الأصحاح السادس
١ «اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
تثنية ٢٤: ١٣ ومزمور ١١٢: ٩ ودانيال ٤: ٢٧ و٢كورنثوس ٩: ٩، ١٠
قارن المسيح في الأصحاح السابق البر الحقيقي ببر الكتبة والفريسيين من جهة بعض المبادئ الأخلاقية العظيمة، وأخذ هنا في مقارنة كيفية عبادتهم بكيفية العبادة التي يطلبها الله من جهة الصدقة والصلاة والصوم.
اِحْتَرِزُوا إشارة إلى وجود خطر الضلال من سوء تعليم الكتبة والفريسيين وعملهم، وإلى ضرورة إجراء أعمال العبادة حسب العادة. فالخطية التي يحذر تلاميذه منها هي الرياء الذي يدنس أخلاق الإنسان، ويهلك نفسه. ومحبة المدح من الناس تدخل القلب خفية، وتوقع الإنسان في خطر شديد، فتصير أول غايات حياته، وهو لا يشعر بذلك.
قُدَّامَ ٱلنَّاسِ بغية أن يروا صدقتكم ويمدحوكم عليها. لأنه يجب أن لا نعمل شيئاً من أعمالنا الدينية لننال مجداً من الناس. نعم قد يحدث أنهم يرونها صدفةً، أو أنها تُصنع أمامهم عمداً (متّى ٥: ١٦). ولكن لا يجوز أن يكون قصدنا أن نريهم ما نعمله.
وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ هذا نتيجة قوله «احترزوا» لأنه لا ينتظر بركة إلهية ولا مجازاة من الله ولا خير للنفس من العبادة التي غايتها المدح من الناس والتباهي.
عِنْدَ أَبِيكُم أعني في قصده. فلا شيء مكنوز عنده لكم. لأن غاية هذه العبادة ليست إكرامه. فلا يُعتبر من يقدمها مستحقاً شيئاً من ذلك.
ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَات تمييزاً عن الوالدين البشريين.
٢ «فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِٱلْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي ٱلأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ ٱلنَّاسِ. ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ».
فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً صُنع الصدقات واجب على كل إنسان يقول إنه يعبد الله.
فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِٱلْبُوقِ ليس المقصود أن الفريسيين كانوا يصوتون ببوق حقيقة عندما كانوا يوزعون إحساناتهم، بل أراد توبيخهم على خطية إعطاء الصدقة بقصد الافتخار والتظاهر بالكرم. فكأنه قال: لا تعطِ صدقة وأنت كقائد جيش ذاهب للحرب، أو كملك أمام شعبه يتقدمه بوق ينبِّه الناس إليه.
ٱلْمُرَاؤُونَ المدَّعون بفضيلة ليست فيهم، والمتظاهرون بخلاف ما في قلوبهم، كأن صنيعهم ناتج عن محبة الفقير، ولا أثر للمحبة فيهم. ولا شك أن المسيح أراد بكلامه هذا الكتبة والفريسيين وإن لم يذكر اسمهم. ولا بد أن السامعين عرفوا أن هذا اللقب يصدق عليهم.
فِي ٱلْمَجَامِعِ أماكن العبادة (انظر الشرح متّى ٤: ٢٣) حيث تكثر الشهود الذين ينظرون تقواهم الظاهرة.
وَفِي ٱلأَزِقَّةِ حيث يكثر الناس فتكون الفرصة مناسبة لإظهار كرمهم. ففي الموضعين (المجمع أو الزقاق) يجتمع الناس للعبادة أو للأعمال، علينا أن ننتبه فلا نكن مرائين.
لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ ٱلنَّاسِ ليتعجب الناس منهم ويمدحوا سخاءهم. فهذه الغاية الفاسدة المقصودة بصدقتهم جعلتها بلا فائدة عند الله ومكروهة في عينيه.
قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ نالوا كل ما يمكن أن ينالوه، وليس لهم حق أن ينتظروا شيئاً بعد، لأن أجرهم مجد الناس الزائل. طلبوه فلا يأخذون غيره. وبما أنهم لم يطلبوا المجد الذي من الله وحده لم يمنحهم إياه.
وفي هذا العدد والعدد ٥، ٢٣، ٢٩، ٣٦، ٣٩ يستعمل المسيح صيغة المفرد بدلاً من صيغة الجمع ليوجه كلامه إلى كل فرد.
٣ «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ».
فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُك مَثَلٌ يُضرب في إخفاء أمر. ولا يمكن أن نتصور كتمان سر أشد من هذا، وهو أن عضواً من أعضاء الإنسان لا يشعر بحركة غيره من الأعضاء. ويستعمل المسيح هذا المثل ليشير إلى وجوب اجتناب الشهرة في ممارسة واجباتنا الدينية، وليس لينهى المسيحي عن أن يشترك علانية في فعل الخير عندما يكون قصده أن يجعل نوره يضيء قدام الناس، ليتمجد الله. ولا لينهى عن طبع عطايا الجمعيات الخيرية في الجرائد. إنما ينهى عن التباهي بتلك الواجبات بقصد نوال المجد من الناس، وعن لذة الفخر بما فعلناه من الصدقة بقصد نوال المدح الذاتي. فيجب أن نجتهد في أن ننسى ذلك كما نسيه الصالحون الذين ذكرهم بقوله «فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟» (متّى ٢٥: ٣٧).
٤ «لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً».
لوقا ١٤: ١٤
لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ فتتميز عن صدقة الكتبة والفريسيين. فاصنعها لله طوعاً لأمره لترضيه وتنال بركته.
فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يرى ما صُنع في الخفاء كما يرى ما صُنع جهاراً. فيجب أن نتذكر في كل خدمة دينية أن الله يفحص القلب ويعلم كل شيء ويعرف غاياتنا في كل أعمالنا. وهو لا ينظر إلى مكانة المعطي بل إلى روحه. فليست الفضيلة بالعمل الخارجي، بل بالدافع وراء هذا العمل. فالله ينظر إلى أعمالنا الصالحة بقدر ما نخفيها عن الناس.
يُجَازِيك (تكوين ١٥: ١ وعبرانيين ١١: ٦). يجازي الله على فعل الخير وإنكار الذات في إخفاء العمل عن نظر الناس وعن مدحهم. على أن أفضل أعمالنا لا تستحق المجازاة. لكن الله في رحمته وتنازله يرضى أن يجازينا عليها، فتكون المجازاة من النعمة لا من الاستحقاق.
عَلاَنِيَةً أي يوم الدين أمام الملائكة والناس، إن لم يكن قبل ذلك، لأنه أحياناً يجازي في هذه الحياة بمنحه النجاح في الأمور الدنيوية فإنه «مَنْ يَرْحَمُ الْفَقِيرَ يُقْرِضُ الرَّبَّ، وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيهِ» (أمثال ١٩: ١٧) وهو يجازي العبد الصالح دائماً بأن يجعل ضميره يمدحه.
ملحوظة: في بعض النسخ لا توجد كلمة «علانية». وربما زيدت ليكسب الكلام قوة أكثر.
٥ «وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ».
وَمَتَى صَلَّيْتَ لم يأمر المسيح بالصلاة هنا، بل حسب ذلك أمراً مسلماً به عند تلاميذه، ليس طاعةً لأمره الصريح، ولا لأن الصلاة واسطة لازمة للنمو الروحي، بل كأمر ينتج من حياة النفس الجديدة، كالتنفس من الحياة العادية. وجعل قانون الصدقة المذكور آنفاً قانوناً للصلاة أيضاً. أي أننا نقصد بها أن يسمعنا الله لا الناس. ومن صلى بخلاف هذا القانون يُظهر إنه مراءٍ يتظاهر بأنه يعبد الله بغية رضاه، وغايته بالحقيقة هي مدح الناس.
فَلاَ تَكُنْ كَٱلْمُرَائِينَ ينهى المسيح تلاميذه عن أن يشابهوا المرائين أو الكتبة والفريسيين، وينتظر منهم أن لا يشابهوهم.
فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ أي أنهم يسرون بالمجاهرة في الصلاة أمام الناس. وقول المسيح هذا يتضمن أنهم لا يمارسون الصلاة الانفرادية البتة، ولا يحبون الصلاة إلا لأنها واسطة تظاهرهم بالتقوى أمام الناس.
فِي ٱلْمَجَامِع لا يذكرها المسيح كأنها ليست أماكن موافقة للعبادة، فإنها بُنيَت لهذه الغاية، بل لأنهم قصدوها لتراهم الجموع هناك، لا ليعبدوا الله فيها.
فِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ لأنها أكثر مناسبة للاشتهار. فالذين يختارون مثل هذه الأماكن للصلاة يظهرون أن غايتهم مدح الناس لا رضى الله. وقوله «قائمين» لا يدل على زيادة الرياء، لأن الوقوف كان من عادة اليهود وهم يصلون. وأمر واضح أن المسيح لا ينتقد هيئة الساجدين، ولا مكان الصلاة، بل روح الساجدين في هذه الأماكن وغايتهم.
لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاس يعبدون الله ليُخبروا الآخرين بعبادتهم، فيمدحهم الناس. وهذا كل همهم بدلاً من أن يسعوا لرضا الله عنهم.
٦ «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً».
ملاخي ٤: ٣٣
فَمَتَى صَلَّيْت يبين المسيح لنا الطريق التي بها يقدم المسيحي الحقيقي الصلاة المقبولة.
فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ بدلاً من الصلاة قدام الناس لينظروك ادخُل إلى موضع الانفراد. «مخدعك» أي المكان المختص بك أو تحت مطلق تصرفك. فالصلاة على انفراد تعين الإنسان على ضبط أفكاره، وتمكنه من التعبير عنها.
وَأَغْلِقْ بَابَكَ ليس المقصود أن هذه الأعمال الخارجية ضرورية للصلاة المقبولة، بل المقصود هو الانفراد التام. فالغاية من غلق الباب منع دخول العالم إلى أفكارنا. وخلاصة الأمر وغايته هو أن نجتمع مع الله وحدنا فيمكن أن يكون ذلك في الحقل كما صلى إسحاق (تكوين ٢٤: ٦٣) أو تحت تينة كصلاة نثنائيل (يوحنا ١: ٥٠) أو على السطح كصلاة بطرس (أعمال ١٤: ٩) أو على الجبل كما فعل المسيح (مرقس ٢: ٤٦ ويوحنا ٦: ٥) أو في جثسيماني (لوقا ٢٢: ٤١). وأما ما جاء في لوقا ١٨: ١٠ فيظهر فيه أن الهيكل للفريسي كزوايا الشوارع، وللعشار كمخدعه.
وجود مكان معين للانفراد في الصلاة يساعدنا كثيراً على تقديم صلواتنا بالصواب.
وَصَلِّ إِلَى أَبِيك ليسمع صلاتك لا ليراك الناس.
فِي ٱلْخَفَاءِ أي في السر فلا يراك أحد من الناس.
فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يظهر من هذه الكلمات أن المسيح يتكلم عن الصلاة الانفرادية لا العائلية والجمهورية اللتين لا بد منهما، وقد أمر بهما. يرى الله ما لا يقدر أن يراه الإنسان. يرى غايات الإنسان الحقيقية في الصلاة وأشواق قلبه.
يُجَازِيك الجزاء (كما في ع ٤) نعمة لا استحقاق. وهو قبول الصلاة ونوال الطلب إن كان يؤول إلى مجد الله وخيرنا.
عَلاَنِيَة أي أمام الناس في العالم، وأمام الملائكة والناس في العالم الآتي.
لا يذكر المسيح عدد المرات التي يجب أن يصليها تلاميذه كل يوم، لئلا تصير عبادتهم طقسية، بل ترك ذلك بدون تعيين لتكون صلواتهم اختيارية ناتجة عن محبتهم له وشعورهم باحتياجهم إليه. ولم يأمرنا بإطالة الصلاة. فيجب أن يكون طولها وقصرها حسب مقتضى الحال، والاحتياج، والشعور، والواجبات.
٧ «وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا ٱلْكَلاَمَ بَاطِلاً كَٱلأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَـهُمْ».
جامعة ٥: ٣ و١ملوك ١٨: ٦٦ و٣٩ وأمثال ١٠: ١٩ وجامعة ١٠: ١٤
بعدما حذر المسيح تلاميذه من ضلال الكتبة والفريسيين في الصلاة، معلناً لهم وجوب أن تقدم لله لا لمدح الناس، يحذرهم من العادات الوثنية في الصلاة الباطلة. ولعله نقله الكلام من المفرد إلى الجمع لأنه قصد أن يتكلم عن الصلاة الجمهورية، لأنه كان يشير به إلى الصلاة الانفرادية.
لاَ تُكَرِّرُوا ٱلْكَلاَم في الكتاب المقدس مثلان من عادة الأمم في تكرير الصلاة: (١) ١ملوك ١٨: ٢٦ حيث صرخ كهنة البعل من الصبح إلى الظهر قائلين «يا بعل اسمع! يا بعل اسمع!». و(٢) أعمال ١٩: ٣٤ حيث صرخ الأفسسيون عبدة أرطاميس مدة ساعتين «عظيمة هي أرطاميس الأفسسيين». فقد تمثل معلمو اليهود بالوثنيين حتى قيل إنهم اعتادوا أن يقف الواحد منهم ثلاث ساعات متوالية كل يوم يصلي مكرراً طلباته أكثر الوقت.
بَاطِلاً لا يلوم المسيح التكرار، بل التكرار الباطل، أي الكلمات التي تقال تكراراً وبلا فكر. فيجوز لنا أن نكرر طلباتنا إن فعلنا ذلك من غيرتنا في الصلاة ولجاجتنا بالاحترام. ومثال ذلك في صلاة المسيح في جثسيماني وصلاة الأرملة (لوقا ١٩: ١ - ٨) والكنيسة لأجل بطرس (أعمال ١٢: ٥).
لم ينه المسيح عن كثرة الصلاة بل عن كثرة الكلام، فإنه هو عينه قضى الليل كله في الصلاة. فلا ننتظر إجابة صلواتنا بداعي طولها وكثرة كلامها، لأنه مهما كانت جيدة بذاتها ان قُدمت بلا فكر وبلا شوق فليست إلا تكريراً باطلاً.
َإِنَّهُمْ يَظُنُّون بُنيت هذه العادة الفاسدة على زعم الناس أن الصلاة طلسم سحري، لا خدمة القلب العقلية، وأنها بحد ذاتها تنفع من يقدمها، ولا سيما إذا كُررت. فدخلت هذه الضلالة في الكنيسة المسيحية في القرون الأولى، كأن غاية الصلاة تغيير أفكار الله، أو إخباره بشيء يجهله.
٨ «فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ».
فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ لأن تكرار الكلمات في الصلاة عادة وثنية مبنية على أوهام.
لأَنَّ أَبَاكُمْ يذكرهم المسيح بعلاقتهم البنوية بالله، فهو يحبهم ويشفق عليهم ويطلب خيرهم كوالد، لأنه «كما يترأف الآب على البنين يترأف الرب على خائفيه» (مزمور ١٠٣: ١٣).
يَعْلَمُ نتجت تلك العادة الباطلة من زعمهم أن الله لا يعلم احتياجاتنا إلا بواسطة تكرار طلباتنا دائماً. فليس للمسيحي حجة الوثني الذي جهل أن الله بكل شيء عليم، لأنه أعلن للمسيحي أنه يعرف كل شيء وأنه «قَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ» (أفسس ٣: ٢٠).
قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ إن كانت غاية صلاتنا أن نخبره بما يجهله فلا حاجة إليها، ولا حاجة إلى تكرارها مرات عديدة لهذه الغاية. ولم يقصد المسيح هنا أن يعلمنا كل شيء يتعلق بالصلاة، لأن ذلك موضَّح في أماكن أخرى من الكتاب المقدس، وإنما قصد أن يحذرنا من الضلالة في الصلاة.
وما أعظم التعزية من أن الله يعلم احتياجاتنا أحسن ما نعبر عنها بطلباتنا الضعيفة. ولكن معرفة الله بها لا تغني عن الصلاة. لأن الشرط لنوال أكثر بركاتنا هو أن نطلبها. قال المسيح «إن أباكم يعلم احتياجاتكم قبل أن تصلوا» ولم يقل «انه يمنحكم ما تحتاجون إليه بدون أن تصلوا». فنصلي عبادةً لله، لا لنخبره بأشياء لأنه هو يعلم كل شيء.
بُنيت مواعيد الله على شرط أن نسألها . فطلباتنا تظهر شعورنا باحتياجاتنا وثقتنا به، ولذلك يسرُّ الله بها (حزقيال ٣٦: ٣٧) وهي تؤهلنا لقبول البركة، فبناءً عليه هي لائقة بالله ولازمة لنا. ولنا أدلة على أنها شرط لنوال البركة (انظر متّى ١٨: ١٩ و٢١: ٢٢ ولوقا ١١: ١٣ ويوحنا ١٤: ١٣ وعبرانيين ٤: ١٦).
٩ «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هٰكَذَا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ».
لوقا ١١: ٢ الخ
لم يكتف المسيح بتحذيرنا من الضلالات في الصلاة، فقدَّم لنا مثالاً للصلاة مختصراً بسيطاً شاملاً موافقاً بدء ملكوته الجديد، ليقينا سائر الضلالات في ذلك. ولهذا لم يذكر فيه نفسه أو عمله الخاص. ويجب أن نعتبر هذا المثال وهو «الصلاة الربانية» نموذجاً في تقديم صلواتنا، لا قانوناً مرتباً للصلاة لنستعمله في كل الأحوال والأوقات. ولم يُذكر أن المسيح نفسه استعملها، ولم نقف في أعمال الرسل والرسائل على أدنى إشارة إليها كأنها قانون استعماله ضروري في العبادة. فالمسيح علمنا كيف نصلي، ولم يعلمنا ماذا نصلي. نعم إن استعمالها أمر لائق بنا ونافع لنا كثيراً في عبادتنا انفرادية والجمهورية، ولكن لسنا مقيدين بذلك.
أعطانا الرب صورة الصلاة هذه علامة لاستجابته لها، لأن الملك الذي يعطي رعاياه صورة ما يقبله يُظهر بذلك استعداده لإجابة ما يلتمسون بها.
وتشتمل هذه الصلاة على مقدمة وست طلبات وخاتمة. فالطلبات الثلاث الأولى تختص بالله، باسمه وملكوته ومشيئته. والثلاث الأخيرة بما نحتاج إليه نحن من الخبز اليومي، ومغفرة الخطايا، والحماية من التجربة والشر.
أَبَانَا تعلمنا هذه الكلمة لمن وحده يجب أن تكون الصلاة، وبأي علاقة نقترب إليه. وقد تسمى الله بهذا الاسم في العهد القديم (إشعياء ١: ٢ و٦٣: ١٦ وملاخي ١: ٦) ولكنه لم يُعلم تمام العلم كأب إلا بعد مجيء المسيح. فالله أبٌ لجميع الناس، بمعنى أنه خالقهم وحافظهم ينعم عليهم ويريد خيرهم، لكنه أب روحي بمعنى خاص للمؤمنين الذين دخلوا في البنوة له بواسطة إيمانهم (كولوسي ١: ٢٠ - ٢٢) فمحبته لهم محبة خاصة (رومية ٨: ١٤ وغلاطية ٣: ١٦ و١يوحنا ٣: ١).
فتعليم أبوة الله من أمجاد الإنجيل والديانة المسيحية، ولا أثر له إلا في الكتاب المقدس والكتب المبنية عليه، وقد أوضحه المسيح توضيحاً لم يعهده بشر قبل تعليمه.
ولنا في ذلك جراءة على أن نقترب إليه بالصلاة، وتأكيد أنه قادر ومستعد أن يعيننا. ومن قوله «أبانا» لا «أبي» نستنتج أنه يجب علينا أن نذكر غيرنا في صلواتنا، سواء صلينا معهم أم كنا منفردين. ويعلمنا أيضاً علاقتنا بإخوتنا المؤمنين، فنحن وإياهم أعضاء متحدون في المسيح، نكوِّن جسداً واحداً وعائلة واحدة. ويجب على كل مؤمن أن يشارك الكل في الأحزان والأفراح. وليس لأحدٍ حق دون غيره أن يدعو الله أباه، ولكن سُمح له أن يستعمل هذا الاسم كما يستعمله غيره من إخوته، نعمةً من الله.
ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ مسكن الملائكة والقديسين حيث يُظهر الله حضوره ومجده بأكثر وضوح. وكنيته «أبانا» تقربنا إليه وتحقق لنا عنايته ومحبته. وقوله «في السماوات» يرقي شأنه في أفكارنا ويجعله موقراً عندنا. وبهذا الفرق العظيم بين الأبوة الإلهية والأبوة البشرية، فإنه ليس كوالد أرضي ضعيف ومحتاج. وهذا القول يصرف أفكارنا عن الدنيا والأمور الأرضية في الصلاة إلى السماء، ويذكرنا أن هناك أبانا ووطننا وميراثنا.
يعلمنا الكتاب أن الله في كل مكان، وأنه يملأ الكون (مزمور ١٣٩: ٧ - ١٠) ومع ذلك يعبر عنه كملك عظيم كرسي مجده في السماء، وذلك ليبيِّنه إلهاً حقيقي الوجود. ووصف الله بالآب يختلف مع أفكار الوثنيين الذين آلهتهم مصنوعة من الخشب والحجر وموضوعة أمامهم، ويختلف مع أفكار الباطنيين القائلين إن الله مجرد روح الكون.
لِيَتَقَدَّسِ هذه هي الطلبة الأولى، ومعناها ليُعتبر قدوساً، ويعرفه الجميع موقراً ومرتفعاً فوق كل خلائقه.
وبدء هذه الصلاة (التي هي قاعدة كل صلواتنا) بالطلبة التي مآلها أن يتمجد الله يعلمنا أن ذلك هو الغاية العظيمة التي يجب أن نطلبها أولاً في صلواتنا، لأن كل ما يختص بنا ثانوي. ولكننا في وقت الضعف والاحتياج نسرع إلى الطلبات الشخصية أولاً.
ٱسْمُكَ رأى البعض هذا إشارة إلى مجرد اسمه «يهوه» الدال على كونه أزلياً واجب الوجود، وأنه قد دخل في عهدٍ مع الإنسان. وفهم آخرون بالاسم كل ما يعلن به الله ذاته. وقال آخرون إن معناه الله ذاته، أو صفاته كما هي معلومة عندنا بواسطة خليقته وكلامه. ومهما كان معناه فهو لا يتمجد على الأرض إلا بواسطة المسيح.
وفي هذه الطلبة نسأل أن يعرف الناس في كل مكان الإله الحقيقي، وكل صفاته المجيدة، ويعبدوه حق العبادة ويمجدوه حق المجد. وهذا كان موضوع صلوات المسيح بدليل قوله «أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ!. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضًا!» (يوحنا ١٢: ٢٨). ويمكننا أن نقدس اسم الله بقلوبنا وشفاهنا وتصرفنا.
١٠ «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ».
لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ هذه الطلبة الثانية. والمقصود بالملكوت ملكوت المسيح، ملكوت النعمة الذي نادى المخلص بأنه قد اقترب ولكنه لم يصل بعد. قد أتى بعض الإتيان إذ أخذ محل النظام الموسوي نظام الرموز والإشارات، ولم يأت تماماً بانتصاره على ملكوت الظلمة وملاشاته إياه. وقد أُجيبت هذه الطلبة في كل عصر نجح فيه الإنجيل وغلب أهل الضلال. وستُجاب تماماً عندما يأتي الملك يسوع ثانيةً. فتتضمن خيرات خاصة وخيرات عامة، لأن خير العالم متعلق بمجيء ملكوت المسيح. ومن أول واجباتنا أن نرغب في تقدم هذا الملكوت في العالم، ونصلي ونتعب لأجل ذلك.
لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ أي مشيئة الله كما هي معلنة في أوامره وأعمال عنايته، وهذه الطلبة تعلمنا أن يكون خضوعنا لمشيئة الله اختيارياً وبسرور. وهذا يتضمن فقط الخضوع فعلاً لمشيئة الله، وميل نفوسنا إلى إتمام مشيئته لا مشيئتنا. فمشيئته المعلنة في أوامره يجب أن تكون دستور أعمال كل خلائقه.
وفي هذه الطلبة نسأل الله أن يقدرنا نحن وجميع الناس أن نعمل كل ما يريده ويأمر به، وأن الجميع يعرفون تلك المشيئة ويقبلونها ويطيعونها بلا ريب أو تذمر. وإنما يطلب المسيحيون هذه الطلبة لأنهم تيقنوا أن مشيئته عادلة ومحبة. فلتكن مشيئة الله، لا مشيئة الشيطان (يوحنا ٨: ٤٤) ولا مشيئة الناس (١بطرس ٤: ٢).
كَمَا فِي ٱلسَّمَاء كما هي عند سكان السماء الملائكة الأطهار. فإذا تممت مشيئة الله كما في السماء صارت الأرض كالسماء. فتعلمنا هذه العبارة أن يجب أن لا نكتفي بأن نتمم واجباتنا كما يتممها بقية الناس، بل أن نتممها كل التتميم كالملائكة في السماء، بالطاعة السريعة والسرور.
كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْض أي عند سكان الأرض، بتركهم الخطية، وطاعتهم لأوامر الله بنفي الظلم والسرقة والكذب والقتل والسكر والنجاسة ومحبة الذات والبغض، وإدخال البر والسلام والحق والرحمة والمحبة إليها.
١١ «خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ».
أيوب ٢٣: ١٢ ومزمور ١٠٤: ١٧، ٢٨ وأمثال ٣٠: ٨
خُبْزَنَا كَفَافَنَا هذا هي الطلبة الرابعة، وهي بدء القسم الثاني الذي فيه نطلب البركات لذواتنا. والمقصود بها سد احتياجاتنا الجسدية، لأن الخبز قوام الحياة. والمقصود «بخبزنا كفافنا» ما يكفينا لأجل قوت أجسادنا.
ولأن الخبز من ألزم المواد التي يتألف منها طعامنا، عبَّر به عن كل لوازم أجسادنا، فهي تعبر عن احتياجاتنا، وتعلمنا أنه يجب أن نطلب كفافنا من الخيرات الجسدية، أي الضروري لنا. ولا نهتم بلذات الجسد وفخر هذه الحياة (١تيموثاوس ٦: ٨) فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما.
فهذه طلبة الحاجات الجسدية الضرورية كلها، فالخبز عبارة عن الكل. ولو كان القصد من الطلبة الخبز الروحاني لأُضيف إليها كل ما يدل على ذلك (كما في يوحنا ٦: ٢٧ - ٥٨) فإنه يُسمى هناك «خبز السماء» و «الخبز الحقيقي» و «خبز الحياة». ولكن ذكر احتياجات أجسادنا يقودنا طبعاً إلى أن نفتكر باحتياجات نفوسنا أيضاً ونصلي لأجلها.
وفي تقديم هذه الطلبة إقرار باتكالنا على الله في كل شيء، فهو يجعل تعبنا مثمراً وعملنا ناجحاً ويمنحنا أصدقاء لإعانتنا، ويعطينا القوة والحكمة والصحة التي بها نقدر أن نحصل على خيرات هذه الحياة ونتمتع بها.
ٱلْيَوْم أي قدر ما نحتاج إليه يوماً بعد يوم، مكتفين بالقوت اليومي، تاركين المستقبل في يد الله. فعلينا أن نصلي كل يوم شاعرين على الدوام باحتياجنا إلى الله وبالشكر له، قابلين كل بركاته كأنها من يده ليدنا، وكالمن الذي سقط من السماء كل يوم. وتنهى هذه الطلبة عن الاهتمام الزائد بالمستقبل واشتهاء الترف لأنه لا يمنحه الله لنا.
١٢ «وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا».
متّى ١٨: ٢١ الخ
َٱغْفِرْ هذه هي الطلبة الخامسة، وهي طلبة أعظم وألزم البركات الروحية. وتدل المغفرة على إزالة الخطية من قلب المسيء وقلب المُساء إليه. والرمز لذلك في العهد القديم إطلاق تيس عزازيل في البرية (لاويين ١٦: ٢١، ٢٢). فكأننا نطلب إلى الله بها أن لا يعاقبنا على خطايانا، ولا يسمح بأن تلحقنا نتائجها وكل ثقتنا بإجابتها مبنية على عمل المسيح وآلامه.
ذُنُوبَنَا خطايانا الكثيرة العظيمة ديون علينا نعجز عن أن نوفيها. والعدل صارخ إلى الله يطلب عقابنا. وقد أمرنا المسيح بتقديم هذه الطلبة مع أنه يعرف أن مغفرة الخطية لا تكون إلا بطاعته وموته.
ويجب علينا جميعاً أن نقدم هذه الطلبة لأن فيها اعترافاً بالخطايا، وإقراراً باحتياجنا إلى الغفران. ونحن جميعنا خطاة محتاجون دائماً إلى ذلك. فينبغي أن نطلب كل يوم كما نطلب احتياجاتنا الجسدية كذلك.
وخطايا المؤمن وإن كانت بسيطة، لا يجوز التغاضي عنها، وإلا أصبحت خطراً جسيماً. ونحتاج إلى الغفران بسبب تعدياتنا على شريعة الله، وبسبب قصورنا عن إتمام واجباتنا له ولعبيده.
كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ الخ لا على قدر ما نغفر، ولكن على مثاله. وليس لأن مغفرتنا للآخرين تجعلنا مستحقي المغفرة من الله، بل لأن إرادته أن الذين يلتمسونها يجب أن يكونوا مستعدين أن يمنحوها.
ومن الواضح أنه ليس من باب اللياقة أن نطلب لذواتنا ما نرفض أن نمنحه غيرنا، ولا سيما حين تكون خطايانا إلى الله أعظم جداً من كل الخطايا التي يمكن الناس أن يخطئوا بها إلينا. فيجب علينا أن نرحم إخوتنا الذين أغاظونا كما نريد أن يرحمنا الله ونحن خاطئون إليه.
ومغفرتنا لمن أساءوا إلينا لا ترفع خطيتهم عنهم، ولكنها تزيل من قلوبنا الغضب والحقد وروح الانتقام منهم، وتبعدنا عن أن نعاقبهم.
١٣ « وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ، وَٱلْقُوَّةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ».
متّى ٢٦: ٤١ ولوقا ٢٢: ٤٠، ٤٦ و١كورنثوس ١٠: ١٣ ويعقوب ١: ١٣ و٢بطرس ٢: ٩ ورؤيا ٣: ١٠ ويوحنا ١٧: ١٥ و١أخبار ٢٩: ١١
هذه الطلبة السادسة، وهي طلبة الحماية من الخطية في المستقبل ومن نتائجها.
لاَ تُدْخِلْنَا أي لا تسمح أن نقع في التجربة، أو لا تسمح أن يقودنا إليها الناس أو الشيطان، أو لا تدعنا في أحوال فيها فرص للخطية أو مهيجات إليها. وإذا وقعنا في أحوال كهذه فأعطنا نعمة لنقاوم التجربة ونغلبها. وتتضمن أيضاً أن يحفظنا الله من ميول قلوبنا الشريرة التي تجعلنا معرضين للسقوط في التجربة ومن الفخاخ التي ينصبها إبليس ليصطاد بها نفوسنا.
تَجْرِبَةٍ هي امتحان أخلاقي للإنسان عندما يُعرض عليه أن يختار بين الخطية والطاعة. فليست مجرد مصائب وضيقات، بل مصائب تقترن بها فرصة وخطر الوقوع في الخطية. وقد تعني في لغة العامة «الإغراء بالخطية». ولكن ذلك مستحيل في جانب الله «لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا (بالشرور)» (يعقوب ١: ١٣). لكن امتحان الله لطاعتنا أمرٌ محتمل، فإنه امتحن إبراهيم (تكوين ٢٢: ١).
لٰكِنْ نَجِّنَا أي انتشلنا من الشر، ولا تتركنا نقاومه وحدنا، واجعلنا نجتنب كل ما يقود إلى الخطية من الناس وغيرهم.
فمن يقدم هذه الطلبة من القلب يبتعد عن التجربة، لأنه يكون ساهراً مصلياً.
ٱلشِّرِّيرِ أي الشيطان الذي هو أصل الخطية ومجرب الإنسان. وتتضمن هذه الطلبة أن الله قادرٌ أن يحفظنا من تجارب الشيطان، ومستعد لذلك إن سألناه.
لأَنَّ هذه بداءة الخاتمة وفيها سبب الصلاة كلها أو سبب تقديمه لله.
لَكَ ٱلْمُلْكَ أي لك الحق بهذا المُلك، ولك السلطة المطلقة على العالم الطبيعي والروحي.
وَٱلْقُوَّةَ أي القوة لتستجيب هذه الطلبات. إننا ضعفاء وأما أنت فغير محدود القوة. وفي هذا شعور بقدرة الله، يقوي إيماننا في الصلاة.
ٱلْمَجْدَ نطلب هذه الأشياء ليس لأجل مجدنا، بل من أجل مجدك الذي طلبناه في الطلبة الأولى، والذي يحق لك وحدك. وكل المجد الناتج عن إجابة صلواتنا هو لك لا لسواك.
ٱلأَبَدِ زمان بلا نهاية.
آمِين ليكن هكذا. أي كذا نحب ونرجو ونصلي أن يكون. واستعمال الجمهور إياها عندما يصلي أحد جهاراً نيابة عنهم يشير إلى اشتراكهم في الطلبات التي قد تقدمت. فيجب أن تكون الصلاة في لغة يفهمها العامة «وَإِلاَّ فَإِنْ بَارَكْتَ بِالرُّوحِ، فَالَّذِي يُشْغِلُ مَكَانَ الْعَامِّيِّ، كَيْفَ يَقُولُ «آمِينَ» عِنْدَ شُكْرِكَ؟ لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ مَاذَا تَقُولُ!» (١كورنثوس ١٤: ١٦).
١٤، ١٥ «١٤ فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ. ١٥ وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ».
مرقس ١١: ٢٥، ٢٦ وأفسس ٤: ٣٢ وكولوسي ٣: ١٣ ومتّى ١٨: ٣٥ ويعقوب ٢: ١٣
إن غفرتم: هذان العددان شرح لما قيل في الطلبة الخامسة (ع ١٢) ويعلماننا أحد الاستعدادات الضرورية للصلاة المقبولة، ومنها التوبة والإيمان. فروح المغفرة للآخرين اقتداءً بالمسيح هو عربون المغفرة منه. نعم إن هذا لا يخلِّص، لكنه علامة تجديد القلب.
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا أي إن وُجدت في الإنسان كل الفضائل ولم يكن فيه روح المغفرة، فجميع تلك الفضائل لا تكفي أن تجعل صلاته مقبولة، لأن الصلاة المقدمة من قلب غاضب لا تُقبل أبداً. وإن لم نغفر لا يُغفر لنا، وإن متنا بدون مغفرة هلكنا. فمن لا يغفر لغيره يكون قد هدم الجسر الذي يقتضي أن يعبر عليه، لأن كل إنسان محتاج إلى المغفرة.
لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُم بقوله «أبوكم» يعلمنا أنه مهما كانت نسبته الأبوية من التقرُّب منا والحنو علينا، لا تجعله يغض الطرف عن عدم وجود روح المغفرة في أحد بنيه.
١٦ «فَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ».
إشعياء ٥٨: ٥
بعدما علم المسيح ما يتعلق بالصدقة والصلاة، أخذ يذكر وجوب شيء ثالث هو الصوم، فذكر سوء ممارسة الفريسيين له وضرورة ممارسته لله لا للمدح من الناس. وقد مارس اليهود، ولا سيما الفريسيون، الصوم كثيراً (لوقا ١٨: ١٢). ومع أن موسى لم يأمر إلا بيوم واحد للصوم سنوياً، إلا أنهم زادوا على ذلك أصواماً كثيرة منها نهار الاثنين ونهار الخميس من كل أسبوع. ولما صاموا كانوا يمتنعون عن غسل وجوههم ويغيرون منظرها بوضع الرماد عليها (أستير ٤: ٣ وأيوب ٢: ٨ ومراثي إرميا ٣: ١٦ ودانيال ٩: ٣ ويونان ٣: ٦). وبما أن الرماد ولبس المسوح كانا علامة خارجية للحزن استعملها الفريسيون خداعاً.
فَمَتَى صُمْتُمْ كأن الصوم في بعض الأوقات أمر مسلم به عنده وعند تلاميذه. فيذكر الرب سوء تصرف الفريسيين لكي يجتنبه تلاميذه.
والصوم يساعد الإنسان على ممارسة التوبة والاتضاع والتضرع لأجل رفع الضربات عنه. وليس في العهد الجديد أمرٌ صريح به، بل تُرك لكل إنسان أن يصوم حسب ضميره. وذُكرت أمثلة الذين صاموا لنتمثل بهم حين تكون أحوالنا مثل أحوالهم.
لاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ أي لا تظهروا كأنكم مكتئبون حزانى بخلاف عوائدكم المعتادة وانفعالاتكم الحقيقية، لكي يعرف الناس أنكم صائمون. فلا يرفض المسيح صومهم، لكن إعلانهم ذلك الصوم للناس بمنظرهم، ولا سيما تظاهرهم بحزن لا يشعرون به.
فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُم بكآبتهم، أو عدم غسلهم إياها، أو بوضع الرماد عليها.
لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ هذه كانت الغاية الوحيدة من شعائرهم الجسدية لينالوا مجداً من الناس، ولكن بنوالهم ذلك قد استوفوا أجرهم في الزمان الحاضر، ولم يبق شيء ينالونه في الآتي.
١٧، ١٨ «١٧ وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَٱدْهُنْ رَأْسَكَ وَٱغْسِلْ وَجْهَكَ، ١٨ لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَة».
راعوث ٣: ٣ ودانيال ١٠: ٣
بعد الكلام على سوء تصرف الفريسيين بدأ المسيح يذكر ما ينتظر من المسيحي عندما يصوم.
ٱدْهُنْ رَأْسَكَ لم يشر بهذا القول إلى العادات في الاحتفالات غير المعتادة، بل إلى الناس في عادات النظافة واللياقة. فالمعنى ليكون منظرك عندما تصوم كالعادة حتى لا تظهر أنك صائم.
ومن المعلوم أن أمر المسيح بذلك لا يناسب الأماكن التي ليست فيها هذه العادات. فيجب أن نطيع روح هذا الأمر على الدوام مجتنبين الرياء والتباهي في ممارسة واجباتنا الدينية.
وأشار المسيح هنا إلى الصوم الشخصي لا الجمهوري الذي نُدعى إليه أحياناً. وسبب وجوب إخفاء الصوم ليكون الجزاء علانية من الله، كما ذُكر في أمر الصدقة والصلاة (ع ٤، ٦).
١٩ «لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى ٱلأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ ٱلسُّوسُ وَٱلصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ ٱلسَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ».
بعدما لام المسيح الناس على التباهي والرياء في العبادة، أخذ يوبخ على الطمع والبخل، ويعلن الطريق الفضلى.
لاَ تَكْنِزُوا لم يقصد المسيح أن يمنع تلاميذه عن جمع الأموال، لأن كثيراً من الأعمال يقتضي رأس مال وافراً. ويحق للإنسان لا بل يجب عليه أن يجمع شيئاً لوقت المرض والشيخوخة وللإحسان.
كُنُوزاً تطلق هذه الكلمة على كل مشتهيات الإنسان وما هو أكبر أهميةً عنده. فيكون المعنى: لا تكتفوا بالكنز الأرضي، ولا تجمعوا لمجرد الخير الدنيوي.
عَلَى ٱلأَرْض لتتمتعوا بالراحة الجسدية وسعة العيش، لتكونوا مثار إعجاب للناس، أو لتنالوا بواسطة ما تجمعونه سطوة واحتراماً. والخطية هنا كامنة في هدف الإنسان. فلا يخطئ من يجمع مالاً لخير الآخرين ومجد الله. وليس اقتناء المال خطية، بل محبته التي يتعرَّض لها الفقير والغني، ويمكن أن يسقط فيها المفلس والغني.
ولا يجوز أن نطلب المال بنفس الاجتهاد الذي به نطلب خلاص نفوسنا، ولا نطلبه طلباً يؤول إلى إهمال النفوس وضررها، آملين نوال السعادة بواسطته.
فالخطية التي يحذرنا المسيح منها هي الخطية التي نحن في خطر عظيم للسقوط فيها. فكثيرون خسروا نفوسهم بسبب محبة المال، لأن التجربة إليها قوية. ولا خطأ على الإنسان في الاعتناء بالعمل والاقتصاد في المصروف والحكمة في النظر إلى المستقبل. ولكن يجب عليه أن يسهر ويصلي لكيلا يقع في هذه التجربة، فإن القلب عندما يرى أكثر الناس الذين حوله منهمكين بجمع الكنوز الأرضية يميل إليها.
حَيْثُ يُفْسِدُ ٱلسُّوسُ وَٱلصَّدَأُ أحد أسباب عدم جمع الكنوز الأرضية هو أنها فانية، ويُحتمل أن تؤخذ منا، لأن الكنوز التي كان يكنزها الناس قديماً كانت ثياباً نفيسة ومعادن ثمينة قابلة الفقدان السريع، إما لأسباب داخلية كالسوس والصدأ، أو خارجية كاللصوص.
يَنْقُبُ ٱلسَّارِقُون هذا إذا كانت البيوت مبنية من الطوب النيء (أيوب ٤: ١٩) أو من الحجارة الصغيرة بدون كلس ورمل، فيسهل على اللص أن ينقب الحائط أو السقف ويتناول الكنز. ويذكر المسيح هنا أسباب الخسارة، ويحذرنا من تعلق نفوسنا بهذه الكنوز لأنها تحت خطر الفقدان. فلماذا نخاطر بأنفسنا لنقبض على أمور زائلة؟
٢٠ «بَلِ ٱكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي ٱلسَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ».
متّى ١٩: ٢١ ولوقا ١٢: ٣٣، ٣٤ و١٨: ٢٢ و١تيموثاوس ٦: ١٩ و١بطرس ١: ٤.
جعل الله فينا ميلاً إلى جمع المال لغاية مفيدة وهي أن نكنز لنا كنزاً في السماء. ومن أهم واجباتنا أن نهيئ ما نحتاج إليه للمستقبل الأبدي، لكيلا تذهب نفوسنا من هذا العالم ولا يكون لنا حظ في كنوز السماء. ولا بد أن المسيح قصد المؤمنين الحقيقيين بهذا الكلام، لأنه لا يدخل السماء غيرهم ومن لا يدخلها كيف يكنز له كنزاً هناك.
ٱكْنِزُوا لَكُمْ لا يستطيع أحد أن يكنز كنزاً في السماء لأجل غيره، بل كل إنسان يكنز لنفسه. وخير لنا أن نكنز لنفوسنا في السماء من أن نكنز لذريتنا هنا. وكنزنا في السماء يتم بعمل الخير إكراماً للمسيح (متّى ٢٥: ٤٠) وبالتعب في خلاص نفوس غيرنا (يعقوب ٥: ١٩، ٢٠ و١تيموثاوس ٦: ١٨) وبالنمو في النعمة (٢بطرس ١: ٥ - ١١) وبالاتكال على الله وتسليم ذواتنا له وإنكارها لمجده وخير العالم (يعقوب ٢: ١٥).
كُنُوزاً فِي ٱلسَّمَاء أي مجازاة روحية، مُنعَم علينا بها، آمنة من الفناء والسرقة، لأن واهبها وحافظها الله. وذلك نصيب ورثة الله والوارثين مع يسوع (١بطرس ١: ٤) ويُقال إنها في السماء لتمتاز عما يحرزه الإنسان في هذا العالم من الثروة والشرف والسطوة واللذات. ومعرفة المؤمن أنه يمكن أن يجمع كنزاً في السماء يجعله يبذل جهده في إعداد ما يؤول إلى سعادته في دهور الأبدية غير المحدودة، ساعياً في نوال ذلك الغرض السامي.
٢١ «لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً».
ذكر المسيح هنا سبباً ثانياً لعدم جمع الكنوز الأرضية، وهو الضرر الناتج منها للقلب الذي منه مخارج الحياة (أمثال ٤: ٢٣). ونتيجة جمع كنزنا هنا على الأرض أن تكون أهواؤنا وميولنا أرضية، لأنه إن كان كنزنا في السماء فأشواقنا وميول قلوبنا تتجه إلى هناك. وما يحبه الإنسان أكثر من كل شيء هو إلهه. ومن المستحيل أن يجمع الإنسان كنوزاً في السماء والأرض معاً، لأن القلب لا ينقسم بين المكانين. فنصيب النفس الخالدة الوحيد الحقيقي هو الله، لأنها خُلقت لأجله، ولا تكون سعيدة إلا إذا حصلت عليه. فهو كنزنا، وأعظم سعادتنا تكون بمعرفتنا إياه ومحبته لنا. ونستطيع أن نعرف أين كنزنا في السماء أم على الأرض من معرفتنا بأي الكنزين نهتم أكثر ونرغب في تحصيله ونخشى فقده.
٢٢ «سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً».
لوقا ١١: ٣٤، ٣٦
سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ يدخل النور الجسد بواسطة العين فتنتفع به كل الأعضاء. وبالعين يكتسب الإنسان أكثر معرفته بالأمور الخارجية، وبدونها يبقى الجسد كله في ظلمة. فإذاً خير الجسد موقوف على صحة العين التي هي بمثابة الضمير للنفس. فكما يحتاج الجسد إلى جلاء البصر لإرشاده ومنفعته، تحتاج النفس إلى نقاوة القلب لترى ترى الله كما هو، والأشياء كما هي، وترى الحق والأمور السماوية والعلاقة الحقيقية بين الأمور الزائلة والأبدية.
بَسِيطَة أي صافية قادرة أن ترى ما حولها كما هو حقيقة. والنفس البسيطة هي التي أنارتها كلمة الله والروح القدس. فمن كانت عينه بسيطة بهذا المعنى الروحي يجب أن ينظر إلى الله ويتكل عليه وحده ويحبه فوق كل شيء، ويتأمل في الأمور الإلهية «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ» (كولوسي ٣: ١). «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ» (في ٣: ١٣). «نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ» (عبرانيين ١٢: ٢).
نَيِّرا أي لديه كل المنفعة الناتجة من النور والبصر، فتمتد الفائدة إلى الجسد كله، أي إلى الرأس واليد والرِّجل إلخ. فمتّى كانت عين النفس صحيحة يدرك العقل المعرفة الحقيقية، وتشعر العواطف بالانفعالات الروحية، ويكون الإيمان قوياً وطيداً، وتهتدي الأفكار والأعمال إلى طريق الصواب.
٢٣ «وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً، فَإِنْ كَانَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَٱلظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ».
شِرِّيرَةً هي العين التي ترى الأمور مزدوجةً أو ملتوية، أو التي لا يدخلها نور كافٍ لتميز ما تراه بوضوح. وحالة العين الشريرة مصابة بمرضٍ أصاب النفس، فجعلها تركز النظر في الكنوز الأرضية. وكما يشك الإنسان الضعيف البصر في الطريق التي يسير فيها، ويتعرض للأخطار بسبب ذلك، يشك صاحب العين والقلب غير البسيط، ويتعرض للمخاطر الروحية.
فَإِنْ كَانَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظَلاَماً أي إن كان ما قُصد به أن يكون نيراً قد صار ظلاماً، فما أشد الظلام الذي تمكث النفس فيه، لأن الضمير الميت لا يأتيه نور السماء، فتبقى النفس في ظلام حالك مقطوعة الرجاء. فهذا كلام مرعب بشأن النفس الباقية في الخطية، فإنها عمياء. ولا عمى مخيف كعمى القلب، لأنه إذا عميت عين الجسد يحترس صاحبها من خطر السقوط. وأما عميان القلوب فيجهلون حالهم ويندفعون إلى الهلاك. وبقدر ما تفوق النفس الجسد قيمةً، يكون عمى القلب أردأ من عمى الجسد. وسبب عمى القلب انصرافه عن الله إلى العالم والكنوز الدنيوية، فبذلك تفقد نفسه قوة البصر فيعيش الإنسان في الظلام إلى الأبد.
فَٱلظَّلاَمُ كَمْ يَكُون إذا سُدَّت أمام الإنسان الطريق الوحيدة لدخول النور إليه، فكم يكون ظلامه دامساً! وإذا فسدت آراؤه من جهة الله والحق وغاية حياته وكانت ديانته كاذبة، فما أشد ظلامه وأعظم الخطر عليه من الضلالة والهلاك!
وصاحب القلب الأعمى لا يكترث بالحق، ويعيش في الجهالة والأوهام والكفر. فميول الإنسان وشهواته تحتاج إلى نور الضمير لهدايتها. فإن فقدت هذه الهداية فما أرهب الخراب الناتج عن فقدانها!
وهذا ما حدث في تاريخ اليهود والوثنيين. والنتيجة من كل ذلك هي أن يكون قلب الإنسان وكنزه في السماء. فإن انقسم القلب بين المكانين نتج عن ذلك عماه، ووقع في خطر، وأصابه ما يصيب الجسد عندما تنظر العين كل شيء مزدوجاً، أو يغشيها غشاءٌ آخر.
٢٤ «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَال».
