - ٣٤.
إنباء يسوع بموته وقيامته ع ٣١ إلى ٣٤
٣١ - ٣٤ «٣١ وَأَخَذَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَـهُمْ: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِٱلأَنْبِيَاءِ عَنِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ، ٣٢ لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى ٱلأُمَمِ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ، وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ، ٣٣ وَيَجْلِدُونَهُ، وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ. ٣٤ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذٰلِكَ شَيْئاً، وَكَانَ هٰذَا ٱلأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ».
متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٠: ١٧ و١٨ ومرقس ١٠: ٣٢، مزمور ٢٢ وإشعياء ٥٣، متّى ٢٧: ٢ وص ٢٣: ١ ويوحنا ١٨: ٢٨ وأعمال ٣: ١٣، مرقس ١٩: ٣٢ وص ٢: ٥٠ و٩: ٤٥ ويوحنا ١٠: ٦ و١٢: ١٦
انظر الشرح متّى ٢٠: ١٧ - ١٩ ومرقس ١٠: ٣٢ - ٣٤.
هذا إنباء يسوع ثالثة بهذا الشأن.
كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِٱلأَنْبِيَاءِ لم يذكر هذه العبارة إلا لوقا. ومن هؤلاء الأنبياء داود (مزمور ١٦: ١٠ و٢٢: ٧ و٨ و١٦: ١٨ و٤٩: ١٥). وإشعياء (إشعياء ٥٣: ١ - ٩) ودانيال (دانيال ٩: ٢٦).
فَلَمْ يَفْهَمُوا (ع ٣٤) هذا لم يذكره إلا لوقا. والمعنى أنهم لم يدركوا قصد المسيح من تلك الكلمات. والذي منعهم من ذلك ما سبق من آرائهم اليهودية في شأن المسيح.
وَكَانَ هٰذَا ٱلأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ لا بقصد الله أو فعله بل بآرائهم الفاسدة الدنيوية في حقيقة ملكوت المسيح وبغلاظة عقولهم. على أنه يصعب في الغالب فهم معنى النبوءة قبل تمامها.
إبراء أعمى في أريحا ع ٣٥ إلى ٤٣
٣٥ - ٤٣ «٥٣ وَلَمَّا ٱقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِساً عَلَى ٱلطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. ٣٦ فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْجَمْعَ مُجْتَازاً سَأَلَ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟ ٣٧ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. ٣٨ فَصَرَخَ: يَا يَسُوعُ ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي!. ٣٩ فَٱنْتَهَرَهُ ٱلْمُتَقَدِّمُونَ لِيَسْكُتَ، أَمَّا هُوَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: يَا ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي. ٤٠ فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا ٱقْتَرَبَ سَأَلَـهُ: مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟ ٤١ فَقَالَ: يَا سَيِّدُ، أَنْ أُبْصِرَ. ٤٢ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: أَبْصِرْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ. ٤٣ وَفِي ٱلْحَالِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَهُ وَهُوَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ. وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا ٱللّٰه».
متّى ٢٠: ٢٩ الخ ومرقس ١٠: ٤٦ ص ١٧: ١٩، ص ٥: ٢٦ وأعمال ٤: ٢١ و١١: ١٨
انظر الشرح متّى ٢٠: ٢٩ - ٣٤ ومرقس ١٠: ٤٦ - ٥٢.
وَلَمَّا ٱقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا (ع ٣٥) يدل الأصل اليوناني على أنه كان قرب أريحا بقطع النظر عن كونه مقبلاً إليها أو ذاهباً عنها. وقيّد متّى ذلك بقوله «وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ مِنْ أَرِيحَا» (متّى ٢٠: ٢٩) فالأرجح أن تلك الحادثة كانت في صباح يوم الجمعة بعد أن تقضّت على يسوع الليلة في بيت زكا هنالك. وأما أريحا فمر الكلام عليها في شرح بشارة متّى (متّى ١٠: ١٩). وكانت على الطريق من بيرية إلى أورشليم.
أَعْمَى ذكر مرقس أن اسم هذا الأعمى بارتيماوس وذكر متّى أنه كان له رفيق.
وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا ٱللّٰهَ (ع ٤٣) لم يذكر تأثير هذه المعجزة في أهل أريحا سوى لوقا.
الأصحاح التاسع عشر
زكا العشار ع ١ إلى ١٠
١ «ثُمَّ دَخَلَ وَٱجْتَازَ فِي أَرِيحَا».
هذا يعم كل الحوادث التي كانت بين إتيان المسيح إلى أريحا يوم الخميس وخروجه صباح يوم الجمعة.
أَرِيحَا تقدم الكلام على هذه المدينة في الشرح (متّى ٢٠: ٢٩).
٢ «وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيّاً».
وَإِذَا رَجُلٌ هذا بداءة إحدى الحوادث التي حدثت في أثناء الزمان المذكور في الآية الأولى. والأرجح أنها حدثت قبل إبراء ابن طيما ولسبب مجهول اختار لوقا أن يذكرها بعده.
زَكَّا هو في العبراني زكاي ومعناه زكيٌ وذُكر هذا الاسم بين الذين رجعوا من بابل إلى أورشليم بعد السبي (نحميا ٧: ١٤) وهو يهودي كما يظهر من ع ٩.
رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ أي جباة العشور أو جَمَعة الجزية التي ضربها الرومانيون على اليهود باعتبار كونهم أمة خاضعة لهم. ولعلّ زكا ضمن العشور كلها في تلك الكورة بتأديته مالاً معيناً للحكومة ليأخذ من الشعب ما استطاع عدلاً كان أو جوراً. وقد مرّ الكلام على العشارين في الشرح (متّى ٥: ٤٦ و٩: ١).
كَانَ غَنِيّاً لعلّ علّة غناه ما أخذه من الشعب إجباراً فوق حقه. ويحتمل أن سبب ذكر لوقا إياه هنا قول المسيح سابقاً «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» وقوله «غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (ص ١٨: ٢٤ و٢٧). فأتى بخبر زكا إثباتاً للقول الأخير.
٣ «وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ ٱلْجَمْعِ، لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ ٱلْقَامَةِ».
سمع زكا صيت النبي الجديد ونبأ معجزاته فرغب في أن يشاهده. ولعلّ ذلك كان كل ما قصده. لكن الله أحب أن يجعل رغبته في المشاهدة وسيلة إلى خلاص نفسه.
والكلام يدل هنا على أن زكا اجتهد أولاً أن يراه وهو بين الجمع فلم يستطع.
٤ «فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ».
فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً هذا دليل قاطع على اجتهاده وعدم انثنائه عن قصده للموانع. ويحتمل أن ما فعله حمل الناس على الهزء به.
جُمَّيْزَةٍ فسرتها كتب اللغة بالتين الذكر. وهي شجرة عظيمة ثمرها يشبه ثمر التين وينشأ على ساق الغصن لا فروعه وورقها يشبه ورق التوت وهي دانية الغصون افقيتها تقريباً فيسهل بذلك الصعود عليها.
٥ «فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَـهُ: يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَٱنْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ ٱلْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ».
لعلّ الناس الذين رأوا زكا على الجميزة ذكروا اسمه أمام المسيح على أن المسيح الذي عرف قلب زكا لا يحتاج إلى من يخبره باسمه فيمكن أنه عرفه كما عرف نثنائيل (يوحنا ١: ٤٨).
وهذه المرة الوحيدة عرض المسيح نفسه للضيافة. وهذا وفق دعوته في سفر الرؤيا (رؤيا ٣: ٣٠). ولم يسأل المسيح زكا هل له بيت وهل أحوال ذلك البيت موافقة لقبول الضيف لأنه عرف كل أحوال بيته وعواطف قلبه. ولم يطلب أن يبيت في بيوت أحد الربانيين أو كهنة أريحا بل اختار أن يبيت في بيت زكا إذ رأى في قلبه استعداداً للترحيب به وأراد أن يخلص نفسه وفقاً لقوله «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (ع ١٠). ولمثل هذه الغاية خاطب المرأة السامرية (يوحنا ص ٤).
٦ «فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَـهُ فَرِحاً».
لا ريب في أن العجب أخذ زكا عندما خاطبه يسوع. ولعله توقع أن يوبخه ذلك النبي فتنازل المسيح بطلبه أن يقبله ضيفاً أثر فيه فحسب ضيافة المسيح شرفاً له فجعله ذلك يقبله فرحاً في بيته كما قبله بالإيمان والمحبة في قلبه.
٧ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْجَمِيعُ ذٰلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ».
متّى ٩: ١١ وص ٥: ٣٠
تَذَمَّرُوا الذين تذمروا الجمع المرافق له لا تلاميذه. وكان ذلك الجمع من اليهود فزعموا وجوب أن ينزل المسيح عند أحد الفريسيين لا عند عشار لأن العشار كان مكروهاً لديهم (ص ٥: ٣٠ و١٥: ٢).
رَجُلٍ خَاطِئٍ لو كان زكا من الأمم ما سكتوا عن بيان ذلك. وكان من المستحيل أن يأكل المسيح عنده طعاماً لو كان من الأمم لأن المسيح كان حافظاً السنن اليهودية. ودعاه اليهود خاطئاً لأن العشارين لم يكونوا يبالون بالطقوس اليهودية وتقاليد الشيوخ التي يجعل حفظها الإنسان «باراً». وكانت أعمالهم مكروهة لديهم فاعتبروهم من جملة الخطاة تعييراً لهم.
٨ «فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ».
ص ٣: ١٤، خروج ٢٢: ١ و١صموئيل ١٢: ٣ و٢صموئيل ١٢: ٦
فَوَقَفَ زَكَّا الأرجح أن ذلك كان في بيته ولعله حدث عند العشاء. وكان وقوفه دلالة على ثبات عزمه وتوقيره لله وهو ينذر له ويتعهد.
أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي هذا دليل واضح على أنه مع غناه لم يكن قلبه عابداً لماله وعلى أنه شعر بوجوب أن يكرم الله بماله ويصنع به خيراً. وفعل ذلك أيضاً شكراً للنعمة التي حصل عليها بإتيان المسيح إلى بيته وفعل نعمته في قلبه.
وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ الخ وعد بذلك أنه يراجع أعماله الماضية بالتدقيق ويرد على من اختلس منه شيئاً بالخداع أو الإجبار أربعة أضعاف. وهذا يزيد على ما تطلبه الشريعة لأن الشريعة لا تطلب سوى الخمس زيادة على المختلس إذا اعترف المذنب بذنبه تبرعاً (عدد ٥: ٦ و٧). ولكن إذا سرق الإنسان بهيمة وتصرف بها ثم قُبض عليه فأجبر أن يؤدي أربعة أضعاف ما سرق (خروج ٢٢: ١). ولكن إذا وُجد المسروق حياً بين يديه عوّض عليه باثنين (خروج ٢٢: ٤). فما أتى به زكا كان برهاناً على صدق توبته. ولو اعترف بخطيئته ولم يرد المسروق أو المختلس لكانت توبته عبثاً. ولا يزال هذا القانون واجباً على كل الذين يدّعون التوبة الآن.
٩ «فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ».
رومية ٤: ١١ و١٢ و١٦ وغلاطية ٣: ٧، ص ١٣: ١٦
حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ لأنه تجددت نفس صاحب البيت. فدخل المسيح ذلك البيت وأدخل الخلاص معه وقبل العشار المخلص والخلاص معاً.
إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ هذا رد على الذين تذمروا عليه لأنه دخل بيت زكا وهو رجل خاطئ (ع ٧). فقال أن زكا وإن كان خاطئاً هو ابن إبراهيم بالتسلسل الطبيعي والخلاص لليهود أولاً فيليق أن يقدّم له لأنه يهودي لا واحد من الأمم. ويحسن أن يقدّم له لسبب ثان وهو أنه أظهر بالعمل أنه ابن إبراهيم بالإيمان والحق لا بالدم وحده.
١٠ «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ».
متّى ١٠: ٦ و١٥: ٢٤ و١٨: ١١
هذا جواب ثانٍ للمتذمرين عليه لدخوله بيت زكا الخاطئ وهو أنه دخل بيته لكي يخلص نفسه الهالكة وقد سبق الكلام على هذه الآية في شرح ص ١٥: ٣ - ١٠.
ولنا من هذه الحادثة أربع فوائد:
- الأولى: قوة النعمة الإلهية فإنها جعلت عشاراً غنياً ظالماً مسيحياً كريماً مؤمناً.
- الثانية: إنه تنتج من أمور طفيفة نتائج عظيمة. فإنه من رغبة ذلك الإنسان في مشاهدة المسيح وهو مار وصعوده على الشجرة نتج الخلاص الأبدي لبيته.
- الثالثة: تنازل المسيح ومحبته ورحمته باختياره ذلك العشار إناء لرحمته.
- الرابعة: إن من تجدّد حقاً يبرهن صحة تجدده بأعماله.
مَثَل العشرة الأمناء ع ١١ إلى ٢٧
١١ «وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هٰذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلاً، لأَنَّهُ كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي ٱلْحَال».
أعمال ١: ٦
هٰذَا أي ما قاله يسوع لزكا والأرجح أن ما ذُكر هنا من خطاب يسوع له كان قليلاً من كثير.
عَادَ أي زاد على قوله السابق.
مَثَلاً هذا المثل يشبه في بعض الوجوه مَثَل العشر الوزنات (متّى ٢٥: ١٤ - ٣٠ ومرقس ١٣: ٣٤ - ٣٦) ويختلف عنه في عدة وجوه نذكر خمسة منها.
- الأول: إن مثَل الوزنات ضربه يسوع في أورشليم في أسبوع صلبه. ومثَل الأمناء ضربه في أريحا في الأسبوع الذي قبله.
- الثاني: إن في مثَل الوزنات «إنساناً وزع أمواله على عبيده ليتجروا بها» وكانت قيمة ما وزعه عليهم إن كان فضة نحو ٢٠٠٠ ليرة إنكليزية وإن كان ذهباً نحو ٤٨٠٠٠ ليرة كذلك. وإن في مثل الأمناء أميراً ذهب ليطلب ملكاً لنفسه وترك لكل من عبيده قليلاً من المال وكانت جملة ما تركه للجميع لا تزيد على ستين ليرة انكليزية وأتى ذلك امتحاناً لأمانتهم.
- الثالث: أنّ كلا من العبيد في مثل الوزنات أخذ ما هو على قدر طاقته فمنهم من أخذ عشر وزنات ومنهم من أخذ خمساً الخ. ولكن في مثل الأمناء كل عبد أخذ مناً.
- الرابع: أنه لم يذكر في مثل الوزنات سوى العبيد ولكنه ذُكر في مثل الأمناء الأعداء أيضاً.
- الخامس: إن غاية المسيح من المثل الأول تعليم تلاميذه وجوب الأمانة والاجتهاد في غيبة سيدهم الطويلة وبطء يوم المحاسبة وغايته من الثاني تعليم كل الشعب أن لا يتوقعوا مجيء ملكوت الله في الحال وكيفية المحاسبة وقت مجيئه.
كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ أي نحو سبع ساعات أو عشرين ميلاً لأنه كان وقتئذ في أريحا.
أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ عَتِيدٌ الخ توقع الجمع الذي رافق المسيح وتلاميذه أيضاً أن المسيح يغلب في الحال على كل أعداء الأمة اليهودية ولا سيما الحكومة الرومانية وأن يقيم ملكوته ظاهراً وممجداً في أورشليم قاعدة مملكته وأن كل نبوات الكتاب المقدس في شأن ملك المسيح على وشك الإتمام بظاهر المعنى. وظنوا أن غاية صعوده إلى أورشليم حينئذ إنجاز ذلك. وعلّة هذا الانتظار المعجزات التي فعلها المسيح. فتكلم بهذا المثل إصلاحاً لذلك الخطإ. وأنه يمضي عليهم زمان طويل قبل استعلانه بالمجد. وأنه يجب الاجتهاد في خدمة الرب وهم ينتظرون. وفيه أيضاً إنذار لمقاومية (ع ١٤: ٢٧).
١٢ «فَقَالَ: إِنْسَانٌ شَرِيفُ ٱلْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكاً وَيَرْجِعَ».
متّى ٢٥: ١٤ ومرقس ١٣: ٣٤
إِنْسَانٌ شَرِيفُ ٱلْجِنْسِ أشار المسيح بهذا إلى نفسه وهو ابن داود ابن إبراهيم وابن الله السرمدي.
ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَة الخ وقع كثيراً مثل الحوادث المذكورة في أيام المملكة الرومانية فهيرودس الكبير لم يكن في سوى وظيفة ليست بعالية في اليهودية وذهب إلى رومية قاعدة المملكة فعيّنه السناتوس هنالك ملكاً على اليهودية فعاد وملك واستوطن. وكذلك ابنه أرخيلاوس بعد موت أبيه اضطر أن يذهب إلى رومية ويسأل الأمبراطور أوغسطس الملك حتى يستطيع أن يخلف أباه. والمشار إليه بالذهاب إلى الكورة البعيدة هنا قصد المسيح أن يذهب إلى السماء (كما قال في متّى ٢١: ٣٣ و٢٥: ١٤ ومرقس ١٢: ١) لينتظر الوقت الذي عيّنه الآب لرجوعه لكي يملك ظاهراً ملك الملوك ورب الأرباب على عرش المملكة التي اقتناها بدمه وفق قوله في (يوحنا ١٦: ١٦) وما قيل في (رؤيا ١٧: ٤ و١٩: ٦). نعم إنّ المسيح ملكٌ «عَلَى أَنَّنَا ٱلآنَ لَسْنَا نَرَى ٱلْكُلَّ بَعْدُ مُخْضَعاً لَـهُ» (عبرانيين ٢: ٨). فلذلك يجب أن لا نتوقع تمجده اليوم.
١٣ «فَدَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَـهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ، وَقَالَ لَـهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِي».
حزقيال ٤٥: ١٢
المقصود من ذلك المسيحيون كلها لا عدد معين.
عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ المنا هنا مئة دينار أو نحو ٤٥٠ غرشاً. أعطى السيد مناً لكل واحد من عبيده ليربح به لسيده. وقصد السيد بذلك امتحان أمانتهم لكي يثيب الأمناء عند رجوعه برفع مقامهم وتوليتهم. كذلك المسيح وهب لكل من تلاميذه مواهب روحية كمعرفة الحق ونعمة الروح القدس لكي يمجد الله بها وينفع الناس وهو يقصد أن يثيب الأمين بالبركات السماوية.
تَاجِرُوا أي تصرفوا بهذه الأمناء باجتهاد وأمانة لتزيدوني نفعاً بربحها. كذلك يأمر المسيح تلاميذه بالاجتهاد في خدمته والأمانة في إتمام مقصاده لمجد الله وخلاص الناس. فقوله «تاجروا» كقوله «أنتم نور العالم» «واذهبوا تلمذوا جميع الأمم».
حَتَّى آتِيَ توقع ذلك الأمير ان يرجع سريعاً ليملك. أما يسوع فلا بد أن يأتي أيضاً في نهاية العالم ليملك في المجد. فعلى الكنيسة كلها أن تكون مجتهدة أمينة إلى مجيء ربها ثانية. وعلى كل منا أن يكون كذلك إلى يوم موته.
١٤ «وَأَمَّا أَهْلُ مَدِينَتِهِ فَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ، فَأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ سَفَارَةً قَائِلِينَ: لاَ نُرِيدُ أَنَّ هٰذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا».
يوحنا ١: ١١
حدث مثل هذا في اليهودية في زمن بعض السامعين يوم ذهب أرخيلاوس إلى رومية يسأل الملك بعد موت أبيه هيرودس. فاليهود إذ كانوا يعرفون سوء أخلاقه (انظر الشرح متّى ٢: ٢٢) أرسلوا لجنة من خمسين رجلاً في رومية يسألون أوغسطس ان لا يملّكه لكنهم لم يفوزوا بمرادهم. وأشار المسيح بكلامه هنا إلى معاملة اليهود إياه إذ أبوا قبوله باعتبار أنه هو المسيح وأبغضوه وطلبوا قتله. وأنبأ بما سيقوله اليهود حين يسألهم بيلاطس قائلاً «ما أفعل بملككم» وهو قولهم «اصلبه اصلبه ليس لنا ملك إلا قيصر».
وما صدق على اليهود يصدق على كل الخطاة الذين لا يؤمنون بالمسيح حين يدعوهم إليه فتقول قلوبهم «لا نريد أن هذا يملك علينا».
١٥ «وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَمَا أَخَذَ ٱلْمُلْكَ، أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أُولَئِكَ ٱلْعَبِيدُ ٱلَّذِينَ أَعْطَاهُمُ ٱلْفِضَّةَ، لِيَعْرِفَ بِمَا تَاجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ».
ما مرّ من حوادث هذا المثل أشار إلى حوادث هذه الأرض وما يأتي تشير إلى ما سيحدث في العالم الآتي. وقد بلغ هذا الشريف إربه من أولياء الأمر ورجع ملكاً ثم اهتم أولاً بالسؤال عن تصرف عبيده في غيبته ليعرف ما ربحه كل منهم ويتحقق بذلك اجتهاده وأمانته.
١٦ «فَجَاءَ ٱلأَوَّلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ رَبِحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ».
فَجَاءَ ٱلأَوَّلُ طُلب من كل أن يعطي حساباً بمفرده ولم يحاسبهم معاً لكي لا تستر أمانة بعضهم خيانة بعض.
مَنَاكَ لم يدّعِ العبد الأمين أن المال له بل اعترف بأنه لسيده. ولم يقل مفتخراً أنا ربحت كذا وكذا بل «مناك ربح» كأنه هو لم يفعل شيئاً فوفرة الربح شهادة بفرط اجتهاده وحكتمه وأمانته.
١٧ «فَقَالَ لَـهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ، لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ، فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشَرِ مُدُنٍ».
متّى ٢٥: ٢١ وص ١٦: ١٠
نِعِمَّا... ٱلصَّالِحُ... كُنْتَ أَمِيناً لا بد من أن كلمات هذا المديح كانت حسنة جداً في مِسمعي ذلك العبد.
فِي ٱلْقَلِيلِ إن المال الذي أخذه كان زهيداً جداً فإنه ليس سوى مناً واحد لكنه كان كافياً لامتحان اجتهاده وأمانته.
سُلْطَانٌ عَلَى عَشَرِ مُدُنٍ هذا ثواب جزيل حقق له الشرف والقوة والغنى وكل وسائط السعادة والإفادة.
ومعنى ذلك الروحي أن الله يثيب المسيحي الأمين في اليوم الأخير إثابة جزيلة أكثر مما يستحقه. ولا نعلم كل ما قصده المسيح «بالسلطان على عشر مدن» لكن نتيقن أنه توكيد للمجد والإكرام والسعادة وأسباب النفع للغير. ونستنتج من ذلك أن ثواب العبد الأمين في العالم الآتي فرصة لزيادة المنفعة ووفرة العمل في خدمة الله لأن السلطان على عشر مدن ليس بمقصور على مشاهدة وجه الله وتسبيحه إلى الأبد.
١٨، ١٩ «١٨ ثُمَّ جَاءَ ٱلثَّانِي قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. ١٩ فَقَالَ لِهٰذَا أَيْضاً: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدُن».
أظهر العبد الثاني التواضع كالعبد الأول بقوله «مناك عمل».
خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ أخذ قدر ما أخذ الأول لكنّه ربح أقلّ منه كأنّ اجتهاده أقلّ من اجتهاد ذاك.
عَلَى خَمْسِ مُدُنٍ حكم السيد بقدر اجتهاده على قدر ربحه وأثابه كذلك. فثوابه وإن كان عظيماً في ذاته أقل من ثواب الأول وأسباب سعادته وإفادة غيره أقل من مثلها لذاك. وكذلك يُثاب المسيحي في السماء على قدر أمانته واجتهاده في خدمة الله على هذه الأرض.
٢٠ «ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ ٱلَّذِي كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيل».
اقتصر المثل على ذكر محاسبة ثلاثة عبيد من العشرة لأن ذلك كاف لبيان كيفية المحاسبة. ولا نعلم هل كان من خان واحداً فقط أو أكثر.
يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ لم يكن هذا الإنسان من أعداء الملك بل كان من عبيده. أخذ المنا من سيده بناء على أن يتاجر به لنفع ذلك السيد.
مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيلٍ لم يتصرف بالمنا شيئاً لنفع سيده لكسله وعدم اكتراثه بشأن الملك أو لعدم محبته وأمانته وتصديقه رجوع ذلك السيد. نعم إنّه لم ينفق المنا على نفسه ولم يُضعه لكنه حسب حبسه ورده كل ما يُطلب منه.
٢١ «لأَنِّي كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ، إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ، تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ».
متّى ٢٥: ٢٤
اتهم سيده بالظلم ستراً لذنبه هو وبأنه مشهور بطلبه من عبيده ما لاحق له أن يطلبه. وكلماته هنا جارية مجرى المثل. وقد سبق الكلام عليها في الشرح متّى ٢٥: ٢٤.
٢٢ - ٢٤ «٢٢ فَقَالَ لَـهُ: مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ، آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ، وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ، ٢٣ فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ ٱلصَّيَارِفَةِ، فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِباً؟ ٢٤ ثُمَّ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: خُذُوا مِنْهُ ٱلْمَنَا وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ ٱلْعَشَرَةُ ٱلأَمْنَاءُ».
٢صموئيل ١: ١٦ وأيوب ١٥: ٦ ومتّى ١٢: ٣٧، متّى ٢١: ١٢ و٢٥: ٢٦ و٢٧
انظر الشرح متّى ٢٥: ٢٦ - ٢٨.
مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ قوله بيّن كسله وذنبه وبطلان عذره. وهذا العذر وإن سكّت ضميره لم يقنع سيده لأن السيد طلب خدمته فكان عليه أن يأتي تلك الخدمة خوفاً منه على دعواه إن لم يأتها محبة له. فلم يجعله أميناً خوفٌ ولا محبة. وأشار المسيح بذلك إلى الذين يدعون أنهم مسيحيون لكنهم لا يستعملون الوسائط التي لهم لنفع نفوسهم ونفوس غيرهم ولمجد الله فالله يعلن ذنبهم ويعاقبهم بخزي وخسران.
٢٥ «فَقَالُوا لَـهُ: يَا سَيِّدُ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ».
هذا الكلام من السامعين إظهارٌ لتعجبهم من كرم الملك على إنسان كان قد أكرمه بكثير.
٢٦ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَـهُ يُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَـهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».
متّى ١٣: ١٢ و٢٥: ٢٩ ومرقس ٤: ٢٥ وص ٨: ١٨
هذا كلام جار مجرى المثل يبين به الملك سبب فعله كرره المسيح مراراً (متّى ١٣: ١٢ و٢٥: ٢٩ ومرقس ٤: ٢٥ وص ٨: ١٨) فراجع الشرح.
٢٧ «أَمَّا أَعْدَائِي، أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَٱذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي».
أتى أرخيلاوس مثل هذا العذاب لليهود الذين قاوموه منعاً من أن يكون ملكاً عليهم كما يبيّن من تاريخ يوسيفوس. وأشار المسيح بهذا إلى عقاب أعدائه في هذا العالم وفي العالم الآتي يهوداً كانوا أو أمماً في عصره أو سائر الأعصار.
ولنا من هذا المثل ثماني فوائد:
- الأولى: إنه سوف يأتي المسيح في نهاية العالم ليملك ممجداً.
- الثانية: إنه يدعو حال مجيئه كل عبيده للمحاسبة.
- الثالثة: إنه سيحاسب عبيده واحداً فواحداً بلا استثناء ولا محاباة فلا يترك سبيلاً لأحد أن يستر آثامه بظل الكنيسة أو القديسين.
- الرابعة: إن أهم ما يبحث عنه من أمور الإنسان في يوم الدين أمانته في ما وُكل إليه.
- الخامسة: إن خدم المسيح الأمناء يعطون حسابهم بالتواضع وينسبون كل فضل إلى نعمة المسيح وفقاً لقول بولس الرسول (غلاطية ٢: ٢٠).
- السادسة: إن المسيح يجازي الأمناء قولاً وفعلاً أكثر مما توقعوا أو تصوروا.
- السابعة: إن ثواب السماء وإن كان كله من النعمة مختلف الصنوف باختلاف اجتهاد الإنسان وأمانته.
- الثامنة: إن غير الأمناء من تلاميذ المسيح يعاقبون مع أعدائه المجاهرين ويكون نصيبهم الخجل والخسران الأبدي.
صعود المسيح من أريحا إلى أورشليم ع ٢٨ إلى ٤٠
٢٨ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا تَقَدَّمَ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ».
مرقس ١: ٣٢
وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أي على أثر ما قاله في بيت زكا. والأرجح أنّه وصل إلى هنالك يوم الخميس وبات وسافر في صباح يوم الجمعة وفتح عيني ابن تيماوس وهو خارج.
تَقَدَّمَ أي سبق كل الناس رغبة في بلوغه أورشليم مع أنه كان يتوقع الآلام والموت هناك (انظر الشرح مرقس ١٠: ٣٢).
صَاعِداً تعلو أورشليم أريحا بنحو ٣٤٠٠ قدم. قال يوحنا الرسول «ثُمَّ قَبْلَ ٱلْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا» (يوحنا ١٢: ١). ونعلم من ذلك أنه بلغ بيت عنيا مساء يوم الجمعة. والأرجح أنه تقضى عليه يوم السبت هناك وأنه بعد الغروب أي عند نهاية السبت حضر الوليمة التي فيها دهنت مريم قدمي يسوع (يوحنا ١٢: ١ - ٩).
٢٩ - ٣٨ «٢٩ وَإِذْ قَرُبَ مِنْ بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا عِنْدَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي يُدْعَى جَبَلَ ٱلزَّيْتُونِ، أَرْسَلَ ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ ٣٠ قَائِلاً: اِذْهَبَا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي أَمَامَكُمَا، وَحِينَ تَدْخُلاَنِهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ قَطُّ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ. ٣١ وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُلاَّنِهِ؟ فَقُولاَ لَـهُ: إِنَّ ٱلرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. ٣٢ فَمَضَى ٱلْمُرْسَلاَنِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَـهُمَا. ٣٣ وَفِيمَا هُمَا يَحُلاَّنِ ٱلْجَحْشَ قَالَ لَـهُمَا أَصْحَابُهُ: لِمَاذَا تَحُلاَّنِ ٱلْجَحْشَ؟ ٣٤ فَقَالاَ: ٱلرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. ٣٥ وَأَتَيَا بِهِ إِلَى يَسُوعَ، وَطَرَحَا ثِيَابَهُمَا عَلَى ٱلْجَحْشِ وَأَرْكَبَا يَسُوعَ. ٣٦ وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ. ٣٧ وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ، ٱبْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلتَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ ٱللّٰهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ ٱلْقُوَّاتِ ٱلَّتِي نَظَرُوا، ٣٨ قَائِلِينَ: مُبَارَكٌ ٱلْمَلِكُ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي ٱلأَعَالِي!».
متّى ٢١: ١ ومرقس ١١: ١، ٢ملوك ٩: ١٣ ومتّى ٢١: ٧ ومرقس ١١: ٧ ويوحنا ١٢: ١٤، متّى ٢١: ٨، مزمور ١١٨: ٢٦ وص ١٣: ٣٥، ص ٢: ١٤ وأفسس ٢: ١٤
انظر الشرح متّى ٢١: ١ - ١٦. كان دخول المسيح هذا بالاحتفال إلى أورشليم من نوادر الأمور المتعلقة بحياة المسيح وقد التفت إليها البشيرون الأربعة. ويستنتج من ذلك أنها كانت من الأمور المهمة. والأرجح أن ذلك حدث يوم الأحد.
جَمِيعِ ٱلْقُوَّاتِ ٱلَّتِي نَظَرُوا (ع ٣٧) من تلك القوات فتح عيني برتيماوس في أريحا (ص ١٨: ٤٣) وإقامة لعازر التي حدثت قبل ذلك بقليل (يوحنا ١١: ٤٤).
٣٩ «وَأَمَّا بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ ٱلْجَمْعِ فَقَالُوا لَـهُ: يَا مُعَلِّمُ، ٱنْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ».
بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ رافقه بعض الفريسيين ليراقبوا أعماله ويجدوا علّة للاشتكاء عليه ولم يشاركوا الجموع في الفرح وامتلأوا حسداً على تمجيد الناس إياه فلم يصدقوا أنه هو المسيح وحسبوا نسبة التلاميذ النبوات المتعلقة بالمسيح إلى يسوع تجديفاً.
ٱنْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ طلبوا ذلك إليه لا إلى الشعب لأنهم حسبوا سكوته اشتراكاً في التجديف وحسبوه مهيج الشعب إلى ذلك التسبيح.
بكاء يسوع على أورشليم ع ٤١ إلى ٤٤
٤٠ «فَأَجَابَ: أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هٰؤُلاَءِ فَٱلْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!».
حبقوق ٢: ١١
جاوبهم المسيح هنا بكلام جار مجرى المثل أظهر به أنه راض ما أتاه الجمع من التسبيح له وأبى أن يسكته عن ذلك كما طلب الفريسيون. وأبان صعوبة تسكيتهم بأنه أسهل عليه أن يجعل الحجارة البكماء تنطق من أن يجعل أولئك الناطقين يسكتون. وعرّض بذلك أن الفريسيين الذين امتنعوا عن التسبيح أقسى من الحجارة. فكأنه قال «الحق معهم وتسبيحهم في محله لأنه أتى الوقت للمناداة بأن يسوع هو المسيح الملك وهم اقتنعوا بذلك ففرحوا فرحاً عظيماً لا يستطيعون كتمه». وكان يسوع قبل ذلك ينهي تلاميذه عن أن ينادوا به مسيحاً وملكاً وأما هنا فأذن لهم في ذلك واعتبره من الضروريات لإتمام مقاصد الله ونبوءات الكتاب (زكريا ٩: ٩) ولهذا لو سكت الشعب عن التسبيح لأنطق الله الحجارة به.
٤١ «وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا».
يوحنا ١١: ٣٥
لم يذكر أحد من البشيرين سوى لوقا بكاء يسوع في ذلك الوقت ولوقا كان يحب أن يذكر الأشياء التي تُظهر كون يسوع ابن الإنسان وأنه يشفق على الناس الذين أخذ طبيعته منهم حتى وفي أحزانهم التي جلبوها على أنفسهم بخطاياهم.
وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ يمكن المسافر من بيت عنيا إلى أورشليم أن يذهب في إحدى طريقين الأولى فوق جبل الزيتون والثانية على سفحه وكلاهما يشرف على المدينة والهيكل.
وَبَكَى عَلَيْهَا لم يشغل أفكاره جمال المدينة والهيكل ولم تلهه تسبيحات الشعب وترنيماته. ولم تخفه الآلام التي توقعها هناك لكنه حقق بسابق علمه النوازل التي قُضي بها على أهل أورشليم لرفضهم إياه وهي التي أبكته. وهذه المرة الثانية أُخبرنا أنه بكى وكانت الأولى عند قبر لعازر (يوحنا ١١: ٣٥). وكانت دموعه في كلتيهما لأحزان غيره.
٤٢ «قَائِلاً: إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هٰذَا مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ».
لَوْ عَلِمْتِ أي «يا ليتك علمت» أو في الكلام حذف وتقدير المحذوف «لكان خيراً لك». فكأن المسيح قابل في ذهنه المجد والسعادة اللذين كانت تستطيع الحصول عليهما بالنوازل التي جلبتها على نفسها. فعدم معرفة أورشليم ما هو خير لها كان من مختاراتها وآثامها لأنها أبت قبول البراهين على أن يسوع هو المسيح وكانت تلك البراهين كلماته ومعجزاته.
فِي يَوْمِكِ هٰذَا أي زمن نعمة الله الذي فيه أرسل الله ابنه إليك وفُتح لك فيه أبواب التوبة والرحمة وهو وقت قبول المسيح والخلاص به. ويسمّى أيضاً «زمان افتقادك» (ع ٤٤) ويراد بذلك على الخصوص نحو ثلاث سنين ونصف سنة وهي مدة تبشير المسيح على هذه الأرض. وأما الاستعداد لذلك اليوم فشغل نحو أربعة آلاف سنة.
مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ السلام هنا كناية عن كل خير زمني وروحي. فلو قبلت يسوع مسيحاً نلت كل سلام ولكن برفضك أنه المسيح رفضت كل السلام.
أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ أي عن عيني أهلك إجمالاً فإن قليلين منهم عرفوا الحقيقة. والأمر المخفى عنهم هو أن يسوع هو المسيح وأنه أتى خلاصاً لهم. وعلّة إخفاء ذلك عدم إيمانهم لأنهم لم يقبلوا شهادة يسوع ورسله ونسبوا المعجزات التي أتوا بها إلى بعلزبول.
٤٣، ٤٤ «٤٣ فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، ٤٤ وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ ٱفْتِقَادِك».
إشعياء ٢٩: ٣ و٤ وإرميا ٦: ٣ و٦ وص ٢١: ٢٠، ١ملوك ٩: ٧ و٨ وميخا ٣: ١٢، متّى ٢٤: ٢ ومرقس ١٣: ٢ وص ٢١: ٦، دانيال ٩: ٢٤ وص ١: ٦٨ و٧٨ و١بطرس ٢: ١٢
سبب بكاء المسيح ما ذُكر في هذين العددين مما عرفه المسيح بعلمه السابق وذلك مختصر ما أنبأ به متّى في الأصحاح الرابع والعشرين من بشارته في شأن حصار أورشليم سنة ٧٠ ب.م فراجع الشرح هناك.
لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ ٱفْتِقَادِكِ أي جهلت علّة خرابك (متّى ٢١: ٣٨ - ٤٣ و٢٢: ٧). والمراد بزمان افتقادها وقت الرحمة كما في (تكوين ٢١: ١ وراعوث ١: ٦ ولوقا ١: ٦٨ و٧٨ و٧: ١٦). ولا سيما وقت خدمة المسيح على الأرض. وهو يتضمن أيضاً أربعين سنة بعد صعوده وأتى حينئذ يوم النقمة بخراب المدينة. وعدم معرفة اليهود زمن افتقادهم هو جهلهم أن يسوع هو مسيحهم ورفضهم إياه وصلبهم له وبذلك حوّلوا الرحمة نقمة.
وما صح على اليهود يصح على كل الخطاة من أربعة أوجه:
- الأول: أنّ الله عيّن لهم وقتاً يمكنهم فيه أن يتوبوا ويستعدوا للسماء. ومنحهم وسائط كافية لذلك.
- الثاني: أنّ ذلك الوقت محدود. وهو زمان افتقادهم الذي هو من أهم الأوقات لأنه يتعلق به سعدهم الأبدي أو شقاؤهم الدائم.
- الثالث: أنّه حينما يتقضى ذلك الوقت يزول وسائط النعمة ولا سيما تأثير الروح القدس فيهم ويُغلق الباب.
- الرابع: أنّه بعد نهاية زمن افتقادهم الرحمة يبتدئ زمان افتقاد الدينونة والانتقام ويدوم إلى الأبد.
تطهير الهيكل الثاني ع ٤٥ إلى ٤٨
٤٥، ٤٦ «٤٥ وَلَمَّا دَخَلَ ٱلْهَيْكَلَ ٱبْتَدَأَ يُخْرِجُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِيهِ ٤٦ قَائِلاً لَـهُمْ: مَكْتُوبٌ أَنَّ بَيْتِي بَيْتُ ٱلصَّلاَةِ. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ».
متّى ٢١: ١٢ ومرقس ١١: ١١ و١٥ ويوحنا ٢: ١٤ و١٥، إشعياء ٥٦: ٧، إرميا ٧: ١١
قد سبق الكلام على تطهير الهيكل في الشرح (متّى ٢١: ١٢ و١٣ ومرقس ١١: ١٥ - ١٩). وكان تطهير الهيكل أولاً في بداءة خدمة المسيح (يوحنا ٢: ١٣ - ١٦).
٤٧، ٤٨ «٤٧ وَكَانَ يُعَلِّمُ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ مَعَ وُجُوهِ ٱلشَّعْبِ يَطْلُبُونَ أَنْ يُهْلِكُوهُ، ٤٨ وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَفْعَلُونَ، لأَنَّ ٱلشَّعْبَ كُلَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقاً بِهِ يَسْمَعُ مِنْهُ».
مرقس ١١: ١٨ ويوحنا ٧: ١٩ و٨: ٣٧
كُلَّ يَوْمٍ أي من الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع الذي صُلب فيه. وكان يبيت حينئذ كل ليلة في بيت عنيا ويرجع صباحاً إلى أورشليم. وخرج آخر مرة من الهيكل في مساء يوم الثلاثاء (متّى ٢٤: ١ ومرقس ١١: ١٩ ولوقا ٢١: ٣٨).
وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ الخ انظر الشرح (مرقس ١١: ١٨ و١٩).
وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَفْعَلُونَ أي لم يجدوا في تعليمه ما يشتكونه به إلى الحكام ولم يجسروا أن يقبضوا عليه بلا حجة.
ٱلشَّعْبَ (ع ٤٨) أي عامة أهل المدينة والجموع التي أتت من الجليل وغيرها من البلاد ليحضروا عيد الفصح.
الأصحاح العشرون
سؤال رؤساء اليهود ليسوع عن سلطانه ع ١ إلى ٨
١ - ٨ «١ وَفِي أَحَدِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ إِذْ كَانَ يُعَلِّمُ ٱلشَّعْبَ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَيُبَشِّرُ، وَقَفَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ مَعَ ٱلشُّيُوخِ، ٢ وَقَالُوا لَـهُ: قُلْ لَنَا بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هٰذَا، أَوْ مَنْ هُوَ ٱلَّذِي أَعْطَاكَ هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ؟ ٣ فَأَجَابَ: وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَقُولُوا لِي: ٤ مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا، مِنَ ٱلسَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ ٱلنَّاسِ؟ ٥ فَتَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: إِنْ قُلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ ٦ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ ٱلنَّاسِ، فَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ يَرْجُمُونَنَا لأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ. ٧ فَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ. ٨ فَقَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هٰذَا».
متّى ٢١: ٢٣ ومرقس ١١: ٢٨ وأعمال ٤: ٧ و٧: ٢٧ ومتّى ١٤: ٥ و٢١: ٢٦ وص ٧: ٢٩
سبق الكلام على هذا في الشرح متّى ٢١: ٢٣ - ٢٧ ومرقس ١١: ٢٧ - ٣٣.
فِي أَحَدِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ الأرجح أن ذلك كان يوم الثلاثاء صباحاً فما ورد هنا يفرق قليلاً عما ورد في متّى ومرقس في اللفظ لا في المعنى.
مثل الكرامين الخائنين ع ٩ إلى ١٩
٩ - ١٩ «٩ وَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِلشَّعْبِ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَاناً طَوِيلاً. ١٠ وَفِي ٱلْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى ٱلْكَرَّامِينَ عَبْداً لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ ٱلْكَرْمِ، فَجَلَدَهُ ٱلْكَرَّامُونَ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ١١ فَعَادَ وَأَرْسَلَ عَبْداً آخَرَ. فَجَلَدُوا ذٰلِكَ أَيْضاً وَأَهَانُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ١٢ ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ ثَالِثاً. فَجَرَّحُوا هٰذَا أَيْضاً وَأَخْرَجُوهُ. ١٣ فَقَالَ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبَ. لَعَلَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ يَهَابُونَ! ١٤ فَلَمَّا رَآهُ ٱلْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: هٰذَا هُوَ ٱلْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا ٱلْمِيرَاثُ. ١٥ فَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ؟ ١٦ يَأْتِي وَيُهْلِكُ هٰؤُلاَءِ ٱلْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي ٱلْكَرْمَ لآخَرِينَ. فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: حَاشَا! ١٧ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: إِذاً مَا هُوَ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ: ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ. ١٨ كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟ ١٩ فَطَلَبَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ أَنْ يُلْقُوا ٱلأَيَادِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ، وَلٰكِنَّهُمْ خَافُوا ٱلشَّعْبَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ عَلَيْهِمْ».
متّى ٢١: ٣٣ ومرقس ١٢: ١، مزمور ١١٨: ٢٢ ومتّى ٢١: ٤٢ ومرقس ١٢: ١٠، دانيال ٢: ٣٤ و٣٥ ومتّى ٢١: ٤٤
انظر الشرح متّى ٢١: ٣٣ - ٤٦ ومرقس ١٢: ١ - ١٢.
هٰذَا ٱلْمَثَلَ (ع ٩) بعض الكلام في هذا المثل مجاز وبعضه تاريخ وبعضه نبوءة.
وَفِي ٱلْوَقْتِ (ع ١٠) سمى متّى ذلك الوقت بوقت الإثمار والمقصود به وقت الحصاد.
مَاذَا أَفْعَلُ (ع ١٣) هذا الكلام دليل حزن صاحب الكرم على عصيان الكرامين وعلى اجتهاده في فعل ما يمكنه ليردهم إلى الطاعة.
يَأْتِي وَيُهْلِكُ الخ (ع ١٦) سبق هذا الكلام في بشارة متّى سؤال يسوع للفريسيين وجوابهم له.
تقديم الجزية لقيصر ع ٢٠ - ٢٦
٢٠ - ٢٦ «٢٠ فَرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ، حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إِلَى حُكْمِ ٱلْوَالِي وَسُلْطَانِهِ. ٢١ فَسَأَلُوهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ بِٱلاسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ، وَلاَ تَقْبَلُ ٱلْوُجُوهَ، بَلْ بِٱلْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ ٱللّٰهِ. ٢٢ أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ ٢٣ فَشَعَرَ بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَـهُمْ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ ٢٤ أَرُونِي دِينَاراً. لِمَنِ ٱلصُّورَةُ وَٱلْكِتَابَةُ؟ فَأَجَابُوا: لِقَيْصَرَ. ٢٥ فَقَالَ لَـهُمْ: أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّٰهِ لِلّٰهِ. ٢٦ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ ٱلشَّعْبِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَوَابِهِ وَسَكَتُوا».
متّى ٢٢: ١٥ الخ ومرقس ١٢: ١٣ الخ
قابل بهذا ما شرح في بشارة متّى ٢٢: ١٥ - ١٢. وما قيل هنا في ع ٢٠ زيادة على ما جاء في متّى لكنه موافق لما قيل هناك.
إفحام يسوع للصدوقيين ع ٢٧ إلى ٤٠
٢٧ - ٤٠ «٢٧ وَحَضَرَ قَوْمٌ مِنَ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ ٱلَّذِينَ يُقَاوِمُونَ أَمْرَ ٱلْقِيَامَةِ، وَسَأَلُوهُ: ٢٨ يَا مُعَلِّمُ كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ وَلَـهُ ٱمْرَأَةٌ، وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، يَأْخُذُ أَخُوهُ ٱلْمَرْأَةَ وَيُقِيمُ نَسْلاً لأَخِيهِ. ٢٩ فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. وَأَخَذَ ٱلأَوَّلُ ٱمْرَأَةً وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، ٣٠ فَأَخَذَ ٱلثَّانِي ٱلْمَرْأَةَ وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، ٣١ ثُمَّ أَخَذَهَا ٱلثَّالِثُ، وَهٰكَذَا ٱلسَّبْعَةُ. وَلَمْ يَتْرُكُوا وَلَداً وَمَاتُوا. ٣٢ وَآخِرَ ٱلْكُلِّ مَاتَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَيْضاً. ٣٣ فَفِي ٱلْقِيَامَةِ، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ! ٣٤ فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَبْنَاءُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ يُزَوِّجُونَ وَيُزَوَّجُونَ، ٣٥ وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذٰلِكَ ٱلدَّهْرِ وَٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، ٣٦ إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا أَيْضاً، لأَنَّهُمْ مِثْلُ ٱلْمَلاَئِكَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ، إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ ٱلْقِيَامَةِ. ٣٧ وَأَمَّا أَنَّ ٱلْمَوْتٰى يَقُومُونَ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مُوسَى أَيْضاً فِي أَمْرِ ٱلْعُلَّيْقَةِ كَمَا يَقُولُ: اَلرَّبُّ إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ. ٣٨ وَلَيْسَ هُوَ إِلٰهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلٰهُ أَحْيَاءٍ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ. ٣٩ فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ: يَا مُعَلِّمُ حَسَناً قُلْتَ!. ٤٠ وَلَمْ يَتَجَاسَرُوا أَيْضاً أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ».
متّى ٢٢: ٢٣ ومرقس ١٢: ١٨ وأعمال ٢٣: ٦ و٨، تثنية ٢٥: ٥، ١كورنثوس ١٥: ٤٢ و٤٩ و٥٢ و١يوحنا ٣: ٢، رومية ٨: ٢٣، خروج ٣: ٦، رومية ١٤: ٨ و٩
انظر الشرح متّى ٢٢: ٢٣ - ٣٣.
أَبْنَاءُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ ما ذُكر هنا من ع ٣٤ - ٣٦ لم يروه أحد من البشيرين سوى لوقا. ومعنى قوله «أبناء هذا الدهر» سكان الأرض على وجه العموم بقطع النظر عن كونهم أخياراً أو أشراراً.
يُزَوِّجُونَ وَيُزَوَّجُونَ نفهم هذا بدلالة القرينة أن الله عيّن الزيجة في هذا العالم فقط لأن الناس يموتون فيه فلزم أن يولد غيرهم ليأخذوا أماكنهم بخلاف عالم الأرواح فإنه لا موت فيه فلا حاجة إلى الزواج.
حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذٰلِكَ ٱلدَّهْرِ (ع ٣٥) معنى «ذلك الدهر» هنا السماء والذين حُسبوا أهلاً للحصول عليه هم الأتقياء الذين ينالون الحياة الأبدية هناك.
وَٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أي الحياة المجيدة التي تكون القيامة المدخل إليها. وهي «قيامة الحياة» المذكورة في بشارة يوحنا (يوحنا ٥: ٢٩) وهي التي عناها بولس بقوله «لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ» (فيلبي ٣: ١١) والمقصود بها حياة القداسة والسعادة التي يدخل فيه المختارون بواسطة القيامة حين تتحد أرواحهم بأجسادهم وتكون تلك الأجساد في صورة جسد المسيح الممجد (فيلبي ٣: ٢١ و١يوحنا ٣: ٢). فاقتصر المسيح هنا على ذكر أحوال المخلصين في السماء حسب مقتضى السؤال فلا داعي إلى ذكر أحوال الهالكين الذين قيامتهم للدينونة.
لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا (ع ٣٦) لأن الله قضى بنفي الموت من السماء (رؤيا ٢١: ٤).
لأَنَّهُمْ مِثْلُ ٱلْمَلاَئِكَةِ في أمرين. الأول أنهم غير خاضعين للموت أيضاً والثاني انهم لا يحتاجون إلى الزيجة بعد.
وَهُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ لقيامتهم وتحولهم إلى صورة المسيح. فحين كانوا على الأرض في الجسد كانوا أبناء البشر عرضة للموت ولما بلغوا السماء صاروا أبناء الله في أنهم خالدون. وإلى هذا أشار داود النبي بقوله «أَمَّا أَنَا فَبِٱلْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا ٱسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ» (مزمور ١٧: ١٥). وفي أنهم قديسون ومثله قول يوحنا «نكون مثله» (١يوحنا ٣: ٢).
