المقدمة: وفيها أربعة فصول
الفصل الأول: في الكاتب
ذكر كاتب هذا الإنجيل في العهد الجديد باسمين مرقس (وهو اسم لاتيني) ويوحنا (وهو اسم يهودي) بدليل قول لوقا «ثُمَّ جَاءَ وَهُوَ مُنْتَبِهٌ إِلَى بَيْتِ مَرْيَمَ أُمِّ يُوحَنَّا ٱلْمُلَقَّبِ مَرْقُسَ» أعمال ١٢: ١٢) ومثله قوله في أعمال ١٢: ٢٥ و١٥: ٣٧ وغلب الاسم اللاتيني على الاسم العبراني لأن أكثر خدمته كان بين الأمم (كولوسي ٤: ١٠ و٢تيموثاوس ٤: ١١ وفليمون ع ٢٤ و١بطرس ٥: ١٣). وتغير اسمه العبراني بالتدريج فسُمي في أول الكلام عليه بالاسمين يوحنا ومرقس (أعمال ١٢: ١٢ و٢٥ و١٥: ٣٧) ثم رجعوا بعد ذلك إلى يوحنا (أعمال ١٣: ٥ و١٣) ثم عادوا إلى مرقس (أعمال ١٥: ٣٩ وكولوسي ٤: ١٠).
فبدل مرقس من يوحنا كبدل بولس من شاول. وكان مرقس يهودياً في الأصل والأرجح أنه ولد في أورشليم. وكان اسم أمه مريم وهي امرأة مسيحية كانت ساكنة في أورشليم وكان بيتها مجتمع الإخوة للصلاة (أعمال ١٢: ١٢). ومن ذلك استنتج المفسرون أنها كانت غنية كأخيها بالنسبة إلى سائر المؤمنين يومئذ. وكان ابن أخت برنابا (كولوسي ٤: ١٠). فهو من سبط لاوي بالنسبة إلى أمه إن لم يكن كذلك بالنسبة إلى أبيه. ودعاه بطرس ابنه (١بطرس ٥: ١٣) ولا نعلم أَ لقرابة جسدية دعاه كذلك أم لنسبة روحية. ويحتمل أن بطرس أرشده إلى المسيح فكان له أباً روحياً أو دعاه ابناً إظهاراً لمحبته إياه. وذهب مع بولس وبرنابا يوم ذهبا من أورشليم إلى أنطاكية (أعمال ١٢: ٢٥) ورافقهما خادماً في سفرهما الاول للتبشير سنة ٤٨ ب. م (أعمال ١٣: ٥) لكنه تركهما في برجة وعاد إلى بيته لعلة لم تُعلم (أعمال ١٣: ١٣). ولما عزم بولس وبرنابا على السفر للتبشير أراد برنابا أن يأخذ مرقس معه وأبى بولس ذلك لأنه تركهما في السَفر الأول (أعمال ١٥: ٣٧ - ٤٠) وكان ذلك علة انفصالهما يومئذ. فرافق برنابا إلى قبرس سنة ٥٢ ب. م وكان بعد ذلك بثماني سنين مع بطرس في بابل (١بطرس ٥: ١٣). وكان بعد ذلك بأربع سنين أي سنة ٦٤ ب. م مع بولس في أول سجنه في رومية (كولوسي ٤: ١٠ وفيلبي ٤: ٢٤) وكان عازماً على الذهاب إلى كولوسي (كولوسي ٤: ١٠) وكان بعد ذلك بسنتين أي سنة ٦٦ ب. م مع تيموثاوس في أفسس وكان بولس راضياً عنه كما يظهر من قوله لتيموثاوس «خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ» (٢تيموثاوس ٤: ١١).
وظن بعضهم أنه ذهب بعد ذلك إلى الإسكندرية ومات شهيداً ودُفن هناك وأن جسده نُقل بعد ذلك إلى مدينة البندقية في إيطاليا.
الفصل الثاني: في زمان كتابة إنجيل مرقس ومكانها
لا واسطة لتحقيق زمن كتابة الإنجيل لكن نعلم أنه كُتب قبل خراب أورشليم إذ لا إشارة فيه إلى أنها كانت قد أُخربت. والأرجح أنه كُتب بين سنة ٦٣ ب. م وسنة ٦٨ ب. م. ولا دليل على مكان كتابته. وظن أنه كُتب في أنطاكية وظن غيرهم أنه كُتب في الإسكندرية أو في بابل المصرية.
الفصل الثالث: في مصدر علم مرقس بما كتبه في بشارته
لم يُعلم حق العلم من أين أخذ مرقس أنباء بشارته لأنه ليس برسول ولم يُذكر اسمه بين تلاميذ المسيح في كل المدة التي كان فيها المسيح على الأرض. وظن البعض أنه واحد من السبعين الذين أرسلهم المسيح للتبشير والذي حملهم على ذلك الظن تدقيقه في ذكر الحوادث كشاهد عين. ورجّح المؤرخون المسيحيون الأولون على أن مرقس كتب بشارته بإرشاد بطرس الرسول. ويوافق ذلك أنه كان رفيق بطرس يوم كتب رسالته الأولى في بابل (١بطرس ٥: ١٣). وأنه كان محبوباً لديه بدليل دعوته إياه ابناً. فلا بد من أنه سمع كلام بطرس في المسيح ومواعظه مراراً كثيرة. فسهل على مرقس كتابة ما سمعه من بطرس لأن ما كتبه مرقس لا بد من أنه نقله عمّن نظر ما ذكر بعينيه وسمعه بأذنيه فيقرب كل القرب إلى العقل أن الذي نقل عنه هو بطرس. وقول بطرس «أَجْتَهِدُ أَيْضاً أَنْ تَكُونُوا بَعْدَ خُرُوجِي تَتَذَكَّرُونَ كُلَّ حِينٍ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ. لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ» (٢بطرس ١: ١٥ و١٦) يدل على قصده أنه اشترك في مثل عمل مرقس. ومن المعلوم أن مرقس كان رفيق بولس زماناً فلا بد من أنه سمع كلامه في المسيح ومواعظه وعلى ذلك كان مرقس متعلماً من رسول اليهود بطرس ورسول الأمم بولس. والأرجح أن إنجيل مرقس مختصر تعليم بطرس في تبشيره ومواعظه العامة.
الفصل الرابع: في خواص بشارة مرقس
- الأول: الأرجح أن تلك البشارة كُتبت لقراء الرومانيين مع أنها كُتبت باللغة اليونانية وعلى ذلك ستة أدلة:
- قلّة ما اقتبس فيها من العهد القديم ولو كتبت لليهود لكان الأمر خلاف ذلك.
- عدم وجود جدول نسب للمسيح كما في متّى ولوقا.
- ترجمة الكلمات العبرانية والسريانية إلى اليونانية وبسطه الكلام على الأماكن اليهودية مثل تبيينه أن الأردن نهر وأن جبل الزيتون كان تجاه الهيكل وتفصيله العوائد اليهودية.
- استعماله كثيراً من الألفاظ اللاتينية وذكره النقود الرومانية دون غيرها.
- ذكره كلام المسيح وأعماله بأسلوب يحسن للرومانيين وهم أمة تحب النصر والسلطان. فعبر عن المسيح بملك منتصر وذي قوة إلهية يخضع العالم لأمره ويتوقع أن يتسلط على كل المخلوقات.
- قوله في سمعان القيرواني أنه أبو اسكندر وروفس (ص ١٥: ٢١) وهما مسيحيان كانا ساكنين في رومية (رومية ١٦: ١٣). ولو لم يكتب إنجيله إلى الرومانيين لم يكن من داع إلى ذكر ذينك الرجلين.
- الثاني: أن تلك البشارة أقصر البشائر الأربع لم يذكر فيها شيئاً من أنباء المسيح قبل شروعه في التبشير إلا ما يتعلق بإنبائه بيوحنا المعمدان. ولم يذكر سوى تسع عشرة معجزة من المعجزات السبع والثلاثين التي ذكرت في البشائر. ولم يذكر ثمانية أمثال من أحد وثلاثين مثلاً ذُكرت كذلك.
- الثالث: أن هذه البشارة تمتاز عن بقية البشائر بأنه لم يُذكر فيها سوى قليل من مواعظ المسيح بالنسبة إلى ما ذكره غيره منها. فأكثر إنجيل يوحنا وثلاثة أرباع إنجيل متّى من تعاليم المسيح. وأما مرقس فنصف كلامه في تعليم المسيح ونصفه الآخر في أعماله. وكان يذكر في أنبائه بأعمال المسيح إشاراته وإمارت وجهه وتنهده وانفعالاته في أثناء العمل. وكثيراً ما ذكر في أنبائه بتعليمه ألفاظ المسيح عينها. واعتزل ذكر الشواهد من العهد القديم إلا ما ندر.
- الرابع: أن هذه البشارة امتازت عن سار البشائر ببذل كاتبها عنايته في بيان أسماء الأشخاص والأماكن والازمنة والعدد حتى يتمكن القارئ أن يتصور ما ذكره مرقس كأنه حدث أمامه. ولم يذكر أمراُ مما ذكره متّى ولوقا إلا زاده إيضاحاً وتفصيلاً. وهذا دليل على أنه لم ينقل أنباءه عن سائر البشيرين.
- الخامس: أن في هذه البشارة أنباء بمعجزتين لم يذكرهما غيره من الإنجيليين وهما شفاء الأصم الأخرس وإبراء الأعمى في بيت صيدا. ففيها أربع وعشرون آية لم يُذكر معناها في بشارتي متّى ولوقا. وفيها أيضاً مثلان لم يذكرهما غيره أحدهما مثل الزرع الذي يزرع خفية (ص ٤: ٢٦) والآخر مثل رب البيت (ص ١٣: ٣٤). وفيها وحدها ذُكر صياح الديك مرتين في أثناء إنكار بطرس ليسوع.
- السادس: أنه اعتنى فيها بترتيب زمان الحوادث أكثر مما اعتنى به في بشارتي متّى ولوقا فإنهما جمعما الحوادث المتشابهة بقطع النظر عن وقت حدوثها.
- السابع: أن مرقس شابه في هذه البشارة متّى ولوقا بأن ذكر أعمال المسيح ومواعظه في الجليل ولم يذكر من أعماله ومواعظه في اليهودية إلا ما كان منها بين بلوغه الأخير إلى اليهودية وموته فيها.
ولا دليل على أن مرقس نقل شيئاً مما كتبه متّى ولوقا ولا مما هو أقدم منه ولكن الدليل على أنه كان مستقلاً بكتابته. ولا برهان على أنه كتب بشارته أولاً باللاتينية.
الأصحاح الأول
يوحنا المعمدان وتعليمه من ع ١ إلى ٨ (سنة ٢٦ و٢٧ ب. م)
١ «بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ».
متّى ١٤: ٣٣ ولوقا ١: ٣٥ ويوحنا ١: ٣٤
هذا العدد كله عنوان هذه البشارة
بَدْءُ بدء الإنجيل الأصلي هو مقاصد الله الأزلية المتعلقة بخلق الإنسان وفدائه بعد السقوط بواسطة موت ابنه الإنسان يسوع المسيح. وكان بدء إظهار الإنجيل يوم سقوط الإنسان وتوقف الله عن عقابه ووعده الوعد الأول بالفادي. ويمكن الكاتب أن يجعل بدء الإنجيل ميلاد الفادي يسوع المسيح أو أول ممارسته خدمته العلنية. فاختار مرقس أن يجعل بدء الإنجيل الأمر الأخير بخلاف متّى فإنه ابتدأ بذكر نسب المسيح وبخلاف لوقا فإنه ابتدأ بذكر ميلاد المسيح وبخلاف يوحنا فإنه ابتدأ بذكر الكلمة الأزلية قبل إنشاء العالم.
إِنْجِيلِ وردت هذه اللفظة خمساً وسبعين مرة في العهد الجديد ومعناها الأصلي بشارة أي خبر سارّ. وجاء الإنجيل في تلك المرار لثلاثة معانٍ:
- الأول: الخبر السار بملكوت الله على الأرض (متّى ٤: ٢٣ ومرقس ١: ١٤).
- الثاني: خبر يسوع وعمله الفداء شفاهاً وكتابة (٢تيموثاوس ٢: ٨).
- الثالث: دين المسيح كله (١كورنثوس ١٥: ١)
يَسُوعَ أي مخلص (متّى ١: ٢١)
ٱلْمَسِيحِ أي الممسوح (متّى ١: ١)
ٱبْنِ ٱللّٰهِ كتب متّى إلى اليهود فبيّن لهم أن يسوع هو المسيح الموعود في نبوءات العهد القديم باقتباس خمساً وسبعين نبوءة تمت به. فكان عليه أن يبين لهم أن يسوع ابن داود وابن إبراهيم بموجب تلك النبوءات. وأما مرقس فكتب إلى الأمم فأخذ يبين أن يسوع ابن الله وسماه كذلك وبرهن على ذلك بأعمال يسوع الخارقة الطبيعة في ما أظهره من الرحمة والانتصار على الأعداء. وليس المراد بكون المسيح ابن الله إنه مخلوق كما ورد بعض الأحيان أو أنه مجرد محبوب إليه تعالى بل المراد به النسبة الأزلية أي أن جوهر الابن هو جوهر الآب وأنه مساوٍ له في القدرة والمجد (متّى ٣: ١٧ ويوحنا ٥: ١٨).
٢، ٣ «٢ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَنْبِيَاءِ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. ٣ صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، ٱصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».
ملاخي ٣: ١ ومتّى ١١: ١ ولوقا ٧: ٢٧، إشعياء ٤٠: ٣ ومتّى ٣: ٣ ولوقا ٣: ٤ ويوحنا ١: ١٥ و٢٣
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَنْبِيَاءِ علق مرقس هنا بدء إنجيل يسوع المسيح بنهاية العهد القديم. وقرن شهادة آخر الأنبياء بشهادة سابق المسيح مع أنه كان بينهما نحو أربع مئة سنة والمشهود له بالشهادتين واحد. ومصدرهما الأصلي واحد وهو روح الله. والمراد بالأنبياء هنا كتاب نبوءاتهم لأن الشهادة من اثنين منهم وهما ملاخي وإشعياء (ملاخي ٣: ١ وإشعياء ٤٠: ٣) فجمع شهادتي هذين شهادة واحدة مع أن أحدهما كان قبل الآخر بنحو ٣٦٠ سنة وعلة ذلك وحدة الموضوع.
هَا أَنَا أُرْسِلُ هذا قول الله الآب.
أَمَامَ وَجْهِكَ المخاطب هنا يسوع المسيح الذي سمي في نبوءة ملاخي ملاك العهد ورب الهيكل.
مَلاَكِي أي رسولي وهو يوحنا المعمدان كما قال المسيح (متّى ١١: ١٠).
يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ (انظر شرح متّى ٣: ٣ و٤). إن العالم فسد فلذلك لم يكن مستعداً لقبول ملاك عهد الرحمة الإلهية ما لم يأته أولاً ملاك التوبيح والإنذار ليعد له الطريق.
٤ «كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا».
متّى ٣: ١ ولوقا ٣: ٣ ويوحنا ٣: ٢٣
كَانَ يُوحَنَّا ذكر مرقس يوحنا متمماً للنبوءتين السابقتين وجعل كرازة يوحنا المعمدان مقدمة لإنجيل يسوع وجزءاً منه.
يُعَمِّدُ أي يمارس خدمته التي كانت المعمودية إشارة إليها وختماً لها.
فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أي برية يهوذا (متّى ٣: ١).
وَيَكْرِزُ أي ينادي بمعمودية التوبة ويدعو الناس إلى قبولها.
بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ هي وضع الماء على الشخص إشارة إلى توبته عن الخطيئة وكرهه إياها وإصلاح سيرته. والتطهير بالماء رمز إلى التطهير الواجب في القلب وفي السيرة. ولا تنفع هذه المعمودية الإنسان ما لم تقترن بها المعمودية بالروح القدس.
لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا أي رفع القصاص التي توجبه الخطيئة عن الإنسان ومنعها من الاستيلاء عليه وتطهير قلبه من دنسها (متّى ٢٦: ٢٨). والتوبة استعداد لنوال المغفرة والشرط الضروري لمنح المسيح إياها. وكما كان عمل يوحنا استعداداً للمعمودية المسيحية.
والمسيح بعد ما قام من الموت وكّل تلاميذه أن ينادوا لكل أمم الأرض بما كرز به يوحنا (لوقا ٢٤: ٤٧).
٥ «وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَٱعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ ٱلأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ».
متّى ٣: ٥ و٦
بعد أن ذكر مرقس محل كرازة يوحنا وماهيتها أخذ يبين كيف قبلها الناس.
جَمِيعُ كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ أي كل سكانها (متّى ٣: ٥). ويتضح لنا من ذلك أن أتى إليه جموع كثيرة ومن جملة من خرج إليه الفريسيون والصدوقيون (متّى ٣: ٧) والعشارون (لوقا ٣: ١٢) وأغنياء وفقراء (لوقا ٣: ١٠).
فِي نَهْرِ ٱلأُرْدُنِّ تبيين مرقس أن الأردن نهر من الأدلة على أنه كتب إنجيله إلى الرومانيين لا لليهود. والأردن أكبر نهر في فلسطين منبعه في حضيض جبل حرمون (أي جبل الشيخ) يمرّ في بحيرتين بحيرة ميروم (أي بحيرة الحولة) وبحيرة طبرية ومصبه في بحر لوط. طوله نحو ثلاث مئة ميل وهو كثير التعاريج عميق الماء سريع الجريان وواديه أخفض من سطح البحر المتوسط. والأرجح أن علة ذهاب الناس إلى الأردن ليعتمدوا كونه أقرب مكان فيه ماء من البرية التي كان يكرز فيها واحتياج تلك الجموع إلى كثير من الماء للقيام بلوازمهم ولوازم دوابهم فليس هو بدليل على كيفية معمودية يوحنا.
٦ «وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ ٱلإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقَوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّا».
متّى ٣: ٤ لاويين ١١: ٢٢
ذكر مرقس هنا ملبوس يوحنا ومأكوله كما ذكره متّى (متّى ٣: ٤). وكان كلاهما مناسباً لدعوته الناس إلى التوبة ولكونه شبيه إيليا.
٧، ٨ «٧ وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً: يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. ٨ أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِٱلْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
متّى ٣: ١١ ويوحنا ١: ٢٧ وأعمال ١٣: ٢٥، أعمال ١: ٥ و١١: ١٦ و١٩: ٤، إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨ وأعمال ٢: ٤ و١٠: ٤٥ و١١: ١٥ و١٦ و١كورنثوس ١٢: ١٣
اقتصر مرقس على خلاصة مناداة يوحنا فكان كلامه على ذلك أقصر من كلام متّى عليه (متّى ٣: ٧ - ١٠) وأقصر من كلام لوقا (لوقا ٣: ٧ - ١٥). ومضمون تلك الخلاصة أمران:
- الأول: أنّ مقام يوحنا دون مقام المسيح أي أنه لم يكن السيّد بل العبد وأن الفرق بينه وبين يسوع المسيح أعظم من الفرق بين السيّد وأدنى عبيده.
- والثاني: أنّ خدمة يوحنا كانت استعداداً لخدمة المسيح ودونها ويظهر ذلك بمقابلة أعمال أحدهما بأعمال الآخر. فإن يوحنا عمّد أجساد الناس بالماء وهو مادّة بلا حياة وبلا قوة على منحها. وأما يسوع فعمّد نفوس الناس بروح محيٍ غير محدود في القدرة.
أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ يظهر لنا من تعبير مرقس عن كلام يوحنا المعمدان أنه كان يعتني بالإيضاح أكثر من سائر البشيرين فإن متّى اكتفى بذكره قول يوحنا المعمدان «احمل حذاءه» واكتفى كل من لوقا ويوحنا بقوله «أحل سيور حذائه». ولكن مرقس ذكر فوق ذلك انحناءه ليحل السيور. ولا منافاة في أقوالهم لأن الخادم الذي يحمل في البيت حذاء المخدوم القادم من سفر لا بد من أن ينحني أولاً ويحل سيوره.
معمودية يسوع ع ٩ إلى ١١ (سنة ٢٧ ب. م)
٩ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ ٱلْجَلِيلِ وَٱعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي ٱلأُرْدُنِّ».
متّى ٣: ١٣ ولوقا ٣: ٢١
فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي أيام خدمة يوحنا. والأرجح أن ذاك بعد ستة أشهر من بداءة تلك الخدمة وكان المسيح حيئنذ في سن الثلاثين (لوقا ٣: ٢٣) وهو السن الذي دخل فيه اللاويون إلى خدمتهم وكان ذلك سنة ٢٧ ب. م لأن الفرق بين الحساب المعتاد والحساب الصحيح أربع سنين كما سبق الكلام عليه في متّى ٢: ١.
نَاصِرَةِ ٱلْجَلِيلِ ذكر متّى أنه جاء من قطيعة الجليل ولكن مرقس عيّن القرية التي أتى يسوع منها وهي في واد يحيط به تلال شمالي سهل يزرعيل الذي هو مرج ابن عامرّ وهي على منتصف المسافة بين بحر الروم غرباً والأردن شرقاً. سكن فيها يوسف ومريم قبل ميلاد يسوع (لوقا ١: ٢٦ و٢٧). ورجعا إليها بعد مجيئهما من مصر (متّى ٢: ٢٣).
انتقل مرقس من الكلام على خدمة يوحنا إلى الكلام على خدمة يسوع بذكره تعميد يوحنا له وهو أعظم أعمال المعمدان. وكان ذلك التعميد إدخال يسوع إلى وظيفته.
وَٱعْتَمَدَ مرّ الكلام على غاية هذه المعمودية في إنجيل متّى ٣: ١٤ و١٥ وخلاصتها ستة أمور:
- الأول: الاعتبار ليوحنا وخدمته.
- الثاني: بيان نسبة يوحنا إلى المسيح بأن الأول سابق والثاني الأصل.
- الثالث: جعل المسيح نفسه كواحد من الناس أتى ليخلصهم سوى أنه كان لا يعرف الخطيئة ولم يعترف بها (متّى ١: ٢١).
- الرابع: اتضاع المسيح وخضوعه للناموس (متّى ٣: ١٥).
- الخامس: رسم المسيح علانية لممارسة وظيفته بالمعمودية وبحلول الروح القدس عليه في أثر ذلك.
- السادس: فرصة للإعلان السماوي ليوحنا وللجموع بأن يسوع هو المسيح ابن الله.
١٠ «وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ ٱلْمَاءِ رَأَى ٱلسَّمَاوَاتِ قَدِ ٱنْشَقَّتْ، وَٱلرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ».
متّى ٣: ١٦ ويوحنا ١: ٣٢
وَلِلْوَقْتِ استعمل مرقس هذا اللفظ كثيراً وذكره في الأصحاح الأول تسع مرات وفي كل بشارته إحدى وأربعين مرة.
مِثْلَ حَمَامَةٍ (انظر شرح متّى ٣: ١٦) وكان نزول الروح مثل حمامة إعلاناً أن يسوع هو المسيح وشهادة بمسرة الله بعمله. وقول مرقس يدل على أن الذي رأى ذلك يسوع لكن يوحنا الرسول قال إنه كان علامة ليوحنا المعمدان تحقق بها أن يسوع هو المسيح (يوحنا ١: ٣٢ و٣٣).
١١ «وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ: أَنْتَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ!».
مزمور ٢: ٧ ومتّى ٣: ١٧ وص ٩: ٧ ويوحنا ٣: ٣٥
(انظر شرح متّى ٣: ١٧) كان ذلك الصوت:
- إعلاناً عاماً أن يسوع هو المسيح ابن الله.
- إظهاراً لمحبة الآب ابنه محبة عظيمة كانت منذ الأزل.
- إظهاراً لرضى الآب التام بإتيان يسوع مخلصاً للعالم الهالك وقبوله تعالى المسيح وسيطاً في وظائفه الثلاث أي في كونه نبياً وكاهناً وملكاً.
تجربة يسوع ع ١٢ و١٣
١٢، ١٣ «١٢ وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ ٱلرُّوحُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ، ١٣ وَكَانَ هُنَاكَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ ٱلْوُحُوشِ. وَصَارَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ».
متّى ٤: ١ ولوقا ٤: ١، متّى ٤: ١١
سبق الكلام على تجربة يسوع في شرح متّى ٤: ١ - ١١. ولكن مرقس اقتصر على ذكر حوادث التجربة إجمالاً ومتّى ذكرها تفصيلاً. وهذه التجربة كالمعمودية في كونها استعداداً لخدمة المسيح العلنية مع أنه يصح أن تحسب جزءاً من تلك الخدمة.
أَخْرَجَهُ هذا يدل على أن الروح القدس ألجأ المسيح على الإسراع إلى محل التجربة.
إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ هذه إما برية يهوذا حيث كان يبشر يوحنا أو برية التيه حيث صام موسى وإيليا أربعين يوماً (خروج ٢٤: ١٨ و١ملوك ١٩: ٨).
أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ يظهر من كلام مرقس هنا ومن كلام لوقا (لوقا ٤: ٢) أن التجربة بقيت مدة الأيام الأربعين كلها. وذكر متّى التجربة كأنها حدثت عند نهاية تلك المدة لكن لا منافاة بينهم لأن متّى اقتصر على ذكر ثلاث من تجارب المسيح امتازت عن غيرها في الشدة وظهور المجرب للعيان بقطع النظر عما أتاه الشيطان من الوساوس أما مرقس ولوقا فعنى ذلك كل منهما.
ٱلشَّيْطَانِ أي الخصم أو المقاوم وهو عدو الله والناس. وسماه متّى ولوقا إبليس أي القاذف المشتكي لأنه يشكو الله إلى الناس (تكوين ٣: ١ - ٥). ويشكو الناس إلى الله (أيوب ١: ٩ - ١١ ورؤيا ١٢: ١٠).
وَكَانَ مَعَ ٱلْوُحُوشِ لم يذكر ذلك أحد من الإنجيليين سوى مرقس وهو لم يذكر أن المسيح كان صائماً يومئذ. وقوله كان مع الوحوش يدل على أن المسيح كان في جزء وحش من تلك البرية بعيداً عن مساكن الناس والمساعدة البشرية. ولعلّ تلك الوحوش نماراً وأدباباً وذئاباً وربما كان هنالك أسود. وذكر مرقس هذا ليظهر هول تلك البرية التي ظن الشيطان أنه يسهل عليه بها أن يغلب المسيح أو ليبين سلطان آدم الثاني على الوحوش.
ٱلْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ بإعطائهم إياه الطعام بعد صومه الطويل (متّى ٤: ١) لأنه لم يأكل شيئاً مدة أربعين يوماً (لوقا ٤: ٢). وفي ذلك تعزية لكل معرض لتجارب الشيطان لأنه قابل أن يحصل على خدمة الملائكة.
كرازة يسوع بالملكوت الجديد ع ١٤ و١٥
١٤ «وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
متّى ٤: ١٢ و٢٣
أُسْلِمَ يُوحَنَّا أي سُجن بأمر هيرودس. وقد مرّ الكلام على ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ١٤: ٣). ولمّح مرقس بسجن يوحنا هنا وذكر أسبابه في ص ٦: ١٧ - ٢٠.
جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْجَلِيلِ (متّى ٤: ١٢ و١٣) أتى إولاً إلى الناصرة ثم إلى كفرناحوم وكانت علة تركه اليهودية ومجيئه إلى الجليل مقاومة فريسي اليهودية إياه وزيادة ميل الجليليين إلى قبوله وسمع كلامه على ميل اليهوديين إلى ذلك.
بِشَارَةِ مَلَكُوتِ ٱللّٰه أي الخبر السار بأن ملك المسيح المنتظر زمناً طويلاً قد بدأ.
١٥ «وَيَقُولُ: قَدْ كَمَلَ ٱلّزَمَانُ وَٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِٱلإِنْجِيلِ».
دانيال ٩: ٢٥ وغلاطية ٤: ٤ وأفسس ١: ١٠، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧
قَدْ كَمَلَ ٱلّزَمَانُ هذا وفق قول بولس «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ» (غلاطية ٤: ٤) و «مِلْءِ ٱلأَزْمِنَةِ» (أفسس ١: ١٠). وهو زمان مجيء المسيح الذي عينه الله بقضائه الأزلي وأنبأ به بفم نبيه دانيال (دانيال ٩: ٢٤ - ٢٧). ومجيء المسيح الثاني معيّن كمجيئه الأول ولا بد من أن يأتي كما أتى ذاك.
مَلَكُوتُ ٱللّٰه وسمى متّى ذلك الملكوت في الغالب ملكوت السموات إشارة إلى محل إظهار سلطان الله ومجده. وكلاهما بمعنى واحد هو ملك المسيح.
فَتُوبُوا (متّى ٤: ٧أ) اتفق كل رسل الله على هذه الدعوة منذ أيام نوح.
وَآمِنُوا بِٱلإِنْجِيلِ زاد مرقس هذا على قول متّى والتوبة والإيمان من جوهريات الإنجيل يجب على كل خلفاء المسيح في التبشير أن ينادوا بهما والذي كان على الناس أن يؤمنوا به حيئنذ هو أنه «قَدْ كَمَلَ ٱلّزَمَانُ» وأتى المسيح الموعود به.
دعوة المسيح أربعة تلاميذ ع ١٦ إلى ٢٠
١٦ - ١٨ «١٦ وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي ٱلْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. ١٧ فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ. ١٨ فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ».
متّى ٤: ١٨ ولوقا ٥: ٤، متّى ١٩: ٢٧ ولوقا ٥: ١١
مرّ الكلام على دعوة سمعان بطرس وأندراوس في شرح متّى ٤: ١٨ - ٢٢.
صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ أي مبشرين بالإنجيل. ويتبين لنا من قول المسيح هنا ومن عمله أربع صفات ضرورية لكل مبشر بالإنجيل.
- الأولى: أن يكون مدعواً من الله كما دُعي هذان من المسيح. ومن لم يُدع كذلك فليس أهلاً لأن يبشر بكلمة الله بدليل قوله «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا» الخ.
- الثانية: أن يكون ذا غيرة واجتهاد ليأتي بالناس من العالم إلى الكنيسة والخلاص كما يجتهد الصيادون أن يأتوا بالسمك من البحر إلى الشبكة.
- الثالثة: أن يكون له في صيد النفوس الصفات التي تجعل الصياد ناجحاً في صيد السمك كمعرفته بعوائد ما يصطاده وحكمته في الصيد واستعداده للتعب وصبره وإقدامه على الخطر وأمله النجاح وثباته في عمله.
- الرابعة: أن يتحقق نجاح عمله إذا كان أميناً مجتهداً أكثر مما يتحقق صيادو السمك من أشد أتعابهم في صيد السمك (إشعياء ٥٥: ١١ و١كورنثوس ١٥: ٥٨).
١٩، ٢٠ «١٩ ثُمَّ ٱجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي ٱلسَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ ٱلشِّبَاكَ. ٢٠ فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي ٱلسَّفِينَةِ مَعَ ٱلأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَه».
متّى ٤: ٢١
مَعَ ٱلأَجْرَى اقتصر متّى على ذكره أن يوحنا ويعقوب تركا أباهما زبدي وتبعا المسيح. وزاد مرقس على ذلك أنهما لم يتركاه وحده وهو في حال الاحتياج إليهما بل تركوه وعنده أجراء. وهذا يدل على أنهما لم يتركا أباهما لقساوة أو عدم اكتراث بواجباتهما له وعلى أن عائلتهما لم تكن فقيرة.
ومما يستحق الاعتبار ان أولئك التلاميذ الأربعة كانوا مجتهدين في مهنتهم الزمنية عندما دعاهم المسيح إلى خدمة سامية روحية.
شفاء مجنون وغيره في كفرناحوم ع ٢١ إلى ٢٨
٢١ «ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ، وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ فِي ٱلسَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ».
متّى ٤: ١٣ ولوقا ٤: ٣١
ذكر مرقس في ما مرّ أن يسوع ابتدأ يمارس وظيفته بانتخابه أربعة ليكونوا رسلاً له. ثم أخذ يذكر ما أثبت المسيح به دعواه ليس بالقول فقط بل بالتعليم العجيب والعمل المعجز. وإيضاحاً لذلك ذكر حوادث يوم واحد مقياساً لكثير من أمثالها. وما ذكره مرقس بالتفصيل ذكره متّى بالإجمال (متّى ٤: ٢٣ - ٢٥).
كَفْرَنَاحُومَ هي من أعظم مدن الجليل على شاطئ بحيرة طبرية (متّى ٤: ١٣).
ٱلْمَجْمَعَ (انظر شرح متّى ٤: ٢٣).
وَصَارَ يُعَلِّمُ كان رئيس المجمع يدعو بعد قراءة الناموس من يظهر أنه ذو معرفة بالدين أن يخاطب الشعب وإن لم يكن من الكهنة (أعمال ١٣: ١٥).
وأرى المسيح تلاميذه في المجمع يومئذ المثال الأول لكيفية صيد الناس وأثبت بأعماله إيمانهم به.
٢٢ «فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ».
متّى ٧: ٢٨ و٢٩
فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لم تكن علّة تعجبهم مجرد تعليمه بل طريق إيراده إياه والروح الذي أورده به. ومما يستحق التأمل أن المسيح كان يحمل السامعين على التعجب دائماً.
كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ انظر شرح متّى ٧: ٢٨ و٢٩.
كَٱلْكَتَبَةِ (متّى ٥: ٢٠) وهم خلفاء عزرا (عزرا ٧: ٥). وكثيراً ما ذكر في الإنجيل أنهم معلمو الشعب (متّى ٢٣: ٢ - ٥ ولوقا ١١: ٥٢).
٢٣ «وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرَخَ».
لوقا ٤: ٣٣
برهن المسيح على أنه معلم سماوي بإظهار قوته الإلهية علاوة على سمو تعليمه وتأثيره. وذكر مرقس معجزتين من جملة معجزاته الكثيرة التي صنعها في أول خدمته إثباتاً لدعواه وجذباً لقلوب الناس إليه. صنع إحداهما في المجمع أمام الجموع (ع ٢٣ - ٢٨). والأخرى في بيت (ع ٢٩ - ٣١).
رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ كان بين المجتمعين في محل العبادة رجل تسلط على جسده وعقله أحد الملائكة الساقطين. وكثيراً ما حدث مثل ذلك في أيام المسيح كما بُيّن في شرح بشارة متّى (متّى ٨: ٢٤). والأرجح أن ذلك المجنون كان يصحو أحياناً حتى يمكنه حضور العبادة في المجمع. ومن البيّن أن الروح النجس الذي كان فيه لم يجعله متوحشاً كالمجنون الذي ذكره مرقس في ص ٥: ٢ - ٥.
فَصَرَخَ أي الشيطان وذلك باستخدامه فم الرجل وهذا يبيّن أن الشيطان تسلط على ذلك الرجل إلى حد سلب حريته وجعل قواه آلات له.
٢٤ «قَائِلاً: آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ، قُدُّوسُ ٱللّٰهِ!».
متّى ٨: ٢٩
مَا لَنَا وَلَكَ (انظر شرح متّى ٨: ٢٩). هذا اعتراض من إبليس دل على أنه كان متيقناً أن المسيح يقاومه ومدعياً أنه يحق له أن يبقى متسلطاً على ذلك الإنسان. واستعمل ضمير الجمع في قوله «لنا» نيابة عن كثيرين مثله من الأبالسة دخلوا الناس ليعذبوهم. والشيطان لا يزال إلى الآن يقاوم كل خاطئ تسلط عليه وأسره لإرادته إذا حاول الرجوع إلى الله.
يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ ناداه بذلك إهانة له (متّى ٢: ٢٣ ويوحنا ١: ٤٦).
لِتُهْلِكَنَا أي لتهلك مجموع الأبالسة وهم «نسل الحيّة». والهلاك الذي خافه الشيطان النفي إلى محل العذاب. والذي حمله على الخوف معرفته للمسيح ووظيفته.
قُدُّوسُ ٱللّٰهِ (دانيال ٩: ٢٤) أي ذو القداسة العظيمة الذي أرسله الله. وفيه إشارة إلى وظيفته لا إلى طبيعته.
ومما يحقق أن ذلك الرجل لم يكن مختل العقل لمرض عادي بل لجنون تأديته تلك الشهادة لأنه من المحال أن مريضاً يعرف في أول مشاهدته ليسوع أنه قدوس الله وأنه عازم على أن يشفيه وأن ذلك الشفاء يكون علة هلاك لا مفر له إذا لم يكن فيه شيطان.
٢٥ «فَٱنْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: ٱخْرَسْ وَٱخْرُجْ مِنْهُ!».
ع ٣٤
فَٱنْتَهَرَهُ يَسُوعُ أي انتهر الروح النجس لأنه لم يرد قبول شهادة من مصدر شرير كهذا كما كان دأبه دائماً (ع ٣٤ وص ٣: ١٢ ولوقا ٤: ٤١ قابل هذا مع أعمال ١٦: ١٦ - ١٨) ولأنه أراد توبيخه على وقاحته ورفض ادعائه حق التسلط على ذلك الرجل. ولا ريب في أن الشيطان لا يشهد بالحق إلا لغاية شريرة. ولعلّ ذلك الروح النجس قصد بتأدية شهادته ليسوع إيهام الشعب أن يسوع شريك رئيس الشياطين كما اتهمه الفريسيون بعد ذلك (ص ٣: ٢٢) على أثر تأدية الشياطين شهادتهم له ص ٣: ١١. وكثيراً ما يملق الأشرار الأخيار لغاية كغاية الشيطان في مدحه المسيح (متّى ٢٢: ١٦).
ٱخْرَسْ لا بد أن هذا الأمر كان مقترناً بقوة تلجئه إلى السكوت.
وَٱخْرُجْ مِنْهُ أي أبعد عنه واتركه في حاله الطبيعية. وهذا القول يحقق وجود شخصين في جسد واحد.
٢٦ «فَصَرَعَهُ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ».
ص ٩: ٢٠
فَصَرَعَهُ ٱلرُّوحُ أي أوقعه في مثل حال الصرع من التشنج واضطراب الأعضاء من شدة الألم أو الانفعالات. وهذا مما يتوقع من فعل روح نجس مضطر أنه يخرج من إنسان يرغب في بذل الجهد في إضراره عند خروحه منه. ولكن لم ينتج من ذلك ضرر دائم كما أفاد لوقا في بشارته (لوقا ٤: ٣٥).
وكما جرى على هذا الرجل جرى على الصبي في قيصرية فيلبس (لوقا ٩: ٤٢).
وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ أتى ذلك من غيظه وعجزه وكان ذلك صوت بلا لفظ لأن أمر المسيح منعه من التكلم.
المعجزة الأولى التي ذكرها متّى من معجزات المسيح شفاء أبرص (متّى ٨: ١ - ٤) والأولى التي ذكرها مرقس ولوقا إخراج شيطان كما ورد هنا وفي بشارة لوقا (لوقا ٤: ٣٣ - ٣٧). والأولى التي ذكرها يوحنا تحويل الماء خمراً (يوحنا ٢: ١ - ١١).
٢٧ «فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: مَا هٰذَا؟ مَا هُوَ هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى ٱلأَرْوَاحَ ٱلنَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!».
تَحَيَّرُوا الذين أخذتهم الحيرة هم الذين شاهدوا المعجزة. ولم يكن تأثرهم مقصوراً على التعجب بل كان حاملاً لهم على التأمل والسؤال عن علة ذلك العمل لأن المسيح فعل ما فعله بكلمة فقط باسمه وسلطانه ولم يشاهدوا شيئاً مثله قبلاً.
مَا هٰذَا أي بأي سلطان فعل المسيح ما شاهدناه من إخراج الروح النجس من ذلك الرجل.
مَا هُوَ هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ كان هذا التعليم ما قاله في المجمع وهم علقوه بالمعجزة كأنها صنعت إثباتاً له وقد أصابوا بذلك.
٢٨ «فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلْجَلِيلِ».
هذا يوافق ما أنبأ به متّى من تأثير معجزات كثيرة مثل هذه صنعها المسيح متّى ٤: ٢٤ و٢٥. ولأن تلك المعجزات كانت لإزالة الأمراض والآلام والآفات أثرت في المشاهدين حتى مالوا إلى سمع كلامه وأشاعوا خبره في الآفاق ليسأل الناس عنه وعن تعليمه.
إبراء حماة بطرس وغيرها ع ٢٩ إلى ٣٤
٢٩ «وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ ٱلْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا».
متّى ٨: ١٤ ولوقا ٤: ٣٨
بعد أن ذكر مرقس واحدة من المعجزات الكثيرة التي صنعها يسوع علناً ذكر واحدة مما صنعها أمام الأصحاب خاصة. وقد مرّ الكلام على ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ٨: ١٤ و١٥).
بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ كان بيتهما الذي سكنا فيه في كفرناحوم ولكنهما ولدا في بيت صيدا (يوحنا ١: ٤٥). وما ذُكر هنا هو الذي دلّنا على أن بطرس كان متزوجاً ورب بيت. والأرجح أن المسيح اتخذ بيته مسكناً له أيام إقامته بالجليل. وذكر مرقس في أنبائه بشفاء حماة بطرس تفاصيل لم يذكرها متّى ولا لوقا أي أن يعقوب ويوحنا رافقا المسيح من المجمع إلى البيت وأن البعض أخبره بمرض تلك الحماة وأن المسيح تقدم إليها وأقامها ماسكاً إياها بيدها وأن المدينة كلها اجتمعت على الباب.
٣٠ «وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً، فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا».
مَحْمُومَةً قال لوقا أنه أخذتها حمى شديدة (لوقا ٤: ٣٨).
أَخْبَرُوهُ كان المراد بإخبارهم إياه طلب الالتفات إليها لا إفادته ما أصابها.
فليس لنا إذا أصابتنا الأمراض أو فقدنا الأصحاب أو خسرنا الأموال أو وقعنا في اليأس إلا أن نذهب إلى يسوع كما ذهب أولئك ونخبره بمصائبنا.
٣١ «فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكاً بِيَدِهَا، فَتَرَكَتْهَا ٱلْحُمَّى حَالاً وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ».
فَتَقَدَّمَ لم نقرأ قط أن المسيح أبى أن يشفي مريضاً (إلا أنه توقف قليلاً عن شفاء بنت المرأة الكنعانية امتحاناً لإيمانها) فلا ريب في أنه لم يأب أن يشفي واحدة من عائلة رسوله المحبوب. والمقصود من قوله تقدم إمّا الذهاب إليها من مخدع إلى آخر في البيت وإمّا الدنو إليها وهو في مخدعها.
مَاسِكاً بِيَدِهَا هذا لطف منه وبيان لأن قوة الشفاء منه.
تَرَكَتْهَا ٱلْحُمَّى حَالاً أي دفعة لا تدريجاً.
وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ وهذا دليل على أنها كانت خالصة من الضعف الذي يعقب الحمى عادة. وكانت قادرة على إعداد الطعام لضيوفها.
٣٢ «وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ، إِذْ غَرَبَتِ ٱلشَّمْسُ، قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ ٱلسُّقَمَاءِ وَٱلْمَجَانِينَ».
متّى ٨: ١٦ ولوقا ٤: ٤٠
لَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ أي مساء السبت فامتنع الناس عن الإتيان للشفاء حتى غربت الشمس إطاعة لوصية الله (لاويين ٢٣: ٣٢) واقتداء ببعض الأتقياء (ع ١٣: ١٩).
٣٣ «وَكَانَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى ٱلْبَاب».
ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا مبالغة اصطلاحية يراد بها أناس كثيرون من السكان. وأتى بعضهم لمجرد المشاهدة والبعض لإفادة أنفسهم وأصحابهم.
عَلَى ٱلْبَاب أي في الزقاق أو الساحة التي قدام الباب. ومما اختص به مرقس أنه يدقق في الخبر ويشخص مشاهد الحوادث.
٣٤ «فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَلَمْ يَدَعِ ٱلشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ».
ع ٢٥ وص ٣: ١٢ ولوقا ٤: ٤١ وأعمال ١٦: ١٧ و١٨
لَمْ يَدَعِ ٱلشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأنه لم يرد شهادتهم ولم يحتج إليها (ع ٢٥) وأهول ما يكون الشيطان عندما «يغير شكله إلى شبه ملك نور».
جولان المسيح في الجليل ع ٣٥ إلى ٣٩ (سنة ٢٨ ب. م)
٣٥ «وَفِي ٱلصُّبْحِ بَاكِراً جِدّاً قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ».
لوقا ٤: ٤٢
بَاكِراً جِدّاً لعلّ أثقال أحزان الغير منعته من النوم (متّى ٨: ١٧) فقام باكراً. أو اهتمامه بأمر وظيفته.
إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ خرج إلى هذا الموضع بغية أن يكون له فرصة للصلاة وأن لا أحد ينظره أو يسمعه. وكان ذلك استعداداً للجولان قصد التبشير وكان يفعل مثل ذلك كثيراً ولما اعتمد كان يصلي (لوقا ٣: ٢١). وكذلك لما تجلّى (لوقا ٩: ٢٩) وصلى كل الليل قبل انتخابه الأثني عشر رسولاً (لوقا ٦: ١٢). ولما أراد الناس أن يمسكوه ويجعلوه ملكاً انفرد للصلاة (متّى ١٤: ٢٣) وقبل ما صُلب صلى في بستان جثسيماني (لوقا ٢٢: ٤١).
وانفراد المسيح للصلاة مثال لنا. فإذا كان الانفراد والصلاة مفيدين له وهو بلا خطيئة. فكم يكونان مفيدين لنا نحن الخطاة. والانفصال عن الناس للاجتماع بالله أفضل ما يُفتتح به النهار وأفضل طربق لإراحة النفس المُثقلة بالهموم وخير استعداد للعمل.
٣٦ «فَتَبِعَهُ سِمْعَانُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ».
غيابه الطويل وازدحام الناس ببيت بطرس حملاه وبعض التلاميذ على التفتيش عن يسوع. وإغراء بطرس غيره وإتيانه به إلى المسيح وهو يريد الانفراد وفق ما عهدناه من جراءته على سيده.
٣٧ «وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: إِنَّ ٱلْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ».
اتخذوا سؤال الناس عنه عذراً لطلبهم إياه وعلة لإرجاعه إلى كفرناحوم وإقامته هناك كما يشير إليه قول لوقا «وَأَمْسَكُوهُ لِئَلاَّ يَذْهَبَ عَنْهُمْ» (لوقا ٤: ٤٢). وطلبهم ذلك إلى المسيح أبان ظنهم أنّ من واجباته إرضاء الجموع وأظهر جهلهم غاية المسيح من مجيئه.
٣٨ «فَقَالَ لَهُمْ: لِنَذْهَبْ إِلَى ٱلْقُرَى ٱلْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضاً، لأَنِّي لِهٰذَا خَرَجْتُ».
لوقا ٤: ٤٣، إشعياء ٦١: ١ ويوحنا ١٦: ٢٨ و١٧: ٤
إِلَى ٱلْقُرَى ٱلْمُجَاوِرَةِ أي المجاورة لكفرناحوم. لم يستفز المسيح مدح الجموع له حتى يرجع إلى حيث يعتبره الناس لأنه شفى مرضاهم وبشرهم بالإنجيل بل فضل أن يذهب إلى أماكن أخر يفيد فيها غيرهم. ولم يلم تلاميذه على نصيحتهم وإن كانت في غير محلها بتصريحه لهم باستقلاله بل أوضح لهم وجوب زيارته القرى الصغيرة أيضاً في تلك الأرض.
لأَكْرِزَ لم يكن الرسل يكرزون حينئذ ولم يكونوا سوى أربعة.
لِهٰذَا خَرَجْتُ أي نزلت من السماء (يوحنا ٨: ٤٢ و١٣: ٣ و٦: ٢٧ و٢٨ و٣٠). وبيّن المسيح بقوله «لهذا» أن غايته من إتيانه إلى العالم المناداة بإنجيله لكل الناس وإفادة كل من استطاع الوصول إليه. فما جاء للتمتع بالراحة أو بخدمة الناس له أو لنفع كفرناحوم وحدها بل نفع كل سكان تلك الأرض (لوقا ٤: ٤٣ ويوحنا ١٦: ٢٨).
فرفع المسيح بذلك مقام وظيفة المبشرين وبأنه اتخذها وظيفة له. ومارسها كل يوم وساعة إلى حين موته مع أنه كان يستطيع أن يملك كما ملك داود. والغاية التي جذبت المسيح من السماء إلى الأرض وحثته على كل ما عمل واحتمل كافية لأن تُرغّبنا في اقتفاء خطواته في الكرازة بإنجيله.
٣٩ «فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ ٱلْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ».
متّى ٤: ٢٣ ولوقا ٤: ٤٤
فَكَانَ يَكْرِزُ هذا إنجاز لقوله في الآية السابقة. وهذا أول جولان أتاه المسيح للتبشير (متّى ٤: ٢٣).
فِي مَجَامِعِهِمْ كان مباحاً للمسيح في أول تبشيره في الليل أن يدخل المجامع ويعلم فيها لأن شكايات رؤساء الكهنة في أورشليم لم تبلغ أهل الجليل يومئذ (يوحنا ٤: ١) ولم يعزم الكهنة ورؤساء المجامع هنالك أن يقاوموه علانية ويمنعوا الشعب عن سمع تعليمه.
فِي كُلِّ ٱلْجَلِيلِ هذا زاد على إنبائه إياهم بقصده تبشير القرى المجاورة لكفرناحوم (متّى ٤: ٢٣). وقال يوسيفوس أن في الجليل ٢٤٠ من المدن والقرى.
وَيُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ (متّى ٤: ٢٤).
كانت هذه المعجزة وغيرها إثباتاً لصحة تعليمه ورحمة للمصابين ونقضاً لسلطان الشيطان.
شفاء الأبرص ع ٤٠ إلى ٤٥
٤٠ «فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِياً وَقَائِلاً لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي!».
متّى ٨: ٢ ولوقا ٥: ١٢
أَبْرَصُ مرّ الكلام على مجيء هذا الأبرص إلى المسيح والكلام على دائه في شرح بشارة متّى (متّى ٨: ٢ - ٤). وزاد مرقس على ما قاله متّى أن الأبرص طلب إليه جاثياً. وذلك من الأدلة على رغبته في الشفاء والتواضع وهذا وفق قول لوقا أنه «خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ» (لوقا ٥: ١٢). ولعلّ مرقس اختار ذكر إزالة المسيح هذا المرض على غيره مما شفى منه الناس لكونه عسر الشفاء تقصر عنه القوى البشرية (٢ملوك ٥: ٢٧). فإبراؤه مثل ذلك دليل على قوة إلهية ولكون البرص رمزاً إلى الخطيئة كان شفاء المسيح ذلك المرض الجسدي رمزاً إلى عمله الأعظم أي شفاء مرض النفس الذي هو الخطيئة.
٤١ « فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ، فَٱطْهُرْ».
فَتَحَنَّنَ ذكر البشيرون الثلاثة هذه المعجزة ولم يذكر أحد منهم سوى مرقس انفعالات المسيح وقتئذ أو أنه «تحنن». فالذي حمل المسيح على عمل المعجزة لا مجرد البرهان على أنه إله بل بيان كونه إنساناً يشعر بمصائب الناس ويحزن لأحزانهم. ولا يزال إلى الآن يتحنن على الناس في أمراضهم الجسدية والروحية.
٤٢ «فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ ٱلْبَرَصُ وَطَهَرَ».
كانت أقوال المسيح كلها فعالة وما قيل هنا يذكرنا ما قيل في عمل الله الخليقة من أنه «قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ» (مزمور ٣٣: ٩).
٤٣، ٤٤ «٤٣ فَٱنْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ، ٤٤ وَقَالَ لَهُ: ٱنْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئاً، بَلِ ٱذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ».
لاويين ١٤: ٣ و٤ و١٠ ومتّى ٨: ٤ ولوقا ٥: ١٤
(انظر الشرح متّى ٨: ٤)
ٱنْتَهَرَهُ أي كفه عن إذاعة الخبر. ولعلّ المسيح أراد كفّه عن ذلك وقتاً قصيراً يمكنه فيه أن يطيع أمر المسيح بتكميل واجباته الشرعية ليحصل على شهادة التطهير قبل أن يعرف الكاهن من شفاه.
٤٥ «وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَٱبْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيراً وَيُذِيعُ ٱلْخَبَرَ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِراً، بَلْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ، وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ».
لوقا ٥: ١٥، ص ٢: ١٣
لم يطع الأمر ولعلّ سبب ذلك ظنه أن المسيح أمره بالسكوت تواضعاً وأنه كان من واجبات الشكر أن يظهر معروفه وينادي بنبإ شفائه ولكن الغيرة للمسيح ليست بعذر لمخالفة أمره. وليس للمسيحيين حق أن يعصوا أمر المسيح لما يظهر لهم أنه خدمة له فالغاية لا تبرر الواسطة.
لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً هذه مبالغة في صعوبة دخول المسيح مدينة من المدن لازدحام الناس عليه. فكانت نتيجة مناداة الأبرص بشفاء المسيح إياه تعباً للمسيح ومنعاً له من عمله الروحي لأن الناس ازدحموا عليه بغية المنافع الجسدية فلم يتركوا له فرصة لمخاطبة الذين قصدوه بغية الفوائد الروحية وهيجوا غيظ الرؤساء عليه ومقاومتهم إياه.
فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ أي أراض لم تُسكن ولم تُزرع والأرجح أنها مراعٍ للمواشي.
من كل ناحية ذهاب أولئك الناس إليه من الأماكن البعيدة وهو في تلك الأماكن الخالية دليل على رغبتهم في فوائده الروحية وشعورهم بحاجتهم إليه خلافاً للجموع الذين كانوا يزدحمون عليه في المدن والقرى رغبة في مشاهدة أعماله الغريبة.
الأصحاح الثاني
شفاء المفلوج في كفرناحوم ع ١ إلى ١٢
١ «ثُمَّ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ أَيْضاً بَعْدَ أَيَّامٍ، فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ».
متّى ٩: ١ ولوقا ٥: ١٨
كَفْرَنَاحُومَ كانت هذه المدينة مسكنه الخاص مدة تبشيره في الجليل (متّى ٩: ١).
فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ هذا يدلنا على أنه دخل المدينة خفية لئلا يزدحم الناس عليه وأن بعضهم رآه في بيت فأذاع الخبر. ولم يذكر اسم صاحب ذلك البيت. والأرجح أنه بطرس.
٢ «وَلِلْوَقْتِ ٱجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ ٱلْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِٱلْكَلِمَةِ».
ٱجْتَمَعَ كَثِيرُونَ قال لوقا أنه كان بين أولئك الكثيرين «فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ» (لوقا ٥: ١٧).
يُخَاطِبُهُمْ بِٱلْكَلِمَة أي بقوله الذي سبق في ص ١: ١٥. فليس من الضروري أن تكون المناداة بالإنجيل محصورة في المعابد وفي يوم الرب. بل يجب أن نغتنم كل فرصة مناسبة لذلك اقتداء بالمسيح الذي بشر على الجبل وفي البرية وفي البيت وفي السفينة حين كان السامعون ألوفاً أو حين لم يكن ممن يسمعه سوى امرأة واحدة كما كان عند بئر يعقوب قرب السامرة.
٣ «وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجاً يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ».
مَفْلُوجاً راجع الكلام على مرض الفالج (متّى ٨: ٦). والكلام على شفائه في شرح بشارة متّى (متّى ٩: ٢ - ٨).
يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ لم يذكر عدد الحملة سوى مرقس وزاد متّى ولوقا أنهم كانوا يحملونه على فراش وهذا يدل على أن الفالج عمّ كل جسده فلم يستطع حركة.
٤ «وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ ٱلْجَمْعِ، كَشَفُوا ٱلسَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا ٱلسَّرِيرَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ».
لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ وعلة ذلك ما ذُكر في ع ٢.
كَشَفُوا ٱلسَّقْفَ صعدوا على السطح إمّا من خارج البيت أو من بيت أحد الجيران (لوقا ٥: ١٩). ولعلّ ذلك السقف كان سقف ساحة الدار وأنه كان ظلة لمنع شمس الصيف فرفعوا منه ما هو كاف لتركه فراغاً يُدلى منه وهو على فراشه. وما أتوه دليل على شدة رغبتهم في حصول مفلوجهم على الشفاء وعدم اكتراثهم بالموانع الكثيرة وشدة إيمانهم بقوة المسيح واستعداده لمنح الشفاء. فعلينا أن نظهر مثل هذه الرغبة مع مثل ذلك الإيمان في الشفاء الروحي لنا ولأصحابنا.
٥ «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ».
رَأَى إِيمَانَهُمْ أي علم إيمان المفلوج وإيمان أصحابه من أعمالهم ومن معرفته قلوبهم إذ لا دليل على أنهم فاهوا بكلمة.
قَالَ لِلْمَفْلُوجِ اعتبر المسيح أعمال أولئك الناس صلاة له فأظهر بذلك استعداده لمساعدة الذين يلجأون إليه.
مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ كان مرض ذلك المفلوج من خير البركات له لأنه كان علّة تقرّبه إلى المسيح ونواله مغفرة خطاياه وشفاء نفسه إلى الأبد. وكثيرون غيره منذ ذلك اليوم إلى الآن وجدوا مصائبهم بركات لهم لاقترابهم بها إلى المسيح.
وأظهر المسيح بذلك أن الخطيئة علة كل مرض فلزم بالضرورة رفع السبب لرفع المسبب. وكان المفلوج محتاجاً إلى شفائين شفاء الجسد وشفاء النفس. أما المفلوج وأصحابه فكانوا مهتمين بشفاء جسده متوقعين قول المسيح شُفي مرضك. وأما المسيح فحوّل أفكارهم إلى شفاء الداء الأعظم وقال «مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». وأراد أيضاً أن يعلن سلطانه على مغفرة الخطايا قدام أعدائه.
٦، ٧ «٦ وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: ٧ لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هٰذَا هٰكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟».