لوقا ١٧: ١٣ ، غلاطية ١: ١٠ و١تيموثاوس ٧: ١٧ ويعقوب ٤: ٤ و١يوحنا ٢: ١٥
لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ مستحيل أن يكون للإنسان كنزان في عالمين، ولا أن يخدم سيدين هما الله والمال. فالإنسان يرغب في خدمة العالم للحصول على اللذة في الحاضر، وفي خدمة الله للأمن في المستقبل. ولكن من المستحيل أن يخدم الاثنين، لأنهما ضدان، بينهما حرب لا تتوقَّف أبداً، وما يأمر به الواحد ينهى عنه الآخر، وكلٌ منهما يطلب خدمة تامة دائمة لا يشاركه غيره فيها. وليس للإنسان إلا قلب واحد، وخدمة سيدين تستلزم وجود قلبين. وقد أعلن الله أنه لا يقبل خدمة جزئية مشتركة، إذ محبة العالم عداوة له. قال المسيح «إن لم تترك كل شيء وتتبعني لا تقدر أن تكون تلميذي». والمسيح يطلب عبداً يخدم خدمة دائمة تشغل كل قوى النفس والجسد. «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي تُقَدِّمُونَ ذَوَاتِكُمْ لَهُ عَبِيدًا لِلطَّاعَةِ، أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ: إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ؟» (رومية ٦: ١٦). فإن خدمنا الله جعلناه غايتنا الأولى، وكان كنزنا في السماء. وإن خدمنا العالم كانت غايتنا أن نكنز كنزاً على الأرض.
وجمع المال لا يمنعنا من خدمة الله، بل المانع هو وضع قلوبنا عليه، وجعلنا اكتسابه غايتنا العظمى.
لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ إلخ بسبب اختلاف صفات هذين السيدين، من الضروري أن الذي يحب الواحد يكره الآخر، وإذا رأى أنه منجذب نحو الواحد يرى أنه مدفوع بعيداً عن الآخر. وكل إنسان يجب أن يختار من يخدم من هذين السيدين ويتبعه، لأن التنحي عن كليهما مستحيل. فعدم اختيار الله إنما هو اختيار العالم.
ٱلْمَال شخَّص الخير العالمي كأنه إلهٌ يدَّعي السيادة على قلوب الناس كالله.
٢٥ «لِذٰلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ ٱلْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ ٱللِّبَاسِ؟».
مزمور ٥٥: ٢٢ ولوقا ١٢: ٢٢، ٢٣ وفيلبي ٤: ٦ و١بطرس ٥: ٧
تتحدث بقية هذا الأصحاح عن نتائج طاعة الأمر المذكور في ع ٢٤، أي خدمة الله دون العالم.
أَقُولُ لَكُمْ متكلماً بسلطة المعلم والإله، ناصحاً لكم بما هو لخيركم.
لاَ تَهْتَمُّوا أي لا تقلقوا أكثر من الواجب باحتياجاتكم الجسدية، لأنه ربما تظنون أنكم بخدمتكم لله وترككم العالم تخاطرون بأسباب معيشتكم وتعرضون ذواتكم للعوز والضيقة. ولكني أقول: ألقوا عنكم هذه الهموم واتكلوا على الله غير خائفين من هموم المستقبل والتدبير والاجتهاد. وهو يمنع الهمَّ الزائد وعدم الثقة بالله (فيلبي ٤: ٦ ولوقا ٨: ١٤ و٢١: ٣٤). فالسبب الأول لعدم الهمّ هو أن ما نهتم به زهيد.
لِحَيَاتِكُمْ أي للوازم حياتكم واحتياجاتكم هنا في هذا العالم.
أَلَيْسَتِ ٱلْحَيَاةُ من المؤكد أن الله الذي منحنا هذه الحياة يعتني بها. والذي أعطانا أجسادنا لا يتركها تحتاج إلى لوازمها. فإعطاؤهُ الخير الأكبر يتضمن الأصغر، وإعطاؤه الحياة لنا يتضمن أنه قادرٌ ومستعدٌ أن يعطي لوازمها من القوت والحماية. فخلق الله الإنسان وعدٌ له أنه لا يتركه يهلك جوعاً إن كان عبداً أميناً له. واستعمل المسيح صيغة الاستفهام لأنها أقوى من مجرد التصريح بالخبر، فكأنه يستشهد عقولنا بصحة ما قال.
٢٦ «اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَ؟».
أيوب ٣٨: ٤١ ومزمور ١٤٧: ٩ ولوقا ١٢: ٢٤ الخ
اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ السبب الثاني لعدم اهتمامنا بالدنيويات هو ما نتعلمه من اعتناء الله بالطيور، فهو يعلمنا الثقة بأنه يعتني بنا. إنها مع كثرتها واحتياجها إلى القوت اليومي يقوتها الله بسخاء، فليست لها وسائط تدبير المعاش التي للإنسان، وإنما لها غرائزها واعتناء الله بها. ومع ذلك فهي لا تحتاج (مزمور ١٠٤: ١٠ - ١٢، ٢١، ٢٧، ٢٨) وسُميت طيور السماء لأنها تطير في الجو.
إِنَّهَا لاَ تَزْرَع الزرع، والحصاد، والجمع إلى مخازن، هي الدرجات الثلاث في أتعاب الإنسان لتدبير معيشته، فقال المسيح إن الطيور لا تمارس هذه الأعمال لكي تدبر معاشها. والمسيح لا يمنعنا من أن نزرع أو نحصد بل يمنعنا من القلق.
َأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا لا يقول في الطيور إن الله أبوها، بل إنه أبوكم. فكأنه قال: إن كان خلق الله للطيور يجعله يعتني بها، فكم بالحري يهتم بالبشر، بنيه، ولا سيما بالطائعين المحبين له منهم!
٢٧ «وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟».
السبب الثالث لعدم القلق بخصوص الدنيويات هو عدم نفع ذلك. وصيغة الاستفهام تزيد الكلام قوة، فإن أعظم همومنا لا تأتي بأدنى نتيجة.
قَامَتِهِ للكلمة اليونانية المترجمة «قامة» معنيان: أحدهما طول الجسد، والآخر طول الحياة. والمعنيان هنا صحيحان، فإن قلقنا لا يزيد شيئاً على طول أجسادنا أو على طول حياتنا. فلماذا نهتم بما ليس تحت تصرفنا، ولا تؤثر فيه كل همومنا شيئاً؟.
٢٨ «وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِٱللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ ٱلْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ».
لِمَاذَا تَهْتَمُّون الأمر في ع ٢٥ صار هنا سؤالاً. وأورد المسيح سبباً رابعاً لعدم الاهتمام بالأمور الدنيوية، متخذاً مثلاً من المملكة النباتية، كما اتخذ في ع ٢٦ من الحيوانية. وذلك السبب هو اعتناء الله بالزهور.
تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ ٱلْحَقْلِ أي لاحظوها ليس للتلذذ بمنظرها الحسن، ولا لتستفيدوا من تركيبها علماً، بل لتتعلموا منها أمثلة أخلاقية أشار إليها سليمان منذ عهد طويل (أمثال ٦: ٦ - ٨ و٣٠: ٢٤ - ٣١). وسُميت زنابق الحقل لأنها تنبت في البرية بدون اعتناء الإنسان بها. وهي تمتاز عن غيرها من الزهور بحسن شكلها وبهاء ألوانها.
لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ ذكر المسيح في ع ٢٦ بعض أنواع العمل في تدبير المعيشة، وهنا ذكر بعضها في تدبير الملابس.
٢٩ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا».
وَلٰكِنْ أي مع أن الزنابق عاجزة عن تدبير ملابسها.
وَلاَ سُلَيْمَانُ كان سليمان متميزاً في المجد والبهاء، حتى صار مثلاً بين الناس (١ملوك ١٠).
فِي كُلِّ مَجْدِه إشارة إلى عظمته الخارجية، وثروته وملابسه الملكية، بدون نظر إلى صفاته الأخلاقية.
كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا لا يقول إن حقلاً من هذه الأزهار أجمل وأبهج من ملابس سليمان، بل أن زنبقة واحدة تفوقه مجداً. قد اكتسى سليمان بمجد مصنوع، وأما مجد الزهرة فذاتي. وإذا وضعنا الزهرة وأفخر المنسوجات تحت النظارة المكبرة فالزهور تبقى كاملة الجمال مهما كبرت، وأما المنسوجات فتظهر خشنة ناقصة. وهذا يبين لنا جهل الذين يفتخرون بلباسهم.
٣٠ «فَإِنْ كَانَ عُشْبُ ٱلْحَقْلِ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي ٱلتَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ ٱللّٰهُ هٰكَذَا، أَفَلَيْسَ بِٱلْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَان!».
بعد البراهين قدَّم المسيح النتيجة.
عُشْبُ ٱلْحَقْلِ الأعشاب هي النباتات الصغيرة، تمييزاً لها عن الأشجار والنجوم لأن الأعشاب قصيرة الحياة.
يُوجَد أي يوجد حياً نامياً زاهراً.
ٱلْيَوْمَ وَغَداً اصطلاح يشير إلى مدَّتين قريبتين.
يُطْرَحُ فِي ٱلتَّنُّورِ غاية هذا المثل إظهار الفرق الكلي بين مدة حياة العشب وحياة الإنسان، ليؤكد لنا أن الله الذي يكسو قصير الحياة بالجمال، لا يتغافل عمن حياته أطول وأفضل. فلا داعي للقلق، لأن الإله الذي يعتني بالطيور والأزهار هذا الاعتناء الكامل، لا بد من أن يعتني بأولاده.
يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَان جميعنا نقع تحت هذه الدينونة. ولكن الله يعتني بالذين لا يثقون به (٢تيموثاوس ٢: ١٣). ومع أن الأمثلة التي تعلم الثقة بالله كثيرة تحيط بنا من كل جهة يومياً لا نزال نشك فيها.
٣١ «فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ، أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟».
فَلاَ تَهْتَمُّوا ألقوا عنكم كل شك وخوف ومشقة وبأس من جهة احتياجاتكم الجسدية.
مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَب؟ هذه هي المسائل الأولى والعظمى التي يهتم بها أكثر البشر.
٣٢ «فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا ٱلأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ كُلِّهَا».
تَطْلُبُهَا ٱلأُمَمُ يذكر المسيح في هذا العدد السبب الخامس لعدم الاهتمام بالدنيويات، لأن المؤمنين عندما يهتمون بالمستقبل يكونون كأنهم لا يعرفون شيئاً عن عناية الله ومحبته الأبوية وبذلك لا يختلفون عن الأمم بشيء. فكأنه قال إن الأمم لا يعرفون أن الله عالم بكل شيء ومعتنٍ بكل شيء، فلهم عُذرٌ في القلق. وأي فائدة استفدتم من معرفتكم أن الله أبوكم ومحبكم؟
ظن بعض الأمم أن كل شيء في العالم يجري بالصدفة. وظنَّ آخرون أن كل شيء يجري بحسب المقدَّر. وقال غيرهم إن الآلهة لا تعتني بالناس، أو أنها تعتني بهم كيفما اتفق. فإذاً الشك والاهتمام في الأمور الدنيوية هما صفتان وثنيتان غير مسيحيتين.
أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ لأن الله أب فهو يحب المؤمنين كحب الوالد الأرضي لأولاده. ولكن لأنه سماوي له قوة ليست للأب الأرضي لكي يهبهم احتياجاتهم. فالسبب السادس لعدم الاهتمام الدنيوي للمستقبل هو أن الله قادر ومستعد لأن يعتني بنا.
أَنَّكُمْ تَحْتَاجُون لنا احتياجات دائمة وديانتنا لا تطلب منا إنكار وجودها والألم بسبب عدم الحصول عليها، ولكنها تطلب منا ألا نهتم الاهتمام الزائد، لأن ذلك عبثٌ، فإن الله الذي خلقنا وأحبنا يعلمها جميعها، وهو قادر وراضٍ أن يشبعنا من خيراته.
٣٣ «لٰكِنِ ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ».
١ملوك ٣: ١٣ ومزمور ٣٧: ٢٥ ومرقس ١٠: ٣٠ ولوقا ١٢: ٣١ و١تيموثاوس ٤: ٨
جاء المسيح هنا بالعلاج الشافي للدنيويات، وهو الاجتهاد في موضوع أفضل، هو لوازم نفوسنا ذات الشأن. هو لا يمنعنا عن تحصيل لوازم الحياة الجسدية بل ييسرها لنا.
اطلبوا أولاً: أي اطلبوا أولاً الروحيات في أفكاركم وصلواتكم وأتعابكم، لأنها أعظم قيمة وأكثر أهمية. فليس المعنى أنه بعدما تكونون قد صلّيتم لأجل البركات الروحية، لكم الحرية أن تطلبوا الدنيويات. لكن يجب أن تجعلوا الروحيات غايتكم العظمى.
ٱطْلُبُوا أَوَّلاً ذلك الملكوت الذي أتى المسيح ليشيده في هذا العالم، والذي على تلاميذه أن يطلبوا تقدُّمه وامتداده. فتخصيص ذواتنا على توسيع هذا الملكوت من أول واجباتنا.
وَبِرَّهُ أي البر الذي يطلبه الله منا ويعتبره براً حقيقياً، لأنه مطابق لإرادته الإلهية ومثل بره. فكأنه قال: اطلبوا أن تكونوا مثل الله في القداسة والمحبة. وهذا هو المطلب الأعظم في وعظ المسيح على الجبل إذ يقارن هذا البر ببر الكتبة والفريسيين.
وَهٰذِهِ كُلُّهَا أي لوازم هذه الحياة التي يعلم أبوكم السماوي أنكم تحتاجون إليها، ولا سيما القوت والكسوة، فهو يعد بهما كثواب للتقوى، وليس بالغنى الجزيل (مزمور ٣٧: ٢٥ وفيلبي ٤: ١١، ١٩).
تُزَادُ لَكُم أعطى المسيح هذا الوعد الثمين ليقينا من القلق. ويجب أن يكون كافياً لذلك (رومية ٨: ٢٨ ومزمور ٨٤: ١١) وهو وعد ببركات زمنية تضاف على البركات الروحية التي طلبناها.
ولا يمنع قول المسيح من وجوب الصلاة للحصول على البركات الزمنية، بل يمنع من أن نطلبها أولاً ونجعلها أسمى مطالبنا. وإذا ظهر لنا أحياناً أن الله لا يتمم وعده لعبيده فلا بد من أن يكون ذلك لأسباب كافية ويؤول لخيرهم كما يتضح لهم يوماً ما.
٣٤ «فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ ٱلْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي ٱلْيَوْمَ شَرُّهُ».
أو بترجمة حديثة: «لأن للغد هموماً. يكفي كل يوم شروره الخاصة». هذا القول إما خلاصة ما سبق، أو إنذار حتى لا نهتم بالاحتياجات الزمنية الحاضرة، ولا المستقبلة الممكنة الحدوث.
لاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَد أي المستقبل، لأن ذلك في يد الله ولا يعلم أحد غيره بكل ما يحدث فيه. فإنه يعرف ما ستحتاجون إليه، والمخاطر التي تأتي عليكم، ويهتم بكم. فبالإيمان به يطمئن القلب وينتفي هم المستقبل.
لأَنَّ ٱلْغَدَ يَهْتَمُّ مع إتيان الغد تأتي الهموم والأتعاب المختصة به. فإضافة حمل الغد على حمل اليوم من باب الجهالة، إن كان لا بد من حمله في يومه.
أفضل استعداد لإتمام واجبات الغد هو تكميل واجبات اليوم، فمن الواجب أن نتبصر في المستقبل لنعرف واجباتنا ونتجنب الخطر، ولكن تبصرنا حتى نصور في بالنا شروراً مستقبلة يتعبنا ويعطلنا عن إتمام واجباتنا الحاضرة، وهذا ناتج عن عدم ثقتنا بالله.
يَكْفِي ٱلْيَوْمَ شَرُّهُ يأتي كل يوم بتعبه ومشقاته وهمومه. فيكفي الإنسان أن يحمل همَّ كل يوم بيومه، لأن الله يعطي قوة ونعمة لكل يوم بيومه، فلا يعطي نعمة اليوم لاحتمال حمل الغد. ويرسل الله للمشقات المستقبلة نعمة ونجاحاً في حينها. فالذي أعاننا اليوم لا يتركنا غداً. ومن منا يعرف إن كان سراج حياته سيبقى مشتعلاً إلى الغد؟ وإن بقينا أحياء إلى الغد فربما لا تأتي الشرور التي كنا نتوقع حدوثها! وإن حدثت فالله يعطي نعمة من فوق ومعونة لنحتملها.
الأصحاح السابع
١ «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا».
لوقا ٦: ٣٧، ٣٨ ورومية ٢: ١ و١٤: ٣، ٤، ١٠، ١٣ و١كورنثوس ٤: ٣، ٥ ويعقوب ٤: ١١، ١٢
لاَ تَدِينُوا هذا لا يعني نهي القضاة والحكام عن الحكم الشرعي (١كورنثوس ٦: ٥)، ولا نهينا عن تقييمنا وحكمنا على الأشخاص والأعمال بالعدل والحق (متّى ٧: ٢٠ ويوحنا ٧: ٢٤ و١كورنثوس ٢: و٦: ٥، و١تسالونيكي ٥: ٢١ و١يوحنا ٤: ١ ورومية ١٦: ١٧ ولكنه ينهى عن الحكم الصارم القاسي، وانتقاد عيوب الناس وتعظيمها، والحكم بسرعة بلا تروٍ وبمحاباة، والحكم الذي ليس من واجباتنا، والحكم الذي لا يقترن بالمحبة.
كان اليهود يشددون الحكم على غيرهم من الأمم، وكان الفريسيون يحكمون على غيرهم من أمتهم أو غيرها بلا شفقة ولا محبة ولا عدل، وكانوا عمياناً عن عيوب أنفسهم، فحذَّر المسيح تلاميذه من أن يكونوا مثلهم في ذلك. وهو خطأ نقع فيه كلنا، مع أنه لا حقَّ لنا أن نحكم على غيرنا بما لا يهمنا. وإذا وجب علينا أن نحكم فلا يجب أن نفعل ذلك إلا بعد الفحص والنظر الكافي، وأن لا نعلن حكمنا بدون لزوم. وإذا حكمنا على المذنبين نحكم برحمة بأن ننظر إلى شدة التجربة التي ساقتهم إلى الذنب، ونفترض أن هنالك أحوالاً لو عُرفت لبرَّأتهم. وعلينا أن لا ننسب المقاصد الشريرة إلى من يؤدون أعمالاً صالحة، وأن لا ندين الواحد على ما نغض النظر عنه في الآخر، وأن لا نجسم هفوات الغير وعيوبهم (١كورنثوس ١٣: ٧)، وأن لا نسر بزلات الأفاضل بل نحزن عليها، وأن لا نرفع أصواتنا بذم تلك الزلات بل نسترها لأن «الْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا» (١بطرس ٤: ٨)، وأن لا نحكم على غيرنا إلا ونحن نذكر نقائصنا، وأن الدينونة لله لا للإنسان.
لِكَيْ لاَ تُدَانُوا هذا لا يعني أن الغرض من عدم دينونة غيرنا النجاة من دينونة الله لنا.
٢ «لأَنَّكُمْ بِٱلدَّيْنُونَةِ ٱلَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ».
مرقس ٤: ٢٤
لأَنَّكُمْ بِٱلدَّيْنُونَةِ الخ هذا لا يعني أنه إذا حكمنا على الغير بلا عدل يحكم الله علينا ظلماً، بل معناه أنه إن شددنا الحكم على الغير شُدد علينا، فالإنسان ينال من الغير ما يعطيه لهم: محبة بمحبة، ولطفاً بلطف، وصرامة بصرامة، وتقتيراً بتقتير. وتلك الدينونة إما من الناس (تكوين ١٦: ١٢ وقضاة ١: ٧ ولوقا ٦: ٣٧، ٣٨ ومرقس ٤: ٢٤ ويعقوب ٢: ١٣) وإما من الله (٢صموئيل ٢٢: ٢٧ وإشعياء ٣٣: ١).
وَبِالْكَيْلِ هذا مجاز مشهور في كلام الناس على الجزاء وأحكام الشريعة.
٣ «وَلِمَاذَا تَنْظُرُ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا ٱلْخَشَبَةُ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَـهَا؟».
لوقا ٦: ٤١، ٤٢
انتقل المسيح من الكلام للجمع إلى الأفراد، لينسب كل سامعٍ الخطاب إلى نفسه. وربما التفت المسيح إلى فريسي أظهر ملامح وجهه أو بكلامه الاستخفاف بتلاميذ المسيح.
لِمَاذَا تَنْظُرُ؟ الاستفهام هنا للتوبيخ، فكأنه يقول لا سبب ولا عذر لك أن تفعل هذا. وأشار المسيح هنا إلى عادة الناس العامة، وهي أن الإنسان ينتبه لعيوب غيره ويغفل عن عيوب نفسه، فيقول: لماذا تنظر إلى عيوب غيرك وتذمه عليها وعيوبك أعظم منها؟
ٱلْقَذَى ما يحمله الهواء من الغبار الدقيق والتبن ونحوهما، فيقع في العين. والمقصود به هنا الذنب الصغير.
أَخِيكَ أي إنسان مثلك.
ٱلْخَشَبَة مجازٌ ومبالغة، فيراد بالخشبة الذنب الكبير. والفرق عظيم بين القذى والخشبة، فما أقبح ذنب من يرتكب الذنوب الفظيعة وهو يدين مقترف الذنوب الصغيرة. فيجب أن يظهر لنا ذنبنا كالخشبة، وذنب الآخرين كالقذى. ويجب أن نفترض أعذاراً للغير ولا نعذر أنفسنا.
٤ «أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ ٱلْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا ٱلْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟».
أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ كيف تجيز لنفسك أن تفعل ما لا يحسن بك، ولا يقبله العقل السليم؟ فالأشرار لا يستطيعون أن يحكموا بالعدل على غيرهم. إن انتصارنا على شرور قلوبنا شرط ضروريٌ لصحة حكمنا على غيرنا. فلا نقدر أن نصلح الغير ونشعر معه ونساعده على النهوض من سقوطه إلا إن تواضعنا وشعرنا بآثامنا وتبنا عنها.
دَعْنِي ظاهر هذا الكلام الصداقة، وباطنه الانتقاد.
٥ «يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً ٱلْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ».
يَا مُرَائِي هذا الخطاب يقوّي الظن أن المسيح قصد أحد الفريسيين بين المستمعين، وهو يصدق على كل من يشبه الفريسيين في أحكامهم على الغير. والمرائي هو الذي يتظاهر بتقوى ليست له، ويدَّعي أنه بارٌ وقاضٍ عادل يوبخ على كل خطية يراها في غيره، وهو يرتكب أفظع منها.
أَخْرِجْ أَوَّلاً ٱلْخَشَبَةَ فالمسيح هنا لا يوبخ المرائي على إثمه، بل يبيِّن له الطريق التي يمكنه فيها أن يكون أهلاً ليصلح غيره، ويكون قاضياً بالحق، لأنه يُصلح نفسه أولاً بأن يرجع عن سيئاته. وإخراج الخشبة يعني تطهير القلب وإماتة الشهوات وإصلاح السيرة وتقويمها. فيجب أن نهتم بأمر خطايانا أكثر مما نهتم بخطايا غيرنا، وأن نجثو أمام صليب المسيح بالتوبة قبل أن نجلس على منبر القضاء.
وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً الخطية في القلب تعمي البصيرة، وامتحان النفس يجهزنا للنظر في أعمال الغير بأمانة. ولا يسوغ للإنسان أن يسرع للحكم على غيره بصرامة ولو بذل كل جهده في امتحان نفسه.
أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى الذي يُرضي الله يسعف أخاه فينجو الأخ من ذنوبه. وهو لا ينظر إلى خطايا أخيه ليجسِّمها ويوبخه عليها. وهذا أمر صعب، لكنه علامة الأخوَّة، وهو عمل مبارك.
٦ «لاَ تُعْطُوا ٱلْمُقَدَّسَ لِلْكِلاَبِ، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ ٱلْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ».
أمثال ٩: ٧، ٨ و٢٣: ٩
وجَّه المسيح خطابه هنا إلى تلاميذه، ونصحهم أن لا يُعرِّضوا أنفسهم ودينهم لهزء الجهلاء وغير المؤمنين وإهانتهم لغير سبب. ولا مناقضة بين هذا العدد والعدد الأول، لأنه أشار في الأول إلى الحكم الصارم بغير حق، وأشار في هذا إلى الحكم على الغير بالحق. فليس كل الناس سواء، وليس كلهم يقبلون التعليم. فينبغي أن ننظر النظر الصحيح لنعلم يقيناً من هم المستحقون الصداقة وبذل الجهد في سبيل منفعتهم، ومن ليسوا كذلك. فيجب أن نعتزل صرامة الحكم من جهة، ومن الجهة الأخرى نحترس من رخاوته، فلا يخطئ من اعتبر الكلب كلباً والأثيم أثيماً.
ٱلْمُقَدَّس هو ما وُقف لخدمة الله أو خُصِّص له، كبعض أجزاء الذبائح المقدمة في الهيكل (لاويين ١٠: ١٤ و٢٢: ٦، ٧). والمقصود هنا: كل ما يتعلق بالدين من الإنذار والتعليم وبيان المواعيد وطريق النجاة وسائر الأمور الروحية.
دُرَرَكُمْ أي لآلئكم. واللؤلؤ يُستخرج من الصدف، وهو من النفائس المشهورة (متّى ١٣: ٤٥ ورؤيا ١٧: ٤). والمقصود بالدرر حقائق الديانة، فإنها في عيني الرب كجواهر ثمينة مُنحت للمؤمن.