أَبْنَاءُ ٱلْقِيَامَةِ لأنهم ورثة كل فوائد القيامة وذلك مثل قول المسيح «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا ١٤: ١٩). ولأنهم يأخذون في يوم القيامة أجساداً ليست عرضة للموت ووفق ذلك قول بولس في رسالته الأولى إلى الكورنثيين (ص ١٥: ٥٢ - ٥٤).
لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ (ع ٣٨) فالذي صدق على إبراهيم وإسحاق ويعقوب يصدق على كل الموتى وهو أنهم لا يزالون أحياء عند الله.
وقول المسيح هنا نص جلي على أن نفس الإنسان لا تنفك تحيا بعد انفصالها عن الجسد.
الناس يقسمون البشر قسمين الأحياء والأموات فالأحياء هم الذين في الأجساد والأموات هم الغائبون عن أجسادهم والحق أن الجميع عند الله أحياء سواء كانوا في الأجساد أم لا وعلى الأرض أو في عالم آخر.
قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ (ع ٣٩) المرجح أن الكتبة هنا من الفرقة الفريسية التي اعتقدت القيامة (أعمال ٢٣: ٨) فسروا بالبرهان الجديد الذي أقامه المسيح إثباتاً لمعتقدهم.
لَمْ يَتَجَاسَرُوا الخ (ع ٤٠) بغية أن يصطادوه بكلمة (متّى ٢٢: ٤٦).
سؤال يسوع للفريسيين عن نسبة المسيح إلى داود ع ٤١ - ٤٤
٤١ - ٤٤ «٤١ وَقَالَ لَـهُمْ: كَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنُ دَاوُدَ، ٤٢ وَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَقُولُ فِي كِتَابِ ٱلْمَزَامِيرِ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي ٤٣ حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. ٤٤ فَإِذاً دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَكَيْفَ يَكُونُ ٱبْنَهُ؟».
متّى ٢٢: ٤٢ ومرقس ١٢: ٣٥، مزمور ١١٠: ١ وأعمال ٢: ٣٤
راجع الشرح متّى ٢٢: ٤١ - ٤٦.
لَـهُمْ أي الكتبة (ع ٣٩) وجاء في بشارة متّى أن المسيح قال لهم «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي ٱلْمَسِيحِ» (متّى ٢٢: ٤٢).
يَقُولُ فِي كِتَابِ ٱلْمَزَامِيرِ زاد مرقس في روايته أنّ داود قال هذا بالروح القدس (مرقس ١٣: ٣٦). فتبيّن من كلام المسيح هذا أن المزامير من أقوال الوحي الإلهي.
تحذير المسيح تلاميذه من الكتبة عن ٤٥ إلى٤٧
٤٥ - ٤٧ «٤٥ وَفِيمَا كَانَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ يَسْمَعُونَ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٤٦ ٱحْذَرُوا مِنَ ٱلْكَتَبَةِ ٱلَّذِينَ يَرْغَبُونَ ٱلْمَشْيَ بِٱلطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ ٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱلأَسْوَاقِ، وَٱلْمَجَالِسَ ٱلأُولَى فِي ٱلْمَجَامِعِ، وَٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى فِي ٱلْوَلاَئِمِ. ٤٧ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ ٱلأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ ٱلصَّلَوَاتِ. هٰؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!».
متّى ٢٣: ١ ومرقس ١٢: ٣٨، متّى ٢٣: ٥ و٦ وص ١١: ٤٣، متّى ٢٣: ١٤
انظر الشرح متّى ٢٣: ١٤ ومرقس ١٢: ٣٨ - ٤٠.
فِيمَا كَانَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ يَسْمَعُونَ (ع ٤٥) ذكر لوقا هذا بياناً أن المسيح حينما كان يخاطب تلاميذه رفع صوته حتى يسمع كل الشعب المحيط به.
الأصحاح الحادي والعشرون
الأرملة والفلسان ع ١ إلى ٤
١ - ٤ «١ وَتَطَلَّعَ فَرَأَى ٱلأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي ٱلْخِزَانَةِ، ٢ وَرَأَى أَيْضاً أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. ٣ فَقَالَ: بِٱلْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ ٱلْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، ٤ لأَنَّ هٰؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ ٱللّٰهِ، وَأَمَّا هٰذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ ٱلْمَعِيشَةِ ٱلَّتِي لَهَا».
مرقس ١٢: ٤١ و٤٢، ٢كورنثوس ٨: ١٢
انظر الشرح مرقس ١٢: ٤١ - ٤٤.
إنباء يسوع بخراب أورشليم ع ٥ إلى ٣٦
٥ - ١١ «٥ َإِذْ كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ عَنِ ٱلْهَيْكَلِ إِنَّهُ مُزَيَّنٌ بِحِجَارَةٍ حَسَنَةٍ وَتُحَفٍ قَالَ: ٦ هٰذِهِ ٱلَّتِي تَرَوْنَهَا، سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ. ٧ فَسَأَلُوهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَتَى يَكُونُ هٰذَا وَمَا هِيَ ٱلْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَصِيرُ هٰذَا؟ فَقَالَ: ٨ ٱنْظُرُوا! لاَ تَضِلُّوا. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ، وَٱلزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ. فَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَهُمْ. ٩ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاَقِلٍ فَلاَ تَجْزَعُوا، لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هٰذَا أَوَّلاً، وَلٰكِنْ لاَ يَكُونُ ٱلْمُنْتَهَى سَرِيعاً. ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ ١٠: تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، ١١ وَتَكُونُ زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ، وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ. وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلاَمَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
متّى ٢٤: ١ ومرقس ١٣: ١، ص ١٩: ٤٤، متّى ٢٤: ٤ ومرقس ١٣: ٥ وأفسس ٥: ٦ و٢تسالونيكي ٢: ٣، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧ و٢٤: ٧
تكلم المسيح بما في هذا الأصحاح لتلاميذه وهم خارجون من الهيكل وكان كلامه جواباً لكلام بعض التلاميذ والسؤال من ثلاثة منهم (مرقس ١٣: ١ - ٣).
ما رواه متّى من هذا الخطاب مستوفىً أكثر مما رواه سائر البشيرين (انظر الشرح متّى ص ٢٤ ومرقس ص ١٣).
ٱلزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ (ع ٨) هذا جزء من كلام الأنبياء الكذبة على ظهور المسيح على الأرض ممجداً.
١٢ - ١٩ «١٢ وَقَبْلَ هٰذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ، وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ ٱسْمِي. ١٣ فَيَؤُولُ ذٰلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً. ١٤ فَضَعُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنْ لاَ تَهْتَمُّوا مِنْ قَبْلُ لِكَيْ تَحْتَجُّوا، ١٥ لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا. ١٦ وَسَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ ٱلْوَالِدِينَ وَٱلإِخْوَةِ وَٱلأَقْرِبَاءِ وَٱلأَصْدِقَاءِ، وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ. ١٧ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. ١٨ وَلٰكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ. ١٩ بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ».
مرقس ١٣: ٩ ورؤيا ٢: ١٠، أعمال ٤: ٣ و٥: ١٨ و١٢: ٤ و١٦: ٢٤، أعمال ٢٥: ٢٣ و١بطرس ٢: ١٣، فيلبي ١: ٢٨ و٢تسالونيكي ١: ٥، متّى ١٠: ١٩ ومرقس ١٣: ١١ وص ١٢: ١١، أعمال ٦: ١٠، ميخا ٧: ٦ ومرقس ١٣: ١٢، أعمال ٧: ٥٩ و١٢: ٢، متّى ١٠: ٢٢ و٣٠
قَبْلَ هٰذَا كُلِّهِ أي قبل إنجاز سائر ما ذُكر في هذه النبوة. وقد مرّ الكلام على مضطهديه المسيحيين وواجباتهم في الشرح (متّى ١٠: ١٧ - ٢٢ و٢٤: ٩ - ١٤ ومرقس ١٣: ٩ - ١٣).
فَيَؤُولُ ذٰلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً (ع ١٣) أي أن وقوع الاضطهاد على التلاميذ يكون وسيلة إلى الشهادة للمسيح وللحق. ويكون احتمالهم إياه شهادة بأمانتهم ومتى وقفوا أمام الملوك والرؤساء (مرقس ١٣: ٩) وأدوا تلك الشهادة فإن قبلها السامعون كانت لهم وإن رفضوها كانت عليهم.
أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً (ع ١٥) أي أقدّركم على التكلم بنعمة الروح القدس (مرقس ١٣: ١١) وأمنحكم الحكمة لكي تقدّموا براهين مقنعة للسامعين. وقد تم ذلك فعلاً ومن أمثلته ما جاء في أعمال ٤: ١٩ و٢٠ و٥: ٢٩ - ٣٢ و٧: ٢٦.
شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ (ع ١٨) إذا نظرنا إلى اللفظ بقطع النظر عن القرينة كان ذلك وعداً بالوقاية من الخطر الشخصي كما وقع فعلاً (أعمال ٢٧: ٣٤). ولكن القرينة تدل على أن المعنى أنه لا يذهب شيء مما يُبذل في سبيل الدين عبثاً ولو أقل الأشياء لأنه يؤول إلى انتشار الإنجيل هنا وسعادة المبشرين في الآخرة (فيلبي ١: ١٩). وأن أعداءهم لا يستطيعون أن يؤذوهم أدنى أذى إلا بإذن الله لإتمام مقاصده الخيرية.
بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ (ع ١٩) أي بتمسككم بالإيمان زمن الاضطهاد تقون أنفسكم من الهلاك الأبدي فإن سلمتم أجسادكم إلى الموت بالصبر فذلك هو الطريق المؤدية إلى الاقتناء السماوي الذي عينه الله لكم ولكن إن أنكرتم المسيح لتقوا حياة أجسادكم خسرتم حياة نفوسكم السماوية. وذلك وفق ما قيل في بشارة متّى ١٠: ٣٩ و٢٤: ١٣ وبشارة مرقس ١٣: ١٣.
٢٠ - ٢٤ «٢٠ وَمَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ، ٢١ فَحِينَئِذٍ ٱعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ خَرَابُهَا. حِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجِبَالِ، وَٱلَّذِينَ فِي وَسَطِهَا فَلْيَفِرُّوا خَارِجاً، وَٱلَّذِينَ فِي ٱلْكُوَرِ فَلاَ يَدْخُلُوهَا، ٢٢ لأَنَّ هٰذِهِ أَيَّامُ ٱنْتِقَامٍ، لِيَتِمَّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ. ٢٣ وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَٱلْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ، لأَنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ عَلَى ٱلأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هٰذَا ٱلشَّعْبِ. ٢٤ وَيَقَعُونَ بِٱلسَّيْفِ، وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ ٱلأُمَمِ، وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ ٱلأُمَمِ، حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ ٱلأُمَمِ».
متّى ٢٤: ١٥ ومرقس ١٣: ١٤، ص ١٨: ٧ و٨، دانيال ٩: ٢٦ و٢٧ وزكريا ١١: ٦ و١٤: ١ و٢، متّى ٢٤: ١٩، دانيال ٩: ٢٧ و١٢: ٧ ورومية ١١: ٢٥
انظر الشرح متّى ص ٢٤.
أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ (ع ٢٠) هذا تفسير ما جاء في بشارتي متّى ومرقس على رجسة الخراب (متّى ٢٤: ١٥ ومرقس ١٣: ١٤) وكان بين أول مجيء الجيوش الرومانيين إلى أورشليم والحصار الأخير أربع سنين أي من سنة ٦٦ ب.م إلى ٧٠ ب.م.
هٰذِهِ أَيَّامُ ٱنْتِقَامٍ (ع ٢٢) أي زمن عقاب الله الأمة اليهودية على خطاياها وهو لم يأت إلا بعد زمن الافتقاد بالرحمة.
كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ أي كل ما كتبه أنبياء العهد القديم في هذا الشأن (لاويين ٢٦: ١٤ - ٢٣ وتثنية ١٨: ١٥ - ٦٨ و٢٩: ٢٢ - ٢٨ ودانيال ٩: ٢٦ و٢٧ وزكريا ص ١١ و١٤: ١ و٢) وما كتبه بعض تلاميذ المسيح (لوقا ١١: ٥٠ و٥١ و١٩: ٤٣ و٤٤).
عَلَى ٱلأَرْضِ (ع ٢٣) أي اليهودية لأن الجنود الرومانية انتشرت فيها ونهبت مدنها وقتلت بعض السكان وأسرت البعض.
وَسُخْطٌ أي نوازل الله النازلة عن سخطه.
وَيَقَعُونَ بِٱلسَّيْفِ حُسب قتلى اليهود يومئذ في أورشليم وسائر اليهودية فبلغت ١٣٥٠٠٠٠.
وَيُسْبَوْنَ بلغ عدد من سُبي من اليهود يومئذ ٩٧٠٠٠.
أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ ٱلأُمَمِ قابل هذا بما جاء في سفر الرؤيا ١١: ٢ لم تكن هذه النبؤة مقصورة على هدم الرومانيين لأورشليم بل اشتملت على ما جرى عليها من الحوادث من ذلك الوقت إلى هذه الساعة وما سيكون عليها في المستقبل إلى ما شاء الله والمقصود بتلك النبوءة أنه يملك اليهودية ملوك ليسوا من اليهود وأن اليهود سكانها الأصليين يكونون في حال الذّل والهوان.
حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ ٱلأُمَمِ يحتمل ذلك معنيين الأول زمان إكمال الأمم مقاصد الله الانتقامية منها. والثاني وهو الأرجح زمان قبول الأمم للإنجيل. وهذا هو الوقت الذي أنبأ به قدماء الأنبياء. وأشار إليه المسيح في بشارة متّى ٢١: ٤٣ و٢٢: ١٨ وفي بشارة مرقس ١٢: ٩ وأشار إليه بولس بقوله «مِلءُ الأمم» (رومية ١١: ٢٥). وقد عيّن الله لليهود يوم افتقادهم قبل خراب مدينتهم وهو قد عيّن للأمم يوم افتقادهم وهو الذي فيه يُبشرون بالإنجيل لو يدعون إلى التوبة وقبول المسيح. وتظل الدينونة على أورشليم مدة ذلك الافتقاد وعلى كل اليهود أيضاً بالنتيجة. والذي يحدث بعد ذلك في شأن أورشليم والأمة اليهودية نعرفه من نبوات أخرى منها ما جاء في الرسالة إلى الرومانيين (رومية ١١: ١٥ و٢٣ و٢٦).
٢٥ - ٣٣ «٢٥ وَتَكُونُ عَلاَمَاتٌ فِي ٱلشَّمْسِ وَٱلْقَمَرِ وَٱلنُّجُومِ، وَعَلَى ٱلأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ. اَلْبَحْرُ وَٱلأَمْوَاجُ تَضِجُّ، ٢٦ وَٱلنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَٱنْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى ٱلْمَسْكُونَةِ، لأَنَّ قُوَّاتِ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. ٢٧ وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابَةٍ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. ٢٨ وَمَتَى ٱبْتَدَأَتْ هٰذِهِ تَكُونُ، فَٱنْتَصِبُوا وَٱرْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ. ٢٩ وَقَالَ لَـهُمْ مَثَلاً: اُنْظُرُوا إِلَى شَجَرَةِ ٱلتِّينِ وَكُلِّ ٱلأَشْجَارِ. ٣٠ مَتَى أَفْرَخَتْ تَنْظُرُونَ وَتَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنَّ ٱلصَّيْفَ قَدْ قَرُبَ. ٣١ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى رَأَيْتُمْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَٱعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ قَرِيبٌ. ٣٢ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلُّ. ٣٣ اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ، وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ».
متّى ٢٤: ٢٩ ومرقس ١٢: ٢٤ و٢بطرس ٣: ١٠ و١٢، متّى ٢٤: ٢٩ و٣٠ ورؤيا ١: ٧ و١٤: ١٤، رومية ٨: ١٩ و٢٣، متّى ٢٤: ٣٢ ومرقس ١٣: ٢٨، متّى ٢٤: ٣٥
انظر الشرح متّى ٢٤: ٢٧ - ٣٣ ومرقس ١٣: ٢٤ - ٣٢.
كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ هذا مثل قوله «تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ» (متّى ٢٤: ٣٠ ورؤيا ٦: ١٢ - ١٥). وذلك بالنظر إلى النوازل التي حدثت وإلى ما خافوه من أمثالها في المستقبل.
هٰذِهِ (ع ٢٨) أي النوازل المذكورة في ع ٢٥.
فَٱنْتَصِبُوا أي لا تسلموا أنفسكم إلى اليأس والخوف بل افرحوا بما يخيف عالم الخطاة. وقال يسوع ذلك تعزية لتلاميذه.
لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ هذا موافق لقوله في بشارة متّى «فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ... فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ» (متّى ٢٤: ٢١). فإنهم وإن ماتوا يكون موت أجسادهم وسيلة إلى نجاة أنفسهم من كل تعب وخطر.
٣٤ - ٣٦ «٣٤ فَٱحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ ٱلْحَيَاةِ، فَيُصَادِفَكُمْ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ بَغْتَةً. ٣٥ لأَنَّهُ كَٱلْفَخِّ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ ٱلْجَالِسِينَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ. ٣٦ اِسْهَرُوا إِذاً وَتَضَرَّعُوا فِي كُلِّ حِينٍ، لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلاً لِلنَّجَاةِ مِنْ جَمِيعِ هٰذَا ٱلْمُزْمِعِ أَنْ يَكُونَ، وَتَقِفُوا قُدَّامَ ٱبْنِ ٱلإِنْسَان».
رومية ١٣: ١٣ و١تسالونيكي ٥: ٦ و١بطرس ٤: ٧، ١تسالونيكي ٥: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠ ورؤيا ٣: ٣ و١٦: ١٥، متّى ٢٤: ٢٤ و٢٥: ١٣ ومرقس ١٣: ٣٣ ص ١٨: ١، مزمور ١: ٥ وأفسس ٦: ١٣
ومعنى ما أتى هنا من الحث على الصلاة والسهر يوافق معنى ما جاء في بشارة متّى ٢٤: ٣٨ - ٥١ ومرقس ١٣: ٣٣ - ٣٧ فراجع الشرح هناك.
فَٱحْتَرِزُوا (ع ٣٤) الأمور التي حذر المسيح تلاميذه منها هي التي تعيقهم عن الاستعداد الذي يقتضيه مجيئه الثاني وهي محبة العالم والترفّه واللذات الجسدية وزيادة الاهتمام بأمور هذه الحياة.
ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ أي اليوم الأخير أعني يوم مجيء الرب وطلب الناس للحساب. وما قيل على نهاية العالم يصح أيضاً على موت كل إنسان.
كَٱلْفَخِّ يَأْتِي (ع ٣٥) هذا مجاز حقيقته خطر بغتي لا نجاة منه. ويأتي ذلك على من توقعوا الأمان. واستعارة الفخ له هنا كاستعارة اللص له في غير مواضع (١تسالونيكي ٥: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠).
عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ أي أن أكثر الناس يكونون عند مجيء المسيح ثانية غافلين غير مستعدين فيدركهم الحيرة والهلاك. وهذا يدلنا على أن كلام المسيح لم يكن مقصوراً على خراب أورشليم بل يشتمل على نهاية العالم أيضاً.
اِسْهَرُوا (ع ٣٦) أي احترزوا في زمن النجاح من الغفلة والترفه والكسل وفي زمن الضيق من زيادة الاهتمام والتذمر واليأس.
لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلاً لِلنَّجَاةِ لم يقل «لكي تكونوا أهلاً للنجاة» بل «لكي تحسبوا» لأن ذلك من نعمة الله يسوع المسيح ربنا (يهوذا ٢٤).
وَتَقِفُوا قُدَّامَ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ أي تقوموا في يوم الدين بلا خوف ولا خجل ولا دينونة متبررين مسرورين (قابل هذا مع مزمور ١: ٥ وملاخي ٣: ٢ و١يوحنا ٢: ٢٨) وفي ذلك إشارة إلى دوام بقائهم في حضرة المسيح كملائكة السماء
كيفية تصرف المسيح ع ٣٧ و٣٨
٣٧، ٣٨ «٣٧ وَكَانَ فِي ٱلنَّهَارِ يُعَلِّمُ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَفِي ٱللَّيْلِ يَخْرُجُ وَيَبِيتُ فِي ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي يُدْعَى جَبَلَ ٱلزَّيْتُونِ. ٣٨ وَكَانَ كُلُّ ٱلشَّعْبِ يُبَكِّرُونَ إِلَيْهِ فِي ٱلْهَيْكَلِ لِيَسْمَعُوهُ».
يوحنا ٨: ١ و٢ ص ٢٢: ٣٩
هذا مختصر أنباء تصرف المسيح في الثلاثة الأيام الأولى من الأسبوع الأخير من حياته. وهذه خاتمة مخاطباته الأخيرة التي مقدمتها في ص ١٩: ٤٧ وهي قوله «وكان يعلّم كل يوم في الهيكل».
وَيَبِيتُ فِي ٱلْجَبَلِ كانت بيت عنيا في جبل الزيتون والأرجح أن المسيح كانت تتقضى عليه الليالي فيها. ولا يقتضي الكلام هنا أن المسيح كان يبيت بلا مأوى (متّى ٢١: ١٧ ومرقس ١٤: ٣).
يُبَكِّرُونَ إِلَيْهِ كما ذُكر في (بشارة متّى ٢١: ١٨ وبشارة مرقس ١١: ١٢ و٢٠).
الأصحاح الثاني والعشرون
الاستعداد للفصح ع ١ إلى ١٣
١، ٢ «١ وَقَرُبَ عِيدُ ٱلْفَطِيرِ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَـهُ ٱلْفِصْحُ. ٢ وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا ٱلشَّعْب».
متّى ٢٦: ٢ ومزمور ١٤: ١، مرقس ٢: ٢ ويوحنا ١١: ٤٧ وأعمال ٤: ٢٧
انظر الشرح متّى ٢٦: ١ - ٥.
وَقَرُبَ أي كان بعد يومين. وكان ذلك الكلام مساء يوم الثلاثاء بعد غروب الشمس فيكون أول يوم الأربعاء.
ٱلْفَطِيرِ... ٱلْفِصْحُ فسر لوقا الفطير بالفصح إفادة للأمم الذين كتب إنجيله لنفعهم.
يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ أرادوا أن يقبضوا عليه وهو منفرد أو مع قليلين من تلاميذه لكنهم لم يأملوا النجاح في ذلك إلاّ بعد العيد (متّى ٢٦: ٥).
خَافُوا ٱلشَّعْبَ تدل هذه العبارة وأمثالها أن كثيرين من الشعب اعتبروا يسوع نبياً. فالجموع الذين صرخوا بعد ذلك قائلين اصلبه اصلبه هاجهم رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب (متّى ٢٧: ٢٠).
٣ - ٦ «٣ فَدَخَلَ ٱلشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ. ٤ فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ ٱلْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ. ٥ فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. ٦ فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْواً مِنْ جَمْعٍ».
متّى ٢٦: ١٤ ومرقس ١٥: ١٠ ويوحنا ١٣: ٢ و٢٧، أعمال ٤: ١، زكريا ١١: ١٢
انظر الشرح متّى ٢٦: ١٤ - ١٦ ومرقس ١٤: ١٠ و١١.
دَخَلَ ٱلشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا أي جربه الشيطان وهو سلم نفسه له ليعمل كل ما يأمره به. فهذا لم يكن على رغمه ولم يأته دفعة واحدة. فأول دخوله إياه كان بواسطة حب المال كما يظهر من قوله «مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي» (متّى ٢٦: ١٥) ثم بواسطة السرقة (يوحنا ١٢: ٦). ثم بمؤامرة رؤساء الكهنة المذكورة هنا. ثم بذهابه من مائدة الفصح لينبئ الرؤساء بالمكان الذي فيه يقبضون عليه (يوحنا ١٣: ٢٧). ثم بتسليمه إياه إلى أعدائه في البستان.
وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ هذا بيان لفظاعة خيانته لسيّده ومعلمه.
قُوَّادِ ٱلْجُنْدِ (ع ٤) أي رؤساء حرس الهيكل وهم من اليهود.
عَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً (ع ٥) قادته محبته الفضة إلى تسليم نفسه إلى الشيطان وارتكاب أفظع الآثام.
٧ «وَجَاءَ يَوْمُ ٱلْفَطِيرِ ٱلَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ ٱلْفِصْحُ».
متّى ٢٦: ١٨ ومرقس ١٤: ١٢
وَجَاءَ يَوْمُ ٱلْفَطِيرِ يوم الخميس الرابع عشر من شهر نيسان وكان يوم استعداد للفصح يزيل اليهود فيه كل خمير من بيوتهم. وكانوا يحسبون ذلك اليوم أحياناً من أيام الفصح (انظر الشرح متّى ٢٦: ١٧). وكانوا يذبحون خروف الفصح في عصر ذلك النهار ويأكلونه بعد الغروب أي في أول يوم الجمعة.
ولم يذكر البشيرون كيف تقضّى يوم الأربعاء على المسيح. والأرجح أنه تقضى عليه وهو مع تلاميذه في بيت عنيا.
يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ الخ حسب شريعة موسى (خروج ١٢: ٣ - ٢٧ ولاويين ٢٣: ٤ - ٨ وتثنية ١٦: ١ - ٨).
٨ «فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: ٱذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا ٱلْفِصْحَ لِنَأْكُلَ».
بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا ذكر مرقس أن المسيح أرسل تلميذين وزاد لوقا على ذلك اسميهما (مرقس ١٤: ١٣).