أيوب ١٤: ٤ وإشعياء ٤٣: ٢٥
ٱلْكَتَبَةِ هم من اليهودية ممن امتلأت قلوبهم حسداً وبغضاً للمسيح (لوقا ٥: ١٧).
بِتَجَادِيفَ مرّ الكلام في شرح بشارة متّى على السبب الذي حسبوا به كلام المسيح تجديفاً (متّى ٩: ٣).
٨ «فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هٰكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهٰذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟».
متّى ٩: ٤
شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أي عرف أفكارهم بقوته الإلهية لأنه فاحص القلوب.
لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ هم فكروا في قلوبهم «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هٰذَا هٰكَذَا» (ع ٦ و٧). فأجابهم على أفكارهم بقوله «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهٰذَا» ولا بد من أنهم تعجبوا من معرفته أسرار قلوبهم. ولم يكن تفكيرهم لاعتبارهم حقوق الله أو لحيرتهم من جهلهم سلطان يسوع بل لحسدهم وبغضهم إياه.
٩ «أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ؟».
متّى ٩: ٥
انظر شرح بشارة متّى ٩: ٤ - ٦. ادَّعى المسيح سلطانين سلطان معفرة الخطايا وسلطان شفاء الأمراض وهما سيّان عنده في السهولة. فلو كان خادعاً كان أيسر عليه أن يقتصر على ادعائه السلطان على المغفرة لأن لا أحد من الناس يقدر أن يعلم هل غفرت خطايا المفلوج أو لا.
١٠، ١١ «١٠ وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا - قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: ١١ لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ».
اختار المسيح ما هو أصعب على الخادع دفعاً لظن الناس أنه خادع وهو أن يشفي المرض لأن الخداع يظهر بذلك حالاً. وقدرته على المعجزة الظاهرة في الجسد برهان قدرته على المعجزة الباطنة في النفس. فلنا من ذلك هذه القاعدة وهو أن الذي يدّعي السلطان على مغفرة الآثام ورفع القصاص الأبدي الذي تستحقه يجب عليه أن يبرهن صحة دعواه بإزالة نتيجة الإثم الوقتية المنظورة في الجسد.
١٢ «فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ ٱلسَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ ٱلْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هٰذَا قَطُّ!».
انظر شرح بشارة متّى ٩: ٧
فَقَامَ وكان شفاء جسده برهاناً على شفاء نفسه.
مَجَّدُوا ٱللّٰهَ الذين مجدوا الله هم المشاهدون سوى الكتبة ولنا من ذلك أربعة أمور:
- أن تيقن الناس قوة المسيح هو تمجيد الله الآب. وهذا وفق قوله «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلابْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (يوحنا ٥: ٢٣).
- الفرق بين أعمال المسيح وأعمال رسله. فإن الرسل لم يدعوا قط السلطان على مغفرة الخطايا (قابل بهذا ما قال بطرس في أعمال ٨: ٢٢ - ٢٤).
- لطف المسيح بتعزيته المفلوج وبتوبيخه الكتبة فإنه وبخهم بألطف أسلوب.
- إن شفاء ذلك المريض رمز إلى خلاص الخاطئ من الخطيئة ووجه الشبه بين الأمرين ثلاثة أمور:
- الأول: عجزهما. أما عجز المفلوج فظاهر وأمّا عجز الخاطئ فبيّنه الله في كتابه (إشعياء ٤٠: ٣٠ ويوحنا ٦: ٤٤ و١٥: ٥).
- والثاني: وجوب الإيمان وعدم الاكتراث بالموانع في الإتيان إلى المسيح.
- والثالث: القوة التي منحها الله المفلوج ليقوم والخاطئ ليتوب ويؤمن (فيلبي ٤: ١٣).
دعوة متّى ووليمته وتعليم يسوع فيها للكتبة والفريسيين ع ١٣ إلى ١٧
١٣، ١٤ «١٣ ثُمَّ خَرَجَ أَيْضاً إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَأَتَى إِلَيْهِ كُلُّ ٱلْجَمْعِ فَعَلَّمَهُمْ. ١٤ وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي. فَقَامَ وَتَبِعَهُ».
متّى ٩: ٩ ولوقا ٥: ٢٧ و٢٨
مرّ الكلام على ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ٩: ٩ - ١٣).
لاَوِيَ وهو متّى واحد من الاثني عشر رسولاً. دعاه المسيح وهو مجتهد في وظيفته كما كان بطرس ويوحنا وابنا زبدي مجتهدين في مهنتهم. وعند ما دعاه المسيح بصوت مسموع دعاه الروح القدس مخاطباً نفسه فأطاع. وكان عشاراً فصار رسولاً وكاتب أول سفر في العهد الجديد وبركة للعالم.
١٥ «وَفِيمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ يَتَّكِئُونَ مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَتَبِعُوهُ».
متّى ٩: ١٠
فِي بَيْتِهِ أي بيت متّى (لوقا ٥: ٢٩). وكان يسوع يذهب إلى الولائم لا رغبة في الطعام بل انتهازاً لفرص عمل الخير وتعليم الناس وجذب قلوبهم إليه بمخالطتهم.
ٱلْعَشَّارِينَ مرّ الكلام على منزلة العشارين بين اليهود في شرح بشارة متّى (راجع متّى ٥: ٤٦).
١٦، ١٧ «١٦ وَأَمَّا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ، قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ؟ ١٧ فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ».
متّى ٩: ١٢ و١٣ و١٨: ١١ ولوقا ٥: ٣١ و٣٢ و١٩: ١٠ و١تيموثاوس ١: ١٥
في هذين العددين أربعة أمور:
- الأول: تعليم المسيح أن الخطيئة مرض النفس المميت.
- الثاني: إن المسيح هو الطبيب الذي عيّنه الله لمعالجة النفوس المصابة بداء الإثم. فإنه يعرف المرض والعلاج. وهو لا يعجز عن شفاء مرض مهما اشتد داؤه. وهو شفوق حنون قريب إلى كل من يدعوه ومستعد لإجابة الدعوة ولم يدعه أحد إلا أجابه. وله كل الاختبار في العلاج. ويعالج مجاناً. ومن عالجه لا يمرض أيضاً للموت. ولا طبيب للنفس سواه.
- الثالث: إن كثيرين من المصابين بداء الإثم يظنون أنهم أصحاء.
- الرابع: إن الذين يشعرون بأمراضهم الروحية هم الذين ينالون منه الشفاء لا غيرهم.
سؤال تلاميذ يوحنا والفريسيين المسيح ومجاوبته إياهم ع ١٨ إلى ٢٢
١٨ « وَكَانَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ يَصُومُونَ، فَجَاءُوا وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟».
متّى ٩: ١٤ ولوقا ٥: ٣٣
مرّ الكلام على هذا الخطاب في شرح بشارة متّى (متّى ٩: ١٤ - ١٧). وكان تلاميذ يوحنا غيورين جداً على حفظ شريعة موسى الطقسية والعوائد اليهودية فأشبهوا بذلك الفريسيين. وفي سؤالهم هذا للمسيح ضربٌ من العتاب عليه لأنه لم يوصِ تلاميذه بالاعتناء بحفظ تلك الطقوس.
١٩ - ٢٢ «١٩ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو ٱلْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. ٢٠ وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ ٢١ لَيْسَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَاٰلْمِلْءُ اٰلْجَدِيدُ يَأْخُذُ مِنَ اٰلْعَتِيقِ فَيَصِيرُ اٰلْخَرْقُ أَرْدَأَ. ٢٢ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ، لِئَلاَّ تَشُقَّ اٰلْخَمْرُ اٰلْجَدِيدَةُ اٰلّزِقَاقَ، فَاٰلْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَاٰلّزِقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَة».
أجابهم المسيح بثلاثة تشابيه الأول من عوائد العرس. والثاني من مصطلحات الخياطة. والثالث من عوائد الناس في حفظ الخمر. وخلاصة ذلك أنه لا يمكن أن تنحصر الديانة الإنجيلية الجديدة في طقوس الشريعة اليهودية القديمة كما يمارسها الفريسيون لأن الديانة الجديدة ديانة روحية عامة وهي ديانة النمو والحرية والحياة فلا يمكنها أن تكون في عبودية نظام طقسي ضيق.
قطف التلاميذ السنابل في السبت وكلام المسيح في ذلك ع ٢٣ إلى ٢٨
٢٣، ٢٤ «٢٣ وَٱجْتَازَ فِي ٱلسَّبْتِ بَيْنَ ٱلّزُرُوعِ، فَٱبْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ ٱلسَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. ٢٤ فَقَالَ لَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ: ٱنْظُرْ. لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي ٱلسَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟».
تثنية ٢٣: ٢٥ ومتّى ١٢: ١ ولوقا ٦: ١
مرّ الكلام على قطف التلاميذ السنابل يوم السبت وعلى ما يتعلق بحفظ يوم الراحة في عهد الإنجيل في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ١ - ٨). ولعلّه مرّت مدّة ليست بقصيرة بين دعوة متّى وهذه الحادثة. ولعلّ التلاميذ كانوا راجعين يومئذ من الاحتفال بعيد الفصح في أورشليم لأن السنابل لا يؤكل حبها إلا بعد نحو أسبوع أو أسبوعين بعد الفصح. ولم يتهم الفريسيون التلاميذ بالسرقة لأن الشريعة أباحت ما فعلوه (تثنية ٢٣: ٢٥) بل لاموهم على إتيانهم ذلك في السبت.
٢٥، ٢٦ «٢٥ فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ ٱحْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ، ٢٦ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ ٱللّٰهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ، وَأَكَلَ خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ ٱلَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ، وَأَعْطَى ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضاً؟».
١صموئيل ٢١: ٦، خروج ٢٩: ٣٢ و٣٣ ولاويين ٢٤: ٩
أَمَا قَرَأْتُمْ نتعلم من جواب المسيح للفريسيين أن أفضل طريق لدفع شبهات المعترضين في الدين أن يُجاوبوا بنصوص الكتاب الإلهي.
أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ ذُكرت هذه الحادثة في ١صموئيل ٢١: ١ - ٩ وهناك أن أخيمالك رئيس الكهنة. وجاء في موضع آخر أن أبيآثار ابن أخيمالك (١صموئيل ٢٢: ٢٠). فذكر المسيح أن داود دخل في أيام أبيآثار خيمة الشهادة قبل أن صار كاهناً ونعته برئيس الكهنة لأنه صار رئيس كهنة بعد أبيه واشتهر بهذا اللقب عند اليهود في عصر المسيح. ولعله خدم مع أبيه في الخيمة كما كان يفعل ابنا عالي الكاهن. وربما هو الذي ناول داود خبز التقدمة ولهذا آثر المسيح ذكره على ذكر أبيه. وظن بعضهم ولعلّ ظنهم صحيح أنه كان لكل من الوالد ووالده اسمان وهما أبيآثار وأخيمالك. ويدل على ذلك أنه جاء أن أخيمالك ابن أبيآثار (٢صموئيل ٨: ١٧ و١أيام ٢٤: ٦) وهذا يحقق لنا أن أخيمالك كان يسمى بأبيآثار أيضاً.
٢٧ «ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: ٱلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ ٱلإِنْسَانِ، لاَ ٱلإِنْسَانُ لأَجْلِ ٱلسَّبْتِ».
ٱلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ ٱلإِنْسَانِ ذكر مرقس هذا القول دون غيره من البشيرين. وهو يدل على بقاء يوم الراحة ووجوب حفظه ما دام الإنسان على الأرض. وذلك الوجوب لسببن:
- الأول: عموم ذلك اليوم. لأنه لم يعيَّن لليهود فقط بل لكل نسل آدم لحاجة طبيعة البشر الجسدية والروحية إليه.
- والثاني: غاية تعيينه. فإن الله عيّنه في الفردوس لنفع الإنسان وجدد ذلك التعيين في طور سينا لا نيراً على الناس بل بركة لهم. فهو كونه يوم الرب ووجوب حفظه إطاعة لأمر الرب ولإكرامه لم يخل من كونه يوم الإنسان لسعادته وخيره جسداً ونفساً في الحال والاستقبال. وهو رمز إلى الراحة الأبدية (عبرانيين ٤: ٩).
وأوضح المسيح في بشارة متّى (متّى ١٢: ١ - ٨) شريعة يوم الراحة عند المسيحيين أحسن إيضاح وأبان أنه يجوز فيه ثلاثة أنواع من الأعمال، الأول الأعمال الضرورية. والثاني أعمال الرحمة والثالث الأعمال التي تقتضيها عبادة الله.
لاَ ٱلإِنْسَانُ لأَجْلِ ٱلسَّبْتِ خلق الإنسان أولاً ثم عُيّن السبت لخيره (تكوين ٢: ١ - ٢). فغاية الله من تعيين السبت إنما هي نفع الإنسان وتقديسه وسيلة إلى ذلك النفع. فلا يجوز تفسير الوصية الآمرة بحفظه بما يحرم الإنسان خيره الحقيقي. ولكن الفريسيين جعلوا تقديس السبت عين الغاية لا الوسيلة إليها فأوجبوا على الإنسان أن يدوس خيره إذا لم يمكن الحصول عليه مع تقديس ذلك اليوم. وهذا مناف لإرادة الله. ولا يلزم من أن يوم الراحة لأجل الإنسان جواز التصرّف فيه كما يشاء. والله سبحانه وتعالى حباً للإنسان وعناية بخيره الأعظم أمره أن يستريح في ذلك اليوم من الأعمال غير الضرورية والتنزهات الدنيوية وأن يشتغل ذلك اليوم بالقيام بالواجبات الروحية. ومن الضرر للإنسان لا النفع أن يشغله بالأعمال التي حرمت فيه.
٢٨ «إِذاً ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضا».
متّى ١٢: ٨
ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أي يسوع. فإنه إذا كان مخلص البشر حق له السلطان على كل ما يختص بالإنسان. ولأن تقديس الإنسان يوم الراحة نفع له في الدنيا والآخرة عين ابن الإنسان رباً لذلك اليوم ليثبت الذين يقدسونه ويهب لهم أفضل البركات السماوية ويعاقب كل من يدنسه. وعلى ذلك صح أن يسمى يوم الراحة بيوم الرب.
الأصحاح الثالث
شفاء يابس اليد ومؤامرة الأعداء على يسوع ع ١ إلى ٦
١ - ٦ «١ ثُمَّ دَخَلَ أَيْضاً إِلَى ٱلْمَجْمَعِ، وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. ٢ فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي ٱلسَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. ٣ فَقَالَ لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لَهُ ٱلْيَدُ ٱلْيَابِسَةُ: قُمْ فِي ٱلْوَسَطِ! ثُمَّ قَالَ لَهُمْ ٤: هَلْ يَحِلُّ فِي ٱلسَّبْتِ فِعْلُ ٱلْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ ٱلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟. فَسَكَتُوا. ٥ فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ. فَمَدَّهَا، فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَٱلأُخْرَى. ٦ فَخَرَجَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ ٱلْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ».
متّى ١٢: ٩ الخ ولو ٦: ٦ الخ، متّى ١٢: ١٤ و٢٢: ١٦
مرّ الكلام على شفاء المسيح ذلك الإنسان في المجمع يوم السبت بكلمة أمام عيون مبغضيه المقاومين في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٩ - ٤). وترك مرقس هنا ما ذكره متّى من سقوط الخروف في السبت في حفرة. وذكر ما لم يذكره متّى في هذا الشأن وهو أنه نظر حوله إليه بغضب حزيناً على غلاظة قلوبهم. وأن الهيرودسيين وافقوا الفريسين في المؤامرة على المسيح.
بِغَضَبٍ لنا من ذلك أن بعض أنواع الغضب جائز وهو الغضب على الخطيئة إذا كان ممزوجاً بالحزن والشفقة على الخاطئ. فالمسيح لم يرد بغضبه أذى من غضب عليهم ولا الانتقام منهم.
غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ أظهروا تلك الغلاظة بعدم تأثرهم من البراهين القاطعة على صحة لاهوته وعدم شعورهم بتخطئة بعضهم إياه وقصدهم قتله وعدم انتباههم لدعوة المحبة وإنذارات الدينونة. والذي يقسي ويغلظ هو الاستمرار على الخطيئة ومقاومة الضمير والروح القدس. فغلاظة القلب من أشد الأخطار على صاحبها فيجب أن نحترس منها كل الاحتراس.
ٱلْهِيرُودُسِيِّينَ راجع شرح بشارة متّى ٢٢: ١٦ لأن فيه ما يكفي من الكلام عليهم. والمعجزة المذكورة هنا هي إحدى سبع صنعها المسيح في السبت. الأولى ما ذُكرت هنا. والثانية شفاء المجنون في كفرناحوم (ص ١: ٢١). والثالثة شفاء حماة بطرس (ص ١: ٢٩). والرابعة شفاء إنسان في بيت حسدا في أورشليم (يوحنا ٥: ٩). والخامسة شفاء امرأة بها روح ضعف ثماني عشرة سنة (لوقا ١٣: ١٤). والسادسة إبراء إنسان مستسق (لوقا ١٤: ٢). والسابعة فتح عيني إنسان وُلد أعمى (يوحنا ٩: ١٤). وصنع المسيح تلك المعجزات في السبت ليظهر أن عمل الرحمة في ذلك اليوم جائز ومُرض لله وليوبخ الفريسيين على ما استعبدوا الناس به من تقليداتهم المتعلقة بذلك اليوم.
لِكَيْ يُهْلِكُوهُ قصدوا ذلك لأن يسوع قدوس وهم خطاة ولأن قداسته كانت توبيخاً دائماً لهم على خطيئتهم ولأنه كشف الحجاب عن ريائهم ولأنه علّم ما ينافي تقاليدهم وبذلك نقص سلطانهم على الناس واعتبار الناس إياهم وأفحمهم قدام الشعب. ففضلوا قتل موبخهم على ترك آثامهم التي وبخهم عليها. ووافق الهيرودسيون الفريسيين على قتله لغايات سياسية علاوة على حسدهم وتعصبهم الديني. لأنهم أرادوا أن يكون هيرودس أنتيباس أو غيره من العائلة الهيرودسية ملكاً على اليهودية والسامرة بدلاً من بيلاطس الوالي. فخافوا أن دعوة المسيح الملك تمنعهم من نوال بغيتهم.
وكان الهيرودسيون أعداء للفريسيين لأنهم صدوقيون وأجازوا إعطاء الجزية لقيصر إرضاء للرومانيين وحرّم الفريسيون ذلك. ومع ذلك اتفق الفريقان على المسيح لإمكان الاتفاق بين كذب وكذب آخر ولكن لا يمكن أن يكون اتفاق بين الحق والكذب لأنه ليس بينهما سوى الحرب الدائمة.
انتشار صيت يسوع وازدحام الناس في معتزله ع ٧ إلى ١٢
٧ «فَٱنْصَرَفَ يَسُوعُ مَعَ تَلاَمِيذِهِ إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَمِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ».
عند البحر أي بحر الجليل والمراد هنا البراري المجاورة لذلك البحر وقصدها المسيح توارياً عن مراقبة أعدائه ومؤامراتهم عليه لأن وقت موته لم يكن قد أتى وكان تجنبه الخطر من باب الحكمة.
مِنَ ٱلْجَلِيلِ مرّ الكلام على هذا في شرح بشارة متّى (متّى ٢: ٢٢).
ٱلْيَهُودِيَّةِ هي الجزء الجنوبي من الأرض المقدسة.
٨ «وَمِنْ أُورُشَلِيمَ وَمِنْ أَدُومِيَّةَ وَمِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ. وَٱلَّذِينَ حَوْلَ صُورَ وَصَيْدَاءَ، جَمْعٌ كَثِيرٌ، إِذْ سَمِعُوا كَمْ صَنَعَ أَتَوْا إِلَيْهِ».
تكوين ٢٥: ٣٠ و٣٢: ٣ و٣٦: ٨ و٢١ وتثنية ٢: ٤ و٥ ويشوع ٢٤: ٤ وإشعياء ٢١: ١١ و٣٤: ٥، متّى ٤: ٢٥ و١١: ٢١
أُورُشَلِيمَ ذكرها بخصوصها مع أنها من اليهودية ليبين أن الذين أتوا إلى المسيح لم يكونوا من القرى فقط بل من قاعدة البلاد عينها وهي مركز العلم والغنى والسلطة.
أَدُومِيَّةَ هي إلى الجنوب الشرقي من فلسطين وجنوبي بلاد موآب (تكوين ٢٥: ٣٠). وكانت عائلة هيرودس منها. وكانت في أيام المسيح تحت حكم الحارث حمي هيرودس أنتيباس أي أبي زوجته الأولى.
عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ أي بيرية وهي شرقي الأردن وتسمى في الكتاب المقدس غالباً بعبر الأردن لأن كتبة الأناجيل كانوا ساكنين غربيهُ.
حَوْلَ صُورَ وَصَيْدَاءَ انظر شرح بشارة متّى (متّى ١١: ٢١). ويتبين من ذلك أن الذين أتوا إلى المسيح لم يكونوا من اليهود فقط بل كان بعضهم من الأمم. وأبان مرقس في هذين العددين أكثر من سائر البشيرين إلى أي بعد بلغ صيت المسيح وصنوف تلك الجموع التي أتت إليه.
٩ «فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ أَنْ تُلاَزِمَهُ سَفِينَةٌ صَغِيرَةٌ لِسَبَبِ ٱلْجَمْعِ، كَيْ لاَ يَزْحَمُوهُ».
تُلاَزِمَهُ سَفِينَةٌ الأرجح أن هذه السفينة كانت لبعض تلاميذه طلبها ليبعد فيها قليلاً عن الشعب لكي يخاطبهم بدون أن يزدحموا عليه. والظاهر أنه لم يأت ذلك إلا بعد ما احتمل مشقّة ازدحامهم طويلاً وهو يعلمهم ويشفي مرضاهم.
١٠ «لأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَفَى كَثِيرِينَ، حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهِ لِيَلْمِسَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِ دَاءٌ».
ذكر البشير هذا بياناً لعلة ازدحامهم عليه فلو علّمهم كسائر الربانيين لاكتفوا أن يسمعوه بلا ازدحام لكنه شفى مرضاهم أيضاً. والذين شفوا بقوا هنالك ليسمعوا أقواله والذين لم يشفوا حينئذ كانوا يبذلون ما في وسعهم ليدنوا منه رغبة في الشفاء وعلى ذلك لم تبق فرصة للتعليم ولا للشفاء.
لِيَلْمِسَهُ الظاهر أنهم أتوا ذلك لاعتقادهم أنه لا ينال الشفاء إلا بالاتصال التام به.
دَاءٌ المراد بالداء هنا مطلق المرض.
١١ «وَٱلأَرْوَاحُ ٱلنَّجِسَةُ حِينَمَا نَظَرَتْهُ خَرَّتْ لَهُ وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: إِنَّكَ أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ!».
ص ١: ٢٣ و٢٤ ولوقا ٤: ٤١، متّى ١٤: ٢٣ وص ١: ١ و٢٤
وَٱلأَرْوَاحُ ٱلنَّجِسَةُ أي الناس الذين دخلتهم الشياطين.
خَرَّتْ لَهُ الخ استخدم الشياطين لهذا أعضاء الذين سكنوهم. ولا ريب في أن غايتهم من ذلك كانت شريرة ولعلها خداع الناس وإيهامهم أن المسيح شريك إبليس يفعل معجزاته بواسطته.
١٢ «وَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ».
متّى ١٢: ١٦ وص ١: ٢٥ و٣٤
لم يذكر مرقس هنا شفاء هؤلاء المجانين ولكن نعلم أنهم شفوا من قول متّى «فَشَفَاهُمْ (أي المرضى) جَمِيعاً» (متّى ١٢: ١٥). ولم يظهر من كلام مرقس هنا من الذين أوصاهم المسيح بأن لا يظهروه الأرواح النجسة أم الذين شفوا فإن كانوا الأرواح فقصده بوصيته منع الضرر الذي ينتج من شهادتهم وإن كانوا الذين شفاهم وعرفوا أنه ابن الله من شهادة الشياطين واختبارهم قوته فقصده أن لا ينتشر صيته في إبراء الأمراض لئلا يعاق عن عمله الروحي لأنه كان يرغب في إثبات دعواه بكلامه أكثر مما يرغب في إثباتها بأعماله.
تعيين المسيح اثني عشر رسولاً ع ١٣ إلى ١٩
١٣ - ١٥ «١٣ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى ٱلْجَبَلِ وَدَعَا ٱلَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. ١٤ وَأَقَامَ ٱثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا، ١٥ وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ ٱلأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ ٱلشَّيَاطِينِ».
متّى ١٠: ١ ولوقا ٦: ١٢ و٩: ١، متّى ١٠: ١ الخ
مرّ الكلام على تعيين الرسل في شرح إنجيل متّى (متّى ١٠: ١ - ٤). وشغل يسوع الليلة التي قبل هذا التعيين بالصلاة (لوقا ٦: ١٢). وعينوا قبل إرسالهم للتبشير بمدة. ولكن متّى جمع التعيين والإرسال في خبر واحد.
ٱثْنَيْ عَشَرَ علة جعل الرسل اثني عشر ثلاثة أمور:
- الموافقة لعدد أسباط إسرائيل.
- أن يكون عددهم كافياً لتأدية الشهادة التامة بكل تعاليمه وأعماله الجوهرية مدة خدمته وبقيامته بعد موته.
- أن يكونوا كفاة للذهاب إلى جهات مختلفة ونشر إنجيله في كل المسكونة التي كانت معروفة يومئذ وتنظيم ملكوته الجديد في العالم بين اليهود أولاً ثم بين كل الناس.
واختار المسيح أولئك الرسل في أول خدمته ليقفوا على كل تعاليمه ويشاهدوا كل أعماله وليثقفهم كما شاء. وذكر مرقس ثلاثة أسباب لانتخاب المسيح إياهم.
- الأول: أن يكونوا معه (أي أن يتعلموا منه).
- والثاني: أن يرسلهم للكرازة.
- والثالث: أن يصنعوا المعجزات. وخص بالذكر منها إخراج الشياطين كأنه أوضح الأدلة على قدرته ولاهوته.
١٦ - ١٩ «١٦ وَجَعَلَ لِسِمْعَانَ ٱسْمَ بُطْرُسَ. ١٧ وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ، وَجَعَلَ لَهُمَا ٱسْمَ بُوَانَرْجِسَ (أَيِ ٱبْنَيِ ٱلرَّعْدِ). ١٨ وَأَنْدَرَاوُسَ، وَفِيلُبُّسَ، وَبَرْثُولَمَاوُسَ، وَمَتَّى، وَتُومَا، وَيَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى، وَتَدَّاوُسَ، وَسِمْعَانَ ٱلْقَانَوِيَّ، ١٩ وَيَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ. ثُمَّ أَتَوْا إِلَى بَيْتٍ».
يوحنا ١: ٤٢ ص ٩: ٣٨ و١٠: ٣٧ ولوقا ٩: ٥٤، متّى ١٠: ٤
مرّ الكلام على الرسل في شرح بشارة متّى (متّى ١٠: ٢ - ٤).
بُوَانَرْجِسَ اسم سرياني معناه ابنا الرعد لم يذكره سوى مرقس. والأرجح أن المسيح سمى به ذينك التلميذين إشارة إلى ما في طبيعتهما من الغيرة والحدة وعلامات ذلك ظهرت فيهما في ص ٩: ٣٨ و١٠: ٣٧ ولوقا ٩: ٥٤. وهذا ما أعدّ يعقوب ليكون الشهيد الأول بين الرسل ويوحنا أن يكتب سفر الرؤيا. وظن بعضهم أن المسيح سماها بذلك إيماء إلى ما سيظهر منهما من الفصاحة والقدرة على الوعظ.
ثُمَّ أَتى إِلَى بَيْتٍ أي رجع إلى مسكنه في كفرناحوم ذُكر قبلاً أنه كان في جوار البحر (ع ٧) وذُكر بعدئذ أنه صعد إلى الجبل (ع ١٣) وذُكر هنا انه رجع إلى المسكن.
اجتهاد بعض أصحابه وبعض اعدائه أن يمنعوه من التبشير ع ٢٠ إلى ٣٠
٢٠ «فَٱجْتَمَعَ أَيْضاً جَمْعٌ حَتَّى لَمْ يَقْدِرُوا وَلاَ عَلَى أَكْلِ خُبْزٍ».
ص ٦: ٣١
ازدحم الناس عليه عند رجوعه إلى كفرناحوم كما ازدحموا قبلاً (ص ٢: ١ و٢). وشدة رغبتهم في سمع كلامه ونوال الشفاء ومشاهدة معجزاته شغلت كل وقت المسيح حتى لم تبق له فرصة لتناول الطعام. ولا يلزم من قول الإنجيل «حَتَّى لَمْ يَقْدِرُوا وَلاَ عَلَى أَكْلِ خُبْزٍ» أنهم لم يذوقوا طعاماً بل أنهم لم يستطيعوا الأكل بالترتيب كعادة الناس في بيوتهم لأن نظام البيت تشوش لكثرة الناس.
وترك مرقس هنا أنباء حوادث كثيرة جرت في نحو تلك المدة. والأرجح أن المسيح وعظ حينئذ وعظه على الجبل لأن ذلك كان بعد انتخابه الرسل.
٢١ «وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مُخْتَلٌّ!».
يوحنا ٧: ٥ و١٠: ٢٠
سَمِعَ أي بلغتهم أنباء أسفاره ومعجزاته وتعلميه وازدحام الناس عليه.
أَقْرِبَاؤُهُ الأرجح أنهم إخوته وأمه لأنه ذكر في هذا الأصحاح إتيانهم إليه (ع ٣١).
خَرَجُوا أي من الناصرة. وذُكر وصولهم إلى يسوع وهو في كفرناحوم في ع ٣١. وذكر مرقس قبل هذا تأثير انتشار صيت المسيح في عامة الناس في بلاد كثيرة (ع ٧ و٨) وتأثيره في الكهنة (ع ٦). وأخذ يذكر هنا تأثير ذلك في أقرباءه.
لِيُمْسِكُوهُ قصدوا بذلك أن يُرجعوه معهم إلى الناصرة لكي يستريح من أتعابه ويحتمي من رؤساء الكهنة الذين تآمروا عليه. وقوله ليمسكوه يدل على أن أقرباءه حسبوه قاصراً عن الاهتمام بصحته وحياته وعاملوه كمن ليس له تمييز.
مُخْتَلٌّ لعلّهم ظنوا التجليات الإلهية شغلت كل قواه العقيلة وغلبتها حتى ذهل عن الضروريات الجسدية. ونسب فتسوس مثل ذلك إلى بولس بقوله «أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى ٱلْهَذَيَانِ» (أعمال ٢٦: ٢٤). وبولس عينه نسب مثل ذلك إلى نفسه بقوله «لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّٰه» (٢كورنثوس ٥: ١٣). ونعلم مما قال يوحنا أن أقرباءه لم يكونوا يومئذ مؤمنين به (يوحنا ٧: ٥). وكانت سيرة يسوع في ذك تختلف اختلافاً كثيراً عما عهدوا منه مدة ثلاثين سنة سكن فيها معهم. فلم يبق لهم لبيان ذلك الاختلاف سوى القول بذلك الاختلال. ولا يزال أهل العالم إلى الآن يظنون الأتقياء الذين يغيرون لله غيرة عادية لخلاص نفوسهم وخلاص نفوس غيرهم مختلين.
٢٢ «وَأَمَّا ٱلْكَتَبَةُ ٱلَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ فَقَالُوا: إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ، وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ».
متّى ٩: ٣٤ و١٠: ٢٥ ولوقا ١١: ١٥ ويوحنا ٧: ٢٠ و٨: ٤٨ و٥٢ و١٠: ٢٢
وَأَمَّا ٱلْكَتَبَةُ تكلم الإنجيلي في العدد السابق على تأثير صيته في أقربائه وإتيانهم ليمنعوه عن ممارسة خدمته ولم يتم نبأ ذلك على الأثر بل أبقاه إلى آخر الأصحاح. وأخذ يتكلم على ما أتى به أعداء يسوع من منعهم إياه عن ذلك. ومرّ الكلام على ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٢٢ و٢٣). وقال متّى أن الذين قاوموه هنا كانوا من الفريسين. وبيّن مرقس أنهم فرقة منهم وهم الكتبة وأنهم نزولوا من أورشليم. وأرسل رؤساء الشعب في أورشليم لجنة تسأل يوحنا المعمدان عن أمره (يوحنا ١: ١٩) وأرسلوا لجنة أخرى إلى يسوع لا لتسأل عن أمره بل لتراقبه وتمنع تأثير تعليمه ومعجزاته بنمائمهم وتهمهم الخبيثة.
بِرَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ لم يستطع الكتبة إنكار معجزاته فلم يبق لهم إلا أحد أمرين وهو إما أن يقروا بصحة دعواه بناء على تلك المعجزات وإما ينسبوه إلى الأرواح النجسة فاختاروا الأخير.
فإذا كان أمر المسيح أن أقرباءه حسبوه مختلاً ورؤساء الدين اتهموه بأنه شريك الشياطين أفمن الغريب أن يقع على بعض تلاميذه اليوم اللوم والإهانة من الاصدقاء والأعداء.
٢٣ - ٢٦ «٢٣ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ بِأَمْثَالٍ: كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطَانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطَاناً؟ ٢٤ وَإِنِ ٱنْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى ذَاتِهَا لاَ تَقْدِرُ تِلْكَ ٱلْمَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُتَ. ٢٥ وَإِنِ ٱنْقَسَمَ بَيْتٌ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَقْدِرُ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتُ أَنْ يَثْبُتَ. ٢٦ وَإِنْ قَامَ ٱلشَّيْطَانُ عَلَى ذَاتِهِ وَٱنْقَسَمَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ، بَلْ يَكُونُ لَهُ ٱنْقِضَاءٌ».
متّى ١٢: ٢٥ الخ
مرّ الكلام على أسلوب المسيح في دفع تهمة الكتبة وإبانة بطلانها في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٢٤ - ٣٠).
بِأَمْثَالٍ أي بيّن مراده باستعارات مما اعتاده الناس من أمر المملكة والعائلة والشخص. وأثبت استحالة فعل الشيطان (الذي هو أحيل المخلوقات) ما يعتزل الناس فعله في الأمور الثلاثة المذكورة ليقينهم أن ذلك مما يجلب الخراب على المملكة والعائلة والشخص.
٢٧ «لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ قَوِيٍّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ ٱلْقَوِيَّ أَّوَلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ».
إشعياء ٤٩: ٢٤ ومتّى ١٢: ٢٩
انظر شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٢٩).
٢٨ - ٣٠ «٢٨ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ ٱلْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي ٱلْبَشَرِ، وَٱلتَّجَادِيفَ ٱلَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. ٢٩ وَلٰكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً. ٣٠ لأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مَعَهُ رُوحاً نَجِساً».
متّى ١٢: ٣١ ولوقا ١٢: ١٠ و١يوحنا ٥: ١٦
انظر شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٣١ و٣٢). أظهر المسيح في هذه الأعداد خطيئة الناس الذين اتهموه بهذه التهمة وعظمة العقاب الذي استوجبوه وأوضح لهم أنهم جدفوا على الروح القدس لأنهم نسبوا إلى الشياطين المعجزات التي صنعها المسيح بقوة الروح القدس ولأنهم أتوا ذلك عمداً لحسدهم وبغضهم لا سهواً أو جهلاً.
ولنا من هذا أن الخطيئة التي لا تُغفر تختلف عن سائر الخطايا بأنها رفض الحق عمداً وارتداد عن الله عناداً ومقاومة العقول والضمائر كرهاً للإنجيل. فإن ذلك كله مقاومة للروح القدس الذي وظيفته إنارة القلوب وإقناعها بالحق. فأعمال أولئك الكتبة كانت منافية لفعل الروح القدس لأنهم أفرغوا جهدهم في منع النور من الدخول إلى قلوب الناس وفي إطفاء ما دخلها منه.
إتيان أقرباء يسوع إليه ع ٣١ إلى ٣٥
٣١ - ٣٥ «٣١ فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجاً وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. ٣٢ وَكَانَ ٱلْجَمْعُ جَالِساً حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجاً يَطْلُبُونَكَ. ٣٣ فَأَجَابَهُمْ: مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟ ٣٤ ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى ٱلْجَالِسِينَ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، ٣٥ لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي».
متّى ١٢: ٤٦ ولوقا ٨: ١٩
راجع تفسير ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ١٢: ٤٦ - ٥٠).
إِخْوَتُهُ ذكر متّى أسماءهم وهم يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا (متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣). وقال متّى أن المسيح أشار بيده إلى تلاميذه حين قال «ها أمي وإخوتي» وقال مرقس أنه نظر حوله إليهم حين قال ذلك وقصد البشيرين واحد وهو تعيين المشار إليه وفي قوليهما بيان استقلال كل منهما بما كتبه. وفي هذا الفصل بيان عظمة الإكرام للتلاميذ الطائعين وعظمة الثواب الذي سينالونه. وفيه خير تعزية لمن يتركهم أصدقاؤهم لأجل حبهم المسيح فهم وإن تركهم الأصحاب ليسوا بلا صاحب لأن يسوع نفسه يحبهم ويعتني بهم ويحسبهم من عائلته. فيستطيعون أن يقولوا مع داود النبي «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي» (مزمور ٢٧: ١٠). وفيه أيضاً تحذير وإنذار لمضطهدي تلاميذ المسيح لأنهم يضطهدون أعضاء عائلة ملك الملوك ويصدق عليهم قول سليمان الحكيم «أَنَّ وَلِيَّهُمْ قَوِيٌّ. هُوَ يُقِيمُ دَعْوَاهُمْ عَلَيْكَ» (أمثال ٢٣: ١١).
الأصحاح الرابع
مثل الزارع ع ١ إلى ٩
١ «وَٱبْتَدَأَ أَيْضاً يُعَلِّمُ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ، فَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى ٱلْبَحْرِ، وَٱلْجَمْعُ كُلُّهُ كَانَ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ عَلَى ٱلأَرْضِ».
متّى ١٣: ١ ولوقا ٨: ٤
حدث هنا مثل ما حدث قبلاً (ص ٣: ٩) فإن الجموع الكثيرة ازدحمت عليه فاضطر إلى أن ينزل إلى السفينة ويخاطبهم منها وهم على الشاطئ. ولا ريب في أنه بنى أمثاله على المناظر المحيطة به ولا بد من أنه كان وراء الناس هنالك حقول مزروعة بينها مسالك للمرور. وربما كان بين زروعها شوك وزوان وبعض نبات الخردل مرتفعاً على غيره وكان زرع بعض المحال قليلاً لأن تربته محجرة وزرع البعض كثيراً لخصب تربته وأسراب من الطيور تطير فوقها (متّى ١٣: ١ و٢).
٢ - ٩ «٢ فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: ٣ ٱسْمَعُوا. هُوَذَا ٱلّزَارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، ٤ وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَجَاءَتْ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ. ٥ وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. ٦ وَلٰكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ ٱلشَّمْسُ ٱحْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. ٧ وَسَقَطَ آخَرُ فِي ٱلشَّوْكِ، فَطَلَعَ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَراً. ٨ وَسَقَطَ آخَرُ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ، فَأَعْطَى ثَمَراً يَصْعَدُ وَيَنْمُو، فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ. ٩ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!».
ص ١٢: ٣٨، يوحنا ١٥: ٥ وكولوسي ١: ٦
هذا وافق ما قاله متّى (متّى ١٣: ٣ - ٩). سوى أن مرقس بعد أن ذكر طلوع الشوك وخنقه الزرع كما ذكر متّى زاد قوله «فَلَمْ يُعْطِ ثَمَراً» (ع ٧) وقوله في الزرع الذي وقع على الأرض الجيدة «يَصْعَدُ وَيَنْمُو» (ع ٨).
إظهار الحق للبعض وإخفاؤه على البعض ع ١٠ إلى ١٢
١٠ «وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ عَنِ ٱلْمَثَلِ».
متّى ١٣: ١٠ ولوقا ٨: ٩ الخ
وَحْدَهُ أي منفرداً مع تلاميذه بعد انصراف الجموع.
١١، ١٢ «١١ فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِٱلأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، ١٢ لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ».
١كورنثوس ٥: ١٢ وكولوسي ٤: ٥ و١تسالونيكي ٤: ١٢ واتيموثاوس ٣: ٧، إشعياء ٦: ٩ ومتّى ١٣: ١٤ ولوقا ٨: ١٠ ويوحنا ١٢: ٤٠ وأعمال ٢٨: ٢٦ ورومية ١١: ٨
انظر شرح إنجيل متّى (متّى ١٣: ١٠ - ١٧)
سِرَّ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي الحق المكتوم إلاّ لمن أعلنه المسيح لهم وأنارهم الروح القدس. وموضوع هذا السر الخلاص بيسوع المسيح.
ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ اعتاد اليهود أن يسموا الأمم بذلك وأراد به المسيح الذين ليسوا من تلاميذه وعلة كونهم من خارج إرادتهم لأن المسيح لم يمنع أحداً من الإيمان به ليكون داخل دائرة المؤمنين (١كورنثوس ٥: ١٢ و١٣ واتسالونيكي ٤: ١٢ واتيموثاوس ٣: ٧).
لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ الخ هذا من نبوءة إشعياء (إشعياء ٦: ٩ و١٠) وتم هذا بعض التمام في يهود عصر النبي الذين أغلقوا قلوبهم عن قبول كلامه وتم كل التمام في يهود عصر المسيح. وأورد المسيح هذه النبوة بياناً لعلة مخاطبته أولئك الناس بأمثال وهي أمران إظهار الحق وإخفاؤه، فالإظهار لمحبي الحق والمستفيدين منه والإخفاء على مبغضي الحق ورافضيه. وأعلن بذلك شريعة ملكوته وهي أن إثابة الإصغاء إلى الحق وقبوله وطاعته هي زيادة الإنارة والمعرفة الفضلى والإدراك الافضل والإعلان الأكمل. وأن عقاب إغماض العيون عن الحق ومقاومته هو إزالة النور ومنع الفرص وترك الناس في الظلمة التي اختاروها والسماح بأن تزداد قلوبهم قساوة إلى أن يدركهم الهلاك. وهذا العقاب يأتي بعضه طبعاً وبعضه من قضاء الله لقساوة تلك القلوب.
شرح مثل الزارع ع ١٣ إلى ٢٠
١٣ - ٢٠ «١٣ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَا تَعْلَمُونَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ ٱلأَمْثَالِ؟ ١٤ اَلّزَارِعُ يَزْرَعُ ٱلْكَلِمَةَ. ١٥ وَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ عَلَى ٱلطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ ٱلْكَلِمَةُ، وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي ٱلشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ. ١٦ وَهٰؤُلاَءِ كَذٰلِكَ هُمُ ٱلَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ: ٱلَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلْوَقْتِ بِفَرَحٍ، ١٧ وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذٰلِكَ إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ. ١٨ وَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ ٱلشَّوْكِ: هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ، ١٩ وَهُمُومُ هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَغُرُورُ ٱلْغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ ٱلأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ ٱلْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. ٢٠ وَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ: ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا، وَيُثْمِرُونَ وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً».
متّى ١٣: ١٩، ١تيموثاوس ٦: ٩ و١٧
راجع بيان ذلك في شرح إنجيل متّى (متّى ١٣: ١٨ - ٢٣).
نستفيد من هذا المثل أن مقدار الخصب كان متوقعاً على كيفية التربة لأن الزرع كان جيداً في الكل والزارع أميناً في عمله وكانت الشمس تشرق على الكل والمطر يقع كذلك. كذلك تأثير الإنجيل يتوقف على استعداد القلوب إلى قبوله. فالأرض الجيدة هي القلب الذي يقبل الحق ويحبه ويطيعه وكل إنسان مطالب بتأثير الإنجيل في نفسه. وطرق سمع الحق بلا فائدة كثيرة ذُكر ثلاث منها هنا. وأما سمع الحق للنفع فله طريق واحدة وهو أن تأتي بثمرّ للتوبة والإيمان والتواضع والقداسة والمحبة.
تعليم المسيح تلاميذه كيف يستعملون المعرفة التي حصلوا عليها منه ع ٢١ إلى ٢٥
٢١ «ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ ٱلسَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ؟».
متّى ٥: ١٥ ولوقا ٨: ١٦ و١١: ٣٣
يظهر أن المسيح تكلم ببعض ما ذُكر في هذا الفصل غير مرة. وبعض هذه الأقوال ورد في وعظه على الجبل. وغاية تكريره إياه هنا جعل مثل الزارع يؤثر في قلوبهم.
هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ انظر شرح إنجيل متّى (متّى ٥: ١٤ و١٥).
شبه المسيح تعليمه بسراج في موضع مظلم. وهذا يدل على أنه لم يقصد بتعليمه بالأمثال إخفاء الحق عن طالبيه ولا أن تلاميذه يفعلون كذلك. سمع التلاميذ من المسيح شرح أمثاله واستناروا وقصده بذلك التشبيه أن يبين لهم أنهم مكلّفون بإضاءة ذلك النور وإذاعته. ويحذرهم من توهمهم الذي ينشأ عن تعليمه إياهم على انفراد أن ذلك لنفعهم الخاص. فعلّمهم هو خفية ليعلموا هم جهرة. وهكذا يجب على كل مسيحي أن يُنار ثم يُنير.
٢٢ «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ صَارَ مَكْتُوماً إِلاَّ لِيُعْلَنَ».
متّى ١٠: ٢٦ ولوقا ١٢: ٢
هذا حقيقة معنى المجاز الذي في العدد السابق. انظر شرح إنجيل متّى (متّى ١٠: ٢٦).
وقال المسيح هذا سابقاً للتلاميذ لبيان أنهم وإن أُهينوا مدة يتبررون أخيراً ويُمدحون. وقاله هنا إظهاراً لوجوب أن يعلنوا كل ما تعلموه منه للناس إنارة لهم وإرشاداً إلى الخلاص.
خَفِيٌّ... مَكْتُوماً أشار بهذا إلى تفسير أمثاله لتلاميذه وأن كلاً من ذلك الإخفاء والكتمان كان وقتياً ووسيلة لإذاعته بهم أكثر إذاعة. كان كهنة الأمم الوثنية يميزون بعض أفراد الناس بتعليمهم إياهم ما كتموه من أسرار الدين عن العامة خلافاً لما فعله المسيح.
٢٣ «إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!».
متّى ١١: ١٥ وع ٩
أتى المسيح بهذا التنبيه مراراً كثيرة في تعليمه ومرّ شرحه في شرح بشارة متّى (متّى ١١: ١٥).
٢٤ «وَقَالَ لَهُمُ: ٱنْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِٱلْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلسَّامِعُونَ».
متّى ٧: ٢ ولوقا ٦: ٣٨
ٱنْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ أي انتبهوا كل الانتباه لما أقوله لكم لِتُنفَعوا وتنفعوا أي لتفيدوا أنفسكم وتكونوا قادرين على إفادة غيركم وهو المطلوب الأعظم هنا. وما قاله بعد إثبات لهذا أي لوجوب بذل الجهد في انتهاز كل الفرص للإفادة الروحية.
بِٱلْكَيْلِ الخ سبق تفسير هذا القول في متّى ٧: ٢. وورد هناك في الحكم الصارم على الغير أي في أنه يحكم علينا بما نحكم به على غيرنا ولكنه ورد هنا في شأن تعليم المسيح. والمعنى أنّا على قدر ما نصغي إلى كلام المسيح نستفيد فكلما اعتبرنا التعليم وأعززناه زاد لنا. وهذا القانون يُعتبر في تعليمنا غيرنا فإنا على قدر اجتهادنا في تعليم الغير نزيد معرفة.
٢٥ «لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ».
متّى ١٣: ١٢ و٢٥: ٢٩ ولوقا ٨: ١٨ و١٩: ٢٦
مرَّ شرحه في متّى ١٣: ١٢. ومراد المسيح بإيراده هنا الإيماء إلى أمرين الأول: أن الله يزيد معرفتنا بالروحيات أو يُنقصها على قدر ما نستفيد. والثاني: أن الأمر كذلك في إفادتنا غيرنا. وهذا القانون جار على الروحيات والجسديات. قال سليمان الحكيم «اَلْعَامِلُ بِيَدٍ رَخْوَةٍ يَفْتَقِرُ، أَمَّا يَدُ ٱلْمُجْتَهِدِينَ فَتُغْنِي» (أمثال ١٠: ٤). وقال «يُوجَدُ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَزْدَادُ أَيْضاً، وَمَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ ٱللاَّئِقِ وَإِنَّمَا إِلَى ٱلْفَقْرِ. ٱلنَّفْسُ ٱلسَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ، وَٱلْمُرْوِي هُوَ أَيْضاً يُرْوَى» (أمثال ١١: ٢٤ و٢٥). فإنا نتعلم بتعليمنا غيرنا ونرتقي في مصعد السماء باجتهادنا في رفع الغير إليها.
مثل نمو الزرع خفية ع ٢٦ إلى ٢٩
٢٦ «وَقَالَ: هٰكَذَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي ٱلْبِذَارَ عَلَى ٱلأَرْضِ».
متّى ١٣: ٢٤
الأرجح أن المسيح قال هذا المثل للجمع كله وهو يخاطبهم من السفينة وهو تابع العدد التاسع وما بينهما جمل معترضة وأتى به مرقس كذلك ليصل الشرح بالمتن. وهذا المثل لم يذكره أحد من الإنجيليين سوى مرقس. وهو موجه بالأكثر إلى الفعلة في كرم الرب ليؤكد لهم النجاح من تعبهم في ذلك الكرم ويعلمهم أن هذا النجاح متوقف على بركة الله لا على تعبهم. ومفاد المثل ما في قول بولس «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ ٱلْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ ٱلسَّاقِي، بَلِ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي يُنْمِي» (١كورنثوس ٣: ٦ و٧). والمعنى أنه كما ينمو الزرع بعد أن يزرعه الإنسان في الأرض بمعزل عن الأعمال البشرية تنمو كلمة الإنجيل بعد تلفظ المبشر بها مستقلة عن عمله متوارية عن نظره بفعل قوة غير قوته وهي قوة روح الله (إشعياء ٥٥: ١٠ و١١ ويعقوب ٥: ٧ و٨ و١بطرس ١: ٢٣ - ٢٥).
إِنْسَاناً لم يقصد بالإنسان هنا المسيح كما قصد به في مثل الزارع في إنجيل متّى ١٣: ٣٧. لانه لا يصح أن ينسب إلى المسيح أنه «لا يعلم كيف» ينمو الزرع الروحي ولا يصح أن يقال أنه يترك الزرع لذاته «وينام ويقوم ليلاً ونهاراً» لأنه هو في كنيسته دائماً يسهر عليها نهاراً وليلاً ويبارك نموها. فالمقصود بالإنسان فلاح من الفلاحين استعير للإنسان المبشر بالإنجيل.
٢٧ « وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَٱلْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ».
وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً كعادة الفلاحين بعد زرع الحقول ويأتي ذلك لأنه غير مطالب بنمو الزرع فيقوم ويذهب إلى عمل آخر نهاراً وليلاً لاطمئنانه أن الزرع ينمو ويأتي الحصاد بدون تعبه واعتنائه. كذلك على المبشر بالكلمة الإلهية بعد ما يزرع الحق في آذان الناس وقلوبهم أن يتكل على الله بصبر لكي يُحيي ذلك الزرع ويجعله تعالى مثمراً كما يشاء. فيجب على الإنسان أن لا يكون جزوعاً آيساً إن لم تظهر له النتائج في الحال.
وَٱلْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو أي يصير نباتاً بعد أن يكون حباً وهذا ما نعهده طبعاً وهو أنه إذا كان البذار جيداً والأحوال موافقة ظهرت فيه علامات الحياة بعد أيام وأخذ ينمو وسهر الزارع أم لم يسهر اهتم به أم لم يبال. كذلك الحق الذي يسمعه الإنسان او يقرأه في الإنجيل ينتج التوبة والإيمان والقداسة بفعل الروح القدس.
لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ النمو من الأسرار التي حجبت عن إدراك البشر لكن الإنسان يعرف ما يحدث من تغيّر الحجم به والكمال وأن نمو النبات لا يقوم إلا بالوسائط كالمطر وضوء الشمس وحرارتها وهذه ليست في سلطانه وهو يجهل علة نمو بعض النباتات ولا يعلم الدقيقة التي يبتدئ البزر ينمو فيها ويعجز عن بيان حقيقة الحياة. وجهل كل ذلك أو معرفته لا يعجل النمو ولا يعوّقه ولا يؤجله. وكذلك الأمر في الروحيات فإنا نجهل كيفية النمو في القداسة إنما نرى النتيجة ونعلم أن هذا النمو يقوم بوسائط كالصلاة وامتحان النفس ودرس كتاب الله وإن كنا لا نعلم كيف يقوم ذلك النمو بتلك الوسائط. وهذا وفق قول المسيح «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ» (يوحنا ٣: ٨). ونجهل علة تأثير الحق في البعض وقلة تأثيره في البعض وعلة نمو البعض في القداسة مع كثرة الموانع وعدم نمو البعض مع كثيرة الوسائط المناسبة.
٢٨ «لأَنَّ ٱلأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَلاً نَبَاتاً، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي ٱلسُّنْبُلِ».
ٱلأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ أي بلا حاجة إلى عمل من أعمال الإنسان. فعمله مقصور على فلاحة الأرض وخدمتها وطرح البذار فيها وسقيها إن اقتضته الحال وهذا نهاية ما عليه. وبعد هذا يفعل الله ما لا يراه الإنسان ليجعل الأرض تُحيي البذار وتُنبتُه وتُنمّيه إلى الكمال. وإسناد الإتيان بثمرّ إلى الارض مجاز عقلي والفاعل الحقيقي هو الله لأنه ليس للارض من إرادة ولا قوة على ذلك. وكذلك القلب البشري لا يستطيع أن يأت بشيء من القداسة من ذاته لكنه إذا اتخذ الوسائط التي عينها الله لنشوء القداسة ونموها في قلبه أو قلب غيره أتى الله وحده بالنتيجة في طريق لا نستطيع معرفتها. وهذا وفق قول بولس الرسول «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ يُنْمِي» (١كورنثوس ٣: ٦). وهو لا ينافي وجوب اجتهاد الإنسان في اتخاذ الوسائل للحصول على الحصاد الروحي كما يقتضي ذلك الحصاد المادي. وأشار إلى ذلك بولس بقوله «تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ» (فيلبي ٢: ١٢). وقول بطرس «ٱنْمُوا فِي ٱلنِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (٢بطرس ٣: ١٨) وهذا كله لا ينافي كون الله عاملاً في العالم الطبيعي والعالم الروحي حسب شرائع سنتها حكمته الأزلية حتى يستطيع الإنسان معرفة التعبيرات المتوالية ووقت البلوغ وماهيته.
أوَلاً نَبَاتا أراد بالنبات هنا الفرخ ثم الشطء أي أول انشقاق البزر وظهور الأوراق فوق الأرض وفيه بيان حياة البذار.
سُنْبُلاً السنبل هو جزء من النبت فيه الثمرّ كسنابل الحنطة والشعير وغيرهما والمراد به هنا نبتة القمح من ثمرها.
قَمْحاً الخ أي معداً للحصاد. ولهذه الدرجات الثلاث في نمو البنات ما يوافقها في النمو الروحي في المؤمن.
- الأولى: شعوره شيئاً في خطيئته وخطره عند سمعه دعوة المسيح إياه إلى التوبة والإيمان ثم توبته وإيمانه واتكاله على المسيح للخلاص. فيكون حيئنذ ابناً لله مقاماً من الموت لكنه ضعيف في الفضائل المسيحية.
- الثانية: مقاومته التجارب الباطنة والظاهرة وانتصاره على العالم والشهوة والشيطان وتقويته في المحبة والإيمان والطاعة وغيرته في خدمة المسيح وكنيسته.
- الثالثة: تقدمه في التواضع والخضوع لإرادة الله ولذته بتلاوة كتابه المقدس والصلاة وكل الواجبات المسيحية وانتصاره على كل الشكوك في الدين وشعوره أن السماء وطنه وانتشار روح القداسة منه على من حوله بكلامه وسيرته وزوال خوفه من الموت واستعداده لأن ينقل إلى أهراء الرب «كَرَفْعِ ٱلْكُدْسِ فِي أَوَانِهِ» (أيوب ٥: ٢٦). وتلك الدرجات أحوال متوالية في الماديات لا تسبق الثانية الأولى ولا الثالثة الثانية. فلا يتوقع القمح البالغ قبل أن يفرخ. وكذلك لا ينتظر القداسة التامة والاختبار الكامل من المسيحي في أول إيمانه. والحنطة لا تنضج في سنابلها دفعة واحدة وكذلك الثمرّ الروحي. ويحتاج الإنسان إلى تعليم الروح القدس والاختبار من محاربة التجربة والتأديب من المصائب وامتحان إيمانه وصبره. والنبات يحتاج إلى عناية الفلاح للحماية من الضارات له حتى ينتج «قَمْحاً مَلآنَ فِي ٱلسُّنْبُلِ». وهكذا المسيحي في أول حياته الروحية يحتاج إلى التعليم ونصيحة إخوته المتقدمين والتنشيط والتعزية وصلاة الكنيسة من أجله.
والنمو نفسه غير منظور لكن نتائجه ظاهرة وكذلك أثمار المسيحي ظاهرة وإن لم يُنظر تجدّده. وذُكرت تلك الأثمار في رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية (غلاطية ٥: ٢٢ و٢٣).
وكما صدقت المشابهة بين درجات نمو النبات الثلاثة والحياة الروحية على الفرد من المسيحيين تصدق على نمو الكنيسة في العالم كله. والدرجة الأولى كانت من وقت تأسيس الكنيسة المسيحية ومقاومتها الشديدة للأديان الباطلة وانتصارها عليها. والثانية محاربتها التجارب الداخلية من غرور العالم ومن الكبرياء ومن الكفر وانتصارها عليها وغيرتها لأجل انتشار الإنجيل ومجد المسيح. والثالثة ظهور مجدها وكمالها في سيرة أعضائها المقدسة وصورتها المماثلة لصورة رأسها الإلهي وتعلُّم كل أولادها من الله (إشعياء ٥٤: ١٣). وامتلاء الأرض من «مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ» (حبقوق ٢: ١٤).