الْكِلاَبِ... ٱلْخَنَازِيرِ حيوانان حسبهما اليهود نجسين مكروهين، لا يجوز أن يُؤكلا ولا أن يُقدما ذبيحة. والمقصود بهما هنا الأشرار النجسون، أعداء الحق المفترسون، الذين يجهلون الحق ويرفضونه ويقاومونه. وهم أصحاب السيرة الدنسة والشهوات القبيحة والألسنة المجدِّفة (أمثال ١١: ٢٢ وفيلبي ٣: ٢ و٢بطرس ٢: ٢٢).
نهى المسيح هنا تلاميذه عن أن يعرضوا حقائق دينه المقدسة للمستهزئين المقاومين، إذا تحققوا أنهم يرفضونها ويمقتونها، لئلا تصير عندهم كخروف التقدمة الذي تخطفه الكلاب، أو كالدرر النفيسة التي تدوسها الخنازير في الأقذار.
فما أرهب شقاء الذين سقطوا في مثل تلك الهاوية! هاوية الإثم والرذيلة! حتى أوجب على المسيحيين أن يتركوهم قانطين ويعتزلوا عن وعظهم وإنذارهم (١صموئيل ٢٥: ١٧ وأمثال ٩: ٨ و٢٣: ٩).
وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُم إهانة الحق هي السبب الأول والأعظم لنهي المسيح، وما ذكره هنا سبب ثانوي، وهو أن لا يعرِّض التلاميذ أنفسهم للخطر بغير اضطرار (أعمال ١٨: ٦). ولكن ليس في هذا عذرٌ لمن يخفي الحق لأنه كسول أو جبان، بل يجب عليه أن يكون في وقت الضرورة كدانيال في بابل ورفقائه الثلاثة.
فيجب أن نميِّز صفات مَن نقصد تعليمهم، وأن نجعل تعليمنا موافقاً لأحوالهم. فإن كانوا ممن لا يعقلون البراهين، وممن ضمائرهم بلا شعور، وأخلاقهم شرسة كالوحوش، وجب أن لا نضيع الوقت والتعب عليهم. على أنه ينبغي أن نحزن عليهم ونصلي لأجلهم، ونحذر الغير منهم، ونتوقع الوقت الذي تلين فيه قلوبهم، بالمصائب أو بفعل الروح القدس. وحينئذ يمكننا أن نعلمهم لأنهم يستطيعون أن يستفيدوا من التعليم. قال سليمان «للسكوت وقت وللتكلم وقت» (جامعة ٣: ٨).
٧ «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ».
متّى ٢١: ٢٢ ومرقس ١١: ٢٤ ولوقا ١١: ٩، ١٠ و١٨: ١ ويوحنا ١٤: ١٣ و١٥: ٧ و١٦: ٢٣، ٢٤ ويعقوب ١: ٥، ٦ و١يوحنا ٣: ٢٢ و٥: ١٤، ١٥.
ظن البعض العلاقة بين هذا الكلام وما قبله أن المسيح التزم أن يوجه كلامه إلى بعض الفريسيين الحاضرين الذين أهانوا لتلاميذه، فوبخهم من آية ١ - ٦ من هذا الأصحاح (ثم عاد في آية ٧) إلى سياق الكلام السابق، فأنبأ التلاميذ بالوسائل التي يتوصلون بها إلى النجاة من زيادة القلق، وهي الاتكال على الله والثقة به والصلاة إليه.
اِسْأَلُوا أي اسألوا ما تحتاجون إليه من الوحيد القادر أن يعتني بكم. وهو لا يعين هنا مرات السؤال، ولا المقادير المسؤولة. فلنا أن نسأل ما نشاء وكلما شئنا.
تُعْطَوْا هذا الوعد مشروط بأن ما نسأله يكون موافقاً لإرادة الله. ولنا الثقة العظمى بقبول طلبنا إن سألنا أولاً وخاصة البركات الروحية. فلا يستجيب الله لنا في الزمان الذي نستحسنه نحن، والطريق التي نختارها، فذلك موكول إلى إرادته. فإنه يعلم ما نحتاج إليه أكثر مما نعلم نحن.
اُطْلُبُو يؤكد المسيح المعنى بتكراره بكلمة أخرى، فلا تطلبوا الخيرات الزمنية أولاً كما يفعل الأمم (متّى ٦: ٣٣).
اِقْرَعُوا كرر المعنى بلفظ آخر، لكن على سبيل الاستعارة، فكأن البركات المطلوبة في بيتٍ بابه موصد، علينا أن نقرعه لنحصل على ما وراءه. والأوامر الثلاثة «اسألوا» و «اطلبوا» و «واقرعوا» تدل على أشواق شديدة ومطالب حقيقية، هي استعدادات لقبول الجواب. وهي شروط بسيطة للحصول على أعظم البركات. فعلى الإنسان أولاً أن يطلب، وعلى الله الإجابة في النهاية. فمواعيد الله ليست للكسلان الذي يتوقع بلا عمل، لكن للنشيط المجتهد في القيام بشروطها، فلا صلاة حقيقية بلا فائدة.
٨ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ».
أمثال ٨: ١٧ وإرميا ٢٩: ١٢، ١٣
أكَّد في العدد السابق فاعلية الصلاة بالوعد، وهنا أكدها بناءً على اختبار الذين سألوا فوجدوا، فكأنه قال إن فاعلية الصلاة تكون في المستقبل كما كانت في الماضي.
كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ الوعد هنا لكل فرد، ولا يُستثنى أحدٌ ممن يطلبون لعدم استحقاقه.
يَأْخُذُ...ُ يَجِدُ الطلب بالإيمان والتسليم إلى إرادة الله. وإن سأل الأشياء التي يليق أن يعطيه إياها ويرى أنها مفيدة له.
٩، ١٠ «٩ أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، يُعْطِيهِ حَجَراً؟ ١٠ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟».
لوقا ١١: ١١ - ١٣
للتأكيد ونفي الشك في ما قاله ذكر أن محبة الله الأبوية للمؤمن أفضل من معاملة الآباء الأشرار لأبنائهم في مثل هذه الأحوال.
أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ الاستفهام استنكاري، المراد به أنه ليس في العالم مثل هذا الإنسان.
١١ «فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!».
تكوين ٦: ٥ و٨: ٢١
ما قيل هنا نتيجة العددين السابقين
وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ هذا يصدق على كل الناس بالنسبة إلى الله، فأقدسهم كغيرهم من البشر أشرارٌ ساقطون.
تَعْرِفُونَ أي تميلون إلى ذلك وتمارسونه من الغريزة الأبوية.
عَطَايَا جَيِّدَةً أي فوائد زمنية وصفها بالجيدة مقارنة بالعطايا الرديئة التي ذُكرت في عددي ٩، ١٠.
أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ تمييزاً له عن الآباء الأرضيين، فأقوى المحبة البشرية لا شيء بالنسبة إلى محبة الله لأولاده المؤمنين. إن كانت محبة الناس لأولادهم غريزية ودائمة وفعالة، فكم بالحري محبة الله ينبوع المحبة وأصلها.
خَيْرَات أي ما يراه موافقاً لهم، وهو الغِنى الحقيقي ولا سيما البركات الروحية، فإن الله لا يخيب رجاء أولاده بإمساكه عنهم الخيرات، ولا يخدعهم بإعطائه إياهم ما يضر أو ما لا يفيد. ولم يعين مقدار تلك الخيرات ليشجعنا لنطلب القدر الذي نريده.
لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَه هذا الشرط اللازم لنوال الوعد ليوجه أفكارهم إلى أن الصلاة طريق لإزالة الهم الزائد من قلوبهم. وقد استنتج بعض الفلاسفة أن الصلاة عبثٌ بناءً على أن الكون مربوط بشرائع لا تتغير. واستنتج المسيح أنها مفيدة وفعالة بناءً على فائدة سؤال الابن ما يحتاج إليه من أبيه الأرضي.
١٢ « فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ، لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ».
لوقا ٦: ٣١ ولاويين ١٩: ١٨ ومتّى ٢٢: ٤٠ ورؤيا ١٣: ٨ - ١٠ وغلاطية ٥: ١٤ و١تيموثاوس ١: ٥
قال المسيح في متّى ٥: ١٧ إنه لم يأتِ لنقض الناموس أو الأنبياء بل ليكمل، فبيَّن بما سبق أنه لم يكمل ذلك بالحرف بل بالروح. فمعظم ما مرَّ من كلامه كان في الجز الأول من الناموس، وهو واجباتنا لله. ثم أخذ يفسر الجزء الثاني من الناموس وهو واجبات الناس بعضهم لبعض (متّى ١٢: ٣٩ ورؤيا ١٣: ٩) ويتم كل ذلك بمحبتنا للقريب كالنفس. وهذه الآية سُميت «القاعدة الذهبية» لأنها حقيقة سماوية، ولأن نتائجها صالحة.
يُحكى أن أحد الأجانب جاء إلى الربوني شمعي يسأله أن يعلِّمه الناموس كله أثناء وقوفه على رجل واحدة، فطرده هذا من حضرته. ولكنه حين ذهب إلى الربوني هليل يسأله السؤال نفسه، أجابه أن الناموس هو أن لا تفعل بالآخرين ما لا تريدهم أن يفعلوه معك. وهذا التصريح بصورة سلبية، أما تعليم المسيح فإيجابي بكامل معناه.
كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ الخ يحق لكم أن تبتغوه من غيركم، لو كان في مثل أحوالكم وأنتم في مثل أحواله. وهذه القاعدة تنافي حب الذات المحض والبغض والانتقام والنميمة والغش والاختلاس، وتثبت وحدة البشر ومساواة جميع أفراده، وتوجب أن يطلب كل واحد نفع غيره. ونتعلم من هذا أنه إن جازى إنسان غيره شراً بخير يكون شيطانياً، وإن جازى شر غيره بشر يكون وثنياً. وإن جازى الشر بالخير يكون مسيحياً، لأن فعله للغير أفضل من فعل الغير له فعلٌ إلهي. نعم إنها قاعدة وجيزة ولكن السلوك بموجبها ينفي الخصومات والحروب، ويجعل الأرض فردوس النعيم. وهي تغني عن أكثر شرائع العالم. إنها لا تنفي حب الذات الطبيعي، بل تجعله قياساً لحبنا للغير وفعلنا له. وعلى ذلك يكون حبنا الغريزي منفعة أنفسنا خادماً للعدل والإحسان.
لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلنَّامُوس الخ أي أن تلك القاعدة هي خلاصة كل تعاليم الناموس والأنبياء، لأن غايتهما أن يجعلا كل واحد يحب غيره كنفسه، فالذي يفعل ذلك يطيع الناموس (لاويين ١٩: ١٨) ويطيع الأنبياء (إشعياء ١: ١٧، رومية ١٣: ١٠).
١٣، ١٤ «اُدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ ٱلْبَابُ وَرَحْبٌ ٱلطَّرِيقُ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْهَلاَكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ ٱلْبَابَ وَأَكْرَبَ ٱلطَّرِيقَ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ ٱلَّذِينَ يَجِدُونَهُ».
لوقا ١٣: ٢٤
أظهر المسيح بكلامه السابق الصفات الواجبة أن تكون لتابعيه، فكلفهم بإنكار الذات الشديد. وهنا زاد عليه أن ذلك الإنكار ليس فضيلة عارضة بل هو شرط ضروري لكل أهل ملكوته.
اُدْخُلُوا أي ملكوتي السماوي الذي يبدأ على الأرض ونهايته في السماء. وكثيراً ما يمثل الكتاب المقدس حياة البر وحياة الإثم بطريقين يُدخَل إليهما من بابين.
ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ... ٱلطَّرِيقَ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْحَيَاة أشار بذلك إلى بدء الحياة المقدسة ومداومة السير فيها. وتلك الطريق تؤدي من الأرض إلى أورشليم السماوية. ولنا من هاتين الآيتين أربعة دروس: (١) أن كل إنسان مسافر من مهده إلى لحده، ومن هذا الزمان إلى الأبدية. (٢) أن الناس عند الله مسافرون في طريقين لا ثالث لهما، أحدهما ضيق يوصل إلى السماء، والآخر واسع يُفضي إلى جهنم. (٣) أن ذلك الطريق وذلك الباب ليسا ضيِّقين لأن الله قضي بهذا لأنه لا يؤيد أن يخلص كثيرين، وليسا ضيقين بسبب عدم كفاية دم المسيح للتكفير عن الجميع، إنما هما ضيقان بسبب صعوبات حياة القداسة، لأنها ضد الطبيعة الفاسدة، وتحتم وجود طبيعة جديدة (يوحنا ٣: ٣) وتمنع الشهوات الجسدية من دخول ذلك الباب والسير في تلك الطريق، بل تمنع كل خطية من ذلك وكل بر ذاتي والعالم (أفسس ٥: ١١).
وتحيط وصايا الله العشر بهذه الطريق من أولها إلى آخرها، فهي طريق الإيمان والطاعة وكثيراً ما ضيّقها ويضيّقها اضطهاد الأعداء. ولكنها رغم كل ضيقها طريق أمنٍ وراحة ضمير للمسافرين، ونهايتها مباركة. فإذاً هي ضيّقة في الدنيا، واسعة في الآخرة. وأما الطريق الواسع فسُمي واسعاً لكثرة الداخلين إليه والسائرين فيه، ولأنه يسعهم مع لذاتهم وشهواتهم وخطاياهم ومحبتهم للعالم ورفقاءهم الأشرار، ولسهولة السير فيه، وعدم الموانع منه. ويسلك فيه الكثيرون لأنه يوافق ميولهم الطبيعية. ونهاية هذا الطريق جهنم. فإذاً هو واسع في الدنيا ضيق جداً في الآخرة.
(٤) كثيرون لا يدخلون في الباب الضيّق ولا يجدونه، ليس لأن باب الخلاص خفي وعسر، لأن كتاب الله يوضحه جلياً. ولا لأنه مغلق دون أولئك الناس، لأن المسيح بموته فتحه لكل من ابتغى دخوله من البشر. بل لأن الأغلبية لا يريدون أن يجدوه بالمسيح، ولا يحبون السير فيه، ولا الاجتهاد اللازم لدوام السير فيه إلى النهاية (لوقا ١٣: ٢٤).
١٥ «اِحْتَرِزُوا مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ ٱلَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ ٱلْحُمْلاَنِ، وَلٰكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ».
تثنية ١٣: ٣ وإرميا ٢٣: ١٦ ومتّى ٢٤: ٤، ٥، ١١، ٢٤ ومرقس ١٣: ٢٢ ورؤيا ١٦: ١٧، ١٨ وأفسس ٥: ٦ وكولوسي ٢: ٨ و٢بطرس ٢: ١ - ٣ و١يوحنا ٤: ١ وميخا ٣: ٥ و٢تيموثاوس ٣: ٥ وأعمال ٢٠: ٢٩، ٣٠
شبَّه المسيح حياة الإنسان بالطريق، وقال إن هناك هُداة كذبة يدَّعون أنهم يهدون الناس إلى طريق الحياة الأبدية وهم بالحقيقة يقودونهم إلى طريق الهلاك.
احترزوا: أي انتبهوا واحترسوا من الأنبياء الكذبة فلا تنقادوا لهم كالعميان، ولا تخالطوهم ولا تصغوا إليهم. ولا نزال في حاجة إلى هذا الاحتراس، لأن الملايين اليوم يتبعون رؤساءهم الدينيين وهم غافلون، ولأن الله لا يقبل خطأ المرشدين المضلِّلين عذراً للمضلَّلين.
ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ أي رؤساء الدين الأثمة الأشرار الخادعين، كما كان بعض الكتبة والفريسيون وقتئذٍ، أو من تطرفوا في ادعاءات لا تمُت إلى حقيقة الدين في شيء. فهؤلاء يهدمون ولا يبنون. وكما هو حال كل المعلمين المضلين في هذه الأيام فإنهم يمنعون الناس من اتباع المسيح في الطريق الضيق، ويغرونهم بمداومة السير في الطريق الواسع.
وكان المقصود بالأنبياء قديماً «الذين ينبئون بأمور آتية» ثم أُطلقت على الذين يعلنون إرادة الله، ثم على كل معلّمي الأديان.
ٱلَّذِينَ يَأْتُونَكُم أي الذين يأتونكم مرشدين ومعلمين. أتى المسيح معلماً الناس فأتى أيضاً كثيرون من الأنبياء الكذبة. ومن ذلك الوقت كان كلما اجتهد المعلمون الأمناء يبينون الطريق الحقيقية كثر المعلمون الكذبة وزادوا اجتهاداً.
بِثِيَابِ ٱلْحُمْلاَنِ في ذلك تشبيه المعلمين الكذبة بالذئاب اللابسة جلود الخراف، يتظاهرون بالعفو والتواضع والاستقامة كأنهم من قطيع المسيح الروحي. أما باطنهم فمحبة الذات والخداع «لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها» (٢تيموثاوس ٣: ٥ و٢كورنثوس ١١: ١٣ - ١٥ ورؤيا ١٦: ١٨). وثوب الحملان الذي لبسه الفريسيون هو صومهم وعبوسة وجوههم (متّى ٦: ١٦) وصلواتهم الطويلة العلنية (متّى ٦: ٥). وقيل إن الشيطان يتنكر للخداع (٢كورنثوس ١١: ١٤).
مِنْ دَاخِلٍ أي في قلوبهم وصفاتهم.
ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ الذئاب أعداءٌ طبيعيون للخراف، فاستعارها المسيح للأنبياء الكذبة أعداء قطيعه الروحي. ووصفهم بالخطف لقساوتهم وافتراسهم وخداعهم (٢بطرس ٢: ١ وأعمال ٢٠: ٢٩ ورؤيا ١٦: ١٨.
١٦ «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ ٱلشَّوْكِ عِنَباً، أَوْ مِنَ ٱلْحَسَكِ تِيناً؟».
متّى ٧: ٢٠ و١٢: ٣٣ ولوقا ٦: ٤٣، ٤٤
مِنْ ثِمَارِهِمْ شبَّه الأنبياء الكذبة بأشجار لا نفع منها. فكأن أحداً سأل: بماذا نعرف الأنبياء الكذبة من الأنبياء الصادقين؟ فقال: من ثمارهم. فالمعلمون يُعرفون من نتائج تعليمهم كما تظهر في حياتهم وحياة تابعيهم. فالدين الذي يعلم الناس أن يعيشوا بالتقوى ويموتوا على الرجاء هو الدين الحق. فالمقياس الذي وصفه المسيح يجب أن يقاس عليه كل تعليم ديني (١تسالونيكي ٥: ١ و١يوحنا ٤: ١). فالناس لا يستدلون على حسن الشجرة بورقها أو قشرها أو زهرها، بل بثمرها. وكذلك يُعرف كل من يدَّعي التقوى بأعماله. والكتاب المقدس هو المقياس الذي نميز به جيد الثمار من رديئها.
هَلْ يَجْتَنُونَ الخ كما أن لكل شجرة ثمراً خاصاً كذلك للخطية نتائج خاصة وللقداسة نتائج خاصة بها. فمن الحماقة أن نتوقع من الأشرار أعمالاً صالحة، ومن الجهل أن نتوقع الأثمار الجيدة من الأشجار الرديئة. فشرائع النعمة توافق الشرائع الطبيعية، لأن الذي وضع الواحدة وضع الأخرى.
١٧ «هٰكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً، وَأَمَّا ٱلشَّجَرَةُ ٱلرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً».
إرميا ١١: ١٩ ومتّى ١٢: ٣٣
هٰكَذَا أي بموجب المبدأ الطبيعي أن النتيجة كالسبب.
كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً الشجرة الجيدة تنتج الثمر الجيد دوماً بالطبع. فإن كان أولئك المعلمون هم كما يدَّعون، لزم أن ينتج منهم ومن أتباعهم إثمار الروح (غلاطية ٥: ٢٢) لأن تلك الأثمار لا تنتج من قلب فاسد.
وَأَمَّا ٱلشَّجَرَةُ ٱلرَّدِيَّةُ أي المعلمون الكاذبون الذين يدَّعون التقوى، فيجب أن يحسبوا أتقياء إذا كانت أعمالهم تغاير تعليمهم، لأن شهادة أعمالهم أصدق من شهادة ألسنتهم.
استعار الكتاب المقدس ثلاثة أنواع من الأثمار لثلاثة أنواع من الأعمال. (١) الثمر الجيد من شجرة جيدة إشارة للعمل الصالح من القلب الصالح. و(٢) الثمر الصناعي إذا عُلق على شجرة ميتة إشارة للعمل الديني الطقسي الذي لم ينتج من قلب صالح. و(٣) الثمر الرديء من الشجرة الرديئة إشارة للعمل الشرير من قلب شرير.
١٨ «لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً».
تكرر المعنى لتأكيد الحقيقة عينها، إلا أنه ذُكر أولاً في طريق الإيجاب وذُكر هنا في طريق النفي.
لاَ تَقْدِرُ أي يستحيل أن تأتي ذلك، وهذا أمر محقق عقلاً لأن النتيجة لا يمكن أن تختلف عن السبب.
١٩ «كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ».
متّى ٣: ١٠ ولوقا ٣: ٩ ويوحنا ١٥: ٢، ٦
تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّار هذه عادة الناس في أنهم يقطعون الأشجار العقيمة ويوقدونها، فاستعار المسيح ذلك يبيِّن القصاص الهائل الذي يجازي الله به المعلمين المرائين الذين يقودون الناس إلى الهلاك. وقد استعمل يوحنا المعمدان مثل هذا الكلام (متّى ٣: ١٠). وأولئك المعلمون يهلكون أنفسهم وأنفس الذين يتبعونهم.
٢٠ «فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ».
فَإِذاً أي أن خلاصة الكلام أن كل شيء يُعرف بإثماره. يُعرف المعلمون الصادقون بصلاح تعليمهم وسيرتهم الطاهرة لا بملابسهم ولا بقِدَم رتبتهم ولا بكثرة تابعيهم ولا بغناهم ولا بعلمهم ولا بسلطانهم ولا بعظمة ادعائهم شرف نسبتهم ولا شدة اعتنائهم بالطقوس ورونق احتفالهم بها (١يوحنا ٤: ١ - ٥) فدين المسيح لا يُخشى أن يُمتحن ذلك الامتحان الذي خلاصته «الشجرة تعرف بثمرها» وهذا ينافي زعم البعض أن الشرير يمكن أن يكون معلماً مفيداً في الدين.
٢١ «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
هوشع ٨: ٢ ومتّى ٢٥: ١١، ١٢ ولوقا ٦: ٤٦ و١٣: ٢٥ وأعمال ١٩: ١٣ ورؤيا ٢: ١٣ ويعقوب ١: ٢٢
ذكر المسيح المعلمين الكذبة وسوء عاقبتهم. ولما كان تلاميذه معرَّضون لمثل ذلك حذرهم من الرياء وخداع أنفسهم الناتج عن الشعور الوقتي لئلا تكون عاقبتهم كعاقبة أولئك (يوحنا ٦: ٦٤، ٧٠).
لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي لا يخلُص كل من يعترف أن المسيح رب وأنه تلميذ له لأن الاعتراف بمجرد اللسان ليس الاعتراف الذي يطلبه الله، فهو يطلب الاعتراف الحقيقي الصادر من القلب (١كورنثوس ١٢: ٣ و١٣: ١).
يَا رَبُّ يَا رَبُّ يكرر اللفظ لزيادة التظاهر في الغيرة الدينية. ولعل بعض الحاضرين ممن عرف المسيح أنهم مراؤون كانوا يكررون هذا اللفظ بعينه. فالمسيح لا يلومهم على هذا الاعتراف لأنه حسنٌ في ذاته، ولكن على أنه ليس مقترناً بالعمل الموافق له.
يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَات أي يشترك في مجده وثوابه.
بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ قارن هنا من «يفعل» بمن «يقول» وأراد بذلك أن طاعة التلميذ تبرهن صحة تلمذته. ومعلوم بين الناس أن الإقرار بالصداقة لا يُعد شيئاً ما لم يقترن بالعمل، والوعد بالوفاء، وإلا فلا يكون وفاءً.
«إن أخاك الصِّدق من يجري معك ومن يضرُّ نفسه لينفعك»
وكذلك في الدين فإن أفضل الإقرار وأحسن المواعيد حتى خير المقاصد ليست شيئاً بدون الطاعة الفعلية.
إِرَادَةَ أَبِي لا ينتج من هذه الآية كلها أن أعمالنا الصالحة تخلصنا، لأنها ليست إلا برهاناً على صحة إيماننا. وإرادة الآب تتضمن الإيمان والتوبة، كما أنها تتضمن الطاعة، لأن الله يريد أن الخاطئ يطلب خلاصه بالمسيح. وأشار بقوله «أبي» إلى وحدة طبيعتهما واتفاق إرادتهما.
ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ قال ذلك دفعاً للأبوة التناسلية الجسدية.
٢٢ «كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً».
عدد ٢٤: ٤ ويوحنا ١١: ٥١ و١كورنثوس ١٣: ٢
ذكر المسيح في العدد السابق القانون الذي يُجرى عليه في يوم الدين، وزاد هنا أنه ينشأ بالطرد من ملكوته في ذلك اليوم يأسٌ عظيم لكثيرين ممن يُعرَفون الآن أنهم تلاميذه.
فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي اليوم الذي يأتي فيه المسيح ملكاً ودياناً (متّى ١٦: ٢٧، ٢٨ و٢٥: ٣١). فيوم الدين يكون يوم خزي وخيبة لكثيرين لأن المسيح سينكر في ذلك اليوم كثيرين مما سموا مسيحيين على الأرض. فهو يوم به تتمزق ستائر المرائين وتظهر ضمائرهم ويتبرر المخلصون.
يَا رَبُّ يَا رَبُّ هذا ما ينطقون به يومئذ إن سُمح لهم بالخطاب، وهذا أفضل طريق لبيان ما لا بد أن يقع من التعجب والخيبة واليأس والعقاب في ذلك اليوم لكثيرين من المعروفين اليوم بأنهم مسيحيون. وتكرار قولهم «يا رب» يدل على اجتهادهم ولجاجتهم وتجديد اعترافهم القديم.
أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ أي ألم يُطلق اسمك علينا؟ ألم نستعمل اسمك حقيقة حين فعلنا المعجزات؟ (متّى ١٠: ٤١ و١٨: ٥، ٢٠ و٢١: ٩ ومرقس ٩: ٣٨).
تَنَبَّأْنَا أي التعليم الديني، فلا ضرورة لتفسيره بالإنباء بأمور مستقبلة، وإن كان يدل على ذلك أحياناً (أعمال ١١: ٢٨ و٢١: ١٠).
شَيَاطِينَ هم أرواح شريرة كانوا ملائكة أطهاراً أُذن لهم بعد السقوط أن يسكنوا بعض الناس ويتسلطوا عليهم نفساً وجسداً، وكان إخراجهم من أقوى البراهين على قوة المسيح وصحة دعواه بأنه نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تكوين ٣: ١٥) ووهب المسيح هذه القوة لتلاميذه (متّى ١٠: ٨).
قُوَّاتٍ أي معجزات. لا داعي لأن نشك في صحة قولهم هذا، وأن تلك القوة لا توهب للأشرار، فالكتاب يعلمنا أن بلعام كان يتنبأ (عدد ٢٣: ٢٠ - ٢٦ و٢٤: ١٣) ولعل يهوذا الإسخريوطي كان يفعل معجزات كسائر الرسل. ومما يدل على ذلك قول بولس الرسول (١كورنثوس ١٣: ١ - ٣). فإذن أسمى الفصاحة في شرح حقائق الدين المسيحي وأحسن نجاح في إرشاد الناس إلى المسيح ليسا برهاناً في ذاتهما على أن صاحبهما مسيحي.
٢٣ «فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ».
متّى ٢٥: ١٢ ولوقا ١٣: ٢٥، ٢٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ ومزمور ٥: ٥ و٦: ٨ وص ٢٥: ٤١
يُحتمل أن الكلام الآتي هو الكلام الذي يقوله المسيح للمرائين في يوم الدين جواباً على دعواهم الباطلة.
أُصَرِّحُ أي أقول علناً وبالتأكيد.
لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! أي لم أعرفكم المعرفة المقترنة بالمحبة (يوحنا ١٠: ١٤ و٢تيموثاوس ٢: ١٩). لقد عرفتكم كأشخاص، وسمحت لكم بأن تتظاهروا أنكم تلاميذي، لكني لم أعرفكم كخاصتي، وأنتم لم تعرفوني حقيقة. فالذين يهلكون من المسيحيين بالاسم لم تتجدد قلوبهم حقيقة. ولكنهم خدعوا أنفسهم وغيرهم من الناس. لكنهم لم يخدعوا الله. فالمسيحي بالحق من كان مسيحياً من أول أمره إلى الأبد. قال المسيح عن خرافه «أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي» (يوحنا ١: ٢٩) وقال رسوله «مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا» (١يوحنا ٢: ١٩).
ٱذْهَبُوا عَنِّي القرب من المسيح هو خلاصة أفراح السماء، والبعد عنه هو أشد عقاب جهنم. فقوله «اذهبوا عني» يتضمن علاوة على ذلك أمره بانفصالهم عن تلاميذه بالحق وانضمامهم إلى أعدائه، لأنهم منهم.
يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ فأعمالهم الأثيمة هي علة طردهم ودينونتهم، لأن عصيانهم إثمٌ فعلي. فمهما كان اعترافهم فإن أعمالهم كانت مخالفة لإرادة الله. وهذا الكلام يحذر الإنسان من أن يخدع نفسه، ويبين أن الحصول على أحسن الوسائط لا يكفل خلاص الإنسان. فالمعمودية والاعتراف العلني بالمسيح والمعرفة العقلية وممارسة التعليم حتى فعل المعجزات ليست شيئاً بدون التوبة الحقيقية والإيمان القلبي والطاعة الكاملة.
٢٤ «فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هٰذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلصَّخْرِ».
ختم المسيح وعظه على الجبل بمثلٍ وجَّهه إلى الذين اكتفوا بما سمعوه من تعليمه دون العمل بما يقتضيه، فبيَّن بذلك أن معرفة الناس واجباتهم بدون القيام بتلك الواجبات تزيد عقابهم شدة. ولا بد أن الحادثة التي ضرب بها المسيح المثل كانوا قد اختبروا مثلها وألفوه.
أَقْوَالِي هٰذِهِ أي كل ما ذكرته في هذا الوعظ وفي تعليمي إجمالاً. فنستنتج من ذلك أن ما سبق كان موعظة واحدة متصلة لا مواعظ كثيرة جمعها متّى وأظهرها واحدةً.
بِرَجُلٍ عَاقِل أي حكيم ينظر في عاقبة الأمور ويلتفت إلى المستقبل.
عَلَى ٱلصَّخْر أي على أساس متين وما يجب أن يُبنى عليه. وهو يقتضي تعباً كثيراً ونفقة وافرة على الحفر للوصول إليه.
ويقصد المسيح ببناء البيت على الصخر سماع أقواله والعمل بها. ومن أمثال ذلك قوله مشيراً إلى نفسه «الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ » (متّى ٢١: ٤٢) وبناءً عليه قال بولس «إِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِعَ، الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ» (١كورنثوس ٣: ١١). فطاعة أقوال المسيح تتضمن أول شيء بناء رجائنا عليه بالإيمان للخلاص.
٢٥ «فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ، وَجَاءَتِ ٱلأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ ٱلرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى ٱلصَّخْرِ».
فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ الخ أشار بذلك إلى ما يحدث غالباً في فصل الشتاء، وأراد به امتحان النفس في اليوم الأخير. فإنه كثيراً ما يعبر الكتاب المقدس عن حوادث اليوم الأخير بالأنواء والزوابع.
فَلَمْ يَسْقُط بسبب قوة الأساس المتين وفائدته، لأنه يقي البيت من الخطر في أثناء اضطراب عناصر الطبيعة.
٢٦، ٢٧ «وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هٰذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلرَّمْلِ. فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ، وَجَاءَتِ ٱلأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ ٱلرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً!».
لوقا ٦: ٤٧ - ٤٩
ذكر في هذين العددين جهل من يسمع أقواله ولا يعمل بها.
بِرَجُلٍ جَاهِل من لا ينظر في عاقبة الأمر ولا يلتفت إلى المستقبل كمن يبني بيته في الصيف ويحسب أحواله على ضوء سائر الفصول، ولا يحسب للشتاء حساباً من سقوط الأمطار وجري السيول التي لا بد منها.
عَلَى ٱلرَّمْل أي على وجه الأرض اقتصاداً ودفعاً لزيادة التعب، ورغبة في الراحة المؤقتة. والبناء على الرمل هو مجرد قبول الدين عقلاً وممارسة طقوسه الخارجية. فكل من يبني على غير المسيح يبني على الرمل. فمهما كانت مقاصد الإنسان قوية من جهة قداسة حياته فإنها إن كانت غير مقترنة بالإيمان بالمسيح والاتكال عليه فهي كالرمل في تقلباته.
فَسَقَط أي خرب تماماً.
وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً لأنه سقط عند شديد الحاجة إليه وحين لا يمكن تجديده، لأن المياه تجرف مواده. وحكم المسيح بأن هذا السقوط عظيم لأنه قصد به هلاك النفس. فالمراد بالبيت دين الإنسان الذي هو ملجأ نفسه الأبدي. والمراد بالبانيَيْن في هذا المثل: الذي يسمع ويعمل، والذي يسمع ولا يعمل، وهما يتفقان في ثلاثة أمور ويختلفان في ثلاثة:
وجوه الاتفاق: (١) أن كلاً منهما بنى بيتاً. والمعنى أن كليهما متدينان يشعران بحاجة النفس إلى ملجأ، وبذلا عنايتهما لأجل سد هذه الحاجة. و(٢) أن كليهما تمم عمله كما اختار. و(٣) أن كليهما جازا بالامتحانات التي لا بد من وقوعها.
وجوه الاختلاف: (١) أن أحدهما بنى بيته على أساس متين، والآخر على أساس واهن، أو على غير أساس. (٢) أنه عند الامتحان ثبت بيت الواحد وسقط بيت الآخر. (٣) أن الواحد فرح فرحاً عظيماً بعمله، والآخر حزن حزناً أبدياً.
٢٨، ٢٩ «٢٨ فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ بُهِتَتِ ٱلْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، ٢٩ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ».
متّى ١٣: ٥٤ ومرقس ١: ٢٢ و٦: ٢ ولوقا ٤: ٣٢ ويوحنا ٧: ٤٦
ذكر البشير في هذين العددين تأثير موعظة المسيح بعد أن أُكملت. ويظهر من قوله أنها موعظة واحدة لا مجموعة مواعظ.
بُهِتَتِ أي تعجبت الجموع من هذا التعليم الجديد وأسلوب بيانه. ولا زال الناس إلى الآن يعجبون من حسن هذا التعليم السماوي. والحق أن تلك الموعظة أبلغ وأفيد من كل مواعظ العالم. فعلى من ينكر لاهوت المسيح أن يبين من أين تعلم نجار الناصرة هذا التعليم.
ٱلْجُمُوعُ هي التي ذُكرت في متّى ٤: ٢٥، ٥: ١.
كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ ليس مثل مفسر الشريعة بل مثل واضعها، أي المشترع الأصلي. وأظهر سلطانه في قوة كلامه على إقناع العقول وإيقاظ الضمائر ليثبت صدق أقواله. فأسند تعليمه على شريعة الله المكتوبة على قلوبهم، وقد رافق الروح القدس ذلك التعليم فجعله ذا سلطان.
وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ أي معلميهم الدينيين، وهم خلفاء عزرا الكاتب (عزرا ٨: ٦) وحفظة الكتب المقدسة ومفسروها (انظر متّى ٢٣: ٢ - ٤ ومرقس ١٢: ٣٥ ولوقا ١١: ٥٢). وكانوا في ذلك الوقت يلتفتون إلى الوصايا الصغرى ويغفلون عن الكبرى (متّى ٢٣: ١٨ - ٢٢) وأسندوا أقوالهم إلى تقاليد الشيوخ (متّى ١٥: ٩). أما المسيح فأسند تعاليمه إلى السلطان الذي قبله من الله بقوله «الحق الحق أقول لكم». وكان تعليمه يخالف تعاليمهم في أنه كان في مبادئ الدين الجوهرية. وقد تكلم كنبي وكملك ورئيس الملكوت الجديد.
الأصحاح الثامن
ذكر متّى في هذا الأصحاح والذي يليه عدة معجزات فعلها المسيح إثباتاً لتعليمه، وأن له سلطاناً من الله. وتنقسم هذه المعجزات إلى ثلاثة أنواع، فمنها ما يتناول الأمراض المستعصية كالبرص والفالج (الشلل) والصرع. ومن المعجزات ما يتناول الأرواح النجسة وقهر قوات إبليس وجميع جنوده. ومنها ما يتناول القوى الطبيعية كإسكات البحر. وهذا يُظهر أن يسوع هو المسيح مخلص العالم وسيد الكائنات كلها. ولا يحسن أن نظنها ذُكرت حسب أوقات وقوعها تماماً، بل إن البشير جمعها كنماذج لسائر المعجزات، كما أنه كتب لنا موعظة من مواعظه نموذجاً لسائر المواعظ.
١ «وَلَمَّا نَزَلَ مِنَ ٱلْجَبَلِ تَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ».
وَلَمَّا نَزَلَ مِنَ ٱلْجَبَلِ تَبِعَتْهُ الخ القصد هو الإنباء بأن ذلك الجمع العظيم الذي تبعه عند صعوده إلى الجبل وأصغى إلى وعظه لم يتركهُ لما فرغ من الوعظ، بل تبعه في نزوله إلى السهل ومروره بجانب بحر طبرية إلى كفرناحوم. فالأرجح أن العجائب التي ذكرها البشير عملها المسيح بمرأى من هذا الجمع.
٢ «وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي».
مرقس ١: ٤٠ الخ ولوقا ٥: ١٢ الخ
وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ لعل البشير ذكر هذه المعجزة أولاً لأن البرص كان مرضاً يختلف عن بقية الأمراض في عدة أمور: منها أنه كان مؤلماً ومكروهاً في ذاته، وكأن موتاً يبدأ في الإنسان وهو حي ويؤثر أولاً في الجلد ثم في الأعضاء واحداً بعد واحد، ويفصل بعضها عن بعض (انظر سفر العدد ص ١٢: ١٢) ولم يتحقق أن هذا المرض باقٍ إلى هذا اليوم على هيئته الأصلية. والأرجح أنه لا يزال في الأرض ولكنه نادر، وليس كثيراً كما كان بين اليهود. وكانت شريعة موسى شديدة مدققة في معاملة البرص (لاويين ١٣ و١٤). فكان على الأبرص أن ينفصل عن سائر الشعب باعتباره نجساً، وأن يُعلن برصه بثيابه وإشاراته وكلماته «تُشق ثيابهُ» (لاويين ١٣: ٤٥) «ويكشف رأسه» (عدد ٦: ٩ وحزقيال ٢٤: ١٧) «ويغطي شاربيه» (حزقيال ٢٤: ١٧) و «يُطرد من المحلة أو من المدينة» (لاويين ١٣: ٤٦ وعدد ٥: ٢ - ٤ و٢ملوك ٧: ٣) ويُلزم أن يصرخ إذا رأى أحداً مقترباً إليه قائلاً على نفسه «نجس نجس». وجرت تلك الشريعة على أعلى الناس وأدناهم بلا استثناء، كما حدث مع مريم أخت موسى (عدد ١٢) والملك عزيا، فقضى باقي حياته في بيت منفرد واعتزل المُلك (٢أخبار ٢٦: ١٦ - ٢١).
وشدد الله الشريعة على الأبرص ليجعل البرص رمزاً للخطية أمام عينيه. والخطية تشبه البرص في سبعة أشياء: (١) كلاهما داءٌ أصاب الإنسان بعد خلقه، فإن الله خلقه صحيح الجسم طاهر النفس. (٢) كلاهما وراثي (بعدما حدث أولاً) فالبُرص يلدون بُرصاً والخطاة يلدون خطاة. (٣) امتداد كليهما خفيٌ وتدريجيٌ قلما يظهران في الطفولة ولكنهما يظهران في عمر متقدم. (٤) كلاهما مكروهٌ نجس يفصل صاحبه عن جماعة الله. وهذا الانفصال رمز إلى الانفصال العظيم (رؤيا ٢١: ٢٧). (٥) كلاهما لا يُشفى بوسائط بشرية (٢ملوك ٥: ٧). (٦) كلاهما مميتٌ، أحدهما للجسد والآخر للنفس. (٧) تقدر القوة الإلهية وحدها على شفاء كليهما في الماضي، وتقدر عليه في المستقبل.
وَسَجَدَ لَهُ لا بد أن هذا الأبرص سمع بقوة يسوع وشفقته، ولعله سمع وعظه على الجبل وهو بعيد عن الناس، فانجذب إلى المسيح بما سمع وبما فعله فيه الروح القدس. وظهر إيمانه وتواضعه ورغبته في الشفاء بمجيئه وسجوده.
يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أظهر الأبرص ثقة تامة بقدرة المسيح على شفائه، وسلَّم له أن يستعمل تلك القدرة لإبرائه بحكمته ومحبته. فيجب على كل خاطئ أن يأتي إلى المسيح للتطهير، فيجد القبول مثله.
أَنْ تُطَهِّرَنِي كان ذلك المرض يُحسب نجساً فحُسب الشفاء منه تطهيراً.
٣ «فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً: أُرِيدُ فَٱطْهُرْ. وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ».
فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ ليبين للحاضرين العلاقة بين استعمال قوته ونتيجتها، لا لأن اتصال يده بالأبرص كان ضرورياً للشفاء.
لَمَسَه لم يفعل ذلك ليخالف الشريعة عمداً (لاويين ٥: ٣ و١٤: ٤٦) لأن الشريعة منعت من لمس الأبرص، ولكنه لمسه ليطهره، فطهر لأنه شُفي حالما مدَّ يده إليه. وأظهر المسيح سلطانه على الشريعة الطقسية إذ خالف حرفها ووافق جوهرها. وبمثل هذا لمس المسيح طبيعتنا الخاطئة وشفاها بدون أن يتنجس.
أُرِيد أظهر بذلك إتماماً لوعده «اطلبوا تجدوا» (متّى ٧: ٧) وهو جواب لقول الأبرص له «إن أردت».
وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ أتى الشفاء في الحال، وبذلك تبين أنه كان معجزياً. فما أعظم سرعة ذلك التغيير! إنه في لحظة شُفي شفاءً تاماً من داء عضال. وقوة المسيح على المرض رمزٌ إلى سلطانه على الشر ولعنة الخطية.
٤ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱنْظُرْ أَنْ لاَ تَقُولَ لأَحَدٍ. بَلِ ٱذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ، وَقَدِّمِ ٱلْقُرْبَانَ ٱلَّذِي أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَـهُم».
متّى ٩: ٣٠ ومرقس ٥: ٤٣ ولاويين ١٤: ٣، ٤، ١٠ ولوقا ٥: ١٤
ٱنْظُرْ أَنْ لاَ تَقُولَ لأَحَدٍ فلا يفتخر بشفائه على أنه علامة رضى الله الخاص عليه. وكانت غاية كتم شفائه أن يحصل على الشهادة الشرعية بطهارته من الكاهن ليرجع إلى معاشرة الناس، خوفاً من أن الكهنة لا يعطونه الشهادة بعد أن يبلغهم أن المسيح شفاه حسداً وبغضاً للمسيح نفسه. وكان المسيح يمنع أحياناً من إظهار معجزاته لئلا يُعاق عمله الروحي بكثرة الآتين إليه للنفع الجسدي، ولأنه فضَّل خير النفس على خير الجسد، ولئلا يهيج عليه غضب الرؤساء ومقاومتهم. أما الأبرص الذي شُفي فلم يُطع أمر المسيح (مرقس ١: ٤٥).
بَلِ ٱذْهَبْ ألحَّ عليه بذلك لئلا يسبقه خبر المعجزة إلى الكهنة فلا يعطونه شهادة الشفاء. وكانت طاعة هذا الأمر تلزمه أن يسافر نحو خمسين ميلاً أو يومين إلى أورشليم.
أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ أي للكاهن في هيكل أورشليم وفقاً لشريعة موسى (لاويين ١٤: ٣) فيفحصه بالتدقيق، ويمارس ما يقتضيه تطهيره طقسياً، ويصرح بطهارته شرعاً. وبهذه الواسطة حصل المسيح على تصديق الكاهن لمعجزته، وبيَّن احترامه للشريعة أنها من الله وأنها لا تزال شريعة. فقول المسيح «أرِ نفسك للكاهن» كان لإتمام جزء من الشريعة الطقسية المتعلقة باليهود البُرص، ولا علاقة لذلك بالواجبات المسيحية. فما أمر به الأبرص لم يكن سوى أمرٍ للبُرص، وكان طقسياً يهودياً. والشريعة الطقسية زالت والكهنوت اليهودي بطل.
وَقَدِّمِ ٱلْقُرْبَانَ والقربان عصفوران حيان طاهران، وخشب أرز وقرمز وزوفا (لاويين ١٤: ٤).
شَهَادَةً لَهُ كانت هذه الشهادة لهم ليعطوا الشهادة للأبرص، فتكون شهادة عليهم إذا أبوا أن يعترفوا بأن الذي فعل المعجزة التي شهدوا بصحتها هو المسيح. وكانت شهادة للشعب أن يسوع هو المسيح، وأنه لم يخالف شريعة موسى.
٥ «وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ كَفْرَنَاحُومَ، جَاءَ إِلَيْهِ قَائِدُ مِئَةٍ يَطْلُبُ إِلَيْهِ».
لوقا ٧: ١ - ١٠
كَفْرَنَاحُوم انظر شرحنا لأصحاح ٤: ١٣.
قَائِدُ مِئَة كانت تلك البلاد تحت الحكم الروماني، فكان بالمدن الكبيرة فِرَق من الجنود. وكان قائد المئة المذكور من رؤساء تلك الفِرق، وهو وثنيٌ ولادةً وتربيةً. ويظهر من القرينة أنه ممن أحسنوا الإيمان. وقال البعض إنه متهوِّد، ولكن ذلك يناقضه تعجب المسيح المذكور في عدد ١٠ من هذا الأصحاح.
جَاءَ... يَطْلُبُ إِلَيْه قيل في لوقا ١: ٧ إنه لم يأتِ هو بنفسه بل أرسل يطلب إليه. ولا تناقض بذلك بين البشيرين، لأن خبر متّى مختصر، وإسناد المجيء فيه إلى القائد مجازي. والجوهر هو تقديم الطلب بقطع النظر عن الواسطة. ومن المجاز المسلَّم به عند جميع الناس أن يُنسب الفعل إلى مسببه بغضّ النظر عن الفاعل كقولهم «بنى الأمير المدينة».
قارِن يوحنا ٣: ٢٢ بيوحنا ٤: ٢ تجد في الأول قول البشير إن المسيح كان يعمد، وفي الثاني قوله إنه لم يعمد هو نفسه بل تلاميذه. وقارن متّى ٢٠: ٣٥ ويوحنا ١٩: ١ تجدهُ يقول إن بيلاطس جلد يسوع مع أن ذلك فعل العسكر بأمره.
٦ «وَيَقُولُ: يَا سَيِّدُ، غُلاَمِي مَطْرُوحٌ فِي ٱلْبَيْتِ مَفْلُوجاً مُتَعَذِّباً جِدّاً».
غُلاَمِي الأرجح أن ذلك الغلام عبدٌ له أعزَّه لأمانته له. وهذا يُظهر زيادة لطف هذا القائد، فلم يكن الأسياد يهتمون بصحة عبيدهم وراحتهم.
فِي ٱلْبَيْتِ أي في بيت القائد.
مَفْلُوجاً الفالج (الشلل) مرض عصبي يمتنع به تسلط الأعصاب على العضلات، وهو يصيب بعض الجسد أو كله.
مُتَعَذِّباً جِدّاً نستنتج من ذلك أن كل جسده كان مفلوجاً حتى لم يستطع الحركة. والظاهر أن مرضه كان مما تنقبض به العضلات، وهو من أشد الأنواع إيلاماً. ولكثرة أنباء هذا المرض في الإنجيل نستنتج كثرته في تلك الأيام في فلسطين، وأن علاج الأطباء قلما نفع فيه. فما أسعد ذلك العبد بسيد يعتني به ويتضرع إلى المسيح من أجله. وعلى أصحاب الأعمال أن يصلّوا من أجل من يعملون عندهم.
٧ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا آتِي وَأَشْفِيهِ».
أجاب الرب طلبة ذلك القائد حالاً، مع أنه كان من أُمَّة وثنية. وقوله «أشفيه» يدل على أن له كل سلطان مثل الله.
٨ «فَأَجَابَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ: يَا سَيِّدُ، لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي، لٰكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي».
لوقا ١٥: ١٩، ٢١ ويوحنا ٥: ٨، ٩ و١١: ٤٣، ٤٤
لَسْتُ مُسْتَحِقّاً يدل هذا الكلام على شعوره بخطيته، واعتباره المسيح ذا وقارٍ وقداسة، مع أنه كان قائداً رومانياً، والرومان كانوا يحتقرون اليهود كالعبيد. وكانت وظيفته العسكرية من أسباب الافتخار والكبرياء.
وقائد المئة هذا لم يكن لطيفاً فقط، بل كان حكيماً يراعي خاطر اليهود من جهة تنجسهم من بيت روماني، ولو كان هؤلاء الحكام وهم المحكومين. وفي الوقت ذاته لا يريد أن يحرج موقف المسيح فيكتفي أن يأمر الروح الشرير كما يأمر القائد جنوده، فينتهي كل شيء بسلام.