٩ «فَقَالاَ لَـهُ: أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟».
أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ ذكر متّى ومرقس هذا السؤال ولم يذكر ما ذكره لوقا هو أن علّة هذا السؤال أمر المسيح لهم بالذهاب.
١٠ - ١٣ «١٠ فَقَالَ لَـهُمَا: إِذَا دَخَلْتُمَا ٱلْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى ٱلْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ، ١١ وَقُولاَ لِرَبِّ ٱلْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ ٱلْمُعَلِّمُ: أَيْنَ ٱلْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ ٱلْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ ١٢ فَذَاكَ يُرِيكُمَا عُلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا. ١٣ فَٱنْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَـهُمَا، فَأَعَدَّا ٱلْفِصْحَ».
انظر الشرح متّى ٢٦: ١٨ ومرقس ١٤: ١٢ - ١٦.
فَأَعَدَّا ٱلْفِصْحَ وبيان ما يتضمن ذلك في الشرح (متّى ٢٦: ١٩).
الفصح ع ١٤ إلى ١٨
١٤ «وَلَمَّا كَانَتِ ٱلسَّاعَةُ ٱتَّكَأَ وَٱلاثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ».
متّى ٢٦: ٢٠ ومرقس ١٤: ١٧
انظر شرح بشارة متّى ٢٦: ٢٠ - ٢٥ ومرقس ١٤: ١٧.
ٱلسَّاعَةُ أي الوقت المعيّن لأكل الفصح وهو مساء يوم الخميس أي أول يوم الجمعة الخامس عشر من نيسان.
ٱتَّكَأَ حسب عوائد اليهود عند أكلهم الفصح في زمن المسيح. وذلك خلاف العوائد الأصلية وهي ان يأكلوه وهم وقوف (خروج ١٢: ١١).
١٥ «وَقَالَ لَـهُمْ: شَهْوَةً ٱشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هٰذَا ٱلْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ».
ٱشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هٰذَا ٱلْفِصْحَ علّة ذلك الاشتهاء لم تُذكر هنا ويحتمل أنها أربعة أمور:
- الأول: كون ذلك الفصح هو الفصح الأخير في تاريخ الكنيسة بعد أن بقي تذكاراً ورمزاً نحو ١٥٠٠ سنة.
- والثاني: كونه على عزم أن يفارقهم فأراد وهو حزين لذلك أن يشاركهم في هذا الرسم الديني الموقّر تعزية لنفسه.
- والثالث: جعل الفصح مقترناً برسم العشاء الرباني وهو وليمة محبة واتحاد بينه وبين تلاميذه تتداولها الكنيسة إلى نهاية العالم.
- والرابع: اتخاذه فرصة لتعليم تلاميذه استعداداً لمفارقته إيّاهم وقد أتى ذلك فعلاً (يوحنا ص ١٤ وص ١٥ وص ١٦).
قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ صرّح بهذا أنه قرب الوقت الذي فيه يموت على الصليب من أجلهم وأنه لا يمكنهم أن يأكل الفصح بعد ذلك معهم.
١٦ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
ص ١٤: ١٥ وأعمال ١٠: ٤١ ورؤيا ١٩: ٩
(انظر الشرح متّى ٢٦: ٢٩). تتضمن هذه الآية أمرين الأول أن المسيح لا يأكل الفصح أيضاً مع تلاميذه على الأرض. والثاني ان موته يكمل كل مقاصد الفصح ويؤسس ملكوت الله الجديد الذي ليس فيه فصح رمزي. فالمسيح أكمل بموته على الصليب كل مقاصد الفصح. ومن هذه المقاصد أن يكون الخروف بلا عيب وأن يُذبح وأن يُرش دمه وأن يشوى على النار وأن يؤكل وأن لا يُكسر عظم منه. ويحتمل أنّ في هذه الآية إشارة إلى وضع العشاء الرباني. وأن فيها أيضاً إشارة إلى عشاء عرس الخروف المذكور في (سفر الرؤيا ١٩: ٩ وبشارة متّى ٢٦: ٢٩). فمتى بلغ جميع المؤمنين السماء يحتفلون بنجاتهم العظمى من جهنم التي كانت نجاة الإسرائيليين من عبودية مصر رمزاً إليها ويتنعمون بالوليمة الروحية السماوية التي كان عيد الصفح رمزاً إليها.
١٧ «ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ وَقَالَ: خُذُوا هٰذِهِ وَٱقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ».
تَنَاوَلَ كَأْساً (انظر الكلام على الفصح في شرح بشارة متّى ٢٦: ٢). هذه الكأس الأولى من الكاسات الخمس التي اعتاد اليهود شربها في الفصح.
وَشَكَرَ كانت العادة وقتئذ أن يقول صاحب البيت عند تناوله هذه الكأس «مبارك أنت يا ربنا وإلهنا ملك العالم الذي خلق نتاج الكرمة».
خُذُوا هٰذِهِ وَٱقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ المرجّح أنه ذاقها قبل أن قال هذه الكلمة وفقاً لعادة صاحب البيت في الفصح ووفقاً لقوله في الآية الخامسة عشرة ولقوله «إِنِّي مِنَ ٱلآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ هٰذَا الخ» (متّى ٢٦: ٢٩).
١٨ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ».
متّى ٢٤: ٢٩ ومرقس ١٤: ٢٥
حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أي حتى يبلغ كمال الفوز والمجد في السماء ويشترك المسيح والمختارون في كل الأفراح الروحية والبركات السماوية التي كان عيد الفصح رمزاً إليها. والكلام هنا مجاز لا حقيقة وكرره المسيح بعد وضع العشاء الرباني (متّى ٢٦: ٢٩ ومرقس ١٤: ٢٥).
العشاء الرباني ع ١٩ و٢٠
١٩ «وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هٰذَا لِذِكْرِي».
متّى ٢٦: ٢٦ ومرقس ١٤: ١٢، ١كورنثوس ١١: ٢٣ إلى ٢٥
سبق الكلام على هذا في شرح (بشارة متّى ٢٦: ٢٦ - ٢٩ وبشارة مرقس ١٤: ٢٢ - ٢٥). وما قاله لوقا في شأن وضع هذا السر يوافق لفظاً ومعنى ما قاله بولس في رسالته إلى الكورنثيين (١كورنثوس ١١: ٢٣ - ٢٦).
اِصْنَعُوا هٰذَا لِذِكْرِي أي اكسروا الخبز فكلوه ذكراً لي. ولم يذكر هذه العبارة إلا لوقا هنا وبولس في رسالته إلى أهل كورنثوس الأولى ١١: ٢٦. ومضمونها أن العشاء الرباني تذكار دائم (علاوة على كونه إشارة إلى جسد المسيح ودمه) لآلام المسيح لأجلنا ولمحبته المنقذة. وذكر موت المسيح كذلك يهيج حبنا له وشكرنا وثقتنا به ويقودنا إلى التواضع وانسحاق القلب. وبذكرنا المسيح كما تقدم نرضيه ونطيع أمره. ويلزم من وجوب ذكر موت المسيح على الدوام وجوب ممارسة الكنيسة لذلك السر دائماً.
٢٠ «وَكَذٰلِكَ ٱلْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ ٱلْعَشَاءِ قَائِلاً: «هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ هِيَ ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ بِدَمِي ٱلَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُم».
١كورنثوس ١٠: ١٦
ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ بِدَمِي أي عهد الحياة الأبدية الذي ختمه المسيح بدمه للمؤمنين.
ٱلَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ أي دم المسيح البار يسفك فداء عن الأثمة.
يهوذا الخائن ع ٢١ إلى ٢٣
٢١ - ٢٣ «٢١ وَلٰكِنْ هُوَذَا يَدُ ٱلَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى ٱلْمَائِدَةِ. ٢٢ وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يُسَلِّمُهُ. ٢٣ فَٱبْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هٰذَا؟».
مزمور ٤١: ٩ ومتّى ٢٦: ٢١ ومرقس ١٤: ١٨ ويوحنا ١٣: ٢١ و٢٦، متّى ٢٦: ٢٤ وأعمال ٢: ٢٣ و٤: ٢٨، متّى ٢٦: ٢٢ ويوحنا ١٣: ٢٢ و٢٥
مرّ تفسير هذه الآيات في الشرح متّى ٢٦: ٢١ - ٢٥.
لو فرضنا أن لوقا تكلم عن الحوادث باعتبار ترتيب أزمنتها لحكمنا من سياق الحديث هنا أن يهوذا الاسخريوطي أكل العشاء الرباني مع سائر الرسل. لكن علمنا مما سبق من بشارته أنه لم يلتفت إلى قص الحوادث باعتبار زمن حدوثها فإذا لا شيء هنا يناقض ما يُستنتج من قول يوحنا أن يهوذا الاسخريوطي خرج من بين الرسل على أثر أكلهم الفصح قبل رسم العشاء الرباني.
مَعِي عَلَى ٱلْمَائِدَةِ الأرجح أن في هذه إشارة إلى قوله في بشارة متّى «ٱلَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي ٱلصَّحْفَةِ» (متّى ٢٦: ٢٣).
مشاجرة الرسل ع ٢٤ إلى ٣٠
٢٤ «وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضاً مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ».
مرقس ٩: ٣٤ وص ٩: ٤٦
لم يذكر هذا من كاتبي البشائر سوى لوقا والأرجح أنه لم يُذكر في محله وأنه حدث قبل أكل الفصح والعشاء الرباني وأن علّة وقوع تلك المشاجرة تباين مواضعهم على مائدة الفصح وطلب كل منهم المكان الأسمى. وعند ذلك غسل المسيح أرجل تلاميذه ليعلّمهم التواضع (يوحنا ١٣: ٣ و٥) ثم تكلم بما ذُكر هنا وهذا يفسر ما قاله لوقا عن قول المسيح «أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِمُ» (ع ٢٧). ويبعد عن الظن أن تحدث مشاجرة مثل هذه بعد ممارستهم السرّ الموقّر وبعد حزنهم بما علموه من أنباء المسيح إياهم بأن واحداً منهم يخونه ويسلمه إلى الأعداء ليقتلوه.
وكان الاتكاء على مائدة الولائم في تلك الأيام موضوع الخصام والتنازع (ص ١٤: ٧ - ١١ ومتّى ٢٣: ٦) وسبق وقوع مثل هذا بين التلاميذ لاختلافهم في أنه أيهم هو الأعظم (ص ٩: ٤٦ ومتّى ١٨: ١ و٢٠: ٢٠ - ٢٨ ومرقس ٩: ٣٤).
٢٥ «فَقَالَ لَـهُمْ: مُلُوكُ ٱلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَٱلْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ».
متّى ٢٠: ٢٥ ومرقس ١٠: ٤٢
انظر الشرح متّى ٢٠: ٢٥ - ٢٨ ومرقس ١٠: ٤٢.
ٱلأُمَمِ ذكر الأمم هنا لأنه كثيراً ما يقع مثل تلك المشاجرة بينهم وديانتهم لا تمنعهم عن عمل مثل ذلك ولكنه لا يحسن بتابعي المسيح.
يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ رغب الملوك اليونانيون والملوك الرومانيون أن يُلقبوا «محسنين» وأنفقوا على شعبهم أموالاً وافرة ليحصلوا على ذلك بقطع النظر عن استحقاقهم إياه أو عدمه. فعلّم يسوع تلاميذه أنهم إنما يستحقون أن يدعوا محسنين بخدمتهم غيرهم ونفعهم إياهم وأنهم بذلك ينالون العظمة الحقيقية.
٢٦ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هٰكَذَا، بَلِ ٱلْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَٱلأَصْغَرِ، وَٱلْمُتَقَدِّمُ كَٱلْخَادِمِ».
متّى ٢٠: ٢٦ و١بطرس ٥: ٣ ص ٩: ٤٨
وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هٰكَذَا إن كان المسيح قد عيّن بطرس رئيساً للرسل وجعله خليفة له فهل ساغ له ان يقول هذا القول. ومعناه أنتم لستم رؤساء وليس لكم أن تطلبوا أسماء الامتياز الفارغ كالملوك الوثنيين الطغاة الظالمين ولا المناصب العالية.
كَٱلأَصْغَرِ... كَٱلْخَادِمِ العظمة الحقيقية بأمرين التواضع ونفع الغير.
٢٧ «لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ ٱلَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ ٱلَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلٰكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِم».
ص ١٢: ٣٧، متّى ٢٠: ٢٨ ويوحنا ١٣: ١٣ إلى ١٧ وفيلبي ٢: ٧
أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِمُ جعل المسيح عمله مثالاً لما يجب على التلاميذ أن يفعلوه بعد أن سألهم سؤالاً جوابه من واضحات الأمور وخلاصته أنه مع ما له من الحق في الرئاسة أخذ لنفسه منزلة الخادم بما أتاه من غسل أرجل التلاميذ (يوحنا ١٣: ١ - ١٦) وكل أعمال المسيح على الأرض كانت وفق قوله على نفسه «أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ» (متّى ٢٠: ٢٨).
٢٨، ٢٩ «٢٨ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، ٢٩ وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً».
عبرانيين ٤: ١٥، متّى ٢٤: ٤٧ وص ١٢: ٣٢ و١كورنثوس ١: ٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢
بعد ما أنذر يسوع تلاميذه وحذرهم من طلب الرئاسة والمجد العالمي عزاهم بوعده إياهم بمجد حقيقي أبدي في السماء إثابة على أمانتهم له.
ثَبَتُوا مَعِي أي شاركوني في الأتعاب والضيقات طوعاً وحباً بلا ملل.
فِي تَجَارِبِي لم يشر بذلك إلى تجاربه من الشيطان في البرية لأنه احتملها منفرداً عن الناس لكنه أشار إلى ضيقاته وتعيير الناس إياه مما أصابه في كل خدمته ولا سيما ما ذُكر في بشارة متّى ١٢: ١٤ وفي بشارة يوحنا ٦: ٦٠ و٦٨ (١كورنثوس ١٠: ١٣ ويعقوب ١: ٢ و١٢ و١بطرس ١: ٦).
وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ... مَلَكُوتاً لم يقصد ملكوتاً مخصوصاً لكل واحد من الرسل بل أن يكونوا جميعاً شركاءه في المجد والسعادة حين يملك في السماء.
كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي هذا تحقيق لما وعدهم به وبيان لنوع ذلك الملكوت وهو أنه روحي لا جسدي وسماوي لا أرضي.
٣٠ «لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلاثْنَيْ عَشَر».
متّى ٨: ١١ وص ١٤: ١٥ ورؤيا ١٩: ٩، مزمور ٤٩: ١٤ ومتّى ١٩: ٢٨ و١كورنثوس ٦: ٢ ورؤيا ٣: ٢١
لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي هذا مجاز مبني على عادة الملوك أن يدعوا من يحبهم ويريد أن يكرمهم ليتكئ معهم في الولائم إكراماً واعتباراً له.
وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ الخ سبق تفسير هذا الكلام في شرح بشارة متّى ١٩: ٣٨. فوعد المسيح تلاميذه بأن يكونوا شركاءه في ملكوت أعظم من كلّ ممالك الأرض وهو عالم أنه بعد قليل يُقبض عليه كمذنب ويموت شر الميتات.
إنباء يسوع بإنكار بطرس إياه ع ٣١ إلى ٣٨
٣١ «وَقَالَ ٱلرَّبُّ: سِمْعَانُ سِمْعَانُ، هُوَذَا ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ!».
عاموس ٩: ٩ و١بطرس ٥: ٨
حذّر المسيح بطرس من السقوط مرتين. الأولى قبل العشاء (يوحنا ١٣: ٣٦ - ٣٨). والثانية بعد العشاء والمرجح أنهم كانوا حينئذ ذاهبين إلى جثسيماني (متّى ٢٦: ٣١ - ٣٥ ومرقس ١٤: ٢٧ - ٣١). والأرجح أن التحذير الذي ذكره لوقا هو التحذير الأول على أثر قوله «إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ» (يوحنا ١٣: ٣٧).
سِمْعَانُ هو اسم بطرس أولاً قبل أن لُقب ببطرس (يوحنا ١: ٤٢ ومتّى ١٦: ١٨). وتكرر الاسم دلالة على أهمية الكلام. ولعلّ سبب تخصيص يسوع بطرس بهذا الكلام أنه كان الأول في المشاجرة في أنه من يكون منهم هو الأكبر. وأخبره هنا أنه وهو يطلب الارتفاع لنفسه يكون في غاية الخطر من السقوط.
ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ يرغب الشيطان في سقوط كل رسل المسيح لأنه عدوهم وعدو الله ويريد أن يمنعهم من تمجيد الله ونفع الغير ويريد هلاك أنفسهم وهو عدو قوي خبير بالشرور ويأتي الشر خفية فلذلك كان خطره أعظم من كل خطر. وقد عرف المسيح بسابق علمه أن الشيطان يريد أن يجرب بطرس تجربة عظيمة وحذّره ليكون على استعداد. وقوله «يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ» إشارة إلى ما قصده الشيطان من إقلاق أفكار بطرس وتحييره بالتجارب بغية أن يقوده إلى الشر كما قصد من أيوب (أيوب ١: ٩ - ١٢ و٢: ٤ - ٦) ويسمح الله بوقوع مثل هذه التجارب لتذكية الأتقياء.
٣٢ «وَلٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ».
يوحنا ١٧: ٩ و١١ و١٥، مزمور ٥١: ١٣ ويوحنا ٢١: ١٥ إلى ١٧
لٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ كأنه قال أنا عالم بضعفك وبقوة الشيطان وبفاعلية الصلاة لتقوى على مكائد هذا العدوّ ولهذا صلّيت من أجلك. ولا ريب أن المسيح صلّى من أجل كل التلاميذ لكنه خصص بطرس لأنه كان في شدة الخطر من فرط اتكاله على نفسه. نعم إن طلب الشيطان ضرر الناس قوي ولكن شفاعة المسيح أقوى منه لأنه لا يشفع باطلاً (يوحنا ١١: ٤٢) وهذا هو رجاء المسيحي الوحيد للنصر في محاربة إبليس.
لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ لم يطلب المسيح من أجل بطرس لكي لا يُجرب ولا لكي يتزعزع إيمانه أبداً (وذلك لكي يعرف ضعفه) لكن طلب أن لا يتلاشى إيمانه حتى لا يبقى منه شيء. ومعنى الإيمان هنا التصديق أن يسوع هو المسيح والأمانة له. فلولا صلاة المسيح من أجل بطرس لم يبق له شيء من الإيمان والله قاده للتوبة إجابة لصلاة المسيح وجعل إيمانه أقوى مما كان وقرنه بالتواضع.
وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ في هذا وعد بأن سقوطه لا يكون إلى الأبد.
ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ يبين من ذلك أن إخوته التلاميذ ضعفاء وفي خطر السقوط وفي حاجة إلى النصح والتنشيط وأن اختيار بطرس بعد سقوطه يُعده ليحذرهم من السقوط وينهضهم بإرشاده إياهم إلى مصدر كل القوة أي الله. والرسالتان اللتان كتبهما بطرس من الأدلة على أنه أطاع أمر المسيح المذكور.
٣٣، ٣٤ «٣٣ فَقَالَ لَـهُ: يَا رَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى ٱلسِّجْنِ وَإِلَى ٱلْمَوْتِ. ٣٤ فَقَالَ: أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ، لاَ يَصِيحُ ٱلدِّيكُ ٱلْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي».
متّى ٢٦: ٣٤ ومرقس ١٤: ٣٠ ويوحنا ١٣: ٣٨
(انظر الشرح متّى ٢٦: ٣٣ - ٣٥) في كلام بطرس هنا إظهار المحبة للمسيح وجهله قوة التجربة وضعف إيمانه وفيه تلميح إلى أنه غير محتاج إلى شفاعة المسيح فيه.
يَا بُطْرُسُ لم يناد المسيح هذا التلميذ بهذا الاسم الذي معناه صخر سوى هذه المرة ولعله أراد أن يبيّن له أنه وإن كان قوياً كالصخر التجربة أقوى منه.
تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (انظر الشرح متّى ٢٦: ٣٤).
٣٥ «ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ: حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ، هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالُوا: لاَ».
متّى ١٠: ٩ وص ٩: ٣ و١٠: ٤
حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ اشار بذلك إلى الوقت الذي أرسل فيه الاثني عشر للتبشير.
هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ أمرهم هنا أن ينظروا في ما مضى ويذكروا ما اختبروه لكي يكون لهم ثقة بالله في المستقبل فإن العناية الإلهية حملت أصدقاءهم على الاعتناء بهم ومنعت أعداءهم من أذاهم. وقد جعل ذلك مقدمة لما يأتي.
٣٦ «فَقَالَ لَـهُمْ: لٰكِنِ ٱلآنَ، مَنْ لَـهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذٰلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَـهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً».
لٰكِنِ ٱلآنَ قد تغيّرت الأحوال فلزم أن تتغيّر الأوامر التي ذُكرت في ص ٩: ٣ وكانت مقصورة على سفر الرسل زمناً قصيراً ومسافة قريبة في وطنهم بين المستعدين للترحيب بهم وهو على القرب منهم في الجسد لكي يرشدهم ويعتني بهم. فكان عليهم بعد ذلك أن يسافروا أسفاراً طويلة لنشر بشرى الخلاص بين الغرباء وبين الأعداء أحياناً ويكونوا عرضة لضيقات كثيرة وأخطار عظيمة.
مَنْ لَـهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ أشار بذلك إلى احتياجهم إلى النقود ليحصلوا على الطعام في أسفارهم.
وَمَنْ لَيْسَ لَـهُ (كيس) فيه نقود لكي يشتري به سيفاً.
فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً هذا يدل على شدة الخطر المحيط بالمؤمنين والحاجة إلى إعداد الوسائط لدفع الخطر حتى يضطر الإنسان إلى بيع بعض أثوابه التي لا بد له منها.
وليس مقصود المسيح هنا أمر رسله بأن يذهبوا تلك الليلة ويشتروا سيوفاً ليدفعوا من يريدون إمساكه في البستان بدليل قوله «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» (متّى ٢٦: ٥٢). لكن كلامه موجه إلى المؤمنين عامة في الأزمنة المستقبلة وهو أنباء بإتيان أزمنة الضيق والخطر والاضطهاد والموت فيلزم أن يكون لهم من الأدوات اللازمة العادية من أسلحة وغيرها لدفع الخطر من الوحوش الضارية أو من اللصوص أو من الذين يضطهدونهم على إيمانهم وطوعاً به لهذا الأمر لجأ بولس إلى سيف الدولة الرومانية ليقي نفسه من مكايد اليهود (أعمال ٢٢: ٢٦ - ٢٨ و٢٥: ١١).
وليس للكيس والمزود والسيف هنا من معنى روحي ولا يلزم مما ذكر أن يتكل المسيحي على تلك الوسائط المادية دون الوسائط الروحية كالصلاة والاستغاثة بالله.
ولا يلزم من كلام المسيح هنا أنه يجوز للكنيسة أن تتخذ قوة السيف لتجبر الوثنيين على التنصر لأنه «أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً» (٢كورنثوس ١٠: ٤) بل إنّه يحل للأفراد المسيحيين أن يتخذوا الوسائط الشرعية لحماية حياتهم الجسدية.
وينتج من ذلك أنه لا يحسن بالمسيحي أن يترك وسائل المعاش والوقاية من الخطر ويعتمد مجرد الاتكال على الله. فعليه مع ذلك الاتكال أن لا يعدل عن اتخاذ تلك الوسائل على قدر طاقته.
٣٧ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَـهُ ٱنْقِضَاءٌ».
إشعياء ٣: ١٢ ومرقس ١٥: ٢٨
ذكر هنا الدواعي إلى تلك الأوامر الجديدة (ع ٣٦) وهي ثلاث:
- الأولى: كونه مزمعاً أن يتركهم وفقاً للنبوات المتعلقة بموته باعتبار كونه فادياً ووسيطاً.
- والثانية: أنهم يُحصون مع أثمة كمعلمهم.
- والثالثة: حصول كل ذلك في أقرب وقت.
هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ إشعياء ٥٣: ١٣.
أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ أي عومل كالأثيم بدلاً من الأثمة حقيقة وأما هو «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ» (عبرانيين ٧: ٢٦).
مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي أي كل نبوة ورمز وإشارة. وما ذكر في هذه الآية واحدة من تلك النبوات.
٣٨ «فَقَالُوا: يَا رَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ. فَقَالَ لَـهُمْ: يَكْفِي!».
هُنَا سَيْفَانِ لا عجب من وجود ذينك السيفين معهم لأن أكثر الجليليين كانوا يتقلدون السيوف في ذلك الوقت لأن البلاد يومئذ كانت كثيرة الوحوش واللصوص (ص ١٠: ٣٠) فجرى التلاميذ على سنن غيرهم من أهل الوطن. وكان أحد ذينك السيفين لبطرس (يوحنا ١٨: ١٠) فأخطأ الرسل بقصرهم ما قصده المسيح على خطر وقتي يحيط بهم فقط في تلك الليلة يجب عليهم أن يدفعوه بالسيف.
يَكْفِي ليس معنى المسيح أنه يكفي سيفان بل أنه يكفي أن يتكلموا في ذلك الموضوع إذ رآهم غير قادرين على إدراك معناه وأن الذي قاله حينئذ كاف لأن يدركوا به المعنى بعد. وغنيٌ عن البيان أن المسيح لم يرد بذينك السيفين القوتين السياسية والروحية اللتين منحتا لبطرس أو لغيره من الرسل.
وبعد هذا الكلام لفظ المسيح المذكور في إنجيل يوحنا ص ١٤ - ص ١٦ وأنبأ ثانية بإنكار بطرس إياه وترك جميع الرسل له (متّى ٢٦: ٣١ - ٣٥).