٢٩ «وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ ٱلثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ ٱلْمِنْجَلَ لأَنَّ ٱلْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ».
رؤيا ١٤: ١٥
العادة في حصاد القمح أن الذي يزرع يحصد. وعليه جرى المسيح في المثل هنا. والظاهر أنه لم يقصد بذلك إلا ذكره إن تعب الإنسان في الزرع لا يبتدئ ثانية إلا بعد الحصاد وكل ما بين الزرع والحصاد في يد الله. وقصد بذلك تعليمنا التمييز بين فعل الإنسان وفعل الله في نمو الدين المسيحي وانتشاره في العالم. فالإنسان يزرع كلمة الحق والله يجعلها فعالة مثمرة خلاص النفوس. ولكن إذا قيل من هو الذي يحصد الحصاد الروحي الأخير قلنا الجواب في الإنجيل وهو أن الحصادين هم الملائكة الذين يرسلهم ابن الإنسان رب الحصاد. ووقت ذلك الحصاد نهاية العالم عندما يأتي المسيح للدينونة (متّى ١٣: ٣٩). وهذا الحصاد العظيم خلاصة كل الزرع وكل حصاد روحي في عصور العالم (رؤيا ١٤: ١٤ و١٥). وأما حصاد كل فرد مسيحي مستعد للسماء فهو في نهاية حياته. والله يضع المنجل في يد ملاك الموت ليحصد المؤمن من أجله.
وظن بعض المفسرين أن غرض المسيح هنا تعليم تلاميذه أنه عند ما يظهر الإنسان بأعماله تجديد قلبه يُقبَل عضواً في الكنيسة التي هي هُريُ الحصاد الروحي في الحاضر فيكون على هذا التفسير أن المبشر الذي يزرع الكلمة هو الذي يجني الثمرّ الروحي بقبول المؤمن في الكنيسة. وقد نُسب ذلك إلى المبشر في الكتاب الإلهي (مزمور ١٢٦: ٦ ومتّى ٩: ٣٧ و٣٨ ويوحنا ٤: ٣٥ - ٣٨). ولا ريب في أنه يجب على خدمة الدين الاجتهاد في ضم كل المؤمنين بالحق إلى الكنيسة. لكن الأدلة على أن المسيح قصد ذلك هنا ضعيفة. ولا يلزم من قول المسيح «مَتَى أَدْرَكَ ٱلثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ ٱلْمِنْجَلَ» إن الله ينقل كل مسيحي إلى السماء متى رآه مستعداً لذلك لأنه ربما أراد أن يستخدمه بعد ذلك مدة على الأرض فيتركه حياً كما فعل ببولس (فيلبي ١: ٢٣ و٢٤). فالله يأخذ بعض المؤمنين عندما يستعدون ويترك البعض مدة (يوحنا ٢١: ٢٢).
وخلاصة تعليم هذا المثل في الحصاد الروحي ستة أمور:
- إنّه يتعذّر نمو القداسة في قلب الإنسان ما لم تزرع الكلمة الإلهية. لأنه كما أن الأرض لا تنتج من ذاتها سوى شوك وحسك كذلك قلب الإنسان لا ينتج من ذاته إلا شروراً.
- إنّ للإنسان عملاً في حقل الرب وهو زرع كلمة الحق أي التبشير بالإنجيل فيكون بذلك عاملاً مع الله وهذا أعظم شرف للإنسان وأول واجباته (١كورنثوس ٣: ٩).
- إن الزرع الروحاني يحق أن تنتظر نتيجته بعد زرعه بظهور الحياة الروحية والنمو والبلوغ كما يحق أن ينتظر الحصاد في عالم المادة.
- إن النمو الروحي هو عمل الله الخاص ولا يتوقف على تعب الإنسان أو اهتمامه ويأتيه الله في الطريق التي يختارها والوقت الذي يشاء (إشعياء ٥٥: ١٠ و١١ و١كورنثوس ٣: ٦ - ٩ ويعقوب ٥: ٧ و٨ و١بطرس ١: ٢٣ - ٢٥). وهذا العمل الإلهي من وظيفة الروح القدس.
- إن الله يُجري عمله في قلب الإنسان سراً بهدوء وتدريج حتى تكون النتيجة الكمال المسيحي.
- إن الله لا ينقل المؤمنين من الأرض في أول تجدُّدهم لكنه يتركهم على الأرض زماناً كافياً لنموهم التام وبلوغهم الكمال ومتى نقلهم حق لنا أن نستنتج أنهم صاروا مستعدين للسماء وأن الله لا يتوفى أحداً إلا في أجله فلا عرض في ذلك ولا سهو. ولا بد من أن يكون كل من يوحنا المعمدان ويعقوب أخي يوحنا قد استعدا للسماء عندما دعاهما الله إليه وإن كان ذلك في أول خدمتهما إياه.
مثل حبة الخردل ع ٣٠ إلى ٣٤
٣٠ «وَقَالَ: بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ أَوْ بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُهُ؟».
متّى ١٣: ٣١ ولوقا ١٣: ١٨ وأعمال ٢: ٤١ و٤: ٤ و٥: ١٤ و١٩: ٢٠
بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ المراد بملكوت الله هنا الدين المسيحي كما ورد في متّى ٣: ٢ و١٣: ٣١. وفي هذا السؤال أظهر المسيح اهتمامه بأن يخاطب الناس على قدر عقولهم وبأن يجد تشابيه وأمثالاً تؤثر في قلوبهم. فيجب على كل مبشر أن يهتم بمثل ذلك. ولعلّ المسيح قصد بهذا السؤال أن ينبه عقول الناس إلى ما يأتي من كلامه كما وقع في متّى ١١: ١٦.
٣١، ٣٢ «٣١ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، مَتَى زُرِعَتْ فِي ٱلأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُورِ ٱلَّتِي عَلَى ٱلأَرْضِ. ٣٢ وَلٰكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ ٱلْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَاناً كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا».
انظر شرح متّى ١٣: ٣١ و٣٢. ولا فرق في ما نقلاه من كلام المسيح سوى أن مرقس زاد قوله في وصف الأغصان «كبيرة» وأن متّى قال «أن طيور السماء تتآوى في أغصانها» وأن مرقس قال أنها «تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا».
٣٣ «وَبِأَمْثَالٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هٰذِهِ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا».
متّى ١٣: ٣٤ ويوحنا ١٦: ١٢
وَبِأَمْثَالٍ كَثِيرَةٍ لم يذكر مرقس سوى ثلاثة أمثال من الأمثال التي تكلم بها المسيح حينئذ. وأما متّى فذكر سبعة منها وكلها في الأصحاح الثالث عشر من إنجيله.
يُكَلِّمُهُمْ أي يكلم الجموع كما يدل عليه العدد ٣٤.
حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ الخ أي على قدر فهومهم فالسمع هنا ليس مجرد الإدراك بالأذن. والمسيح بلغهم تدريجاً بتشابيه بسيطة صفات ملكوته الروحية وتأثيرها في قلوب تابعي هذا الملكوت وسيرتهم. أو المعنى أن المسيح كان يكلم الناس على قدر الفرص التي تتوفر له للكلام ولهم للسمع بين آت إليه وراجع عنه.
٣٤ «وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى ٱنْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ».
وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ (انظر شرح متّى ١٣: ٣٤) كان ذلك مقصوراً على وقت قصير وموضوع واحد هو صفات ملكوته. وأتى هذا تمهيداً للتعاليم المضادة لآرائهم اليهودية وتلطيفاً لتعصبهم. وقصد بذلك إيضاح الحق لمحبيه ومنع أعداء الحق من إصابة ما يشتكون به عليه.
عَلَى ٱنْفِرَادٍ أي بمعزل عن الجمع.
يُفَسِّرُ أي يوضح كل ما لم يفهموه من معاني الأمثال الروحية وتلك التفاسير لم تُكتب هنا ولكن خلاصتها في أعمال الرسل والرسائل كلها. وهنا منتهى أنباء مرقس بأمثال المسيح ولم يذكر سوى ثلاثة أمثال ذكر مع أحدها تفسيره ع ١ - ٢٥ والاثنين بلا تفسير ع ٢٦ - ٣٢.
تسكين يسوع الريح والبحر ع ٣٥ إلى ٤١
٣٥ «وَقَالَ لَهُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ لَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ: لِنَجْتَزْ إِلَى ٱلْعَبْرِ».
متّى ٨: ١٨ و٢٣ الخ ولوقا ٨: ٢٢ الخ
بعدما فرغ مرقس من كلامه على أمثال المسيح رجع إلى ذكر معجزاته. وكان ما ذكره منها قبلاً سلطان المسيح على شفاء الأمراض. وأخذ هنا يذكر سلطان المسيح على عالم المادة. وذكر متّى هذه الحادثة في ص ٨: ٢٣ - ٢٧ من بشارته. وجاء مرقس بتفاصيل لم يأت بها متّى وهي تمكننا من أن نتصور الحادثة كأنها جرت أمامنا. فنفهم مما قاله أنها حدثت يوم تكلمه بالأمثال المذكورة وأن نزول المسيح وتلاميذه إلى البحر كان مساء وأنهم نزلوا بغتة إلى السفينة ورافقتهم سفن أخر وأن الريح كانت شديدة حتى كادت تغرق السفينة. وفي شدة الاضطراب كان المسيح نائماً في مؤخر السفينة ورأسه على وسادة حتى عاتبه التلاميذ على ذلك. وأنه انتهر الريح والبحر ووبخ التلاميذ.
فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي بعد ما أكمل أمثاله وبعد ما سأله البعض أن يؤذن لهم باتباعهم إياه (متّى ٨: ٢٢).
ٱلْمَسَاءُ كان عند اليهود مساءان. الأول العصر والثاني من بعد الغروب والأرجح أن المراد هنا الثاني.
إِلَى ٱلْعَبْرِ أي إلى الجانب الشرقي من البحر لانهم كانوا على الشاطئ الغربي قرب كفرناحوم (ص ٣: ١٩). ومعظم غاية المسيح من ذلك الاستراحة.
٣٦ «فَصَرَفُوا ٱلْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي ٱلسَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ».
كَمَا كَانَ أي بدون مهلة ولا استعداد وكان ذلك على أثر فراغه من التعليم وكان حينئذ في السفينة (ع ١). وإن كان صعد إلى الشاطئ فقد رجع إليها (لوقا ٩: ٥٧ - ٦٢).
سُفُنٌ أُخْرَى رغبة الجموع في سمع تعليمه ومشاهدة معجزاته التي حملتهم على الازدحام عليه براً حملت بعضهم على أن يتبعوه بحراً إلى العبر. والأرجح أن سفن هؤلاء رجعت عنه وقت اشتداد الريح واضطراب البحر.
٣٧ «فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ ٱلأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ».
نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ سطح بحر الجليل منخفض نحو ست مئة قدم عن بحر الروم والأرض المحيطة به عالية ولذلك عُرّض لاضطربات عظيمة من شدة قصف الرياح الهابطة عليها من تلك الأرض المرتفعة فتتهيج اللجة تهييجاً عظيماً يُعرّض به المسافرون فيه للخطر.
صَارَتْ تَمْتَلِئُ انظر شرح إنجيل متّى (متّى ٨: ٢٤).
٣٨ «وَكَانَ هُوَ فِي ٱلْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟».
وِسَادَةٍ هي مخدّة من مخدّات السفينة توضع غالباً في المؤخر.
أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ هذا قول بعض التلاميذ وأما البعض فقالوا «يَا سَيِّدُ، نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ» (متّى ٨: ٢٥). وقال غيرهم «يَا مُعَلِّمُ، إِنَّنَا نَهْلِكُ» (لوقا ٨: ٢٤). وكل ذلك يدل على خوف التلاميذ وعجزهم وتضرعهم وتوجيههم بعض العتاب إلى معلمهم. وما نقله مرقس من كلامهم هنا أوضح من غيره دلالة على ضعف إيمانهم وعلى معاتبتهم المسيح كأنه لا يبالي بهم.
٣٩ «فَقَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: ٱسْكُتْ. اِبْكَمْ. فَسَكَنَتِ ٱلرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ».
ٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرٍ ٱسْكُتْ. اِبْكَمْ خاطب الريح والبحر كأنهما من عبيده مجبوران على الخضوع له.
هُدُوءٌ عَظِيمٌ سكون الأمواج مع سكون الريح يدل على أن ذلك الهدوء كان معجزة لا عرضاً وأن يسوع هو الله.
٤٠ «وَقَالَ لَهُمْ: مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هٰكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟».
مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ ذكر متّى توبيخ المسيح لتلاميذه قبل أن ذكر تسكينه للبحر لكنه لم يقل أن التوبيخ كان قبل التسكين. وذكر مرقس ولوقا التوبيخ بعد التسكين والأرجح أن قولهما هو الواقع. لأن من كان في الخطر الشديد مثلهم لا يلتفت إلى توبيخ ولا ينتفع به. ولعله قال للتلاميذ أولاً لا تخافوا وسكن البحر ثم لامهم. والأرجح أن خطابه في التأمين والملامة كان عدة جمل اقتصر متّى على ذكر قوله «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ» (متّى ٨: ٢٦) واقتصر مرقس على ما ذكره هنا. واقتصر لوقا على قوله «أَيْنَ إِيمَانُكُمْ» (لوقا ٨: ٢٥). ولعلهم لم يقصده أحد منهم كلام المسيح بلفظه بل خلاصة معناه.
كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ كان إيمانهم كالعدم بالنسبة إلى ما كان يجب عليهم. وما كان لهم من الإيمان القليل (كما ظهر من استغاثتهم بالمسيح) لم يكن كافياً لأن يقيهم من الخوف واليأس.
٤١ «فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ هُوَ هٰذَا؟ فَإِنَّ ٱلرِّيحَ أَيْضاً وَٱلْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!».
خافوا قبلاً من النوء وخافوا هنا أكثر الخوف من قوة المسيح الفائقة التي لم يشاهدوا مثلها منه قبلاً ولم يخطر على بالهم أن له مثل تلك القوة فكانت إعلاناً جديداً لهم.
ولنا من ذلك ست فوائد:
- الأولى: إنّ يسوع هو رب عالم الطبيعة لأن العناصر كلها خاضعة لسلطانه. وأنه إنسان تام كما هو إله تام لأنه تعب واحتاج إلى راحة النوم.
- الثانية: إنّ حضور المسيح بين المؤمنين به لا يمنع وقوع الخطر والتجربة. لكن مع ذلك يجب أن يطمئنوا لأن المسيح بحضوره معهم يدفع عنهم كل ضرر حقيقي.
- الثالثة: إنه ليس لنا حق أن نقول للمسيح في وقت مصائبنا «أما يهمك أننا نهلك» لأنّ عدم إنقاذه إيانا حالاً ليس بدليل على عدم اهتمامه بنا.
- الرابعة: إنا متى سلمنا أنفسنا إلى الخوف واليأس على ما يلّم من المصائب بنا أو بأولادنا أو بكنيستنا أو بأمتنا حق للمسيح أن يعاتبنا بقوله «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هٰكَذَا».
- الخامسة: إن المسيح لا يغتاظ من استغاثتنا به في كل حين ولا يرفض صلاتنا وإن كان إيماننا ضعيفاً. إنما أعظم ما يغيظه هو عدم الثقة به في الخطر.
- السادسة: إن المسيح يبطئ أن يساعدنا في وقت الضيق كأنه نائم ولكنه لا بد من أن ينجينا أخيراً (مرقس ٦: ٤٨ ويوحنا ١١: ٦ و٤٣).
الأصحاح الخامس
شفاء المجنون في كورة الجدريين ع ١ إلى ٢١
١، ٢ «١ وَجَاءُوا إِلَى عَبْرِ ٱلْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ. ٢ وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ ٱسْتَقْبَلَهُ مِنَ ٱلْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِس».
متّى ٨: ٢٨ الخ ولوقا ٨: ٢٦ الخ
قد مرّ الكلام على شفاء هذا الإنسان في شرح إنجيل متّى (متّى ٨: ٢٨ - ٣٤). وذكر متّى ما لم يذكره مرقس منها أنه كان مجنون آخر مع المجنون الذي ذكره مرقس هنا ولوقا في إنجيله (لوقا ٨: ٢٧). وربما كان السبب لاقتصار مرقس ولوقا على ذكر واحد منهما لأنه أشهر من الثاني. ولا منافاة بين قول متّى وقول مرقس ولوقا لأن مرقس ولوقا لم يقولا لم يكن سوى مجنون واحد. وزاد مرقس على قول متّى ما يوضح به النبأ وذلك أن المجنون كان كالوحش الضاري لا يقدر أحد أن يربطه ولا بسلاسل وأنه كان يصيح منفرداً على الجبال ويجرح جسده بالحجارة وأنه رأى يسوع من بعيد وجرى إليه وأنه صرخ بصوت عال عند ما وصل إليه واستحلفه بالله أن لا يعذبه وشدة رغبة الشياطين في أن لا يطردهم من تلك الكورة وأنه كان عدد الخنازير هناك ألفين والفرق العظيم بين ما كان عليه المجنون قبل شفائه وما صار إليه بعده وسؤاله أن يتبع المسيح بالذات وأمر المسيح إياه أن يذهب ويخبر عما كان له وكثرة شيوع الخبر في تلك البلاد.
إِلَى عَبْرِ ٱلْبَحْرِ أي إلى الجانب الشرقي.
كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ كانت هذه الكورة قُبالة الجليل شرقاً (لوقا ٨: ٢٦) وكان لهما اسمان بالنسبة إلى المدينتين المشهورتين فيها وهما جرجسة وجدرة فسميت أحياناً بكورة الجرجسيين (متّى ٧: ٢٤) وأحياناً بكورة الجدريين كما هنا. وجدرة هي قاعدة بلاد بيريّة على الجنوب الشرقي من بحر الجليل وتسمى خربها اليوم أم قيس وفيها أناس قليلون يسكنون في مغاير واسعة هنالك.
إِنْسَانٌ ذكر متّى إنساناً آخر معه (متّى ٨: ٢٨). والأرجح أن الذي ذكره مرقس هو أشهرهما.
رُوحٌ نَجِس أي شياطين لأنه أراد بالروح النجس الجنس لا الفرد كما يظهر من الآية الثانية عشرة. والأرجح أن ذلك الإنسان من مدينة جدرة (لوقا ٨: ٢٧).
٣ - ٥ «٣ كَانَ مَسْكَنُهُ فِي ٱلْقُبُورِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ، ٤ لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيراً بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ ٱلسَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ ٱلْقُيُودَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّـلَهُ. ٥ وَكَانَ دَائِماً لَيْلاً وَنَهَاراً فِي ٱلْجِبَالِ وَفِي ٱلْقُبُورِ، يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِٱلْحِجَارَةِ».
قَدْ رُبِطَ كَثِيراً ذكر متّى أن علة ذلك هياجه وتعرضه للمارين بالأذى (متّى ٨: ٢٨).
فَقَطَّعَ ٱلسَّلاَسِلَ من المشهور أن المجانين تظهر منهم في الغالب قوّة غير معتادة في العقلاء.
كَانَ دَائِماً هذا يدل على أنه جُنّ منذ زمن طويل وأنه كان جنونه مستمراً حتى لم يستطع أن يعود إلى بيته كما يتهيأ لبعض المجانين أحياناً.
لَيْلاً وَنَهَاراً وهذا يدل على أن جنونه حرمه النوم.
يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ كان صياحه من شدة تعذيب الشياطين له وهم حملوه على أن يجرّح جسده. وهذه الأحوال كلها دليل على أن جنونه كان غير عادي وأنه كان يزداد شدة لأنهم كانوا يقيدونه في أول الامرّ ثم عجزوا عن ذلك أخيراً. وذكر مرقس كل هذه الأمور ليبيّن عظمة معجزة المسيح في شفاء ذلك المجنون.
٦ - ٨ «٦ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ، ٧ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ! أَسْتَحْلِفُكَ بِٱللّٰهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي! ٨ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ: ٱخْرُجْ مِنَ ٱلإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ».
ص ١: ٢٣ - ٢٦
يعسر على القارئ أن يعرف أي الأفعال المذكورة هنا للإنسان وأيها للشياطين.
مِنْ بَعِيدٍ لا بد أن المجنون رأى يسوع وجرى إليه وهو في البحر لأن متّى قال أنه استقبله عندما خرج من السفينة (متّى ٨: ٢٨). وعرف المسيح من الشياطين الذين فيه.
رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ يجب أن ننسب هذا الفعل إلى المجنون لا إلى الشياطين لأنهم يفضلون البعد عن المسيح على القرب منه. والظاهر أن المجنون مع كثرة الشياطين الذين فيه لم يزل مالكاً بعض اختياره وحريته.
وَصَرَخَ كان هذا الصراخ فعل الشياطين فإنهم استخدموا نطق ذلك الإنسان وعلّته أمر المسيح إياهم أن يخرجوا منه.
مَا لِي وَلَكَ الخ كان الجري والسجود اللذين أتاهما الإنسان للاستغاثة به من الشياطين. وأما كلمات الصراخ هنا فكانت كلمات الشياطين أتوها بياناً لغيظهم من تعرض المسيح لهم ورغبتهم في تركه إياهم في ما هم عليه. والذي تكلم من الشياطين بتلك الكلمات ناب عن سائرهم.
ِأَسْتَحْلِفُكَ بِٱللّٰه لم يقصد الشياطين التجديف بهذا الاستحلاف بل شدة التضرع على أن المسيح لم يعذبهم بصرامة أشد مما حكم الله عليهم به إذ أذن لهم أن يبقوا على الأرض زماناً قبل أن يُقيَّدوا في الجحيم.
٩ «وَسَأَلَهُ: مَا ٱسْمُكَ؟ فَأَجَابَ: ٱسْمِي لَجِئُونُ، لأَنَّنَا كَثِيرُونَ».
ص ١٦: ٩
مَا ٱسْمُكَ لم يظهر مَن المخاطب هنا. فإن كان الإنسان كان مراد المسيح أن يُرجعه إلى وجدانه بتذكره اسمه. وإن كان الشياطين فهو لم يسألهم عن أسمائهم لجهله إياها بل ليظهر للحاضرين هول النازلة في ذلك المجنون وعظمة قدرته على إخراج الأرواح النجسة.
لَجِئُونُ أي جيش وهو اسم فرقة من العساكر الرومانيين عددها الكامل ٦٠٠٠ عُني به هنا عدد كثير وتُرجم في أفسس ٦: ١٢ وكولوسي ٢: ١٥ بالأجناد.
١٠ «وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً أَنْ لاَ يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ ٱلْكُورَةِ».
وَطَلَبَ أي شيطان واحد بالنيابة عن الجميع.
لاَ يُرْسِلَهُمْ طلبوا أمرين الأول أن يتركهم على ما هم فيه (ع ٧). والثاني أن يبقيهم في تلك الكورة إن لم يسمح أن يبقيهم في المجنون وتمام هذا الطلب في (ع ١٢).
ٱلْكُورَةِ أي بلاد الجدريين. ولنا من ذلك أن الله سمح للشياطين ببعض الحرية في الجولان في هذا العالم وبأن يجرّبوا الناس وأن يكون زمن سجنهم وتعذيبهم في المستقبل. وذكر متّى أنهم سألوه هل أتى ليعذبهم قبل الوقت (متّى ٨: ٢٩). وذكر لوقا أنهم سألوه أن لا يرسلهم إلى الهاوية (لوقا ٨: ٣١).
ولا نعلم هل بقي للشياطين سلطان على أجساد الناس وعقولهم الآن. لكن نتيقن أن لهم سلطاناً على تجربتنا للإثم بواسطة أفكارنا وشهواتنا بدليل قول بطرس «أَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (١بطرس ٥: ٨). فلذلك يجب أن نخاف ونحترس منهم ونلجأ إلى الله دائماً بقولنا لا تدخلنا في التجربة بل نجنا من الشرير.
١١ - ١٣ «١١ وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ ٱلْجِبَالِ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ ٱلْخَنَازِيرِ يَرْعَى، ١٢ فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ ٱلشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ: أَرْسِلْنَا إِلَى ٱلْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا. ١٣ فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ ٱلأَرْوَاحُ ٱلنَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي ٱلْخَنَازِيرِ، فَٱنْدَفَعَ ٱلْقَطِيعُ مِنْ عَلَى ٱلْجُرْفِ إِلَى ٱلْبَحْرِ - وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَٱخْتَنَقَ فِي ٱلْبَحْر».
انظر شرح إنجيل متّى (متّى ٨: ٣١ و٣٢). لم يزد مرقس على ما قال متّى سوى تعيينه عدد الخنازير. والذين ينكرون دخول الأرواح النجسة في الناس وأن الجنون هنا ليس سوى اختلال مرضي في قوى الدماغ أو هو الصرع المعروف وأن المسيح سماه جنوناً وفقاً لعرف العامة فعليهم أن يفسروا سبب هلاك الخنازير في هذه الحادثة.
١٤ - ١٦ «١٤ وَأَمَّا رُعَاةُ ٱلْخَنَازِيرِ فَهَرَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي ٱلْمَدِينَةِ وَفِي ٱلضِّيَاعِ، فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. ١٥ وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَنَظَرُوا ٱلْمَجْنُونَ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱللَّجِئُونُ جَالِساً وَلاَبِساً وَعَاقِلاً، فَخَافُوا. ١٦ فَحَدَّثَهُمُ ٱلَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ جَرَى لِلْمَجْنُونِ وَعَنِ ٱلْخَنَازِيرِ».
فِي ٱلْمَدِينَةِ أي في جدرة أو جرجسة. فالرعاة أخبروا بالأمر أهل المدينة وأهل القرى وأبناء السبيل حتى اجتمع خلق كثير وأبان متّى كثرة المجتمعين بقوله «كل المدينة».
مَا جَرَى أي ما حدث من أمر المجنون.
ٱلْمَجْنُونَ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱللَّجِئُونُ أي الذي عرفوا أنه كان مجنوناً لما سكنه الشياطين.
جَالِساً على غير عادته من الجولان في الجبال. والجلوس دلالة على الهدوء والراحة. قال لوقا أنه كان جالساً عند قدمي يسوع بياناً لشكره ومحبته لشافيه.
لاَبِساً على غير عادته فإن لوقا قال أنه «كان لا يلبس ثوباً».
عَاقِلاً ظهر لهم ذلك من هيئته وحركاته.
فَخَافُوا وذلك مما رأوه لاعتقادهم من علامات قوة المسيح غير العادية فهابوا يسوع لاعتقادهم أنه أعظم من كل إنسان.
ٱلَّذِينَ رَأَوْا هم الذين شاهدوا المعجزة وهم غير الرعاة الذين لم يروا سوى غرق الخنازير وعلموا ما كان قبله بالسماع.
١٧ «فَٱبْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ».
متّى ٨: ٣٤ وأعمال ١٦: ٣٩
انظر شرح إنجيل متّى ٨: ٣٤. إن الناس هنالك لم يلتفتوا إلا إلى خسارتهم وخافوا كثيراً من أمثالها إن بقي المسيح في أرضهم. ولم يلتفتوا إلى رحمة المسيح للمجنون بشفائه إياه. ولم يفتكروا في أمثال ذلك من أعمال الرحمة التي يمكنه أن يعملها بينهم.
وكذلك كثيرون من الناس يغلقون أبواب قلوبهم دون المسيح خيفة أن تلحقهم خسارة دنيوية من دخوله قلوبهم.
١٨ «وَلَمَّا دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ طَلَبَ إِلَيْهِ ٱلَّذِي كَانَ مَجْنُوناً أَنْ يَكُونَ مَعَهُ».
لوقا ٨: ٣٨
طلب ذلك شكراً ومحبة للمسيح ورغبة في القرب منه.
١٩ «فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ، بَلْ قَالَ لَهُ: ٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ ٱلرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ».
فَلَمْ يَدَعْهُ لعلّ المسيح أبى إجابة طلب الذي كان مجنوناً لعلمه أن بقاءه في بلاده خير من ذهابه معه. وأنه يمجد المسيح بشهادته له بين أهله أكثر مما يمجده باتباعه إياه. فإن المسيح قبل أن يخرج من تلك التخوم حسب طلب السكان لكنه ترك فيها مبشراً ينوب عنه وهو الذي شفاه.
إِلَى أَهْلِكَ علم المسيح أن أهله اهتموا به وحزنوا عليه كثيراً فأراد تعزيتهم بمشاهدتهم إياه سليماً عاقلاً. وكل من نال من المسيح شفاء نفسه من مرض الخطيئة يجب عليه أن يخبر أهله وأصدقاءه أولاً بقوة الطبيب الروحاني وجودته. فعلى المسيحي أن يشهد للمسيح أولاً في بيته ويظل كذلك إلى آخر حياته وفقاً لقول داود «هَلُمَّ ٱسْمَعُوا فَأُخْبِرَكُمْ يَا كُلَّ ٱلْخَائِفِينَ ٱللّٰهَ بِمَا صَنَعَ لِنَفْسِي» (مزمور ٦٦: ١٦).
وَأَخْبِرْهُمْ كثيراً ما منع المسيح الذين شفاهم من إذاعة خبره لكنه أمر المجنون الذي شفاه بالمناداة لأنه لم يكن خطر من أن يقوم أهل بيريّة ليجعلوه ملكاً كما أراد أهل الجليل ولا خوف من ازدحام الناس عليه.
٢٠ «فَمَضَى وَٱبْتَدَأَ يُنَادِي فِي ٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. فَتَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ».
فِي ٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُنِ هي أشهر المدن في بيريّة ولم يتحقق كل أسمائها. والأرجح أنها سكيثا بولس وهي أكبرها وجدرة. وجرجسة أو جرسة. وبلاَّ وتُسمى اليوم فحلا وهي المدينة التي هرب إليها المسيحيون وقت خراب أورشليم وهبّوس. وديون. وفلادلفيا. وكناثا. ودمشق. ورافانة. ومرّ الكلام على العشر المدن في شرح إنجيل متّى ٤: ٢٥ فارجع إليه.
وما أعظم تغيّر ذلك الإنسان فإنه كان قبلاً مسكناً لشياطين كثيرة تعذبه وهولاً لكل جيرانه فصار تلميذاً ليسوع مؤمناً سعيداً مبشراً بالإنجيل الجيران والأصدقاء. والانتصارات الروحية اليوم ليست بأقل تأثيراً من الانتصارات في تلك الأيام.
شفاء نازفة الدم وإقامة ابنة يآيروس ع ٢١ إلى ٤٣
٢١ «وَلَمَّا ٱجْتَازَ يَسُوعُ فِي ٱلسَّفِينَةِ أَيْضاً إِلَى ٱلْعَبْرِ ٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ».
متّى ٩: ١ ولوقا ٨: ٤٠
إِلَى ٱلْعَبْرِ أي الجانب الغربي من البحر. والمحل الذي اجتاز إليه هو كفرناحوم (متّى ٩: ١) وسُميت مدينته.
وَكَانَ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ نعلم مما جاء في بشارة متّى أن المسيح كان قبل وصول يايرس بقليل في وليمة في بيت متّى يحاور الفريسيين وتلاميذ يوحنا المعمدان. ولنا من ذلك أن بيت متّى كان على شاطئ البحر أو أن المسيح خرج من بيته وذهب إلى الشاطئ.
٢٢ - ٢٤ «٢٢ وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ ٱلْمَجْمَعِ ٱسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ. وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، ٢٣ وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً قَائِلاً: ٱبْنَتِي ٱلصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا. ٢٤ فَمَضَى مَعَهُ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَزْحَمُونَهُ».
متّى ٩: ١٨ ولوقا ٨: ٤١
مرّ الكلام على هاتين المعجزتين في الشرح (متّى ٩: ١٨ - ٢٦). وزاد مرقس في خبر ابنة الرئيس أن اسم الرئيس يايرس وأن ابنته كانت صغيرة وأنها على آخر نسمة وأن جمعاً كثيراً رافق يسوع وتلاميذه وهم ذاهبون إلى بيت يايرس. وزاد في خبر نازفة الدم أنها تألمت كثيراً من أطباء كثيرين وأنها أنفقت كل مالها بغية الشفاء باطلاً وأنها عندما شفيت جف ينبوع دمها وأنها شعرت برجوع الصحة إليها وأن المسيح التفت ونظر حوله ليرى من لمسه وأن المرأة دنت إليه مرتعدة وسجدت له واعترفت بكل ما كان منها وأنه أتى الرسل في أثناء ذلك من بيت يايرس يخبرونه بموت ابنته وأن المسيح لما وصل إلى بيت الرئيس لم يسمح بالدخول لسوى والدي البنت وبطرس ويوحنا ويعقوب. وبيّن بأوضح أسلوب ضجيج النائحين والنادمين. وذكر كلمات المسيح بعينها وهي قوله «طاليثا قومي» وأن الابنة قامت ومشت حالاً وأنها كانت في سن الثانية عشرة وأن المسيح أمر بأن يقدم لها طعام وأنه أوصى والديها كثيراً بعدم إشاعة خبر المعجزة. وأما لوقا فذكر بعض ما ذكره مرقس. ومما لم يذكره سوى متّى أنه كان هنالك مزمّرون.
يَايِرُسُ هذا مثل يائير في العبراني (عدد ٣٢: ٤١ وقضاة ١٠: ٣).
ٱبْنَتِي قيل في إنجيل لوقا أنها ابنته الوحيدة (لوقا ٨: ٤٢) وقيل في ع ٤٢ أنها ابنة اثنتي عشرة سنة. أما متّى فنقل الخبر بالمعنى وأما مرقس فنقله بلفظه.
عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ هذا قول يايرس ومراده به أنه لم يبق بينها وبين الموت إلا قليل جداً حتى ظن احتمال موتها قبل وصوله إلى يسوع وهذا الذي حمله على أن يقول للمسيح «إِنَّ ٱبْنَتِي ٱلآنَ مَاتَتْ» (متّى ٩: ١٨).
جَمْعٌ كَثِيرٌ اعتاد الناس أن يجتمعوا حول المسيح ويتبعوه لمشاهدة معجزاته ولكن زاد اجتماعهم هنا لاسم يايرس ورفعة مقامه فرغبوا في أن يظهروا غيرتهم له وشعورهم بمصابه واهتمامهم بنتيجة التجائه إلى المسيح.
٢٥، ٢٦ «٢٥ وَٱمْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ٢٦ وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئاً، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ أَرْدَأَ».
لاويين ١٥: ٢٥ ومتّى ٩: ٢٠
تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ هذ دليل على شدة مرضها فإن أعظم مختبري الطب لم ينفعوها شيئاً ولعلهم وصفوا لها أدوية كثيرة شديدة التأثير زادت آلامها. فإذا كانت في شر حال لأن مرضها أتلف قوتها ونجسها في عين الشريعة (لاويين ١٥: ٢٥ و٢٦) وبقيت كذلك سنين كثيرة وافتقرت ويئست من كل علاج ولم تتوقع في المستقبل سوى زيادة المرض ثم الموت.
٢٧ - ٢٩ «٢٧ لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ، جَاءَتْ فِي ٱلْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ، وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ، ٢٨ لأَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ. ٢٩ فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ ٱلدَّاءِ».
انظر الشرح متّى ٩: ٢٠ و٢١.
سَمِعَتْ بِيَسُوعَ أي بما أتاه من معجزات الشفاء. ومما ذُكر في هذه الآيات ظهر لنا صحة إيمانها وإن كان ضعيفاً ويُثبت ذلك اعتقادها الشفاء بلمس الهدب المقدس من ثوب ذلك النبي العظيم (عدد ١٥: ٣٧ - ٤٠ وتثنية ٢٢: ١٢).
مِنْ وَرَاءٍ لكي لا ينتبه أحد لها.
وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ لم تكن قوّة الشفاء في ثوب المسيح فإنها في مشيئته. فلا تتوقف على لمس ولا على كلام. ووهمها الممتزج بإيمانها لم يمنع المسيح من إبرائها. ولنا من ذلك أن أفضل طريق لإزالة الأوهام من عقول الناس أحياناً تقوية الإيمان وتوجيه الأفكار إلى المسيح لا مقاومتها رأساً فإنها قد تزول بذلك من ذاتها.
٣٠ «فَلِلْوَقْتِ ٱلْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ ٱلْجَمْعِ شَاعِراً فِي نَفْسِهِ بِٱلْقُّوَةِ ٱلَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَقَالَ: مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟».
لوقا ٦: ١٩ و٨: ٤٦
مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي لم يسأل ذلك لجهله من لمسه بل ليحمل اللامسة على الإقرار بإيمانها به وليعلن المعجزة لغيرها وليهب لها بركة أفضل من بركة الشفاء التي وهبها لها. ولا ريب في أن المسيح عرف مصابها وهو الذي منحها الإيمان واستعمل قوته على الشفاء حين لمست ثوبه.
٣١ «فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: أَنْتَ تَنْظُرُ ٱلْجَمْعَ يَزْحَمُكَ، وَتَقُولُ مَنْ لَمَسَنِي؟».
فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ أي بلسان بطرس نيابة عنهم (لوقا ٨: ٤٥). وقالوا ذلك لأنهم لم يعرفوا ما حدث للمرأة ولا غاية المسيح من سؤاله. واستغربوا ذلك السؤال لاعتقادهم أنه قصد اللمس المعتاد والشعب يزحمه من كل جهة. وأما هو فسأل عمن لمسه بغية الشفاء وناله.
٣٢ «وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى ٱلَّتِي فَعَلَتْ هٰذَا».
وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لم يأت ذلك بغية التفتيش عن مجهول بل ليرى اللامسة. وهي عرفت مقصوده من نظره إليها (لوقا ٨: ٤٧) واتخذتها دعوة إلى الدنو منه والإقرار بما حدث. ولا بد من أن المسيح بنظرته إليها أظهر لها الرقة والشفقة فسكن بذلك بعض روعها على التقدم إليه. وكان من لطف المسيح أنه دعاها إلى ما ذُكر بعد نوالها الشفاء لا قبله.
٣٣، ٣٤ «٣٣ وَأَمَّا ٱلْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ، عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا، فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ ٱلْحَقَّ كُلَّهُ. ٣٤ فَقَالَ لَهَا: يَا ٱبْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. ٱذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ».
متّى ٩: ٢٢ وص ١٠: ٥٢ وأعمال ١٤: ٩
خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ اعتراها ذلك طبعاً لأنها امرأة دعيت أمام جماعة كثيرة من الرجال. وزاد خوفها كون مرضها محسوباً عندهم نجساً وتوقعها لوم المسيح والجمع لأنها دنستهم باقترابها منهم.
يَا ٱبْنَةُ لم يذكر في بشارة من البشائر الأربع ان المسيح دعا امرأة غير هذه بلفظة ابنة. ولا ريب في أن تلك اللفظة أزالت كل ما عراها من الخوف. وما قاله بعد ذلك عزّى قلبها وأثبت لها علناً ما نالته سراً وأكد لها دوام شفائها وكماله. ومدح إيمانها المرضي له والمانح الخلاص لها (أفسس ٢: ٨).
٣٥، ٣٦ «٣٥ وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جَاءُوا مِنْ دَارِ رَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: ٱبْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ ٱلْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟» ٣٦ فَسَمِعَ يَسُوعُ لِوَقْتِهِ ٱلْكَلِمَةَ ٱلَّتِي قِيلَتْ، فَقَالَ لِرَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ: لاَ تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ».
لوقا ٨: ٩
قَائِلِينَ لم يذكر متّى مجيء هؤلاء. ودلّ قولهم «لِمَاذَا تُتْعِبُ ٱلْمُعَلِّمَ» أنهم ممن يعتبرون المسيح ولا يريدون أن يتعب عبثاً وأنهم يئسوا من كل نفع من ذهاب المسيح لأن الابنة ماتت واعتقادهم أن قوة المسيح لا تنفع تلك الابنة شيئاً بعد تسلط الموت عليها لأن المسيح لم يُقم ميتاً قبلها. فلم يعلم الناس أن له سلطاناً على الإقامة من الموت. ولم يذكر لوقا في كلامه على هذه الحادثة غير رسول واحد من دار الرئيس ولكن ذكر إرسال واحد لا ينفي ذهاب غيره معه.
فَسَمِعَ يَسُوعُ يظهر من ذلك أن المخبرين أخبروا يايرس وحده غير قاصدين أن يسمع يسوع.
فَقَالَ أسرع يسوع إلى تقوية إيمانه قبل أن يستطيع إظهار حزنه أو يأسه.
آمِنْ فَقَطْ أي صدّق أن ترجع ابنتك إليك حية صحيحة وأن لي سلطاناً على إقامة الموتى كما لي على شفاء الأحياء. وكان إيمان يايرس شرطاً ضرورياً لاستعمال المسيح ذلك السلطان. ولا ريب أن إيمانه كان قد تقوى بما شاهده من أمر شفاء نازفة الدم في الطريق وإن كان ما حصل له من العوائق في ذلك تجربة لإيمانه.
٣٧ «وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَتْبَعُهُ إِلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ، وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ».
تبعه الجمع حتى بلغ البيت ولكن يسوع لم يدع أحداً يدخل معه سوى والديها وثلاثة من الرسل (لوقا ٨: ٥١) وهؤلاء الثلاثة هم الذين انتخبهم من الاثني عشر ليكونوا معه في جبل التجلي وفي جثسيماني وقت اكتئابه (ص ٩: ٢ و١٤: ٣٣).
٣٨، ٣٩ «٣٨ فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجاً. يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيراً. ٣٩ فَدَخَلَ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ ٱلصَّبِيَّةُ لٰكِنَّهَا نَائِمَةٌ».
يوحنا ١١: ١١
انظر الشرح متّى ٩: ٢٣ و٢٤. التفت مرقس اكثر التفات إلى ضجيج النائحين وولولتهم ولم يذكر ما ذكره متّى من أمر المزمرين. ولا يلزم من منع المسيح إياهم عن البكاء تحريمه إياه في الحزن لأنه منعهم عنه وقتئذ لأنه كان في غير محله.
٤٠ - ٤٢ «٤٠ فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ ٱلْجَمِيعَ، وَأَخَذَ أَبَا ٱلصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا وَٱلَّذِينَ مَعَهُ وَدَخَلَ حَيْثُ كَانَتِ ٱلصَّبِيَّةُ مُضْطَجِعَةً، ٤١ وَأَمْسَكَ بِيَدِ ٱلصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: طَلِيثَا، قُومِي. (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ قُومِي). ٤٢ وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ٱبْنَةَ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً».
انظر الشرح متّى ٩: ٢٥
فَأَخْرَجَ ٱلْجَمِيعَ يدل على إيمان يايرس أنه سمح بإبطال المناحة وصرف النادبين.
طَلِيثَا قُومِي هذه عبارة سريانية كان يستعملها في أيام المسيح بعض أهل فلسطين في محادثاتهم المعتادة. وكانت اليونانية يومئذ اللغة الأكثر شيوعاً. وترجمة مرقس إياها إلى اليونانية من الأدلة على أنه كتب إنجيله للقراء الرومانيين الذين كانوا يتكملون باليونانية وقتئذ ومثل ذلك ترجمته «بوانرجس» (ص ٣: ١٧) و «قربان» ص ٧: ١١ و «إفثا» (ص ٧: ٣٤) و «إيلي إيلي إالخ» (ص ١٤: ٣٥) و «أبا» (ص ١٤: ٦٣).
وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ أي رجعت الحياة إليها حالاً. وعادت إليها الحياة دفعة لا كما كان من أمر الصبي الذي أحياه الله بصلاة أليشع النبي (٢ملوك ٤: ٣٤ و٣٥).
وَمَشَتْ فكان ذلك تحقيقاً لعود صحتها بتمامها.
ٱبْنَةَ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ذكر ذلك بياناً أنها ليست في الطفولية بل في سن تستطيع فيه المشي إذا كانت سليمة.
بُهِتُوا أي دهشوا عجباً وحق لهم أن يتحيروا لأنهم شاهدوا التي تحققوا موتها عادت حية (لو ٨: ٥٣) ولم يعهدوا مثل ذلك.
٤٣ «فَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذٰلِكَ. وَقَالَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ».
متّى ٨: ٤ و٩: ٣٠ و١٢: ١٦ و١٧: ٩ وص ٣: ١٢ ولوقا ٥: ١٤
لعلّ سبب توصيته إياهما مثل ما ذُكر في الشرح متّى ٩: ٣٠. ومن ذلك اعتزال تهيج الناس وحسد الرؤساء وعاقة عمله الروحي. ولكن مثل هذه المعجزة لا يمكن كتمه. وقد ذكر متّى أنه «خَرَجَ ذٰلِكَ ٱلْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا» (متّى ٩: ٢٦).
لِتَأْكُلَ أمر بذلك إثباتاً لعودتها إلى الحياة الحقيقية كما أتى مثل ذلك في نفسه (لوقا ٢٤: ٣٠ ويوحنا ٢٠: ٢٧ و٢١: ١٣). ولعلّ علة ذلك علمه بأن الابنة محتاجة إلى الطعام وأن والديها ينسون إطعامها لشدة فرحهما بعودة حياتها. فلا قلب أرق من قلب المسيح وهو أكثر شفقة من قلب الوالدة على ولدها. نعم إنّ المسيح أقامها بوسائط خارقة الطبيعة ولكنه أراد أن تقتات بوسائط طبيعية.
ما أعظم التغيّر الذي حدث في بيت يايرس من دخول المسيح إليه وما أشد سرعة تبدل أصوات الحزن بأصوات الفرح. وذلك المخلّص لا يزال مستعداً لدخول بيوتنا اليوم إذا دعوناه ويهب لنا ولأولادنا بركات روحية أعظم من الإحياء الجسدي وهي إقامة النفوس من الموت الروحي. وفرح الوالدين في ذلك البيت يومئذ برجوع الابنة إليهما عربون فرح المسيحيين يوم القيامة باجتماعهم بمن توفاهم الله من أولادهم الصالحين.
إن معجزات المسيح في إقامة الموتى ثلاث إذا قطعنا النظر عن إقامته نفسه. أولها إقامة بنت يايرس على أثر موتها وصنعها قدام قليلين. وثانيهما إقامة الشاب ابن الأرملة في نايين بعد موته بساعات وأتى ذلك جهاراً قدام كثيرين. وثالثهما إقامة لعازر بعد موته بأربعة أيام وتوقع بداءة فساد الجسد وأقامه أمام كثيرين من الأصحاب والأعداء. وفي كل منها أقام الميت بأمره بدون صلاة سوى تقديم الشكر عند قبر لعازر. وبذلك أظهر سلطانه المطلق على الموت لأن الموت أُجبر أن يُطلق أسراه بأمر المسيح سواء أسرهم قديماً أم أسرهم حديثاً. فلماذا يخشى المسيحيون الموت ومفتاح الموت والحياة في يد المسيح.
الأصحاح السادس
تهاون أهل الناصرة بالمسيح ع ١ إلى ٦
١ «وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ».
متّى ١٣: ٥٤ ولوقا ٤: ١٦
مِنْ هُنَاكَ أي من كفرناحوم.
إِلَى وَطَنِهِ أي إلى الناصرة وكانت وطنه من يوم رجوعه من مصر إلى أن ابتدأ ينادي بالإنجيل. وهذه زيارته الثانية إليها بعد تلك المدة. وقد مرّ الكلام على إتيانه إليها ورفض أهلها إياه في الشرح (متّى ١٣: ٥٤ - ٥٨). وأما زيارته الأولى إياها فذكرها لوقا ٤: ١٤ - ٣٠ وطردوه بالقسوة إذ أرادوا وقتئذ أن يطرحوه من قمّة جبل يجاور المدينة فذهب منها إلى كفرناحوم (لوقا ٤: ٣١).
٢، ٣ «٢ وَلَمَّا كَانَ ٱلسَّبْتُ ٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي ٱلْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ: مِنْ أَيْنَ لِهٰذَا هٰذِهِ؟ وَمَا هٰذِهِ ٱلْحِكْمَةُ ٱلَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُّوَاتٌ مِثْلُ هٰذِهِ؟ ٣ أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلنَّجَّارَ ٱبْنَ مَرْيَمَ، وَأَخَا يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ هٰهُنَا عِنْدَنَا؟ فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ».
يوحنا ٦: ٤٢، متّى ١٢: ٤٦ وغلاطية ١: ١٩، متّى ١١: ٦
لم يزد مرقس على ما قاله متّى سوى أن يسوع كان نجاراً. وقال متّى أنه ابن نجار وليس من الغرابة أن يكون اشتغل بصناعة يوسف الذي حُسب أباً له.
تَلاَمِيذُه أي رسله وهذا مما لم يذكره متّى.
قُّوَاتٌ مِثْلُ هٰذِهِ أشار بذلك إلى المعجزات التي أخبرهم بها الغير لأنهم لم يشاهدوا معجزة منه (ع ٥). سمى الإنجيليون ما أتاه المسيح من الخوارق بأربعة أسماء:
- عجائب وسموها كذلك إشارة إلى تأثيرها في المشاهدين.
- آيات وسموها كذلك إشارة إلى غايتها وذلك أنها أدلة على أن الذي يفعلها مرسل من الله.
- قوات وسموها كذلك إشارة إلى عظمتها بالنسبة إلى أعمال البشر.
- أعمال أي أعمال الله واختار يوحنا الاسم الرابع (يوحنا ٦: ٢٨ و٧: ٢١ و١٠: ٢٥ و٣٢ و٣٨).
٤، ٥ «٤ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ. ٥ وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُّوَةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ».
متّى ١٣: ٥٧ ويوحنا ٤: ٤٤، تكوين ١٩: ٢٢ و٣٢: ٢٥ ومتّى ١٣: ٥٨ و٩: ٢٣
وَلَمْ يَقْدِرْ لم يعنِ بذلك أنه عجز هناك عما استطاعه في موضع آخر بل معناه أنه لم يستطع ذلك مع حفظ القانون الذي وضعه لعمل الغرائب وهو أن لا يصنع المعجزة إلا حيث الإيمان. هذا السبب الأعظم. ومن أسباب ذلك أن أهل الناصرة لم يتركوا له فرصة لذلك لأنهم لعدم إيمانهم بقوته لم يأتوا إليه بمريض يبتغون شفاءه.
وَضَعَ يَدَيْهِ الخ أوضح مرقس بهذا ما ذكره متّى بقوله «وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً» (متّى ١٣: ٥٨).
٦ «وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَصَارَ يَطُوفُ ٱلْقُرَى ٱلْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ».
إشعياء ٥٩: ١٦، متّى ٩: ٣٥ ولوقا ١٣: ٢٢
وَتَعَجَّبَ تعجَب المسيح سابقاً من إيمان قائد المئة في كفرناحوم وهنا تعجب من عدم إيمان أهل الناصرة. وتعجُب المسيح لا ينافي لاهوته لأنه كان إنساناً حقيقياً كما أنه إله حق. فلا غرابة من أن يتعجب أعظم من أن يجوع ويعطش ويبكي ويعتب إلى غير ذلك من أمثاله. نعم أن لاهوته منزّه عن كل ذلك.
إرساله الاثني عشر للتبشير ع ٧ إلى ١٣
٧ - ١١ «٧ وَدَعَا ٱلاثْنَيْ عَشَرَ وَٱبْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ، وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْوَاحِ ٱلنَّجِسَةِ، ٨ وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصاً فَقَطْ، لاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ نُحَاساً فِي ٱلْمِنْطَقَةِ. ٩ بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَالٍ، وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ. ١٠ وَقَالَ لَهُمْ: حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتاً فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. ١١ وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَٱخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَٱنْفُضُوا ٱلتُّرَابَ ٱلَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ».
متّى ١٠: ١ الخ وص ٣: ١٣ و١٤ ولوقا ٩: ١ الخ، أعمال ١٢: ٨، متّى ١٠: ١١ ولوقا ٩: ٤ و١٠: ٧ و٨، متّى ١٠: ١٤ ولوقا ١٠: ١، أعمال ١٣: ٥١ و١٨: ٦
ذكر متّى دعوة المسيح لرسله وتعيينُه إياهم رسلاً (متّى ١٠: ١ - ١٥). ولكنه ذكر أوامر المسيح لهم زيادة على ما قاله مرقس لأن غاية مرقس تبيين أعمال المسيح لا كلامه. ولربما جمع متّى في محل واحد تعاليم ونصائح أتى بها المسيح لرسله في أماكن مختلفة ومرقس لم يذكر إلا الخطاب الذي تكلم به المسيح حينئذ لهم. ومما تركه مرقس من الأقوال التي ذكرها متّى نهي المسيح رسله عن الذهاب إلى الأمم وإلى السامريين لأن مرقس كتب إنجيله للأمم فلو ذكر ذلك لأعثرهم لجهلهم أن ذلك كان موقوتاً وأن المسيح أمر بخلافه بعده وقبل كتابته الإنجيل.
يُرْسِلُهُمُ غاية إرسال المسيح إياهم توسيع دائرة التبشير بمجيئه وابتداء ملكوته. لأنه بإرساله إياهم فرقاً وانفراده للعمل صاروا سبع فرق بدلاً من أن يكونوا جماعة واحدة تبشر في مكان واحد.
ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ ليعين أحدهما الآخر في الرأي والعمل وفقاً لقول الحكيم في الجامعة ٤: ٩. ومما قصده المسيح من ذلك نفعهما الغير ومسرتهما.
وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً إثباتاً لشهادتهم كما كانت معجزاته إثباتاً لشهادته.
عَلَى ٱلأَرْوَاحِ ٱلنَّجِسَةِ اقتصر مرقس على هذا لأنه اعتبره أعظم المعجزات فمن استطاعه استطاع سائر المعجزات (ع ١٣).
غَيْرَ عَصاً فَقَطْ قال متّى «لا تقتنوا... ولا عصاً» ومعنى القولين الإسراع إلى التبشير فالذي له عصاً فليأخذها والذي ليس له لا يشغل الوقت باقتنائها.
١٢ «فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا».
أتوا ذلك إطاعة لأمر المسيح وجالوا في كل قرى الجليل (لوقا ٩: ٦).
أَنْ يَتُوبُوا افتتحوا كلام تبشيرهم بما افتتح به يوحنا المعمدان كلام تبشيره (ص ١: ٤) وكما فعل المسيح أيضاً (ص ١: ١٥).
١٣ «وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ».
يعقوب ٥: ١٤
كان ذلك كله إثباتاً لصحة تعاليمهم.
وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً قدّم مرقس هذه المعجزة على كل ما ذكره من المعجزات كأنها أعظم من الكل.
وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى لم يذكر هذا أحد من البشيرين إلا مرقس. ولم يتخذ الرسل الدهن بالزيت علاجاً كما اعتاد اليهود (إشعياء ١: ٦ ولوقا ١٠: ٣٤) بل أتوا ذلك علامة خارجية لشفاء وإشارة إلى العلاقة بين المريض والشافي كوضع الأيادي أو وضع يسوع الطين على عيني الأعمى. ولا ريب في أن ذلك كان رمزاً إلى دهن الابتهاج الذي يمسح الله به شعبه (إشعياء ٦١: ٣) وإلى نعمة الروح القدس كما أشار إليه مسح الكهنة والملوك (لاويين ٨: ١٢). وليس من ذلك ما يدل على وجوب دهن المرضى به عند الموت لأن الرسل دهنوا به عند إرادتهم دفع الموت عن أجساد المرضى وأما الذين يدهنون به اليوم يتخذونه وسيلة استعداد النفس للموت. ولم يعيّن البشير هنا المدة التي شغلها الرسل بجولانهم للتبشير والمرجح أنها بضعة أسابيع.
قتل يوحنا المعمدان ع ١٤ إلى ٢٩ (سنة ٢٩ ب. م أي السنة الثانية لممارسة المسيح وظيفته)
١٤ - ٢٠ «١٤ فَسَمِعَ هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ، لأَنَّ ٱسْمَهُ صَارَ مَشْهُوراً. وَقَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَلِذٰلِكَ تُعْمَلُ بِهِ ٱلْقُّوَاتُ.قَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِيلِيَّا. ١٥ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ ٱلأَنْبِيَاءِ. ١٦ وَلٰكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: هٰذَا هُوَ يُوحَنَّا ٱلَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ! ١٧ لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي ٱلسِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا ٱمْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَّوَجَ بِهَا. ١٨ لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ ٱمْرَأَةُ أَخِيكَ! ١٩ فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ، ٢٠ لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِماً أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيراً، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ».
متّى ١٤: ١ ولوقا ٩: ٧، متّى ١٦: ١٤ وص ٨: ٢٨، متّى ١٤: ٢ ولوقا ٣: ١٩ الخ، لاويين ١٨: ١٦ و٢٠: ٢١، متّى ١٤: ٥، حزقيال ٣٣: ٣٢
مرّ الكلام على قتل يوحنا المعمدان في الشرح (متّى ١٤: ١ - ١٢) وزاد مرقس على ما أنبأ به متّى أن هيروديا هي علّة سجنه وأن هيرودس أبى أن يقتل يوحنا في أول الأمر لسبب آخر غير الذي ذكره متّى وهو احترامه له فإذن لم يقتله أولاً لسببين احترامه إياه وخوفه من الشعب كما قال متّى.
هِيرُودُسُ هو هيرودس أنتيباس واحد من أولاد هيرودس الكبير الذي كان رئيس الربع على أيطورية وبيرية (متّى ١٤: ١).
ٱلْمَلِكُ لم يكن ملكاً حقيقياً إنما دعي بذلك إكراماً.
ٱسْمَهُ صَارَ مَشْهُوراً وعلّة شهرته ما أتى به هو ورسله. وعلامة نجاح أمره بلوغ خبره هيرودس وبلاطه.
قَالَ آخَرُونَ هذه يدل على شيوع الأقوال واختلافها في المسيح. واكتفى متّى بذكر قول هيرودس فيه.