ونعلم مما جاء في لوقا ٧: ٨ أن الرب كان منطلقاً إلى بيت القائد وقد قرب منه حين لقيه رُسل القائد حاملين الرسالة المذكورة. واعتقد القائد عدم استحقاقه أن يدخل المسيح تحت سقفه، ولكن المسيح رضي أن يسكن قلبه، ويقبله أخيراً ساكناً أبدياً في بيت أبيه. ففي ذلك القائد إيمان عظيم، علاوة على زيادة تواضعه. ودليل إيمانه أنه نظر في ذلك الشخص الوضيع الحقير المنظر عظمة فائقة إلهية، واعتقد قدرته على شفاء المفلوج بكلمة واحدة من على بُعد.
كَلِمَةً أي أمراً بشفاء المرض.
٩ «لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ. لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. أَقُولُ لِهٰذَا: ٱذْهَبْ فَيَذْهَبُ، وَلِآخَرَ: اِيتِ فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِيَ: ٱفْعَلْ هٰذَا فَيَفْعَل».
تَحْتَ سُلْطَانٍ أي أني لست ملكاً ولا رئيس جيش، بل في رتبة صغيرة بالنسبة إلى سائر الرؤساء العسكريين، ومع هذا فلستُ محتاجاً أن أجيء بنفسي لتنفيذ أوامري، فآمر الجنود أو عبيد البيت فيتممون مطالبي، فتتم فعلاً. فكم بالحري أنت يا صاحب السلطان المطلق! إنك لا تحتاج إلا أن تقول كلمة فتطيعك الأمراض! ويعلمنا التاريخ أن الحكم الروماني العسكري كان صارماً جداً، فكان أقصر الأوامر يُطاع فوراً وبدون مناقشة.
١٠ «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ تَعَجَّبَ، وَقَالَ لِلَّذِينَ يَتْبَعُونَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا».
تَعَجَّبَ تعجُّب المسيح جزءٌ من سر التجسد الذي أشار إليه بولس الرسول بقوله «وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦). فبالنظر إلى لاهوته لا يظهر له شيءٌ أنه جديد أو غريب. أما بالنظر إلى ناسوته فقد كان إنساناً تاماً يشعر ويتكلم ويفعل كغيره من الناس سوى أنه لا يخطئ. وكانت تلك الحادثة من الغرائب وهي أن يرى أميٌ من الوثنيين ما لم يرَهُ الكتبة والفريسيون من أُمة المسيح.
لِلَّذِينَ يَتْبَعُونه أي ليس لتلاميذه فقط، بل لرسل القائد وللجمع المحيط به.
إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا كان هذا الإيمان بقدرة المسيح على شفاء المرضى، ويحتمل أنه آمن بأن المسيح يقدر أن يخلِّص النفس أيضاً. فالغريب أن إيمانه كان متفرِّداً، فلم يُظهر أحد من تلاميذه إيماناً كإيمانه بقدرته على الشفاء بكلمة ولو من على بُعد. ولا آمن أحدٌ من الأمة اليهودية التي تعرف النبوات التي تعلن صفات المسيح وأعماله ومعجزاته. فإذا قارنت إيمان مريم ومرثا بإيمان ذلك القائد تبين لك صحة ما ذُكِر (يوحنا ١١: ٢١، ٣٢ وانظر متّى ٩: ٢١).
ومقارنة المسيح إيمان ذلك القائد بإيمان إسرائيل دليل على أنه لم يكن متهوداً أو دخيلاً تبع الدين اليهودي. وشهادة الشيوخ الواردة في لوقا ٦: ٥ لا تدل إلا على أنه كان راضياً عن اليهود مستحسناً دينهم.
فِي إِسْرَائِيل هو اسم يعقوب (تكوين ٣٢: ٢٨، ٢٩) وهو اسم الاثني عشر سبطاً إلى أيام يربعام، ثم صار اسماً لعشرة أسباط منهم إلى وقت سبي بابل، ثم أُطلق على الأمة كلها.
١١ « وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ».
تكوين ١٢: ٣ وإشعياء ٢: ٢، ٣ و١١: ١٠ ولوقا ١٣: ٢٩ وأعمال ١٠: ٤٥ و١١: ١٨ و١٤: ٢٧ ورومية ١٥: ٩ - ١٢ وأفسس ٣: ٦
تنبأ المسيح هنا بحوادث كثيرة في المستقبل مثل حادثة القائد، وأنه كما فاق الأمميُّ اليهودَ معرفةً وإيماناً بالمسيح، هكذا سيفعل جموع كثيرة من الأمم. وهذا أول كلام أشار به المسيح إلى دخول الأمم في ملكوته الجديد. لقد كانت بلاغة الكلام في خطاب يسوع بأنه كان يغتنم الفرص ليلفت النظر إلى الأمور الفضلى في الحياة، فينبِّه الناس للجوهر دون العرض. وإن ملكوته يضم الصالحين في قلوبهم من الفئة المؤمنة، لا الذين يرثون الصلاح ولو كانوا من الجنس المختار.
مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِب أي من كل الجهات حتى أقاصي الأرض. وفي ذلك وعدٌ ووعيد. الوعد للبعيدين عن المسيح، والوعيد للذين عندهم ما يمكن أن يجعلهم أقرب إليه.
وَيَتَّكِئُونَ مجاز يدل على الراحة، وهو مأخوذ من عادة الولائم في تلك الأيام. فالمسيح يشبِّه خيرات ملكوته بوليمة (لوقا ١٤: ١٦). ويشير أيضاً إلى الدخول في العائلة. والاشتراك مع الشرفاء في الوليمة يتضمن الشرف والسعادة.
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ هم رؤساء الآباء الثلاثة، وقد صوَّرهم المسيح يرأسون كلَّ العائلة العظيمة المتسلسلة منهم. وظلت تلك العائلة قروناً كثيرة الشعب المختار والكنيسة المنظورة. وكان الدخول إليها يتضمن الحقوق السياسية والشعبية، والحقوق الدينية الروحية. وابتدأ امتداد تلك السعادة للأمم على الأرض منذ مجيء المسيح وسينتهي في السماء.
١٢ «وَأَمَّا بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ».
متّى ٢١: ٤٣ و١٣: ٤٢ و٢٢: ١٣ و٢٤: ٥١ و٢٥: ٣٠ ولوقا ١٣: ٢٨ ورومية ٢: ٢٥ - ٢٩ و٢بطرس ٢: ١٧ ويهوذا ١٣
بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ هم نسل إبراهيم الذين اختارهم الله أولاداً بالتبني، فحسبوا نفوسهم مُقربي الله وورثة ملكوته، واحتقروا الأمم كأنهم خارجون عن ذلك الملكوت.
فَيُطْرَحُونَ إِلَى ٱلظُّلْمَةِ أشار هنا إلى بيت منير ليلاً فيه وليمة، طُرِد منه البعض إلى الخارج حيث الظلام والبكاء على الخيبة. فملكوت الله ملكوت النور والفرح، والطرد منه يعني البعد عن الله وعن معاشرة الأتقياء، وهو أشد العقاب. والذين يُطردون من السماء يُطردون من النور والسعادة والشركة بسبب عدم إيمانهم، ويُطرحون إلى ظلمة جهنم وعارها وحزنها وعذابها.
ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَان كناية عن الحزن والغضب واليأس.
١٣ « ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ: ٱذْهَبْ، وَكَمَا آمَنْتَ لِيَكُنْ لَكَ. فَبَرَأَ غُلاَمُهُ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».
وَكَمَا آمَنْتَ لِيَكُنْ لَكَ لم يقصد أن إيمانه استحق ذلك الثواب، بل أن النعمة وُهبت له بالنسبة إلى إيمانه. فإيمان قائد المئة كان سبباً في شفاء عبده وحياته. وفي ذلك تشجيع عظيم لكل من يصلي لأجل غيره، ولا سيما الآباء من أجل أولادهم. والإيمان المقبول ليس مجرد التصديق بل ما يحدث به الثقة بالمسيح والالتجاء إليه بالتواضع.
فَبَرَأَ في الحال. لم يصل المسيح إلى البيت، ولم يرَ المريض. لكنه شفاه بكلمة من على بُعد، فأظهر بذلك شفقته وقوته. واليوم مع أن المسيح غائب بالجسد، لكنه لا يزال يشفي أمراض الجسد والنفس إجابة لصلواتنا.
١٤، ١٥ «١٤ وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ بُطْرُسَ، رَأَى حَمَاتَهُ مَطْرُوحَةً وَمَحْمُومَةً، ١٥ فَلَمَسَ يَدَهَا فَتَرَكَتْهَا ٱلْحُمَّى، فَقَامَتْ وَخَدَمَتْهُمْ».
مرقس ١: ٢٩ - ٣١ ولوقا ٤: ٣٨، ٣٩ و١كورنثوس ٩: ٥
هذه هي المعجزة الثالثة التي ذكرها البشير متّى. وهي تدل على أن قوة المسيح على الأمراض المعتادة كالحمى كقوته على الأمراض العظيمة كالبرص والفالج. ولم يفعل هذه المعجزة أمام الجمع كالمعجزتين السابقتين. وزاد مرقس ولوقا على قول متّى أن المسيح فعل تلك المعجزة في يوم السبت، وأنه دخل قبلاً المجمع وعلَّم، وأخرج الروح النجس من مجنون.
بَيْتِ بُطْرُسَ في كفرناحوم، وهي وطن المسيح في الجليل (مرقس ١: ٢٩). ولكن بطرس وُلد في بيت صيدا (يوحنا ١: ٤٥).
حَمَاتَهُ كان بطرس متزوجاً. ومن ١كورنثوس ٩: ٥ نرى أن زوجته كانت تحيا معه. ولم يمنع زواجه في اختياره رسولاً (عبرانيين ١٣: ٤).
مَحْمُومَةً قال لوقا «أخذتها حمى شديدة».
لَمَسَ يَدَهَا فعل ذلك بخلاف ما فعله في شفاه عبد القائد، فأظهر أن قوته ليست محدودة بالأحوال أو الأساليب. على أن المسيح كان يستخدم الحواس في عمل المعجزات ليدل على أن الشفاء متوقف على قوته ومشيئته.
فَقَامَتْ وَخَدَمَتْهُمْ لم يشفها فقط ويتركها ضعيفة من تأثير المرض، بل ردَّ إليها القوة التي كانت قبله. وأول الطرق وأفضلها لاستعمال الصحة بعد المرض هو أن نوقفها لخدمة المسيح. وعلى كل من يشفيهم المسيح أن يخدموه.
١٦ «وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ، فَأَخْرَجَ ٱلأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ، وَجَمِيعَ ٱلْمَرْضَى شَفَاهُمْ».
مرقس ١: ٣٢ الخ ولوقا ٤: ٤٠، ٤١ وأعمال ١٠: ٣٨
انتشر خبر مجيء المسيح إلى كفرناحوم، وما أجراه من معجزات، فجاء كثيرون إليه مساءً. ولعلهم أتوا بالمرضى حينئذٍ لانخفاض الحر، أو لأنهم رأوا أن المجيء بعد الغروب أوفق لأن ذلك كان يوم السبت (مرقس ١: ٢١، ٢٩). ويظهر مما قيل في هذه الآية أن المسيح عمل معجزات كثيرة لم تُذكر بالتفصيل.
مَجَانِين هم الذين تسلطت عليهم الشياطين، فضربوهم بأمراض جسدية أو عقلية أو بكليهما، فأطاعت الأرواح النجسة أمر المسيح وخرجت، فشُفي المجانين عقلاً وجسداً.
وَجَمِيعَ ٱلْمَرْضَى شَفَاهُم يظهر من مرقس ١: ٣٣ أن المدينة كلها تحركت يومئذٍ، وأنه لم يبقَ في المدينة سقيم. وذلك رمزٌ عما استعد المسيح أن يعمله لنفوس الناس من فيض نعمته.
١٧ «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا».
إشعياء ٥٣: ٤ و١بطرس ٢: ٢٤
لِكَيْ يَتِمَّ قصد البشير متّى أن يبرهن لليهود أن يسوع هو المسيح، فقال إن أعمال المسيح في شفاء المرضى كانت تحقيقاً للنبوات القديمة المتعلقة بأفعال المسيح. وهنا ذكر المعجزة السادسة. وقد اقتبس هذا الكلام من نبوة إشعياء ٥٣: ٤.
أَسْقَامَنَا ظن بعضهم أن النبي أشار بهذه الكلمة إلى المصائب الأخلاقية. فإن صح ظنهم فلا فرق، لأن الكتاب المقدس يذكر على الدوام المصائب الروحية والمصائب الجسدية مقترنين معاً، باعتبارهما فرعين لأصل واحدٍ. فالكلمة في الأصل العبراني تصدق على الأمرين، مثل كلمة «شر» في اللغة العربية. فالنبوات تذكر المسيح كأنه متألم يشارك الغير في آلامهم. وزاد البشير على ذلك أن المسيح طبيب يشفي أمراض النفس والجسد.
أَخَذَ... وَحَمَلَ هذا اصطلاح في الذبائح الموسوية لأن الذبيحة كانت تؤخذ بدل الخاطئ، ويقال إنها حملت خطيته. وليس معنى «إن المسيح أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا» أنها نُقلت إليه حقيقة، فإننا نعلم أنه جاع وعطش وتعب، ولكن لم نعلم من ذلك قط أنه مرِض. فالمقصود بقوله «حمل أمراضنا» الإشارة إلى كل عمل المسيح لأجلنا الذي أكمله على الصليب وفقاً لقول الرسول الإلهي «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ» (١بطرس ٢: ٢٤). والمرض أحد نتائج الخطية، وأعمال المسيح في الشفاء رموز وعرابين لأفعاله الروحية. ولم يرفع شيئاً من تلك النتائج إلا بأن حمل الخطية، فإنه أخذ على نفسه كل حِمل البشر الساقطين من الخطايا والأحزان وأنواع الشرور، فرفع كل ذلك عنهم ووضعه على نفسه، بأن وفى دينهم على الصليب، وحمل أمراضهم أيضاً بأن اشترك في الحزن مع المعذبين. وهو يزيل الأمراض أوقاتاً وينفي علل كل الأحزان والخطايا بفدائه، ويحسب أحزان تابعيه كلها أحزاناً له وفي كل ضيقهم يتضايق (إشعياء ٦٣: ٩). وعمله هذا لا يزال جارياً في العالم إلى هذه الساعة بواسطة الكنيسة، فهي تنشئ المستشفيات وترسل المرسلين الأطباء إلى أقاصي الأرض ليعالجوا الأجساد، وهم يعالجون النفوس. وهذه الفوائد الجسدية التي تقوم بها الكنيسة ليست سوى الأثمار الصغرى من شجرة الحياة التي غرسها المسيح.
١٨ «وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعاً كَثِيرَةً حَوْلَهُ، أَمَرَ بِٱلذَّهَابِ إِلَى ٱلْعَبْرِ».
لم يتقيد متّى بذكر الحوادث حسب زمن حدوثها، فإن المخاطبة هنا لم تكن إلا في مساء اليوم الذي فيه ضرب المسيح الأمثال التي ذكرها هذا البشير في أصحاح ١٣ من إنجيله. ولعل متّى أراد أن يذكر هنا تسكين المسيح اضطراب البحر لأنه من أعظم ما فعله من المعجزات، فذكر المخاطبة التي سبقت هذه المعجزة. ويؤيد ذلك ما جاء في لوقا ٨: ١٢.
وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعاً كَثِيرَةً حدث أحياناً إن اجتمع كثيرون إلى المسيح. وفي أحد هذه الاجتماعات حدث ما ذكره هنا.
أَمَرَ بِٱلذَّهَاب أي أمر تلاميذه الملازمين له، وقد ذكر متّى أربعة منهم في ص ٤: ١٨ - ٢٢.
إِلَى ٱلْعَبْر أي من جانب بحيرة طبرية الغربي إلى جانبها الشرقي، وهي مسافة نحو ستة أميال أو ساعتين. وأمر المسيح بالذهاب إلى هناك لئلا يقيمه الناس ملكاً بغير رضاه، لأنهم كانوا ينتظرون ملكاً سياسياً، ولئلا يظن الحكام أنه يسعى في ثورة في البلاد، وليجعل فرصة للناس في أماكن أخرى أن يسمعوا كلامه، وليستريح قليلاً من تعبه.
١٩ «فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي».
لوقا ٩: ٥٧، ٥٨
جرى الحوار المذكور هنا وهم ذاهبون إلى الشاطئ، حيث كانت السفينة. وسبب ما جاء فيه وفي أمثاله هو انتظار النفع الدنيوي من المسيح الذي هو رجل الأحزان والأتعاب (إشعياء ٥٣: ٤) وعجز الناس عن أن يفهموا تلك النبوءة. ولا شك أن هذا الكاتب اندفع ليسير مع عاطفته أكثر من اللازم، فأراد يسوع أن يعيده إلى التروي والتبصر في ما عزم عليه، وأراده أن يعرف النفقة قبل أي إقدام.
فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ أي واحد من الكتبة، وهم علماء اليهود ومفسرو الشريعة (متّى ٢: ٤ و٥: ٢٠) وكان أكثر الكتبة أعداء للمسيح (١كورنثوس ١: ٢٠). ونستنتج من جواب المسيح لهذا الكاتب أنه توقع أن يحصل على منافع زمنية بتقربه إلى المسيح، لأنه تأثر من مشاهدة المعجزات وكثرة المجتمعين إلى المسيح.
يَا مُعَلِّم تلقيب الكاتب المسيح بهذا يدل على أنه اعتبره معلماً أعظم منه.
أَتْبَعُك أي أكون لك تلميذاً، وأقبل تعليمك. فلم يرد أن يتبعه لمجرد الرفقة في السفر إلى العبر.
أَيْنَمَا تَمْضِي أي إلى كل مكان تذهب إليه في كل حال وضيق وخطر، لكن على شرط لم يذكره وهو أن يشترك في الغلبة والمجد عندما يجلس المسيح على كرسي الملك.
٢٠ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ».
يتبين قصد ذلك الكاتب من جواب المسيح هنا، فلو كان طلبه نتيجة محبته للمسيح ما أعطاه المسيح هذا الجواب. وجواب المسيح لا يدل على الفقر الشديد كما فهم البعض لأنه كان للمسيح أصحاب كثيرون قادرون على مساعدته ومستعدون لها (انظر لوقا ٨: ٣ و١٠: ٣٨) ولعله قصد أن لا مكان معين له، وأن الحياة تفرض عليه السفر من مكان إلى آخر، وهذا خلاف ما توقع الكاتب على ملازمته للمسيح.
فغاية المسيح في ذلك أن يقطع رجاء الكاتب الحصول على الخيرات الدنيوية من اتِّباعه. وربما ظهر للبعض أن ملازمة هذا الكاتب للمسيح ستفيد المسيحية في أول أمرها، فعجبوا من عدم اكتراث المسيح به وعدم ترغيبه إياه في أن يتبعه. لكن المسيح لم يُرد أن يكون له تلاميذ غايتهم دنيوية، ولا من يخدعون أنفسهم بتوقعهم الفوائد العالمية، ولا من لم يتوقعوا الضيق والاضطهاد من اتِّباعه.
الثَّعَالِبِ... وَالِطُيُورِ خص الثعالب والطيور بالذكر لأنه حسبها نائبة عن الحيوانات الدنيئة، فبيَّن أنه لا يملك قصوراً وحقولاً يوزعها على أتباعه، بينما تلك الحيوانات الدنيئة لها أكثر مما له، لأن لها مساكن معلومة خاصة.
أَوْجِرَةٌ جمع وجار، وهو مسكن الحيوان الوحشي من مغارة وما شابهها.
أَوْكَارٌ جمع وكر وهو بيت الطائر، وهو مكانه للراحة والأمن.
ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ لا يدل هذا الاسم على أن المسيح مجرد إنسان كسائر البشر، لأن ما قيل فيه هنا لا يصدق على كل واحد من الناس، فهو اسم مختص به بناءً على ما قيل عنه في دانيال ٧: ١٣. فإنه في الأصل «ابن الله» بالحق وهو «ابن الإنسان» لأنه أخذ لنفسه الطبيعة البشرية. وهذان الاسمان يدلان على طبيعتيه البشرية والإلهية. فإذاً ابن الإنسان هو ابن الله المتجسد، وهو آدم الثاني في أحوال اتضاعه وآلامه. ولم يرد هذا الاسم في الإنجيل لغير المسيح، ولا أحد يسميه به في البشائر سواه. وقد أطلق هذا الاسم على نفسه ٦١ مرة. ولعل المراد من تسميته بذلك في أعمال ٧: ٥٦ ورؤيا ١: ١٣ و١٤: ١٤ أنه الذي اعتاد أن يسمي نفسه «ابن الإنسان». ولعل عدم استعمال تلاميذه هذا الاسم له وهو على الأرض كان دفعاً لما يلزم منه من الإهانة والاستخفاف، لأنه لقب احتقار لا لقب شرف. ولكنه استعمله إشارة إلى ناسوته التام الذي اتخذه من البشر، وإلى اشتراكه معهم في كل شيء ما عدا الخطية.
لَيْسَ لَهُ الخ أي ليس له مسكن معين يملكه أو يتصرف به كما يشاء. ولا يعني هذا أن المسيح بات ليلاً في العراء لعدم وجود مأوى له سوى تلك الليالي التي انقضت عليه وهو يصلي باختياره منفرداً، فإنه لما أبى السامريون أن يقبلوه في قريتهم ذهب إلى قرية أخرى (لوقا ٩: ٥٦). فإذا كان قصد الكاتب أنه مستعد أن يتبع المسيح في المصائب الوقتية بغية المناصب الشريفة حين يثبت ملكوته، كان قصد المسيح بجوابه أن ملكوته ليس من هذا العالم، وأنه ليس سوى سائح على الأرض لا مسكن معين له. فالمسيح لم يطرد الكاتب ويمنعه من اتِّباعه بل أراده جلياً نصيب تابعيه الحقيقيين إصلاحاً لأخطائه في طلب الخير الدنيوي من ملازمته له. والمرجح أنه رجع عن قصد لما سمع هذا الجواب.
وهذا يعلِّمنا أن نحتمل الضيقات بإنكار الذات، كما احتملها رئيسنا لأجلنا، فإنه وُلد في مذود ليس له، وكان غريباً في العالم الذي هو خلقه، ودُفن بعد موته في قبر مستعار ليرينا عدم قيمة الغنى الأرضي ويشتري لنا الغنى الحقيقي (٢كورنثوس ٨: ٩). فيخطئ من يتوقع من المسيح غير خلاص نفسه.
٢١ «وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا سَيِّدُ، ٱئْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي».
مِنْ تَلاَمِيذِهِ أي من الذين تبعوه ليتعلموا منه، واعترفوا بأنه معلم ذو سلطان لا من رسله.
أَدْفِنَ أَبِي يتبين من ذلك أن أباه قد مات ولم يُدفن بعد، وأراد بدفنه القيام بكل ما يتعلق بالجنازة حسب عوائد تلك الأيام. ووعد المسيح أنه يتبعه على شرط أنه يسمح المسيح له بأن يوم بواجباته لوالده المتوفى. فيظهر لنا أن طلبه في محله لأنه من واجبات الدين أن يكرَم الوالدان أحياءً وأمواتاً. لكن المرجح أن المسيح رأى خطراً على نفس ذلك التلميذ من الرجوع إلى بيته، وأراد أن يعلمه أن القيام بالواجبات للمسيح أفضل وأهم من القيام بالواجبات للوالدين.
ظن بعضهم أن أباه لم يكن قد مات وأنه شيخ طاعن في السن، فطلب ذلك التلميذ أن يبقى عنده إلى يوم موته ودفنه. ولكن لا دليل على صحة هذا الظن أو ترجيحه.
٢٢ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱتْبَعْنِي، وَدَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ».
لوقا ٩: ٥٩، ٦٠
ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُم أي اترك موتى النفس يدفنون موتى الأجساد. وأراد بموتى النفوس أصحاب الميت وأصدقاءه غير المؤمنين. فإن للموت في الكتاب المقدس معنيان: حقيقي ومجازي (يوحنا ١١: ٢٥، ٢٦) فكأنه قال له إن هنالك من يهتم بدفن أبيك، فقد دعوتك لتتبعني فلا تلتفت إلى دعوة أخرى. فأراد المسيح بذلك أنه حين يدعو إنساناً، يجب على هذا الإنسان أن لا يتعطل عن الطاعة، لأنها أعظم من كل واجباته نحو الناس كقيام الولد بدفن والده.
رأى بعضهم أن المسيح أراد بذلك أن يمتحن ذلك التلميذ ليرى إن كان مستعداً أن يترك كل شيء من أجله، كما طلب في متّى ١٠: ٢٧ «اَلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ، وَالَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ» ولوقا ١٤: ٢٦ «نْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا». وظن البعض أن أقرباءه يمنعونه إن ذهب إليهم عن الرجوع إلى المسيح، أو إن انفعالاته تمنعه عن ذلك الرجوع. ولا ريب في أن هنالك سبباً كافياً لمنع المسيح له من أنه كان في قلبه شيءٌ من عدم عقد النية على البقاء مع المسيح.