آلام يسوع في البستان ع ٣٩ إلى ٤٦
٣٩ - ٤٢ «٣٩ وَخَرَجَ وَمَضَى كَٱلْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضاً تَلاَمِيذُهُ. ٤٠ وَلَمَّا صَارَ إِلَى ٱلْمَكَانِ قَالَ لَـهُمْ: صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. ٤١ وَٱنْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى ٤٢ قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ. وَلٰكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُك».
متّى ٢٦: ٣٦ ومرقس ١٤: ٣٢ وص ٢١: ٣٧ ويوحنا ١٨: ١، متّى ٦: ١٣ و٢٦: ٤١ ومرقس ١٤: ٣٨ وع ٤٦، متّى ٢٦: ٣٩ ومرقس ١٤: ٣٥، يوحنا ٥: ٣٠ و٦: ٣٨
سبق الكلام على آلام المسيح في البستان في شرح بشارة متّى ٢٦: ٣٠ - ٤٦ وشرح بشارة مرقس ١٤: ٢٦ - ٤٢ فارجع إليه.
وَخَرَجَ (ع ٣٩) من مدينة أورشليم.
كَٱلْعَادَةِ لذلك عرف يهوذا أين يجده ليقبض عليه (يوحنا ١٨: ٢).
جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ (ع ٣٩) أي بستان جثسيماني الذي كان على سفح ذلك الجبل (متّى ٢٦: ٣٦) وهو عبر وادي قدرون (يوحنا ١٨: ١).
ٱلْمَكَانِ (ع ٤٠) أي البستان.
ٱنْفَصَلَ عَنْهُمْ (ع ٤١) أي عن ثلاثة من الرسل وهم بطرس ويعقوب ويوحنا لأنه ترك بقية الرسل قرب مدخل البستان وكان البعد بينه وبين الثلاثة غير كاف لمنع سمعهم كلامه.
جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ أي ركع وكان أحياناً يخر أي ينكب على وجهه (متّى ٢٦: ٣٩).
يَا أَبَتَاهُ صلّى المسيح في البستان ثلاث صلوات ذكر متّى الثلاث وكلام اثنتين منها وجمعها مرقس ولوقا في واحدة.
لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ هذا كالطلبة الثالثة من الصلاة التي علّمها تلاميذه. قبل المسيح طوعاً واختياراً آلامه في البستان وعلى الصليب فداء عن الخطاة ولولا ذلك لكان ظلماً أن يعاقب البار عن الأثمة.
٤٣ - ٤٦ «٤٣ وَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. ٤٤ وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ. ٤٥ ثُمَّ قَامَ مِنَ ٱلصَّلاَةِ وَجَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ، فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً مِنَ ٱلْحُزْنِ. ٤٦ فَقَالَ لَـهُمْ: لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ».
متّى ٤: ١١، يوحنا ١٢: ٢٧ وعبرانيين ٥: ٧ ع ٤٠
وَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكٌ لم يذكر هذا أحد من كاتبي البشائر سوى لوقا. أتى الملائكة المسيح مثل هذه الخدمة بعد احتماله التجربة (متّى ٤: ١١).
يُقَوِّيهِ نفساً وجسداً لأن المسيح كان إنساناً تاماً (كما أنه إله تام) احتاجت طبيعته البشرية إلى المساعدة في أشد ضيقاته. ومن مختصات لوقا رغبته في ذكر ما يتعلق بناسوت المسيح.
فِي جِهَادٍ (ع ٤٤) هذا الجهاد جزء من الآلام التي احتملها المسيح في سبيل الفداء ولولا ذلك لوجب أن يحتملها كل الناس وقوّاه الملاك لعجز طبيعته البشرية عن احتمالها. ولا يحسن أن نظن علّة اضطرابه خوفه من الموت فإنها ثقل غضب الله على الخطية الذي هو احتمله (إشعياء ٥٣: ١٠ و١٢ وعبرانيين ٥: ٧ و٩).
وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ (ع ٤٤) لم يذكر هذا سوى لوقا وكان ذلك ليلاً ولا بدّ أنه كان الهواء بارداً وكان يسوع منكباً على الأرض فلم يكن عرقه إلا من شدة انفعالات نفسه التي ظهر تأثيرها على جسده. وظن بعضهم أن عرقه دماً ممزوجاً بماء لكن لا يلزم من كلام الإنجيل إلا أن قطرات العرق كانت كبيرة كقطرات الدم وأنها خرجت من جسده بكثرة حتى وقعت على الأرض كدم من جرح.
نِيَاماً مِنَ ٱلْحُزْنِ لم يذكر علّة هذا النوم سوى لوقا. وذكر الأطباء أن الحزن المستمر من علل الخدر والسبات في بعض الناس. وكان لنومهم علّة أخرى وهي أنه كان نحو منتصف الليل. وهؤلاء التلاميذ الثلاثة ناموا أيضاً في أثناء تجلي المسيح ص ٩: ٣٢.
لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ (ع ٤٦) هذا السؤال لإظهار حزنه وتعجبه ولتوبيخه إياهم لأنهم لم يبالوا بآلام المسيح في أشد تجربة الشيطان لمعلمهم ولهم أيضاً. وكانت الأحوال تقتضي الصلاة والاستعانة بالله وهم نسوا كل شيء وناموا وعادوا إلى النوم بعد أن نبههم مرتين (مرقس ٥: ٤٠) وبقوا نائمين إلى أن أتى العسكر وحينئذ أيقظهم يسوع ولم يناموا (متّى ٢٦: ٤٤ و٤٥).
تسليم يسوع والقبص عليه ع ٤٧ إلى ٥٣
٤٧، ٤٨ «٤٧ وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ، وَٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا أَحَدُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ يَتَقَدَّمُهُمْ، فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَـهُ. ٤٨ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ؟».
متّى ٢٦: ٤٧ ومرقس ١٤: ٤٣ ويوحنا ١٨: ٣
انظر الشرح متّى ٢٦: ٤٧ - ٥٦ ومرقس ١٤: ٤٣ - ٥٢.
يَتَقَدَّمُهُمْ دليلاً لهم (أعمال ١: ١٦).
أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لم يذكر هذا السؤال إلا لوقا والكلام في صورة الاستفهام والمقصود منه التأثير في قلب يهوذا لينقذه من الهلاك الأبدي ولولا قساوة قلبه لقاده إلى التوبة والاعتراف وترك خيانته. ولكل كلمة من هذه العبارة تأثير فالقبلة علامة الصداقة أفيليق أن تُستعمل في الخيانة فتزيد القاسي رياء. وأشار بقوله «تُسلّم» إلى أنه كان يجب عليه لكونه تلميذه أن يحامي عنه. وسمّى نفسه «ابن الإنسان» لينبه ذاكرته وليرقق قلبه عند سمعه الاسم الذي سمى المسيح نفسه به ليشير إلى تواضعه واشتراكه في طبيعة الإنسان وأحزانه وليحذّره من نتائج عمله الضارة لنفسه ولأن ابن الإنسان هو الموعود بأن يأتي ملكاً ودياناً للعالم (دانيال ٧: ١٣).
٤٩ «فَلَمَّا رَأَى ٱلَّذِينَ حَوْلَـهُ مَا يَكُونُ، قَالُوا: يَا رَبُّ، أَنَضْرِبُ بِٱلسَّيْفِ؟».
أَنَضْرِبُ بِٱلسَّيْفِ هذا دليل على استعداد جميع التلاميذ للدفع عن المسيح إذا أذن لهم.
٥٠ «وَضَرَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَبْدَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذُنَهُ ٱلْيُمْنَى».
متّى ٢٦: ٥١ ومرقس ١٤: ٤٣ ويوحنا ١٨: ١٠
وَضَرَبَ وَاحِدٌ ذكر هذه الحادثة البشيرون الأربعة ولكن لم يذكر اسمي الضارب والمضروب سوى يوحنا وذلك لأن يوحنا كتب إنجيله بعد ما أمن الخطر من معاقبة الحكومة لبطرس الضارب.
٥١ «فَقَالَ يَسُوعُ: دَعُوا إِلَى هٰذَا! وَلَمَسَ أُذُنَهُ وَأَبْرَأَهَا».
دَعُوا إِلَى هٰذَا لم يتحقق من وجّه المسيح هذا الكلام إليه فإن كان قد وجّهه إلى التلاميذ فمعناه لا تضربوا بعد واصبروا ولا تقاوموا الشر. وهذا يوافق ما نقله متّى من نبإ ذلك وهو قوله «كُلَّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» (متّى ٢٦: ٥٢) وإن كان قد وجهه إلى العكسر فمعناه لا تعاقبوا التلاميذ على فعل واحد منهم واعفوا عنه أو اتركوا لي الحرية أن أحرك يديّ اللتين أنتم مسكتموهما لكي ألمس أذن المضروب وأشفيه.
وَلَمَسَ أُذُنَهُ الخ لم يعتد المسيح أن يصنع معجزة إلا حيث الإيمان. ولكنه صنع هنا معجزة لإنسان هو عدوه فضلاً عن أنه لم يؤمن به قبل المعجزة ولم يشكره بعدها. وأظهر بذلك حلمه. وقوته الإلهية وغايته مما صنع حماية تلاميذه من انتقام العسكر منهم. ومن العجب أن تلك الآية لم تؤثر في الجند حتى يكفوا عن مسكهم إياه.
٥٢ «ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ وَٱلشُّيُوخِ ٱلْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ!».
ع ٤، متّى ٢٦: ٥٥ ومرقس ١٤: ٤٨
لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ لم يذكر غير لوقا أن بعض رؤساء الكهنة رافق العسكر ليحثّهم على عملهم وليتحقق إنجاز مقصدهم الشرير.
وَقُوَّادِ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ هم اللاويون والكهنة الذين كانوا يحرسون الهيكل ليلاً (ص ٢٢: ٤٠ وأعمال ٤: ١ و٥: ٢٤).
٥٣ «إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ ٱلأَيَادِيَ. وَلٰكِنَّ هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ».
يوحنا ١٢: ٢٧
انظر الشرح متّى ٢٦: ٥٥
سَاعَتُكُمْ أي الوقت الذي عينه الله لكم لكي تتموا فيه مقاصدكم بقتلي (أعمال ٢: ٢٣) ولكن قبل إتيانه لم يكن لكم أدنى استطاعة على إضراري مهما بذلتم الجهد (يوحنا ٧: ٣٠ و٨: ٢٠). ووقتكم هذا قصير «كساعة» ويكون بعد ذلك وقتي وهو وقت النور والمجد والنصر والملك والنقمة وهو يدوم إلى الابد.
وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ لعلّ في ذلك إشارة إلى أن الليل يوافق أعمالهم الشريرة ويمكنهم من إجرائها خفية عن الناس. وأول هذه الآية يدل على هذا المعنى ولكن لا بد من أن المسيح قصد أيضاً أنهم شركاء الشيطان رئيس مملكة الظلمة في مضادتهم له وأنهم متممون آراءه الخبيثة. ولا بد من أن الشيطان اجتهد حينئذ بكل قوته في تجربة المسيح وتهييج رؤساء اليهود عليه كما يتضح من قول المسيح قبل ذلك بقليل «لأَنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَأْتِي» (يوحنا ١٤: ٣٠).
إنكار بطرس ليسوع ع ٥٤ إلى ٦٢
٥٤ - ٦٢ «٥٤ فَأَخَذُوهُ وَسَاقُوهُ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ. ٥٥ وَلَمَّا أَضْرَمُوا نَاراً فِي وَسَطِ ٱلدَّارِ وَجَلَسُوا مَعاً، جَلَسَ بُطْرُسُ بَيْنَهُمْ. ٥٦ فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِساً عِنْدَ ٱلنَّارِ فَتَفَرَّسَتْ فِيهِ وَقَالَتْ: وَهٰذَا كَانَ مَعَهُ. ٥٧ فَأَنْكَرَهُ قَائِلاً: لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا ٱمْرَأَةُ! ٥٨ وَبَعْدَ قَلِيلٍ رَآهُ آخَرُ وَقَالَ: وَأَنْتَ مِنْهُمْ! فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَنَا! ٥٩ وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَكَّدَ آخَرُ قَائِلاً: بِٱلْحَقِّ إِنَّ هٰذَا أَيْضاً كَانَ مَعَهُ، لأَنَّهُ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً. ٦٠ فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ وَفِي ٱلْحَالِ بَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ صَاحَ ٱلدِّيكُ. ٦١ فَٱلْتَفَتَ ٱلرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ ٱلرَّبِّ، كَيْفَ قَالَ لَـهُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ٦٢ فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً».
متّى ٢٦: ٥٧ و٥٨ ويوحنا ١٨: ١٥، متّى ٢٦: ٦٩ ومرقس ١٤: ٦٦ و٦٨ ويوحنا ١٨: ١٧ و١٨، متّى ٢٦: ٧١ ومرقس ١٤: ٦٩ ويوحنا ١٨: ٢٥، متّى ٣٦: ٧٣ ومرقس ١٤: ٧٠ ويوحنا ١٨: ٢٦، متّى ٢٦: ٧٥ ومرقس ١٤: ٧٢، متّى ٢٦: ٣٤ و٧٥ ويوحنا ١٣: ٣٨
انظر الشرح متّى ٢٦: ٦٩ - ٧٥ ومرقس ١٤: ٦٦ - ٧٢.
لم يذكر لوقا امتحان المسيح الاول أمام حنان (يوحنا ١٨: ١٩ - ٢٤) ولا امتحانه الثاني أمام مجلس اليهود في بيت قيافا والحكم عليه ليلاً (متّى ٢٦: ٥٧ - ٦٦ ومرقس ١٤: ٥٣ - ٦٤). لكنه ذكر إنكار بطرس له الذي حدث في أثناء محاكمة الليل وذكر استهزاء العسكر به حينئذ.
الاستهزاء بيسوع ليلاً ع ٦٣ إلى ٦٥
٦٣ - ٦٥ «٦٣ وَٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ، وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ: تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ ٱلَّذِي ضَرَبَكَ؟ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ».
متّى ٢٦: ٦٧ و٦٨ ومرقس ١٤: ٦٥
انظر الشرح متّى ٢٦: ٦٧ و٦٨ ومرقس ١٤: ٦٥
وقوف يسوع أمام المجلس صباحاً ع ٦٦ إلى ٧١
٦٦ «وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ ٱجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ ٱلشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ».
متّى ٢٧: ١ وأعمال ٤: ٢٦
وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ اقتصر متّى ومرقس على الإشارة إلى ذلك إجمالاً ولم يصرّحا بالحوادث (متّى ٢٧: ١ ومرقس ١٥: ١). ولم تجز الشريعة الرومانية ولا عوائد اليهود كما هي في التلمود أن يوقف إنسان أمام المجلس ليلاً ويُمتحن ثم يُحكم عليه بالموت. لذلك اضطر مجلس السبعين أن يجتمع ثانية بعد طلوع النهار لكي يجدّدوا حكمهم على يسوع ويجعلوه شرعياً. ولعلهم التزموا أن يفعلوا ذلك لأن عدد الأعضاء الذين اجتمعوا في الليل كان قليلاً.
وكانت غاية هذا الاجتماع أيضاً التآمر في أن يشكوا يسوع إلى الحاكم الروماني لكي يفوزوا بقتله.
مَشْيَخَةُ ٱلشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ هم مجلس السبعين اليهودي والأرجح أن مكان اجتماعهم وقتئذ كان أحد مخادع الهيكل (متّى ٢٧: ٣ و٥).
٦٧ «قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا. فَقَالَ لَـهُمْ: إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ».
متّى ٢٦: ٦٣ ومرقس ١٤: ٦١
إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ يظهر لنا أن هذا السؤال لا يحسن أن يكون افتتاح المحاكمة لأنه بغتي ولا نرى هنا داعياً له. ولكن رأينا في بشارة متّى أن هذا السؤال مبني على ما جرى من محاكمة الليل. وغاية المجلس منه حمل المسيح على تكرير ما قاله فيها مما حسبوه تجديفاً (متّى ٢٦: ٦٣ و٦٤).
إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ قال ذلك لأنه علم أنهم لم يسألوه عن ذلك إلا ليجدوا علّة شكاية عليه ولأنهم لم يصدقوا ما قاله قبلاً.
٦٨ «وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي».
وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي الخ أي لا تتركون لي فرصة لكي أبرهن لكم أني أنا المسيح أو أني بريء مما اتهمتموني به كعادة المحاجّة بالسؤال والجواب. لأنكم حكمتم عليّ بالموت قبل الفحص فإذاً إقامة البراهين عبث وتكون المحاجة الآن بلا فائدة كما كانت في مسئلة يوحنا المعمدان (ص ٢٠: ٤).
٦٩ «مُنْذُ ٱلآنَ يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ».
متّى ٢٦: ٦٤ ومرقس ١٤: ٦٢ وعبرانيين ١: ٣ و٨: ١
مُنْذُ ٱلآنَ الخ هذا تكرير ما شهد المسيح به في المحاكمة السابقة (متّى ٢٦: ٦٤) فانظر الشرح هنالك. وصرّح بذلك التكرير أن ما قاله دانيال النبي في شأن المسيح صادق عليه (دانيال ٧: ٩ - ١٤). وقرر ذلك اختياراً لكي تتم مقاصد الله في موته فداء عن العالم.
٧٠ «فَقَالَ ٱلْجَمِيعُ: أَفَأَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟ فَقَالَ لَـهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُو».
متّى ٢٦: ٦٤ ومرقس ١٤: ٦٢
أَفَأَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ذلك مضمون كلامه في الآية التاسعة والستين ومع ذلك أراد المجلس أن يصرّح المسيح به لفظاً ومعنىً فكأنهم قالوا أفمعنى ابن الإنسان ابن الله أيضاً وقد مرّ الكلام على بيان معنى ابن الله في الشرح (مرقس ١٤: ٦١).
أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ معنى هذا في اصطلاح اللغة يومئذ نعم أي ان ما قلتموه حق.
٧١ «فَقَالُوا: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ».
متّى ٢٦: ٦٥ ومرقس ١٤: ٦٣
كانت نتيجة المحاكمة الثانية كنتيجة المحاكمة الأولى (متّى ٢٦: ٦٦). واتفقوا بعد ذلك على كيفية الشكاية عليه إلى بيلاطس (متّى ٢٧: ١) ثم أتى يهوذا الاسخريوطي نادماً على خيانته ورد الفضة إلى رؤساء الكهنة (متّى ٢٧: ١ - ١٠).
الأصحاح الثالث والعشرون
وقوف يسوع أمام بيلاطس وهيرودس ع ١ إلى ٢٥
١، ٢ «١ فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ، ٢ وَٱبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هٰذَا يُفْسِدُ ٱلأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ».
متّى ٢٧: ٢ ومرقس ١٥: ١ ويوحنا ١٨: ٢٨، أعمال ١٧: ٧، متّى ١٧: ٢٧ و٢٢: ٢١ ومرقس ١٢: ١٧، يوحنا ١٩: ١٢
لم ينجح اليهود في مقصودهم الأول أن يجعلوا بيلاطس يحكم على المسيح بالموت دون فحص كما طلبوا إكراماً لهم (يوحنا ١٨: ٣٠) فحاولوا أن يقنعوا الوالي بأن يسوع مهيّج للشعب على الحكومة الرومانية.
وَجَدْنَا هٰذَا الخ ادّعوا غيرة عظيمة لحكومة قيصر وأنهم وجدوا يسوع بعد الفحص مذنباً في تهييج الشعب عليه وهذه الدعوى لم تُذكر في مجلس اليهود ليلاً ولا صباحاً إنما حكموا عليه لعلّة أخرى (متّى ٢٧: ٦٥) وكانت شكواهم كاذبة. نعم قال يسوع أنه مسيح ملك ولكنه لم يهيج الأمة على قيصر ولم يدع أنه ملك اليهودية بدلاً من قيصر لأن ملكوته روحي في قلب الناس لا ينافي ملك قيصر (ص ٢٠: ٢٢ ويوحنا ١٨: ٣٧).
٣، ٤ «٣ فَسَأَلَـهُ بِيلاَطُسُ: أَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَأَجَابَهُ: أَنْتَ تَقُولُ. ٤ فَقَالَ بِيلاَطُسُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْجُمُوعِ: إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ».
متّى ٢٧: ١١ و١تيموثاوس ٦: ١٣، ١بطرس ٢: ٢٢
ذكر يوحنا ما جرى بين يسوع وبيلاطس في هذه المحادثة بأكثر إيضاح (يوحنا ١٨: ٣٣ - ٣٨).
وجرى ذلك في دار الولاية بانفراد عن الناس وأبان المسيح فيه أن ملكوته ليس من هذا العالم وأقنع بيلاطس بأن دعواه لا تنافي سلطان قيصر.
٥ «فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ يُهَيِّجُ ٱلشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى هُنَا».
ظنوا أنهم يهيجون غضب بيلاطس على يسوع بتكرير شكواهم بحدة ذاكرين أنه شرع في المناداة بدعواه في الجليل وهي البلاد التي اشتهرت بكثرة الفتن وادّعوا أنه ذهب إلى هنالك بغية تهييج الفتنة.
يُعَلِّمُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ صدقوا بقولهم انه يعلّم لكنهم كذبوا بنسبتهم إليه أنه يهيّج الفتنة.
وكان رياء اليهود فاحشاً في تلك الشكوى لأنهم اعتقدوا أن المسيح الحقيقي يكسر شوكة الرومانيين ويعتق اليهود من نيرهم ومعظم علّة رفضهم أن يسوع هو المسيح أنه لم يوافقهم على ذلك الأمر. وليس بيلاطس جاهلاً إلى ذلك الحد حتى أنه يصدقهم لأنه كان متيقناً أن اليهود يبغضون حكومة قيصر وأنه لو كانت شكواهم على يسوع صحيحة ما رفعوها إليه. وعرف أنهم ما اشتكوا عليه إلا حسداً (متّى ٢٧: ١٨).
٦، ٧ «٦ فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ ذِكْرَ ٱلْجَلِيلِ، سَأَلَ: هَلِ ٱلرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟ ٧ وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَـهُ إِلَى هِيرُودُسَ، إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ ٱلأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ».
ص ٣: ١
هَلِ ٱلرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ الظاهر أن الناس أجابوه «نعم» على زعمهم أن وطنه ناصرة الجليل.
أَرْسَلَـهُ إِلَى هِيرُودُسَ هذا ظلم من بيلاطس وهو أنه أرسل إنساناً تحقق أنه بريء إلى غيره ليحاكمه. ولم يذكر هذا الأمر غير لوقا. وهيرودس هذا هو أنتيباس والي الجليل وبيريّة قاتل يوحنا المعمدان انظر الشرح متّى ١٤: ١. ومن أسباب إرسال بيلاطس يسوع إليه إظهار الإكرام له والاعتبار للشريعة الرومانية التي تجيز إرسال متهم بذنب ليحاكم في وطنه أو في المكان الذي أدعى أنه أذنب فيه وطرح المسؤولية عن نفسه في المحاكمة المتعبة لأنه لم يرد أن يحكم على إنسان بريء ولم يرد أن يغيظ اليهود بإطلاقه. والأرجح أن السبب الأخير هو الأولى.
كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ ٱلأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ لأنه أتى إلى هناك ليعيّد عيد الفصح.
٨ «وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدّاً، لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ يَرَاهُ يَصْنَعُ آيَةً».
ص ٩: ٩، متّى ١٤: ١ ومرقس ٦: ١٤
فَرِحَ جِدّاً سمع بمعجزاب يسوع واشتهى أن يراه متأملاً أن يشاهد معجزة منه.
٩ «وَسَأَلَـهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ».
وَسَأَلَـهُ من جهة دعوى أنه المسيح آملاً أن يعمل المعجزة إثباتاً لدعواه.
فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ لتبرير ذاته وإثبات دعواه. وعلّة سكوت المسيح علمه أن لا فائدة من الكلام وأنهم لا بدّ من أن يقتلوه وأن هيرودس سمع الحق من يوحنا المعمدان ولم يستفد منه. وعرف يسوع أن هيرودس لم يقصد معرفة الحق وأنه لم يستفد منه. ما سأل هيرودس عن براءة المسيح أو ذنبه وهو الوحيد من قضاته الذي لم يجبه المسيح بكلمة.
١٠ «وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِٱشْتِدَاد».
رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ أرسلهم بيلاطس ليشهدوا على يسوع (ع ١٥) والأرجح أنهم فرحوا بالإذن في أنهم يشتكون عليه وأملوا أن يحكم عليه هيرودس بالموت بإذن بيلاطس بدعوى أنه جليلي (ع ٦). وأظهر هيرودس بعدم حكمه عليه أنه لم يصدق شكوى اليهود عليه. ولو صدق أن يسوع هيّج الفتنة مبتدئاً من الجليل لحكم عليه.
١١ «فَٱحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَٱسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ».
إشعياء ٥٣: ٣
أذن هيرودس لعسكره أن يهزأوا بالمسيح إرضاء لرؤساء الكهنة وشفاء لغيظه لأن يسوع لم يجبه على شيء من سؤالاته ولم يصنع معجزة أمامه. وهذا الاستهزاء هو الاستهزاء الثاني بالمسيح وكان الأول في دار رئيس الكهنة من خدامه ومن جنود الهيكل والثالث من العساكر الرومانيين في دار الولاية.
أَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً استهزاء بدعوى أنه ملك لأن ذلك كان مما اعتاد الملوك أن يلبسوه.
وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ لكي يحكم عليه هو فأكرم بيلاطس بذلك أي بعدم ادعائه السلطة على يسوع لكونه جليلياً. والأرجح أنه اقتنع كما اقتنع بيلاطس بتبرئة يسوع ولم يرد أن يغيظ رؤساء اليهود بإطلاقه ولا أن يجعل على نفسه دماً زكياً إذا قضى على يسوع بالموت.
١٢ «فَصَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا».
أعمال ٤: ٢٧
علّة هذه العداوة غير معروفة ولعلها تتعلق بحقوق المحاكمة. وإرسال يسوع من الواحد إلى الأخر بيان أن أحدهما لم يرد أن يعتدي على الثاني في حقوقه السياسية.
١٣، ١٤ «١٣ فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْعُظَمَاءَ وَٱلشَّعْبَ، ١٤ وَقَالَ لَـهُمْ: قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ ٱلشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ».
متّى ٢٧: ٢٣ ومرقس ١٥: ١٤ ويوحنا ١٨: ٣٨ و١٩: ٤، ع ١ و٢ ع ٤
دعا بيلاطس رؤساء اليهود إلى الاجتماع القانوني وصرّح لهم أن المسيح بريء من تهييج الفتنة فكرر شرعاً ما قاله قبلاً على غير هذا السبيل (ع ٤).
١٥ «وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ صُنِعَ مِنْه».
وَلاَ هِيرُودُسُ إرجاع هيرودس يسوع إلى بيلاطس بدون حكم عليه برهان أنه حسبه بريئاً ولو حسبه مذنباً لم يرجعه فإذاً المسيح تبرر بحكم اثنين ملكٍ ووالٍ.
١٦ «فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ».
متّى ٢٧: ٢٦ ويوحنا ١٩: ١
فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ هذا ظلم محض لأنه اعترف أنه لم يجد فيه علّة ولا هيرودس فكان عليه لأنه قاض أن يطلقه بلا أذىً. ومعنى قوله «أودبه» أجلده. وكان الجلد عند الرومانيين مؤلماً جداً. وقصد ذلك إرضاء لرؤساء اليهود لكي يسلّموا بإطلاقه لكن نتج عن ذلك أنهم زادوا جراءة عليه بطلب قتل يسوع.
١٧ «وَكَانَ مُضْطَرّاً أَنْ يُطْلِقَ لَـهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِداً».
متّى ٢٧: ١٥ ومرقس ١٥: ٦ ويوحنا ١٨: ٢٩
ارجع إلى الشرح متّى ٢٧: ١٥ ومرقس ١٥: ٦.
كان الولاة الرومانيون في أول أمرهم يأتون ذلك تبرعاً ثم صار على توالي السنين ضربة لازبٍ.
١٨، ١٩ «١٨ فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: خُذْ هٰذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ! وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ».
أعمال ٣: ١٤
علّة صراخ الشعب تهييج رؤساء الكهنة (متّى ٢٧: ١٦ - ١٩ ومرقس ١٥: ٧ - ١٠).
٢٠ «فَنَادَاهُمْ أَيْضاً بِيلاَطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوع».
خاطب بيلاطس هنا الشعب كأنه حوّل الأمر من الرؤساء إليه آملاً أن يحكم بإطلاق يسوع وكان موضوع خطابه أن يسوع بريء بدليل قوله «وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ» (متّى ٢٧: ٢٢ و٢٣).
٢١ «فَصَرَخُوا: ٱصْلِبْهُ! ٱصْلِبْهُ!».
اتفق الشعب مع الرؤساء في ما رغبوا فيه وعلّة طلبهم الصلب دون غيره من صنوف القتل لأنه كان عقاب الخارجين على قيصر.
٢٢ «فَقَالَ لَـهُمْ ثَالِثَةً: فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هٰذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ، فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ».
هذا تصريح ثالث من بيلاطس ببراءة المسيح.
٢٣ «فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ».
غلب صراخهم الحق والعدل وضمير القاضي (يوحنا ١٩: ٨) وحكمه المقرر ثلاثاً وتضرّع امرأته (متّى ٢٧: ١٩). وشهد بيلاطس بذلك على نفسه بأنه جبان وظالم وقاس.
٢٤ «فَحَكَمَ بِيلاَطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُم».
متّى ٢٧: ٢٦ ومرقس ١٥: ١٥ ويوحنا ١٩: ١٦
أخذ بيلاطس قبل هذا الحكم ماء وغسل يديه ليُري أنه بريء من قتل يسوع وأخذ اليهود الإثم على أنفسهم (متّى ٢٧: ٢٤ و٢٥).
٢٥ «فَأَطْلَقَ لَـهُمُ ٱلَّذِي طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ، ٱلَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ».
كُرر وصف بارباس المذكور في الآية التاسعة عشرة بياناً لغرابة ما كان وهو أنهم فضلوا إنساناً شريراً كهذا على يسوع البارّ فأطلقوا الأول وسلّموا الثاني إلى الموت.
الصلب ع ٢٦ إلى ٤٩
٢٦ «وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ ٱلْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ ٱلصَّلِيبَ لِيَحْمِلَـهُ خَلْفَ يَسُوعَ».
متّى ٢٧: ٣٢ ومرقس ١٥: ٢١ ويوحنا ١٩: ١٧
هزئ العسكر الروماني قبل ذلك بيسوع وجلدوه (متّى ٢٧: ٢٦ - ٣٠ ومرقس ١٥: ١٥ - ١٩) ثم أوقفه بيلاطس أمام الشعب والدم يسيل من جراحه بغية أن يحرك شفقة قلوبهم ليطلبوا إطلاقه ولكن ذلك كله ذهب عبثاً (يوحنا ١٩: ١٤ و١٥).
الفرق بين نبإ الصلب في مرقس وما ذكره متّى زهيد جداً وأما نبأ لوقا فيزيد عليهما أربعة أمور:
- الأول: خبر الباكيات عليه من نساء أورشليم (ع ٢٧ - ٣١).
- الثاني: طلب يسوع المغفرة لقاتليه (ع ٣٤).
- الثالث: توبة أحد اللصين (ع ٣٩ - ٤٣).
- والرابع: استيداع يسوع روحه في يدي أبيه (ع ٤٦).
سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً راجع الشرح متّى ٢٧: ٣٢.
٢٧ «وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، وَٱلنِّسَاءِ ٱللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ».
جُمْهُورٌ كَثِيرٌ هذا الجمهور ليس من تلاميذ المسيح بل هو إخلاط من الناس كالذين يخرجون من مدينة كبيرة لمشاهدة منظر غير عادي.
وَٱلنِّسَاءِ هؤلاء النساء لسن من المؤمنات اللواتي وقفن عند الصليب (ع ٤٩) لأن المذكورات هن من «بنات أورشليم» (ع ٢٨) وأولئك «من الجليل». ولا عجب أن وجدت النساء بين «جمهور كثير» في مثل تلك الحال. وكان منهن من هنّ رقيقات الأفئدة يبكين على يسوع ولعلهن لم يعلمن أن مجلس السبعين حكم على يسوع بالموت وشفقن عليه لأنه يهودي مثلهن ولأنهن ظنن علّة قتله قساوة الرومانيين. ويحتمل أنه كان بين أولئك النساء من شاهدن بعض معجزات المسيح في أورشليم وسمعن تعليمه وآمنّ به.
٢٨ «فَٱلْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ».
يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ تدل القرينة على أن المسيح أشار بنسبة البنات إلى أورشليم إلى أنهن عرضة للأتعاب والأوجاع والنوازل التي حكم الله بوقوعها على تلك المدينة.
لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ لم يفتكر المسيح في أوجاعه بل في الأحزان الآتية على الأمة اليهودية. إنه سكت في وقت الاستهزاء عليه والبصق في وجهه وجلده ولكن أنطقته دموع النساء ومعرفته ضيقاتهم المستقبلة.
بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ لا ريب في أن بعضهنّ عشن أربعين سنة بعد ذلك واختبرن أهوال حصار المدينة ولكن أكثر تلك النوازل وقع على أولادهن (متّى ٢٧: ٢٥) وليست تلك النوازل وحدها موضوعاً يستحق البكاء بل كل الضيقات التي وقعت على نسلهن من ذلك الوقت إلى اليوم وهو متفرق بين شعوب الأرض. وأعظم من ذلك أن الله رفض اليهود من أن يكونوا شعبه المختار لخطاياهم وعدم إيمانهم وهم بلا ملك ولا كهنوت ولا مدينة ولا وطن وأعظم الكل الدينونة الهائلة في اليوم الأخير.
٢٩ «لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَٱلْبُطُونِ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ وَٱلثُّدِيِّ ٱلَّتِي لَمْ تُرْضِعْ».
متّى ٢٤: ١٩ وص ٢١: ٣٣
هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي أشار بذلك إلى حوادث خراب مدينة أورشليم المستقبلة.
يَقُولُونَ أي يقول سكان أورشليم في أثناء الخراب.
طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ الخ كان اليهود يفرحون بالنسل أكثر من نساء الشعوب واعتبروا الأولاد علامة رضى الله عنهم فيكون من أوضح الأدلة على شدة مصابهم تطويبهم للعواقر فما كان محسوباً عندهم لعنة صار في ضيق تلك الأيام بركة. وخاطب المسيح النساء بأنباء المستقبل بما يؤثر في أفكارهن ويجعلهن شاعرات بشدة الضيق يومئذ.
٣٠ «حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا».
إشعياء ٢: ١٩ وهوشع ١٠: ٨ ورؤيا ٦: ١٦ و٩: ٦
الكلام هنا مبني على ما جاء في نبوة هوشع ١٠: ١٨ ويدل على وقوع نوازل عظيمة وخوف الناس وطلبهم الملاجئ. وأُشير بمثل هذا الكلام إلى أهوال يوم الدين (رؤيا ٦: ١٦ و١٧).
واختبأ اليهود في زمن خراب أورشليم في أسراب المدينة وأجواف الأرض التي تحت المدينة. ولعلّ في الكلام هنا إشارة إلى طلب الموت بغتة بسقوط الأسوار عليهم لأنهم فضلوا موت الفجاءة على الموت جوعاً وخوفاً ومرضاً.
٣١ «لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِٱلْعُودِ ٱلرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هٰذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِٱلْيَابِسِ؟».
أمثال ١١: ٣١ وإرميا ٢٥: ٢٩ وحزقيال ٢٠: ٤٧ و٢١: ٣ و٤ و١بطرس ٤: ١٧
هذا كلام جارٍ مجرى المثل ومن المعلوم أن النار تحرق الحطب الأخضر بصعوبة ولكنها تحرق اليابس بسهولة إحراقاً شديداً. والمراد بالنار هنا قساوة الرومانيين وحماستهم في القتل والهدم والمراد بالعود الرطب المسيح البريء من الفتنة الذي أمر تلاميذه بالطاعة للحكام وحكم الوالي ببراءته. والمراد باليابس اليهود الذين عصوا بعد ذلك الرومانيين وأعلنوا الحرب عليهم وقتلوا عساكرهم. فإذا كان الرومانيون يقتلونني خلافاً للعدل وأنا بارّ فكم بالحري اليهود المذنبين. فإذا قتلوني وأنا لم أغظهم فكم بالأجدر يقتلوهم وهم يغيظونهم بطرق مختلفة.
وفسر بعضهم هذه الآية بأنه إذا ارتكب اليهود الفظائع مثل قتلهم إياي وخوفهم من الرومانيين يكفهم عن ارتكاب كل الشر فعن أي شر يعدلون بعد أن يلقوا عنهم نير الرومانيين ويسلموا أنفسهم إلى الشهوات.
وفسر بعضهم النار بعموم الضيقات والعود الرطب بالأتقياء والعود اليابس بالأشرار وأن مقصوده أنه إذا أذن الله في وقوع مثل تلك المصائب عليّ أنا التقي فكم بالحري يأذن في وقوعها عليكم أيها اليهود الأشرار حين يفتقدكم الله للدينونة.
٣٢، ٣٣ «٣٢ وَجَاءُوا أَيْضاً بِٱثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ. ٣٣ وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَٱلآخَرَ عَنْ يَسَارِه».
إشعياء ٥٣: ١٢ ومتّى ٢٧: ٣٨، متّى ٢٧: ٣٣ ومرقس ١٥: ٢٢ ويوحنا ١٩: ١٧ و١٨
انظر الشرح متّى ٢٧: ٣٣ - ٣٨ ومرقس ١٥: ٢٠ - ٢٦.
٣٤ «فَقَالَ يَسُوعُ: يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَـهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ. وَإِذِ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ ٱقْتَرَعُوا عَلَيْهَا».
متّى ٥: ٤٤ وأعمال ٧: ٦٠ و١كورنثوس ٤: ١٢، أعمال ٣: ١٧ و١كورنثوس ٢: ٨، متّى ٢٧: ٣٥ ومرقس ١٥: ٢٤ ويوحنا ١٩: ٢٣
لم يذكر صلاة المسيح إلا لوقا. وتلفظ المسيح بها حين سمّره العسكر على الصليب. فلما قدّم نفسه ذبيحة عن الخطاة شفع فيهم أيضاً كالحبر الأعظم إتماماً لقول النبي «وشفع في المذنبين» (إشعياء ٥٣: ١٢).
ولم يتبين من الكلام أي الناس قصد المسيح في تلك الصلاة والأرجح أنه قصد العكسر الرومانيين الذين أطاعوا أمر قائدهم وهم لا يعرفون شيئاً. ولعلها أيضاً شملت جمهور الذين اشتركوا في قتله برضاهم عمل الرؤساء وبصراخهم قائلين اصلبه طوعاً لأمر الرؤساء لأنهم قيدوا لهم كالعميان ولم يعرفوا أن يسوع ابن الله ولذلك لم يشعروا بفظاعة الإثم الذي ارتكبوه. وهذا وفق قول بطرس «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ، كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً» (أعمال ٣: ١٧). وقول بولس «لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (١كورثنوس ٢: ٨) وقلما تشمل رؤساء الكهنة الذين سمعوا تصريحه بأنه المسيح ابن الله ورفضوه عمداً. ولا بد من أنها تشمل كل الخطاة في كل عصر فإن خطاياهم علّة تعليق المسيح على الصليب.
ولنا في تلك الصلاة أربع فوائد:
- الأولى: أنه يجب على المسيحيين أن يغفروا لأعدائهم ويصلّوا لأجلهم كما فعل سيدهم الإلهي.
- والثانية: أنه يمكن أعظم الخطاة أن ينالوا مغفرة خطاياهم.
- والثالثة: أن الذي يخطئ بجهالة إثمه أخفّ من إثم الذي يرتكب الخطأ عمداً.
- والرابعة: أن هذه الصلاة تؤكد لنا أن المسيح يشفع الآن في السماء في جميع الخطاة الذين يطلبون شفاعته ودليل ذلك أنه لم ينفك يشفع وهو مسمّر على الصليب يقاسي آلام الموت فكم بالحري أنه لا ينفك كذلك وهو جالس عن يمين الله.
٣٥ - ٣٨ «٣٥ وَكَانَ ٱلشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَٱلرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ ٱلْمَسِيحَ مُخْتَارَ ٱللّٰهِ. ٣٦ وَٱلْجُنْدُ أَيْضاً ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَـهُ خَلاًّ، ٣٧ قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ ٱلْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ. ٣٨ وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: هٰذَا هُوَ مَلِكُ ٱلْيَهُود».
مزمور ٢٢: ١٧ وزكريا ١٢: ١٠، متّى ٢٧: ٣٩ ومرقس ١٥: ٢٩، متّى ٢٧: ٣٧ ومرقس ١٥: ٢٦ ويوحنا ١٩: ١٩
ارجع إلى الشرح متّى ٢٧: ٤١ - ٤٤.
قَائِلِينَ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الخ (ع ٣٧) تعلّم العسكر ذلك من هزء الرؤساء به ومن العنوان الذي فوق الصليب وهو أن المسيح ملك اليهود.
وَكَانَ عُنْوَانٌ (ع ٣٨) انظر الشرح متّى ٢٧: ٣٨.
٣٩ «وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ٱلْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!».
متّى ٢٧: ٤٤ ومرقس ١٥: ٣٢
وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ذكر متّى ومرقس ان اللصين جدفا على يسوع (متّى ٢٧: ٤٤ ومرقس ١٥: ٣٢) وأما لوقا فذكر هنا تجديف واحد منهما فقط ولا يلزم من ذلك التناقض بين الخبرين لاحتمال أنه بعد أن جدف الاثنان تغير فكر أحدهما فعدل عن التجديف إلى الصلاة.
يُجَدِّفُ عَلَيْهِ كان المستهزئون بيسوع كثيرين وهم العسكر ورؤساء اليهود والكتبة والشيوخ والعامة واقتدى بهم اللصان (متّى ٢٧: ٤١ - ٤٤) وتجديف اللص هو قوله في آخر هذه الآية.
إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ أي إن صدقت بدعواك. وهو كفر واستهزاء في صورة الشرط وإلا لم يكن تجديفاً..
فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا أي نجنا من الموت. فلم يطلب سوى النجاة من الموت الجسدي ولو طلب إلى المسيح نجاة نفسه من الهلاك الأبدي لاستجابه حالاً. فنرى من هذه أن ليس للآلام الجسدية في نفسها أن تلين القلب وتقود الإنسان إلى التوبة والإيمان وليس لمشاهدة المسيح على الصليب قوة تخليص ما لم تقترن نعمة الله والإيمان القلبي بذلك.
٤٠ «فَٱنْتَهَرَهُ ٱلآخَرُ قَائِلاً: أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ ٱللّٰهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هٰذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟».
فَٱنْتَهَرَهُ ٱلآخَرُ نعلم من أنباء متّى أنه ابتدأ في التجديف كرفيقه (متّى ٢٧: ٤٤) ثم عدل عن ذلك إلى الصلاة والأرجح أن علّة ذلك التغير هي تأثير صبر المسيح وحلمه فيه والصلاة التي نطق بها المسيح من أجل قاتليه وقوة الروح القدس التي قادته إلى التوبة والإيمان.
أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ ٱللّٰهَ أي أيحسن أن تكون كسائر المشاهدين في عدم خوف الله وأنت ستقف سريعاً قدام ذلك الديّان الذي يعاقب كل الذين هزئوا بهذا الإنسان البار.
تَحْتَ هٰذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ أي حكم الموت فإذاً لا حق لك بالنظر إلى ما أنت فيه أن تدينه أو تلومه. وكان يجب أن يحملك شعورك بمثل آلامه على الشفقة عليه ومخاطبته بكلام العزاء والتشجيع.
٤١ «أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأَنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّه».
أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ هما لصان علما أنهما تعدّيا الشريعة المدنية وأنهما استحقا بموجب تلك الشريعة العقاب الذي وقع عليهما وشهد ضمير الواحد منهما بأنهما مذنبان أمام الله ومستحقان عقابه أيضاً.
وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ الخ إن قيل كيف علم ذلك قلنا لعله سمع نبأ يسوع قبلاً ولعله وقف في المحكمة للمحاكمة حين كان يسوع هنالك وسمع بيلاطس يقول «إن هذا الإنسان لم يفعل شيئاً ليس في محله» أو لعله استنتج ذلك من كلام الواقفين حول الصليب ومنظر المسيح حقق له أنّه بريءٌ.
ومن الغريب أنه لما قام أكثر الناس على المسيح أقام الله شاهداً ببراءته من أحد المصلوبين معه. وأقام الله أيضاً أربعة شهود غيره لم نكن نتوقع شهادتهم له في ذلك النهار عينه. الأول يهوذا الذي أسلمه والثاني امرأة بيلاطس والثالث بيلاطس الذي حكم عليه والرابع قائد العكسر الذي سمره على الصليب (ع ٤٧).
٤٢ «ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ».
ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ لم يسأل النجاة من الموت على الصليب لكنه ألقى نفسه على محبة المسيح ورحمته لكي يعتني به كما يحسن في عيينه.
مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ آمن بأن يسوع ملك وأنه سوف يأتي في مجد وسلطان وغير ذلك مما يليق بالملك. والأرجح أنه لم يدرك أن ملكوت المسيح روحي فظن كسائر اليهود أن ملكه أرضي زمني لكن مع ذلك كان إيمانه أقوى من إيمان الرسل أنفسهم.
وأظهر هذا اللص صحة توبته بما وجهه من كلمات التوبيخ إلى رفيقه وأبان صحة إيمانه بصلاته إلى المسيح في هذا العدد.
٤٣ «فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ».
هذا الثاني من الأقوال السبعة التي نطق بها المسيح على الصليب (انظر الشرح متّى ٢٧: ٥٠)، أخذ يسوع ساعة صلبه أن يمارس كل الوظائف الثلاث المتعلقة بكونه وسيطاً أي وظيفة نبي (ع ٢٠) ووظيفة الكاهن (ع ٣٤) ووظيفة الملك (ع ٤٢ و٤٣).
ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ هذا الكلام دليل على السلطة وغايته التأكيد.
إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي (ع ٤١) يتضمن هذا الوعد أن المسيح واللص يموتان وأن كليهما يكونان معاً في الفردوس. ويتحقق اللص أنه ينال الراحة والفرح سريعاً.
طلب اللص أن يسوع يذكره في وقت ما في المستقبل ولكن يسوع أكد له أن يذكره في ذلك اليوم عينه بأخذه إياه معه إلى الفردوس. ولا ريب أن وعد المسيح ونعمته المقترنة به عزى نفس اللص وقواها وهو متألم على الصليب إلى أن مات.
فِي ٱلْفِرْدَوْسِ هذا الاسم فارسي الأصل ومعناه جنة وأشار به اليهود إلى جنة عدن ثم أخذوا يشيرون به إلى مسكن المتوفين من الأتقياء قبل قيامة الأجساد والدينونة.
خاطب يسوع اللص بكلام اعتاده فيمكنه أن يدركه فأشار به إلى محل الراحة والأمانة والسعادة. فمعناه «حضن إبراهيم» (متّى ١٦: ٢٢). وذُكر أيضاً في إحدى رسائل بولس (٢كورنثوس ١٢: ٤ وفي سفر الرؤيا ٢: ٧) وفي هذه القصة عدة فوائد نذكر أربعاً منها:
- الأولى: إن وسائط الخلاص تكون لبعض الناس «رائحة موت لموت» وللبعض «رائحة حياة لحياة» (٢كورنثوس ٢: ١٦). فكلا اللصين شاهدا المسيح مصلوباً ولكن واحداً منهما قسّى قلبه وظل يجدف والآخر ليّن قلبه وصلّى.
- والثانية: أنه إن تاب أحد عن خطيته وآمن بالمسيح ولو في آخر ساعة من حياته نال الخلاص وإن لم تكن فرصة لأن يعتمد أو يتناول عشاء الرب أو أن يعمل أعمالاً صالحة. ولكن ليس في حادثة اللص ما يؤمن أحداً أن ينال الخلاص إن أبطأ عن التوبة إلى ساعة الموت لأنّه ليس من دليل على أن ذلك اللص عرف المسيح قبلاً وأنه حصل على فرصة للتوبة والإيمان قبل الساعة التي آمن فيها وتاب. وخلاص ذلك اللص عند الموت يعلّمنا أنه لا يحسن أن ييأس أحد من نوال الخلاص قرب موته. وعدم وجود غير هذه الحادثة يعلّمنا أن لا نطمع ونبطئ عن الاستعداد للموت.
- والثالثة: أن نفوس المؤمنين تبقى حيّة بعد انفصالها عن الجسد وليست في سبات لا تشعر معه في شيء إلى يوم القيامة لكنها تدخل على أثر الموت محل المجد والسعادة. وإن غاية تلك السعادة وجودها مع المسيح (فيلبي ١: ٢٣ ويوحنا ١٧: ٢٤).
- والرابعة: إن هذه القصة تحقق لنا عظمة قوة المسيح واستعداده لتخليص الخطاة لأنه في ساعة آلامه وموته كانت أذنه مفتوحة لسمع صلاة الإيمان ويده قوية على خطف الأسير من يد الشيطان ووفدائه وتقديسه وإقامته إلى فردوس الله.
فإذا كان قد أظهر قوته وحنوه في ساعة اتضاعه فكم بالحري يظهر مثل ذلك في حين ارتفاعه إذ «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متّى ٢٨: ١٦ ويوحنا ٦: ٣٧).
٤٤ - ٤٦ «٤٤ وَكَانَ نَحْوُ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ، فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. ٤٥ وَأَظْلَمَتِ ٱلشَّمْسُ، وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ. ٤٦ وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ».
متّى ٢٧: ٤٥ ومرقس ١٥: ٣٣، متّى ٢٧: ٥١ و مرقس ١٥: ٣٨، مزمور ٣١: ٥ و١بطرس ٢: ٢٣ و٤: ١٩، متّى ٢٧: ٥٠ ومرقس ١٥: ٣٧ ويوحنا ١٩: ٣٠
انظر الشرح متّى ٢٧: ٤٥ - ٥١ ومرقس ١٥: ٢٦ و٣٣ - ٣٨.
ٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ ذكر لوقا هذا بقطع النظر عن ترتيب الحوادث لأن ذلك كان على أثر موته كما يظهر من نبأي متّى ومرقس.
يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي (ع ٤٦) لم يذكر لوقا قول المسيح الثالث وهو على الصليب حين سلم أمه إلى يوحنا ليعتني بها ولا قوله الرابع «إيلي إيلي لما شبقتني؟» ولا قوله الخامس «أنا عطشان» ولا قوله السادس «قد أكمل» واقتصر على ذكر ثلاثة من أقوال المسيح على الصليب وهو الأول والثاني والسابع وهو المذكور هنا.
٤٧ «فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ مَا كَانَ، مَجَّدَ ٱللّٰهَ قَائِلاً: بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً!».
متّى ٢٧: ٥٤ ومرقس ١٥: ٣٩
راجع الشرح متّى ٢٧: ٥٢ - ٥٥.