إِيلِيَّا توقع اليهود إتيان إيليا قبل مجيء المسيح.
نَبِيٌّ أي بشر ملهم من الله وليس هو المسيح.
كَأَحَدِ ٱلأَنْبِيَاءِ كصموئيل وإيليا وغيرهما ممن صنعوا المعجزات.
هِيرُودُسُ قَالَ خالف هيرودس غيره في الرأي بناء على ما ذكره من ظلمه وعلى توبيخ ضميره إياه لقتله يوحنا البار.
أَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ حنقاً عليه لأنه حرّم فعلها ولأنها خافت أن يقنع هيرودس ويردها إلى زوجها الأول.
وَلَمْ تَقْدِرْ علّة ذلك في العدد الآتي.
يَهَابُ يُوحَنَّا لاعتقاده قداسته ونبوته ومرسليته من الله ولجراءته على توبيخه على الإثم. ولم تكن تلك الهيبة راسخة في قلبه ولا دائمة التأثير وكان علاوة على ذلك يعتزل قتله لسبب سياسي وهو خوفه من الشعب كما ذكر متّى.
وَكَانَ يَحْفَظُهُ أي يقيه من هيروديا التي أرادت قتله (ع ١٩).
فَعَلَ كَثِيراً مما حثه يوحنا عليه لكن ذلك لم يكن سوى صلاح خارجي لا قلبي.
سَمِعَهُ بِسُرُورٍ ذلك دليل على أنه أصلح أعماله لا لمجرد الخوف بل رغبة في تعليم يوحنا ولأن ضميره صدّق له ما قاله ذلك البار. فكان هيرودس بذلك ممن أشار إليهم المسيح في مثل الزارع بالزرع في الأرض المحجرة «وهم الذين يسمعون الكلمة وحالاً يقبلونها بفرح ولكن ليس لهم أصل في ذواتهم» (متّى ١٣: ٢٠). ودليل ذلك أنه لم يتب عن إثمه ولم يطلق هيروديا وقتل يوحنا إرضاء لسالومي.
٢١ - ٢٩ «٢١ وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ، لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ ٱلأُلُوفِ وَوُجُوهِ ٱلْجَلِيلِ، ٢٢ دَخَلَتِ ٱبْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَٱلْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ ٱلْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: مَهْمَا أَرَدْتِ ٱطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ. ٢٣ وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي. ٢٤ فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا: مَاذَا أَطْلُبُ؟ فَقَالَتْ: رَأْسَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ. ٢٥ فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى ٱلْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً: أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَقٍ. ٢٦ فَحَزِنَ ٱلْمَلِكُ جِدّاً. وَلأَجْلِ ٱلأَقْسَامِ وَٱلْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. ٢٧ فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ ٱلْمَلِكُ سَيَّافاً وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. ٢٨ فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي ٱلسِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَقٍ وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَٱلصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. ٢٩ وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ».
تكوين ٤٠: ٢٠ ومتّى ١٤: ٦، أستير ٥: ٣ و٦ و٧: ٢، متّى ١٤: ٩ و١٢
يَوْمٌ مُوافِقٌ لإنجاز مراد هيروديا لا للوليمة لأنها كانت تتوقع فرصة لقتل يوحنا فرأت تلك الوليمة الميلادية وفق مطلوبها. ونستنتج من القرينة أنها أرسلت ابنتها سالومي لترقص أمام هيرودس متوقعة ما كان من ذلك لمعرفتها أخلاق هيرودس وعهدها أفعاله عند سكره.
لِعُظَمَائِهِ أي وزراء بلاطه.
قُوَّادِ ٱلأُلُوفِ أي رؤساء جيشه. ولم يذكر غير مرقس أقسام المدعوين.
وُجُوهِ ٱلْجَلِيلِ أي أعيان بلاده وأغنيائها.
ٱبْنَةُ هِيرُودِيَّا واسمها سالومي على قول يوسيفوس المؤرخ.
حتَى نِصْفَ مَمْلَكَتِي قال ذلك لا لتعيين قدر الموعود به بل لتعظيم الوعد. لأنه لا يتوقع أن يطلب أحد نصف مملكة المسؤول. ولعله قال ذلك مماثلة للملك أحشويروش في وعده للملكة أستير مع أن مملكة هيرودس كانت صغيرة بالنسبة إلى مملكة ذاك (أستير ٥: ٣ و٧: ١٢). والذي وهبه هيرودس لسالومي كان أعظم من نصف مملكته لأنه أهلك نفسه بذلك.
سَيَّافاً هو أحد حرسه الذين ينفذون أوامره.
وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ كان هيرودس مثل بيلاطس في أن له بعض المقاصد الجيدة وأنه كان ضعيف العزم متقلباً فسلّم يوحنا المعمدان إلى الموت على خلاف ميله إكراماً لهيروديا كما سلّم بيلاطس المسيح على خلاف إرادته إرضاء لرؤساء اليهود.
ولنا من خبر يوحنا المعمدان ان الصالحين لا يستوفون أجرهم في هذه الدنيا فلم يكن لذلك البار مسكن سوى البرية ولا لباس ولا طعام إلا ما كان من أدنى الملبوس والمأكول وسجن بغير حق ومات قتيلاً في ريعان شبيبته. وإن كان ذلك نصيب من شهد المسيح بأنه أعظم الأنبياء فيجب أن نقتنع نحن بما قسم الله لنا ولا نتوقع ثواب خدمتنا في هذه الأرض.
رجوع الاثني عشر وإشباع خمسة آلاف ع ٣٠ إلى ٤٤
٣٠ «وَٱجْتَمَعَ ٱلرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا».
لوقا ٩: ١٠
وَٱجْتَمَعَ ٱلرُّسُلُ بعد أن رجعوا من الجليل حيث أرسلهم يسوع للتبشير. ولم يصرّح مرقس بأن قتل يوحنا كان علة رجوعهم ولكن لا عجب من أنهم حزنوا لتلك الحادثة ورجعوا ليحدثوا يسوع بها وينظروا فيها.
٣١ «فَقَالَ لَهُمْ: تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَٱسْتَرِيحُوا قَلِيلاً. لأَنَّ ٱلْقَادِمِينَ وَٱلذَّاهِبِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ».
متّى ١٤: ١٣
تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ خبر سجن يوحنا جعل المسيح يترك اليهودية ويذهب إلى الجليل (ص ١: ١٤). ونبأ مقتل يوحنا حمله على ترك الجليل والذهاب إلى البرية (متّى ١٤: ١٣)
وَٱسْتَرِيحُوا كان التلاميذ محتاجين إلى الراحة بعد جولانهم للتشبير. ولعلّ المسيح استغنم هذه الفرصة للراحة اعتزالاً لهيجان الشعب بقتل يوحنا لأنهم كانوا يعتبرونه نبياً ويكرمونه كثيراً ولا ريب في أنهم تأثروا كثيراً بذلك. وسأل الراحة لهم لا لنفسه.
ٱلْقَادِمِينَ وَٱلذَّاهِبِينَ الخ هذا بيان لما وجد الرسل من أحوال المسيح عند رجوعهم إليه. إنه لم يكن منفرداً عن الناس مستريحاً بل كان محاطاً بجموع كثيرة من المشاهدين آياته والمحتاجين إليه والمراقبين إياه للشر وذكر متّى أنه جال يبشر كما جالوا هم (متّى ١١: ١). ولعلّ من أسباب ذلك الازدحام اقتراب عيد الفصح فكان الناس يأتون إليه وهم ذاهبون إلى أورشليم (يوحنا ٦: ١)
فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ كالعادة. فكانوا ينتهزون أقل فرصة ليأخذوا لقمة تسكيناً لجوعهم.
٣٢ «فَمَضَوْا فِي ٱلسَّفِينَةِ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ».
مَوْضِعٍ خَلاَءٍ يظهر لنا من لوقا أن ذلك الموضع كان من أرض بيت صيدا شرقي بحيرة طبرية (لوقا ٩: ١٠) وسميت تلك الأرض في الكتب القديمة سهل البطيحة.
مُنْفَرِدِينَ وفق قصده لا حسب الاتفاق.
٣٣ «فَرَآهُمُ ٱلْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ، وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ ٱلْمُدُنِ مُشَاةً، وَسَبَقُوهُمْ وَٱجْتَمَعُوا إِلَيْهِ».
انظر الشرح متّى ١٤: ١٣.
تَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ لم تكن المسافة طويلة ولعلها لم تزد على ثلاث ساعات.
وَٱجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وجدوا عندما وصلوا إلى هناك نفس الأمر الذي هربوا منه.
٣٤ «فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً، فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا، فَٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً».
متّى ٩: ٣٦ و١٤: ١٤، لوقا ٩: ١١
لَمَّا خَرَجَ هذا يحتمل معنيين وهو أن هذا الخروج كان من السفينة أو من محل الانفراد في البرية. والثاني هو الصحيح لقول يوحنا «فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ... فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ» (يوحنا ٦: ٣ و٥). وزاد على ذلك أن وقت العيد كان قريباً وأن الناس كانوا يصعدون إلى أورشليم لأجل ذلك.
انظر الشرح متّى ١٤: ١٤.
فَتَحَنَّنَ شعر المسيح بمثل هذا الحنوّ سابقاً (متّى ٩: ٣٦).
ٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ قال متّى أن المسيح شفى المرضى في الجمع. وقال مرقس «ابتدأ يعلمهم» وآثر ذكر التعليم على ذكر الشفاء لأنه الأهم. ولنا من القولين أنه شفى وعلّم.
٣٥ - ٤٤ «٣٥ وَبَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: ٱلْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَٱلْوَقْتُ مَضَى. ٣٦ اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى ٱلضِّيَاعِ وَٱلْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزاً، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. ٣٧ فَأَجَابَ: أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا. فَقَالُوا لَهُ: أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزاً بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيهُمْ لِيَأْكُلُوا؟ ٣٨ فَقَالَ لَهُمْ: كَمْ رَغِيفاً عِنْدَكُمْ؟ ٱذْهَبُوا وَٱنْظُرُوا. وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا: خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ. ٣٩ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا ٱلْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقاً رِفَاقاً عَلَى ٱلْعُشْبِ ٱلأَخْضَرِ. ٤٠ فَاتَّكَأُوا صُفُوفاً صُفُوفاً: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. ٤١ فَأَخَذَ ٱلأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ، وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ ٱلأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَسَّمَ ٱلسَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ، ٤٢ فَأَكَلَ ٱلْجَمِيعُ وَشَبِعُوا، ٤٣ ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ ٱلْكِسَرِ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُّوَةً، وَمِنَ ٱلسَّمَكِ. ٤٤ وَكَانَ ٱلَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ ٱلأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُل».
متّى ١٤: ١٥ ولوقا ٩: ١٢، عدد ١١: ١٣ و٢٢ و٢ملوك ٤: ٤٣ ويوحنا ٦: ٣ الخ متّى ١٤: ١٧ ولوقا ٩: ١٣ ويوحنا ٦: ٩، ١صموئيل ٩: ١٣ ومتّى ٢٦: ٢٦
انظر الشرح متّى ١٤: ١٥ - ٢١.
هذه المعجزة الوحيدة التي ذكرها كل من البشيرين وأطال يوحنا الكلام عليها أكثر من غيره. ويظهر من ذلك أنهم رأوها ذات شأن عظيم وكان لها تأثير شديد في الشعب.
بِمِئَتَيْ دِينَارٍ أي نحو ٩٠٠ غرش أو ما ينوف عن ست ليرات انكليزية. وهذا كان أجرة الفاعل في مئتي يوم (متّى ٢٠: ٢ و٩ و١٣). قال فيلبس «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ (بذلك المبلغ) بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً» (يوحنا ٦: ٧). ولم يُذكر هذا القدر من الدنانير لوجوده في خزانه المسيح وتلاميذه بل لبيان ضرورية قولهم اصرف الجموع لكي يبتاعوا في القرى ما يحتاجون إليه. وكان المتكلم فيلبس بين المسيح والرسل في ذلك الأمر وأراد المسيح امتحان إيمانه بما قاله له (يوحنا ٦: ٦).
ٱذْهَبُوا وَٱنْظُرُوا أرسلهم ليروا كم رغيفاً عندهم لا لأنه لم يعلم ذلك بل ليفيد التلاميذ ما يمنعهم وغيرهم من أن يقولوا بعد إشباع الجمع أن ذلك لم يكن معجزة لإمكان توهمهم أنه كان عندهم مؤونة وافرة من الخبز.
خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَينِ كانت الأرغفة من دقيق الشعير أتى ولد بها وبالسمكتين (يوحنا ٦: ٩).
رِفَاقاً رِفَاقاً أتى ذاك تسهيلاً لتوزيع الخبز.
عَلَى ٱلْعُشْبِ ٱلأَخْضَرِ لأنه كان الربيع بدليل أن عيد الفصح (الذي كان يومئذ قريباً) في نيسان (يوحنا ٦: ٤).
قَسَّمَ ٱلسَّمَكَتَيْنِ أحب مرقس التفصيل فذكر توزيع السمكتين دون غيره.
خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ زاد متّى على ذلك أنه كان غير هؤلاء نساء وأولاد.
مشي يسوع على الماء ع ٤٥ إلى ٥٢
سبق تفسير ذلك كله تفصيلاً في الشرح متّى ١٤: ٢٢ - ٣٣.
٤٥ «وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا ٱلسَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى ٱلْعَبْرِ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ ٱلْجَمْعَ».
متّى ١٤: ٢٢ ويوحنا ٦: ١٧
أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا ٱلسَّفِينَةَ الذي حمله على ذلك اقتناع الناس الذين شاهدوا المعجزة بصحة دعواه الإلهية ورغبتهم في أن يجعلوه ملكاً على رغمه (يوحنا ٦: ١٥). ولعلّ الرسل وافقوهم في ذلك.
إِلَى بَيْتِ صَيْدَا أي أمرهم أن يسيروا بحراً في جهة تلك البلدة وكانوا وقتئذ شرقيها في أرض تابعة لها (لوقا ٩: ١٠) ولعلهم توقعوا أن يلاقوا يسوع في بيت صيدا ويأخذوه معهم إلى كفرناحوم على شاطئ بحر طبرية الغربي (يوحنا ٦: ١٧) لكنهم لم يبلغوا مقصدهم إذ ساقتهم الريح إلى ما وراء بيت صيدا.
٤٦ - ٥٢ «٤٦ وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى ٱلْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. ٤٧ وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ كَانَتِ ٱلسَّفِينَةُ فِي وَسَطِ ٱلْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى ٱلْبَرِّ وَحْدَهُ. ٤٨ وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي ٱلْجَذْفِ، لأَنَّ ٱلرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ ٱلْهَزِيعِ ٱلرَّابِعِ مِنَ ٱللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِياً عَلَى ٱلْبَحْرِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. ٤٩ فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِياً عَلَى ٱلْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً، فَصَرَخُوا، ٥٠ لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَٱضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ قَالَ لَهُمْ: ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا. ٥١ فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ ٱلرِّيحُ، فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدّاً إِلَى ٱلْغَايَةِ، ٥٢ لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِٱلأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً».
متّى ١٤: ٢٣ ويوحنا ٦: ١٦ و١٧، لوقا ٢٤: ٢٨ ص ٨: ١٧ و١٨ ص ٣: ٥ و١٦: ١٤
وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ (ع ٤٧) وهو المساء الثاني بعد المغرب.
كَانَتِ ٱلسَّفِينَةُ فِي وَسَطِ ٱلْبَحْرِ بدلاً من أن تكون في مرفأ بيت صيدا وكانت حينئذ لشدة الريح وهياج البحر على أمد «نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلاَثِينَ غَلْوَةً» (يوحنا ٦: ١٨ و١٩).
وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ (ع ٤٨) أي أن يتركهم وراءه وهذا ظنّ منهم لما رأوه مقترباً منهم وهو يمشي على الماء. وترك مرقس هنا ما ذكره متّى من أمر بطرس حينئذ إذ نزل إلى البحر لملاقاة يسوع ولعلّ سبب ذلك كتابة مرقس إنجيله بإرشاد بطرس وأن بطرس لم يسمح له أن يكتب ذلك لعدم أهمية أعماله بالنسبة إلى أعمال المسيح.
لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِٱلأَرْغِفَةِ (ع ٥٢) ذكر ذلك بياناً لسبب غرابة تعجبهم. وكان يجب عليهم أن يستنتجوا من معجزة الأرغفة أن المسيح قادر على كل معجزة كالمشي على الماء وغيره من المعجزات وعلى إنقاذهم من خطر اضطراب البحر وعلى تسكين الريح.
كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً أي لم تتأثر بسهولة مما شاهدوه من معجزات المسيح وسمعوه من تعليمه. ولكن هذه الحال تبدلت بعد حلول الروح القدس عليهم.
إظهار المسيح قدرته على شفاء أمراض مختلفة في سهل جنيسارت ع ٥٣ إلى ٥٦
٥٣ «فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ وَأَرْسَوْا».
متّى ١٤: ٣٤
أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ انظر الشرح متّى ١٤: ٣٤. كانت مدينة كفرناحوم في جوار تلك الأرض ولذلك ذكر يوحنا أنهم أتوا إليها (يوحنا ٦: ٢٤ و٢٥).
٥٤ - ٥٦ «٥٤ وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ ٱلسَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ عَرَفُوهُ، ٥٥ فَطَافُوا جَمِيعَ تِلْكَ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ، وَٱبْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ ٱلْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ. ٥٦ وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ، وَضَعُوا ٱلْمَرْضَى فِي ٱلأَسْوَاقِ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ!».
متّى ٩: ٢٠ وص ٥: ٢٧ و٢٨ وأعمال ١٩: ١٢
انظر الشرح متّى ١٤: ٣٥ و٣٦.
الأمور المذكورة هنا شغلت زمناً ليس بقصير كان المسيح يجول فيه ذاهباً آيباً يشفي مرضى كثيرين. وزاد مرقس على ما ذكره متّى أن المرضى حُملوا على أسرة وأُتي بهم إلى المسيح وأنهم وُضعوا في الأسواق التي كان يمرّ بها لكي يراهم ويعتني بهم. ولنا من ذلك أدلة قاطعة على قوة المسيح العجيبة وحنوه الغريب وإيمان الجموع الكثيرة به. ولم يكن هذا الإيمان خالياً من الأوهام إذ ظنوا أن لمس المسيح ضروري لنوال الشفاء منه ولكن تلك الأوهام لم تحرمهم من إدراك النفع من المسيح.
الأصحاح السابع
تقليد الفريسيين في الطهارة وتبيين المسيح الطهارة الحقيقية ع ١ إلى ٢٣
وهذا الأصحاح مبتدأ حوادث السنة الأخيرة من حياة المسيح الأرضية هي سنة اضطهاداته.
١ «وَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ».
متّى ١٥: ١
وَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ الخ ذكر مرقس قبلاً معجزات المسيح الكثيرة العظيمة في سهل جنيسارت ورغبة الناس فيه وأخذ هنا يبين مقاومة الفريسيين إياه وكيفية دفعه إياها. وهذا تابع خبر المقاومة التي ذكرها في ص ٣: ٢٢.
قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ الأرجح أنهم كانوا لجنة جديدة أرسلت إلى كفرناحوم لما سمعوه من أخبار معجزات يسوع العظيمة ورغبة الناس فيه. وكانوا أرسلوا لجنة أخرى قبلها جادلته في أمر السبت (لوقا ٥: ١٧).
وكل ما ذُكر من العدد الأول من هذا الأصحاح إلى العدد الثالث والعشرين مرّ تفسيره في الشرح (متّى ١٥: ١ - ٢٠). وزاد مرقس على خبر متّى في العدد الأول أن الفريسيين المقاومين أتوا من أورشليم. والأرجح أن مجلس السبعين هو الذي أرسلهم للفحص والإخبار كما فعل في أمر يوحنا المعمدان (يوحنا ١: ١٩).
٢ «وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضاً مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ، أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ، لاَمُوا».
مما يدل على شدة مراقبة الفريسيين لتلاميذ المسيح أنهم راقبوهم وهم يأكلون ولم يكتفوا بالسمع.
بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ كان هذا الدنس طقسياً لا حقيقياً لأن أيديهم كانت نظيفة إلا أنهم لم يغسلوها قبل الأكل حسب تقليد الفريسيين.
غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فسّر مرقس دنسة بغير مغسولة لأنه كتب إنجيله للأمم.
٣، ٤ «٣ لأَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ ٱلْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِٱعْتِنَاءٍ لاَ يَأْكُلُونَ، مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ ٱلشُّيُوخِ. ٤ وَمِنَ ٱلسُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا لاَ يَأْكُلُونَ. وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا، مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ».
في هذين العددين بيان عوائد اليهود في الغسل الطقسي ولم يذكرها متّى لأنه كتب إنجيله لليهود وهم لا يحتاجون إلى بيانها كما يحتاج إليه الرومانيون الذين كتب مرقس بشارته إليهم.
أمر موسى بصنوف من الغسل الطقسي في سفر اللاويين (ص ١٢ - ص ١٥) لم يقصد بها النظافة بل الرمز إلى تطهير القلب من دنس الخطيئة. وأما الغسل الذي أمر به الفريسيون قبل الأكل فليس مما أمر به الله وليس فيه من إشارة إلى أمر روحي. فضلوا باعتبارهم الخارجيات فضائل بقطع النظر عن المعنى التي تشير إليه.
وَمِنَ ٱلسُّوقِ يحتمل ذلك أنهم كانوا يغتسلون متى رجعوا من السوق أو أنهم يغسلون ما يشترونه من السوق. وكل تلك العناية بالغسل نتيجة كبريائهم الزائدة وادعائهم الطهارة العجيبة حتى أنهم اعتزلوا اقتراب كل ما ظنوا إمكان تدنيسه إياهم.
غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ الخ خوفاً من أن يكون قد لمسها أميّ أو شرب أو أكل منها.
وَأَسِرَّةٍ وهي ما يتكأ عليه عند الأكل وغسلوها خشية من أنه جلس عليها أحد من الأمم.
وفي هاتين الآيتين أمر يستحق الاعتبار وهو أن اللفظة اليونانية المعبر بها عن غسل الكؤوس والآنية النحاسية والأسرة هي عين اللفظة المعبر بها عن المعمودية. فليس لأحد حتى أن يحصر التعميد بالتغطيس لأنه لا يقرب من العقل أنهم كانوا يغطسون أسرتهم وموائدهم. فيصدق معنى تلك الكلمة على كل من الرش والصب والتغطيس. والمسيح لم يعين أحد هذه الطرق في المعمودية. ولنا من ذلك أن كيفية استعمال الماء في العماد ليس من جوهريات الدين.
٥ - ٨ «٥ ثُمَّ سَأَلَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ: لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلشُّيُوخِ، بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟ ٦ فَأَجَابَ: حَسَناً تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُرَائِينَ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هٰذَا ٱلشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً، ٧ وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ. ٨ لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ: غَسْلَ ٱلأَبَارِيقِ وَٱلْكُؤُوسِ، وَأُمُوراً أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هٰذِهِ تَفْعَلُونَ».
متّى ١٥: ٢، إشعياء ٢٩: ١٣ ومتّى ١٥: ٨
تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ أي جعلتموها دون تقاليدكم وهذا استعداد لرفضهم الوصية كما ذكر في العدد التاسع.
٩ - ١٣ «٩ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: حَسَناً! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ. ١٠ لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمُ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً. ١١ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ، أَيْ هَدِيَّةٌ، هُوَ ٱلَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي ١٢ فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئاً لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. ١٣ مُبْطِلِينَ كَلاَمَ ٱللّٰهِ بِتَقْلِيدِكُمُ ٱلَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُوراً كَثِيرَةً مِثْلَ هٰذِهِ تَفْعَلُونَ».
خروج ٢٠: ١٢ وتثنية ٥: ١٦ ومتّى ١٥: ٤، خروج ٢١: ١٧ ولاويين ٢٠: ٩ وأمثال ٢٠: ٢٠، متّى ١٥: ٥ و٢٣: ١٨
حَسَناً رَفَضْتُمْ أي رفضكم كان وفقاً تاماً لنبوة إشعياء المذكورة في العدد السادس وهي قوله «حسناً تنبأ إشعياء عنكم».
ولا حاجة إلى أوضح من هذا البرهان على ضرر التقليد وهو أن التمسك به تركٌ لوصية الله (ع ٨) ورفض لها (ع ٩) وإبطال لها (ع ١٣).
قُرْبَانٌ أَيْ هَدِيَّةٌ فسّر مرقس القربان بالهدية إفادة للقراء الرومانيين.
فَلاَ تَدَعُونَهُ ليس المعنى أنهم يمنعونه فعلاً من الإحسان إلى والديه بل إنّ نتيجة ذلك التعليم هي بمثابة المنع لرفعها المسؤولية التي يوجبها ضميره وكتاب الله عليه. والذين قالوا إنّ القربان للهيكل ألزم من الإحسان إلى الوالدين عند الحاجة هم رؤساء الدين ولكلامهم أعظم تأثير. ويخالف الوصية الخامسة مثل هؤلاء الأولاد الذين يتركون والديهم المحتاجين إليهم ويدخلون الرهبانية. والذين يحثونهم على الرهبانية يشاركونهم في الخطيئة.
١٤ «ثُمَّ دَعَا كُلَّ ٱلْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ: ٱسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَٱفْهَمُوا».
متّى ١٥: ١٠
ثُمَّ دَعَا كُلَّ ٱلْجَمْعِ يظهر من هذا أن الخطاب السابق كان موجهاً بالأكثر إلى الفريسيين الذين أتوا من أورشليم وأما هنا فالتفت إلى كل المحيطين به من الجمع ونبههم إلى أن يتخذوا الخطاب لأنفسهم ويخزنونه في قلوبهم.
١٥، ١٦ «١٥ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ ٱلإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لٰكِنَّ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ ٱلَّتِي تُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ. ١٦ إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ».
متّى ١١: ١٥
انظر الشرح متّى ١٥: ١١.
بيّن في ما سبق بطلان التقاليد والأوهام في أمر الاغتسال الطقسي والخطأ في تفضيل التقليد على وصية الله. وشرع يبيّن أن ما صدق على الغسل يصدق على تقليدهم في أمر التمييز بين الطاهر والنجس من الأطعمة. وأما تمييز الشريعة الموسوية بين المأكولات (لاويين ص ٧ وتثنية ص ١٤) فلم تكن غايته سوى فصل الأمة اليهودية عن سائر الأمم. واعتبر اليهود هذا التمييز الطقسي الموقوت جوهرياً أدبياً أبدياً فبيّن المسيح خطأهم في ذلك.
١٧ «وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ ٱلْجَمْعِ إِلَى ٱلْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَنِ ٱلْمَثَلِ».
متّى ١٥: ١٥
إِلَى ٱلْبَيْتِ متّى ١٥: ١٢. الأرجح أنه البيت الذي أقام به في كفرناحوم. والظاهر من ذلك أن يسوع بعدما أكمل خطابه للفريسيين وسائر الجمع ذهب عنهم مع تلاميذه وسأله التلاميذ عن المثل وكان بطرس كعادته نائب الباقين في السؤال. ولم يذكر مرقس ما ذكره متّى من انفعال الفريسيين من تعليم يسوع وما قاله على نتيجة تعليمهم الفاسد (متّى ١٥: ١٢ - ١٤).
وفي تفضيل المسيح هنا الروحيات على الطقسيات إبطال لجانب عظيم من أديان الأرض لأن الحرب القديمة بين كلام الله والتقليد وبين الديانة القلبية والديانة الطقسية لا تزال قائمة على قدم وساق ولا يزال الناس راغبين في العرض ومعرضين عن الجوهر.
١٨ «فَقَالَ لَهُمْ: أَفَأَنْتُمْ أَيْضاً هٰكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ».
متّى ١٥: ١٦
الناس كلهم في كل عصر بطيئو الافهام في الروحيات وإن علّمهم إياها أفضل المعلمين. فعلينا أن نسأل يوماً فيوماً تنوير الروح القدس لكي نتقدم في المعرفة الروحية ونصلي لله كداود قائلين علمنا فرائضك (مزمور ١١٩: ٦٤).
١٩ «لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى ٱلْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى ٱلْخَلاَءِ، وَذٰلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ ٱلأَطْعِمَةِ».
قَلْبِهِ معنى القلب هنا النفس أو الجزء الروحي من الإنسان.
ٱلْجَوْفِ أي المعدة والأمعاء وحاصل كلام المسيح هنا أن بين النفس والجسد أي بين الجزء الروحي الذي ينسب إليه القداسة والخطيئة والجزء الجسدي الذي يتطهر ويتنجس بالطعام تمام الانفصال.
يُطَهِّرُ كُلَّ ٱلأَطْعِمَةِ الذي يُطهر هو الجهاز الهضمي الذي ذُكر بعضه في ما سبق. فأشار المسيح بهذا إلى ما رتبه الله بالحكمة من أن جسد الإنسان بالهضم والتمثيل ودفع الفضول يتخلص من كل ما ينجسه وينتفع بما يغذيه ويحفظ صحته وطهارته. وأقام المسيح دليلين على أن ما يدخل الفم من الطعام لا يدنس النفس. الأول أن الطعام لا يصل إلى النفس البتة. والثاني أن الجهاز الهضمي الذي صنعه الله للإنسان يدفع كل ما يمكن أن يدنس البدن فيبقى جسده طاهراً.
وتكلم بولس في هذا الموضوع في بعض رسائله (رومية ١٤: ٢ و٣ و١٤ و١كورنثوس ٨).
٢٠ «ثُمَّ قَالَ: إِنَّ ٱلَّذِي يَخْرُجُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ ذٰلِكَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».
بعدما أوضح يسوع أن الطعام لا ينجس الإنسان أدبياً أخذ يبين أنه يوجد ما يدنسه حقيقة وهو ما يخرج منه أي كلامه وسيرته وأعماله التي تدل على افكار قلبه.
يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ أي يجعله مكروهاً في عيني الله لا يستحق أن يدنو منه تعالى.
٢١ - ٢٣ «٢١ لأَنَّهُ مِنَ ٱلدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ ٱلنَّاسِ، تَخْرُجُ ٱلأَفْكَارُ ٱلشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، ٢٢ سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. ٢٣ جَمِيعُ هٰذِهِ ٱلشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ ٱلدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».
تكوين ٦: ٥ و٨: ٢١ ومتّى ١٥: ١٩
انظر الشرح متّى ١٥: ١٩ و٢٠
مِنْ قُلُوبِ ٱلنَّاسِ أي الجزء الروحي منهم المشتمل على الذهن والميل والانفعال. فقد أوضح مرقس أكثر من متّى أن القلب ينبوع كل صلاح وشر في الإنسان. فتعليم المسيح ينافي الضلالة التي تمسك بها تلاميذ ماني الفارسي في القرن الثالث للميلاد وهي أن الجسد أصل الخطيئة ومركزها وأن النفس تطهّر بقهر الجسد وإماتة أمياله. وهذه الضلالة كانت عند كثيرين من الوثنيين ولم يخلُ منها بعض الذين يسمون مسيحيين لتمييزهم بين اللحوم والبقول إذ يحرّمون اللحوم في بعض أيام الأسبوع وبعض أسابيع السنة. وذكر متّى في رواية كلام المسيح سبع خطايا فظيعة وذكر مرقس ثلاث عشرة وزاد على ما ذكره متّى سبعاً وترك مما ذكره واحدة. والسبع هي الطمع أي محبة المال الزائدة التي تقود صاحبها إلى ظلم غيره وغشه. والخبث أي الانفعال الشرير على الغير وقصد ضرره. والمكر وهو كل صنوف الخداع. والعهارة وهي إطلاق عنان الشهوات. والعين الشريرة وهي الحسد (متّى ٢٠: ١٥) وهو الحزن لخير الغير. وتطلق أيضاً على الميل إلى مشاهدة الأمور التي تهيج الشهوة الرديئة (متّى ٥: ٢٩). والكبرياء وهي إعجاب الإنسان بنفسه حتى يحتقر غيره من الناس ويبرر نفسه أمام الله. والجهل وهو عدم استعمال القوى التي تميز الإنسان على البهيمة والتصرف بدون خوف الله وإطاعة الضمير. وبداءة هذه القائمة الفظيعة الأفكار الشريرة ونهايتها عدم الفكر والأولى علة التعدي والثانية علة عدم الامتثال. والتي تركها مرقس مما ذكره متّى شهادة الزور. ولعلّ المسيح ذكر غير هذه الخطايا أيضاً. ونقل كل بشير ما وافق قصده. قابل ما ذُكر هنا بما ذُكر في رومية ١: ٢٩ - ٣١ وغلاطية ٥: ١٩ - ٢١.
وفرط طهارة المسيح ومعرفته وفرة شرور الإنسان لا يجعلانه ينفر منه ويبعد عنه بل يحملانه على طلبه لينقذه من الشقاء والهلاك اللذين تلقيه الخطيئة فيهما.
ولنا من تعليم المسيح هنا أربع فوائد:
- احتياج الإنسان إلى الولادة الجديدة لأن علة فساده في داخله لا من خارج.
- إن من ينسب الإثم إلى الأعمال الخارجية يغلط لأن أكثر الخطايا التي ذكرها المسيح هنا خطايا قلبية ربما لا تظهر للناس فعلاً. والأفعال الشريرة المذكورة هي أدلة على الشر الباطن الهائل.
- جهل الذين يتوهمون أن النجاة من الخطيئة قائمة بالانفراد عن الناس لأن أعظم خطر على الإنسان ليس من التجارب الخارجية بل من الداخلية.
- وجوب أعظم الشكر لله تعالى على أنه أعلن لنا في إنجيله طريقاً للنجاة من تدنيس الخطيئة وهو أن دم يسوع المسيح يطهّرنا من كل خطيئة وأن الروح القدس مستعد لتجديد قلوبنا وتقديسها.
شفاء ابنة المرأة الكنعانية ع ٢٤ إلى ٣٠
٢٤ «ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَدَخَلَ بَيْتاً وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ».
متّى ١٥: ٢١
مِنْ هُنَاكَ أي من جوار كفرناحوم وسهل جنيسارت (ص ٦: ٥٣ - ٥٦ ويوحنا ٦: ١٧).
وَمَضَى اغتاظ الفريسيون كثيراً من تعليمه في أمر التدنيس وقصدوا إضراره (متّى ١٥: ١٢). وسأل عنه هيرودس أنتيباس ولم يكن سؤاله لخير (لوقا ٩: ٩). ولذلك طلب الأمن والراحة التي كان يحتاج إليها باعتزاله ذلك المكان قليلاً. والمحل الذي لجأ إليه هو المحل الذي التجأ إليه إيليا في وقت ضيقه (١ملوك ١٧: ١٥ - ٢٤).
تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ انظر الشرح متّى ١٥: ٢١. ومعنى تلك التخوم البلاد المجاورة لتينك المدينتين الفينيقيتين.
دَخَلَ بَيْتاً فراراً من اشتهار مجيئه إلى هنالك ولكن خبره سبق وصوله (متّى ٤: ٢٤ وص ٣: ٨).
فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ قصده الناس إما لمشاهدته أو لرغبتهم في الشفاء لهم أو لمعارفهم المرضى.
٢٥ «لأَنَّ ٱمْرَأَةً كَانَ بِٱبْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ، فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ».
ترك مرقس ما ذكره متّى من أن المرأة الكنعانية كانت تصرخ وراءه قبل أن دخل البيت وأنه لم يلتفت إليها وأن الرسل توسطوا لها عبثاً (متّى ١٥: ٢٢ و٢٤). وترك أيضاً قول المسيح لتلاميذه «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة». ولعلّ سبب تركه ذلك القول أنه كتب إنجيله للأمم وخاف أن يذكره لئلا يظن الأمم أن بشارة الخلاص لليهود فقط على أن المسيح لم يقصد بذلك سوى مناداته الشخصية وهو على الأرض.
٢٦ «وَكَانَتْ ٱلْمَرْأَةُ أُمَمِيَّةً، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً - فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ ٱلشَّيْطَانَ مِنِ ٱبْنَتِهَا».
أُمَمِيَّةً وهي في الأصل «ألينس» أي يونانية وأطلقت هذه النسبة على كل من لم يكن يهودياً فأشار بقوله أممية إلى دينها أي إلى أنها وثنية.
فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً هذه نسبة إلى موطنها وزاد قوله سورية تمييزاً لفينيقية المذكورة هنا عن فينيقية التي في شمال أفريقية وتعرف بفينيقية ليبية. وزاد متّى على وصف تلك المرأة أنها كنعانية إشارة إلى أن أصلها من الأمم التي طردها بنو إسرائيل من بلادهم في اليهودية.
٢٧ - ٢٩ «٢٧ وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا: دَعِي ٱلْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ، لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ ٱلْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ. ٢٨ فَأَجَابَتْ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَٱلْكِلاَبُ أَيْضاً تَحْتَ ٱلْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ ٱلْبَنِينَ. ٢٩ فَقَالَ لَهَا: لأَجْلِ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ ٱذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنِ ٱبْنَتِكِ».
انظر الشرح متّى ١٥: ٢٥ - ٢٩.
دَعِي ٱلْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ هذه العبارة لم يذكرها متّى وفيها وعد بأن مواهب المسيح بعد أن تقدم لليهود الشعب المختار تقدم للأمم أيضاً وفيها بيان لسبب عدم إجابة المسيح في الحال لطلبة المرأة لأنه أراد أن يعلم الرسل أن وقت تبشير الأمم لم يكن قد أتى. وقصد أيضاً أن يمتحن إيمان المرأة وثبوتها. وأن يعلمنا وجوب الإيمان والثبات لنوال أجوبة صلواتنا.
٣٠ «فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ ٱلشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ، وَٱلابْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى ٱلْفِرَاشِ».
وَوَجَدَتِ ٱلشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ أي تحققت لما بلغت بيتها قول المسيح صحيح.
مَطْرُوحَةً عَلَى ٱلْفِرَاشِ أي في حال الراحة والسلام. وهذا دليل على خروج الشيطان ورجوع الصحة كما أن عدم الراحة تكون دليلاً على بقائه فيها (ص ٥: ٥).
إبراء أصمّ أعقد ع ٣١ إلى ٣٧
٣١ «ثُمَّ خَرَجَ أَيْضاً مِنْ تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَجَاءَ إِلَى بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ فِي وَسْطِ حُدُودِ ٱلْمُدُنِ ٱلْعَشْرِ».
متّى ١٥: ٢٩
يحتمل هذا الكلام في الأصل اليوناني أن المسيح مرّ في صيدا أو الأرض التابعة لها في طريقه. ونستنتج من ذكر مرقس صور قبل صيدا في الكلام على سفر المسيح أنه سار من الجنوب إلى الشمال ثم دار إلى الشرق ولا بد من أسباب حملته على تلك الدورة وعلى ذهابه إلى المدن العشر التي هي على الجانب الشرقي من بحر طبرية (متّى ٤: ٢٥ ومرقس ٥: ٢٠) وفي تلك البلاد أخرج اللجئون من المجنون وسأله بعض السكان هناك أن ينصرف عن تخومهم (ص ٥: ١٥ و١٧).
٣٢ «وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَصَمَّ أَعْقَدَ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ».
متّى ٩: ٣٢ ولوقا ١١: ١٤
قال متّى أن المسيح صنع معجزات كثيرة في تلك الكورة مع أنه قصدها بغية الراحة والنجاة من أعدائه (متّى ١٥: ٢٩) ومن تلك المعجزات أنه جعل الخرس يتكلمون. واقتصر مرقس على ذكر واحدة منها لم يذكرها غيره بخصوصها. ولعلّ سبب ذلك اختلاف طريق الشفاء فيها عما اعتاده يسوع.
وَجَاءُوا إِلَيْهِ لم يذكر مرقس من هم الذين جاءوا إليه ولكن القرينة تدل على أنهم أصحاب المُصاب. وأتوا به إليه لأنه لم يستطع أن يعرف ما الذي يقدر المسيح أن يفعله له ولم يستطع أن يطلب شيئاً لنفسه نظراً لبليته.
بِأَصَمَّ أَعْقَدَ أي أطرش أخرس ولعلّ سبب عقده مجرد صممه لأنه يظهر من الكلام بعد أنه كان يصوت أصواتاً لا تُفهم (ع ٣٥).
أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ سأل أصحاب الأعقد ذلك لاعتقادهم أن الشفاء يتوقف على اللمس واستنتجوا ذلك إما مما شاهدوا من المسيح قبلاً وإما مما اعتادوه من وضع اليد للبركة. ومثل ذلك كان نعمان الأبرص يتوقع البرء من إيليا (٢ملوك ٥: ١١). لكن المسيح لم يستحسن إبراءه كما سألوه.
٣٣ «فَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ ٱلْجَمْعِ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ».
ص ٨: ٢٣ ويوحنا ٩: ٦
لم يقتصر المسيح على طريق واحد للشفاء بل اتخذ طرقاً مختلفة وشفى البعض بين الجموع وشفى البعض بانفراد عنهم وأبرأ البعض بالكلمة والبعض باللمس والبعض بإرساله إلى بركة يغتسل منها وشفى أكثر المرضى دفعة واحدة وبعضها تدريجياً (ص ٨: ٢٣ - ٢٥). وسلك المسيح طرقاً مختلفة للشفاء لما عرفه من احتياج المصابين أو المشاهدين إلى تنبيه إيمانهم ولكي يضع أساساً يبني عليه تعليماً روحياً.
عَلَى نَاحِيَةٍ انفرد المسيح بالأعقد عن الجمع لكي يوجه كل قواه إلى عمل المسيح وليتأثر بذلك كل التأثير. وكثيراً ما ينفرد المسيح اليوم ببعض الناس بالأمراض من أسواق التجارة وشوارع الأعمال ليكلم نفوسهم ويشفي أمراضها. وربما أراد بالانفراد بذلك الأصم الأعقد أن يكون أول صوت يسمعه صوت ربه لا أصوات الجمع.
أَصَابِعَهُ... وَتَفَلَ وَلَمَسَ الخ هذه الأعمال الثلاثة إشارات لا وسائط للشفاء لأن صممه وعقده كانا مانعين من تعليمه بالكلام. فاستعمل المسيح الإشارات بدلاً من اللفظ لكي ينبه رجاءه نوال البركة وإيمانه بالمسيح. ولمس أذنه المسدودة ولسانه المربوط إيماء إلى أنه يفتح الأذن ويحل اللسان. ووضع شيئاً من ريق لسانه على لسان الأعقد لا لكون ذلك الريق دواء بل لبيان أن قوة الشفاء منه. والأرجح أن المعنى بالتفل هنا أخذ المسيح ريقه بإصبعه ووضعه على لسان ذلك الأعقد.
٣٤ «وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ: إِفَّثَا. أَيِ ٱنْفَتِحْ».
ص ٦: ٤١ ويوحنا ١١: ٤١ و١٧: ١، يوحنا ١١: ٣٣ و٣٨
وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ هذا يدل غالباً على الصلاة لله الذى حضرة مجده الأسمى في السماء (مزمور ١٢١: ١ و٢ وص ٦: ٤١). ولا ريب أن المسيح كان يعمل المعجزات بسلطانه لكنه نظر هنا إلى السماء بياناً لاتحاده بالآب في الشعور والعمل كما في متّى ١٤: ١٩.
وَأَنَّ ربما لم يفعل يسوع ذلك لتعليم المصاب بل لإظهار انفعالات قلبه وأنه حزين على بلاء ذلك الإنسان الذي هو إحدى نتائج الخطيئة وأن ذلك ذكّره مصائب كل الجنس البشري. وأنينه هنا كاضطرابه وبكائه على قبر لعازر (يوحنا ١١: ٣٣) فهو «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ» (إشعياء ٦٣: ٩).
إِفَّثَا ذكر مرقس هنا لفظ المسيح عينه كما أعلمه بطرس الذي سمع المسيح بأذنه. وترجمها مرقس لإفادة قراء إنجيله الرومانيين. وأمر المسيح بذلك أذناً مسدودة لكي تنفتح.
٣٥ «وَلِلْوَقْتِ ٱنْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ، وَٱنْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ، وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيماً».
إشعياء ٣٥: ٥ و٦ ومتّى ١١: ٥
وَٱنْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ هذا مجاز كما في لوقا ١٣: ١٦ أريد به زوال الموانع لتكلمه كسائر الناس. وكان ذلك العمل رمزاً إلى ما يعمله المسيح في كل مكان وزمان من فتح الآذان المسدودة عن سمع كلام الله وحل الألسنة المعقودة عن التسبيح له تعالى إتماماً لقول إشعياء «حِينَئِذٍ تَتَفَتَّحُ عُيُونُ ٱلْعُمْيِ، وَآذَانُ ٱلصُّمِّ تَتَفَتَّحُ» (إشعياء ٣٥: ٥ ومتّى ١٣: ١٦).
٣٦ «فَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ. وَلٰكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَاهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ أَكْثَرَ كَثِيراً».
ص ٥: ٤٣
أَوْصَاهُمْ أي أوصى أصحاب الذي شفاه الذين تركوا الجميع وانفردوا لمشاهدة المعجزة وأسباب إيصائه إياهم مثل ما ذُكر قبلاً (متّى ٩: ٣٠).
٣٧ «وَبُهِتُوا إِلَى ٱلْغَايَةِ قَائِلِينَ: إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً! جَعَلَ ٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَٱلْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ!».
عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً يصدق على كل أعمال المسيح على الأرض ما قيل على عمل الله في بدع العالم (تكوين ١: ٣١). فالمسيح بادع الخليقة الجديدة الروحية يستحق المجد الذي استحقه مبدع العالم المادي لأنه أظهر مثله من صنوف القوة والحكمة والجودة وشهادة سكان العشر مدن الوثنيين بناء على ما شاهدوه من آيات الشفاء تصدق على كل أعمال المسيح في الأرض والسماء.
جَعَلَ ٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ الخ هذا يدل على أن المسيح صنع معجزات كثيرة غير المذكورة آنفاً.
الأصحاح الثامن
إشباع يسوع أربعة آلاف ع ١ إلى ١٠ (سنة ٢٨ ب. م)
١ - ٩ «١ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ إِذْ كَانَ ٱلْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، دَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: ٢ إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى ٱلْجَمْعِ، لأَنَّ ٱلآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. ٣ وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَّوِرُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ، لأَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ. ٤ فَأَجَابَهُ تَلاَمِيذُهُ: مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هٰؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ؟ ٥ فَسَأَلَهُمْ: كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ؟ فَقَالُوا: سَبْعَةٌ. ٦ فَأَمَرَ ٱلْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى ٱلأَرْضِ، وَأَخَذَ ٱلسَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا، فَقَدَّمُوا إِلَى ٱلْجَمْعِ. ٧ وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ ٱلسَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هٰذِهِ أَيْضاً. ٨ فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا، ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ ٱلْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ. ٩ وَكَانَ ٱلآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ».
متّى ١٥: ٣٢، متّى ١٥: ٣٤ وص ٦: ٣٨، متّى ١٤: ١٩ وص ٦: ٤١
لا فرق بين خبر مرقس بالمعجزة المذكورة هنا وخبر متّى بها (متّى ١٥: ٣٢ - ٣٨). وهذه المعجزة وهي إطعام الجموع ثانية لم يذكرها من البشيرين إلا متّى ومرقس. وهذا هو الأمر الوحيد الذي غيّر فيه مرقس منهجه لأنه ذكر معجزتين من نوع واحد لأن من عادته ذكر معجزة واحدة من كل نوع.
فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي في مدة اعتزال يسوع الجليل (متّى ١٥: ٢١) لا نفس الوقت الذي صنع فيه المعجزة المذكورة في الأصحاح السابق. والمفهوم أنه كان حينئذ في الأرض الجبلية شرقي الأردن في نواحي العشر المدن. والعبارة الوجيزة التي زادها مرقس على ما ذكره متّى قوله «إَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ» وترك مما ذكره متّى قوله «مَا عَدَا ٱلنِّسَاءَ وَٱلأَوْلاَدَ» (متّى ١٥: ٣٨).
١٠ «وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ».
متّى ١٥: ٣٩
دَلْمَانُوثَةَ لا ذكر لهذه الكلمة في الكتاب المقدس إلا هنا والمظنون أنها قرية صغيرة على شاطئ بحر طبرية الغربي قرب مجدل شمالاً وتابعة لها وظنها البعض كانت عند ما يسمى اليوم بالعين الباردة وهي على أمد ثلث ساعة من مجدل. وقال متّى أنه جاء إلى تخوم مجدل فمعنى الاثنين واحد.
طلب الفريسيين آية من السماء ع ١١ إلى ١٣
١١ «فَخَرَجَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱبْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ».
متّى ١٢: ٣٨ و١٦: ١ ويوحنا ٦: ٣٠
اجتماع الفريسيين هذا وسؤالهم ما لا حق لهم أن يسألوه وهو آية من السماء وتركهم شهادة الآيات التي صنعها المسيح مرّ الكلام عليها في شرح بشارة متّى (متّى ١٦: ١ - ٤).
فَخَرَجَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ هذا يدل على أنهم كانوا يراقبونه سراً كالجواسيس وأنهم حينئذٍ ظهروا وتصدوا له علناً. وزاد متّى على مرقس أن الصدوقيين اتفقوا مع الفريسيين على أن يسألوه تلك الآية ولكن الفريسيين هم الذين سبقوا إلى السؤال وواطاهم الصدوقيون رياء لأنهم كفرة لا يعتقدون إمكان الإتيان بآية من السماء.
١٢ «فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ: لِمَاذَا يَطْلُبُ هٰذَا ٱلْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هٰذَا ٱلْجِيلُ آيَةً!».
فَتَنَهَّدَ اعتاد مرقس أن يذكر إمارات وجه المسيح وعلامات انفعالاته. وعلى هذا ذكر هنا تنهد المسيح إشارة إلى حزنه على كفرهم وعنادهم وتسلط الخطيئة عليهم وذلك كحزنه على الاصم الأعقد لمصابه الجسدي (ص ٧: ٣٤). وحزن أيضاً عليهم لما جلبوا على أنفسهم من الشقاء برفضهم إياه.
لَنْ يُعْطَى هٰذَا ٱلْجِيلُ آيَةً أي لا يُعطى آية من السماء كما طلبوا (متّى ١٦: ١) فإنهم طلبوا مثل آية موسى في إنزال المن ومثل آية يشوع في توقيف الشمس والقمر وآية صموئيل في إيقاع المطر والبرَد في أيام الحصاد وآية إيليا في إنزال النار على الحطب والآية التي كانت لحزقيا الملك في ترجيع الظل عشر درجات من درجات الساعة الشمسية. وقال متّى أن المسيح قال لهم أنهم لا يعطون إلا آية يونان النبي وهو لا يناقض قول مرقس لأن آية يونان ليست الآية التي طلبوها ولم يعطهم المسيح إياها حينئذ إجابة لطلبهم لأنها كانت منذ ٨٩٠ سنة قبل ذلك الوقت.
وبلغ حينئذ طلب الفريسيين تلك الطلبة المرة الرابعة. أولاها بعد طرد الباعة من الهيكل أولاً (يوحنا ٢: ١٨) وثانيتها بعد إشباع الخمسة الآلاف (يوحنا ٦: ٣٠). وثالثتها بعد مروره بين الزروع (متّى ١٢: ٣٨). والرابعة هنا.
١٣ « ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَدَخَلَ أَيْضاً ٱلسَّفِينَةَ وَمَضَى إِلَى ٱلْعَبْرِ».
تَرَكَهُمْ هذا يدل على عدم مسّرة المسيح بهم واليأس من إفادتهم بتعليمه وعلى نهاية خدمته في الجليل. وتركه إياهم لم يكن مجرد الذهاب عن المحل الذي كانوا فيه بل إبقاؤه إياهم في حال الشقاء الذي لا تُرجى إزالته.
ٱلسَّفِينَةَ لعلها هي السفينة التي أتى فيها وكانت باقية لطلبه (ص ١٠).
إِلَى ٱلْعَبْرِ أي الجانب الشرقي من بحر طبرية ولم يرجع بعد ذلك إلى الجليل إلا مرة واحدة وهو يحاول التواري على قدر الإمكان (ص ٩: ٣).
تحذير المسيح تلاميذه من خمير الفريسيين وهيرودس ع ١٤ إلى ٢١
١٤ «وَنَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي ٱلسَّفِينَةِ إِلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ».
متّى ١٦: ٥ الخ
إِلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ أوضح مرقس ما قاله متّى إجمالاً بقوله «نَسَوْا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً» (متّى ١٦: ٥).
ويدل على نسيانهم أنه لم يكن معهم سوى رغيف واحد. والأرجح أن ذلك الرغيف كان باقياً عندهم مما أخذوه قبلاً. وعلى هذا لم يكونوا قد أخذوا خبزاً جديداً في سفرهم. وذكر مرقس هذا الرغيف يدل على جودة ذاكرة بطرس وتدقيقه.
١٥ «وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: ٱنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ».
لوقا ١٢: ١
خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ لم يذكر متّى خمير هيرودس وذكر بدلاً منه خمير الصدوقيين الذي لم يذكره مرقس والأرجح أن المسيح حذرهم من خمير كل من الثلاثة لأنهم كانوا جميعاً مشتركين في الرياء وهو المراد بالخمير هنا فإنهم تظاهروا بما لم يعتقدونه فأشبهت تعاليمهم وسيرتهم الخمير لأنها كانت تمتد خفية وكانت مؤثرة كما تؤثر الخميرة في العجين وتصيُّره مثلها.
واختلف الفريسيون والصدوقيون والهيرودوسيون في أمور كثيرة من المعتقدات والتعاليم لكنهم اتفقوا جميعاً في الرياء وفي مقاومة يسوع. وكان من خمير الهيرودسيين غير ما ذُكر محبة العالم أكثر ممن سواهم.
١٦ - ٢١ «١٦ فَفَكَّرُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَيْسَ عِنْدَنَا خُبْزٌ. ١٧ فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ أَنْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ خُبْزٌ؟ أَلاَ تَشْعُرُونَ بَعْدُ وَلاَ تَفْهَمُونَ؟ أَحَتَّى ٱلآنَ قُلُوبُكُمْ غَلِيظَةٌ؟ ١٨ أَلَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ، وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَذْكُرُونَ؟ ١٩ حِينَ كَسَّرْتُ ٱلأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ لِلْخَمْسَةِ ٱلآلاَفِ، كَمْ قُفَّةً مَمْلُّوَةً كِسَراً رَفَعْتُمْ؟ قَالُوا لَهُ: ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ. ٢٠ وَحِينَ ٱلسَّبْعَةِ لِلأَرْبَعَةِ ٱلآلاَفِ، كَمْ سَلَّ كِسَرٍ مَمْلُّواً رَفَعْتُمْ؟ قَالُوا: سَبْعَةً.٢١ فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟».
ص ٦: ٥٢، متّى ١٤: ٢٠ وص ٦: ٤٣ ولوقا ٩: ١٧ ويوحنا ٦: ١٣، متّى ١٥: ٣٧ وع ٨ ص ٦: ٥٢ وع ١٧
انظر الشرح متّى ١٦: ٧ - ١٢. التوبيخ الذي ذكره مرقس في ع ١٦ لم يذكره متّى وأوضح أكثر من متّى خطاب المسيح للرسل وجوابهم على سؤاله عن عدد القفاف والسلال التي رفعوها من الخبز بعد كل من معجزتي الإشباع.
إبراء أعمى في بيت صيدا ع ٢٢ إلى ٢٦
٢٢ «وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَعْمَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ».
بَيْتِ صَيْدَا مدينة شمالي بحر طبرية عند مصب الأردن فيها وهي مولد أندراوس وبطرس وفيلبس (يوحنا ١: ٤٤ و١٢: ٢١). والأرجح أنها كانت على جانبي النهر لأنه يتبين لنا من ع ٤٦ أنها كانت على الجانب الغربي من النهر. ومن بشارة لوقا ١٠: ٩ أنها كانت على جانبه الشرقي في أراض تختص ببيت صيدا. ووسع فيلبس رئيس الربع هذه المدينة وزانها كثيراً وسماها جولياس إكراماً لجوليا بنت أوغسطس قيصر. ودفن هنالك فيلبس في قبر نفيس. والمرجح أن بيت صيدا التي ذكرها مرقس في ص ٨: ٢٢ كانت على جانب الأردن الشرقي لأن المسيح عبر مع تلاميذه من دلمانوثة إليها (ع ١٣) ودلمانوثة كانت على جانبه الغربي (ع ١٠). والظاهر أن معظم بيت صيدا كان على الجانب الغربي من الأردن واعتبروه المدينة (يوحنا ١: ٤٤) وقسماً صغيراً منها على الجانب الشرقي اعتبروه قرية (ع ٢٣).
فَقَدَّمُوا الذين قدموه أصدقاء الأعمى وهذه المعجزة لم يذكرها أحد من البشيرين سوى مرقس.
أَنْ يَلْمِسَهُ توهموا اللمس ضروري للإبراء.
٢٣ «فَأَخَذَ بِيَدِ ٱلأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ ٱلْقَرْيَةِ، وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ هَلْ أَبْصَرَ شَيْئاً؟».
ص ٧: ٣٣
فَأَخَذَ بِيَدِ ٱلأَعْمَى أخذ يسوع بيد الأعمى علامة رقة قلب المسيح واتضاعه وتظهر ثقة الأعمى بالمسيح من أنه سمح له وهو غريب أن يقوده حيث شاء.
وَأَخْرَجَهُ أتى ذلك اعتزالاً للشهرة ومراقبة الأعداء ولكي يزيد الأعمى إيماناً كما فعل في إبراء الاصم الأعقد (ص ٧: ٣٣). ولعله أراد أن أول شيء ينظره بعد فتح عينيه يكون وجه ربه لا جموع الناس.
وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وذلك ليس سوى إشارة إلى أن قوة الشفاء في المسيح. ولعلّ بعض الناس يومئذ نسبوا التأثير إلى الريق كما نسبوه إلى الزيت (ص ٦: ١٣). فاستعمل المسيح العلامة الشائعة في علاج المرضى في معجزات الشفاء. ويوافق اتخاذ الريق إشارة إلى فتح عيني الأعمى كونه صالحاً لتذويب بعض المواد. وعلى كل حال أن ما أتاه يسوع من أخذه بيد الأعمى واقتياده إياه إلى خارج القرية ولمسه عينيه إلى غير ذلك من الأعمال كان ليفيده ما يمكن غيره أن يستفيده بمجرد النظر إلى وجه المسيح. وكانت إفادته بذلك تحقيق لطفه به وإحياء إيمانه.
هَلْ أَبْصَرَ شَيْئاً امتازت هذه المعجزة على غيرها بان المسيح عملها تدريجاً لا دفعة. ولعلّ ذلك كان ضرورياً لإنشاء إيمان الأعمى لأن الشفاء لا يسبق الإيمان بل يسير معه ويكمل مع كمال الإيمان.
٢٤ «فَتَطَلَّعَ وَقَالَ: أُبْصِرُ ٱلنَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ».
فَتَطَلَّعَ أخذ يمتحن ما حصل عليه من البصر.
ٱلنَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ لم يكن بصره كاملاً ليميّز بعض المرئيات من بعض فنظر أشباحاً ظنها من كبرها أشجاراً ومن حركاتها تحقق أنها أناس فكان يمكنه أن يدرك بالبصر الأجرام ولكنه لم يستطع أن يميز الهيئات وهذا الشفاء الجزئي أكد للأعمى أن المسيح قادر على أن يشفيه تمام الشفاء وجعله يتكل عليه في ذلك. ففي مثل الطريق التي سلك فيها المسيح لإزالة العمى الجسدي من هذا الأعمى يسلك الروح القدس لإزالة العمى الروحي من قلوب الناس باقتياده إياهم تدريجاً من ظلمات ضلالاتهم وأوهامهم إلى أنوار الإنجيل النقية لأنه لا يمكن سوى اليد الإلهية أن يزيل برقعاً بعد برقع من براقع الجهل والتعصب. والعمى الروحي لا يزول كله على الأرض وتمام البرء منه يكون في السماء. وبداءة نوال ذلك البرء أن يرضي الخاطئ اقتياد المسيح إياه من الظلمة إلى النور وأن لا يقنط ببطء الشفاء ولا يتذمرّ بأنه يتقدم إلى ذلك شيئاَ فشيئاً. وعاقبة عمل المسيح البصر التام وفق قوله «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ ٱلآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلٰكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ» (يوحنا ١٣: ٧). ووفق قول الرسول «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ ٱلآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ، لٰكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ الخ» (١كورنثوس ١٣: ١٢ و١٣).
٢٥ «ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضاً عَلَى عَيْنَيْهِ، وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحاً وَأَبْصَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيّاً».
تمّ الشفاء بلمس المسيح عيني الأعمى ثانية فاستطاع أن يميز كلاً من المنظورات عن غيره ولعلّ المسيح قصد أن يعلم تلاميذه بما فعله هنا أن قوته على الشفاء مطلقة أي غير مقيدة بالوسائط أو الأوقات وبذلك يمتاز عمله عن أعمال السحرة الخداعية.
٢٦ «فَأَرْسَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ قَائِلاً: لاَ تَدْخُلِ ٱلْقَرْيَةَ، وَلاَ تَقُلْ لأَحَدٍ فِي ٱلْقَرْيَةِ».
متّى ٨: ٤ وص ٥: ٤٣
في هذا العدد نهيان الأول قوله لا تدخل القرية ولعلّ الغاية منه نفع المنهي لأن المسيح رأى أنه يحتاج إلى الانفراد عن الشعب للفائدة الروحية بعد الشفاء كما احتاج إلى الانفراد قبل الشفاء. ونستنتج من ذلك أن هذا الذي كان أعمى لم يكن من سكان بيت صيدا بل أُتي به إليها للشفاء. والنهي الثاني قوله لا تقل لأحد من القرية والغاية منه تخلص المسيح من انتشار صيته الذي يهيج حسد الفريسيين وازدحام الناس عليه بغية الشفاء الجسدي.
إقرار بطرس بإيمانه بالمسيح ع ٢٧ إلى ٣٠
٢٧ - ٢٩ «٢٧ ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي ٱلطَّرِيقِ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ: مَنْ يَقُولُ ٱلنَّاسُ إِنِّي أَنَا؟ ٢٨ فَأَجَابُوا: يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ. ٢٩ فَقَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ بُطْرُسُ: أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ!».
متّى ١٦: ١٣ ولوقا ٩: ١٨، متّى ١٤: ٢ و١٦: ١٦ ويوحنا ٦: ٦٩ و١١: ١٧
مرّ الكلام على هذا في الشرح متّى ١٦: ١٣ - ٢٠.
أخرج المسيح من الجليل بمقاومة الفريسيين فذهب من جوار بيت صيدا إلى شمالي فلسطين.
قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ هي التي تُسمى الآن بانياس وكانت مدينة وثنية اشتهرت قديماً بعبادة بان إله الرعاة كما سبق في الشرح (متّى ١٦: ١٣).
سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ أصل لفظة سأل هنا في اليوناني ألح وكرر السؤال بتدقيق. وكأن المسيح رأى أنه حان زمن امتحانه إيمان تلاميذه فإن المسيح قصد أن يبين لهم أنه لا بد من أن يتألم ويموت استعداداً لذلك سألهم عن اعتقادهم في شأن دعواه أنه المسيح. قال لوقا أنه خاطب تلاميذه على انفراد بعد أن شغل وقتاً بالصلاة (لوقا ٩: ١٨). ووجه المسيح سؤاله إلى كل التلاميذ فأجابه بطرس عن الجميع كعادته ولكن مرقس ترك ذلك كأمر معلوم لا يحتاج إلى بيان ولم يذكر مجاوبة المسيح لبطرس ومدحه إياه لسبقه الغير إلى ذلك الإقرار. فإذا كان مرقس كتب بشارته بإرشاد بطرس كما هو المرجح فترك ذلك المدح دلالة على تواضع بطرس. وترك مرقس أيضاً مما ذكره متّى ما يتعلق من قول المسيح بالكنيسة وهذا دليل على أن الموضوع الجوهري في خطاب المسيح حينئذ الإنباء بآلامه وموته ووجوب إقرار تلاميذه به.
٣٠ «فَٱنْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ».
متّى ١٦: ٢٠
الأمر الذي نهاهم عن إظهاره هو أنه المسيح (متّى ١٦: ٢٠). لأنه لم يكن قد حان وقت الإعلان العام بذلك وقصد أن تكون قيامته من الموت أحسن برهان على صحة دعواه. والانتهار كان لجميع الرسل فإذاً لا بد من أن يكون إقرار بطرس هو إقرار الجميع.
إنباء المسيح الأول بموته وقيامته ووجوب أن يحمل الصليب كل من تلاميذه من ص ٨: ٣١ إلى ص ٩: ١
٣١ - ٣٣ «٣١ وَٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. ٣٢ وَقَالَ ٱلْقَوْلَ عَلاَنِيَةً، فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَٱبْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. ٣٣ فَٱلْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلاَمِيذَهُ، فَٱنْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: ٱذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلّٰهِ لٰكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ».
متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ ولوقا ٩: ٢٢
هذا إنباء يسوع الأول بموته وقيامته ومعارضة بطرس إياه بسبب ذلك وتوبيخ يسوع له. وقد مرّ الكلام على كل ذلك في الشرح متّى ١٦: ٢١ - ٢٣. وما يختص بمرقس في هذا النبأ.
(١) إن يسوع «قال القول علانية» أي على مسامع كل الجمع دون أو يورد مراده بأمثال أو ألغاز كما كان يفعل قبل ذلك (متّى ٩: ١٥ ويوحنا ٢: ١٩ و٣: ١٢ - ١٦ و٦: ٤٧ - ٥١).
(٢) إنه التفت وأبصر تلاميذه كلهم لا بطرس وحده وهذا يدل على أنه لم ينفرد ببطرس دون غيره حسب طلب بطرس عينه بل وبخه أمام الجميع كأنهم اشتركوا مع بطرس في أفكاره وأقواله ولحقهم شيء من التوبيخ.
٣٤ - ٣٧ «٣٤ وَدَعَا ٱلْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. ٣٥ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. ٣٦ لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ ٣٧ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟».
متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤ ولوقا ٩: ٢٣ و١٤: ٢٧، يوحنا ١٢: ٢٥
انظر الشرح متّى ١٦: ٢٤ - ٢٨. وزاد مرقس على ما ذكره متّى أنه دعا الجمع قبل أن تكلم في وجوب إنكار الذات وحمل الصليب كأن ذلك شرط عام لكل من أراد أن يدخل ملكوت الله في كل مكان وزمان. وقال متّى أن المسيح قال «الذي يهلك نفسه من أجلي يخلّصها» فزاد مرقس على ذلك قوله «من أجل الإنجيل» أي أن إنكار الذات والغيرة والمحبة التي يطلبها المسيح من تلاميذه لا تكون إكراماً لشخصه فقط بل للبشارة التي نزل من السماء ليشهد بها ويموت شهيداً لها (يوحنا ١٨: ٣٧). وهذا يدلنا على أن دعوة المسيح وإنجيله دعوة واحدة. والذي قاله المسيح في ع ٣٥ قاله ثلاث مرات أُخر (متّى ١٠: ٣٩ ولوقا ١٧: ٣٣ ويوحنا ١٢: ٢٥).
٣٨ «لأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلْفَاسِقِ ٱلْخَاطِئِ فَإِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ».
متّى ١٠: ٣٣ ولوقا ٩: ٢٦ و١٢: ٩ ورومية ١: ١٦ و٢تيموثاوس ١: ٨ و٢: ١٢
في هذا العدد تفصيل ما ذكره متّى من قول المسيح «يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ» (متّى ١٦: ٢٧). وسبب اختصار متّى هذا المعنى أنه أتى بمثله في مكان آخر (متّى ١٠: ٣٢ و٣٣). وللفرق بين ألفاظ المعنيين أن متّى ذكر الفعل وهو إنكار المسيح ومرقس ذكر انفعال القلب الذي حمل على الإنكار وهو الاستحياء به.
مَنِ أي كل واحد فكل إنسان عرضة لإنكار المسيح وهلاك النفس.
ٱسْتَحَى بِي أي خجل أن يعترف بأني المسيح والرب وذلك مثل إنكار دعواي أني كذلك (عبرانيين ٢: ١١ و١١: ١٦). وعلة الاستحياء اتضاعي وفقري وما يظهر فيّ من الضعف ومقاومة رؤساء الدين إياي وقلة تلاميذي.
وَبِكَلاَمِي أي بتعليمي المضاد لكبرياء قلب الإنسان ولبره الذاتي ولأكثر أديان الأرض.
ٱلْجِيلِ ٱلْفَاسِقِ ٱلْخَاطِئِ متّى ١٢: ٣٩. وصف يسوع يهود عصره بذلك لأنه يصدق عليهم إجمالاً ويصدق على أكثرهم حقيقة ومجازاً وعلاقة المجاز نكث عهودهم لله بالمحبة والطاعة (إرميا ٣١: ٣٢). وسبب الاستحياء بالمسيح الاهتمام بآراء جيل كهذا.
ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ المسيح يعامل الذين يستحون به كأنه يستحي بهم. وحقيقة ذلك أنه يرفض كونهم من خاصته ويعاملهم أمام كرسي أبيه كما عاملوه أمام أهل الأرض وعاقبة ذلك طردهم من ملكوت المجد لا بروح الانتقام بل بمجازاتهم حسب ما استحقوا. فمن اقتنع بصحة دين المسيح وإنجيله وأخفى اعتقاده حياءً أو خوفاً أو طمعاً ولم يعترف بإيمانه ارتكب إثماً فظيعاً وعرّض نفسه لعقاب شديد.
مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ سوف يأتي المسيح ثانية لا طفلاً في بيت لحم ولا نجاراً في الناصرة بل باعتبار كونه ابن الله في وقار ومجد ليثيب أصدقاءه الذين اعترفوا بالإيمان به ويطرد من حضرته أعداءه إلى محل العقاب الأبدي. وحينئذ تتبدل حال المسيح وحال الذين استحوا به فيكون هو ممجداً ويكونون هم مهانين. ولا يسأل حينئذ «من يستحي بالمسيح» بل «من يستحي المسيح بهم». وقد سبق تفسير قوله بمجد أبيه في شرح بشارة متّى (متّى ١٦: ٢٧).
(ص ٩: ١) «وَقَالَ لَهُمُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ قَدْ أَتَى بِقُّوَةٍ».
متّى ١٦: ٢٨ و٢٤: ٣ و٢٥: ٣١ ولوقا ٩: ٢٧ و٢٢: ١٨
هذا العدد تابع للأصحاح الثامن ومرّ تفسيره في متّى ١٦: ٢٨ وزاد مرقس فيه على ما قاله متّى في مجيء قصد مرقس من كتابة بشارته وهو إظهار ما للمسيح وملكوته من القوة العظمى. وهذا مما يرغب الرومانيين في دين المسيح.
ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ هذا مقدمة للشروع في أمر ذي شأن ذكره متّى في بشارته إحدى وثلاثين مرّة. وذكره مرقس ثلاث عشرة مرّة. ولوقا سبع مرّات ويوحنا خمساً وعشرين مرّة.
الأصحاح التاسع من ع ٢
تجلي المسيح وإنباؤه بقيامته ع ٢ إلى ٨
٢ - ٨ «٢ وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، ٣ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدّاً كَٱلثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذٰلِكَ. ٤ وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. ٥ فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ: يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هٰهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ، لَكَ وَاحِدَةً وَلِمُوسَى وَاحِدَةً وَلِإِيلِيَّا وَاحِدَةً. ٦ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. ٧ وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ. لَهُ ٱسْمَعُوا. ٨ فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُم».
متّى ١٧: ١ ولوقا ٩: ٢٨ و٢٩، دانيال ٧: ٩ ومتّى ٢٨: ٣
مرّ الكلام على التجلي والتفسير في شرح بشارة متّى (متّى ١٧: ١ - ٩).
وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أي بعد مرور ستة أيام من ملكوت المسيح أن ذلك الملكوت يأتي «بقوة» وهذا يوافق مخاطبة المسيح تلاميذه في الاستحياء به وفي مجيء ملكوته بقوة. وعبّر لوقا عن هذه المدة بقوله نحو ثمانية أيام. ولا مناقضة بينهما إذا حسبنا أن لوقا حسب اليوم الذي خاطبهم المسيح فيه اليوم الأول من تلك المدة ويوم تجليه الثامن وأن متّى ومرقس حسبا الستة الأيام التي بين ذينك اليومين. ولعلّ لوقا لم يقصد التدقيق في الوقت فذكره بوجه التقريب ويقوي ذلك قوله «بنحو ثمانية أيام» خلافاً لمتّى ومرقس فإنهما قالا «بعد ستة أيام» بلا لفظة نحو.
جَبَلٍ عَالٍ يصدق هذا الوصف على حرمون وهو جبل الشيخ لأن ارتفاعه نحو ١٠٠٠٠ قدم ولا يصدق على تابور لأن ارتفاعه لا يبلغ ألف قدم.
مُنْفَرِدِينَ غير ممكن للمسيح وتلاميذه أن ينفردوا على جبل تابور لأن قنة ذلك الجبل كانت مشغولة كلها بقلعة رومانية فيها كثيرون من العساكر الرومانيين.
صَارَتْ ثِيَابُهُ زاد مرقس هنا على ما قاله متّى في بياض ثوب المسيح عند التجلي أن «ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدّاً كَٱلثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذٰلِكَ» فأظهر بياض ثوب المسيح بتشبيهه إياه بما هو أكثر بياضاً في المواد الطبيعية وفي ما هو كذلك في موضوعات الناس. وزاد أيضاً في العدد السادس أن بطرس لم يكن يعلم ما يتكلم به. وفي العدد الثامن البغتة حينما ظللتهم السحابة النيّرة ونظروا حولهم ولم يروا موسى ولا إيليا.
٩، ١٠ «٩ وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ ٱلْجَبَلِ، أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَداً بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. ١٠ فَحَفِظُوا ٱلْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ: مَا هُوَ ٱلْقِيَامُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ؟»
متّى ١٧: ٩
انظر الشرح متّى ١٧: ٩.
فَحَفِظُوا ٱلْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ أي أسرّوا أمر التجلي كما أمرهم المسيح.
مَا هُوَ ٱلْقِيَامُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أي قيامة المسيح التي جعلها حداً لسكوتهم عن التجلي. وسبب أنهم لم يعلموا ما هي هو عدم تصديقهم أنه يموت لأنهم اعتقدوا القيامة العامة كسائر اليهود (يوحنا ١١: ٢٤ وأعمال ٢٣: ٨). فلولا عدم تصديقهم موته ما تساءلوا.
كلام على مجيء إيليا ع ١١ إلى ١٣
١١ - ١٣ «١١ فَسَأَلُوهُ: لِمَاذَا يَقُولُ ٱلْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟ ١٢ فَأَجَابَ: إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْذَلَ. ١٣ لٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضاً قَدْ أَتَى، وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ».
ملاخي ٤: ٥ ومتّى ١٧: ١٠، مزمور ٢٢: ٦ وإشعياء ٥٣: ٢ الخ ودانيال ٩: ٢٦ ولوقا ٢٣: ١١ وفيلبي ٢: ٧، متّى ١١: ١٤ و١٧: ١٢ ولوقا ١: ١٧
انظر الشرح متّى ١٧: ١٠ - ١٣.
مَكْتُوبٌ عَنِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ هذا ما جاء في أثناء الكلام على مجيء إيليا لا جواب للرسل في شأن ذلك فإن الرسل سألوا المسيح عن معنى النبوءات المتعلقة بمجيء إيليا فأجابهم على سؤالهم ثم أخذ يفسر لهم النبوءات المتعلقة بنفسه من أنه يتألم حتى الموت. ولعله خاطبهم بذلك ليتأملوا فيه ويتوصلوا إلى معرفة ما كانوا يتساءلون فيه وهو أنه كيف يمكنه الموت ثم القيام منه.
إبراء الولد المجنون ع ١٤ إلى ٢٩
١٤ «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلتَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ».
متّى ١٧: ١٤ الخ ولوقا ٩: ٣٧ الخ
مرّ تفسير ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ١٧: ١٤ - ٢١). وجاء نبأ هذه المعجزة أيضاً في بشارة لوقا (لوقا ٩: ٣٧ - ٤٢). وكل من البشيرين الثلاثة ذكر أنها حدثت على أثر التجلي. وأوضح مرقس أمرها أكثر من غيره لأنه أبان أوجاع الولد بالتفصيل. ولم يذكر أحد إلا هو المخاطبة بين يسوع وأبي الولد (ع ٢١: ٢٤).
وَلَمَّا جَاءَ أي يسوع مع التلاميذ الثلاثة من الجبل في غد التجلي (لوقا ٩: ٣٧).
إِلَى ٱلتَّلاَمِيذِ هم التسعة الذين بقوا عند الحضيض.
يُحَاوِرُونَهُمْ يسألونهم لكي يعربسوهم. والأرجح أن موضوع محاورتهم دعوى يسوع أنه المسيح. ولعلهم عيّروهم بعجزهم عن إبراء الولد واستنتجوا من ذلك بطلان دعوى معلمهم فزادهم تعييراً.
١٥ «وَلِلْوَقْتِ كُلُّ ٱلْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ».
تَحَيَّرُوا لا يظهر من الكلام هنا سبب حيرتهم. ظن البعض أنه بقي على وجه المسيح آثار مجد التجلي كما بقي على وجه موسى حين نزل من طور سيناء (خروج ٣٤: ٢٩ و٣٠). ولعلّ سبب ذلك أنهم رأوه بغتة بعد توقعهم مجيئه مدة ولم يلتفتوا إلى قدومه إليهم لاشتغال أفكارهم بالجدال بين الكتبة وبعض التلاميذ.
وَرَكَضُوا فرحاً بقدومه وترحيباً به عملاً. ولا دليل على أن كل الجمع فعل ذلك ولكن لا بد من أن الذين أتوا ذلك كانوا كثيرين.
١٦ «فَسَأَلَ ٱلْكَتَبَةَ: بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟».
غاية المسيح من هذا السؤال أن يرفع الجدال عن تلاميذه ويجاوب عنهم. وفي سؤاله تلميح إلى أن الكتبة يحاورون تلاميذه بما لا حق لهم فيه.
١٧ «فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ: يَا مُعَلِّمُ، قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ٱبْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ».
متّى ١٧: ١٤ ولوقا ٩: ٣٨
لم يجبه الكتبة على سؤاله في العدد السابق إما لخجلهم وإما لأن أبا الولد لم يصبر ليكون لهم فرصة للجواب. والذي ظهر من قوله أن موضوع المحاورة قدرة المسيح على إخراج الروح النجس أو تهمة الفريسيين أنه إذا قدر على ذلك قدر بموازرة رئيس الشياطين.
قَدَّمْتُ إِلَيْكَ يبيّن من ذلك أنه قصد المسيح لما أتى بولده ولم يعرف أنه كان غائباً.
ٱبْنِي وهو ابن وحيد لأبيه (لوقا ٩: ٣٨).
بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ كان الخرس إحدى نتائج سكنى الشيطان فيه. وكان الولد يستطيع أن يصرخ ولكنه لم يستطع أن يتكلم (لوقا ٩: ٣٩).
١٨ «وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَّزِقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا».
وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يدلنا ذلك أن الولد كان عرضة لنوبات شديدة كنوبات الصرع المعروف عند العامة بداء النقطة.
يُمَّزِقْهُ هذا دليل على تشنجات الولد المؤلمة التي كادت تخلع مفاصله لشدتها.
فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ كان ما ذكره الوالد قبل هذا من فعل الشيطان وما ذكره هنا من فعل ولده فلم يميّز بين الفعلين. وهذا يدل على كمال تسلط إبليس على الولد. ودل قوله ييبس أن نتيجة كل العوارض إفناء قوته والإغماء عليه.
فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ لما لم أجدك.
فَلَمْ يَقْدِرُوا أن يشفوه بعد أن امتحنوا ذلك (متّى ١٧: ١٦).
١٩ «فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!».
متّى ١٧: ١٧
٢٠ «فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ ٱلرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ».
ص ١: ٢٦ ولوقا ٩: ٤٢
كان أول نتيجة من اقتراب الروح النجس من المسيح أنه زاد إيلام الولد وأزعجه كثيراً لأنه شعر بأنه لم يبق له سوى وقت قصير لتعذيبه.
٢١، ٢٢ «٢١ فَسَأَلَ أَبَاهُ: كَمْ مِنَ ٱلّزَمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هٰذَا؟ فَقَالَ: مُنْذُ صِبَاهُ. ٢٢ وَكَثِيراً مَا أَلْقَاهُ فِي ٱلنَّارِ وَفِي ٱلْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لٰكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا».
غاية المسيح في مخاطبته الوالد أن يسكّن اضطراب قلبه ولكي يجدد إيمانه بقوته. وغاية جواب الوالد تحريك حنو المسيح عليه بذكره طول المدة التي تسلط على ولده الشيطان فيها والمخاطر التي كان عرضة لها من تلك النازلة.
لٰكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً هذا دليل على أن إيمانه لم يتلاش لكنه كان ضعيفاً جداً لجهله قدرة المسيح ولما ظهر من عجز التلاميذ التسعة.
أَعِنَّا جعل مصيبة ولده مصيبة له كما كان من المرأة الفينيقية (متّى ١٥: ٢٥).
٢٣ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ، فَكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ».
متّى ١٧: ٢٠ وص ١١: ٢٣ ولوقا ١٧: ٦ ويوحنا ١١: ٤٠
إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ علّق الوالد الشفاء بقدرة المسيح فلم يسلّم المسيح أن في قوته ريباً ولكنه علّق إظهار قوته على الشفاء بإيمان الوالد. فكان الإيمان شرطاً ضرورياً للشفاء. ولم يخلُ قول المسيح من التوبيخ لذلك الوالد على ما أظهره من الشك في قوته. ثم ألقى المسؤولية عليه في شفاء ولده لأن القوة على الشفاء موفورة ولم يبق مما يحتاج إليه سوى إيمانه فبقيت المسؤولية عليه. وقوّى إيمانه بقوله «فَكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ» لأنه بالإيمان يتمسك الإنسان بقدرة القادر على كل شيء. ومن عادة المسيح أن يسأل الإيمان من المصاب شرطاً لشفائه وقبل هنا إيمان الوالد بدلاً من ولده لتعذّر ذلك على الولد. والإيمان الذي سأله المسيح ذلك الوالد يسأله الآن من كل خاطئ يأتيه رغبة في الخلاص ولا ينال أحد الخلاص بدون إيمان.
٢٤ «فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو ٱلْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي».
صَرَخَ أتى ذلك ليؤكد للمسيح ما له من الإيمان به ولم يمنعه من ذلك وجود الكتبة المجادلين الهازئين.
بِدُمُوعٍ وهذه الدموع علامة توبته وتواضعه وإلحاحه.
أُومِنُ كما سألتني لكني أشعر بضعف إيماني وأنك قادر أن تمنحني ما أحتاج إليه.
فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي حسب إيمانه كالعدم لفرط ضعفه وطلب تقويته وإكماله ليفي بما يقتضيه شفاء ابنه. كذلك لا يستطيع الخاطئ بلا معونة المسيح أن يؤمن الإيمان الكافي لنوال الخلاص.
٢٥ «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ ٱلْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ، ٱنْتَهَرَ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ قَائِلاً لَهُ: أَيُّهَا ٱلرُّوحُ ٱلأَخْرَسُ ٱلأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: ٱخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضاً!».
لما حصل الإيمان وهو شرط الشفاء لم يتوقف المسيح عن الإبراء.
ٱلْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ ذكر قبلاً أن الجمع ركضوا عليه ع ١٥ فيكون المعنى هنا أنهم ازدحموا عليه أكثر مما سبق بسرعة أو أن الذين تراكضوا غيرهم ممن أتوا حديثاً.
ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ نجاسة هذا الروح أدبية.
ٱلرُّوحُ ٱلأَخْرَسُ ٱلأَصَمُّ نسب المسيح مصاب الولد بالخرس والصم إلى الروح النجس لأنه علتهما.
أَنَا آمُرُكَ باعتبار أني رئيس ملكوت النور الذي لا تقدر أن تعصيه ولا يتجاسر على معصيته.
وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضاً نهاه عن دخوله أيضاً لئلا يحاول ذلك كما حدث أحياناً (متّى ١٢: ٤٥).
٢٦ «فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيداً وَخَرَجَ، فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ مَاتَ».
فَصَرَخَ هذا الصراخ فعل الروح النجس بفم الولد الذي استولى عليه وكان علامة لشدة غيظه عند خروجه.
وَصَرَعَهُ شَدِيداً أظهر خبثه وأنه فعل كل ما استطاعه من الأضرار قبل خروجه. كذلك أنه كلما تقدم ملكوت المسيح هاج الشيطان لمقاومته.
صَارَ كَمَيْتٍ أي وصل لشدة صرع الشيطان إياه إلى حال التلف.
٢٧ - ٢٩ «٢٧ فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ. ٢٨ وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتاً سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى ٱنْفِرَادٍ: لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟ ٢٩ فَقَالَ لَهُمْ: هٰذَا ٱلْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِٱلصَّلاَةِ وَٱلصَّوْمِ».
متّى ١٧: ١٩
لم يذكر قول بعضهم أن الولد مات وأن يسوع مسكه وأقامه سوى مرقس. والكلام على سؤال التلاميذ التسعة ليسوع عن عجزهم عن إخراج الشيطان من الولد مرّ في الشرح (متّى ١٧: ١٩ - ٢١).
إنباء يسوع بموته وقيامته ع ٣٠ إلى ٣٢
٣٠ - ٣٢ «٣٠ وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ وَٱجْتَازُوا ٱلْجَلِيلَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، ٣١ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ. ٣٢ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا ٱلْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ».
متّى ١٧: ٢٢ ولوقا ٩: ٤٤
هذا إنباء يسوع الثاني بآلامه وموته وقيامته بإيضاح وقد مرّ الكلام عليه في الشرح (متّى ١٧: ٢٢ و٢٣).
وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ أي من جوار قيصرية وهي بانياس عند حضيض جبل الشيخ.
وَٱجْتَازُوا ٱلْجَلِيلَ كان ذلك آخر زياراته لها.
وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ فإذاً كان ذلك المرور سراً بقدر استطاعته لأن أعداءه كانوا يراقبونه هنالك في كل مكان ولأنه شاء اعتزال ازدحام الجموع وكل تهيجات الشعب ولأنه رغب في أن تكون له فرصة مناسبة لتعليم تلاميذه كما يستنتج من ع ٣١.
كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ الخ هذا يدلنا على أن المسيح لم يكتف بأن يقتصر على إنبائهم بموته وقيامته بوجه الاختصار بل جعل ذلك موضوع خطاب طويل.
فَلَمْ يَفْهَمُوا ٱلْقَوْلَ أي كلامه على موته وقيامته وفي هذا زيادة على ما قاله متّى. وسبب عدم فهمهم مراد المسيح ليس إبهام كلامه بل أن آراءهم القديمة في شأن المسيح ملك اليهود المنتظر مجيئه منعتهم عن أخذ كلامه على ظاهر معناه. والأرجح أنهم ظنوه مجازاً لا حقيقة.
وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ من أسباب ذلك احترامهم وتوقيرهم إياه ومنها اعتزالهم أن يسألوه عن موته لأن سؤال الإنسان عن موته مما تأباه الطبيعة البشرية ولو في الأحوال التي تقتضيه. ومنها خوفهم أن يكون المعنى الحقيقي هو المقصود وهم فضلوا أن ينسبوا إليه معنى مجازياً.
محاورة التلاميذ في أيّهم أعظم وتعليمه إياهم العظمة الحقيقية ع ٣٣ إلى ٣٧
٣٣ «وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي ٱلْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِي مَا بَيْنَكُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ؟».
متّى ١٧: ٢٤
إِلَى كَفْرِنَاحُومَ هي المدينة التي كانت مسكنه ومتوزع تبشيره في الجليل.
فِي ٱلْبَيْتِ الأرجح أنه بيت بطرس.
سَأَلَهُمْ لا لأنه جهل الأمر بل ليجعل جوابهم مقدمة لما أراد بيانه لهم.
فِي مَا بَيْنَكُمْ أي في انفرادكم عني وأنتم تظنون أني لم أعلم وأبان بذلك أنه إله يعلم الأسرار.
٣٤ «فَسَكَتُوا، لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي ٱلطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ».
متّى ١٨: ٢ ولوقا ٩: ٤٦ و٢٢: ٢٤
فَسَكَتُوا لخجلهم من معلمهم ولتبكيت ضمائرهم ولحيرتهم من علمه ما اجتهدوا في إخفائه عنه.
مَنْ هُوَ أَعْظَمُ يظهر لنا من هذا أن التلاميذ بعد أن أخبرهم يسوع بموته لم يزالوا يتوقعون أن يكون ملكاً أرضياً وأن يقسم لتلاميذه المراتب المختلفة (انظر الشرح متّى ١٨: ١ - ١٥). وذكر متّى أنهم سألوا المسيح من هو الأعظم الخ فيكون ما ذكره من سؤالهم إياه على أثر ما ذكره مرقس وقبل أن أقام المسيح الولد في وسطهم ويحتمل أنه لم يشترك كل التلاميذ في تلك المحاورة وأن المذنبين منهم سكتوا خجلاً عندما سألهم يسوع كما قال مرقس وأن الآخرين سألوه السؤال الذي ذكره متّى وهو موضوع المحاورة.
٣٥ «فَجَلَسَ وَنَادَى ٱلاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ ٱلْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ».
متّى ٢٠: ٢٦ و٢٧ وص ١٠: ٤٣
أَوَّلاً أي أعظم الرسل في المقام والشرف والسلطان.
آخِرَ ٱلْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ هذا إما إنذار وإما نصح. فهو إنذار لمن قصده الكبرياء ومحبة الذات لأن قصاصه أن يخيب أمله فيكون مهاناً وأقل اعتباراً من الكل وذلك عكس مراده. وهذا كثيراً ما يحدث مثله في الأرض ولا بد من أن ينتج منه ما ذكر في نهاية العالم. وهو نصح لمن قصده الصلاح ورغب في أن يكون أولاً في القداسة وفي نفع الغير. ولمثل هذا أبان المسيح أن واسطة بلوغه ذلك أن يختار أن يكون آخر الكل في المقام إذا اقتضت الحال ذلك.
والعظمة عند أهل العالم تقوم بالتسلط على الغير واستخدامهم ونوال الاعتبار والهدايا منهم. وهي عند المسيح إظهار التواضع والمحبة وخدمة الغير وإعطاؤهم ما يحتاجون إليه.
٣٦، ٣٧ «٣٦ فَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ ثُمَّ ٱحْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: ٣٧ مَنْ قَبِلَ وَاحِداً مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هٰذَا بِٱسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي».
متّى ١٨: ٢ وص ١٠: ١٦، متّى ١٠: ٤٠ ولوقا ٩: ٤٨
(انظر الشرح متّى ١٠: ٤٠ و١٨: ٢ - ٦ و٢٥: ٣٥ و٣٦). زاد مرقس هنا على ما قال متّى أن يسوع احتضن الولد.
بِٱسْمِي قيّد المسيح ثواب الخدمة بأن تكون باسمه أي حباً وإكراماً له. فإذا من خدم الطائفة أو الكنيسة أو أصفياء أصحابه حباً لهم وحدهم لا يحق له أن يتوقع الثواب الذي وعد به المسيح هنا.
عدم معارضة من خدَم المسيح وليس هو من أتباعه في الظاهر ع ٣٨ إلى ٤١
٣٨ «وَقَالَ يُوحَنَّا: يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِٱسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا».
عدد ١١: ٦٨ ولوقا ٩: ٤٩ وفيلبي ١: ١٨
وَقَالَ يُوحَنَّا يصعب على القارئ معرفة العلاقة بين هذا الكلام وما قبله في شأن الولد الصغير ولعلّ يوحنا شعر أنه لم يظهر صفات ذلك الولد في ما يأتي. أو لعلّ قول المسيح «باسمي» (ع ٣٧) ذكّره الإنسان الذي رآه يخرج الشياطين باسم يسوع.
رَأَيْنَا لعله رأى ذلك مع غيره من التلاميذ وهو يجول للتبشير.
يُخْرِجُ شَيَاطِينَ الذي فعل ذلك ليس من الاثني عشر رسولاً ولا من السبعين الذين أرسلهم يسوع مبشرين ولكن لا بد من أنه كان مؤمناً بالمسيح حتى استطاع أن يعمل المعجزات وأنه فعل الخير في إنقاذ الإنسان من الخطيئة والعذاب.
بِٱسْمِكَ أي أنه يتلفظ باسمك عند إخراج الأرواح النجسة. وهذا يدلّ على أنه كان مؤمناً وإلا كان استعماله اسم يسوع عبثاً كما كان من أمر أولاد سكاوا السبعة (أعمال ١٩: ١٣ و١٤).
مَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا لم يقل يوحنا ليس يتبعك. فدل ذلك على تعصبه الطائفي إذ لا علة لشكه في صدق ذلك الإنسان سوى أنه ليس من الجماعة التي هو منها. ولم يلتفت يوحنا إلى الخبر الذي يفعله الإنسان لأن المدح والاعتبار لم يرجعا بعمله إلى تلك الجماعة وهذا يذكرنا قول يشوع في خبر ألداد وميداد الذين كانا يتنبّئان في المحلة لا عند الخيمة (عدد ١١: ٢٧ - ٢٩). والظاهر أن يوحنا ومن معه من التلاميذ رأوا من الواجب أن يتبعهم ذلك الإنسان بشخصه أو أن يمتنع عن إخراج الشياطين.
٣٩ «فَقَالَ يَسُوعُ: لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُّوَةً بِٱسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً».
١كورنثوس ١٢: ٣
لاَ تَمْنَعُوهُ أي لا تتعرضوا بعد هذا لمنعه أو منع مثله. نعم إنّ يوحنا أظهر في ذلك غيرة للرب لكنه أخطأ الطريق كما أخطأ أيضاً حين أراد أن تسقط نار من السماء على القرية السامرية (لوقا ٩: ٥٢). ولم يرد المسيح أن تلاميذه يمنعون أحداً عن مثل أعماله في نفع الناس وإنقاذهم من سلطان الشيطان. ومثل ذلك كان جواب موسى ليشوع عندما سأله أن يردع المتنبئين في محلة إسرائيل (عدد ١١: ٢٩). ومثل قول المسيح قول بولس في فرحه بالمناداة باسم المسيح (فيلبي ١: ١٦ - ١٨).
يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً أي يتكلم كعدو لي ويظهر بغضه إياي لأن عمله المعجزات برهان إيمانه بي وذلك يمنعه من أن يقول عليّ شراً. وحاشا لله أن يمكّن أحداً من أعداء المسيح أو أحداً من السحرة أن يتخذ اسم المسيح واسطة للخداع. وصنع ذلك الرجل المعجزة كان برهاناً أقوى من اتباعه إياهم على صداقته للمسيح ومسرّة الله به.
٤٠ «لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا».
متّى ١٢: ٣٠
هذه حقيقة عامة مبنية على العدد السابق وليس من خلاف بينها وبين قول المسيح في مكان آخر «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ» (متّى ١٢: ٣٠). لأن نتيجة القولين واحدة وهي أن الحيادة في شأن المسيح مستحيلة فكل إنسان إما معه وإما عليه أي إما صاحبه وإما عدوه. وعلامة الصداقة أحياناً تكون عدم المقاومة كما جاء هنا. وأحياناً يكون عدم الاشتراك في العمل علامة العداوة كما ذكر في قول متّى. وكان الإنسان الذي أخرج الشياطين مشاركاً للمسيح في القصد والعمل مؤمناً به وكان ينقض أعمال الشيطان. وكان في كل ذلك مع المسيح فعلاً لا ظاهراً. وأما الذي أشار إليه المسيح بقوله في بشارة متّى «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ» فهو من لم يشارك المسيح البتة لا باطناً ولا فعلاً ولا إقراراً وضادّ المسيح في الباطن واشترك مع الشيطان وعلى ذلك صدق قول المسيح «فَهُوَ عَلَيَّ».
مَعَنَا جمع المسيح تلاميذه معه كأنه هو وإياهم واحد. ونستفيد من هذه الآية أنه إذا رأينا أناساً اختلفوا عنا في سياسة الكنيسة ورسوم العبادة وهم يؤمنون بالمسيح وينادون به وجب علينا أن نعتبرهم مسيحيين حقيقيين وشركاء معنا في خدمة المسيح وأصدقاء وإخوة وأن لا نمنعهم من العمل بل نسرّ به.
٤١ «لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِٱسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ».
متّى ١٠: ٤٢
(راجع الشرح متّى ١٠: ٤٢).
كَأْسَ مَاءٍ بِٱسْمِي هذا كناية عن أزهد خدمة فكل خدمة باسم المسيح مهما كانت زهيدة فلا بد من أجرة لها. صعب على يوحنا أن يرى فضيلة في عمل الذي أخرج الشياطين باسم المسيح (وهو من أعظم الأعمال) تستحق الثواب لأنه لم يفعل ذلك في الطريق التي استحسنها هو ولكن يسوع سهل عليه أن يرى في أزهد الأعمال باسمه فضيلة تستحق الثواب.
وفي قول المسيح هنا تعزية عظيمة لنا لأنه يندر أن يكون لنا فرص للأعمال العظيمة إكراماً للمسيح لكنا نستطيع في كل ساعة أن نعمل أعمالاً زهيدة كما في مثال المسيح المذكور. ويجب أن نعلم هنا أن الوعد بالثواب لمن يعمل باسم المسيح حباً له لا لمن يعمل الخير لمجرد الشفقة على المصاب.
لِلْمَسِيحِ هذا وصف التلاميذ لم يُذكر في غير هذا الموضع من البشائر لكنه ذُكر في الرسائل (رومية ٨: ٩ و١كورنثوس ١: ١٢).
كلام في المعاثر ع ٤٢ إلى ٥٠
٤٢ «وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ ٱلصِّغَارِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُّوِقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي ٱلْبَحْرِ».
متّى ١٨: ٦ ولوقا ١٧: ١
(طالع الشرح متّى ١٨: ٦). معنى هذه الآية أنه إذا اضطر الإنسان إلى الاختيار أن يعثر أحد تلاميذ المسيح ويحمل العقاب الذي يستوجبه أو أن يُطرح في البحر (وهو لا يأمل نجاة) فخير له أن يختار أن يُطرح في البحر لأنه أصغر الشرين.
٤٣ «وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَٱقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى ٱلنَّارِ ٱلَّتِي لاَ تُطْفَأُ».
تثنية ١٣: ٦ ومتّى ٥: ٢٩ و١٨: ٨
هذا وما في ع ٤٥ و٤٧ تكرار ما قاله المسيح في وعظه على الجبل (متّى ٥: ٢٩ و٣٠). وما قاله أيضاً في (متّى ١٨: ٨ و٩) ومرّ الشرح عليه في محلهما. والذي عبّر عنه في بشارة متّى بجهنم عبّر عنه هنا بالنار التي لا تطفأ بياناً أن عقاب الاشرار أبدي.
٤٤ - ٤٨ «٤٤ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. ٤٥ وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَٱقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي ٱلنَّارِ ٱلَّتِي لاَ تُطْفَأُ، ٤٦ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. ٤٧ وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَٱقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ ٱلنَّارِ، ٤٨ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لاَ تُطْفَأُ».
إشعياء ٦٦: ٢٤
ثلاث من هذه الآيات (وهي الرابعة والأربعون والسادسة والأربعون والثامنة والأربعون) لم ترد في غير بشارة مرقس. وما فيها من التكرار توكيد وإثبات لعظمة الأهمية. والمكرر في الثلاث الباقية مقتبس من نبؤة إشعياء (إشعياء ٦٦: ٢٤). وهو مجاز مبني على ما اعتمده اليهود في زمان إشعياء من إلقاء نفايات الذبائح وجثث البهائم في وادي هنوم حيث يفني بعهضا ويفني الآخر النار (يشوع ١٨: ١٦ و٢ملوك ٢٣: ١٠ وإشعياء ٣٠: ٣٣). وتنبأ إشعياء بكثرة أعداء الرب الذين يقتلون في الحرب وطرح جثثهم في ذلك الوادي إشارة إلى الهلاك الهائل الذي سوف يصيبهم. فأخذ يسوع كلام تلك النبوءة رمزاً إلى شقاء الأشرار الهائل وعذابهم الأبدي في جهنم. وهذا العذاب يشتمل على توبيخات الضمير والانفعالات الشديدة من الحسد والبغض والخجل والغضب واليأس. فتذكار ما ترك من فُرص الرحمة وما ارتكب من الخطايا التي تفعل في النفس هو فعل الدود في الجسد. ويتضمن أيضاً غضب الله على الخطاة ويكون ذلك الغضب كنار آكلة. إنّ الدود العادي يحيا قليلاً ويموت والنار العادية تتوقد قليلاً وتنطفئ لكن دود جهنم أي توبيخ الضمير في الآخرة لا يموت ونار الغضب فيها لا تطفأ.
وتكلم الله بهذه الكلمات الرهيبة حباً لنا ليحذّرنا فنهرب من الغضب الآتي ونتمسك بالرجاء الموضوع أمامنا بيسوع المسيح ربنا.
٤٩ «لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ».
لاويين ٢: ١٣ وحزقيال ٤٣: ٢٤
لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ هذه الآية عسرة الفهم إلا إذا أردنا تفسيرها بقطع النظر عن القرينة. ولا نستطيع ذلك لتعلقها بما قبلها بقوله «لأن». ولم يعرف حق المعرفة بماذا يتعلق حرف الجر وهو لام التعليل فهل تلك العبارة تعليل للنار التي لا تُطفأ وبيان لها أو تعليل لما قيل من قطع اليد أو الرجل وقلع العين. فهي تختلف المعنى باختلاف متعلقها. وللمفسرين فيها ثلاثة آراء:
- الأول: إن المسيح قصد بها بيان أبدية عقاب كل واحد من الهالكين تفسيراً لقوله «دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لاَ تُطْفَأُ» وكرر ذلك النار (وهي نار جهنم) ست مرات. والمعهود من تأثير النار أنها تُفني وتلاشي كل ما تقع فيه. وهذا يوهم أن نار جهنم تلاشي الهالكين. فزاد ذلك القول دفعاً لهذا الوهم إذ بيّن فيها أن لنار جهنم فوق صفات النار المعهودة صفة الملح وهي الحفظ من الفساد فهي تحفظ من التلاشي مع إحراقها. وخلاصة ذلك أن التملح بالنار هو البقاء في نار جهنم بلا تلاشٍ إلى الأبد.
- والثاني: إن المراد بتلك العبارة بيان حال الصالحين دون غيرهم. وهو أن الله عيّن لهم أن يمتحنوا بشدائد ومصائب تنقيهم كما تنقي النار الفضة والذهب من الخبث. وعيّن لهم أيضاً أن يُنقوا بعمل الروح القدس كما تنقي النار كما ذُكر في (متّى ٣: ١١). فعلى ذلك تكون النار إشارة إلى التنقية ويكون قول المسيح هنا تعليلاً لقوله قبلاً «إِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَٱقْطَعْهَا... وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَٱقْطَعْهَا... وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَٱقْلَعْهَا» فإن هذه الأمور مؤلمة إيلام النار ومنقية تنقيتها.
- والثالث: إن المسيح قصد بذلك كلا الأبرار والأشرار. فإنه ذكر قبلاً نوعين من الناس الأول الذين ينكرون أنفسهم بامتناعهم عن كل معثر كمن يقطعون إياديهم ويقلعون عيونهم ويخلصون. والثاني ليسوا كذلك فيُطرحون في جهنم. وصرح بأن إنكار النفس خير للإنسان لأن كل واحد لا بد أن يملح بإحدى نارين أي أنه إما أن يملح اختياراً بنار التنقية (١بطرس ١: ٧ و٤: ١٢) وإما أن يملح إجباراً بنار الهلاك. فخير للإنسان أن يختار إنكار الذات وترك الخطيئة وإن عرّض نفسه للاضطهادات وبذلك يُطهّر ويكون أهلاً للسماء من أن يختار الإثم واللذات الجسدية ويملّح بنار نقمة الله إلى الأبد. وخلاصة ذلك أنه أفضل للإنسان أن يختار النار الوقتية من الشدائد وإنكار الذات على النار الأبدية أي نقمة الله وأن يُملح بنار القداسة للخلاص من أن يُملح بنار العذاب الدائم في الإثم الأبدي. وهذه الآراء الثلاثة قابلة الاعتراض على كل منها ولعلّ الأخير أوضح معنىً وأبعد عن الاعتراض.
وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ هذه شريعة عامة للذبائح الموسوية بدليل قوله «وَكُلُّ قُرْبَانٍ مِنْ تَقَادِمِكَ بِٱلْمِلْحِ تُمَلِّحُهُ، وَلاَ تُخْلِ تَقْدِمَتَكَ مِنْ مِلْحِ عَهْدِ إِلٰهِكَ. عَلَى جَمِيعِ قَرَابِينِكَ تُقَرِّبُ مِلْحاً» (لاويين ٢: ١٣). والملح رمز إلى النقاوة والوقاية من الفساد ولعلّ العلاقة بين هذه العبارة والتي قبلها عموم الشريعة فيهما أي أنه كما أن الله عيّن تمليح الذبائح في العهد القديم شريعة عامة ضرورية كذلك عيّن في العهد الجديد أن كل إنسان باراً كان أو شريراً يُمتحن بنار إلهية وهي إما نار التنقية وإما نار النقمة. أو لعلها الاختصاص بالمسيحيين فيكون المعنى أنه كما وجب أن تُملح كل ذبيحة تقرب في الهيكل اليهودي هكذا وجب أن يملح كل مسيحي بملح النعمة الإلهية باعتبار كونه «ذبيحة حية» (رومية ١٢: ١) بناء على أن الملح إشارة إلى عهد رحمة الله وإلى الطهارة وعدم الفساد فإنه به يُحفظ المسيحيون من تسلط الموت الأبدي ويخلصون إلى الأبد. ففي القول هنا زيادة على ما في القول السابق فإن في ذاك أن المسيحي يُملح بنار الامتحان والشدائد وهنا أنه يُملح فوق ذلك بملح نعمة الروح القدس. ولا بد أن يكون هنا التعليم حقاً ولكن لم نتيقن أن المسيح قصده هنا. والأرجح أن التفسير الأول هو بيان قصد المسيح.
٥٠ «اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلٰكِنْ إِذَا صَارَ ٱلْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً».
متّى ٥: ١٣ ولوقا ١٤: ٣٤، أفسس ٤: ٢٩ وكولوسي ٤: ٦، رومية ١٢: ١٨ و١٤: ١٩ و٢كورنثوس ١٣: ١١ وعبرانيين ١٢: ١٤
اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ انظر الشرح (متّى ٥: ١٣) فإن المسيح شبّه هنالك تلاميذه بالملح لأنهم وسيلة إلى نفع العالم بحفظهم إياه من الفساد لكنه اتخذ الملح هنا إشارة إلى نعمة الروح القدس في قلوب تلاميذه. وهذه النعمة سبب الطهارة الداخلية والأشواق الروحية وإنكار الذات وهي تحفظهم من الفساد وتعدهم لأن يكونوا ملح العالم.
ولعلّ المسيح صرّح في هذه الآية بأن الملح جيد لأنه عبّر به في الآية التي قبلها عن خلاف ما اعتاد أن يعبّر به عنه. فإنه رمز به هنالك إلى بقاء الأشرار في العذاب الأبدي واستعاره هنا لما هو صالح كما هو المعهود من الملح.
بِلاَ مُلُوحَةٍ (انظر الشرح متّى ٥: ١٣). أشار بهذا إلى الذين هم تلاميذه بالاسم لا بالحقيقة إذ ليس لمثل هؤلاء ملوحة أي صلاح أدبي ونعمة روحية وإنكار الذات.
فَبِمَاذَا أي فبأي شيء يعتاض عن تلك الصفات الضرورية وهذا الاستفهام إنكاري معناه أنه من المحال أن يخلص التلاميذ الذين هم بلا نعمة وليسوا منكرين للذات أو أن يفيدوا العالم فلم يبق لهم إلا أن يملحوا بنار النقمة الإلهية المضطرمة بخطاياهم التي هو الوقود الأبدي.
لِيَكُنْ لَكُمْ... مِلْحٌ أي اجتهدوا أن تخلصوا على روح إنكار الذات وإماتة الشهوات الجسدية ومبادئ القداسة ونعمة الروح القدس التي تؤثر فيكم كالملح وتحفظكم من التجارب الخارجية والداخلية التي تغيظ الله وتجلب الشقاء على النفوس وتمنع الإنسان من إفادته غيره. لأن ملح النعمة والقداسة يحفظكم للحياة الأبدية والسعادة الدائمة ويقيكم من أن تُملحوا بالنار الأبدية بمقتضى حكم الديّان العادل.
وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي ليطلب كل منكم النفع للآخر ولا يسأل كل التقدم والرئاسة على غيره كما فعلتم أولاً وحملتموني على الأخذ في هذا الخطاب (ع ٣٣) ولا تحسدوا من يخدمني ويصنع المعجزات باسمي وهو لا يرافقكم (ع ٣٩). فالمحبة والسلام من أثمار الروح (غلاطية ٥: ٢٢ وأفسس ٥: ٩). وتلك الأثمار أدلة على أن المتصفين بها مملحون بالنعمة الإلهية.
الأصحاح العاشر
بداءة خدمة المسيح في بيرية وتعليمه في الطلاق ع ١ إلى ١٢ (سنة ٢٩ ب. م)
١ «وَقَامَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ ٱلْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ، فَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ أَيْضاً، وَكَعَادَتِهِ كَانَ أَيْضاً يُعَلِّمُهُمْ».
متّى ١٩: ١ ويوحنا ١٠: ٤٠ و١١: ٧
وَقَامَ مِنْ هُنَاكَ أي من الجليل ولم يرجع إلى تلك البلاد إلا بعد قيامته.
وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ ٱلْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ ليس في الطريق المستقيمة التي تمرّ في السامرة بل في طريق تدور شرقي الأردن في أرض بيريّة. وشغل في هذا السفر من الجليل إلى أورشليم نحو ستة أشهر. وما جاء في هذا الأصحاح بعض الحوادث التي جرت وهو في بيرية. وذكرها لوقا بالتفصيل من الأصحاح العاشر من إنجيله إلى الأصحاح الثامن عشر.
يُعَلِّمُهُمْ وزاد متّى على ذلك أن المسيح شفاهم (متّى ١٩: ٢) فجمع بين علاجهم الروحي وعلاجهم الجسدي. وذكر لوقا بعض ذلك التعليم ومنه مثل القاضي الظالم ومثل الفريسي والعشار ومثل الابن الضال.
٢ - ١٢ «٢ فَتَقَدَّمَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَسَأَلُوهُ: هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ ٱمْرَأَتَهُ؟ لِيُجَرِّبُوهُ. ٣ فَأَجَابَ: بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟ ٤ فَقَالُوا: مُوسَى أَذِنَ أَنْ يُكْتَبَ كِتَابُ طَلاَقٍ، فَتُطَلَّقُ. ٥ فَأَجَابَ يَسُوعُ: مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ كَتَبَ لَكُمْ هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةَ، ٦ وَلٰكِنْ مِنْ بَدْءِ ٱلْخَلِيقَةِ ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا ٱللّٰهُ. ٧ مِنْ أَجْلِ هٰذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ، ٨ وَيَكُونُ ٱلاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ ٱثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. ٩ فَٱلَّذِي جَمَعَهُ ٱللّٰهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إِنْسَانٌ. ١٠ ثُمَّ فِي ٱلْبَيْتِ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً عَنْ ذٰلِكَ، ١١ فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ وَتَزَّوَجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا. ١٢ وَإِنْ طَلَّقَتِ ٱمْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَّوَجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي».
متّى ٩: ٣، تثنية ٢٤: ١ ومتّى ٥: ٣١ و١٩: ٧، تكوين ١: ٢٧ و٥: ٢، تكوين ٢: ٢٤ و١كورنثوس ٦: ١٦ وأفسس ٥: ٣١، متّى ٥: ٣٢ و١٩: ٩ ولوقا ١٦: ١٨ ورومية ٧: ٣ وكولوسي ٧: ١٠ و١١
مرّ الكلام على سؤال الفريسيين ليسوع في شأن الطلاق وجوابه لهم عليه في الشرح (متّى ١٩: ٣ - ١٢). وضمن متّى في جواب المسيح للفريسيين ما ذكره مرقس في ع ١١ و١٢ من أنه قاله للتلاميذ خاصة.
مِنْ أَجْلِ هٰذَا الخ (ع ٧) جاء هذا القول في سفر التكوين بلسان آدم تكوين ٢: ٢٤. وجاء في بشارة متّى أنه كلام الله (متّى ١٩: ٤) وهو هنا أنه كلام يسوع ولا تناقض لأن آدم تكلم بذلك بإلهام من الله ولأن يسوع هو الله.
وَإِنْ طَلَّقَتِ ٱمْرَأَةٌ زَوْجَهَا (ع ١٢) لم يذكر متّى هذه العبارة وليس في شريعة موسى ما يؤذن في ذلك (تثنية ٢٤: ١ - ٤). وليس هو من الأمور التي اعتادها اليهود سوى أن هيروديا طلقت زوجها فيلبس وتزوجت هيرودس أنتيباس (متّى ١٤: ٤). إنما أذنت في ذلك الشريعة اليونانية والشريعة الرومانية (١كورنثوس ٧: ١٣) وخلاصة تعليم المسيح في ما ذكره متّى ومرقس واحدة وهي:
(١) إن رباط الزيجة لا ينفك إلاَّ لعلة واحدة وهي الزنى.
(٢) إن أذن موسى للإسرائليين في الطلاق لم يكن إلا لقساوة قلوبهم ولاجتناب شرّ أعظم مع أنه لم يكن إلا إلى حين.
تقديم أولاد إلى المسيح ومباركته إياهم ع ١٣ إلى ١٦
١٣ - ١٦ «١٣ وَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَوْلاَداً لِكَيْ يَلْمِسَهُمْ. وَأَمَّا ٱلتَّلاَمِيذُ فَٱنْتَهَرُوا ٱلَّذِينَ قَدَّمُوهُمْ. ١٤ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذٰلِكَ ٱغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ: دَعُوا ٱلأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هٰؤُلاَءِ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. ١٥ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ. ١٦ فَٱحْتَضَنَهُمْ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَبَارَكَهُمْ».
متّى ١٩: ١٣ ولوقا ١٨: ١٥، ١كورنثوس ١٤: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢، متّى ١٨: ٣
استوفى الكلام على ذلك في الشرح (متّى ١٩: ١٣ - ١٥).
لِكَيْ يَلْمِسَهُمْ أي يضع يده عليهم علامة للبركة كما فعل يعقوب عندما بارك ولدي يوسف (تكوين ٤٨: ٤).
ٱغْتَاظَ ربما ظهرت علامة الغيظ على وجهه. ولم يذكر متّى ذلك. وما اغتاظ يسوع من منع الأولاد عنه إلا لشدة رغبته في إتيانهم إليه. فالذين يمنعونهم الآن عن ذلك الإتيان يغيظونه والذين يأتون بهم إليه ينالون رضاه.
مَنْ لاَ يَقْبَلُ الخ لم يذكر متّى هذه العبارة في إنبائه بهذه الحادثة لأنه ذكرها قبل ذلك (متّى ١٨: ٣ و٤) وقد بينا هنالك في أي الصفات ينبغي أن يماثل المسيحيون الأولاد الصغار. ونستفيد من ذلك علاوة على وجوب تقديم الأولاد إلى المسيح أنه يجب على البالغين أن يكونوا كالأولاد لكي يدخلوا ملكوت الله.