ومن فهم من قوله «دَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ» أن الفريقين موتى بالحقيقة أتى في ذلك معنى مفيداً أيضاً، فإن دفن الموتى ذواتهم مستحيل، فيلزم منه أن ترك الموتى بلا دفن أفضل من أن يترك الإنسان طاعته للمسيح ويهلك نفسه. ولكن ذلك بعيدٌ عن ظاهر الكلام.
٢٣ «وَلَمَّا دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ تَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ».
هنا معجزة أخرى من معجزات المسيح أظهرت سلطانه على العناصر والقوى الطبيعية.
ٱلسَّفِينَةَ هي قارب للصيد لعله لبطرس وأندراوس، أو لابني زبدي، أو قارب مستأجر للسفر.
تَلاَمِيذُه هم الذين اعتادوا رفقته كبطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا.
٢٤ «وَإِذَا ٱضْطِرَابٌ عَظِيمٌ قَدْ حَدَثَ فِي ٱلْبَحْرِ حَتَّى غَطَّتِ ٱلأَمْوَاجُ ٱلسَّفِينَةَ، وَكَانَ هُوَ نَائِماً».
مرقس ٤: ٣٧ الخ ولوقا ٨: ٢٣ الخ
وَإِذَا حرف فجاءة، يدل على حدوث ما لم يكن متوقعاً.
ٱضْطِرَابٌ عَظِيمٌ سطح بحيرة طبرية منخفض عن سطح البحر المتوسط بنحو ٦٠٠ قدم، وتحيط بها أكمة عالية، فكانت عرضة للعواصف الفجائية والاضطرابات الشديدة التي يُخشى منها على السفن الصغيرة كقوارب الصيادين. فلا بد من أن ذلك الاضطراب كان غير عادي لأنه أخاف التلاميذ، مع أنهم اعتادوا البحر منذ الصغر لأنهم صيادون.
غَطَّتِ ٱلأَمْوَاجُ ٱلسَّفِينَة كانت كل موجة من تلك الأمواج عالية حتى ارتفعت فوق السفينة ومالت عليها حتى كادت تمتلئ من الماء وتغرق.
وَكَانَ هُوَ نَائِماً المرجح أن المسيح كان قد تعب كثيراً من التعليم وشفاء المرضى حتى لم يستيقظ من صوت الرياح وضجيج الأمواج وحركات السفينة، فدلَّ نومه على أنه إنسان كما دلت معجزاته عند استيقاظه على أنه إله. وكان بذلك خلاف يونان النبي الذي نام وضميره ميت. أما المسيح فنام وضميره مستريح. وكان حضور يونان سبب اضطراب البحر والخطر لمن معه. أما حضور المسيح فحقق الأمن لرفاقه.
٢٥ «فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ، نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ!».
أَيْقَظُوهُ الأرجح أنهم انتظروا يقظته ما أمكنهم قبل أن يوقظوه، ثم نادوه بصراخ الخوف والسرعة.
نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِك أي أنقذنا من هذا الخطر، لأننا أخذنا نغرق، ولذلك أيقظناك؟
٢٦ «فَقَالَ لَـهُمْ: مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ؟ ثُمَّ قَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيَاحَ وَٱلْبَحْرَ، فَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ».
مزمور ٦٥: ٧ و٨٩: ٩ و١٠٧: ٢٩
مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ؟ أراد بهذا السؤال توبيخهم وعدم رضاه عنهم، ليس لانتفاء الخطر أو عدم ما يحملهم على الخوف، بل لأن حضوره كان يوجب عليهم أن لا يخافوا بل أن يثقوا بقوته وإرادته أن ينقذهم. ولعلَّ نوم المسيح في مثل ذلك الوقت كان سبب ضعف ثقتهم. لكنهم أخطأوا بأنهم ربطوا بين سلطانه ويقظته، لأنه كان يجب عليهم أن يتيقنوا أن حضوره يؤكد خلاصهم نائماً كان أم مستيقظاً.
وكثيرون اليوم من تلاميذ المسيح لهم من الإيمان والمحبة ما هو كافٍ لأن يحملهم على ترك كل شيء من أجله ومع ذلك يخافون في الضيقات خوفاً شديداً.
يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَان كان للتلاميذ إيمان قليل. ولو لم يكن لهم شيءٌ من الإيمان ما لجأوا إليه في وقت الخطر، لكن كان عليهم أن يكون إيمانهم كثيراً بعد أن شاهدوا معجزاته. والقليل من الإيمان أفضل من عدمه، لأن المسيح بعد ما وبخهم على قلة إيمانهم أثابهم على ذلك الإيمان القليل بإجابة صلاتهم وتهدئة البحر.
إن هذه الحادثة تذكر المسيحي كيف حفظ الله الفلك على مياه الطوفان التي أغرقت العالم القديم، وتعلمه وجوب الثقة بالمسيح الحاضر معنا، الغير منظور في زمن الخطر الشخصي، وعندما تهب عواصف الاضطهاد على الكنيسة.
ٱنْتَهَرَ ٱلرِّيَاح خاطب الريح كأنها فعلت فعلاً تدركه. وهذا ما جعل البعض يظنون أنه كان للأبالسة يد في ذلك الاضطراب، لأن الإنجيل استعمل نفس هذا اللفظ «انتهر» لتوبيخ المسيح للروح النجس (مرقس ٩: ٢٥). ومما قوَّى ظنهم هو أن الخطية هي سبب كل مصيبة في العالم، وسبب الخطية الشيطان. وأما نحن فنقول إن المسيح أنزل العناصر منزلة العصاة فانتهرها كما انتهر الحمى (لوقا ٤: ٣٩) فنفذ أمره بسهولة غريبة. فموسى تسلط على المياه بعصا الله، ويشوع بتابوت العهد، وأليشع برضى إيليا. وأما يسوع فبكلمة منه.
فَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ خضعت العناصر في أعظم اضطرابها لأمر المسيح ذي السلطان عليها. وإن كان قد سمح للأبالسة أن يتسلطوا وقتاً على تلك العناصر، فقد عجزوا عند كلمة المسيح. فإنه بكلمة واحدة من شفتيه سكنت الريح وسكتت الأمواج. وهذه المعجزة رمزٌ إلى فعل المسيح الروحي الذي يفعله في كل زمان، وهو منحه الراحة للنفس في اضطرابات هذه الحياة وإخضاعه كل قوة مانعة من تقدم ملكوته.
كثيراً ما تكون طريق الواجبات طريق خطر، فيجب على الذين يتبعون المسيح أن لا يتوقعوا منه أنه سيعفيهم من المصائب. ولكن إذا كان الرب معهم وهم متكلون عليه فليس الخطر مخيفاً ولا الموت هائلاً.
٢٧ «فَتَعَجَّبَ ٱلنَّاسُ قَائِلِينَ: أَيُّ إِنْسَانٍ هٰذَا! فَإِنَّ ٱلرِّيَاحَ وَٱلْبَحْرَ جَمِيعاً تُطِيعهُ».
تَعَجَّبَ ٱلنَّاسُ ظنَّ بعضهم أن الذين تعجبوا الملاحون لا الرسل، ولكن الأرجح أن العجب شمل الفريقين، لأنه المسيح بينهم كان ذا صفات أعظم مما تصوروا، فاقترابهم من شخص له مثل هذا السلطان جعلهم يتعجبون ويخافون أيضاً (مرقس ٥: ٤١).
أَيُّ إِنْسَانٍ هٰذَا!؟ استفهام يراد به عظيم التعجب مما شاهدوه من سلطان المسيح على الرياح والبحر، علاوة على ما عهدوه من قوته على الأمراض والأرواح النجسة لأنها أطاعته طاعة العبيد لأربابهم (مزمور ٨٩: ٨، ٩). وقد أذن الله في وقوع ذلك الاضطراب لزيادة مجد المسيح في تسكينه، ويعظم شأنه في عيون تلاميذه وليقوي ثقتهم بنجاتهم من كل خطرٍ بواسطة القرب منه، ولكي يرى تلاميذه ضعف إيمانهم.
٢٨ «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْعَبْرِ إِلَى كُورَةِ ٱلْجِرْجَسِيِّينَ ٱسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونَانِ خَارِجَانِ مِنَ ٱلْقُبُورِ هَائِجَانِ جِدّاً، حَتَّى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ تِلْكَ ٱلطَّرِيق».
مرقس ٥: ١ - ٢٠ ولوقا ٨: ٢٦ - ٣٩
ٱلْعَبْرِ أي الجانب الشرقي من بحيرة طبرية.
كُورَةِ ٱلْجِرْجَسِيِّين لعلها سُميت كذلك من مدينة اسمها جرسة أو كرسة على شاطئ بحيرة طبرية، وهذه المنطقة قسم من بلاد الجدريين نسبة إلى عاصمتها «جدرة» إحدى المدن العشر المشهورة، فسمى مرقس ولوقا هذه المنطقة باسم البلاد التي هي قسم منها (مرقس ٥: ١ ولوقا ٨: ٦). ولعله ذكرها باسمها القديم قبل أن يهدمها بنو إسرائيل (تكوين ١٥: ٢١ ويشوع ٣: ١٠ و٢٤: ١١ وتثنية ٧: ١).
ٱسْتَقْبَلَهُ كان ذلك حين نزلوا من السفينة إلى البر، ولعل المجنونين كانا يراقبانهم وهم مقبلون على السفينة.
مَجْنُونَان لم يذكر مرقس ولوقا سوى واحد منهما، ولعل أحدهما كان أشد جنوناً من الآخر، أو لأن أمره كان أهم من أمر الآخر لعلة لا نعلمها. ونرى من تتبع البشائر أن متّى يهتم بذكر العدد أكثر من سائر البشيرين (متّى ٩: ٢٧ و٢١: ٢) وأن مرقس اعتنى بذكر إمارات وجه المسيح وإشاراته أكثر من سواه، ولوقا بذل الجهد في ذكر صلوات المسيح، ويوحنا اهتمَّ أكثر بأحاديث المسيح وخطاباته. ولا تناقض بين متّى ومرقس في أن ذكر أحدهما المجنونين واقتصر الثاني على ذكر واحد منهما، بل أن ذلك يدل على استقلال كلٍ منهما في ما كتبه. وقد ذكرنا ما يتعلق بالجنون في شرحنا لمتّى ٤: ٢٤.
خَارِجَانِ مِنَ ٱلْقُبُورِ تأوي الوحوش أو اللصوص إلى القبور القديمة (كما ذكر يوسيفوس المؤرخ) كما يأوي إليها المجانين المطرودون من بيوت الناس أو التاركون لها اختياراً. واعتبر اليهود تلك القبور نجسة، وتجنبها الأمم اعتقاداً أنها مساكن أرواح الموتى. أما المجانين فسكنوها لأنهم وجدوها موافقة لأحوال عقولهم التعسة.
هَائِجَانِ جِدّا زاد مرقس ولوقا على ذلك بيان الوسائل التي اتخذها الناس لمنع المجنونين من إيذاء نفسيهما والإضرار بالغير، من ربطهما بقيود وسلاسل، ولكنها ذهبت عبثاً (مرقس ٥: ٣ - ٥ ولوقا ٨: ٢٩). واقتصر متّى على ذكر خوف أهل البلاد منهم. فما أعظم الشقاء والأذى الذي يسببه تسلط الشياطين على الناس.
٢٩ «وَإِذَا هُمَا قَدْ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ ٱلْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟».
قد صرخا: العجب من أن المجنونين اكتفيا بالصراخ فلو كان الحاضرون غير المسيح وتلاميذه لهجما عليهم لا محالة، فإنهما قد منعا الناس أن يمروا من هناك. والذي منعهما من الهجوم معرفة الشياطين المسيح وخوفهم منه.
مَا لَنَا وَلَكَ؟ تكلمت الأبالسة بفمي المجنونين، واستعملت ضمير الجمع بقولها «ما لنا». إما لأنها جنس، وإما لأنها كثيرة في ذلك المجنونين. واستفهام أولئك الأرواح استنكاري، أرادوا به أنه لا حقَّ للمسيح في معارضته لهم، فهم لا يتوقعون النفع من المسيح ولا الرحمة، إنما يخافون من العقاب. وكلامهم يدل على إرادة المقاومة للمسيح، مع شعورهم بالعجز عنها.
قبل الوقت لتعذبنا: الأرجح أن «الوقت» هو يوم الدين (يهوذا ٥ و٢بطرس ٢: ٤ و١كورنثوس ٦: ٣ ورؤيا ٢٠: ١٠). فخافوا من أن يمنعهم المسيح من الجولان في الأرض ويرسلهم إلى جهنم. ويظهر من ذلك أن الشياطين يرون منعهم عن تعذيب غيرهم عذاباً لهم علاوة على عذابهم في جهنم.
ٱبْنَ ٱللّٰهِ هذا ليل واضح على أن جنون الرجلين لم يكن مرضاً عادياً بل كان مساً من الشياطين وإلا ما عرفا أن يسوع ابن الله، أما الشياطين فيعلمون ذلك. ويظهر من هنا أن الملائكة الأطهار لا يمتازون عن الأبالسة بالمعرفة بل بالمحبة.
٣٠ «وَكَانَ بَعِيداً مِنْهُمْ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى».
حرمت شريعة موسى أكل لحم الخنزير (لاويين ١١: ٧ وتثنية ١٤: ٨). إنما الذين كانوا يأكلون ذلك اللحم يومئذٍ هم العسكر الروماني وغيرهم من الأمم. وكان أكثر سكان تلك المنطقة أمماً، فربوا الخنازير طعاماً لهم وربحاً من بيعه للرومان. ولم تكن تلك الخنازير بعيدة عن المشاهدين بعداً يجاوز حد النظر وكان عدد تلك الخنازير نحو ألفين (مرقس ٥: ١٣).
٣١ «فَٱلشَّيَاطِينُ طَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنَا، فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى قَطِيعِ ٱلْخَنَازِيرِ».
طلب الأبالسة إلى المسيح أمرين: (١) أن يتركهم، و(٢) أن يأذن لهم بالذهاب إلى الخنازير إن أجبرهم على الخروج من الرجلين. ولا نعلم كيف يمكن لتلك الأرواح أن تسكن تلك البهائم، ولا نعلم القصد من طلبهم ذلك. ولعل السبب أن يبقوا في تلك المنطقة، أو أن تبقى لهم فرصة للأذى بعد ذلك، أو أن يهيجوا السكان على يسوع. ولنا في ذلك تعزية حسنة، وهي أن قوة الشيطان محدودة، فلا يمكنه أن يفعل شيئاً إلا بإذن الله.
٣٢ «فَقَالَ لَـهُمُ: ٱمْضُوا. فَخَرَجُوا وَمَضَوْا إِلَى قَطِيعِ ٱلْخَنَازِيرِ، وَإِذَا قَطِيعُ ٱلْخَنَازِيرِ كُلُّهُ قَدِ ٱنْدَفَعَ مِنْ عَلَى ٱلْجُرْفِ إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَمَاتَ فِي ٱلْمِيَاهِ».
ٱمْضُوا أذن المسيح للشياطين ليحول شرهم خيراً كما يفعل بأعمال الناس الأشرار «لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ الْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا» (مزمور ٧٦: ١٠). ولعله أذن لهم في ذلك ليوضح رداءة أولئك الأرواح، وليظهر عظمة نجاة المجنونين منهم.
في هذه القصة أورد البشير متّى كثيراً من الدعابة، فقد كان يكتب لقوم يعرفون عادات الأمم ويقارنونها بعادات اليهود وتقاليدهم من جهة نجاسة الخنازير، فصوَّر هذه النتيجة المحزنة لتجار الخنازير وخسارتهم الفادحة، يقابلها الربح الحقيقي بإرجاع ذي الروح النجس للصحة الكاملة.
وَإِذَا قَطِيعُ ٱلْخَنَازِيرِ الخ نتيجة دخول الأبالسة في الخنازير اختارت الخنازير الهلاك (وهو مما تجتنبه بالغريزة) عند دخول تلك الأرواح فيها، فركضت واندفعت من الجبل حيث كانت ترعى إلى البحر فغرقت كلها. وهذا يبرهن أن جنون الرجلين كان من تلك الأرواح لا من مرض عادي. ويبرهن الفرق العظيم بين أعمال المسيح وأعمال الشيطان، فإن أعمال المسيح للخلاص وأعمال الشيطان للهلاك.
لام البعض المسيح لأنه جلب على أصحاب الخنازير خسارة مادية. وردَّ بعضهم على ذلك بأن أصحاب تلك الخنازير كانوا يهوداً لا يجوز لهم أن يتجروا بالخنازير، فعاقبهم المسيح بعدل وأهلك خنازيرهم. لكن لا دليل على ذلك. وردَّ البعض بأن هلاك الخنازير كان نتيجة عمل الشياطين لا عمل المسيح. ولو كان المسيح سبباً لذلك لأقام أصحابها الدعوى عليه. وحتى إن سلمنا أن المسيح كان العلة في ذلك فإن للمسيح الإله كل الحق أن يميت الخنازير بأي طريق أراد، كالوباء أو الصواعق أو الغرق. وتجسد المسيح لا ينقص حقه في أن يتصرف كيف شاء بخليقته. والنظر في شفاء المجنونين من سلطة الشيطان أفضل من البحث عن موت الخنازير. ففي كل يوم تُذبح ألوف من البهائم لمنفعة أجساد البشر، فلا اعتبار لتلك الخسارة القليلة بالنسبة إلى نفع النفوس الخالدة. ومن حسب الله مسؤولاً عن كل شر في العالم وقع في خطية التجديف!
٣٣ «أَمَّا ٱلرُّعَاةُ فَهَرَبُوا وَمَضَوْا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ، وَأَخْبَرُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَنْ أَمْرِ ٱلْمَجْنُونَيْنِ».
هرب الرعاة خوفاً مما حدث، وليخبروا أهل المدينة وأصحاب الخنازير، وليبرروا أنفسهم من تلك الخسارة. فرووا الخبر كله مبتدئين بموت الخنازير، ومنتهين بشفاء المجنونين. ولا نعلم كيف عرفوا علاقة الأول بالثاني. الأغلب أنهم مرّوا بالمسيح وتلاميذه فعرفوا سبب الأمر كله.
٣٤ «فَإِذَا كُلُّ ٱلْمَدِينَةِ قَدْ خَرَجَتْ لِمُلاَقَاةِ يَسُوعَ. وَلَمَّا أَبْصَرُوهُ طَلَبُوا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ».
أيوب ٢١: ١٤ و٢٢: ١٧ وأعمال ١٦: ٣٩
كُلُّ ٱلْمَدِينَةِ أي أكثر سكانها حسب اصطلاح اللغة.
لِمُلاَقَاةِ يَسُوعَ ليمنعوه من التقدم إلى مدينتهم خوفاً من خسارة أخرى بقوته الغريبة. ولا عجب أن خافوا من مجيء المسيح لأنهم كانوا من الأمم، ولم يعرفوا من أمر المسيح سوى تلك المعجزة، النافعة للمجنونين لكنها أضرَّت بهم. فطلبوا إليه أن يتحول عن تخومهم. وفي هذه الطلبة خسارة لهم، لأن قدومه ينفع أجسادهم وأرواحهم. أما هو فاستجاب لهم في الحال، فكان ذلك من أعظم مصائبهم، لأنه لا مصاب للإنسان أشر من أن الله يستجيبه إذا طلب أن يتركه وشأنه. قال الله «وَيْلٌ لَهُمْ أَيْضًا مَتَى انْصَرَفْتُ عَنْهُمْ!» (هوشع ٩: ١٢). وجهل أولئك الجدريين لا يزال جهل ألوف من الناس، فإن المسيح يقرع أبواب قلوبهم بروحه القدوس، وهو مستعدٌ أن يمنحهم أفضل البركات. أما هم فلعدم فتحهم له يكونون كمن يلتمس منه الانصراف. ومحبة العالم تمنع من قبول المسيح، لأن المجنونين المسكونين بالشياطين كانا مستعدين لقبول المسيح أكثر من الجدريين الدنيويين.
طَلَبُوا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ يسوع غير مرغوب فيه لأنه يعطي ربحاً روحياً وأحياناً خسارة مادية. وما أكثر الماديين الذين يعيشون للخبز فقط ولو عفروا الجباه في سبيل تحصيله، فبئس ما فعلوا، وبئس ربحهم من خسارة حقيقية!
الأصحاح التاسع
١ «فَدَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ وَٱجْتَازَ وَجَاءَ إِلَى مَدِينَتِهِ».
متّى ٤: ١٣
هذا العدد خاتمةٌ لأصحاح ٨ لأن فيه ذكر طلب الجدريين أن ينصرف المسيح عن تخومهم. فلم يكن له إلا أن يدخل السفينة ويرجع. والأرجح أن تلك السفينة هي التي عبر فيها بحر الجليل.
إِلَى مَدِينَتِهِ هي كفرناحوم، لا بيت لحم حيث وُلد، ولا الناصرة حيث تربى. وقد اختار كفرناحوم مركزاً لتبشيره (متّى ٤: ١٣).
٢ «وَإِذَا مَفْلُوجٌ يُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ مَطْرُوحاً عَلَى فِرَاشٍ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ».
مرقس ٢: ٣ ولوقا ٥: ١٨ ومتّى ٨: ١٠
ذكر متّى هنا معجزة أخرى لإثبات أن يسوع هو المسيح. ولم يكن من قصد متّى أن يذكر الحوادث بترتيب تاريخ حدوثها، بل قصد أن يجمع البراهين على قوة المسيح العجيبة الإلهية.
مَفْلُوجٌ أي مُصاب بداء الفالج (الشلل). انظر شرحنا على متّى ٨: ٦.
يُقَدِّمُونَهُ زاد مرقس على ذلك أن الذين قدموه أربعة، وأنهم لما لم يتمكنوا من الوصول إلى المسيح بسبب ازدحام الناس عليه، صعدوا به على السطح ودلوه إلى أمام المسيح (مرقس ٢: ٣، ٤).
مَطْرُوح دليلاً على شدة ضعفه وعجزه.
رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُم أي إيمان المفلوج وإيمان أصدقائه الذين حملوه، وهو ثقتهم أن المسيح يقدر أن يشفيه وهو راضٍ بذلك. ولم يرَ إيمانهم بعلمه الإلهي فقط، لأنه رأى علامات خارجية على إيمانهم، في ما فعلوه، وما كان على إمارات وجوههم، وما قالته كلماتهم، وعدم اكتراثهم بصعوبة الوصول إلى المسيح (مرقس ٢: ٤ ولوقا ٥: ١٩).
ثِقْ يَا بُنَيّ ما أطيب كلمة «يا بنيَّ» هنا، وما أكثرها تشجيعاً لإنسان مسكين فقد عزيمته حتى على الوقوف أو السير. إنه يقول له: تشجع وقم من الأموات فيضيء لك المسيح. «يا بُنيَّ» دليل حبه له، وشفقته عليه، وعلى العلاقة الجديدة بينهما بناءً على إيمانه.
لم يكتف المسيح بمدح إيمان ذلك المفلوج، الذي بالرغم من مرضه الجسدي كان صحيح النفس، فزاده قوة بهذا الكلام. فكأنه قال له: تشجع وافرح بالرجاء. ولعل مرضه وشدة عجزه جعلاه ضعيف الأمل. ويُحتمل أن نفسه قلقت من ذلك المرض لأنها حسبته ضربة من الله على خطاياه، فجاء المسيح ليشفيه نفساً وجسداً، ويعيد إلى نفسه أحسن الرجاء.
مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاك أي في الحال لا في المستقبل، فهو إنجاز لا وعد.
لا نظن أن علة مرضه كانت خطيئته كما كان اليهود يعتقدون. وهذا ما اجتهد المسيح في إزالته (يوحنا ٩: ٣ ولوقا ١٣: ٢ - ٥). ولا نقول إن الخطية لا تسبب مرضاً، لكننا ننفي أن كل مرض نتيجة خطية معينة. وأحب المسيح أن يقرن شفاء الجسد بشفاء النفس ليجعل الأول رمزاً للثاني وعربوناً له، وليبين أنه طبيب النفس كما أنه طبيب الجسد. وفي نبأ المفلوج غرابة وهي أن غفران الخطايا سبق شفاء الجسد خلافاً لعادة المسيح في الشفاء. وقد أبان هنا أن المغفرة هي البركة العظمى، وأنها تشتمل على سائر البركات. وقصد المسيح بذلك أن يحول أفكار الناس من الشفاء الأدنى إلى الشفاء الأسمى، وعندما سُئل أن يشفي جسد المفلوج أعطاه الشفائين. وإن كان للمسيح في حال اتضاعه على الأرض ذلك السلطان على الغفران، فبالأولى أن يكون له وهو مالك في المجد (أعمال ٥: ٣١).
٣ «وَإِذَا قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ قَدْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: هٰذَا يُجَدِّفُ».
وَإِذَا قَوْمٌ أي جماعة بينها جواسيس وأعداءٌ للمسيح. لأجلهم قال ما قاله في العدد الثاني في شأن مغفرة الخطايا.