مَجَّدَ ٱللّٰهَ كان قائد المئة رومانياً ومع ذلك أثرّ فيه ما رآه وسمعه في مشهد صلب المسيح حتى سبّح الإله الحق وعبده. ولعلّ الذي أثرّ فيه حلم المسيح وصلاته من أجل قاتليه ومخاطبته اللص التائب واستيداعه نفسه في يدي أبيه والآيات في عالم الطبيعة من كسوف الشمس وغيره.
كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً نقل متّى ومرقس أنه قال «حقاً كان هذا ابن الإنسان» وأن أربعة من العسكر وافقوه على ذلك (متّى ٢٧: ٥٤ ومرقس ١٥: ٣٩). والأرجح أنه قال القولين على أن القول الثاني يستلزم القول الأول لأن اليهود أسلموه إلى الموت كمذنب لأنه قال أنه ابن الله ولأنه دعا الله مرتين وهو على الصليب أباه فتحقق القائد أنه بار وأنه تكلم بالحق وكان ما ادعاه وأنكره اليهود حقاً وهو أنه ابن الله.
٤٨ «وَكُلُّ ٱلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهٰذَا ٱلْمَنْظَرِ، لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ، رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ».
وَكُلُّ ٱلْجُمُوعِ صُلب يسوع في أسبوع عيد الفصح وكان عدد المجتمعين في أورشليم في مثل ذلك الوقت كثيراً فكان يبلغ أحياناً ألفي ألف أو ثلاثة آلاف ألف. وزاد عدد الذين احتشدوا لمشاهدة صلب يسوع باشتهار أنه نبي في كل تلك البلاد وبحدوث ظلمة غير عادية يوم ذلك الصلب بقيت ثلاث ساعات.
لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ أي الزلزلة (متّى ٢٧: ٥٢) والظلمة (ع ٤٤) ولعلهم سمعوا نبإ انشقاق حجاب الهيكل (ع ٤٥).
يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ بياناً لحزنهم وتأنيب ضمائرهم (أعمال ٢: ٣٧) وخوفهم من وقوع دينونة الله عليهم لاشتراكهم في قتل ذلك البار (٢٣). والمرجح أن الأعداء كفوا عن الهزء بيسوع منذ بداءة الظلمة.
٤٩ «وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذٰلِكَ».
مزمور ٣٨: ١١ ومتّى ٢٧: ٥٥ ومرقس ١٥: ٤٠ ويوحنا ١٩: ٢٥
جَمِيعُ مَعَارِفِهِ لا بد من أن عدد هؤلاء كان كثيراً وهم من الذين أتوا للعيد من الجليل وبيرية وقرى اليهودية حيث جال المسيح نحو ثلاث سنين ونصف سنة يبشر ويصنع معجزات.
نِسَاءٌ (متّى ٢٧: ٥٥) ليست هؤلاء النساء «بنات أورشليم» المذكورات في الآية الثامنة والعشرين.
وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ كذا فعل أكثرهم ولكن بعضهم اقتربوا إلى صليبه (يوحنا ١٩: ٢٥).
يَنْظُرُونَ ذٰلِكَ أي الآيات المقترنة بموته. وبقوا هنالك بعد ما انفض الجمع وعادوا بخوف إلى المدينة ولا بد من أن أولئك المعارف كانوا في خيبة وحيرة ورغبوا في القيام بواجبات دفن المسيح مع الخوف من إعلان رغبتهم.
دفن جسد المسيح ع ٥٠ إلى ٥٦
٥٠ - ٥٦ «٥٠ وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً ٥١ هٰذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِنَ ٱلرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. ٥٢ هٰذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ، ٥٣ وَأَنْزَلَـهُ، وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ. ٥٤ وَكَانَ يَوْمُ ٱلاسْتِعْدَادِ وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ. ٥٥ وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَنَظَرْنَ ٱلْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. ٥٦ فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱسْتَرَحْنَ حَسَبَ ٱلْوَصِيَّةِ».
متّى ٢٧: ٥٧ ومرقس ١٥: ٤٢ ويوحنا ١٩: ٣٨، مرقس ١٥: ٤٣ وص ٢: ٢٥ و٢٨، متّى ٢٧: ٥٩ ومرقس ١٥: ٤٦، متّى ٢٧: ٦٢، ص ٨: ٢ مرقس ١٥: ٤٧، مرقس ١٦: ١، خروج ٢٠: ١٠
أنظر الشرح متّى ٢٧: ٥٧ - ٦١ ومرقس ١٥: ٤٢ - ٥٧.
مُشِيراً (ع ٥٠) أي عضواً من أعضاء مجلس السبعين.
رَجُلاً صَالِحاً بَارّاً (ع ٥٠) زاد لوقا هذين الوصفين على أنباء متّى ومرقس فإنهما اقتصرا على ذكر وظيفته من سائر صفاته.
لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ (ع ٥١) أي لرأي قيافا (يوحنا ١١: ٤٩) ولرأي المجلس أي قتله بعد إقامته لعازر من الموت (يوحنا ١١: ٥٣) ولاتفاقهم مع يهوذا الاسخريوطي على تسليمه ولحكمهم عليه في المجلس وشكواهم إياه إلى بيلاطس.
يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ كزكريا وسمعان الشيخ. انظر الشرح (مرقس ١٥: ٤٣).
وزاد يوحنا في نبإ يوسف على ما أنبأ به غيره من البشيرين أنه «كان تلميذاً ليسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود» وأن نيقوديموس كان شريكه في دفن جسد المسيح (يوحنا ١٩: ٣٨).
يَوْمُ ٱلاسْتِعْدَادِ (ع ٥٤) أي يوم الجمعة. انظر الشرح (متّى ٢٧: ٥٢ ومرقس ١٥: ٤٢).
وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ أي قرب غروب يوم الجمعة والسبت يبتدئ من الغروب (لاويين ٢٣: ٣٢).
والمدة بين موت المسيح والغروب نحو ٣ ساعات. وفي تلك المدة ذهب رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس وسألوه فرقة من العسكر ليحرسوا القبر فأعطاهم وخُتم القبر (متّى ٢٧: ٦٢ - ٦٦).
وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ (ع ٥٥) ذكر متّى ومرقس أسماء بعض هؤلاء النساء (متّى ٢٧: ٥١ ومرقس ١٥: ٤٧). وأظهرت هؤلاء النساء شجاعتهن ومحبتهن ليسوع بما فعلن.
وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً (ع ٥٦) على قدر ما استطعن قبل غروب يوم الجمعة. واشترين ما نقصت الحنوط من اللوازم يوم السبت بعد الغروب أي بداءة يوم الأحد (مرقس ١٦: ١) وظهر مما فعلنه أنهن لم يأملن قط قيامة المسيح في اليوم الثالث بعد موته.
حَسَبَ ٱلْوَصِيَّةِ اي الوصية الرابعة من وصايا الله العشر وهي «اُذْكُرْ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ» الخ (خروج ٢٠: ٨).
الأصحاح الرابع والعشرون
إتيان النساء إلى القبر وإتيان بطرس كذلك ع ١ إلى ١٢
١ «ثُمَّ فِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ، أَوَّلَ ٱلْفَجْرِ، أَتَيْنَ إِلَى ٱلْقَبْرِ حَامِلاَتٍ ٱلْحَنُوطَ ٱلَّذِي أَعْدَدْنَهُ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ».
متّى ٢٨: ١ ومرقس ١٦: ١ وص ٢٣: ٥٦ ويوحنا ٢٠: ١
ذكر لوقا في هذا الأصحاح بالاختصار إتيان النساء إلى القبر (ع ١ - ١١). وإتيان بطرس كذلك (ع ١٢) وظهور المسيح للتلميذين ذاهبين إلى عمواس (ع ١٣ - ٢٢). وظهوره لتلاميذه الأحد عشر يوم قيامته (ع ٣٣ - ٤٣). ووعده لهم بالروح القدس (ع ٣٦ - ٤٩). وصعوده إلى السماء (ع ٥٠).
أَتَيْنَ أي النساء المذكورات في ص ٢٣: ٥٥ و٥٦ ومعهن نساء أُخر أيضاً (ع ١٠) والأرجح أنهن أتين من المدينة فرقتين واجتمعن عند القبر.
٢ «فَوَجَدْنَ ٱلْحَجَرَ مُدَحْرَجاً عَنِ ٱلْقَبْر».
متّى ٢٨: ٢ ومرقس ١٦: ٤
انظر الشرح مرقس ١٦: ٣ و٤.
رجعت مريم المجدلية إلى المدينة حالاً لما شاهدت القبر مفتوحاً (يوحنا ٢٠: ١ و٢).
٣ «فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
مرقس ١٦: ٥ وع ٢٣
فَدَخَلْنَ مرقس ١٦: ٥.
٤ «وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذٰلِكَ، إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ».
يوحنا ٢٠: ١٢ وأعمال ١: ١٠
مُحْتَارَاتٌ لأنهن رأين الحجر قد دُحرج وجسد المسيح ليس هنالك. ولا ريب في أن ما قالته مريم المجدلية عن أفكارها موافقاً لأفكار الباقيات (يوحنا ٢٠: ٢ - ١٣).
رَجُلاَنِ هما ملاكان في هيئتي رجلين سماهما مرقس ولوقا رجلين باعتبار الهيئة وسماهما متّى ويوحنا الاسم الحقيقي. ولم يذكر متّى ومرقس سوى ملاك واحد وهذا لا ينافي أنه كان هنالك ملاكان أو أكثر. ولم يتحقق أن ظهور الملاك في كل من بشارتي متّى ومرقس هو عين الظهور الذي ذكره لوقا. والذي ذكره متّى كان لاثنتين من النساء فقط وما ذكره لوقا كان لجماعة من النساء. وما ذكره متّى من كلام الملاك يختلف عما ذكره لوقا.
٥ «وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى ٱلأَرْضِ، قَالاَ لَـهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ ٱلْحَيَّ بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ؟».
مُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى ٱلأَرْضِ ذلك لحزنهن وخيبة آمالهن وخوفهنّ من الملاكين.
لِمَاذَا تَطْلُبْنَ ٱلْحَيَّ بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ أي لماذا تطلبن المسيح في القبر. وفي هذا بشارة للنساء بقيامة المسيح وتعجب وتوبيخ لهم على عدم ذكرهنّ نبوءة يسوع بقيامته وعدم إيمانهن بكلامه وطلبهن الحي في مدفن الأموات.
ويصح أن يوبخ ذلك التوبيخ عينه كل الذين يندبون موتاهم المؤمنين كأن أرواحهم مع أجسادهم في القبر وهي تحيا عند الله.
٦ «لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا لٰكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي ٱلْجَلِيلِ».
لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا السؤال السابق يتضمن معنى هذا القول فهو تأكيد له.
اُذْكُرْنَ ما حدث ليسوع من النوازل في تلك الأيام كان خلاف كل ما انتظرن في شأنه حتى أنساهن كل ما قاله سابقاً في أمر قيامته.
كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي ٱلْجَلِيلِ إن الجليل كان وطن أكثرهن أو كلهن فسمعن أقوال المسيح هنالك (ص ٢٣: ٥٥ ومتّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٣).
٧ «قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ».
متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٣ ومرقس ٨: ٣١ و٩: ٣١ وص ٩: ٢٢
قَائِلاً ص ٩: ٢٢ و١٨: ٣٢. يظهر من قول المسيح هنا أن ما قاله للاثني عشر قاله أيضاً لسائر التلاميذ وذلك وفق قول مرقس في شأن موته وقيامته «قَالَ ٱلْقَوْلَ عَلاَنِيَةً» (مرقس ٨: ٣١ و٣٢).
ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ قال الملاك هذا على سبيل الحكاية أي نقله عن فم المسيح نفسه.
٨ «فَتَذَكَّرْنَ كَلاَمَهُ».
يوحنا ٢: ٢٢
علّة عدم تذكرهنّ ذلك قبلاً أنهن لم يفهمنَ معنى ما قال يوم قاله (ص ١٨: ٣٤ ومرقس ٩: ١٠) ولذلك لم يؤثر فيهن ولم ينتظرن إتمامه. ولكن بعد ما قام يسوع من الموت وضح كل ما قاله. وكذا كل نبوات الكتاب المقدس أنها تكون مبهمة قبل إتمامها وتتضح بعده.
٩، ١٠ «٩ وَرَجَعْنَ مِنَ ٱلْقَبْرِ، وَأَخْبَرْنَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ ٱلْبَاقِينَ بِهٰذَا كُلِّهِ. ١٠ وَكَانَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَٱلْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ، ٱللَّوَاتِي قُلْنَ هٰذَا لِلرُّسُلِ».
متّى ٢٨: ٨ ومرقس ١٦: ١٠، ص ٨: ٣
جمع لوقا في كلام واحد ما أعلن لمريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ٢ ومتّى ٢٨: ٥ - ١٠) وما قيل لسائر النساء في هذا الحديث. وسمى ثلاثاً منهنّ فقط وهن المشهورات بينهن وعددهن كاف لإثبات الشهادة حسب شريعة موسى (تثنية ١٥: ١٩).
وَجَمِيعَ ٱلْبَاقِينَ يحتمل أن هؤلاء هم المئة والعشرون الذين ذكرهم لوقا في سفر الأعمال ١: ١٥.
١١ «َفَتَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَـهُمْ كَٱلْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنّ».
مرقس ١٦: ١١ وع ٢٥
لم يحسب أحد أنهن قصدن الكذب والخداع إنما حسبوا أخبارهن حديث خرافة لا يصدقه عاقل. ورأوا أن علّة تصديقهن ما أنبأن به فرط رغبتهن في صحته بدليل أنهم شكوا أيضاً في شهادة حواسهم (ص ٢٤: ٣٧).
١٢ «فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَٱنْحَنَى وَنَظَرَ ٱلأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا، فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ».
يوحنا ٢٠: ٣ و٦
قَامَ بُطْرُسُ ذهب بطرس إلى القبر بسبب أنباء مريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ٣) ورافقه يوحنا.
وَنَظَرَ ٱلأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا ذكر لوقا هذا ما فيه من البرهان على أن جسد المسيح لم يُسرق من القبر.
ظهورالمسيح للتلميذان وهما ذاهبان إلى عمواس ع ١٣ إلى ٣٥
١٣ «وَإِذَا ٱثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً، ٱسْمُهَا «عِمْوَاسُ».
مرقس ١٦: ١٢
أشار مرقس إلى هذه الحادثة بالاختصار (مرقس ١٦: ١٢). ولم يذكرها متّى ويوحنا. واستنتج بعضهم من تفصيل لوقا لهذه الحادثة أنه كان أحد الاثنين أو أنه نقل الخبر عنهما.
ٱثْنَانِ مِنْهُمْ أي من المذكورين في ع ٩ واسم أحدهما كليوباس (ع ١٨) وهما ليسا من الاحد عشر (ع ٣٣).
فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي مساء يوم الأحد (ع ٢٩).
سِتِّينَ غَلْوَةً نحو سبعة أميال أو مسافة نحو ساعتين.
عِمْوَاسُ لم يتحقق موقع هذه القرية والأرجح أنها هي ما تعرف الآن بالقبيبة أو هي قولونية أو قرية العنب وهي غربي أورشليم أو شمالها الغربي. والمرجح أن عمواس كانت موطن ذينك الاثنين رجعا إليه بعد حضورهما عيد الفصح في أورشليم.
١٤ «وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هٰذِهِ ٱلْحَوَادِثِ».
كَانَا يَتَكَلَّمَانِ موضوع كلاههما من ع ١٩ - ٢٤.
١٥ «وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ، ٱقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا».
متّى ١٨: ٢٠ وع ٣٦
وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ في أنه كيف يمكن أن يكون يسوع هو المسيح وقد مات وهل يمكن أن يوافق موته النبؤات الموضحة أن المسيح يكون ملكاً منتصراً ومخلصاً لشعبه.
ٱقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ تظاهر بأنه سائر على طريقهما ورافقهما.
١٦ «وَلٰكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِه».
يوحنا ٢٠: ١٤ و٢١: ٤
يظهر علّة ذلك قول مرقس «وَبَعْدَ ذٰلِكَ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لاثْنَيْنِ مِنْهُمْ» (مرقس ١٦: ١٢) ولمثل هذا السبب لم تعرفه مريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ١٤) ونستنتج من ذلك أن منظر المسيح تغيّر قليلاً عما كان قبل صلبه فكان ذلك مانعاً لمن لم ينتظروا وجوده من معرفتهم إياه. والأرجح أن هنالك علّة أخرى وهي أن المسيح بقوته الإلهية منعهم من معرفته في أول الأمر ليكون له أحسن الفرص لتفسير النبوات المختصة به. ولو عرفاه في الحال لملأ قلبيهما الخوف والفرح والشك ومنعهما ذلك عن إدراك البراهين التي أقامها لهما. ومما يثبت أن المسيح منعهما من معرفته ما جاء في الآية الحادية والثلاثين وهو قوله «فانفتحت أعينهما وعرفاه».
١٧ «فَقَالَ لَـهُمَا: مَا هٰذَا ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟».
عرف المسيح موضوع كلامهما بلا سؤال ولكن سألهما تذرّعاً إلى محادثتهما.
عَابِسَيْنِ ظهر ذلك من إمارات وجهيهما وكلامهما.
١٨ «فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، ٱلَّذِي ٱسْمُهُ كِلْيُوبَاسُ: هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ؟».
يوحنا ١٩: ٢٥
كِلْيُوبَاسُ مختصر كليوباترس وليس هو كلوبا المذكور في يوحنا ١٩: ٢٥ واسمه لم يُذكر في سوى هذا من الإنجيل.
هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ ظناه أجنبياً حضر العيد في أورشليم وأخذ في الرجوع إلى وطنه وعجبا من أنه لم يعرف موضوع كلامهما في يسوع المصلوب مع أن حديث كل أهل أورشليم كان حينئذ في ذلك الشأن.
وَحْدَكَ أي منفرداً عن الناس فإنك لو عاشرت أحداً لعرفت الأمر الذي نخوض فيه.
ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا أي صلب يسوع والظلمة والزلزلة.
١٩ «فَقَالَ لَـهُمَا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالاَ: ٱلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي ٱلْفِعْلِ وَٱلْقَوْلِ أَمَامَ ٱللّٰهِ وَجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ».
متّى ٢١: ١١ وص ٧: ١٦ ويوحنا ٣: ٢ و٤: ١٩ و٦: ١٤ وأعمال ٢: ٢٢ أعمال ٧: ٢٢
وَمَا هِيَ اتخذ المسيح هذا السؤال ذريعة إلى أن ينبئاه بعلّة مخاوفهما وآمالهما وشكوكهما وبمعرفتهما وجهلهما ومحبتهما له وحزنهما لموته. وأظهر بذلك يسوع حكمة المعلم النبيه إذ جعل سؤاله تمهيداً لتعليمهما.
يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ هو أشهر أسمائه.
ٱلَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً تكلما فيه كأنه لم يكن وقد انتهى كل أمره وأنهما كانا يعتبرانه معلماً دينياً مرسلاً من الله ولكن موته أزال من أنفسهما ذلك الاعتبار. وووصفا يسوع بأنه نبي وذلك دون وصف المسيح.
مُقْتَدِراً فِي ٱلْفِعْلِ وَٱلْقَوْلِ لم ينسيا ولم ينكرا أعماله الغريبة وأقواله الحكيمة التي شاهداها وسمعاها.
أَمَامَ ٱللّٰه (أعمال ٢: ٢٢) لأن الله شهد له أنه نبي بما صنع على يديه من الآيات.
وَجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ أي سكان كل بلاد اليهود الذين نظروه وسمعوه (يوحنا ١٢: ١٧).
وشهادة هذين الرجلين ليسوع بما ذكراه تبين نقص معرفتهما ذلك الشخص العجيب الذي هو إله وإنسان فادي الخطاة والوسيط بين الله والناس.
٢٠ «كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ ٱلْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ».
ص ٢٣: ١ وأعمال ١٣: ٢٧ و٢٨
كَيْفَ أَسْلَمَهُ هذا متعلق بالسؤال الذي في الآية الثامنة عشرة وهو قول الرجلين «هل أنت متغرب... ولم تعلم... كيف الخ» أي كيف أمكنك أن لا تعلم ما فعل رؤساء الكهنة والحكام به.
وَصَلَبُوهُ أعمال ٢: ٢٥ و٤: ١٠ و٥: ٣٠. نسبا صلب المسيح إلى الرؤساء لأنهم شكوه إلى بيلاطس وأجبروه على الحكم بصلبه.
٢١ «وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلٰكِنْ، مَعَ هٰذَا كُلِّهِ، ٱلْيَوْمَ لَـهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذٰلِك».
ص ١: ٦٨ و٢: ٣٨ وأعمال ١: ٦
أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ معظم ما قصدوا بالفداء النجاة من نير الرومانيين مع شيء من رجاء النجاة من عبودية الخطيئة. وكلامهما هنا يدل على أنهما لم يوافقا الرؤساء والحكام في بغضهم ليسوع بل أبانا أنهما علقا رجاءهما عليه لكن ذلك الرجاء انقطع عند موته لأنهما لم يستطيعا أن يتصورا إنساناً صُلب ومات يكون المسيح ملك المجد.
ٱلْيَوْمَ لَـهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ ذكرا هذا علّة جديدة لحزنهما وبياناً أنه لم يحدث شيء في كل تلك المدة يحيي رجاءهما.
٢٢ - ٢٤ «٢٢ بَلْ بَعْضُ ٱلنِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْقَبْرِ، ٢٣ وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. ٢٤ وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هٰكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً ٱلنِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ».
متّى ٢٨: ٨ ومرقس ١٦: ١٠ وع ٩ و١٠ ويوحنا ٢٠: ١٨ ع ١٢
ذكرا تلك الحوادث كأنها لم تحدث إلا لتزيدهم حيرة فلم تكن بشارة ولا أساساً لشيء من الرجاء.
قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا (ع ٢٣) أشارا بذلك إلى بطرس ويوحنا (ع ١٢ ويوحنا ٢٠: ٢ - ١٠).
أَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ أي أنهم لم يجدوا إلا قبراً فارغاً فحسبا ذلك كافياً لقطع كل رجاء.
ويظهر من هذا أنهما تركا أورشليم قبل أن رجعت النساء وأنبأت بأنهنّ شاهدن يسوع.
٢٥ «فَقَالَ لَـهُمَا: أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ».
أخذ يسوع يوبّخهما في بدء الكلام لعدم استعمالهما عقليهما في تفسير نبوات الكتاب في شأن المسيح وتبعا رأي العامة بلا انتباه ووبخهما أيضاً على عدم إيمانهما بأنه لا بد من أن يتم كل ما تفوه به الأنبياء في شأن المسيح لأنهما صدقا بعضها وهو ما يشير إلى نصرته ومجده ولم يلتفتا إلى ما قيل في آلامه وهوانه استعداداً لذلك المجد.
٢٦ «أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهٰذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟».
ع ٤٦ وأعمال ١٧: ٣ و١بطرس ١: ١١
أَمَا كَانَ يَنْبَغِي بمقتضى نبوات الكتاب وتحصيل خلاص الناس.
أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ كان يجب عليهما أن يتيقنا من شهادة الأنبياء أن المسيح يدخل المجد بعد احتماله آلام الموت وفقاً لقول بطرس (١بطرس ١: ١١). وأن يتوقعا بموته الذي هو إتمام بعض تلك النبوات إتمام باقيها أي قيامته ومجده.
بِهٰذَا أي بما جعلكما تشكان في أن يسوع هو المسيح كرفض اليهود إياه وتسليم يهوذا إياه والحكم عليه بالموت وصلبه.
٢٧ «ثُمَّ ٱبْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَـهُمَا ٱلأُمُورَ ٱلْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ ٱلْكُتُبِ».
تكوين ٣: ١٥ و٢٢: ١٨ و٢٦: ٤ و٤٩: ١٠ وعدد ٢١: ٩ وتثنية ١٨: ١٥ ومزمور ١٦: ٩ و١٠ ومزمور ٢٢ و١٣٢: ١١ وإشعياء ٧: ١٤ و٩: ٦ و٤٠: ١٠ و١١ و٥٠: ٦ وإشعياء ٥٣ وإرميا ٢٣: ٥ و٢٣: ١٤ و١٥ وحزقيال ٣٤: ٢٣ و٣٧: ٢٥ ودانيال ٩: ٢٤ وميخا ٧: ٢٠ وملاخي ٣: ١ و٤: ٢
ثُمَّ ٱبْتَدَأَ مِنْ مُوسَى أي بالنبوات التي في كتب موسى وأولها في تكوين ٣: ١٥ وفي ذلك إشارة إلى الرموز والذبائح التي عيّنها الله على يد موسى وكانت كلها تشير إلى المسيح. ويدخل في ذلك الحيّة النحاسية وعيد الفصح. وهذا وفق قول يسوع «فَتِّشُوا ٱلْكُتُبَ... وَهِيَ ٱلَّتِي تَشْهَدُ لِي» (يوحنا ٥: ٣٩).
جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ أي أسفار الأنبياء من داود إلى ملاخي ولا سيما المزمور ١٦ والمزمور ٢٢ والأصحاح ٥٣ من نبوءة إشعياء.
ٱلأُمُورَ ٱلْمُخْتَصَّةَ بِهِ أي بالمسيح نفسه. فإن قيل ليت لنا ما سمعه ذانك التلميذان من تفسير المسيح قلنا إنّا وجدناه في سفر أعمال الرسل والرسائل.
٢٨ «ثُمَّ ٱقْتَرَبُوا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ».