فَٱحْتَضَنَهُمْ زاد مرقس هذا على ما قاله متّى. والمسيح أظهر بهذا رقة قلبه ومحبته للأولاد وهو يدل على أن الأولاد كانوا صغاراً أو أطفالاً (لوقا ١٨: ١٥).
الشاب الغني ع ١٧ إلى ٢٢
١٧ - ٢٢ «١٧ وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إِلَى ٱلطَّرِيقِ، رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ: أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟ ١٨ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ. ١٩ أَنْتَ تَعْرِفُ ٱلْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِٱلّزُورِ. لاَ تَسْلِبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ. ٢٠ فَأَجَابَ: يَا مُعَلِّمُ، هٰذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. ٢١ فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ: يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ ٱلْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي حَامِلاً ٱلصَّلِيبَ. ٢٢ فَٱغْتَمَّ عَلَى ٱلْقَوْلِ وَمَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ».
متّى ١٩: ١٦ ولوقا ١٨: ١٨، خروج ٢٠ ورومية ١٣: ٩، متّى ٦: ١٩ و٢٠، ١٩: ٢١ ولوقا ١٢: ٣٣ و١٦: ٩
تكلمنا بالتفصيل على نبإ ذلك الشاب في الشرح (متّى ١٩: ١٦ - ٢٢). وأظهر مرقس ميله إلى تدقيق البيان بأنه وحده ذكر أن ذلك الشاب أتى راكضاً للاهتمام بمقصده ورغبته في إصابته. وأنه جثا ليسوع اعتباراً له. وأنه فعل ذلك في الطريق أمام المجمع فكان ذلك دليلاً على تواضعه. وأن يسوع حين نظر إليه أحبه. وأنه اغتم من جواب المسيح له ومضى حزيناً.
لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً (ع ١٨) أبى يسوع أن يقبل ذلك اللّقب من الشاب بناء على اعتقاد ذلك الشاب أن المسيح ليس سوى إنسان أفضل من سائر الناس بالحكمة والتقى.
لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ هذا كأنه قال إذا كنت صالحاً فأنا الله وإن كنت لست الله فأنا لست بصالح.
نحن نعلم أن يسوع صالح فإذاً هو والآب واحد.
لاَ تَسْلِبْ (١٩) هذا مقتبس من سفر اللاويين (لاويين ١٩: ١٣) وهو مختصر الوصية التاسعة والوصية العاشرة لأن اشتهاء مال الغير يقود طبعاً لبذل الجهد في نواله بواسطة الكذب والغش.
فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ (ع ٢١) ربما ظهرت على وجه يسوع إمارات الشفقة على الشاب والرغبة في تخليصه. ولكن يسوع لم يحبه كمحبته لشعبه الخاص بل كالمحبة المعتادة للمتخلقين بالآداب والتقوى ظاهراً في السيرة وممارسة فروض الدين بدليل أنه لم يحب المسيح كما أحب المال ولم يتبعه.
يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ هذا جواب المسيح للشاب على سؤاله إياه وهو قوله «مَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ» (متّى ١٩: ٢٠) وكان الذي يعوزه ما يدل على أنه يحب الله أكثر من المال وأن طاعته لله ليست خارجية طقسية بل داخلية حقيقية. أما هو فظن أنه مستعد أن يفعل كل ما يقتضيه خلاص نفسه فامتحنه يسوع بأن أمره بتوزيع ماله على الفقراء فظهر له أنه كان معبوده المال لا الله.
ٱتْبَعْنِي حَامِلاً ٱلصَّلِيبَ لم يذكر هذه العبارة في هذا النبإ سوى مرقس وقد مرّ الكلام على معناه في شرح ص ٨: ٣٤.
فَٱغْتَمَّ أظهر ذلك بإمارات وجهه عند سمعه من يسوع جواباً لم يتوقعه ولم يستعد أن يقبله. والذي أباه ذلك الشاب وقتئذ أتاه كثيرون بعد بضعة أشهر «لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُولٍ أَوْ بُيُوتٍ كَانُوا يَبِيعُونَهَا» (أعمال ٤: ٣٤ - ٣٧).
خطاب في الغنى ع ٢٣ إلى ٢٧
٢٣ - ٢٧ «٢٣ فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ! ٢٤ فَتَحَيَّرَ ٱلتَّلاَمِيذُ مِنْ كَلاَمِهِ. فَقَالَ يَسُوعُ أَيْضاً: يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَى ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ! ٢٥ مُرُورُ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ! ٢٦ فَبُهِتُوا إِلَى ٱلْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟ ٢٧ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: عِنْدَ ٱلنَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلٰكِنْ لَيْسَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ».
متّى ١٩: ٢٣ ولوقا ١٨: ٢٤، أيوب ٣١: ٢٤ ومزمور ٥٢: ٧ و٦٢: ١٠ واتيموثاوس ٦: ١٧، إرميا ٣٢: ١٧ ومتّى ١٩: ٢٦ ولوقا ١: ٣٧
سبق شرح هذا الخطاب في تفسير بشارة متّى (متّى ١٩: ٢٣ - ٢٦).
فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ لا ريب في أنه عندما نظر تلك النظرة كانت على وجهه علامات الأسف لذهاب الشاب بلا فائدة.
يَا بَنِيَّ (ع ٢٤) هذا لفظ يشير إلى المودة والإعزاز قاله المسيح دفعاً لحيرة التلاميذ من كلامه وتلطيفاً لما كان من الصرامة في ظاهر معناه. ولعله أراد بذلك شيئاً من التوبيخ لهم على عدم إدراكهم معنى قوله «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذوي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» فأنزلهم بذلك منزلة الأولاد في الفهم.
ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَى ٱلأَمْوَالِ هذا الكلام يدفع كل ريب في معنى قول المسيح في الآية السابقة وفي ما ذكره متّى بقوله ذلك (متّى ١٩: ٢٣ و٢٤). ولنا مما ذُكر أنه ليس الإثم الحصول على المال بل الاتكال عليه. ولكنا كثيراً ما نرى الأمرين مقترنين أي كثرة المال مقترنة بالاتكال عليه.
فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ (ع ٢٧) هذا النظر الثالث المذكور في هذا الخبر. الأول نظر الرضى إلى الشاب. والثاني نظر الحزن إلى ما حوله عند ذهاب ذلك الشاب عنه بلا فائدة. والثالث المذكور هنا. وأتاه يسوع تعزية لتلاميذه وتقوية لآمالهم إذ أبان لهم بالخطاب أنه يمكنهم الانتصار بقدرة الله ونعمته غير المتناهية على كل الموانع من دخول الملكوت السماوي. ونحن كلنا محتاجون إلى تلك النعمة للوقاية من الاتكال على الأمور الدنيوية التي تمنعنا من الدخول إلى ذلك الملكوت.
الثواب على إنكار الذات لأجل المسيح ع ٢٨ إلى ٣١
٢٨ - ٣١ «٢٨ وَٱبْتَدَأَ بُطْرُسُ يَقُولُ لَهُ: هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. ٢٩ فَأَجَابَ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ، ٣٠ إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ ٱلآنَ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ، بُيُوتاً وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَداً وَحُقُولاً، مَعَ ٱضْطِهَادَاتٍ، وَفِي ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ. ٣١ وَلٰكِنْ كَثِيرُونَ أَّوَلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَٱلآخِرُونَ أَّوَلِينَ».
متّى ١٩: ٢٧ ولوقا ١٨: ٢٨، متّى ٢٣: ٩ ورومية ١٦: ١٣، ٢أيام ٢٥: ٩ ومتّى ٦: ٣٣ ولوقا ١٨: ٢٩ و٣٠، متّى ١٩: ٣٠ و٢٠: ١٦
انظر الشرح متّى ١٩: ٢٧ - ٣٠.
وَلأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ (ع ٢٩) هذا زيادة على ما ذكره متّى من قوله «لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً... لأَجْلِي» والاثنان بمعنى واحد. لأن ما يُترك من أجل إنجيل المسيح كالذي يُترك لأجل المسيح لأنه هو غاية الإنجيل كله.
مِئَةَ ضِعْفٍ (ع ٣٠) لا يراد بذلك العوض المثلي حقيقة بل العوض الروحي الذي يزيد على ما بُذل من أجل المسيح مئة ضعف (١كورنثوس ٣: ٢١ - ٢٣). هذا مع أن «ٱلتَّقْوَى نَافِعَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، إِذْ لَهَا مَوْعِدُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْحَاضِرَةِ وَٱلْعَتِيدَةِ» (١تيموثاوس ٤: ٨).
بُيُوتاً وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ الخ هذا التكرار في ذكر العوض لم يأته غير مرقس وذلك بغية التبيين أن لا خسارة لأجل المسيح إلا يقابلها ربح. وترك ذكر الآباء في العوض عما ذكر من المتروك لأن العوض من ذلك الآب السماوي (متّى ٢٣: ٩) وترك ذكر الزوجات كذلك لأن كل أنساب الإنسان في السماء روحية لا جسدية. ولم يعد المسيح بهذه البركات من يتبعه رغبة في الثواب بل الذين يفعلون ذلك لأجله ولأجل إنجيله.
ٱلآنَ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ لم يذكره متّى صريحاً بل ضمناً. والذي لتلاميذ المسيح الآن من الثواب هو مغفرة الخطيئة وراحة الضمير والتعزية في الضيق والاطمئنان في ساعة الموت ولهم أيضاً إخوة مسيحيون وأصدقاء بدلاً من الذين يخسرونهم من أجل المسيح.
مَعَ ٱضْطِهَادَاتٍ لم يخفِ المسيح عن تلاميذه شيئاً من النوازل التي تدركهم وهم يتبعونه فوجب أن يتوقعوا احتقار العالم إياهم والآلام الجسدية منه لأجل ديانتهم ولكنّ تعزيات الله ومواعيده تمكنهم أن يحتملوا بالصبر هذه الاضطهادات وأن يسروا بها أيضاً (متّى ٥: ١٢ وأعمال ٥: ٤١ و١بطرس ٤: ١٢ و١٣). وأوضح متّى ع ٣١ من هذا الأصحاح بمثل الفعلة في الكرم (متّى ٢٠: ١ - ١٦).
إنباء المسيح الثالث بموته وقيامته ع ٣٢ إلى ٣٤
٣٢ - ٣٤ «٣٢ وَكَانُوا فِي ٱلطَّرِيقِ صَاعِدِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَقَدَّمُهُمْ يَسُوعُ، وَكَانُوا يَتَحَيَّرُونَ. وَفِيمَا هُمْ يَتْبَعُونَ كَانُوا يَخَافُونَ. فَأَخَذَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضاً وَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ عَمَّا سَيَحْدُثُ لَهُ: ٣٣ هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ، ٣٤ فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ».
متّى ٢٠: ١٧ ولوقا ١٨: ٣١، ص ٨: ٣١ و٩: ٣١ ولوقا ٩: ٢٢ و١٨: ٣١
فِي ٱلطَّرِيقِ أي الطريق العامة من شرقي الأردن إلى أورشليم. والأرجح أن المسيح رافق الجموع السائرين فيها حينئذ إلى أورشليم ليحضروا العيد بعد أن تقضى عليه نحو خمسة أو ستة أشهر في بيرية وكان وقت موته قد قرب.
صَاعِدِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ أي مسافرين إليها في بيريّة. وما قاله المسيح هنا من جهة آلامه وموته وقيامته مرّ تفسيره في شرح بشارة متّى (متّى ١٠: ١٧ - ١٩).
يَتَقَدَّمُهُمْ يَسُوعُ كرئيس أو قائد جيش يعرّض نفسه إلى الخطر والموت دون تلاميذه. والأرجح أنه كان يظهر شجاعة غير عادية. ورغبة زائدة في مسيره وعزماً شديداً على ملاقاة ما أعد له. ولعلّ علامات ذلك ظهرت على وجهه. وكانوا يتحيرون من رغبته في الإسراع إلى أورشليم لعلمهم بالمخاطر التي تتوقعه هناك (يوحنا ٧: ١ و١٩ و٣٢ و٨: ٥٩ و١٠: ٣١ و٣٩) ولتحققهم زيادة عداوة الفريسيين له بإقامته أليعازر من الموت (يوحنا ١١: ٥٣).
كَانُوا يَخَافُونَ لتوقعهم بلية شديدة من أن الفريسيين ينفذون مقصدهم بقتل المسيح. هذا مع أن مرقس لم يبيّن أسباب ما ذكره من خوفهم وحيرتهم واكتفى بأن يمثل للقراء الأمر الغريب وهو تقدم المسيح بسرعة واجتهاد إلى الموت وتلاميذه يكادون لا يتجاسرون على أن يتبعوه.
ِوَيَتْفُلُونَ عَلَيْه (ع ٣٤) هذا لم يذكره متّى. وقد تمت هذه النبوة عل ما ذكره صاحب هذه البشارة (ص ١٥: ١٩).
فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ قال متّى في هذا النبأ «بعد ثلاثة أيام» ومعنى القولين واحد. واعتاد اليهود استعمال أحدهما في مكان الآخر (قابل ص ٨: ٣١ مع ص ٩: ٣١) وهذا إنباء المسيح الثالث بموته. وأعلنه للاثني عشر على انفراد (متّى ٢٠: ١٨ و١٩). وقال لوقا أنهم «لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذٰلِكَ شَيْئاً، وَكَانَ هٰذَا ٱلأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ» (لوقا ١٨: ٣٤). والأرجح أنهم حسبوا كلام المسيح على ذلك مجازاً. ويؤكد عدم إدراكهم معناه طلب ابني زبدي على أثر ذلك الرتبة السامية في ملكوته الأرض.
طلب ابني زبدي مرتبتي الشرف وتبيين يسوع الشرف الحقيقي ع ٣٥ إلى ٤٥
٣٥ - ٤٠ «٣٥ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ٱبْنَا زَبْدِي قَائِلَيْنِ: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ لَنَا كُلَّ مَا طَلَبْنَا. ٣٦ فَسَأَلَهُمَا: مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ لَكُمَا؟ ٣٧ فَقَالاَ لَهُ: أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَٱلآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ. ٣٨ فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا ٱلْكَأْسَ ٱلَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِٱلصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟ فَقَالاَ لَهُ: نَسْتَطِيعُ. ٣٩ فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: أَمَّا ٱلْكَأْسُ ٱلَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا فَتَشْرَبَانِهَا، وَبَالصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. ٤٠ وَأَمَّا ٱلْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ».
متّى ٢٠: ٢٠ الخ
تقدم الكلام على هذه الطلبة في شرح بشارة متّى (متّى ٢٠: ٢٠ - ٢٣).
وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قال متّى أن أمهما سالومي أتت معهما وطلبت إلى يسوع ما أراداه وهي جاثية أمامه ولا بد من أن أصل الطلب كان منهما لا منها وتكلم مرقس بما وافق الأصل.
عَنْ يَمِينِكَ... عَنْ يَسَارِكَ يمين الملك ويساره محلا الشرف الأسمى ولكن المسيح لم يعد تلاميذه بالشرف الدنيوي كما طلبوا.
٤١ - ٤٥ «٤١ وَلَمَّا سَمِعَ ٱلْعَشَرَةُ ٱبْتَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ أَجْلِ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. ٤٢ فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ ٱلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. ٤٣ فَلاَ يَكُونُ هٰكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيماً يَكُونُ لَكُمْ خَادِماً، ٤٤ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَّوَلاً يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْداً. ٤٥ لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ».
متّى ٢٠: ٢٤، لوقا ٢٢: ٢٥، متّى ٢٠: ٢٦ و٢٨ وص ٩: ٣٥ ولوقا ٩: ٤٨، يوحنا ١٣: ١٤ وفيلبي ٢: ٧، متّى ٢٠: ٢٨ و١تيموثاوس ٢: ٦ وتيطس ٢: ١٤
راجع بشارة متّى (متّى ٢٠: ٢٤ - ٢٨).
إبراء يسوع بارتيماوس من العمى ع ٤٦ إلى ٥٢
٤٦، ٤٧ «٤٦ وَجَاءُوا إِلَى أَرِيحَا. وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحَا مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٍ غَفِيرٍ، كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ ٱلأَعْمَى ٱبْنُ تِيمَاوُسَ جَالِساً عَلَى ٱلطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. ٤٧ فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ، ٱبْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: «يَا يَسُوعُ ٱبْنَ دَاوُدَ، ٱرْحَمْنِي!».
متّى ٢٠: ٢٩ ولوقا ١٨: ٣٥
ذُكر إبراء هذا الأعمى بالتفصيل في شرح إنجيل متّى (متّى ٢٠: ٢٩ - ٣٤).
وَجَاءُوا إِلَى أَرِيحَا الأرجح أن ذلك كان مساء يوم الخميس في السابع من نيسان على الحساب اليهودي.
بَارْتِيمَاوُسُ ومعنى بار في السريانية ابن وكثر استعماله عند اليهود في إعلام الناس كبارتلماوس وباراباس وباريونا وباريشوع وبرنابا.
وذكر متّى في هذه الحادثة أعميين ولم يسم أحداً منهما واقتصر مرقس على ذكر أحدهما. والأرجح أن سبب ذلك أنه أشهر من ذاك إمّا قبل شفائه أو بعده. وذكره الواحد لا ينفي الآخر فلا منافاة بين خبري البشيرين.
وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ اتفق مرقس مع متّى على تعيين وقت هذه المعجزة وهو أنه وقت خروج المسيح وتلاميذه من أريحا والأرجح أن ذلك كان في صباح الجمعة.
يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ ذكر متّى قولهم «يسوع» فقط ولعله خاطبه غير واحد. فقال البعض «يسوع» وقال الآخر «يسوع الناصري» ولربما زاد قوله الناصري للتعيين فكأنه قال نبي الناصرة المعروف. ولربما زاد ذلك للإهانة كأنه قال الذي هو من أصغر قرية في الجليل. والفرق عظيم بين جواب الجموع وصراخ بارتيماوس يا ابن داود.
٤٨، ٤٩ «٤٨ فَٱنْتَهَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَسْكُتَ، فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: يَا ٱبْنَ دَاوُدَ، ٱرْحَمْنِي. ٤٩ فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى. فَنَادَوُا ٱلأَعْمَى قَائِلِينَ لَهُ: ثِقْ. قُمْ. هُوَذَا يُنَادِيكَ».
فَنَادَوُا كان الذين نادوا من الجموع ولعلهم هم الذين انتهروه في أول الأمر لظنهم ان صراخه عائق من خطاب المسيح ولكنهم غيّروا كلامهم عندما رأوا المسيح سأل عنه وأمر بأن ينادى وبذلك انتهر منتهريه.
ثِقْ قُمْ لم يذكر خطاب الذين نادوه سوى مرقس.
٥٠ - ٥٢ «٥٠ فَطَرَحَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ. ٥١ فَسَأَلَهُ يَسُوعُ: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟ فَقَالَ لَهُ ٱلأَعْمَى: يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ. ٥٢ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ. فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي ٱلطَّرِيقِ».
متّى ٩: ٢٢ وص ٥: ٣٤
طَرَحَ رِدَاءَهُ هذا كلام شاهد عين وبعض الأدلة على أن مرقس أخذ بشارته عن بطرس. وفعل بارتيماوس كذلك ابتهاجاً برجائه البرء. فطرح الرداء لئلا يعيقه عن سرعة ذهابه إلى يسوع. وفعلت مثل فعله المرأة السامرية بأن تركت جرتها عند البئر رغبة في أن تخبر أهل مدينتها بأمر يسوع.
يَا سَيِّدِي وفي الأصل «ربوني» كما في يوحنا ٢٠: ١٦ وهو أشرف الألقاب الثلاثة التي هي رب وربي وربوني (متّى ٢٣: ٧).
وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي ٱلطَّرِيقِ والأرجح أنه رافق يسوع والسائرين إلى أورشليم ليحضروا العيد. وكان يسوع ضيف زكّا العشار مدة إقامته في أريحا (لوقا ١٩: ١ - ١٠). وهناك ضرب مثل الأمناء وغايته إزالة أوهام تلاميذه أن ملكوته يظهر حالاً في المجد التام (لوقا ١٩: ١١ - ٢٧). وبعد ذهاب يسوع من أريحا وصل إلى بيت عنيا مساء يوم الجمعة «قَبْلَ ٱلْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ» (يوحنا ١٢: ١).
الأصحاح الحادي عشر
دخول المسيح كملك إلى أورشليم ع ١ إلى ١١
١ - ١١ «١ وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا، عِنْدَ جَبَلِ ٱلّزَيْتُونِ، أَرْسَلَ ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ ٢ وَقَالَ لَهُمَا: ٱذْهَبَا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ وَأَنْتُمَا دَاخِلاَنِ إِلَيْهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ. ٣ وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَفْعَلاَنِ هٰذَا؟ فَقُولاَ: ٱلرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُ إِلَى هُنَا. ٤ فَمَضَيَا وَوَجَدَا ٱلْجَحْشَ مَرْبُوطاً عِنْدَ ٱلْبَابِ خَارِجاً عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَحَلاَّهُ. ٥ فَقَالَ لَهُمَا قَوْمٌ مِنَ ٱلْقِيَامِ هُنَاكَ: مَاذَا تَفْعَلاَنِ، تَحُلاَّنِ ٱلْجَحْشَ؟ ٦ فَقَالاَ لَهُمْ كَمَا أَوْصَى يَسُوعُ. فَتَرَكُوهُمَا. ٧ فَأَتَيَا بِٱلْجَحْشِ إِلَى يَسُوعَ، وَأَلْقَيَا عَلَيْهِ ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِ. ٨ وَكَثِيرُونَ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ، وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَاناً مِنَ ٱلشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي ٱلطَّرِيقِ. ٩ وَٱلَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَٱلَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ! ١٠ مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ ٱلآتِيَةُ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي ٱلأَعَالِي!». ١١ فَدَخَلَ يَسُوعُ أُورُشَلِيمَ وَٱلْهَيْكَلَ، وَلَمَّا نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذْ كَانَ ٱلْوَقْتُ قَدْ أَمْسَى، خَرَجَ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا مَعَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ».
متّى ٢١: ١ ولوقا ٩: ٢٩ ويوحنا ١٢: ١٤، متّى ٢١: ٨، مزمور ١١٨: ٢٦، مزمور ١٤٨: ١، متّى ٢١: ١٢
تقدم الكلام على دخول يسوع بالاحتفال إلى أورشليم في شرح إنجيل متّى (متّى ٢١: ١ - ١٧). والأرجح أنه حدث ذلك يوم الأحد الذي هو اليوم العاشر من نيسان. والمسيح لم يظهر قبل ذاك دعواه أنه ملك ومنع تلاميذه عن التفوه بها ولكنه أذن لهم حينئذ في أن ينادوا جهاراً بأنه ملك لأنه أتت الساعة لإعلان ذلك.
بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا هما قريتان شرقي أوشليم على سفح جبل الزيتون الشرقي والأرجح أن إحداهما قريبة من الأخرى ونستنتج من كلام متّى أن بيت فاجي أقرب إلى أورشليم من بيت عنيا وكانت المسافة بين أورشليم وبيت عنيا خمس عشرة غلوة.
جَحْشاً مَرْبُوطاً (ع ٢) قال متّى أن أم هذا الجحش أتت معه.
لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ جرت العادة كثيراً أنهم يستخدمون من البهائم للأمور الدينية ما لم يسبق له استخدام لغيرها (عدد ١٩: ٢ وتثنية ٢١: ٣ و١صموئيل ٦: ٧).
عِنْدَ ٱلْبَابِ خَارِجاً عَلَى ٱلطَّرِيقِ (ع ٤) هذا زيادة على ما قاله متّى والظاهر أن الجحش كان مربوطاً خارج بيت صاحبه عند الباب تجاه الطريق. ونستدل من هذا التدقيق أن بطرس كان أحد الاثنين اللذين أتيا بالحمار وأنه أخبر مرقس بذلك.
قَوْمٌ مِنَ ٱلْقِيَامِ (ع ٥) هم أصحاب الجحش (لوقا ١٩: ٢٣) وسؤالهم كان لا بد منه طبعاً وهو ما توقعه يسوع. وأجابهما التلميذان بما أمرهما المسيح به.
فَجَلَسَ عَلَيْهِ (ع ٦) ندر ركوب الخيل يومئذ إلا في أيام الحرب. واعتاد الناس على ركوب الحمير في وقت السلم وكان يركبها أحسن الشرفاء. وركوب المسيح على ذلك الجحش كان علامة على أنه أتى باعتبار أنه ملك السلام. وأبان متّى أنه تم بذاك نبوءة زكريا (زكريا ٩: ٩).
مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ أي مملكة المسيح الذي كانوا يتوقعون مجيئه وكان داود أوصل تلك المملكة إلى أعظم مجدها السابق فرجا أن المسيح يردّ إليها ذلك المجد. فبارك المحتفلون الملك والمملكة. وكان داود رمزاً إلى المسيح ومملكته رمزاً إلى ملكوته.
نَظَرَ حَوْلَهُ (ع ١١) لم يذكر شيئاً مما في هذا العدد إلا مرقس وقد علمنا منه أن المسيح لم يعمل شيئاً في يوم الأحد سوى أنه دخل المدينة والهيكل وشاهد كل مدنسات ذلك الموضع المقدس التي طرحها في الغد. وأنه رجع بعدئذ إلى بيت عنيا وبات هناك للأمن ولانتهاز فرص الصلاة وتعليم تلاميذه.
التينة التي لم تثمرّ ع ١٢ إلى ١٤
١٢ - ١٤ «١٢ وَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ، ١٣ فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ، وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئاً. فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئاً إِلاَّ وَرَقاً، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ ٱلتِّينِ. ١٤ فَقَالَ يَسُوعُ لَهَا: لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَراً بَعْدُ إِلَى ٱلأَبَدِ. وَكَانَ تَلاَمِيذُهُ يَسْمَعُونَ».
متّى ٢١: ١٨ الخ
مرّ الكلام على تلك التينة في شرح إنجيل متّى ٢١: ١٨ - ٢٠. وكانت تلك الحادثة صباح الاثنين في ذهابهم إلى أورشليم قبل تطهير الهيكل. وجمع متّى نبأ لعن التينة ونبأ مشاهدتهم إياها يابسة في خبر واحد مع أن لعنها كان يوم الاثنين ومشاهدتها يابسة يوم الثلاثاء. وذكر نبأ الأمرين بعد تطهير الهيكل وهذا ما عهد من عادة متّى فإنه اعتاد أن يجمع أنباء الحوادث المتشابهة أو التي بينها علاقة بقطع النظر عن أوقاتها. وزاد مرقس على ما ذكره متّى أن المسيح نظر شجرة التين من بعيد وهم مقبلون إليها.
واعترض بعضهم في أمر التينة ثلاثة اعتراضات:
- الأول: كيف لم يعلم يسوع قبل وصوله إلى تلك التينة أن ليس عليها من ثمر. والجواب أنه لم يذكر أحد من البشيرين أن يسوع جهل ذلك. لكنه قصد أن يعلم تلاميذه ما يفيدهم بواسطة تلك الشجرة فتصرف كسائر الناس في مثل تلك الحال. وكان فعله هنا كما فعله في عمواس فإنه تظاهر هنالك كأنه منطلق إلى مكان أبعد (لوقا ٢٤: ٢٨).
- الثاني: أنه كيف حق له أن ينتظر الثمر من تلك التينة «إذ لم يكن وقت التين». والجواب أنه لم يكن الوقت الذي يتوقع فيه الثمر على كل تينة كأمر معلوم لكن ذلك الوقت كان مما ينتظر فيه باكورة الثمرّ السابقة كما هو المعهود في التين ولا سيما في تينة أخرجت كل أوراقها لأن العادة أن التينة التي سبق إيراقها يسبق إثمارها.
- الثالث: كيف حسن عند المسيح أن يغضب على تلك الشجرة ويلعنها. والجواب أنه ليس من دليل على أن المسيح غضب عليها. نعم أن الناس يغضبون ويلعنون ولكن المسيح حكم على التينة بالإيباس بلا غضب ولم يأت في ذلك ظلماً لأن الشجرة لا تشعر بالألم ولم تكن لمعيَّن من الناس لأنها كانت مباحة لابناء السبيل ولم يُضرّ أحد من إيباسها لأنها كانت عقيماً ويسوع باعتبار كونه إلهاً له الحق أن يميت ما خلقه من الأحياء. وأتى كل ذلك لتعليم تلاميذه بمثال محسوس ونبؤءة بما يأتي من الأمة اليهودية التي أشبهت شجرة كثيرة الأوراق خالية من الثمرّ ورمز إلى ذلك. وكان مما فعله في تلك التينة تعليم عام للناس أنه من كان بلا ثمر لله فهو قريب من الهلاك.
تطهير الهكيل الثاني ع ١٥ إلى ١٩
١٥ - ١٨ «١٥ وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ ٱلْهَيْكَلَ ٱبْتَدَأَ يُخْرِجُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَقَلَّبَ مَوَائِدَ ٱلصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ ٱلْحَمَامِ. ١٦ وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَجْتَازُ ٱلْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. ١٧ وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ: أَلَيْسَ مَكْتُوباً: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ. ١٨ وَسَمِعَ ٱلْكَتَبَةُ وَرُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ فَطَلَبُوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوهُ، إِذْ بُهِتَ ٱلْجَمْعُ كُلُّهُ مِنْ تَعْلِيمِهِ».
متّى ٢١: ١٢ ولوقا ١٩: ٤٥ ويوحنا ٢: ١٤، إشعياء ٥٦: ٧، إرميا ٧: ١١، متّى ٢١: ٤٥ و٤٦ ولوقا ١٩: ٤٧، متّى ٧: ٢٨ وص ١: ٢٢ ولوقا ٤: ٣٢
شرح هذا في متّى ٢١: ١٢ و١٣. وكان ذلك التطهير يوم الاثنين وهو التطهير الثاني الذي اعتنى به. وأتى التطهير الأول في بداءة خدمته قبل ذاك بثلاث سنين (يوحنا ٢: ١٣ - ١٧).
وكانت غايته من ذلك التطهير إظهار سلطانه باعتبار أنه هو المسيح وأن يوبخ اليهود على تدنيس ذلك المكان المقدس وأن يشير إلى فعله الأعظم وهو تطهير النفوس التي هي هياكل حية.
يَجْتَازُ ٱلْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ لم يذكر هذا إلا مرقس وليس معناه أنه لم يأذن للكهنة أن يحملوا الآنية المقدسة في أدور الهيكل لكنه لم يسمح للناس أن يجعلوا تلك الأدور المقدسة مثل سوق تُحمل فيه الأواني العادية مما يستخدمونها بيوتهم. ولعلهم اتخذوا أدور الهيكل طرقاً مختصرة للمرور من جانب المدينة إلى الآخر.
لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ (ع ١٧) زاد مرقس ذلك لأنه كتب لنفع الأمم. وقول المسيح هنا وفق نبوءة إشعياء (إشعياء ٥٦: ٧) ونبوءة إرميا (إرميا ٧: ١١). وهو يشير إلى عموم الديانة المسيحية. وإتمام ذلك لا يكون مقيداً بهكيل أورشليم بل يكون في كل أرض عليها من يعبد الله بالروح والحق (يوحنا ٤: ٢١).
خَافُوهُ (ع ١٨) كان خوفهم من الناس الذين رافقوه وحسبوه نبياً. ولعله كان ظاهراً على هيئته من الهيبة والوقار ما لم يعهده الناس من غيره. وبكتتهم ضمائرهم على تدنيسهم الهيكل ولذلك خافوا أن يقاوموه علانية مع أنهم قصدوا قتله لئلا تزول بتعليمه سلطتهم على الشعب.
١٩ «وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ خَرَجَ إِلَى خَارِجِ ٱلْمَدِينَةِ».
خَارِجِ ٱلْمَدِينَةِ الأرجح أن المسيح ذهب إلى بيت عنيا إلى بيت لعازر ومريم ومرثا (لوقا ٢١: ٣٧ و٣٨).
إيباس التينة ع ٢٠ إلى ٢٦
٢٠ «وَفِي ٱلصَّبَاحِ إِذْ كَانُوا مُجْتَازِينَ رَأَوُا ٱلتِّينَةَ قَدْ يَبِسَتْ مِنَ ٱلأُصُولِ».
متّى ٢١: ١٩
وَفِي ٱلصَّبَاحِ أي صباح الثلاثاء الثاني عشر من نيسان. وذهب باكراً إلى أروشليم لأنه «كَانَ كُلُّ ٱلشَّعْبِ يُبَكِّرُونَ إِلَيْهِ فِي ٱلْهَيْكَلِ لِيَسْمَعُوهُ» (لوقا ٢١: ٣٨).
مُجْتَازِينَ في سيرهم من بيت عنيا إلى أورشليم.
يَبِسَتْ مِنَ ٱلأُصُولِ لعله يبست الأوراق في يوم الاثنين حين أمر المسيح بإيباسها ولعلّ التلاميذ شاهدوا هذا في وقته (متّى ٢١: ١٩). وفي يوم الثلاثاء ظهر جلياً يبسها من الأوراق إلى العروق.
٢١ «فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي ٱنْظُرْ، اَلتِّينَةُ ٱلَّتِي لَعَنْتَهَا قَدْ يَبِسَتْ!».
تكلم بطرس عن نفسه وعن سائر التلاميذ. والظاهر أن لا أحد من التلاميذ فطن للمعنى الرمزي من تلك الحادثة بل عجب الجميع من سلطان المسيح على حياة الشجرة كأنه أعظم مما توقعوا.
وتعجبهم الذي ذكره متّى (في متّى ٢١: ٢٠) علامة واضحة على عدم إيمانهم بقوة كلمات المسيح ولذلك خاطبهم المسيح في وجوب الإيمان.
٢٢ - ٢٤ «٢٢ فَأَجَابَ يَسُوعُ: لِيَكُنْ لَكُمْ إِيمَانٌ بِٱللّٰهِ. ٢٣ لأَنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ قَالَ لِهٰذَا ٱلْجَبَلِ، ٱنْتَقِلْ وَٱنْطَرِحْ فِي ٱلْبَحْرِ، وَلاَ يَشُكُّ فِي قَلْبِهِ، بَلْ يُؤْمِنُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ يَكُونُ، فَمَهْمَا قَالَ يَكُونُ لَهُ. ٢٤ لِذٰلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ، فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ».
متّى ١٧: ٢٠ و٢١: ٢١ ولوقا ١٧: ٦، متّى ٧: ٧ ولوقا ١١: ٩ ويوحنا ١٤: ١٣ و١٥: ٧ و١٦: ٢٤ ويعقوب ١: ٥ و٦
انظر الشرح متّى ٢١: ٢٢.
لِيَكُنْ لَكُمْ إِيمَانٌ بِٱللّٰهِ أي تصديق بأنه مصدر كل قوة وأنه قادر على فعل ما يظهر للناس أنه خارج عن الطاقة البشرية كإيباس الشجرة بكلمة. وتدلنا القرينة أن الوعد في الآية الرابعة والعشرين ليس لكل المسيحيين في كل حين بل للرسل ليعملوا المعجزات إثباتاً للدين المسيحي.
٢٥، ٢٦ «٢٥ وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ فَٱغْفِرُوا إِنْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ، لِكَيْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ زَلاَّتِكُمْ. ٢٦ وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا أَنْتُمْ لاَ يَغْفِرْ أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ».
متّى ٦: ١٤ وكولوسي ٣: ١٣، متّى ١٨: ٣٥
لم يذكر متّى هاتين الآيتين في خبر التينة. والأرجح أن علة ذلك ذكره معناهما في موضع آخر فانظر شرحهما هناك (متّى ٦: ١٢ و١٥).
وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ كان الوقوف مما اعتاده الناس يومئذ في الصلاة كما هو المعتاد اليوم في الشرق (١صموئيل ١: ٢٦ ولوقا ١٨: ١١ و١٣). والله يعتبر حال القلب أكثر مما يعتبر هيئة الجسد في عبادته ولكن يليق أن تكون تلك الهيئة موافقة لأحوال قلوبنا وأن نظهر الاعتبار اللائق بالله بالعلامات المعتادة. وذلك لنفعنا ولنفع الذين يشاهدون عبادتنا.
وجاء في الكتاب المقدس أن بعضهم صلى راكعاً إظهاراً لزيادة التواضع أمام الله والوقار له (١ملوك ٨: ٥٤ ودانيال ٦: ١٠). وإظهاراً لشدة ضيق النفس (لوقا ٢٢: ٤١). وبعضهم صلى ساقطاً على وجهه (يشوع ٧: ٦ و١ملوك ١٨: ٤٢).
فَٱغْفِرُوا المغفرة شرط إجابة الصلاة مطلقاً سواء كانت طلب إجراء المعجزات أم طلب غيره لأنه من المحال أن يهب الله عمل المعجزات لمن يطلبه للتشفي من الغضب أو للانتقام أو للتعصب الجهلي فمن ضروريات الصلاة الفعالة اقترانها بروح الإيمان والمغفرة. وأقوى الإيمان بلا روح المحبة والمغفرة لا تأثير له. فمن لا يرى إجابة لصلاته فليفحص قلبه لعلّ المانع منه. وقول المسيح هنا دليل على أنه لم ييبس التينة غضباً.
سؤال رؤساء اليهود عن سلطان يسوع ع ٢٧ إلى ٣٣
٢٧ - ٣٣ «٢٧ وَجَاءُوا أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي فِي ٱلْهَيْكَلِ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ وَٱلشُّيُوخُ، ٢٨ وَقَالُوا لَهُ: بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هٰذَا، وَمَنْ أَعْطَاكَ هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟ ٢٩ فَأَجَابَ يَسُوعُ: وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً. أَجِيبُونِي، فَأَقُولَ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هٰذَا: ٣٠ مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنَ ٱلسَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ ٱلنَّاسِ؟ أَجِيبُونِي. ٣١ فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: إِنْ قُلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ ٣٢ وَإِنْ قُلْنَا مِنَ ٱلنَّاسِ. فَخَافُوا ٱلشَّعْبَ. لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ عِنْدَ ٱلْجَمِيعِ أَنَّهُ بِٱلْحَقِيقَةِ نَبِيٌّ. ٣٣ فَأَجَابُوا: لاَ نَعْلَمُ. فَقَالَ يَسُوعُ: وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هٰذَا»
متّى ٢١: ٢٣ ولوقا ٢٠: ١، متّى ٣: ٥ و١٤: ٥ وص ٦: ٢٠
الكلام هنا يفرق قليلاً عما سبق في بشارة متّى (متّى ٢١: ٢٣ - ٢٧) فراجع الشرح.
أَجِيبُونِي (ع ٢٩) لو أجابوا يسوع عن ذلك لوجدوا جواب سؤالهم إياه ضمن جواب سؤاله إياهم. فكأنه قال لهم شهادة يوحنا المعمدان لي هي جواب على سؤالكم. فإن أبيتم أن تقبلوا شهادة ذلك النبي المرسل من الله فأنا آبي أن أجيب بغيرها على سؤالكم. وكان جوابه لهم مثل جواب إبراهيم للغني بقوله «إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ» (لوقا ١٦: ٣١). وكشف المسيح بذلك السؤال رياء الفريسيين في تظاهرهم بأنهم لم يعلموا على أي شيء بنى المسيح دعواه السلطان وأنهم لم يروا ما فعله من المعجزات إثباتاً لصحة دعواه.
الأصحاح الثاني عشر
الكرامون الأردياء ع ١ إلى ١٢
١ - ١٢ «١ وَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ بِأَمْثَالٍ: إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ حَوْضَ مَعْصَرَةٍ، وَبَنَى بُرْجاً، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. ٢ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى ٱلْكَرَّامِينَ فِي ٱلْوَقْتِ عَبْداً لِيَأْخُذَ مِنَ ٱلْكَرَّامِينَ مِنْ ثَمَرِ ٱلْكَرْمِ، ٣ فَأَخَذُوهُ وَجَلَدُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ٤ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضاً عَبْداً آخَرَ، فَرَجَمُوهُ وَشَجُّوهُ وَأَرْسَلُوهُ مُهَاناً. ٥ ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضاً آخَرَ، فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ آخَرِينَ كَثِيرِينَ، فَجَلَدُوا مِنْهُمْ بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً. ٦ فَإِذْ كَانَ لَهُ أَيْضاً ٱبْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ ،أَرْسَلَهُ أَيْضاً إِلَيْهِمْ أَخِيراً، قَائِلاً: إِنَّهُمْ يَهَابُونَ ٱبْنِي. ٧ وَلٰكِنَّ أُولَئِكَ ٱلْكَرَّامِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هٰذَا هُوَ ٱلْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا ٱلْمِيرَاثُ! ٨ فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْكَرْمِ. ٩ فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ؟ يَأْتِي وَيُهْلِكُ ٱلْكَرَّامِينَ، وَيُعْطِي ٱلْكَرْمَ إِلَى آخَرِينَ. ١٠ أَمَا قَرَأْتُمْ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبَ: ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلّزَاوِيَةِ، ١١ مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ كَانَ هٰذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا! ١٢ فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلٰكِنَّهُمْ خَافُوا مِنَ ٱلْجَمْعِ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ ٱلْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا».
متّى ٢١: ٣٣ ولوقا ٢٠: ٩، مزمور ١١٨: ٢٢ و٢٣، متّى ٢١: ٤٥ و٤٦ وص ١١: ١٨ ويوحنا ٧: ٢٥ و٣٠ و٤٤
راجع بشارة متّى ٢١: ٣٣ - ٣٦
أنباء مرقس بهذا يفرق قليلاً عن أنباء متّى به لأن مرقس لم يزد على متّى سوى بعض التفصيل كعادته وذلك كما في ع ٤ و٥. ومما زاده مرقس بيان أن الابن الذي أرسله الكرام أخيراً كان وحيداً له (ع ٦). ومن الفرق بينهما قول متّى أن الفريسيين صرّحوا بالعقاب الذي حق على أولئك الكرامين وقول مرقس أن المسيح صرح بذلك العقاب فيكون كل من الفريقين قد صرح به وأن يسوع كرر ما صرحوا به.
مكر الفريسيين بسؤالهم عن إعطاء الجزية لقيصر وجواب يسوع لهم ع ١٣ إلى ١٧
١٣ - ١٧ «١٣ ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْماً مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. ١٤ فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ ٱلنَّاسِ، بَلْ بِٱلْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ ٱللّٰهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ نُعْطِي أَمْ لاَ نُعْطِي؟ ١٥ فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ. ١٦ فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَنْ هٰذِهِ ٱلصُّورَةُ وَٱلْكِتَابَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ. فَأَجَابَ يَسُوعُ ١٧: أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّٰهِ لِلّٰهِ. فَتَعَجَّبُوا مِنْه».
متّى ٢٢: ١٥ ولوقا ٢٠: ٢٠
(راجع الشرح متّى ٢٢: ١٥ - ٢٢). لا فرق بين قول مرقس وقول متّى في هذا إلا أن مرقس كرر السؤال فقال بعد قوله «أيجوز الخ» «نعطي أم لا نعطي».
سؤال الصدوقيين في القيامة وجواب المسيح لهم ع ١٨ إلى ٢٧
١٨ - ٢٧ «١٨ وَجَاءَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ، ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ، وَسَأَلُوهُ: ١٩ يَا مُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ، وَتَرَكَ ٱمْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاَداً، أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ ٱمْرَأَتَهُ، وَيُقِيمَ نَسْلاً لأَخِيهِ. ٢٠ فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. أَخَذَ ٱلأَوَّلُ ٱمْرَأَةً وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ نَسْلاً. ٢١ فَأَخَذَهَا ٱلثَّانِي وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ هُوَ أَيْضاً نَسْلاً. وَهٰكَذَا ٱلثَّالِثُ. ٢٢ فَأَخَذَهَا ٱلسَّبْعَةُ، وَلَمْ يَتْرُكُوا نَسْلاً. وَآخِرَ ٱلْكُلِّ مَاتَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَيْضاً. ٢٣ فَفِي ٱلْقِيَامَةِ، مَتَى قَامُوا، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ. ٢٤ فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَلَيْسَ لِهٰذَا تَضِلُّونَ، إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱلْكُتُبَ وَلاَ قُّوَةَ ٱللّٰهِ؟ ٢٥ لأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لاَ يُزَّوِجُونَ وَلاَ يُزَّوَجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. ٢٦ وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ ٱلأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ مُوسَى، فِي أَمْرِ ٱلْعُلَّيْقَةِ، كَيْفَ كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ قَائِلاً: أَنَا إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ؟ ٢٧ لَيْسَ هُوَ إِلٰهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلٰهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذاً تَضِلُّونَ كَثِيراً».
متّى ٢٢: ٢٣ ولوقا ٢٠: ٢٧ وأعمال ٢٣: ٨، تثنية ٢٥: ٥، ١كورنثوس ١٥: ٤٢ و٤٤ و٤٩ و٥٢، خروج ٣: ٦
راجع شرح إنجيل متّى ٢٢: ٢٣ - ٣٣.
سؤال الناموسي عن الوصية العظمى ع ٢٨ إلى ٣٤
٢٨ - ٣٤ «٢٨ فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَناً، سَأَلَهُ: أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَّوَلُ ٱلْكُلِّ؟ ٢٩ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنَّ أَّوَلَ كُلِّ ٱلْوَصَايَا هِيَ: ٱسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. ٣٠ وَتُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلأُولَى. ٣١ وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ. ٣٢ فَقَالَ لَهُ ٱلْكَاتِبُ: جَيِّداً يَا مُعَلِّمُ. بِٱلْحَقِّ قُلْتَ، لأَنَّهُ ٱللّٰهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. ٣٣ وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ ٱلْقَلْبِ، وَمِنْ كُلِّ ٱلْفَهْمِ، وَمِنْ كُلِّ ٱلنَّفْسِ، وَمِنْ كُلِّ ٱلْقُدْرَةِ، وَمَحَبَّةُ ٱلْقَرِيبِ كَٱلنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ ٱلْمُحْرَقَاتِ وَٱلذَّبَائِحِ. ٣٤ فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْلٍ قَالَ لَهُ: لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذٰلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ!».
متّى ٢٢: ٣٥ الخ، تثنية ٦: ٤ ولوقا ١٠: ٢٧، لاويين ١٩: ١٨ ومتّى ٢٢: ٣٩ وورمية ١٣: ٩ وغلاطية ٥: ١٤ ويعقوب ٢: ٨ وتثنية ٤: ٣٩ وإشعياء ٤٥: ٦ و١٤ و٤٦: ٩ و١صموئيل ١٥: ٢٢ وهوشع ٦: ٦ وميخا ٦: ٦ و٧ و٨، متّى ٢٢: ٤٦
راجع بشارة متّى ٢٢: ٣٤ - ٤٠.
وَاحِدٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ ذكر متّى في هذا ما لم يذكره مرقس وهو أن الفريسيين أرسلوا ذلك الرجل ليجربه (متّى ٢٢: ٣٥). فيظهر أنه لم يكن سوى آلة لهم وأنه لم يشاركهم في بغضهم ليسوع ولتعاليمه. وإن كان قد شاركهم في أول الأمر فلا ريب في أن أفكاره تغيرت عندما سمع جواب يسوع.
ٱسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ هذا مقتبس من سفر التثنية (تثنية ٦: ٤). لم يقتبس متّى قوله «اسمع يا إسرائيل». وسمى اليهود كل الكلام المقتبس هنا وهو ع ٢٩ و٣٠ بأول كلمة منه وهي «اسمع». وكان على كل يهودي أن يتلوه مرتين في اليوم وسيلة الدخول إلى الفردوس. ولم يذكر متّى جواب الكاتب الذي ذكره مرقس ع ٣٢ ولا مدح المسيح إياه ع ٢٤. ويظهر من ذلك الجواب أن ذلك الكاتب فاق سائر الفريسيين في إدراك معنى الشريعة الروحي وهو أن محبة القلب أفضل من طاعة الناموس الخارجية وأن عبادتنا لله يجب أن تكون خالصة ومفضلة على كل شيء وأن محبتنا للناس جزء من تلك العبادة. وأن المحبة لله وللقريب أسمى من كل ذبائح الشريعة الموسوية. وهذا مناف لتعاليم رؤساء اليهود تمام المنافاة. وإقرار الكاتب به دليل على قوة شجاعته.
لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ ٱللّٰه (ع ٣٤) أي أنت مستعد لقبول الإنجيل بإدراكك حقيقة معنى الناس. ولم يقل المسيح أن ذلك الاستعداد يغني عن ذلك القبول ولم يقل هو ولا مرقس أن ذلك الكاتب آمن وخلص. ولنا من قصته أربع فوائد:
- الأولى: إن الإنسان قد يقترب من ملكوت السماوات ولا يدخله ويكون هو بباب الملكوت عرضة للهلاك كالبعيدين عن ذلك الباب.
- الثانية: إن معرفة الحق واستحسانه يجعلان الإنسان قريباً من الملكوت السماوي وينفعانه إذا اتخذهما وسيلة إلى دخول ذلك الملكوت وإلا فلا.
- الثالثة: إن الفرق بين القريب من ملكوت الله والذي داخله هو أن الثاني تاب وآمن بالمسيح وتبعه والأول سلم بالحق واكتفى بمجرد التسليم.
- الرابعة: إن قرب الإنسان من السماء مع عدم دخوله يزيده إثماً وأسفاً إلى الأبد (عبرانيين ٤: ١).
وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذٰلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ لكي يصطاده بكلمة خوفاً من أن يقع في الفخ الذي أخفاه له لسمو حكمة المسيح في دفع اعتراضات المقاومين (متّى ٢٢: ٤٦).
سؤال يسوع أعداءه عن كون المسيح ابن داود وربه ع ٣٥ إلى ٣٧
٣٥ - ٣٧ «٣٥ ثُمَّ سَأَلَ يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي ٱلْهَيْكَلِ: كَيْفَ يَقُولُ ٱلْكَتَبَةُ إِنَّ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنُ دَاوُدَ؟ ٣٦ لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. ٣٧ فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ٱبْنُهُ؟ وَكَانَ ٱلْجَمْعُ ٱلْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ».
متّى ٢٢: ٤١ الخ ولوقا ٢٠: ٤١، ٢صموئيل ٢٣: ٢، مزمور ١١٠: ١
راجع شرح إنجيل متّى ٢٢: ٤١ - ٤٦.
بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ (ع ٣٦) هذا شهادة من المسيح بأن العهد القديم وحي الله.
وَكَانَ ٱلْجَمْعُ ٱلْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ (ع ٣٧) كان تأثير تعليم المسيح في قلوب عامة الناس خلاف تأثيره في قلوب الفريسيين ولعلّ عامة الشعب سروا بأقوال المسيح لأنها أخجلت الفريسيين المتكبرين وأبكمتهم.
إنذار يسوع الكتبة وتحذير الشعب منهم ع ٣٨ إلى ٤٠
٣٨ - ٤٠ «٣٨ وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: تَحَرَّزُوا مِنَ ٱلْكَتَبَةِ، ٱلَّذِينَ يَرْغَبُونَ ٱلْمَشْيَ بِٱلطَّيَالِسَةِ، وَٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱلأَسْوَاقِ، ٣٩ وَٱلْمَجَالِسَ ٱلأُولَى فِي ٱلْمَجَامِعِ، وَٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى فِي ٱلْوَلاَئِمِ. ٤٠ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ ٱلأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ ٱلصَّلَوَاتِ. هٰؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ».
ص ٤: ٢ وع ٣٥، متّى ٢٣: ١ الخ ولوقا ١١: ٤٣ و٢٠: ٤٦، متّى ٢٣: ١٤
راجع الشرح متّى ٢٣: ٥ و٦ و١٤.
وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ هذا دليل أنّ ما كُتب هنا جزء من خطاب طويل وهذا الواقع لأن بعض ما بقي من ذلك الخطاب شغل كل الأصحاح الثالث والعشرون من بشارة متّى.
بِٱلطَّيَالِسَةِ جمع طيلسان وهو رداء طويل إلى القدمين لبسه الملوك والكهنة والكتبة إشارة إلى رئاستهم وقداستهم وللامتياز على سواهم ولتحصيل الإكرام من الشعب وكان مثل ذلك رداء هارون الكهنوتي (خروج ٢٨: ٢).
وخطايا الكتبة التي حذّر المسيح تلاميذه منها هي:
- اعتبار صورة التقوى ولباسها دون جوهرها وحقيقتها (ع ٣٨).
- طلب الإكرام من الناس مع عدم الالتفات إلى رضى الله (ع ٣٨).
- تكبرهم على غيرهم من الناس (ع ٣٩).
- إخفاء الطمع تحت رداء القداسة (ع ٤٠).
الأرملة والفلسان ع ٤١ إلى ٤٤
٤١ «وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ ٱلْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي ٱلْجَمْعُ نُحَاساً فِي ٱلْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيراً».
متّى ١٠: ٩، ٢ملوك ١٢: ٩ ولوقا ٢١: ١
لم يذكر متّى نبأ هذه المرأة.
ٱلْخِزَانَةِ لم يتحقق ما المراد بالخزانة هنا لأنه يحتمل أن تكون إشارة إلى أحد الصناديق النحاسية الثلاثة عشر التي وُضعت في دار النساء ليوضع فيها قرابين الشعب وكانت تلك الصناديق تسمى بالأبواق لأن أفواهها كانت كهيئات الأبواق. ويحتمل أنها إشارة إلى مخدع مختص بخزن ما يجمع من القرابين مع آنية الهيكل المقدسة بعد الفراغ من استعمالها. والأرجح أن المعنى الأول هو المقصود هنا والمعنى الثاني هو المقصود في يوحنا ٨: ٢٠.
وَنَظَرَ وفي الأصل اليوناني أدام النظر. ولا يزال المسيح الآن ينظر إلى تقدمات شعبه في الكنيسة ليتحقق محبتهم له (رؤيا ١: ١٣). ويظهر مما قيل هنا أن موضع إلقاء التقدمات معلن للكل حتى يعلم المراقبون من يأتي بالتقدمات وقدر كل منها.
ٱلْجَمْعُ أي الأغنياء والفقراء وكانوا يأتون إلى عيد الفصح بالقرابين المفروضة والتقدمات التبرعية. والأرجح أنه لم يأت أخد فارغاً وفق أمر الله (خروج ٢٣: ١٥ و٣٤: ٢٠ وتثنية ١٦: ١٦).
نُحَاساً استعمال هذا المعدن نقوداً سبق استعمال غيره من المعادن فكنى به الناس يومئذ عن كل نوع من النقود بقطع النظر عن المعدن.
أَغْنِيَاءُ... يُلْقُونَ كَثِيراً أي من التقدمات النفيسة. وأتى أولئك الأغنياء من القرب والبعد ليحضروا العيد ويقدموا قرابينهم.
٤٢ «فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ».
متّى ٥: ٢٦
أَرْمَلَةٌ فَقِيرَة أبان البشير سوء حال هذه المرأة بكلمتين «أرملة» و «فقيرة» وهي من اللواتي ذكر المسيح أن الكتبة كانوا يأكلون بيوتهنّ (ع ٤٠).
فَلْسَيْنِ وأصل الفلس في اليوناني لبتا λεπτα وهو أقل النقود اليونانية قيمة. وقيمته بارتان فتكون تقدمة الأرملة أربع بارات.
رُبْعٌ فسر مرقس اللبتوين بكلمة رومانية هي كودرنس quadrans أي ربع وهي ربع الآس as الروماني وهو عشر دينار denar ذُكر في ع ١٥.
٤٣ «فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ ٱلْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ أَلْقَوْا فِي ٱلْخِزَانَةِ».
٢كورنثوس ٨: ١٢
فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ لم يكتف المسيح بنظره فعل الأرملة بل أراد أن يلاحظه تلاميذه ويتعلموا منها والظاهر أنه لم يلتفت أحد غير المسيح إليها.
ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ اصطلح المسيح على هذا الكلام مقدمة على الأمر العجيب المهم.
أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ أَلْقَوْا كانت تقدمة الأرملة أكثر من تقدمات الجميع بنسبة مالها إلى مالهم ولأن محبة قلبها حركتها عليها وجعلتها ذات قيمة. نعم إن قربانها زهيد في عيون الناس لكنه عظيم في عين الله الذي لا ينظر إلى التقدمة وحدها بل إلى إنكار الذات المقترن بها أيضاً «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلنَّشَاطُ مَوْجُوداً فَهُوَ مَقْبُولٌ عَلَى حَسَبِ مَا لِلإِنْسَانِ، لاَ عَلَى حَسَبِ مَا لَيْسَ لَهُ» (٢كورنثوس ٨: ١٢) والمحبة التي جعلت فلسي الأرملة ذات قيمة عظيمة هي التي جعلت في عيني المسيح قيمة عظيمة لقارورة الناردين التي قدمتها له مريم مع أن قيمتها تنيف على ثلاث مئة دينار. فالمحبة جعلت قيمة كل من التقدمتين متساويتين مع أن تقدمة مريم كانت اثني عشر الفاً من مثل تقدمة الأرملة. وعلى ذلك تكون قيمة كأس ماء بارد تُسقى أحد تلاميذ المسيح باسمه تعالى كقيمة الأطياب التي أُنفقت على تحنيط المسيح.
نظر المسيح في الهيكل كثيراً مما ساءه من التدنيس والكبرياء والرياء والعداوة له من الفريسيين ولم يمنعه ذلك عن النظر إلى ما هو صالح في تلك المرأة التي كانت بالنسبة إليهم كحبة واحدة من الحنطة في عصافة البيدر كله.
٤٤ «لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هٰذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا».
تثنية ٢٤: ٦ و١يوحنا ٣: ١٧
ٱلْجَمِيعَ قصد بالجميع الأغنياء الذين ذُكروا في ع ٤١. ولم يذكرهم المسيح قصد لومه إياهم أو استخفافاً بقرابينهم بل أراد أن يقابل أعمالهم بعمل الأرملة إظهاراً لما استحقته من زيادة المدح.
مِنْ فَضْلَتِهِمْ هم أعطوا كثيراً ولكن بقي لهم كثير. وليس في عملهم شيء من إنكار الذات ولهذا كانت قرابينهم أقل قيمة في عيني الله.
فَمِنْ إِعْوَازِهَا وبذلك زادت احتياجاً. إنّ قيمة العطية في عيني الله تُعرف بالنظر إلى ما بقي بعدها لمعطيها وبهذا الباقي يتبيّن ما حمله من الكلفة.
كُلَّ مَعِيشَتِهَا أي كل ما يمكنها أن تنفقه على معاشها لو قصدت إنفاقه على ذلك. وذلك لم يُعرف من مجرد عملها لكن المسيح علمه باعتبار كونه الله وهو بكل شيء عليم (يوحنا ٤: ١٨).
وفي هذه القصة تعزية لكل من لا يستطيع إلا أن يعطي الله قليلاً وفيها عدة فوائد لنا:
- الأولى: أنه يجب على كل منا أن يكرم الله من ماله لأننا لسنا مُلاّكاً بل وكلاء وكل ما لنا لله. وذلك فرض على الأغنياء والفقراء والكبار والصغار.
- الثانية: إن عيني الرب على المسيحيين في وقت تقديمهم عطاياهم كما هما عليهم وقت صلواتهم وتسابيحهم. ويقيس محبتهم إياه بتلك العطايا وينظرهم ليمدح ويجزي المستحقين منهم.
- الثالثة: إن العطايا في العهد الجديد ليست بأقل قيمة منها في العهد القديم.
- الرابعة: إن الله ينظر في كل عطية إلى غاية معطيها. فإن كانت غايته إظهار محبته لله تعالى فتقدمته مقبولة وإلا فلا.
- الخامسة: إن الله يعرف قدرة كل إنسان على العطاء ويقيس محبته أياه بها لا بكثرة العطاء أو قلته.
- السادسة: إن من أنكر ذاته في تقدمته لله هو الذي يرضيه كل الرضى. وعلى ذلك يجب أن ننكر أنفسنا لنستطيع أن نرضي الله بعطايانا.
- السابعة: إن الثقة بعناية الله كالتي ظهرت من الأرملة بتقديمها كل معيشتها هي مما يسر الله أيضاً.
- الثامنة: إن الله لا يحتقر التقدمة مهما كانت زهيدة.
- التاسعة: إنه لا يحق لأحد أن يسمي تقدمته لله «بفلسي الأرملة» ويدعي مثل فضيلتها ويتوقع مثل ثوابها ما لم تكن تقدمته كل معيشته.
الأصحاح الثالث عشر
إنباء يسوع بخراب أورشليم وبمجيئه الثاني وبنهاية العالم ص ١٣
سبق الكلام على نبؤات هذا الأصحاح في شرح بشارة متّى ص ٢٤. وذكر هذا ثلاثة من البشيرين وهم متّى ومرقس ولوقا واستوفى متّى الكلام عليه أكثر من غيره. وتفصيله الآتي حسب ما أنبأ مرقس.
الأحوال حين ذلك الإنباء ع ١ إلى ٤
١ - ٤ «١ وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا مُعَلِّمُ، ٱنْظُرْ مَا هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ وَهٰذِهِ ٱلأَبْنِيَةُ؟ ٢ فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلأَبْنِيَةَ ٱلْعَظِيمَةَ؟ لاَ يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ. ٣ وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ ٱلّزَيْتُونِ، تُجَاهَ ٱلْهَيْكَلِ، سَأَلَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ عَلَى ٱنْفِرَادٍ: ٤ قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هٰذَا، وَمَا هِيَ ٱلْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَتِمُّ جَمِيعُ هٰذَا؟»
متّى ٢٤: ١ ولوقا ٢١: ٥، لوقا ١٩: ٤٤، متّى ٢٤: ٣ ولوقا ٢١: ٧
انظر الشرح متّى ٢٤: ١ - .٣
فِيمَا هُوَ خَارِجٌ هذا خروج المسيح الأخير من الهيكل وذهب بعده شرقاً إلى وادي قدرون وجبل الزيتون.
مِنَ ٱلْهَيْكَلِ يصح أن يسمى هذا الهيكل بالهيكل الثالث. فالأول بناه سليمان في سبع سنين وأكمله في نحو سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد. وكان عجيباً في غناه وجماله ومجده وبقي قائماً أربع مئة سنة ثم هدمه نبوخذنصر ملك بابل سنة ٥٨٦ ق. م. والهيكل الثاني بناه زربابل على أساس الأول بأمر قورش الفارسي نحو سنة ٥٢٠ ق. م. ونهبه أنطيوخوس أبيفانيس سنة ١٧٠ ق. م. ثم نهبه كراسوس القائد الروماني سنة ٥٤ ق. م وأخذ منه ما قيمته ٢٠٠٠٠٠٠ ليرة إنكليزية. وأخذ هيرودس الكبير يصلّح ويوسّع الهيكل الثاني في سنة ١٧ ق. م وأكمل معظمه في ٨ سنين وتمّمه هيرودس أغريباس الثاني سنة ٦٤ للميلاد ولعظمة ذلك التغيير صار يستحق أن يُسمّى بالهيكل الثالث. وهذا هدمه تيطس الروماني سنة ٧٠ ب. م.
وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ نسب مرقس الخطاب إلى واحد من التلاميذ لأنه كان نائباً عن البقية كما يظهر من قول متّى في هذا الشأن.
عَلَى ٱنْفِرَادٍ (ع ٣) أي عن الشعب لا عن التلاميذ. ولم يكن كلامه مقصوراً على الأربعة الذين سألوه بل هو للاثني عشر (متّى ٢٤: ٣).
مَتَى يَكُونُ هٰذَا (ع ٤) يظهر من كلام متّى أن التلاميذ سألوه عن ثلاثة أمور وهي خراب أورشليم وعلامات مجيئه الثاني ونهاية العالم.
التحذير من الخداع بعلامات كاذبة ع ٥ إلى ٨
٥ - ٨ «٥ فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: ٱنْظُرُوا! لاَ يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ. ٦ فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ. وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. ٧ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَبِأَخْبَارِ حُرُوبٍ فَلاَ تَرْتَاعُوا، لأَنَّهَا لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ ٱلْمُنْتَهَى بَعْدُ. ٨ لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ، وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ زَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَٱضْطِرَابَاتٌ. هٰذِهِ مُبْتَدَأُ ٱلأَوْجَاعِ».
إرميا ٢٩: ٨ وأفسس ٥: ٦ و٢تسالونيكي ٢: ٣، متّى ٢٤: ٨
انظر شرح بشارة متّى ٢٤: ٤ - ٨.
يظهر من تحذير المسيح أن تلاميذه توقعوا أن ملكوته يقوم بالقوة والمجد في الحال بدون أن يلم به شيء من الاضطهاد والضمائر التي قضى بها الله عليه. ونصح المسيح تلاميذ بأربعة أمور وهي الحذر والسهر والثبوت والصلاة. وذكر أربعاً من العلامات الكاذبة وهي:
(١) الأنبياء الكذبة و(٢) أخبار حروب
(٣) حدوث الزلازل و(٤) المجاعات
شدائد تلاميذ المسيح ع ٩ إلى ١٣
٩ - ١٣ «٩ فَٱنْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَتُجْلَدُونَ فِي مَجَامِعَ، وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ، مِنْ أَجْلِي، شَهَادَةً لَهُمْ. ١٠ وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِٱلإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ ٱلأُمَمِ. ١١ فَمَتَى سَاقُوكُمْ لِيُسَلِّمُوكُمْ، فَلاَ تَعْتَنُوا مِنْ قَبْلُ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ وَلاَ تَهْتَمُّوا، بَلْ مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ فَبِذٰلِكَ تَكَلَّمُوا، لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ. ١٢ وَسَيُسْلِمُ ٱلأَخُ أَخَاهُ إِلَى ٱلْمَوْتِ، وَٱلأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ ٱلأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ. ١٣ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ».
متّى ١٠: ١٧ و١٨ و٢٤: ٩ ورؤيا ٢: ١٠، متّى ٢٤: ١٤، متّى ١٠: ١٩ ولوقا ١٢: ١١ و٢١: ١٤ وأعمال ٢: ٤ و٤: ٨ و٣١، ميخا ٧: ٦ ومتّى ١٠: ٢١ و٢٤: ١٠ ولوقا ٢١: ١٦، متّى ٢٤: ٩ ولوقا ٢١: ١٧، دانيال ١٢: ١٢ ومتّى ١٠: ٢٢ و٢٤: ١٣ ورؤيا ٢: ١٠
راجع شرح بشارة متّى ٢٤: ٩ - ١٣.
أنبأ المسيح هنا باضطهادات مخصوصة تأتي على المسيحيين قبل خراب أورشليم بعضها من الأعداء الخارجيين وبعضها من أصدقائهم وأقربائهم ولكنه عزاهم بوعده أنه يثبتهم بالخلاص أخيراً على ثبوتهم وصبرهم.
فَٱنْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ ذلك لا لكي يهربوا من الاضطهاد بل ليتوقعوه ويستعدوا له لئلا ينكروا المسيح. ولم يذكر متّى في هذا النبأ ما ذكره مرقس فيه في الآية التاسعة والآية الحادية عشرة لان متّى ذكره قبلاً (متّى ١٠: ١٨).
يُكْرَزَ أَوَّلاً بِٱلإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ ٱلأُمَمِ (ع ١٠) هذه الغاية هي التي أراد المسيح أن يسعى التلاميذ إليها وهي توزيع إنجيله في الأرض وهذا التوزيع شرط لإتيانه ثانية ولنهاية شدائد الكنيسة أي أن المسيح لا يأتي وشدائد كنيسته لا تنتهي إلا بعد انتشار الإنجيل في كل الأرض. وفي كلام المسيح تلميح إلى أن مصائب المسيحيين ذريعة إلى بث بشرى الخلاص لأن دم الشهداء بذار الكنيسة والشهداء أفضل شهود الإنجيل.
نصائح للمسيحيين عند خراب أورشليم ع ١٤ إلى ٢٣
١٤ - ٢٣ «١٤ فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ ٱلْخَرَابِ» ٱلَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ ٱلنَّبِيُّ، قَائِمَةً حَيْثُ لاَ يَنْبَغِي - لِيَفْهَمِ ٱلْقَارِئُ - فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجِبَالِ، ١٥ وَٱلَّذِي عَلَى ٱلسَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ إِلَى ٱلْبَيْتِ وَلاَ يَدْخُلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً، ١٦ وَٱلَّذِي فِي ٱلْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى ٱلْوَرَاءِ لِيَأْخُذَ ثَوْبَهُ. ١٧ وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَٱلْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ. ١٨ وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ. ١٩ لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ٱبْتِدَاءِ ٱلْخَلِيقَةِ ٱلَّتِي خَلَقَهَا ٱللّٰهُ إِلَى ٱلآنَ، وَلَنْ يَكُونَ. ٢٠ وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرِ ٱلرَّبُّ تِلْكَ ٱلأَيَّامَ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلٰكِنْ لأَجْلِ ٱلْمُخْتَارِينَ ٱلَّذِينَ ٱخْتَارَهُمْ قَصَّرَ ٱلأَيَّامَ. ٢١ حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا ٱلْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُوَذَا هُنَاكَ فَلاَ تُصَدِّقُوا. ٢٢ لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، وَيُعْطُونَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، لِكَيْ يُضِلُّوا - لَوْ أَمْكَنَ - ٱلْمُخْتَارِينَ أَيْضاً. ٢٣ فَٱنْظُرُوا أَنْتُمْ. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ».
دانيال ٩: ٢٧ ومتّى ٢٤: ١٥، لوقا ٢١: ٢١، لوقا ٢٩: ٢٣ و٢٣: ٢١، دانيال ٩: ٢٦ و١٢: ١ ويوئيل ٢: ٢ ومتّى ٢٤: ٢١، متّى ٢٤: ٢٣ ولوقا ١٧: ٢٣ و٢١: ٨، ٢بطرس ٣: ١٧
لا فرق بين أنباء مرقس وأنباء متّى في هذا الشأن فراجع شرح إنجيل متّى في ذلك (متّى ٢٤: ١٥ - ٢٥).
إنباء بحوادث قبل مجيء المسيح الثاني وقبل نهاية العالم ع ٢٤ إلى ٣١
٢٤ - ٣١ «٢٤ وَأَمَّا فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ بَعْدَ ذٰلِكَ ٱلضِّيقِ، فَٱلشَّمْسُ تُظْلِمُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، ٢٥ وَنُجُومُ ٱلسَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ، وَٱلْقُّوَاتُ ٱلَّتِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. ٢٦ وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُّوَةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ، ٢٧ فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاءِ. ٢٨ فَمِنْ شَجَرَةِ ٱلتِّينِ تَعَلَّمُوا ٱلْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقاً، تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلصَّيْفَ قَرِيبٌ. ٢٩ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى رَأَيْتُمْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَٱعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى ٱلأَبْوَابِ. ٣٠ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هٰذَا كُلُّهُ. ٣١ اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ، وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ».
دانيال ٧: ١٠ و١٢: ١ وصفنيا ١: ١٥ ومتّى ٢٤: ٢٩ الخ ولوقا ٢١: ٢٥، دانيال ٧: ١٣ و١٤ ومتّى ١٦: ٢٧ و٢٤: ٣٠ وص ١٤: ٦٢ وأعمال ١: ١١ و١تسالونيكي ٤: ١٦ و٢تسالونيكي ١: ٧ و١٠ ورؤيا ١: ٧، متّى ٢٤: ٣٢ ولوقا ٢١: ٢٩ الخ، إشعياء ٤٠: ٨
فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ هذه الأيام ليست محصورة بما قبل خراب أورشليم بل تشتمل على كل الزمان الذي قبل مجيء المسيح الثاني.
لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ قال يسوع أن النبؤة أي في نحو أربعين سنة وذلك يكون رمزاً إلى نجازها الأكمل والأعظم بعد زمان طويل بل لم يُعين.
كتم الله وقت مجيء المسيح الثاني ع ٣٢ و٣٣
٣٢، ٣٣ «٣٢ وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ ٱلْمَلاَئِكَةُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَلاَ ٱلابْنُ، إِلاَّ ٱلآبُ. ٣٣ اُنْظُرُوا! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ ٱلْوَقْتُ».
متّى ٢٤: ٤٢ و٢٥: ١٣ ولوقا ١٢: ٤٠ و٢١: ٣٤ ورومية ١٣: ١١ و١تسالونيكي ٥: ٦
ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ أي يوم المجيء الثاني ونهاية العالم وهو اليوم المذكور في ع ٢٤ - ٢٧.
وَلاَ ٱلْمَلاَئِكَةُ فالذي لم يعلنه الله لملائكته لا حق للتلاميذ أن يتوقعوا معرفته.
وَلاَ ٱلابْنُ لم يذكر هذه العبارة سوى مرقس وفيها سرّ عظيم هو حقيقة التجسد الإلهي. فمن يسلمون بحقيقة اتحاد طبيعة المسيح البشرية بطبيعته الإلهية لا يرون فيها ما يعثرهم. فهو كقول لوقا «إن المسيح كان ينمو بالحكمة والقامة» (لوقا ٢: ٥٢). وانه كان «يتعجب» (متّى ٨: ١٠). وأنه بكى وجاع ونام «وتعلم الطاعة» (عبرانيين ٥: ٨). وتجرّب (متّى ٤: ١ - ١١). فتلك كغيرها مما ذكرنا تبرهن أن للمسيح طبيعتين أي أنه إنسان تام كما أنه إله تام وهو تارة يتكلم باعتبار كونه إنساناً كما تكلم عند موت لعازر بقوله «أين وضعتموه» (يوحنا ١١: ٣٤). وطوراً باعتبار كونه الله كما تكلم عند إقامة لعازر بقوله «هلم خارجاً» (يوحنا ١١: ٤٣). فإذاً قوله «ولا الابن» كان باعتبار كونه إنساناً.
اُنْظُرُوا كرّر المسيح هذا الأمر في هذا الأصحاح أربع مرات وهذا التكرير دليل على هول التجارب التي يعرّض التلاميذ لها وشدة الخطر عليهم منها.
اِسْهَرُوا وَصَلُّوا (انظر شرح متّى ٢٤: ٤٢).
لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ جهل التلاميذ وقت مجيء المسيح ثانية لم يسوّغ لهم إهمال الاستعداد له بل يجب أن يحملهم على زيادة الانتباه والتوقع. لأن ما جهل وقت حدوثه يمكن أن يحدث في أي وقت كان. ويحتمل أن يكون ذلك المجيء في أي يوم كان وفي أي ساعة كانت. ومهما كان من الريب في زمن مجيئه فلا ريب البتة في المجيء عينه. فيجب أن نكون «مُنْتَظِرِينَ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (تيطس ٢: ١٣). وعلى ذلك يجب علينا أن لا نقول مضى زمن مجيئه ولا أن نتوقعه في المستقبل البعيد ولا أن نعين سنة ذلك المجيء بل ينبغي أن ننتظره بالإيمان كل حين.
مَثل المسافر ع ٣٤ إلى ٣٧
٣٤ - ٣٧ «٣٤ كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ تَرَكَ بَيْتَهُ، وَأَعْطَى عَبِيدَهُ ٱلسُّلْطَانَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَأَوْصَى ٱلْبَّوَابَ أَنْ يَسْهَرَ. ٣٥ اِسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ ٱلْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ ٱللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ ٱلدِّيكِ، أَمْ صَبَاحاً. ٣٦ لِئَلاَّ يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَاماً! ٣٧ وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: ٱسْهَرُوا».
متّى ٢٤: ٤٥ و٢٥: ١٤، متّى ٢٤: ٤٢ و٤٤
انظر تفسير بشارة متّى ٢٤: ٣٧ - ٤٢.
ذكر متّى علاوة على ما قال مرقس هنا تنبيه التلاميذ على أن مجيء المسيح يكون بغتة كما كان الطوفان في أيام نوح. ومثل مجيء السارق ليلاً وتحريضهم على الاستعداد. وعلى ذلك ذكر مثل العذارى ومثل الوزنات وتكلم على حوادث يوم الدين. وإثابة الذين على يمين الديّان وعقاب الذين على يساره.
كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ هذا إشارة إلى حال الكنيسة من وقت صعود المسيح إلى وقت مجيئه الثاني لأن ربها غير ظاهر لعينيها فكأنه مسافر عنها.
بَيْتَهُ المراد به هنا الكنيسة.
وَأَعْطَى عَبِيدَهُ ٱلسُّلْطَانَ أي وهب لرسله السلطة الكافية لإنشاء كنيسته على الأرض. ثم لخدم الكنيسة الذين بعدهم أن يجروا أمور تلك الكنيسة وفق ما تركه فيها من أوامره. وذلك السلطان ليس سلطاناً مطلقاً لأن المسيح لم يقم له من ينوب عنه على الأرض لكنه هو يسوس الكنيسة ويرشد معلميها ومدبريها بكلامه وبروحه.
لِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ يظهر من ذلك أن لا أحد في كنيسة المسيح معفىً من الخدمة سواء كان ذا سلطان أو كان تحت سلطان كبيراً كان أو صغيراً غنياً أو فقيراً. وعليه أن لا يترك العمل إلا إلى أن يأتي السيّد (لوقا ١٩: ١٣). والعمل المكلف به هو أن يمجد الله ويضيء كنور في العالم. ويكون كالملح فيه. وأن يأتي بأثمار كثيرة. وأن يكون شاهداً أميناً للمسيح قولاً وفعلاً. وأنه بعد أن يكمل عمله على الأرض يخدم الله في هيكله السماوي نهاراً وليلاً (رؤيا ٧: ١٥).
وَأَوْصَى ٱلْبَّوَابَ أمر المسافر بواب بيته بالسهر دون غيره من الخدم لأن وظيفته الخاصة أن يترقب من يأتي إلى البيت فيكون منها أن يترقب قدوم سيده. وهذا التمييز بين الخدم كما هو في المثل ضروري في البيت الحقيقي لأن الذين يعملون داخل البيت لا يمكنهم أن يراقبوا ما يكون خارج البيت. وأما خدم البيت المجازي الذي هو كنيسة المسيح فوظيفتهم العملان أي السهر والخدمة. والسهر لا يمنعهم عن الخدمة والخدمة لا يمنعهم عن انتظار المسيح والسهر لقدومه.
أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ ٱللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ ٱلدِّيكِ، أَمْ صَبَاحاً هذا وفق تقسيم الرومانيين لليل فإنهم كانوا يقسمونه إلى أربعة هُزُع كل هزيع ثلاث ساعات. أما المساء فهو من المغرب إلى نهاية الساعة الثالثة منه. وأما نصف الليل فهو نهاية الهزيع الثاني. وأما صياح الديك فهو ثلاث ساعات بعد نصف الليل. وأما الصباح فمن نهاية صياح الديك إلى الصباح. وهذا من مصطلحات العامة. وأما في مصطلح العكسر فيعبر عن تلك الأقسام بالهزيع الأول والهزيع الثاني الخ. وخاطب المسيح في هذه الآية تلاميذه كأنهم حقيقة خدَم بيته الذين قد وكّل إليهم ماله. وإنما آثر المسيح أن يأمرهم بالسهر دون غيره من الفضائل والأعمال لأن السهر يقتضي انتباه كل قوى الجسد وقوى العقل فمن سهر لا يغفل عن سائر واجباته.
وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ هذا نص صريح على أن كلام المسيح غير مقصور على التلاميذ بل هو لكل مسيحي في كل زمان ومكان إلى أن يأتي.
ٱسْهَرُوا يتبيّن من هذا ان المسيح يأمر كل المسيحيين بأن يكونوا كالبوابين وكالخدم للعمل وأوصاهم بالسهر لئلا يحملهم جهلهم وقت مجيء المسيح على النوم فيأتي ويجدهم نياماً.
ويتضمن النوم المقصود هنا إهمال الواجبات ونسيان الأوامرّ وتكذيب وعده بالمجيء ثانية وإهانة ذلك السيد. وذلك النوم هو نتيجة التسليم لأهواء الجسد وتأثير هذا الدنيا دون تأثير العالم الآتي.
وخلاصة هذا المثل (١) أنه على كل مسيحي أن يتوقع مجيء المسيح ثانية للدينونة وهذا التوقع نتيجة الإيمان بأنه حيٌ وأنه صادق بما وعد.
(٢) أن يكون مجتهداً في إتمام عمل ما وُكل إليه في غياب المسيح. ويُثبت ذلك ما قيل في مثل الخادم الأمين والخادم غير الأمين (متّى ٢٤: ٤٥ - ٥١). ومثل العشر العذارى ومثل الوزنات والإنباء بأحوال يوم الدين (متّى ص ٥). ولنا من ذلك أن المسيح يخاطبنا دائماً ويقول:
- «ٱسْهَرُوا» لأن الرب يأتي في ساعة لا تعلمونها.
- «ٱسْهَرُوا» لأنه يراقبكم ليرى أنيام أنتم أم ساهرون.
- «ٱسْهَرُوا» لئلا تدخلوا في تجربة لأن أعداءكم كثيرة وساهرة وعليكم أخطار من داخل ومن خارج.
- «ٱسْهَرُوا» لأنه عليكم مسؤولية ذات شأن في كنيسة الله وهي وقاية رعيته من الذئاب الخاطفة (أعمال ٢٠: ٢٩).
- «ٱسْهَرُوا» لأنه بعد قليل من السهر يكون لكم راحة وأمن وثواب.
- «ٱسْهَرُوا» لأنه عُيّن يوم لحساب كل مسيحي على قدر سهره وهو على الأرض.
ولأن حلول الأجل أو مجيء ساعة موتنا مجهول عندنا كما نجهل يوم مجيء الرب فيجب أن نستعد للموت كما يلزم أن ننتبه لذلك المجيء.
الأصحاح الرابع عشر
اجتماع مجلس اليهود الكبير ع ١ و٢
١، ٢ «١ وَكَانَ ٱلْفِصْحُ وَأَيَّامُ ٱلْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ، ٢ وَلٰكِنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ فِي ٱلْعِيدِ، لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي ٱلشَّعْبِ».
متّى ٢٦: ٢ الخ ولوقا ٢٢: ١ الخ ويوحنا ١١: ٥٥ و١٣: ١
انظر شرح إنجيل متّى ٢٦: ١ - ٥.
الأرجح أن ذلك الاجتماع كان مساء الثلاثاء أي في أول يوم الأربعاء وذلك موافق لقول متّى «بعد يومين يكون الفصح». وقصدوا حيئنذ أن لا يمسكوا المسيح إلا بعد العيد خيفة من السجن إذا مسكوه فيه. ولكن خيانة يهوذا ثنتهم عن ذلك العزم إلى مسكه في العيد.
الوليمة في بيت عنيا ودهن يسوع بالطيب ع ٣ إلى ٩
٣ - ٩ «٣ وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ ٱلأَبْرَصِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، جَاءَتِ ٱمْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ ٱلثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ ٱلْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. ٤ وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا: لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ ٱلطِّيبِ هٰذَا؟ ٥ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هٰذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ. وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. ٦ أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: ٱتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً. ٧ لأَنَّ ٱلْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْراً. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. ٨ عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. ٩ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهٰذَا ٱلإِنْجِيلِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هٰذِهِ، تَذْكَاراً لَهَا».
متّى ٢٦: ٦ ولوقا ٧: ٣٧ ويوحنا ١٢: ١ و٣، متّى ١٨: ٢٨، تثنية ١٥: ١١
راجع تفسير إنجيل متّى ٢٦: ٦ - ١٣.
مرقس كمتّى في أنه لم يذكر وقت العشاء فاقتصر على أن ذلك حدث «فيما هو في بيت عنيا». ولكن يوحنا صرّح أنه كان ذلك قبل الفصح بستة أيام أي ليلة الأحد بعد نهاية السبت (يوحنا ١٢: ٢). والذي حمل متّى ومرقس على ذكر ذلك العشاء بين حوادث مساء الثلاثاء أي ليلة الأربعاء تعلقه بخيانة يهوذا لأن بعض حوادث تلك الليلة كان من العلل التي جعلت يهوذا يسلمه. وقول متّى «أنه بعد يومين يكون الفصح» متعلق باجتماع المجلس والاستعداد للفصح.
فِي بَيْتِ سِمْعَانَ ٱلأَبْرَصِ لم تُعلم نسبة سمعان إلى لعازر ولم يتبيّن هل كان حياً أو ميتاً وبقي البيت منسوباً إليه. وعلى فرض أنه كان يومئذٍ حياً وحاضراً لزم بالضرورة أن المسيح أبرأه من برصه لأن السلماء لا يخالطون البرص.
وَهُوَ مُتَّكِئٌ قال يوحنا أن «كَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ ٱلْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ» (يوحنا ١٢: ٢).
ٱمْرَأَةٌ قال يوحنا أن تلك المرأة «مريم» أي أخت مرثا ولعازر وهي ليست المرأة المجهولة التي دهنت يسوع في كفرناحوم في بيت سمعان الفريسي كما ذكر لوقا (لوقا ٧: ٣٦ - ٥٠).
نَارِدِينٍ هذا زيادة على ما قاله متّى لأنه اقتصر على ذكر أنه «طيب». وزاد مرقس أيضاً أن مريم كسرت القارورة أي ختمها أو عنقها.
عَلَى رَأْسِهِ قال يوحنا أنها دهنت «قدميه» ولنا من قول الاثنين أنها دهنت الرأس والقدمين.
وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ... فَقَالُوا الذين سماهم مرقس قوماً دعاهم متّى تلاميذه. ونسب يوحنا الغيظ والقول إلى يهوذا الاسخريوطي. ونستنتج من ذلك أن كلا من البشيرين كتب مستقلاً عن غيره وأن الذي ابتدأ بالتذمرّ وإظهار الغيظ هو يهوذا المذكور وأن الباقين وافقوه على ذلك فكراً وقولاً. ويحقق اشتراك الكل في ذلك قول مرقس «كانوا يؤنبونها» وقول يسوع «اتركوها» (ع ٥ و٦).
ثَلاَثِمِئَةِ (ع ٥) هي بين تسع ليرات وعشر ليرات انكليزية وكان ذلك يعدل أجرة أيام عمل الفاعل في السنة.
يُؤَنِّبُونَهَا أي يلومونها وهذا زيادة على ما قاله متّى ولا ريب في أن مريم انزعجت من ذلك.
عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا (ع ٨) أي أنها عملت ما استطاعت لتظهر إكرامها للمسيح وشكرها له على إقامته أخيها من الموت.
دَهَنَتْ... لِلتَّكْفِينِ أي أتت ذلك قصداً لتيقنها أنه يموت أو أتت ذلك لقصد آخر والمسيح قبله كأنها قصدته. والقول الأخير هو الأرجح. ولنا من ذلك أن نتيجة عملها كانت أعظم مما ظنت.
خيانة يهوذا الاسخريوطي ع ١٠ و١١
١٠، ١١ «١٠ ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَاحِداً مِنَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ. ١١وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا، وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ».
متّى ٢٦: ١٤ ولوقا ٢٢: ٣ و٤
انظر الشرح متّى ٢٦: ١٤ - ١٦.
نفهم مما قيل هنا وما قيل في إنجيل متّى وفي بشارة لوقا ٢٢: ٣ وإنجيل يوحنا ١٢: ١٠ أن التوبيخ الذي وبخ المسيح يهوذا الاسخريوطي به كان من الأمور التي حملت يهوذا المذكور على أن يذهب حينئذ إلى رؤساء الكهنة للمؤامرة في تسليم يسوع ووعده إياهم بأنه ينتهز أول فرصة لتسليمه إليهم.
فَرِحُوا لأنهم رأوا أنهم توصلوا بذلك إلى قتل المسيح بلا خوف من هيجان الشعب. ولا دليل على أن ضمائرهم كانت تبكتهم على اتخاذ مثل تلك الوسيلة. ولم يتوقفوا عن استخدام الخيانة والشكاية الكاذبة واستئجار شهود زور وسفك الدم البريء لشفاء غيظهم وبغضهم.
ولم يذكر مرقس قدر ما وعد الرؤساء الاسخريوطي به. ولكن متّى عيّنه بأنه كان ثلاثين من الفضة أي نحو ثلاث ليرات إنكليزية.
الاستعداد للفصح ع ١٢ إلى ١٦
١٢ - ١٦ «١٢ وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَّوَلِ مِنَ ٱلْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ ٱلْفِصْحَ، قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ ٱلْفِصْحَ؟ ١٣ فَأَرْسَلَ ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: ٱذْهَبَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ، فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ. ١٤ وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ ٱلْبَيْتِ: إِنَّ ٱلْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ ٱلْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ ٱلْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ ١٥ فَهُوَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً. هُنَاكَ أَعِدَّا لَنَا. ١٦ فَخَرَجَ تِلْمِيذَاهُ وَأَتَيَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ، وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. فَأَعَدَّا ٱلْفِصْحَ».
متّى ٢٦: ١٧ ولوقا ٢٢: ٧
انظر شرح بشارة متّى ٢٦: ١٧ - ١٩.
تقضّى على يسوع وتلاميذه في بيت عنيا يوم الأربعاء كله وبعض يوم الخميس فبيان مرقس هنا أوضح من بيان متّى.
قال متّى أن المسيح أرسل التلاميذ ليعدوا الفصح ولم يعيّن العدد ولا الأسماء. وقال مرقس أنه أرسل اثنين منهم. وقال لوقا أنه أرسل بطرس ويوحنا (لوقا ٢٢: ٧).
وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَوَّلِ مِنَ ٱلْفَطِيرِ أي يوم الخميس وحُسب من أيام الفطير لأنه كان استعداداً له لأنهم نزعوا فيه كل خمير من البيوت. وكان استعداداً للفصح لأنهم ذبحوا فيه خروف الفصح. ولكن عيد الفصح الحقيقي ابتدأ عند مغرب ذلك النهار.
إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ اقتصر متّى على ذكر قول المسيح «اذهبوا إلى فلان» وذكر مرقس العلامة التي أبانها يسوع لمعرفته وهي أن يلاقيهما إنسان (الأرجح أنه خادم صاحب البيت) حامل جرة ماء. وأمرهما أن يتبعاه إلى حيث يدخل وهناك يجدان صاحب البيت فيبلغانه الرسالة.
وأظهر المسيح علمه الإلهي من إنبائه بالحوادث قبل وقوعها كما فعل في أمر الجحش في بيت فاجي (ص ١١: ١ - ٦). وكذا صموئيل بإلهام الله أخبر شاول بكل ما يحدث له في الطريق بعد ذهابه عنه إلى بيته (١صموئيل ١٠: ٢ - ٧).
عِلِّيَّةً كانت العادة في أورشليم أن يعدوا مثل تلك العلية للذين يأتون من الخارج بغية حفظ العيد هناك وكانوا يؤجرونها غالباً.
مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً أي معد فيها كل مقتضيات الفصح سوى ما يُؤكل ويُشرب فيه وذلك من نحو موائد وأسرّة وآنية للطعام ومغسل ومناشف (متّى ٢٣: ٦).
وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا (ع ١٦) لا ريب في أن مشاهدتهما ما أنبأهما المسيح به قوّت إيمانهما به.
فَأَعَدَّا ٱلْفِصْحَ أي اشتريا الخروف وتوصلا إلى أن ذبحه الكهنة في الهيكل وطُبخ في البيت وابتاعا الأعشاب المرة وما يؤكل معها والخمرّ وخبز الفطير.
أكل الفصح والإنباء بالتسليم ورسم العشاء الرباني ع ١٧ إلى ٢٦
١٧ - ٢٦ «١٧ وَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ جَاءَ مَعَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ. ١٨ وَفِيمَا هُمْ مُتَّكِئُونَ يَأْكُلُونَ، قَالَ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي! ١٩ فَٱبْتَدَأُوا يَحْزَنُونَ، وَيَقُولُونَ لَهُ وَاحِداً فَوَاحِداً: هَلْ أَنَا؟ وَآخَرُ: هَلْ أَنَا؟ ٢٠ فَأَجَابَ: هُوَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي ٱلصَّحْفَةِ. ٢١ إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!. ٢٢ وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: خُذُوا كُلُوا، هٰذَا هُوَ جَسَدِي. ٢٣ ثُمَّ أَخَذَ ٱلْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ، فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. ٢٤ وَقَالَ لَهُمْ: هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ، ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ. ٢٥ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ إِلَى ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. ثُمَّ سَبَّحُوا ٢٦ وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ ٱلّزَيْتُونِ».
متّى ٢٦: ٢٠ الخ، مزمور ٤١: ٩ ويوحنا ١٣: ١٨، متّى ٢٦: ٢٤ ولوقا ٢٢: ٢٢، متّى ٢٦: ٢٦ ولوقا ٢٢: ١٩ و١كورنثوس ١١: ٢٣، متّى ٢٦: ٣٠
راجع الشرح متّى ٢٦: ٢٠ - ٣٠.
زاد لوقا على ما قيل هنا أنه حدثت مشاجرة بين الرسل عندما اتكأوا (لوقا ٢٢: ٢٤). وذكر متّى أن غسل أرجل الرسل (يوحنا ١٣: ١ - ٢٠). وذكر متّى أن يسوع قال «إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي». وزاد مرقس على ذلك قوله «اَلآكِلُ مَعِي» (ع ١٨). وهذا زاد خيانة الاسخريوطي فظاعة لأن الأكل مع الآخر علامة الصداقة والأمانة. وكان في ذلك إتمام نبوءة (مزمور ٤١: ٩ ويوحنا ١٣: ١٨).
فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ (ع ٢٣) لا ينتج من ذلك بالضرورة أن يهوذا كان حاضراً معهم وشرب بل أن الذين كانوا حاضرين شربوا كلهم.
إنباء بإنكار بطرس ع ٢٧ إلى ٣١
٢٧ - ٣١ «٢٧ وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ ٱلْخِرَافُ. ٢٨ وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. ٢٩ فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَإِنْ شَكَّ ٱلْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ! ٣٠ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ، إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ٣١ فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ: وَلَوِ ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ. وَهٰكَذَا قَالَ أَيْضاً ٱلْجَمِيعُ».
متّى ٢٦: ٣١، زكريا ١٣: ٧ ص ١٦: ٧، متّى ٢٦: ٣٣ و٣٤ ولوقا ٢٢: ٣٣ و٣٤ ويوحنا ١٣: ٣٧ و٣٨
راجع تفسير متّى ٢٦: ٣١ - ٣٥.
هذا تحذير ثان لبطرس من أن ينكر المسيح وحذّره المسيح وهم ذاهبون إلى جثسيماني. وسبق المسيح إلى مثل ذلك قبل أكل الفصح (لوقا ٢٢: ٣١ و٣٢ ويوحنا ١٢: ٣٦ - ٣٨).
اكتئاب المسيح في جثسيماني ع ٣٢ إلى ٤٢
٣٢ - ٤٢ «٣٢ وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ ٱسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٱجْلِسُوا هٰهُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ. ٣٣ ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَٱبْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. ٣٤ فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى ٱلْمَوْتِ! اُمْكُثُوا هُنَا وَٱسْهَرُوا. ٣٥ ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ ٱلسَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. ٣٦ وَقَالَ: يَا أَبَا ٱلآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ. وَلٰكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ. ٣٧ ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَاماً، فَقَالَ لِبُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ، أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ ٣٨ اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا ٱلرُّوحُ فَنَشِيطٌ، وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَضَعِيفٌ. ٣٩ وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى قَائِلاً ذٰلِكَ ٱلْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. ٤٠ ثُمَّ رَجَعَ وَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً، فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. ٤١ ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُمْ: نَامُوا ٱلآنَ وَٱسْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ ٱلسَّاعَةُ! هُوَذَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلْخُطَاةِ. ٤٢ قُومُوا لِنَذْهَبَ. هُوَذَا ٱلَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ ٱقْتَرَبَ».
متّى ٢٦: ٣٦ ولوقا ٢٢: ٣٩ ويوحنا ١٨: ١، يوحنا ١٢: ٢٧، رومية ٨: ١٥ وغلاطية ٤: ٦، عبرانيين ٥: ٧، يوحنا ٥: ٣٠ و٦: ٣٨ وورمية ١٥: ٣، رومية ٧: ٢٣ وغلاطية ٥: ١٧، يوحنا ١٣: ١، متّى ٢٦: ٤٦ ويوحنا ١٨: ١ و٢
انظر شرح بشارة متّى، (متّى ٢٦: ٣٦ - ٤٦).
الفرق بين أنباء متّى وأنباء مرقس بهذه الحادثة أن متّى قال أن المسيح ابتدأ يحزن ويكتئب ومرقس قال ابتدأ يدهش ويكتئب (ع ٣٢) وهذا يدلنا على أن المسيح مع أنه توقع حدوث ذلك الاكتئاب دهش وقت وقوعه باختباره إياه أو أن ذلك استنتجه التلاميذ مما شوهد على وجهه من إمارات الاضطراب. ومتّى ذكر قول المسيح «إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس» ومرقس قال أنه صلى لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن (ع ٣٥). والمراد بكل من الكأس والساعة هنا واحد وهو آلام المسيح التي كان مزمعاً أن يحتملها تكفيراً عن آثام الناس وهي تتضمن علاوة على الموت ترك أصحابه وحجب وجه الآب عنه وحمله خطايا العالم وغضب الله الذي أوجبه الإثم على الناس. وتكلم المسيح بذلك باعتبار كونه إنساناً ولو رغب في تلك الآلام لم يكن إنساناً لأن الطبيعة البشرية تنفر من الألم. وسلم باعتبار كونه إنساناً بكل خضوع وطاعة أن يحتمل تلك الآلام لأنها الواسطة الوحيدة لخلاص البشر. وذكر متّى قول المسيح يا «أبتاه» ومرقس ذكر لفظ المسيح بعينه وترجمه لمن كتب لهم من الأمم وهو قوله «يا أبا» وهو لفظ المسيح و «الآب» وهو ترجمته. وزاد قوله «كل شيء مستطاع لك». وذكر مرقس أنه عندما رجع المسيح ووجد التلاميذ الثلاثة نياماً وبخ بطرس وناداه باسمه القديم أي سمعان (ع ٣٧) وذلك كما فعل مرات في وقت توبيخه إياه على ضعفه وتسلط طبيعته العتيقة عليه. وهذا من الأدلة على أن مرقس كتب بشارته بإرشاد بطرس. وزاد مرقس على متّى أيضاً أنه لما رجع المسيح ثانية ووجد أولئك التلاميذ نياماً لم يعلموا بماذا يجيبونه أي انه لم يجدوا عذراً يحتجون به على نومهم (ع ٤٠).
يَكْفِي (ع ٤١) أي لم يبق حاجة إلى أن تسهروا وتصلوا معي إذ لم يبق من فائدة لي من السهر والصلاة.
تسليم يسوع والقبض عليه ع ٤٣ إلى ٥٠
٤٣ - ٥٠ «٤٣ وَلِلْوَقْتِ فِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ أَقْبَلَ يَهُوذَا، وَاحِدٌ مِنَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ وَٱلشُّيُوخِ. ٤٤ وَكَانَ مُسَلِّمُهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: ٱلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ، وَٱمْضُوا بِهِ بِحِرْصٍ. ٤٥ فَجَاءَ لِلْوَقْتِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَائِلاً: يَا سَيِّدِي، يَا سَيِّدِي! وَقَبَّلَهُ. ٤٦ فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ. ٤٧ فَٱسْتَلَّ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْحَاضِرِينَ ٱلسَّيْفَ، وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ. ٤٨ فَقَالَ يَسُوعُ: كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! ٤٩ كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ مَعَكُمْ فِي ٱلْهَيْكَلِ أُعَلِّمُ وَلَمْ تُمْسِكُونِي! وَلٰكِنْ لِكَيْ تُكْمَلَ ٱلْكُتُبُ. ٥٠ فَتَرَكَهُ ٱلْجَمِيعُ وَهَرَبُوا».
متّى ٢٦: ٤٧ ولوقا ٢٢: ٤٧ ويوحنا ١٨: ٣، متّى ٢٦: ٥٥ ولوقا ٢٢: ٥٢، مزمور ٢٢: ٦ وإشعياء ٥٣: ٧ الخ ولوقا ٢٢: ٣٧ و٢٤: ٤٤، مزمور ٨٨: ٨ وع ٢٧
انظر الشرح متّى ٢٦: ٤٧ - ٥٦.
ذكر مرقس زيادة على ما ذكره متّى أن يهوذا لما أتى إليه قال «يا سيدي» مرتين ومتّى لم يذكر قوله ذلك سوى مرة واحدة. وكان تكرار ذلك من يهوذا لزيادة احترام المسيح رياء. وذكر مما لم يذكره متّى قول يهوذا «امضوا به بحرص». وهذا يدل على أن يهوذا توقع من المسيح المقاومة أو الهرب.
وَهَرَبُوا (ع ٥٠) سأل يسوع العكسر قبل ذلك أن يتركوا التلاميذ وشأنهم (يوحنا ١٨: ٨).
الشاب المئتزر ع ٥١ و٥٢
٥١، ٥٢ «٥١ وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِساً إِزَاراً عَلَى عُرْيِهِ، فَأَمْسَكَهُ ٱلشُّبَّانُ، ٥٢ فَتَرَكَ ٱلإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَاناً».
شَابٌّ لم يذكر هذا الشاب أحدٌ من البشيرين سوى مرقس وهو لم يذكر اسمه. ومن المعلوم أنه ليس من الرسل لأنهم هربوا كلهم. ولا علة ظاهرة لذكر خبره إلا أن يكن مرقس نفسه كاتب هذه البشارة هو ذلك الشاب على ما ظن بعضهم وأنه لم يذكر اسمه اتضاعاً وتأدباً. والذي يرجح هذا الظن أنه سكن مع أمه في أورشليم وهي ربة بيت هنالك (أعمال ١٢: ١٢) فلا عجب من أنه كان في البستان حيئنذ.
لاَبِساً إِزَاراً الإزار هنا اسم لنوع من المنسوج لا لصنف من الملبوس باعتبار شكله وهيئته. والأرجح أنه كان ملبوس الليل المعتاد. والظاهر أنه كان نائماً في بيت البستان أو على القرب منه وأنه استيقظ من أصوات العسكر وقام وذهب بثوب النوم ليرى ما حدث وتبع المسيح إما حباً له وإما رغبة في المشاهدة غير متوقع أن يعارضه أحد.
فَأَمْسَكَهُ ٱلشُّبَّانُ كان أولئك الشبان إما من العكسر الروماني وإما من حراس الهيكل أو خدامه. وظن بعضهم أن ذلك الشاب كان لعازر لأن الشبان تركوا التلاميذ وأمسكوه لأن الكهنة كانوا يحبون أن يقبضوا على لعازر ويقتلوه (يوحنا ١٢: ١٠). ولعلهم أرادوا إمساكه للمزاح لكونه كان بلباس النوم. أو لأنه أظهر الحنو على المسيح.
إحضار يسوع أمام قيافا ومجلس السبعين ع ٥٣ إلى ٦٥
٥٣ - ٦٥ «٥٣ فَمَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ، فَٱجْتَمَعَ مَعَهُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخُ وَٱلْكَتَبَةُ. ٥٤ وَكَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَاخِلِ دَارِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ، وَكَانَ جَالِساً بَيْنَ ٱلْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ ٱلنَّارِ. ٥٥ وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ فَلَمْ يَجِدُوا، ٥٦ لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. ٥٧ ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً قَائِلِينَ: ٥٨ نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ ٱلْمَصْنُوعَ بِٱلأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ. ٥٩ وَلاَ بِهٰذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ. ٦٠ فَقَامَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ فِي ٱلْوَسَطِ وَسَأَلَ يَسُوعَ: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هٰؤُلاَءِ عَلَيْكَ؟ ٦١ أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتاً وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ أَيْضاً: أَأَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱلْمُبَارَكِ؟ ٦٢ فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُّوَةِ، وَآتِياً فِي سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ. ٦٣ فَمَّزَقَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ ٦٤ قَدْ سَمِعْتُمُ ٱلتَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟ فَٱلْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ ٱلْمَوْتِ. ٦٥ فَٱبْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: تَنَبَّأْ. وَكَانَ ٱلْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ».
متّى ٢٦: ٥٧ ولوقا ٢٢: ٥٤ ويوحنا ١٨: ١٣، متّى ٢٦: ٥٩ ص ١٥: ٢٩ ويوحنا ٢: ١٩، متّى ٢٦: ٦٢، إشعياء ٥٣: ٧، متّى ٢٦: ٦٣، متّى ٢٤: ٣٠ و٢٦: ٦٤ ولوقا ٢٢: ٦٩
راجع الشرح متّى ٢٦: ٥٧ و٥٨.
رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ لم يذكر مرقس أن المسيح وقف أولاً أمام حنان (يوحنا ١٨: ٢٤) ولم يلتفت إلى التشويش يومئذ في وظيفة رئيس الكنهة لأنه بمقتضى الشريعة الموسوية لا يكون إلا رئيس كهنة واحد يبقى في وظيفته مدة حياته كلها. ولكنه بتعرض الرومانيين لعزل الرؤساء وإقامة غيرهم كان في أورشليم حيئنذ عدة رؤساء عُزلوا وبقوا على اسم الوظيفة. ومن هؤلاء حنان فإنه بعدما عُزل بقي في شرف الوظيفة وقوتها. ولكن الوظيفة عينها كانت لصهره قيافا. والفرق بين أنباء مرقس بتلك المحاكمة وأنباء متّى بها في ما يأتي. قال متّى «تقدم شاهدا زور». وقال مرقس «قام قوم وشهدوا عليه زوراً». وأبان مرقس زيادة على ذلك سبب عدم قبول شهادتهم وهو قوله «لم تتفق شهادتهم». وقال متّى أن الشاهدين قالا «هذا قال إنّي أقدر أن أنقض هيكل الله الخ» وقال مرقس «نحن سمعناه يقول أني أنقض هيكل الله الخ». وقال متّى نقلاً عن الشاهدين «هكيل الله وفي ثلاثة ايام أبنيه». وقال مرقس نقلاً عن القوم «الهيكل المصنوع بالأيادي وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد». وذكر مرقس مما لم يذكره متّى أن رئيس الكهنة قام في الوسط ليخاطب يسوع (ع ٦٢). وتقدمه من كرسيه إلى وسط الجمع دليل على حدته. وقال متّى أن يسوع أجاب استحلاف رئيس الكهنة إياه هل هو ابن الله بقوله «أنت قلت». وقال مرقس أنه أجابه بقوله «أنا هو». فالاختلاف لفظي لا معنوي.
وسؤال رئيس الكهنة في متّى قوله «هل أنت ابن الله» وفي مرقس قوله «أأنت المسيح ابن المبارك». فقوله ابن المبارك كقوله ابن الله لأنه عُرف عندهم بهذا المعنى كما يُشار إليوم إلى الباري بقولنا «سبحانه وتعالى». وقصد رئيس الكهنة بسؤاله أنه أأنت تدعي أنك إله. وعلى جواب يسوع بنى حكمه عليه بالتجديف. والبراهين على صحة دعوى يسوع أنه ابن الله ما يأتي:
- قوله صريحاً بأنه كذلك (يوحنا ٣: ١٧ و١٨ و٥: ٢٥ و٩: ٣٥ و١٠: ٣٦ و١١: ٤) وما قاله وهو يحاكم.
- شهادة المؤمنين به (متّى ١٦: ١٦ ويوحنا ١: ٣٤ و٥٠ و٦: ٩٦ و١١: ٢٧ و٢٠: ٣١).
- شهادة اليهود بقوله أنه هو ابن الله (متّى ٢٦: ٦٣ و٦٥ و٢٧: ٤٠ و٤٣ ويوحنا ١٩: ٧ ولوقا ٢٢: ٧٠).
- شهادة الشياطين (متّى ٤: ٣ و٦ و٨: ٢٩ ومرقس ٣: ١١ ولوقا ٤: ٤١).
- شهادة أناس مختلفين. منهم الملاحون (متّى ١٤: ٣٣)، ومنهم قائد المئة (متّى ٢٧: ٥٤ ومرقس ١٥: ٣٩).
إنكار بطرس للمسيح ع ٦٦ إلى ٧٢
٦٦ - ٧٢ «٦٦ وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي ٱلدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ. ٦٧ فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ! ٦٨ فَأَنْكَرَ قَائِلاً: لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ! وَخَرَجَ خَارِجاً إِلَى ٱلدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ ٱلدِّيكُ. ٦٩ فَرَأَتْهُ ٱلْجَارِيَةُ أَيْضاً وَٱبْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: إِنَّ هٰذَا مِنْهُمْ! ٧٠ فَأَنْكَرَ أَيْضاً. وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً قَالَ ٱلْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: حَقّاً أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ. ٧١ فَٱبْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هٰذَا ٱلرَّجُلَ ٱلَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ! ٧٢ وَصَاحَ ٱلدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ ٱلْقَوْلَ ٱلَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى».
متّى ٢٦: ٥٨ و٦٩ ولوقا ٢٢: ٥٦ ويوحنا ١٨: ١٦، متّى ٢٦: ٧١ ولوقا ٢٢: ٥٨ ويوحنا ١٨: ٢٥، متّى ٢٦: ٧٣ ولوقا ٢٢: ٥٩ ويوحنا ١٨: ٢٦، أعمال ٢: ٧، متّى ٢٦: ٧٥
راجع الشرح متّى ٢٦: ٦٩ - ٧٥.
فِي ٱلدَّارِ أَسْفَلَ يبين من ذلك أن المحاكمة جرت في إيوان مرتفع أو في قاعة مرتفعة عن ساحة الدار.
فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ كان ذلك في الليل ولهذا شعر الخدم بالبرد فأوقدوا النار فدنا بطرس منها فوقع ضوء النار على وجهه حتى عرفت الجارية من النظر إليه أنه غريب. ونقل متّى أن الجارية قالت لبطرس «كنت مع يسوع الجليلي». ونقل مرقس قولها «كنت مع يسوع الناصري».
فَصَاحَ ٱلدِّيكُ (ع ٦٨) لم يذكر هذا إلا مرقس اعتماداً على ذاكرة بطرس لأن الأمر جرى عليه وكان الوقت حينئذ نحو نصف الليل.
فَرَأَتْهُ ٱلْجَارِيَةُ أَيْضاً (ع ٦٩) نستنتج من كلام مرقس أن هذه الجارية هي التي كلمت بطرس أولاً ولكن متّى قال أن التي كلمته جارية أخرى. وتُدقع هذه الشبهة بأن الأولى أخبرت الثانية بظنها في بطرس فأخذت الثانية تقول للحاضرين «هذا منهم». ولم يذكر مرقس الحلف الذي أتاه بطرس في إنكاره ثانية على ما أنبأ به متّى.
لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً (ع ٧٠) عرف الحاضرون أن أكثر تلاميذ يسوع من الجليل وعرفوا بطرس أنه جليلي من لغته واستنتجوا من ذلك أنه أحد تلاميذ يسوع.
صَاحَ ٱلدِّيكُ ثَانِيَةً لم ينبّه ضمير بطرس صياح الديك أولاً. ولا ريب في أن الذي نبهه عند الصياح الثاني فعل الروح القدس. وكان وقت صياح الديك الثاني بعد صياحه الأول بنحو ثلاث ساعات. ولم يذكر سوى مرقس من البشيرين صياح الديك مرتين. ولعلّ الباقين أخذوا صياح الديك بمعنى الهزيع عموماً بخلاف مرقس فإنه حسبه صياح الديك فعلاً. فإذا اعترض معترض على ظاهر الخلاف بين أنباء الإنجيليين الثلاثة في إنكار بطرس فيكفي دفع ذلك الاعتراض أنهم كلهم اتفقوا على القول أن بطرس أنكر المسيح ثلاث دفعات على التعيين. ولم يبيّن من كلامهم أن الشكايات عليه لم تكن سوى ثلاث بل الظاهر أنها أكثر من ذلك وذكر بعضهم غير ما ذكره الآخر.
فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى (ع ٧٢) أي حين تذكر تحذيرات يسوع إياه ووعده ليسوع بالثبوت وإنكاراته الكثيرة وهو على مرأى منه وتأمل في فظاعة إثمه بكى.
الأصحاح الخامس عشر
اجتماع المجلس ثانية ع ١
١ «وَلِلْوَقْتِ فِي ٱلصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخُ وَٱلْكَتَبَةُ وَٱلْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ».
مزمور ٢: ٢ ومتّى ٢٧: ١ ولوقا ٢٢: ٦٦ و٢٣: ١ ويوحنا ١٨: ٢٨ وأعمال ٣: ١٣ و٤: ٢٦
اجتمع المجلس ثانية لجعل حكمهم موافقاً للشريعة اليهودية لأنها منعت الحكم على أحد بالموت ليلاً ولتثبيت ما حكموا به سابقاً. واقتصر مرقس على ذكر مجرد ذلك الاجتماع ولم يلتفت إلى بيان حوادثه. وسلك متّى هذا المسلك أيضاً (متّى ٢٧: ١). ولكن لوقا بيّن ذلك تفصيلاً (لوقا ٢٢: ٦٦ - ٧١). وعند ذلك صرح المسيح بأنه ابن الله كما صرّح قبلاً. وكذلك كرر المجلس حكمهم عليه بأنه مجدف.
محاكمة يسوع أمام بيلاطس ع ٢ إلى ٥
٢ - ٥ «٢ فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ: أَأَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ: أَنْتَ تَقُولُ. ٣ وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيراً. ٤ فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ اُنْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ! ٥ فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضاً بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ».
متّى ٢٧: ١١، إشعياء ٥٣: ٧ ويوحنا ١٩: ٩
راجع الشرح متّى ٢٧: ١١ - ١٤.
كلام مرقس على ذلك أقصر من كلام متّى. ولم يذكر موت يهوذا الاسخريوطي. ولا تعرُّض امرأة بيلاطس لأمر المسيح. ولا غسل بيلاطس يديه. ولا قول اليهود «دمه علينا وعلى أولادنا». ولا تكرار بيلاطس مراراً قوله تبرئة المسيح. ولا ما ذكره لوقا من إرسال بيلاطس يسوع إلى هيرودس. واقتصر على أنه كان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً. وذكر غيره من المبشرين تلك الشكايات بالتفصيل. ولم يذكر مرقس أن الرؤساء اجتهدوا في أن يحملوا بيلاطس على أن يحكم على يسوع بالموت بدون أن يبينوا ذنبه فذهب ذلك الاجتهاد عبثاً (يوحنا ١٨: ٢٩ و٣١). وسؤال بيلاطس يسوع وهو قوله «أنت ملك اليهود» أظهر ماذا كانت شكاية رؤساء اليهود عليه. وقول مرقس «فلم يجب يسوع أحداً بشيء» (ع ٥) لا ينافي قول يوحنا في شأن المحادثة بين المسيح وبيلاطس (يوحنا ١٨: ٣٤ - ٣٨). لأن ماذ ذكره مرقس من سكوته كان أمام الجموع. وأما محادثته لبيلاطس فكانت عند انفراده به داخل القصر.