تكوين ٤٢: ٧ ومرقس ٦: ٤٨
تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ ليس في ذلك شيء مخالف للحق لأنه لولا لجاجتهما كان ظل سائراً ولو اكتفيا بما سمعا منه ما حصلا على معلنات أخرى أعظم من تلك.
٢٩ «فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: ٱمْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ ٱلْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ ٱلنَّهَارُ. فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا».
تكوين ١٩: ٣
فَأَلْزَمَاهُ أي لم يسلم بالبقاء معهما إلا بعد ان امتحن رغبتهما في كلامه.
ٱمْكُثْ مَعَنَا قالا ذلك لأن قلبيهما مالا إليه ولذت لهما محادثته الروحية.
قَدْ مَالَ ٱلنَّهَارُ قال ذلك علّة لدعوتهما إياه والمعنى أنه لم يبقَ من ذلك النهار وقت كاف لبلوغه إلى مبيت آخر.
ويحسن أن يصلّي كل مسيحي ليسوع بقوله «امكث معي» في مساء كل يوم وفي مساء حياته وفي كل ساعة يعتريه فيها الحزن واليأس فيلتهب قلبه فيه ويكلمه المسيح بكلمات التعزية والرجاء.
٣٠ «فَلَمَّا ٱتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَـهُمَا».
متّى ١٤: ١٩
هذا العشاء عادي لا العشاء الرباني ففعل ما كان عادته أن يفعله قبل الأكل مع تلاميذه. وأخذ الخبز وكسره وطلب بركة الله عليه مما يتعلق برب البيت لا بالضيف إلا إذا طلب رب البيت ذلك منه إكراماً له وكذا كان أمر المسيح يومئذ مع التلميذين لأنه كان ضيفهما.
٣١ «فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ ٱخْتَفَى عَنْهُمَا».
ص ٤: ٣٠ ويوحنا ٨: ٥٩
فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا أي زال المانع لهما من معرفة يسوع (ع ١٦) وذلك كان إما بقوة المسيح رأساً وإما باستدلالهما بما شاهداه منه.
وَعَرَفَاهُ لأن المسيح أراد أنهما يعرفانه ولعلهما عرفاه علاوة على ذلك من كسره للخبز ومباركته إياه بأسلوب عهداه من المسيح ولعلهما نظرا آثار المسامير في يديه عندما رفعهما للبركة.
ثُمَّ ٱخْتَفَى عَنْهُمَا أي لم يروه بعد. ولا ريب في أنه أخذتهما الحيرة في أول إعلان نفسه لهما حتى لم يستطيعا أن يتكلما أو يعتمدا ما يفعلان ولما رجعا إلى أنفسهما وأرادا أن يسجدا له لم يجداه. ولا شك في أنه كان في طريق اختفائه شيء فوق الطبيعة ولو كان اختفاؤه عادياً لقال لوقا قام عن المائدة وانطلق.
٣٢ «فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي ٱلطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا ٱلْكُتُبَ؟».
أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً هذا دليل على تأثير كلام المسيح فيهما لأنه أنشأ في قلبيهما الفرح والرجاء والشوق إلى سمع كلامه أيضاً كتأثير النار في الوقيد. وفي قولهما شيء من التوبيخ لهما وأنه ان يجب عليهما أن يعرفاه من جودة معرفته الكتب الإلهية وتأثير كلامه فيهما.
يُوضِحُ لَنَا ٱلْكُتُبَ هذا وصف لتبيينه لهما أنه تمت رموز الكتاب ونبواته بعمله وموته وقيامته.
٣٣ «فَقَامَا فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَا ٱلأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ، هُمْ وَٱلَّذِينَ مَعَهُم».
فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ حملهما فرحهما بمشاهدة الرب ورغبتهما في أن يشاركهما سائر التلاميذ في ذلك الفرح على الرجوع حالاً إلى أورشليم غير مكترثين بتعبهما وخطر سفرهما في الليل.
ٱلأَحَدَ عَشَرَ أُطلق هذا الاسم على جماعة الرسل بعد هلاك يهوذا الاسخريوطي بقطع النظر عن العدد لأننا نعرف من أنباء يوحنا أن توما لم يكن بينهم في تلك الليلة (يوحنا ٢٠: ٢٤) وعلى هذا الأسلوب عبّر بولس عن الأحد عشر بالاثني عشر (١كورنثوس ١٥: ٥).
مُجْتَمِعِينَ زاد يوحنا على هذا أن أبواب المكان الذي اجتمعوا فيه كانت مغلقة للخوف من اليهود (يوحنا ٢٠: ١٩).
وَٱلَّذِينَ مَعَهُمْ (أعمال ١: ١٤).
٣٤ «وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ ٱلرَّبَّ قَامَ بِٱلْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!».
١كورنثوس ١٥: ٥
إِنَّ ٱلرَّبَّ قَامَ بِٱلْحَقِيقَةِ الكلمة الجوهرية في هذه العبارة قوله «بالحقيقة» ويظهر منها أن أمر قيامة المسيح صار مرجواً بعد أن كان موضوعاً للجدال والريب وذلك لشهادة بعض التلاميذ. وأتى الاثنان بالبشرى للباقين لكنهما بُشرا قبل أن يُبشِّرا. ومما ذُكر هنا منقول عن بعض التلاميذ لا عن الكل (مرقس ١٦: ١٤ و١٥).
وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ أي بطرس وهذا وفق قول بولس (١كورنثوس ١٥: ٥) ولم نعرف تفصيل ذلك الظهور والمرجح أنه ظهر لبطرس قبل ظهوره للتلميذين اللذين كانا منطلقين إلى عمواس.
٣٥ «وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي ٱلطَّرِيقِ، وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ ٱلْخُبْز».
بعد أن سمعا كلام غيرهما بشرا بما عندهما.
عِنْدَ كَسْرِ ٱلْخُبْزِ في ذلك إشارة إلى عشائهما في عمواس حين كسر المسيح الخبز وبارك لا إلى العشاء الرباني.
ظهور المسيح لتلاميذه في أورشليم ع ٣٦ إلى ٤٣
٣٦ «وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهٰذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ، وَقَالَ لَـهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ!».
مرقس ١٦: ١٤ ويوحنا ٢٠: ١٩ و١كورنثوس ١٥: ٥
ما ذُكر هنا هو ظهور المسيح الخامس في يوم قيامته فهو ظهر (١) لمريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ١١ - ١٨) و(٢) لبقية النساء وهن راجعات من القبر (متّى ٢٨: ٩ و١٠) و(٣) لبطرس (ع ٣٤ و١كورنثوس ١٥: ٥) و(٤) للتلميذين (ع ١٣) و(٥) للتلاميذ وهو المذكور هنا وحُسب عندهم الأهم لأن البشيرين كلهم ذكروه. وقد مرّ الكلام على سائر مرات ظهوره في الشرح (متّى ٢٨: ١٧).
وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ هذا يدل على أنه ظهر لهم بغتة. وقال يوحنا أن الأبواب كانت مغلقة (يوحنا ٢٠: ١٩) واستنتج البعض مما قيل هنا أن الابواب لم تفتح له وأنه دخل وهي لم تُفتح لكن لا يلزم ذلك من الكلام فلعله قرع الباب وفتحوا له ودخل أو لعله فتحها بقوته الإلهية. وكان مراده أن يقنعهم أنه قام بالحقيقة وأن جسده لحم ودم لا خيال فكيف يمكن أن يقنعهم بذلك وهم يرون الأبواب المغلقة لم تمنعه من الدخول. فمثل ذلك لا يصدق على جسده كما عرفوا ولا على جسد بشري مما اختبروه.
وعلينا أن نلاحظ هنا أن الكتاب المقدس لم يوضح لنا أحوال جسد المسيح في المدة التي بين قيامته وصعوده ولم يخبرنا هل احتاج إلى الطعام والنوم. نعم نعتقد أنه بقي إنساناً وهو يمشي على ماء بحر طبرية وحين صام أربعين يوماً في البرية وكذلك نعتقد أنه بقي إنساناً بعد قيامته وإن لم نعلم أين بات وأين صرف معظم الوقت وهل قيت بشيء أو لا. ومعلوم أنه لم يحصل حينئذ على المجد الذي حصل عليه بعد صعوده.
سَلاَمٌ هذا لفظ التحية التي اعتاد التلاميذ أن يسمعوها منه فعرفوه بها وتحققوا منها محبته لهم ومغفرته لهم على تركهم إياه وأنه لهم بواسطته سلام مع الله.
٣٧ «فَجَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحا».
مرقس ٦: ٤٩
فَجَزِعُوا ولا عجب من أن خافوا من نظرهم إياه واقفاً حياً بينهم بعد علمهم أنه مات ودُفن لان ذلك مخالف لكل ما اختبروه في الماضي وما توقعوه في المستقبل.
رُوحاً أي خيالاً كما يزعم الناس من أن الموتى يظهرون أحياناً وظنوا نفس المسيح أخذت شبه الجسد وظهرت لهم. ومثل ذلك كان زعمهم يوم رأوه ماشياً على ماء البحر (متّى ١٤: ٢٦) وزعمهم في أمر بطرس ليلة عاد من السجن (أعمال ١٢: ١٥) وحسب الناس ظهور الأخيلة دليل على حدوث البلايا والنوازل.
٣٨ «فَقَالَ لَـهُمْ: مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟».
غاية المسيح في هذين السؤالين تسكين خوف التلاميذ وبيان أن لا علّة لاضطراب قلوبهم وأن ذلك الاضطراب لم يمنعهم عن تحقيق صحة البراهين على قيامته.
٣٩، ٤٠ «٣٩ اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَٱنْظُرُوا، فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَـهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي. ٤٠ وَحِينَ قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ».
يوحنا ٢٠: ٢٠ و٢٧
اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ كانت مكشوفة فأمنكهم أن يروها ويلمسوها وكان فيها آثار المسامير التي سُمر بها على الصليب فاستطاعوا أن يتيقنوا أنه يسوع وأنّ جسده هو الجسد الذي صُلب به واستنتجوا يقيناً أنه قام وأنهم شاهدوه حقاً لا روحه.
فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَـهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ ذكرهم بصفات الروح المعلومة المخالفة لصفات المادة ليبرهن لهم أن أفكارهم فيه أوهام وأن جسده جسد حقيقي. وأشار يوحنا إلى ما كان من يسوع هنا بقوله «ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ، ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ» (١يوحنا ١: ١).
ولا ريب في أن جسد المسيح تغيّر عند صعوده عما كان عليه قبله وفقاً لقول الرسول في ١كورنثوس ١٥: ٥.
٤١ «وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ ٱلْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ، قَالَ لَـهُمْ: أَعِنْدَكُمْ هٰهُنَا طَعَامٌ؟».
تكوين ٤٥: ٢٦، يوحنا ٢١: ٥
غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ ٱلْفَرَحِ عرفوا من اختبارهم أن الناس يميلون حالاً إلى تصديق ما يوافق إرادتهم دون براهين كافية فخافوا أن إرادتهم كون يسوع حياً تكون علّة تصديقهم قيامته كما أن سرور يعقوب بنبإ أن يوسف حي جعله يشك في صدق ذلك (تكوين ٤٥: ٢٦).
مُتَعَجِّبُونَ لأنهم انتقلوا حالاً من أعماق اليأس والحزن إلى أعالي الرجاء والمسرة لأنهم رأوا أنه قد حدث أعظم المعجزات وهو أن الميت قام وظهر والمصلوب والمدفون وقف أمامهم يخاطبهم وهم لا ينتظرون شيئاً من ذلك.
٤٢، ٤٣ «٤٢ فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ، وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. ٤٣ فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ».
أعمال ١٠: ٤١
طلب المسيح طعاماً وأكل أمامهم ليرفع كل شك من قلوبهم وليقيم لهم أوضح برهان على أنه قام وأن جسده جسد حقيقي. وأسند بطرس كلامه لكرنيليوس على قيامة المسيح إلى فعل يسوع هنا (أعمال ١٠: ٤١).
سَمَكٍ مَشْوِيٍّ... وَعَسَلٍ أي طعامهم الذي كان عندهم في البيت.
خطاب المسيح بعد قيامته وصعوده ع ٤٤ إلى ٤٩
٤٤ «وَقَالَ لَـهُمْ: هٰذَا هُوَ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ، أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِير».
متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٠: ١٨ ومرقس ٨: ٣١ وص ٩: ٢٢ و١٨: ٣١
وَقَالَ لَـهُمْ المرجح أن ما ذُكر هنا هو من خطاب المسيح مساء يوم قيامته ولكن ذهب البعض ان لوقا جمع في كلامه هنا مضمون ما علّمه المسيح تلاميذه في الأربعين يوماً التي انقضت عليه قبل صعوده. وبنى رأيه على ما قال في أعمال الرسل ١: ٨ قبل صعوده بقليل وهو وفق ما قيل هنا في ع ٤٨ و٤٩ ولكن لا مانع من أن المسيح قاله مرتين مساء يوم قيامته وقرب صعوده لأهميته.
وَقَالَ لَـهُمْ هٰذَا هُوَ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ أي ما قاله قبل موته في شأن موته وقيامته وأشار بذلك إلى أقواله المكتوبة في (متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٠: ١٨ ومرقس ٨: ٣١ ولوقا ٩: ٢٢ و١٨: ٣١ و٢٤: ٦ و٧).
نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِيرِ جمع اليهود كل أسفار العهد القديم في هذه الأقسام الثلاثة حاسبين الأسفار التاريخية مع «الأنبياء» ولا ريب في أن المسيح أوضح لتلاميذه علاوة على تفسيره النبوات معنى الطقوس والرموز وأنه علّم العشرة حينئذٍ ما علمه الاثنين وهما منطلقان إلى عمواس.
٤٥ «حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا ٱلْكُتُب».
أعمال ١٦: ١٤
فَتَحَ ذِهْنَهُمْ أي أنار عقولهم بفعل روحه لكي يدركوا المعنى الروحي لِما كُتب في العهد القديم في شأنه وشأن ملكوته وكان التلاميذ قبل أن فتح ذهنهم يعتقدون أن تلك الإشارت والنبوات كانت متعلقة بملك أرضي وملكوت منظور زمني عالمي. وما نالوه من التنوير يومئذ كان عربون التنوير الأعظم والأكمل الذي نالوه في اليوم الخمسين حين حل عليهم الروح القدس (أعمال ٢: ٢ - ٤).
ومما يثبت لنا جودة تعليم الكتاب المقدس ان المسيح لما أراد أن يبلغ تلاميذه أعظم تعاليم ملكوته قبل صعوده لم يأت بإعلان جديد مما عرفه من أسرار السماء بل اكتفى بفتح أذهانهم لإدراك الكتب المنزلة التي بين أيديهم.
٤٦ «وَقَالَ لَـهُمْ: هٰكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهٰكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ».
مزمور ٢٢ وإشعياء ٥٠: ٦ و٥٣: ٢ الخ وع ٢٦
هٰكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ أي أن الاتفاق تام بين حوادث حياة المسيح وموته والنبوات المكتوبة وذلك خلاف ما افتكروا قبلاً لأنهم ظنوا موت يسوع أبطل كل دعواه أنه المسيح الذي وعد الله به بألسنة الأنبياء.
هٰكَذَا كَانَ يَنْبَغِي لتتم مقاصد الله والنبوات. وفي ذلك بيان لضرورية موت المسيح لإيفاء عدل الله وحقه ولتحصيل خلاص العالم وذلك وفق قول الرسول «لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية ٣: ٢٦).
٤٧ «وَأَنْ يُكْرَزَ بِٱسْمِهِ بِٱلتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيم».
دانيال ٩: ٢٤ وأعمال ١٣: ٣٨ و٤٦ و١يوحنا ٢: ١٢، تكوين ١٢: ٣ ومزمور ٢٢: ٢٧ وإشعياء ٤٩: ٦ وإرميا ٣١: ٣٤ وميخا ٤: ٢ وملاخي ١: ١١
بِٱلتَّوْبَةِ بعد ما ذكر المسيح ما فعله لأجل خلاص البشر ذكر ما على الإنسان أن يفعله لكي يفوز بفوائد موته وقيامته. والتوبة مما أوجبه الأنبياء ومن قول يسوع «ينبغي أن يتم» ويظهر أنها شرط ضروري للمغفرة من كرازة يوحنا المعمدان وكرازة المسيح ورسله.
وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا تتقضي مغفرة الخطايا ثلاثة أشياء على ما قيل هنا.
- الأول: موت المسيح ليجعل المغفرة ممكنة.
- والثاني: المناداة بموت المسيح.
- والثالث: توبة الذين يسمعون. فموت المسيح وحده عن خطايا الإنسان لا يغنيه عن وجوب التوبة والإيمان لمغفرة خطاياه ومناداته ببشرى الخلاص لغيره.
بِٱسْمِهِ أي يجب على الدعاة أن يدعوا إلى التوبة والإيمان بسلطان المسيح وطوعاً لأمره (ص ٩: ٤٩ وأعمال ٤: ١٢).
لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ ذكر متّى ومرقس أن المسيح أمر بالكرازة لجميع الأمم وزاد لوقا على ذلك أنها إتمام للنبوات.
مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ قصد الله أن تعرض بشرى خلاص المسيح على اليهود (رومية ٩: ٤) ثم على سائر أهل الأرض (إشعياء ٢: ٣ ومرقس ١٦: ١٥ وأعمال ١: ٨ ورومية ١٥: ١٩) وأظهر يسوع عظمة حلمه وعفوه بطلبه ان يبشر بإنجيله في مدينة قاتليه. وكان من اللائق أن يُبتدأ التبشير في تلك المدينة لأنها مركز الديانة اليهودية التي هي مقدمة الديانة المسيحية وكان هنالك الهيكل والرموز التي كانت تشير إليه.
٤٨ «وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذٰلِكَ».
يوحنا ١٥: ٢٧ وأعمال ١: ٨ و٢٢ و٢: ٣٢ و٣: ١٥
اختار المسيح الرسل لكي يكونوا شهود عين للناس بموته وصحة قيامته وبصعوده بعده وبذلك تثبت دعواه وتعليمه وهذا علّة ظهور المسيح لهم وعدم ظهوره لبيلاطس ورؤساء الكهنة وغيرهم من اليهود. ويجب أن يكون المسيحيون كلهم شهوداً للمسيح بسيرتهم وتعليمهم.
٤٩ «وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ ٱلأَعَالِي».
إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨ ويوحنا ١٤: ١٦ و٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧ وأعمال ١: ٤ و٢: ١ الخ
هَا أَنَا أُرْسِلُ أعلن هنا يسوع مساواته للآب في إرسال الروح القدس.
مَوْعِدَ أَبِي أي الروح القدس (أعمال ١: ٤ و٥) فإنه وعد به في (إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨) والمسيح أيضاً وعد بإرساله (يوحنا ١٤: ١٦ و٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧).
أَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ ومعنى ذلك أن لا يخرجوا للمناداة بالإنجيل قبل أن يحل عليهم الروح القدس بنوع معجز. وكان ذلك في اليوم الخمسين (أعمال ١: ٨). وليس في ذلك مانع للرسل من الرجوع إلى أوطانهم في الجليل أو ليلاقوا المسيح هناك كما عين لهم.
قُوَّةً اي قوة روحية وهي نتيجة حلول الروح (أعمال ١: ٨) وهي تمكنهم من إدراك الحق وتأثير كلامهم في قلوب الناس وضمائرهم والتكلم بألسنة غريبة وصنع المعجزات إثباتاً لتعليمهم.
مِنَ ٱلأَعَالِي أي السماء مسكن الله ومصدر كل بركة روحية. وتم هذا الوعد بعد خمسين يوماً من قيامة المسيح أعمال ص ٢.
صعود المسيح ع ٥٠ إلى ٥٢
٥٠ «وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُم».
أعمال ١: ١٢
وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً أي من مدينة أورشليم وهو منطلق أمامهم كما كان يفعل قبل موته. وحدث ما قيل هنا وفي العددين التاليين بعد القيامة بأربعين يوماً. ولكن حدث في الأيام الثمانية بعد قيامته أنه ظهر أيضاً للتلاميذ في أورشليم وكان توما معهم (يوحنا ٢٠: ٢٤ - ٢٩). ثم بعد ذلك ظهر لسبعة تلاميذ في الجليل (يوحنا ٢١: ١ - ٢٤) وظهر أيضاً في الجليل نحو ٥٠٠ أخ (متّى ٢٨: ١٦ - ٢٤ و١كورنثوس ١٥: ٦) وبعد ذلك لجميع الرسل (أعمال ١: ٣ - ٨) ولعلّ علّة عدم ذكر لوقا تلك الظهورات بالتفصيل قصد أن يكتبها مفصلة كما فعل في مقدمة أعمال الرسل.
إِلَى بَيْتِ عَنْيَا يظهر من متّى ٢١: ١ ومن أعمال ١: ١٢ أن صعود المسيح لم يحدث في بيت عنيا عينها بل في القرب منها على جبل الزيتون. وبيت عنيا على سفح ذلك الجبل الشرقي واختار الصعود قرب بيت عنيا لكي لا يراه أهل أورشليم.
وَرَفَعَ يَدَيْهِ علامة للبركة (لاويين ٩: ٢٢). ومضمون تلك البركة وهو منطلق من العالم كمضمون ترنيمة الملائكة وهو آت إلى العالم طفلاً وهو قولهم «على الأرض السلام وفي الناس المسرة».
٥١ «وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ».
٢ملوك ٢: ١١ ومرقس ١٦: ١٩ ويوحنا ٢٠: ١٧ وأعمال ١: ٩ وأفسس ٤: ٨
انظر الشرح مرقس ١٦: ١٩.
وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ما برح يباركهم وهو صاعد.
ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ بصعوده حتى حجبته السحابة (أعمال ١: ٩).
وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ أي رُفع جسده إلى حيث يظهر الله مجده ويسكن الملائكة والقديسون وهو محل القداسة والسعادة وهناك يجلس هو على يمين العظمة (عبرانيين ١: ٣ و٨: ١) وعرفوا أنه رُفع إلى السماء بعد احتجابه عنهم من نبإ الملاكين فإنهما أنبأهما أنه سينزل كما صعد (أعمال ١: ٩ - ١١).
فلو غاب المسيح عن تلاميذه وهم لا يشاهدونه صاعداً لخسروا فوائد كثيرة لأن صعوده أثر كثيراً في ذاكرتهم وقوّى إيمانهم بأنه حي وملك ودفع دعوى كل المقاومين أنه مات كسائر الناس.
وانتهت بصعود المسيح أنباء حياته الجسدية على الأرض وكل أيام اتضاعه وهذا آخر معجزاته التي تثبت لاهوته. ولم يشاهده صاعداً سوى رسله الذين اختارهم شهوداً له. وحينئذ أجيبت صلاته التي هي قوله «وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٧: ٥) وتنبأ المسيح بهذا الصعود قبل موته (يوحنا ٦: ٦٢ و٢٠: ١٧) وشهد الرسل به (أعمال ٢: ٣٣ و٣٤ وأفسس ٢: ٦ و٤: ١٠ و١تيموثاوس ٣: ١٦ و١بطرس ٣: ٢٢).
ووجود المسيح في السماء بالجسد لا يمنع حضوره بالروح مع شعبه على الأرض حسب وعده وهو قوله «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (يوحنا ٢٨: ٢٠) فليس صعوده انفصالاً عن شعبه لكنه بداءة ملكه رأساً للكنيسة التي هي جسده (أفسس ١: ٢٢) ودخل السماء «كسابق لأجلنا» (عبرانيين ٦: ٢٠) وليعد لنا مكاناً (متّى ١٤: ٢) ويشفع فينا عند الآب (عبرانيين ٩: ٢٤ و١يوحنا ٢: ١).
٥٢ «فَسَجَدُوا لَـهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ».
متّى ٢٨: ٩ و١٧
فَسَجَدُوا لَـهُ باعتبار أنه هو الله وأتوا ذلك وهو صاعد وبعد ما غاب عن عيونهم. وهذا الكلام يدل على أنهم اعتبروه اعتباراً أعظم مما سبق وحسبوه مستحقاً أعظم العبادة المختصة بالله وحده.
بِفَرَحٍ عَظِيمٍ هذا وفق قول المسيح في بشارة يوحنا ١٦: ٢٠ و٢٢ ومواضيع فرحهم أنه ارتفع عنهم منتصراً وهو يباركهم. وفرحوا بارتفاعه ومجده وبوعده بإرسال روحه ودوام حضوره الروحي بينهم ولا سيما انتظارهم مجيئه ثانية بالمجد. ومن جملة ما أفرحهم زوال شكوكهم ورؤيتهم جلياً أن تنازل سيدهم وآلامه وموته جزء من عمله العظيم لفداء العالم.
حال الرسل بعد صعود المسيح وقبل عيد الخمسين ع ٥٣
٥٣ «وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ ٱللّٰهَ. آمِينَ».
أعمال ٢: ٤٦ و٥: ٤٢
وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ أي في الساعات المعينة للعبادة صباحاً ومساء (أعمال ٢: ٤٦ و٣: ١ و٥: ٢١) وشغلوا أوقاتهم بالخدمة الدينية استعداداً لما توقعوه من حلول الروح القدس عليهم الذي حل عليهم بعد عشرة أيام للصعود.
وليس في ما قيل هنا منافاة لما قيل في سفر الأعمال (أعمال ١: ١٣) لأن ذلك كان في سوى الأوقات التي شغلوها بالصلاة في الهيكل.
يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ ٱللّٰهَ لأنه أرسل يسوع فادياً للعالم ولأجل كل ما صنع به لإتمام الفداء ولأجل الآمال المبنية عليه ومواعيده لهم ولعالم الخطأة.
Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D-70007
Stuttgart
Germany