تفضيل اليهود باراباس على يسوع وتسليم بيلاطس يسوع ع ٦ إلى ١٥
٦ - ١٥ «٦ وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيراً وَاحِداً مَنْ طَلَبُوهُ. ٧ وَكَانَ ٱلْمُسَمَّى بَارَابَاسَ مُوثَقاً مَعَ رُفَقَائِهِ فِي ٱلْفِتْنَةِ، ٱلَّذِينَ فِي ٱلْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً. ٨ فَصَرَخَ ٱلْجَمْعُ وَٱبْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِماً يَفْعَلُ لَهُمْ. ٩ فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ ٱلْيَهُودِ؟. ١٠ لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً. ١١ فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ ٱلْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ بِٱلْحَرِيِّ بَارَابَاسَ. ١٢ فَسَأَلَ بِيلاَطُسُ: فَمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِٱلَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ ٱلْيَهُودِ؟ ١٣ فَصَرَخُوا أَيْضاً: ٱصْلِبْهُ! ١٤ فَسَأَلَهُمْ بِيلاَطُسُ: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَٱزْدَادُوا جِدّاً صُرَاخاً: ٱصْلِبْهُ! ١٥ فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ، أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ بَعْدَمَا جَلَدَهُ لِيُصْلَبَ».
متّى ٢٧: ١٥ ولوقا ٢٣: ١٧ ويوحنا ١٨: ٣٩، متّى ٢٧: ٢٠ وأعمال ٣: ١٤، متّى ٢٧: ٢٦ ويوحنا ١٩: ١ و١٦
انظر الشرح متّى ٢٧: ١٥ - ٢٦.
لو لم يكن لنا سوى بشارة مرقس لظننا أن بيلاطس استغنم فرصة طلب اليهود إطلاق أسير وسيلة إلى إنقاذ يسوع بلا شغب عندما تحقق أنه بار. ولكن نفهم مما أنبأ متّى به أن بيلاطس عرض على الجمع أن يختاروا أي الاثنين يسوع وباراباس يطلقه لهم. وكان يظن أنهم يختارون إطلاق يسوع ويفضلونه على إنسان اشتهر شره. لكنه لم يفكر في شدة بغض الرؤساء للمسيح وحسدهم إياه. ولم يحسب أن الشعب لا يعتبر باراباس شريراً لمجرد مقاومته للحكم الروماني فالذي رآه بيلاطس رذيلة رآه اليهود فضيلة.
لأَنَّهُ عَرَف الخ (ع ١٠) ومعرفته المذكورة هنا كانت علّة أن شكايات اليهود لم تؤثّر فيه كثيراً وأنّه حوّل أمر يسوع إلى الشعب ليتخلّص من الرؤساء الحساد.
ٱصْلِبْهُ لم يكن الصلب عقاباً يهودياً بل هو روماني. فإن قيل لماذا طلب اليهود صلب المسيح ولم يسألوا رجمه وهو عقاب التجديف عندهم وقد حكم مجلسهم على يسوع بالتجديف. فجواب ذلك أن باراباس حكم عليه بالصلب بمقتضى الشريعة الرومانية وجعل بيلاطس يسوع بمنزلة باراباس رجاء ان يختار الشعب إطلاق يسوع ومعاقبة باراباس. لكنهم اختاروا خلاف رجائه فوقع على يسوع ما كان قد استحقه باراباس وحُكم به عليه. فصار يسوع بصلبه «لعنة من أجلنا» (غلاطية ٣: ١٣ وتثنية ٢١: ٢٣). وحُفظت عظامه من الكسر إتماماً للمشابهة بينه وبين خروف الفصح (خروج ١٢: ٤٦ ويوحنا ١٩: ٣٦).
يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ (ع ١٥) خاف بيلاطس أن يشتكيه اليهود إلى قيصر فآثر أن يسلم يسوع المسيح إرضاء لهم على أن يحكم بالعدل ويغيظهم. فإن قيل كيف أمكن أن تتغير أفكار الشعب في المسيح ذلك التغيّر العظيم في نحو خمسة أيام فإنهم كانوا يهتفون يوم الأحد قائلين «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ» (مرقس ١١: ٩ و١٠). وصرخوا يوم الجمعة قائلين «اصلبه اصلبه». فالجواب على ذلك أنه من المحتمل أن الجمع الذي طلب صلبه ليس هو الجمع الذي احتفل بدخوله أورشليم وذلك من الممكنات في مدينة كبيرة كأورشليم وقد قصدها جموع كثيرة من الأقطار للاحتفال بالعيد. وعلى فرض أن الجمع الأول هو عين الجمع الثاني لا بدع من أن تتغير أفكاره بسهولة في وقت شغب وهيجان كالذي كان عند محاكمة يسوع. وقد حدث مثل ذلك في لسترة فإن الذين أرادوا أن يعبدوا بولس كإله من السماء رجموه بعد قليل كشر إنسان على الأرض يجب أن يُنزع منها. وأرجح الظن أنهم احتفلوا به يوم الأحد رجاء انه ملك أرضي انتظروا إنقاذه إياهم من حكم الرومانيين. فلما يئسوا من ذلك لما شاهدوه لم يقاوم من قبضوا عليه ومن الحكم عليه كخادع مجدف من أعظم مجلس أمتهم تغيرت أفكارهم ولاموا أنفسهم على ترحيبهم به وسلموا بما أمرهم به الرؤساء وصرخوا قائلين اصلبه.
جَلَدَهُ ذلك حسب عادة الرومانيين فإنهم كانوا يجلدون المحكوم عليه بالصلب قبل صلبه. وكان بيلاطس قد عرض في أول الأمر على اليهود أن يجلده بدلاً من الصلب ويطلقه (لوقا ٢٣: ١٦) بناء على أن ذلك عقاب كاف ولكنه زاد أخيراً الجلد على الصلب.
هزءُ العسكر بيسوع ع ١٦ إلى ١٩
١٦ - ١٩ «١٦ فَمَضَى بِهِ ٱلْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ ٱلدَّارِ ٱلَّتِي هِيَ دَارُ ٱلْوِلاَيَةِ، وَجَمَعُوا كُلَّ ٱلْكَتِيبَةِ.١٧ وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُواناً، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، ١٨ وَٱبْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: ٱلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ ٱلْيَهُودِ! ١٩ وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِم».
متّى ٢٧: ٢٧
قد مرّ الكلام على ذلك في الشرح (متّى ٢٧: ٢٧ - ٣١).
أُرْجُواناً سمى متّى ذلك رداء قرمزياً والمعنى واحد. والأرجوان والقرمز مما اعتاد الملوك لبسه فألبسه العسكر يسوع هزءاً بأنه ملك اليهود.
ٱلدَّارِ كانت هذه الدار مسكن الوالي الروماني حين يأتي أورشليم وهي قصر بناه هيرودس الكبير على الطرف الشمالي من جبل صهيون فكان مشرفاً على كل دار الهيكل ومتصلاً به بجسر. وكان اليهود يهزأون قبلاً بالمسيح لدعواه أنه نبي (ص ١٤: ٦٥) وهزئ العسكر به هنا لدعواه أنه ملك.
صلب يسوع ع ٢٠ إلى ٢٦
٢٠ - ٢٦ «٢٠ وَبَعْدَمَا ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ ٱلأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ. ٢١ فَسَخَّرُوا رَجُلاً مُجْتَازاً كَانَ آتِياً مِنَ ٱلْحَقْلِ، وَهُوَ سِمْعَانُ ٱلْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. ٢٢ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى مَوْضِعِ «جُلْجُثَةَ» ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مَوْضِعُ «جُمْجُمَةٍ». ٢٣ وَأَعْطَوْهُ خَمْراً مَمْزُوجَةً بِمُرٍّ لِيَشْرَبَ فَلَمْ يَقْبَلْ. ٢٤ وَلَمَّا صَلَبُوهُ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟ ٢٥ وَكَانَتِ ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ. ٢٦ وَكَانَ عُنْوَانُ عِلَّتِهِ مَكْتُوباً «مَلِكُ ٱلْيَهُودِ».
متّى ٢٧: ٣٢ ولوقا ٢٣: ٢٦، متّى ٢٧: ٢٣ ولوقا ٢٣: ٣٣ ويوحنا ١٩: ١٧، متّى ٢٧: ٣٤، مزمور ٢٢: ١٨ ولوقا ٢٣: ٣٤ ويوحنا ١٩: ٢٣، متّى ٢٧: ٤٥ ولوقا ٢٣: ٤٤ ويوحنا ١٩: ١٤، متّى ٢٧: ٣٧ ويوحنا ١٩: ١٩
انظر الشرح متّى ٢٧: ٣٢ - ٣٧.
خَرَجُوا من أورشليم.
سِمْعَانُ (ع ٢١) وصفه مرقس بأنه أبو اسكندروس وروفس كأن هذين الشخصين معروفان عند من كتب إليهم بشارته.
أَعْطَوْهُ خَمْراً مَمْزُوجَةً بِمُرٍّ (ع ٢٣) أي عرضوا عليه ذلك. وقال متّى بدلاً من ذلك «خلاً ممزوجاً بمرارة» ولا منافاة بين البشيرين لأن العسكر كان يشرب خمراً حامضة يصحّ أن تُسمى خلاً كما صحّ أن تُسمى خمراً مع حموضتها. والمرّ عقار مخدر أو مسكن مرّ الطعم ولذلك صحّ أن يُعبر عنه بالمرارة.
ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ بعد شروق الشمس وقبل الظهر بثلاث ساعات. وذلك وفق قول متّى ولكنه غير حساب يوحنا كما سبق الكلام في الشرح (متّى ٢٧: ٤٥) والأرجح أن متّى ومرقس حسبا النهار حسب الاصطلاح اليهودي يومئذ وهو الحساب الشرقي اليوم. وهو أن اليوم من المغرب إلى المغرب وأن يوحنا جرى على الحساب الروماني يومئذ وهو الحساب الغربي اليوم وهو أن اليوم من نصف الليل إلى نصف الليل. أو أن ناسخ إنجيل يوحنا غلط ببدل الحرف الدال على الثلاثة بالحرف الدال على الستة لأن صورة كل من الحرفين تقرب من صورة الآخر كثيراً.
عُنْوَانُ عِلَّتِهِ اقتصر متّى على قوله «علته» وقال «هذا هو يسوع ملك اليهود». والذي كتبه مرقس أخصر وهو قوله «ملك اليهود». ولكن العنوان كُتب بثلاث لغات فلعلّ أحدهما ترجم أو نقل من أحدها والآخر عن أخرى.
٢٧، ٢٨ «٢٧ وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. ٢٨ فَتَمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ».
متّى ٢٧: ٣٨، إشعياء ٥٣: ١٢ ولوقا ٢٢: ٣٧
راجع الشرح متّى ٢٧: ٣٨.
لِصَّيْنِ الأرجح أنهما من رفقاء باراباس في الفتنة وأنه حُكم على ثلاثة أحدهم باراباس بالصلب وبما أنه أخذ يسوع بدلاً من باراباس فصُلب مكانه لو عُوقب.
فَتَمَّ ٱلْكِتَابُ أي تمت نبوءة إشعياء (إشعياء ٥٢: ١٢) وهي قوله «أحصي مع أثمة». وهذه النبوءة لم يستشهد بها متّى واستشهد بها لوقا أيضاً (لوقا ٢٢: ٣٧). وليس المراد أن الله حسبه أثيماً لكنه عامله كذلك في كل ما هو ضروري للتكفير عن خطايا البشر. وأن الناس اعتبروه أثيماً لأن الرؤساء شكوه بدعوى أنه أثيم وحكموا عليه بذلك في مجلسهم وعوقب بالموت مع أشرار الخطأة. وفي كل ذلك كان سر الفداء وهو «أن البار من أجل الأثمة» وبهذا فتحت السماء للمؤمنين لأنه أحصي مع الأثمة لكي تُحصَى مع الأبرار والقديسين.
٢٩ - ٤١ «٢٩ وَكَانَ ٱلْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَهُّزُونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: آهِ يَا نَاقِضَ ٱلْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ! ٣٠ خَلِّصْ نَفْسَكَ وَٱنْزِلْ عَنِ ٱلصَّلِيبِ! ٣١ وَكَذٰلِكَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ ٱلْكَتَبَةِ قَالُوا: خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا. ٣٢ لِيَنْزِلِ ٱلآنَ ٱلْمَسِيحُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ عَنِ ٱلصَّلِيبِ، لِنَرَى وَنُؤْمِنَ. وَٱللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ. ٣٣ وَلَمَّا كَانَتِ ٱلسَّاعَةُ ٱلسَّادِسَةُ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. ٣٤ وَفِي ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟ (اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) ٣٥ فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا: هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا. ٣٦ فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلَأَ إِسْفِنْجَةً خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلاً: ٱتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ! ٣٧ فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ. ٣٨ وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. ٣٩ وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ٱلْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هٰكَذَا وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ، قَالَ: حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ! ٤٠ وَكَانَتْ أَيْضاً نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ ٱلصَّغِيرِ وَيُوسِي، وَسَالُومَةُ، ٤١ ٱللَّوَاتِي أَيْضاً تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي ٱلْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ ٱللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
مزمور ٢٢: ٧ ص ٤: ٥٨ ويوحنا ٢: ١٩، متّى ٢٧: ٤٤ ولوقا ٢٣: ٣٩، متّى ٢٧: ٤٥ ولوقا ٢٣: ٤٤، مزمور ٢٢: ١ ومتّى ٢٧: ٤٦، مزمور ٦٩: ٢١ ومتّى ٢٧: ٤٨ ويوحنا ١٩: ٢٩، متّى ٢٧: ٥١ ولوقا ٢٣: ٤٦ ويوحنا ١٩: ٣٠، متّى ٢٧: ٥١ ولوقا ٢٣: ٤٥، مزمور ٣٨: ١١ ومتّى ٢٧: ٥٤ و٥٥ ولوقا ٢٣: ٤٧ - ٤٩، يوحنا ١٩: ٢٥، متّى ١٣: ٥٥، متّى ٢٠: ٢٠، لوقا ٨: ٢ و٣
راجع الشرح متّى ٣٩ - ٥٦.
إِلُوِي إِلُوِي (ع ٣٤) هذا لفظ سرياني مقتبس من مزمور ٢٢: ١ ولم يذكر مرقس غيره من أقوال المسيح السبعة على الصليب.
ٱتْرُكُوا (ع ٣٦) وفي إنجيل متّى «اترك» وفي إنجيل مرقس بعد هذا «لينزله» وفي إنجيل متّى «يخلصه». ولعلّ علة هذا الفرق أن أحد البشيرين نقل كلام بعض المشاهدين والآخر كلام آخر. لأنه لا يقرب من العقل أنه لم يتكلم سوى إنسان واحد من كل ذلك الجمع.
فَصَرَخَ (ع ٣٧) الأرجح أن ما قاله في ذلك الصراخ هو «قد أكمل» (يوحنا ١٩: ٣٠).
وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ (ع ٣٨) كان ذلك الحجاب جميلاً نفيساً مطرزاً بصور الكاروبيم طوله ٣٠ قدماً وعرضه ٢٠ قدماً يفصل بين القدس وقدس الأقداس. وفُسر المقصود من انشقاقه في الرسالة إلى العبرانيين (عبرانيين ٩: ٣ و١٠: ١٩). ولعلّ ذلك الانشقاق علة قول لوقا كان «جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ ٱلإِيمَانَ» (أعمال ٦: ٧).
حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ (ع ٣٩) أي كان كما ادعى (يوحنا ١٩: ٧). لم يحكم بيلاطس على المسيح بالموت على دعواه أنه ابن الله بل على دعوى أنه ملك مختلس حقوق قيصر كما أوضحه بالعنوان على الصليب فوق رأس المسيح. ولعلّ القائد سمع من اليهود السبب الحقيقي لتسليمهم إياه إلى الموت. فإن كان القائد الوثني اقتنع بصحة دعوى المسيح أنه ابن الله بما شاهده من معجزاته فكم يجب علينا أن نسلم بصحة تلك الدعوة لعلمنا فوق معرفة تلك المعجزات أن الله رفض اليهود ما يزيد على ثمانية عشر قرناً لرفضهم تلك الدعوى وقتلهم إياه من أجلها. وكل ذلك حدث إتماماً لنبوءة المسيح.
مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ (ع ٤٠) هذه اول مرة ذكر مرقس اسمها.
يَعْقُوبَ ٱلصَّغِيرِ هو ابن حلفي أو كلوبا وهو كاتب الرسالة المنسوبة إليه ولُقب بالصغير تمييزاً له عن يعقوب بن زبدي (متّى ١٠: ٩).
سَالُومَةُ لم يذكر متّى اسمها بل قال أنها أم ابني زبدي.
وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ ٱللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ (ع ٤١) لم تُعرف إحدى أولئك النساء وربما كان بينهن أرملة نايين التي أقام المسيح ابنها من الموت والمرأة التي كانت مصابة بنزف الدم في كفرناحوم. ومريم ومرثا أختي لعازر من بيت عنيا.
دفن يسوع ع ٤٢ إلى ٤٧
٤٢ - ٤٧ «٤٢ وَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ، إِذْ كَانَ ٱلاسْتِعْدَادُ - أَيْ مَا قَبْلَ ٱلسَّبْتِ - ٤٣ جَاءَ يُوسُفُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلرَّامَةِ، مُشِيرٌ شَرِيفٌ، وَكَانَ هُوَ أَيْضاً مُنْتَظِراً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ، فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. ٤٤ فَتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا قَائِدَ ٱلْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟ ٤٥ وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ ٱلْمِئَةِ، وَهَبَ ٱلْجَسَدَ لِيُوسُفَ. ٤٦ فَٱشْتَرَى كَتَّاناً، فَأَنْزَلَهُ وَكَفَّنَهُ بِٱلْكَتَّانِ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتاً فِي صَخْرَةٍ، وَدَحْرَجَ حَجَراً عَلَى بَابِ ٱلْقَبْرِ. ٤٧ وَكَانَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يُوسِي تَنْظُرَانِ أَيْنَ وُضِعَ».
متّى ٢٧: ٥٧ ولوقا ٢٣: ٥٠ ويوحنا ١٩: ٣٨، لوقا ٢: ٢٥ و٣٨، متّى ٢٧: ٥٩ و٦٠ ولوقا ٢٣: ٥٣ ويوحنا ١٩: ٤٠
انظر الشرح متّى ٢٧: ٥٧ - ٦١.
ٱلْمَسَاءُ هو الوقت بين الساعة التاسعة والمغرب والمراد هنا أول هذا الوقت.
ٱلاسْتِعْدَادُ عَلَمٌ لكل يوم جمعة عند اليهود (كما فسر مرقس معناه للرومانيين ولو كتب اليهود ما فسره) لأنهم يستعدون فيه لكل ما يحتاج إليه يوم السبت. ولأن السبت في أسبوع عيد الفصح أعظم أيام ذلك الأسبوع اقتضى استعداداً غير عادي. وعدم الانتباه لكون الاستعداد علَماً ليوم الجمعة غلط البعض بظنه الاستعداد هنا وفي إنجيل يوحنا ١٩: ٣١ هو الاستعداد لأكل خروف الفصح وبأن يسوع أكل الفصح قبل وقته بيوم أي في الرابع عشر من نيسان بدلاً من الخامس عشر منه. وهذا القول يناقض ما قاله متّى ومرقس ولوقا صريحاً في شأن الوقت الذي أكل يسوع فيه الفصح. ولنا علاوة على ذلك علمنا أن يسوع كان يحفظ الناموس الموسوي حفظاً كاملاً. فلو أكل الفصح قبل وقته لنقض الناموس وجعل تلاميذه ينقضونه أيضاً وأن الكهنة لا يذبحون خروف الفصح في غير وقته ويرشون دمه حول المذبح ويسلمونه إلى التلاميذ ليأكلوه حينئذ.
يُوسُفُ (ع ٤٣) نعرف من أمر هذا الرجل أنه كان من الرامة وأنه غني وأنه تلميذ ليسوع (متّى ٢٧: ٥٧) وأنه مشير شريف. وأنه كان منتظراً ملكوت الله ع ٤٣ وأنه رجل صالح بارٌ. وأنه لم يكن موافقاً لرأي الرؤساء وعملهم (لوقا ٢٣: ٥٠ و٥١).
مُنْتَظِراً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ فهو مثل سمعان (لوقا ٢: ٢٥ ومثل حنّة (لوقا ٢: ٣٦).
فَتَجَاسَرَ هذا يدل على أنه عرّض نفسه للإهانة والخطر لأن الرومانيين يحسبونه بذلك شريكاً للمسيح في الخيانة لقيصر كدعواهم واليهود يبغضونه لبغضهم يسوع. وقال يوحنا فيه أنه كان في أول أمره تلميذاً للمسيح خفية خلافاً لبطرس الذي تجاسر في أول الأمر وسل سيفه وضرب أحد خدم رئيس الكهنة ولم نسمع من أمره شيئاً عند صلب يسوع ودفنه. والظاهر أن يوسف الآن طرح الخوف جانباً وأعلن ما لم يعلنه أحد من الرسل. وعلاوة على تعريضه نفسه لما ذكر تنجس شرعاً بتنزيله جسد يسوع عن الصليب وحرم نفسه من احتفالات أسبوع العيد. ولم يذكر مرقس ما ذكره يوحنا أن نيقوديموس شاركه في ذلك العمل الممدوح. فلولاهما طُرح جسد يسوع في وادي هنوم مع جسدي اللصين.
تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ (ع ٤٤) لأنه لم يسمع إلا منه أن يسوع مات ولأن الوقت الذي مرّ من صلبه إلى موته أقل من الوقت المعتاد لأن بعض المصلوبين كان يبقى حياً نحو ثلاثة أيام. وندر أن مات أحد المصلوبين بعد الصلب بأقل من ست وثلاثين ساعة.
فَدَعَا قَائِدَ ٱلْمِئَةِ لم يذكر غير مرقس من البشيرين سؤال بيلاطس للقائد. وكان هذا القائد هو الذي وكله بيلاطس بصلب يسوع.
وَلَمَّا عَرَفَ (ع ٤٥) هذا القائد شاهد آخر بحقيقة موت يسوع.
وَهَبَ ٱلْجَسَدَ لِيُوسُفَ كان أهل المصلوبين أو أصحابهم يبذلون مالاً كثيراً أحياناً ليحصلوا على الإذن في أخذ أجسادهم للدفن. ولكن بيلاطس وهب ليوسف جسد المسيح بلا شيء. ولعلّ بيلاطس أتى ذلك تخفيفاً لتوبيخ ضميره إياه على ما فعله بيسوع.
كَتَّاناً لم يكن أحد يكفن بالكتان سوى الأغنياء. وزاد يوحنا على ذلك أنه جاء نيقوديموس أيضاً «وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً» (يوحنا ١٩: ٣٩). والأرجح أنهما وضعا الأطياب على جسد يسوع داخل الكتان ولفوه به وذلك بغية السرعة لأن السبت كان قريباً. وعلى هذا الأسلوب حنطوا آسا الملك «وَأَضْجَعُوهُ فِي سَرِيرٍ كَانَ مَمْلُوّاً أَطْيَاباً وَأَصْنَافاً عَطِرَةً حَسَبَ صِنَاعَةِ ٱلْعِطَارَةِ» (٢أيام ١٦: ١٤).
إن الله يقيم أناساً لإنفاذ مقاصده حيث لا نتوقع وجودهم. فمن كان يظن أن أحد أعضاء ذلك المجلس الذي حكم على يسوع بالموت يسبق الجميع إلى اجتهاده في إعداد مدفن للمسيح بكل مقتضياته ويُظهر كل جسارة لذلك مع أنّه كان قبلاً خائفاً.
فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتاً فِي صَخْرَةٍ زاد لوقا ويوحنا على ذلك «لم يوضع فيه أحد قط». وذلك لكي لا يبقى ريب في أنه من هو الذي قام منه عند القيامة.
حَجَراً عَلَى بَابِ ٱلْقَبْرِ قال متّى أن ذلك الحجر كان كبيراً (متّى ٢٧: ٦٠).
تَنْظُرَانِ (ع ٤٧) ذكر مرقس امرأتين فقط كانتا تراقبان الدفن ووضع الحجر. وذكر لوقا أنه كان هناك نساء أُخر (لوقا ٢٣: ٥٥).
الأصحاح السادس عشر
القيامة ع ١ إلى ٨
١ - ٨ «١ وَبَعْدَمَا مَضَى ٱلسَّبْتُ، ٱشْتَرَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ.٢ وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَّوَلِ ٱلأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى ٱلْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ ٱلشَّمْسُ. ٣ وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا ٱلْحَجَرَ عَنْ بَابِ ٱلْقَبْرِ؟ ٤ فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ ٱلْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً. ٥ وَلَمَّا دَخَلْنَ ٱلْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابّاً جَالِساً عَنِ ٱلْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ، فَٱنْدَهَشْنَ. ٦ فَقَالَ لَهُنَّ: لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ ٱلْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا. هُوَذَا ٱلْمَوْضِعُ ٱلَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. ٧ لٰكِنِ ٱذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ. ٨ فَخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ ٱلْقَبْرِ، لأَنَّ ٱلرِّعْدَةَ وَٱلْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ».
متّى ٢٨: ١ ولوقا ٢٤: ١ ويوحنا ٢٠: ١، لوقا ٢٣: ٥٦، لوقا ٢٤: ٤ ويوحنا ٢٠: ١١ و١٢، متّى ٢٦: ٣٢ وص ١٤: ٢٨، متّى ٢٨: ٨ الخ ولوقا ٢٤: ٩ الخ
انظر الشرح متّى ٢٨: ١ - ٨.
ظهر من نبإ مرقس بالقيامة أن قصده ذكر الوسائط التي زالت بها شكوك التلاميذ من جهة قيامة المسيح وأعدت قلوبهم لقبول المسيح مخلصاً وملكاً وأن يأخذوا منه المرسلية للتبشير بإنجيله. وتلك الوسائط أربع:
- الأولى: الخبر الذي بلغهم بأفواه النساء (ع ١ - ٨).
- والثانية: الخبر الذي وصلهم بفم مريم المجدلية (ع ٩ - ١١).
- والثالثة: النبأ الذي سمعوه من التلميذين اللذين ذهبا إلى عمواس ورجعا (ع ١٢ و١٣).
- والرابعة: ظهور يسوع لهم عياناً (ع ١٤).
ثم ختم كلامه بأمر المسيح إياهم بالتبشير الذي هو غرض المرسليّة وبصعوده.
وَبَعْدَمَا مَضَى ٱلسَّبْتُ مرّ على يسوع وهو في القبر قسم صغير من يوم الجمعة وليلة السبت ونهار السبت وليلة الأحد وشيء من صباحه وذلك ثلاثة أيام حسب اصطلاح اليهود (١صموئيل ٣٠: ١٢ و١٣ و٢أيام ١٠: ٥ و١٢ ومتّى ١٢: ٤٠ و٢٧: ٦٣ و٦٤ ويوحنا ٢: ١٩).
ٱشْتَرَتْ يحتمل أن الشراء كان بعد غروب شمس السبت. وذكر مرقس أن المشتريات والآتيات إلى القبر ثلاث. وذكر متّى اثنتين منهما والتي لم يذكرها هي سالومة. وذكر مرقس أنهنّ قصدن القبر بالحنوط لدهن جسد يسوع ومتّى لم يذكر ذلك. وهذا علامة محبتهن للمسيح ودليل على أنهن لم يتوقعن قيامته. وذكر لوقا جماعة أخرى من النساء أتت بعد الأولى بحنوط اشترتها يوم الجمعة قبل المغرب وأتت أولئك النساء بالحنوط والأطياب زيادة على ما وضعه يوسف ونيقوديموس على جسد يسوع (لوقا ٢٣: ٥٦ و٢٤: ١).
بَاكِراً جِدّاً (ع ٢) قال يوحنا «بَاكِراً وَٱلظَّلاَمُ بَاقٍ» (يوحنا ٢٠: ١). والأرجح أنهن خرجن من بيوتهن في المدينة والظلام باق ووصلن القبر عند طلوع الشمس.
مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا ٱلْحَجَرَ (ع ٣) لم يذكر ذلك أحد سوى مرقس وهو يدل على أنهن كن مهتمات بدحرجة ذلك الحجر ومضطربات منه. والظاهر أنهنّ لم يعرفن أن رؤساء الكهنة ذهبوا إلى بيلاطس وأنه أعطاهم عسكراً ليحرسوا القبر ولم يبلغهن أنهم ختموا الحجر فلم يكن اهتمامهن بسوى دحرجة ذلك الحجر.
فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ (ع ٤) لعلهن مشين إلى القبر مطرقات لما عراهن من الحزن حتى قربن من القبر فرفعن رؤسهن ونظرن إلى القبر. ويوافق أنباء الإنجيليين بالقيامة أن مريم المجدلية حالما رأت القبر مفتوحاً رجعت وحدها مسرعة وأخبرت بطرس ويوحنا ثم رجعت وراءهما وبقيت عند القبر بعدما ذهبا وحينئذ رأت المسيح في البستان (يوحنا ٢٠: ١٤ و١٥).
لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً هذا متعلق بالسؤال وهو قول النساء «من يدحرج الخ» وهو علة سؤالهن.
شَابّا (ع ٥) هو ملاك ظهر لهنّ بهيئة شاب (متّى ٢٨: ١ و٥).
جَالِساً عَنِ ٱلْيَمِين هذا لا ينافي قول متّى أن الملاك «دَحْرَجَ ٱلْحَجَرَ عَنِ ٱلْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ» (متّى ٢٨: ٢) لأن جلوسه على الحجر في أول الأمر لا يمنع من انتقاله إلى موضع آخر. ولا يلزم من قول مرقس «لَمَّا دَخَلْنَ ٱلْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابّاً جَالِساً عَنِ ٱلْيَمِينِ» أنه كان داخل القبر لاحتماله مشاهدة النساء إياه بعد دخولهن القبر جالساً عن يمين المدخل. فلا دليل قطعي من ذلك على أنه كان داخل القبر أو خارجه.
لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ هي مثل ملبوس السماويين الذين رآهم يوحنا (رؤيا ٧: ٩ و١٣).
لاَ تَنْدَهِشْنَ سكن خوفهن أولاً ثم أجابهن على سؤال قلوبهن قبل أن أظهرنه بأفواههن بقوله أن يسوع «قد قام».
ٱلنَّاصِرِيَّ ٱلْمَصْلُوبَ قرن الملاك الكلمتين اللتين أشار بهما إلى عظمة ارتفاع يسوع وهو قوله «قد قام» بكلمتين دل بهما على فرط اتضاعه وهو قوله «الناصري المصلوب».
ٱلرِّعْدَةَ وَٱلْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ (ع ٨) أخذتهن الرعدة أي الخوف من مشاهدتهن الملاك. والحيرة مما أخبرهن به من قيامة المسيح.
وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لا يلزم من هذا ان النساء لم بخبرن الأحد عشر كما أمرهما الملاك (ع ٧). إنما لم يقلن لأحد من الطريق ولكنهن أسرعن إلى الرسل وأخبرنهم بدون عاقة أو وقوف في الطريق (لوقا ٢٤: ٩ و١٠). ويظهر من خبر متّى أن يسوع لاقاهنّ وهنّ راجعات (متّى ٢٨: ٩).
ظهور يسوع لمريم المجدلية ع ٩ إلى ١١
٩ - ١١ «٩ وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِراً فِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ ٱلْمَجْدَلِيَّةِ، ٱلَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. ١٠ فَذَهَبَتْ هٰذِهِ وَأَخْبَرَتِ ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. ١١ فَلَمَّا سَمِعَ أُولٰئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَقَدْ نَظَرَتْهُ، لَمْ يُصَدِّقُوا».
لوقا ٨: ٢ ويوحنا ٢٠: ١٤ و١٨
بَعْدَمَا قَامَ ذكر مرقس في أول هذا الأصحاح ظهور الملاك مبشراً بقيامة المسيح وذلك مقدمة لما قاله بعد عند ظهور المسيح نفسه.
ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ ٱلْمَجْدَلِيَّةِ ذكر متّى ومرقس ولوقا أنها أتت مع سائر النساء لتدهن المسيح بالطيب. ونستنتج من الخبرين أنها تركت سائر النساء لما رأت القبر مفتوحاً وذهبت لتخبر بطرس ويوحنا ثم رجعت. وبعد رجوعها ظهر لها يسوع وحدها كما ذُكر هنا وكما ذكره يوحنا بالتفصيل (يوحنا ٢٠: ١١ - ١٨).
ويصعب علينا أن نقطع بأن مرقس قصد بقوله «ظهر أولاً لمريم» أوّل كل ظهور أو أوّل ما ذكره هنا من مرّات ظهوره الثلاث. وإن كان المراد الثاني فهو مثل قوله «أخيراً ظهر للأحد عشر» ع ١٤ لأنا نعلم أنه لم يقصد هنالك آخر كل ظهور للمسيح لأنه ظهر بعد ذلك لأكثر من خمس مئة أخ في الجليل (١كورنثوس ١٥: ٥ - ٨).
أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ جاء هذا الخبر في إنجيل لوقا ٨: ٢ وهو في كلا الموضعين بلا تفصيل. ومن الخطإ أن لا نميز بينها وبين المرأة الخاطئة التي دهنت قدمي يسوع في بيت سمعان الفريسي. وأن لا نفرق بينها وبين مريم أخت لعازر التي دهنته لتكفينه. ولعلّ ذكر صنيع المسيح لها في نبإ القيامة هي بيان علة أنها كانت أكثر اعترافاً ليسوع بمنّهِ وأوفر غيرة في خدمته وأشد حزناً على موته وفرحاً بقيامته.
ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أي تلاميذ المسيح. وفي هذا تلميح إلى أنهم كانوا قد يئسوا منه. وأنهم لم يبقوا له لأنه مات ومات رجاءهم معه.
وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ يبيّن من هذا كيف تقضي الوقت بعد موت المسيح على تلاميذه وأصدقائه فإنهم كانوا يندبونه ويأسفون على خيبة آمالهم المبنية عليه. ولو عرفوا حقيقة الواقع لكانوا فرحوا بدلاً من ان يحزنوا.
لَمْ يُصَدِّقُوا لأنهم لم يتوقعوا أخباراً سارة كهذه (لوقا ٢٤: ١١).
وشكهم في أول الأمر بقيامة المسيح يقوي ثقتنا بشهادتهم بها بعد تيقنهم. شكوا وقتاً قصيراً لكي لا نشك أبداً. وهذا يدلنا على أن الرسل لم يكونوا من أهل الأوهام وفق أغراضهم ولا التخيلات الموافقة لآمالهم. وأن شكوكهم لم تَزٌل إلا شيئاً فشيئاً على توالي البراهين القاطعة.
ظهور المسيح للتلميذين ثم للأحد عشر رسولاً ع ١٢ إلى ١٨
١٢ «وَبَعْدَ ذٰلِكَ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لاثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَهُمَا يَمْشِيَانِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ».
لوقا ٢٤: ١٣ الخ
وَبَعْدَ ذٰلِكَ أي بعد ظهور المسيح لمريم المجدلية (ع ٩).
ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى هذا الظهور الثاني على ما ذكره مرقس وبينه لوقا بالتفصيل (لوقا ٢٤: ١٣ - ٣٥). وقد مرّ الكلام على كل مرات ظهور المسيح بعد قيامته في الشرح (متّى ٢٨: ١٧).
والذي عبّر عنه مرقس هنا بقوله «بهيئة أخرى» عبّر عنه لوقا بقوله «أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ» (لوقا ٢٤: ١٦). والذي نفهمه من ذلك أن هيئة المسيح تغيرت قليلاً عما كانت قبل صلبه حتى يتوقف الناظر عن معرفته في أول الأمر.
مِنْهُمْ أي من الذين تبعوه وأحدهما كلوبا والآخر مجهول (لوقا ٢٤: ١٨).
وَهُمَا يَمْشِيَانِ ظهر لهما يسوع وهما سائران من أورشليم إلى عمواس ولم يعرفاه في أول سيره معهما لكنهما عرفاه في آخره عند كسره الخبز معهما (لوقا ٢٤: ٣٥).
١٣ «وَذَهَبَ هٰذَانِ وَأَخْبَرَا ٱلْبَاقِينَ، فَلَمْ يُصَدِّقُوا وَلاَ هٰذَيْنِ».
وَذَهَبَ هٰذَانِ أي التلميذان المذكوران في ع ١٢ وكانا راجعين من عمواس إلى أورشليم.
ٱلْبَاقِين هم الرسل وغيرهم من تلاميذ المسيح في أورشليم.
فَلَمْ يُصَدِّقُوا هذا كالقول في ع ١١. والذي حمل مرقس على ذكر ما ذكره من مرات ظهور المسيح بيان أن التلاميذ لم يصدقوا قيامة المسيح في أول الأمر وأن شكوكهم ما زالت إلا بالصعوبة وتوالي البراهين الكثيرة. ويتبين مما قيل هنا أن ليس توما وحده كان مستحق اللوم لعدم قبوله الشهادة الصريحة بقيامة المسيح بل أن كلهم وقعوا في أول الأمر في تلك الدينونة عينها. ولعلّ الذي زادهم ريباً هو ظهور المسيح بغتة لأناس مختلفين في محال مختلفة ثم اختفاؤه كذلك. فتحيروا بين أن يكون ذلك الظهور في عالم الرؤيا أو في عالم الحقيقة.
١٤ «أَخِيراً ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ، وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا ٱلَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ».
لوقا ٢٤: ٣٦ الخ ويوحنا ٢٠: ١٩ و١كورنثوس ١٥: ٥
هذا ظهور المسيح المرة الأخيرة من الثلاث التي ذكرها مرقس والاثنان السابقتان إعداد الرسل لقبوله بلا ريب. واقتصار مرقس على ذكر هذه الثلاث لا ينفي أن المسيح ظهر غيرها إذ الأرجح أنه ظهرا مراراً كثيرة قبل صعوده في الأربعين يوماً التي بقي فيها على الأرض بعد قيامته.
وَهُمْ مُتَّكِئُونَ أي وهم يأكلون وهذا يدل على أنهم لم يتفرقوا بل بقوا عصابة واحدة تأكل من مائدة واحدة مع ذهاب رئيسها عنها ويأسها من رجوعه. وربما كان الظهور الذي ذكره مرقس هنا عين الظهور الذي ذكره لوقا في ص ٢٤: ٣٦ - ٤٣.
وَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ أي وبخهم على أنهم لم يؤمنوا بقيامته. وحق عليهم ذلك التوبيخ لأنه كان لهم أنباء كثيرة بها وهي ما سمعوا من لسانه. وشهادة الملائكة الذين أرسلوا إليهم (ع ٥ و٦). وشهادة النساء (ع ٨). وشهادة مريم المجدلية بأنها رأته حياً بعد موته (ع ١١). وشهادة التلميذين اللذين كانا ذاهبين إلى عمواس (ع ١٣). ومع كل ذلك لم يقتنعوا بأنه قام. فأخطأوا جميعاً في ذلك لا توما فقط. والأرجح أن توبيخ المسيح لهم لم يقترن بالغضب بل بالحزن.
قَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ تُنسب القساوة إلى قلب الإنسان إذا لم يقتنع بالبراهين الكافية. لأن ذلك يكون غالباً مما اعتاده الإنسان من المبادئ والآراء السابقة (ص ٨: ١٧). ولما سمعوه يخاطبهم بلهجته لم يمكنهم أن يبقوا في ريبهم وقساوتهم.
لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا وبخهم المسيح على عدم تصديقهم مع وفرة الشهادات بقيامته وصحة البراهين على حقيقة وقوعها.
١٥ «وَقَالَ لَهُمُ: ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَٱكْرِزُوا بِٱلإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا».
متّى ٢٨: ١٩ ويوحنا ١٥: ١٦، كولوسي ١: ٢٣
وَقَالَ لَهُمُ ربما قال لهم ذلك في اجتماع غير الاجتماع المذكور في العدد السابق. وهذه هي المرسلية العظيمة التي أوصى بها المسيح تلاميذه بعد قيامته. وذكرها متّى في آخر بشارته (متّى ٢٨: ١٦ - ٢٠).
ولم يتحقق أن وقت الوصية التي ذكرها مرقس هو وقت الوصية التي ذكرها متّى. والمعلوم من قول متّى أن ما ذكره قيل في الجليل ومرقس لم يعين الموضع. ولا عجب من أن المسيح قال ذلك في أورشليم لبعض التلاميذ ثم قاله لكل التلاميذ في الجليل بعد ذلك. ومرقس اختصر الأنباء بتلك المرسلية العظمى بقطع النظر عن زمانها ومكانها. وظن البعض أن مرقس جمع هنا مضمون ما قاله المسيح في ثلاثة اجتماعات وهي الاجتماع بالأحد عشر (متّى ٢٤: ٣٦ - ٣٩). والاجتماع على الجبل في الجليل (متّى ٢٨: ١٦ - ٢٠). والاجتماع وقت صعوده إلى السماء وهو الذي ذُكر في هذا الأصحاح ع ١٩ وفي آخر بشارة لوقا في الأصحاح الأول من سفر الأعمال.
ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ انظر الشرح متّى ١٣: ٣٨ و٢٨: ١٩.
وجّه المسيح أولاً قوله «اذهبوا إلى الرسل» فكان عليهم أن يذهبوا إلى أبعد ما يستطيعون الوصول إليه من الأماكن للتبشير بالإنجيل. ولكن بما أنه لم يكن في طاقتهم إلا أن يبلغوا جزءاً صغيراً من الأرض في مدتهم القصيرة وبما أن العالم كله محتاج إلى الإنجيل في كل عصر كان ذلك الأمر بالضرورة موجهاً ثانية إلى كل الكنيسة في كل عصر. وقد ظهر من ذلك أن إرادة رب الكنيسة كنيسته أن تكون كنيسة مرسلية قائمة ببشرى الخلاص وحاسبة إياها من أول واجباتها.
ونستنتج من قوله «اذهبوا... واكرزوا» أنه لا يكفي أن نبشر الذين يأتون إلينا طالبين الإرشاد بل يجب علينا أن نفتش عن الضالين والجاهلين طريق الخلاص ونعلمهم ونرشدهم.
ٱكْرِزُوا بِٱلإِنْجِيلِ أي نادوا بالبشارة السارة وهي أن يسوع الذي صُلب قد قام من الموت وهو حي ومستعد أن يخلص كل من يأتي إليه. وقوله «اكرزوا بالإنجيل» كقوله «تلمذوا» لأن الإنجيل هو الواسطة الوحيدة للتلمذة. ويلزم من أمر المسيح تلاميذه بتلك الكرازة أنه لم يبق أدنى شك في قيامته. ومناداتهم لم تكن إلا عن يقين تام.
لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا أي لجميع الناس من كل الصنوف بقطع النظر عن رتبهم وألوانهم وبلادهم وتمدنهم وعصورهم. وقول مرقس «للخليقة كلها» أعم من قول متّى «جميع الأمم» وهو أعم من أمر المسيح لتلاميذه في أول إرسالهم للتبشير. لانه لم يرسلهم يومئذ إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (متّى ١٠: ٦) وأما هنا يأمرهم بتبشير الجنس البشري الضال.
ولم يعلن قبل ذلك دين عام يوافق كل صنوف البشر. ولا دليل على أن أحداً من الناس ظن ذلك ممكناً.
١٦ «مَنْ آمَنَ وَٱعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ».
يوحنا ٣: ١٨ و٣٦ وأعمال ٢: ٣٨ و١٦: ٣٠ - ٣٢ ورومية ١٠: ٩ و١بطرس ٣: ٢١، يوحنا ١٢: ٤٨
هذا إعلان المسيح بالتعليم الجوهري وهو أن الخلاص بالإيمان. وقرن المسيح الأمر بالتبشير بالإنجيل بالوعد بأفضل البركات وهو الخلاص. والوعيد بشر النازلات وهو الهلاك وكل ذلك شرط على كل بشر. فلا يستطيع أحد أن يسمع الإنجيل إلا بأن يكون له إما رائحة حياة للحياة وإما رائحة موت للموت.
مَنْ آمَنَ أي من صدّق أن يسوع الناصري هو ابن الله وأن هذا المصلوب قام وصار قادراً على تخليص كل من يؤمن به ويقبله مخلصاً. فالإيمان بالإنجيل كالإيمان بالمسيح فالذي يؤمن بأن الإنجيل حق وأنه من الله ويقبل الخلاص المنادى به فيه يقبل المسيح لأن خلاصة الإنجيل الشهادة ليسوع (رومية ٤: ٢٤ و١يوحنا ٥: ٩ - ١٣). وأبان متّى بما نقله عن المسيح الأعمال التي تقترن بالإيمان وهو قوله «وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (متّى ٢٨: ٢٠).
وَٱعْتَمَدَ انظر الشرح متّى ٢٨: ١٩.
وذكر هنا وجوب العماد لأنه إقرار علني بإيمان القلب. فكأنه قال الذي يؤمن بي ويقر بإيمانه قدام الناس يخلص. ولأن المسيح أمر بالمعمودية وجب أن ينظر إليها كأمر ذي شأن. ومن استحى أن يقر بالمسيح على هذا الأسلوب فليذكر قوله تعالى «لأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي، فَبِهٰذَا يَسْتَحِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ ٱلآبِ وَٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ» (لوقا ٩: ٢٦). فالذي يؤمن بالمسيح يرغب في أن يطيع هذا الأمر وسائر أوامرّ الرب. وإهمال هذا الأمر حين استطاعة القيام به يدل على عدم الإيمان الحقيقي لأن هذا الإيمان يقود إلى الطاعة أبداً. وحين لا يستطيع العماد مع وجود الإيمان يقبل الإيمان وحده فإن اللص آمن بالمسيح على الصليب ولم يعتمد ومع ذلك ذهب إلى الفردوس وكثيرون من الشهداء قتلوا قبل أن يتعمدوا. فمعمودية الماء إشارة إلى معمودية الروح أي تجديد القلب الذي بدونه لا يرى أحد ملكوت الله (يوحنا ٣: ٣). وهي أيضاً ختم عهد الله مع المؤمنين فحلّت محل الختان الذي هو ختم ذلك العهد مع إبراهيم ونسله (تكوين ١٧: ٩ و١١).
خَلَصَ أي نجا من الإثم وسلطة الدينونة وعقابها.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ رفض الإنجيل للاعتقاد بأنه كاذب علة الهلاك الأبدي لأنه رفض المسيح الذي ليس بغيره الخلاص. وهذا وفق ما قيل في يوحنا ٣: ١٨ و١٩ و١٥: ٢٢ وعبرانيين ٢: ٣. ولم يقل هنا على عدم العماد ما قيل على عدم الإيمان. فعدم الإيمان يهلك أبداً ولكن عدم العماد لمانعٍ ليس كذلك ولا يمنع من الخلاص إن وُجد الإيمان.
يُدَنْ سبق تفسير ذلك في الشرح متّى ٢٤: ٥١ و٢٥: ٣٠ و٤٦ ومرقس ٩: ٤٣ - ٤٩. والمعنى أن الخاطئ الذي لا يؤمن يُترك للدينونة التي تحق عليه لأجل خطاياه ولا يشترك في الخلاص الذي اشتراه المسيح بدمه.
١٧ «وَهٰذِهِ ٱلآيَاتُ تَتْبَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ ٱلشَّيَاطِينَ بِٱسْمِي، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ».
لوقا ١٠: ١٧ وأعمال ٥: ١٦ و٨: ٧ و١٦: ١٨ و١٩: ١٢، أعمال ٢: ٤ و١٠: ٤٦ و١٩: ٦ و١كورنثوس ١٢: ١٠ و٢٨
ما قاله سائر البشيرين إجمالاً قاله مرقس هنا تفصيلاً.
وَهٰذِهِ ٱلآيَاتُ تَتْبَعُ كل الأدلة تبين أن ما وعد المسيح به هنا كان مقصوراً على وقت تأسيس كنيسته وأنه لم يفعل أحد من المؤمنين شيئاً من المعجزات بعدما أُسست الكنيسة. لكن نهاية وقت المعجزات لم تُعلم تمام العلم. ولا برهان على أن السلطان على صنع العجائب بقي في الكنيسة بعد القرن الأول. وجاء الكلام على بيان تلك الآيات في إنجيل يوحنا ١٤: ١٢ وأعمال الرسل ٤: ٢٩ و٣٠ وفي الرسالة إلى العبرانيين ٢: ٤. والكنيسة اليوم لا تحتاج إلى المعجزات لأن نجاح دين المسيح في العالم أعظم برهاناً على صحته من كل المعجزات.
ٱلْمُؤْمِنِينَ يتبين من هذا أن عمل المعجزات لم يقصر على الرسل بل كان لغيرهم من المؤمنين أيضاً لأجل إثبات دين المسيح وتأسيس كنيسته. ويظهر منه أيضاً أن كل المؤمنين يكونون شهوداً للحق لأنه وُهبت لهم قوة صنع العجائب إثباتاً لشهادتهم. ولا يلزم من القول هنا أن كل المؤمنين يستطيعون أن يصنعوا كل المعجزات التي ذُكرت في هذا الأصحاح. ولكن المعنى أن الواحد يفعل بعضها والآخر غيره حسب الحاجة إلى إثبات الشهادة.
بِٱسْمِي أي بقوتي وسلطاني وبكونكم مسميّن باسمي وسائلين معونتي ومدعين أنكم تفعلون ما تفعلونه بأمري وهذا موافق لما قيل في لوقا ١٠: ١٧ وأعمال ٣: ٦ و١٦ و٥: ١٢ و٨: ٥ - ١٣ و٩: ٣٢ - ٣٥ و٤٠ و١٤: ٣ - ١٠.
يُخْرِجُونَ ٱلشَّيَاطِينَ اتخذ مرقس في كل بشارته إخراج المسيح للشياطين أعظم البراهين على أن يسوع هو ابن الله لأن ذلك دليل على أن سلطانه ممتد إلى نوع من الخلائق ليسوا من أهل الأرض ولا من الجنس البشري (متّى ١٢: ٢٨). وأنجز المسيح وعده للتلاميذ وذلك جلي في سفر الأعمال (أعمال ٥: ١٦ و٨: ٧ و١٦: ١٦ - ١٨ و١٩: ١١ و١٢).
وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ أي بلغات لم يعرفوها قبل التكلم بها. وذلك واسطة لتوزيع البشارة فوق كونه آية على صحة مرسليتهم. وقد تم ذلك في يوم الخمسين وغيره (أعمال ٢: ٤ و١٠: ٤٦ و١كورنثوس ١٢: ١٠ و٢٨ و٣٠ و١٤: ٥ و٦ و٢٢ و٢٦).
١٨ «يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ، وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ، وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى ٱلْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ».
لوقا ١٠: ١٩ وأعمال ٢٨: ٥، أعمال ٥: ١٥ و١٦ و٩: ١٧ و٢٨: ٨ ويعقوب ٥: ١٤ و١٥
يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ نجز هذا الوعد في ما جاء من نبإ بولس الرسول أعمال ٢٨: ٣ - ٥ (قابل ذلك بما جاء في لوقا ١٠: ١٩).
وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ ليس في الإنجيل من أمثلة لإنجاز هذا الوعد (لكن في العهد القديم مثالاً واحداً لذلك ٢ ملوك ٤: ٤١) وليس من الغريب أنه حدث فعلاً ولم نُخبر به لأن أخبار الكنيسة في القرن الأول مختصرة جداً. ولا ريب في أن الرسل كانوا في جولاتهم بين الأعداء عرضة لأنواع مختلفة من الخطر. ونعلم من التواريخ الدنيوية أن الناس في ذلك العصر اعتادوا أن يسمّوا أعداءهم إخفاء لشرهم.
وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ الخ أمثلة ذلك كثيرة في العهد الجديد من ذلك ما في هذه المواضع (أعمال ٣: ٧ و٢٨: ٨ و١كورنثوس ١٢: ٩). وفي رسالة يعقوب إشارة إلى استعمال هذا السلطان (يعقوب ٥: ١٤ و١٥). ووهب المسيح للرسل هذه القوة في بدء إرساله إياهم ص ٩: ١٣.
صعود المسيح إلى السماء ع ١٩ و٢٠
١٩ «ثُمَّ إِنَّ ٱلرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ٱرْتَفَعَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ».
أعمال ١: ٢ و٣، لوقا ٢٤: ٥١، مزمور ١١٠: ١ وأعمال ٧: ٥٥
ثُمَّ «ثم» هنا حرف ابتداء واقع في ابتداء خاتمة هذه البشارة.
ٱلرَّبَّ هو يسوع المسيح ولم يسمه في مرقس به قبل ذلك إلا في أمر يسوع لتلاميذه (ص ١١: ١٣). واستعملها هنا لزيادة التعظيم والإكرام لأن قيامة المسيح أثبتت استحقاقه الربوبية.
بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ بالكلام المتعلق بمرسليتهم ووعده لهم بالمعونة الإلهية كما ذُكر آنفاً وبكلام آخر لم يذكره مرقس وذكرها غيره من البشيرين (لوقا ٢٤: ٤٥ و٤٦ - ٥٠ وأعمال ١: ٤ - ٨). وترك مرقس ذكر المدة بين قيامة المسيح وصعوده إلى السماء. ولم يذكر الموضع الذي صعد منه. ومتّى لم يذكر الصعود البتة ولا وعد المسيح للرسل ثانية بالآيات والمعجزات. وكان صعود المسيح بعد أربعين يوماً من قيامته (أعمال ١: ٣) وهو آخر معجزات المسيح المتعلقة بحضوره المنظور على الأرض. والموضع الذي صعد منه هو جبل الزيتون في بيت عنيا أو في القرب منها (لوقا ٢٤: ٥).
ٱرْتَفَعَ لوقا ٢٤: ٥١ وأعمال ١: ٩ و١١.
ٱلسَّمَاءِ أي المحل الأسنى حيث يُظهر الله حضوره وجلاله للقديسين والملائكة. وفيه الآن جسد المسيح المجيد ويبقى هناك إلى مجيئه الثاني (أعمال ٣: ٢١).
وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ أي موضع العظمة والسلطان (أعمال ٢: ٣٣) ولم يذكر هذا سوى مرقس لأنه كتب إنجيله ليظهر وقار يسوع وسلطانه ومجده الملكي وكونه موضوع تسبيح الناس والملائكة وسجودهم.
وصعود المسيح إلى السماء تتمة قيامته. وبعد أن أكمل المسيح كل ما هو ضروري لفداء الخطاة وغلب ملكوت الظلمة والموت رجع إلى المجد الذي كان له قبل تجسده وأخلى نفسه لأجل عمل الفداء (يوحنا ١: ١٨ و٣: ١٣ وفيلبي ٢: ٧ و٨). واثيب في العلاء بإكرام جديد على اتضاعه الاختياري وطاعته (ص ١٢: ٣٦ ومزمور ١١٠: ١ وكولوسي ٣: ١ وعبرانيين ١: ٣ و١٣ و٤: ١٤ و٦: ٢٠ و٨: ١ و٩: ٢٤ و١٠: ١٢ و١٢: ٢ و١بطرس ٣: ٢٢ ورؤيا ٣: ٢١).
وقد ذُكر في بعض أسفار العهد الجديد ما يفعله وهو على يمين الله (يوحنا ١٩: ٣ وأعمال ٢: ٣٣ و٦: ٥٦ وأفسس ١: ٢٠ وكولوسي ٣: ١).
وقيامة المسيح وصعوده عربون قيامة كل المسيحيين وارتفاعهم إلى السماء لأنه حيث الرأس هناك الأعضاء وفقاً لقول المسيح «حَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي» (يوحنا ١٢: ٢٦).
٢٠ «وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَٱلرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ ٱلْكَلاَمَ بِٱلآيَاتِ ٱلتَّابِعَةِ آمِينَ».
أعمال ٥: ١٢ و١٤: ٣ و١كورنثوس ٢: ٤ و٥ وعبرانيين ٢: ٤
فَخَرَجُوا أي الرسل وكان خروجهم من أورشليم أولاً وذهبوا إلى العالم أجمع. ولم يقصد مرقس بذلك خروجاً مخصوصاً في وقت واحد. لكنه عني نبأ عاماً بأعمال الرسل من ذلك الوقت بعد حلول الروح القدس عليهم وتفرُق أعضاء كنيسة أورشليم إلى نهاية حياتهم. وذلك الخروج وفق أمر المسيح (لوقا ٢٤: ٤٩ وأعمال ١: ٤).
كان الرسل حينئذ قد زالت كل شكوكهم في قيامة المسيح وتحققوا صحة دعواه الإلهية وقبلوا المرسلية ذات الشأن منه وقوة جديدة على صنع المعجزات إثباتاً لرسوليتهم. ومن ذلك الوقت أخذوا ينجزون ما أمرهم المسيح به أخيراً.
فِي كُلِّ مَكَانٍ يدل هذا على سرعة توزيع الإنجيل في أول عهده. وتفصيل أنباء ذلك التوزيع في أعمال الرسل وبعضه في الرسائل. وامتدت بشرى الخلاص حين كتب مرقس إنجيله من رومية غرباً إلى بابل شرقاً على الأقل. وبلغت بعد ثلاثين سنة من صعود المسيح أقاصي المملكة الرومانية وذلك نحو كل المسكونة يومئذ.
ٱلرَّبُّ سماه هنا ذلك كما سماه به في ع ١٩ إشارة إلى أنه قام وصعد وتمجد.
يَعْمَلُ مَعَهُمْ حسب وعده في ع ١٧ و١٨ وموافقة لقوله «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متّى ٢٨: ٢٠). فصعود المسيح عن الرسل لم يخسرهم إلا حضوره معهم بالجسد لأنه بقي معهم بالروح وأظهر حضوره الروحي بإجراء المعجزات. والعمل ابتدأه المسيح بإتيانه إلى العالم طفلاً منذ ما ينيف على ثلاث وثلاثين سنة قبل ذلك ومارسته جهاراً نحو ثلاثين سنة ونصف سنة منها بقي يمارسه على أيدي الرسل أولاً ولم يزل يمارسه إلى اليوم بواسطة خدمه الأمناء.
يُثَبِّتُ الذي ثبته أي بيّن صدقه وصحته هو الإنجيل الذي نادوا به.
بِٱلآيَاتِ ٱلتَّابِعَةِ أي المعجزات المذكورة في ع ١٧ و١٨.
آمِينَ أي ليكن ذلك. وهذه الجملة يحسن أن تكون جواب الكنيسة لربها عند أمره بتوزيع بشرى الخلاص ووعده بحضوره معها.
Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D-70007
Stuttgart
Germany