ٱلْكَتَبَة انظر شرحنا في متّى ٢: ٤ و٥: ٢٠. حسد الكتبة المسيح لكثرة الجموع التابعة له، وأبغضوه لأنه فند تعاليمهم (متّى ٧: ٢٩) ولم يكونوا من كفرناحوم وحدها بل كانوا من كل منطقة الجليل واليهودية ومن أورشليم عينها (لوقا ٥: ١٧). وإتيانهم بكثرة من أماكن بعيدة ليراقبوه دليل على ما كانت عليه أفكار علماء اليهود من الهيجان لما فعله المسيح وعلمه.
قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عرف المسيح ذلك وأن لم ينطقوا به. وهم لم يظنوا أنه عرف، ولكنه عرف إيمان المفلوج وحامليه، كما عرف عدم إيمان الكتبة. وفي هذا برهان على أنه هو الله الذي يعلم أسرار القلوب، فهذا من صفات الله الخاصة (أيوب ٢٨: ٩ ورؤيا ٨: ٢٧ ورؤيا ٢: ٢٣).
يُجَدِّف التجديف ما يشين حق الله والدين. ونسب الكتبة التجديف إلى المسيح لأنه ادَّعى السلطان على مغفرة الخطايا، الأمر الخاص بالله وحده. فأصابوا بقولهم إنه من التجديف أن الإنسان يدعي السلطان على الغفران، لأنه لا يقدر أحد أن يترك ديناً ليس له. وكل خطية ضد الله. فحق المغفرة له وحده. لكنهم أخطأوا في إنكارهم لاهوت المسيح، إذ حسبوه إنساناً مجرداً فحكموا عليه بالتجديف. ويتبين لنا من هذا أن أفضل الناس معرَّض لأن يُتَّهم بارتكاب أفظع الخطايا.
٤ «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِٱلشَّرِّ فِي قُلُوبِكُم؟».
مزمور ٤٤: ٢١ و١٣٩: ٢ ومتّى ١٢: ٢٥ ومرقس ١٢: ١٥ ولوقا ٥: ٢٢ و٦: ٨ و٩: ٤٧ و١١: ١٧
فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ أي أدرك ما في قلوبهم دون أن يبينوه بأفواههم.
تُفَكِّرُونَ بِٱلشَّرِّ كانت أفكارهم شريرة لأنهم لم يؤمنوا بأن يسوع هو المسيح، ولأنهم نسبوا إليه الشر والتجديف.
فِي قُلُوبِكُم قال ذلك لأن حالة قلوبهم كانت علة عدم إيمانهم. واستفهامه هنا للتوبيخ الشديد، كأنه قال لهم: أخطأتم بأنكم ظننتموني مدَّعياً سلطاناً ليس لي، وأني قلتُ ذلك ظناً أن لا أحد يقدر أن يبرهن بُطل دعواي. فكان عليهم أن يعلموا من معجزاته أنه ليس مجرد إنسانٍ.
يتوهم بعض الناس أن الخطية هي ما يُرتكب قولاً أو فعلاً. ولكن ظهر هنا أن الخطية تُرتكب بالفكر أيضاً. فمن الجهل القول بأن لا عقاب على الخطايا الفكرية (عبرانيين ٤: ١٣). ويظهر من سؤال المسيح المتقدم أن الشكَّ في سلطانه على غفران الخطايا خطية!
٥ « أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَٱمْشِ؟».
انتقل المسيح من البرهان العقلي لإثبات سلطانه على مغفرة الخطايا إلى البرهان الحسي، بأن شفى المفلوج بأمره، لأنه علم أن الأدلة العقلية لا تؤثر فيهم. فجاء بذلك الشفاء الحسي دليلاً على صحة الشفاء العقلي.
أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ الخ لم يقل المسيح: هل غفران الخطية أيسر أم شفاء المفلوج؟ بل سأل: أي الدعويين أسهل على الإنسان المخادع؟ ولا شكَّ أن دعوى المغفرة أيسر له، لعدم القدرة على كشف خداعه في ذلك. فاختار المسيح أصعب الدعويين على المخادع لسهولة بيان الحق فيه، وبرهن صدقه بأمره للمفلوج: قم وامشِ، فقام ومشى.
٦ «وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: قُمِ ٱحْمِلْ فِرَاشَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ».
خاطب المسيح الكتبة قبل أن يخاطب المفلوج. وادَّعى بسلطانين يستحيل كلٌّ منهما على الإنسان، وربط أحدهما بالآخر، حتى إذا ثبت أحدهما ثبت الآخر. وإن بطل أحدهما بطل الآخر. فكأنه قال: كما قلت قبلاً بأنه مغفورة له خطاياه، أقول الآن بأنه شُفي من دائه. وإن بقي مفلوجاً فالدعويان باطلتان. وإن شفي بأمري ثبتت الدعويان!
سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أي أن للمسيح على الأرض السلطان الذي اعتقد الكتبة أنه لله وحده في السماء. وسمَّى نفسه بابن الإنسان إعلاناً أنه هو المسيح، لأن ذلك من الأسماء الخاصة به.
قُمِ الخ بعد أن خاطب الكتبة وجَّه المسيح كلامه إلى المريض المطروح أمامه. فجعل تلك المعجزة دليلاً ظاهراً على حقيقة باطنة.
ٱحْمِلْ فِرَاشَكَ وَٱذْهَبْ أمره بذلك ليدل على كمال الشفاء، لأنه بعد شدة ضعفه وعجزه لا يقدر على ذلك إلا إن عادت إليه القوة والعافية الكاملتان.
٧ «فَقَامَ وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ».
لا شكَّ أن أصدقاء المسيح وأعداءه كانوا ينتظرون النتيجة بكل اهتمام، لأنه لو عجز المسيح عن شفاء المفلوج لبطلت كل دعاواه، وكان أمره في ذلك كأمر النبي إيليا وكهنة البعل في جبل الكرمل. فلا ريب في أنه عندما قام ذلك المفلوج افترق بعض الجموع التي منع ازدحامها وصول المفلوج إلى المسيح عن بعض ليعطوا طريقاً لمرور المفلوج الذي أتى يحمله أربعة، فرجع حاملاً ما كان محمولاً عليه. فقد رأينا أنه شُفي بكلمة في الحال ونال تمام الشفاء أمام الجميع أعداءً وأصدقاءً.
٨ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْجُمُوعُ تَعَجَّبُوا وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ ٱلَّذِي أَعْطَى ٱلنَّاسَ سُلْطَاناً مِثْلَ هٰذَا».
متّى ١٥: ٣١
ذكر متّى هنا تأثير تلك المعجزة في المشاهدين، فإنهم تعجبوا من القوة الإلهية التي ظهرت بشفاء شر الأمراض، ومجدوا الله بنسبتهم كل المجد إليه (لوقا ٥: ٢٥).
ٱلنَّاس هذا يدل على أنهم مع كل ما شاهدوه لم يعتقدوا أن المسيح إله، بل ظنوه واحداً من البشر، أو أرادوا بذلك يسوع وتلاميذه.
سُلْطَاناً مِثْلَ هٰذَا أي قوة على شفاء الأمراض ومغفرة الخطايا كما تبرهن. فمشاهدة المعجزات غير كافية للإيمان القلبي بدون فعل الروح القدس.
في هذه المعجزة ثلاثة براهين على لاهوت المسيح: معرفة الأفكار. الثاني: شفاء المريض بأمر. الثالث مغفرة الخطايا لأن كلاً منها مختص بالله.
٩ «وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ رَأَى إِنْسَاناً جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، ٱسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي. فَقَامَ وَتَبِعَهُ».
مرقس ٢: ١٤ الخ ولوقا ٥: ٢٧ الخ متّى ٢١: ٣١، ٣٢.
ماذا جعل يسوع يدعو متّى العشار؟ في هذه الدعوة خروج على جميع تقاليد الفريسيين وعاداتهم المتبعة بكل دقَّة. وكان يسوع يعرف الصعوبات سيواجهها بسبب هذا التحول عن الفريسيين إلى العشارين والخطاة. والجواب على هذا السؤال نجده بقوله «لا يحتاج الأصحاء». وأية خسارة كنا خسرناها لولا دعوته له. ألا يكفي متّى فخراً أن أصبح الإنجيلي العظيم؟ فما أقصر نظر الفريسيين وأتباعهم، وما أبعد نظر يسوع إلى قيمة الرجال الحقيقيين.
مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاك أي من كفرناحوم (مرقس ٢: ١) إلى بحيرة طبرية (مرقس ٥: ١٣).
مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ وهو إما بيت أو خيمة على الشارع، تصلح مكتباً لجمع الجزية. وكانت كفرناحوم تقع على أعظم الطرق، وهي مركز ذو شأن لجمع الجباية من كل تلك البلاد. وكان اليهود يحتقرون العشارين (انظر متّى ٥: ٤٦).
ٱسْمُهُ مَتَّى هو كاتب هذه البشارة، ويسمى أيضاً لاوي في بشارتي مرقس ولوقا. فكان ذا اسمين كبطرس ومرقس وبولس، كعادة اليهود. وبعد أن صار تلميذاً شاع اسمه متّى أكثر من لاوي حتى أنه لم يذكر البشيرون الاسم الثاني في قوائم أسماء الرسل الأربع.
فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي اختار المسيح رسله الأربعة الأولين من صيادي السمك، واختار الخامس من العشارين أثناء ممارسة مهنته. وليس لنا في الإنجيل ما يبين أن متّى لم يشاهد المسيح ولا سمع تعليمه قبل هذه المرة، فيحتمل أنه كان فقط سمعه وآمن به وتوقع هذه الدعوة. وكانت مثل دعوة الله لإبراهيم منذ ١٩٥٠ سنة قبلها، ومثل الدعوة التي يدعونا بها المسيح اليوم (لوقا ٩: ٢٣).
فَقَامَ وَتَبِعَهُ وذلك لدعوتين: الدعوة الظاهرة المسموعة من المسيح، والدعوة الباطنة من الروح القدس. فأجاب الدعوتين في الحال وترك كل شيء (انظر لوقا ٥: ٢٨) أي مهنته وربحه وأصحابه الأولين وما شاكل ذلك.
١٠ «وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي ٱلْبَيْتِ، إِذَا عَشَّارُونَ وَخُطَاةٌ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَأُوا مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ».
فِي ٱلْبَيْتِ لم يذكر متّى لمن كان ذلك البيت ومن قام بالوليمة التي كانت هناك، ولكن لوقا ٥ يذكر أن متّى العشار (بعد دعوته) أقام وليمة عظيمة ليسوع وتابعيه، ودعا إليها كثيرين من أصحابه الأولين من العشارين والخطاة. ولعل غايته من ذلك أن يسمعوا تعليم المسيح لخلاص نفوسهم، وأن يكرم المسيح أمام عيون الجميع. فأظهر بذلك صحة إيمانه وتغيير قلبه.
عَشَّارُونَ وَخُطَاة هما فرقتان من الناس اعتاد الفريسيون أن يذكروهما معاً باعتبارهما نجستان ومحرومتان من حقوق أمة اليهود المقدسة. وذلك إما لرداءة صفات أولئك الناس، أو لكراهة مهنتهم، أو لاختلاطهم بالوثنيين، أو لتركهم فرائض الشريعة الطقسية. والظاهر أنهم مالوا إلى سمع وعظ المسيح أكثر من غيرهم. ولعل سبب ذلك أنهم كانوا مهانين من سواهم، وشاعرين بآثامهم وباحتياجهم إلى مخلص.
١١ «فَلَمَّا نَظَرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ؟».
متّى ١١: ١٩ ولوقا ٥: ٣٠ و١٥: ٢ وغلاطية ٢: ١٥
ٱلْفَرِّيسِيُّونَ إن لم يكونوا من المدعوين إلى مائدة خاصة في تلك الوليمة فلا ريب في أنهم أتوا رقباء أو جواسيس. هذا إذا لم يظلوا وقوفاً خارجاً يرصدون الداخلين والآكلين.
قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ كان ذلك بعد ما تناولوا الطعام، فاشتكوا المسيح إلى تلاميذه كأنهم خافوا أن يلوموه مواجهةً. أو لعلهم أرادوا أن يفسدوا أذهان التلاميذ ويصرفوهم عنه.
لِمَاذَا يَأْكُلُ؟ اعتبر الفريسيون الأكل مع الوثنيين أو المحرومين من الشعب اليهودي مخالفاً لفرائض الدين (أعمال ١٠: ٢٨). فيظهر من اعتراض الفريسيين أنهم اعتقدوا أنه لا يجوز أن يجتمع المسيح مع مثل أولئك الناس ويصادقهم، باعتبار أنه نبي ومصلح. فحكموا من معاشرته للأشرار أنه ليس باراً.
١٢ «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَـهُمْ: لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى».
فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ كانت الشكوى للتلاميذ، لكن الجواب عليها كان من المسيح. لقد بنوا اعتراضهم على فساد ظنهم في عمله، فبيَّن لهم أن عمله عمل طبيب، وأن الخطية هي مرض نفوس الناس. وكلما زادوا خطية زادوا احتياجاً إلى وجود المسيح بينهم وعنايته بهم. فهو إذاً لم يعاشر الأشرار للذته بمعاشرتهم، بل لمنفعتهم.
ٱلأَصِحَّاءُ لم يقصد أن الفريسيين أبرياء، لكنه برَّر نفسه بناءً على ما يدَّعونه من بر أنفسهم. فكأنه قال لهم: أنتم تعتقدون أنكم أبرياء، فإذاً لا تحتاجون إليّ. أما أولئك فيشعرون باحتياجهم إليَّ فلذلك أتيت إليهم. ولا شكَّ في أن مرض الفريسيين الروحي كان أشد من سائر الأمراض الروحية.
١٣ «فَٱذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ».
هوشع ٦: ٦، ٧ و٨ ومتّى ١٢: ٧ و١تيموثاوس ١: ١٥، ١٦
فَٱذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا ذكر لهم ما جاء في هوشع ٦: ٦ توبيخاً لهم وتبريراً لنفسه، وزاد على توبيخه لهم أن قال إنهم يجهلون كتبهم الدينية التي هم معلموها.
أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً نقل من ذلك قول الكتاب برهاناً على أن الله يحب الرحمة للمصابين ومنح الخلاص للخطاة، أكثر مما يحب كل طقوس الشريعة التي أعظمها الذبيحة. فعمل المسيح الذي لاموه عليه كان وفق هذا المبدأ الإلهي. وأما هم فخالفوا هذا المبدأ بلومهم المسيح لأن الشفقة على الساقطين أحب إلى الله من أثمن القرابين.
لأَنِّي لَمْ آتِ... أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً الأبرار هنا الذين يحسبون أنفسهم أبراراً غير محتاجين، والخطاة هنا هم الذين شعروا بآثامهم. لأنه لو كان في الأرض أبرارٌ بالحقيقة ما احتاجوا إلى التوبة. ولكنه أتى ليدعو الناس إلى التوبة لأنهم خطاة. وبما أنهم جميعهم كذلك وجب أن يخالطهم ليتمم إرساليته. فلا ينتج من هذه الآية أنه وُجد على الأرض إنسانٌ بارٌ لا يحتاج إلى التوبة والحق، وأنه لم يوجد ولا يوجد ولن يوجد مثل هذا الإنسان البار.
١٤ «حِينَئِذٍ أَتَى إِلَيْهِ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا قَائِلِينَ: لِمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟».
مرقس ٢: ١٨ الخ ولوقا ٥: ٣٣ الخ و١٨: ١٢
حِينَئِذٍ أي وقت الوليمة.
تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كان يوحنا يومئذ في السجن، وقد تفرق تلاميذه، وتبع بعضهم المسيح. وكانت إرساليته إعدادية هدفها إرشاد الناس إلى المسيح باعتباره حمل الله الذي يرفع خطية العالم. فلو استفاد الجميع من تعليمه في شأن المسيح لاتبعوه كلهم. لكن أخذ بعض تلاميذ يوحنا يظهرون الغيرة له، وحسبوا المسيح منافساً لمعلمهم (يوحنا ٣: ٢٦) فنظموا حزباً سُمي «تلاميذ يوحنا» (متّى ١١: ٢ و١٤: ١٢). وكان لهم اصطلاحات في الصلاة (لوقا ١١: ١). واستمروا يشكلون حزباً وقتاً طويلاً، فقد وُجد بعضهم في أفسس بعد ثلاثين سنة من ذلك العهد (أعمال ١٩: ١ - ٧) وعددهم غير معلوم. والظاهر أنهم اقتدوا بمعلمهم بشدة الزهد. ونستدل من اتحادهم مع الفريسيين ومن سؤالهم في هذه الآية أنهم كانوا متعصبين في طقوس الشريعة (مرقس ٢: ١٨).
نَصُومُ نَحْنُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً لم يفرض موسى على أمته سوى صوم يوم واحد في السنة (لاويين ٢٣: ٢٦ - ٣٢) زاد عليه اليهود أصواماً لأمور خاصة (أستير ٤: ١٥ وإرميا ٣٦: ٩ ويوئيل ١: ١٤) وأصواماً مطلقة (زكريا ٨: ١٩). وكان الفريسيون يصومون مرتين في الأسبوع (لوقا ١٨: ١٢). ولعل تلاميذ يوحنا صاموا أكثر من ذلك لحزنهم على سجن معلمهم، فتعجبوا من أن تلاميذ يسوع لم يشاركوهم في الصوم. ولا دليل على أن يوحنا فرض عليهم أصواماً جديدة. والظاهر أنه أبقى الأصوام المعهودة.
لِمَاذَا... تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟ هذا استفهام للتوبيخ على تركهم الصوم باعتباره فرضاً دينياً ذا شأن واجب بالذات، ومعونة في الصلاة.
١٥ «فَقَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو ٱلْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ».
يوحنا ٣: ٢٩ وأعمال ١٣: ٢، ٣ و١٤: ٢٣ و١كورنثوس ٧: ٥
في جواب المسيح دفاعاً عن تلاميذه ثلاثة أمثال: (١) يتعلق بعادات الأفراح، و(٢) بالملابس، و(٣) بالخمر.
هَلْ يَسْتَطِيعُ؟ هذا استفهام استنكاري يريد به أن ذلك لا يتوقعه أحد.
بَنُو ٱلْعُرْسِ هم أصحاب العروسين ورفقاؤهم، لا كلُّ المدعوين.
أَنْ يَنُوحُوا أراد بذلك أن الصوم علامة المناحة، فلا صوم حيث لا مناحة. والمعنى أنه لا يليق اتخاذ علامة الحزن وقت الفرح. والدليل على أن الصوم علامة الحزن قوله «إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً وأعياداً طيبة» (زكريا ٨: ١٩).
ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ تشبيه المسيح نفسه بالعريس يناسب تلاميذ يوحنا، لأن يوحنا قال عنه «مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ» (يوحنا ٣: ٢٩). وأكمل المسيح بوصفه نفسه بذلك بعض النبوات والرموز المتعلقة به في العهد القديم، منها ما ذكر في هوشع ٢: ١٢ وإشعياء ٥٤: ٥ - ١٠ وإرميا ٣: ١٤ ونشيد الأنشاد بأسره. والحق أن مدة وجود المسيح مع تلاميذه على الأرض هي وقت المسرة والابتهاج لا وقت الحزن، فلو صام تلاميذ يسوع وقتئذٍ كانوا كأنهم ناحوا في وقت العرس.
حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ هذه أول مرة أشار بها المسيح إلى صلبه، والأرجح أن تلاميذه لم يفهموا تلك الإشارة، وكذلك تلاميذ يوحنا، وإن كانوا قد استنتجوا من ذلك سفره عنهم فقد حسبوا ذلك سيتم بعد زمن طويل.
فَحِينَئِذٍ يَصُومُون ذلك خبرٌ بما يقع في المستقبل لا أمرٌ به. إن كنيسة المسيح مكلفة بالصوم مدة غياب سيدها عنها بالجسد. فمراد المسيح أن الصوم يليق في غيابه لداعٍ حقيقي (يوحنا ١٦: ١٩، ٢٠).
نستنتج من كلام المسيح أمرين: (١) أن الصوم ليس فرضاً واجباً، بناءً على أن الكنيسة اعتادته، أو أن الله أمر به. إلا أنه عمل حسن تمارسه الكنيسة عندما تدعو إليه أحوالها. فالصوم الذي يقبله الله لا بد أن يكون لسببٍ كافٍ وفي وقت مناسب. و(٢) أن الصوم بدون ما ذكرناه لا معنى له ولا منفعة، إنما ينفع حين يقترن بالحزن الروحي واتضاع النفس والصلاة القلبية زمن المصاب الشديد. والذي نعلمه من اختبار أولاد الله أنهم وجدوا من الصوم نفعاً عظيماً لهم أو للكنيسة كلها في الأحوال التي يليق الصوم فيها.
١٦ «لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، لأَنَّ ٱلْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ ٱلثَّوْبِ، فَيَصِيرُ ٱلْخَرْقُ أَرْدَأَ».
في هذا العدد ضرب المسيح المثل الثاني دفاعاً على اعتراض تلاميذ يوحنا والفريسيين عليه، وهو مبني على عادة الناس في ترقيع الثياب البالية. والمراد بالثوب في هذه الآية نسيج من الصوف بلي بالاستعمال فتخرَّق، وترقيعه بقطعة جديدة من النسيج يجذب كل ما حول الخياطة، فيتمزق الثوب البالي أكثر! والمعنى أن المسيح لم يأتِ ليصلح طقوس اليهود البالية من عوائد الفريسيين وتقاليد الشيوخ بأن يزيد عليها طقوساً جديدة كالأصوام وغيرها، لأن هذا التصليح يكون كالرقعة المذكورة. ولكنه أتى ليجدد الكنيسة كلها، ليس من جهة جوهرها بل من جهة كل طقوسها الخارجية. فكأنه قال: لا يمكن أن تضاف تعاليمي الجديدة على طقوس الفريسيين العتيقة، فالاجتهاد في ذلك عبثٌ بل ضارٌ.
١٧ «وَلاَ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ، لِئَلاَّ تَنْشَقَّ ٱلزِّقَاقُ، فَٱلْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَٱلزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ فَتُحْفَظُ جَمِيعاً».
المثل الثالث الذي ذكره المسيح مأخوذ من عادات الناس في وضع الخمر في الزقاق، فجلد الزقاق العتيقة رقيق ضعيف، إن وضعت فيه الخمر الجديدة اختمرت داخله فتمزقه. ولكن إن وضعت تلك الخمر في زقاق من جلود جديدة قوية احتملت لمرونتها فعل الخمر عند اختمارها. والمعنى أن المسيحية ذات حياة وحرية ونمو، فلا يمكن حصرها في نطاق ضيق بالٍ كطقوس اليهود الفريسية.. والكنيسة المسيحية إن لم تنتبه إلى تعليم المسيح ترتكب خطأ تلاميذ يوحنا. وكتب بولس رسالته إلى أهل غلاطية إصلاحاً لذلك الغلط. إنما تلك الرسالة هي شرح مطول لكلام المسيح هنا.
١٨ «وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهٰذَا إِذَا رَئِيسٌ قَدْ جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: إِنَّ ٱبْنَتِي ٱلآنَ مَاتَتْ، لٰكِنْ تَعَالَ وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا».
مرقس ٥: ٢٢ الخ ولوقا ٨: ٤١ الخ
حدث ما في هذه الآية وهم مجتمعون في بيت متّى بعد الوليمة، وكان الحوار حول الصوم لا يزال دائراً.
رَئِيسٌ زاد مرقس على ذلك أن اسمه يايرس، وأنه رئيس مجمع، أي أنه أحد شيوخ اليهود الذين يقومون بالأمور الدينية في كفرناحوم، وهي وظيفة قديمة عندهم يرثها الخلف في العائلة عن السلف، وأصحاب تلك الوظيفة أشرف أمة اليهود ولادةً ورتبة. ولعله كان أحد شيوخ مجمع كفرناحوم الذين جاءوا إلى المسيح يسألونه شفاءَ غلام قائد المئة (لوقا ٧: ٣). لقد ألجأت الضيقة هذا الرئيس إلى المسيح، فيجب أن يكون تأثير كل مصائبنا كذلك.
سَجَدَ لَهُ أي طرح نفسه على الأرض قدامه (مرقس ٥: ٢٢) ولا يدل ذلك ضرورة على أنه قصد بما فعل أن يعبده، بل يبين أنه احترم المسيح جداً.
ٱبْنَتِي هي ابنة وحيدة له في سن الثانية عشرة (لوقا ٨: ٤١).
ٱلآنَ مَاتَتْ عندما فارقها كانت مشرفة على الموت، حتى رجح لشدة خوفه أنها عند وصوله إلى المسيح ماتت.
تتَعَالَ وَضَعْ يَدَك نستدل من ذلك أن الرئيس اعتقد كسائر الناس أن حضور المسيح بالذات ولمسه باليد أمران ضروريان لإجراء المعجزة. والعجب أن قائد المئة مع أنه وثني كان أحسن إيماناً بالمسيح من هذا الإسرائيلي، لأنه صدَّق أن المسيح يقدر أن يشفي بكلمة وهو غائب عن المريض (متّى ٨: ١٠).
فَتَحْيَا قوله هذا ومجيئه للمسيح يظهران إيمانه وإن كان ناقصاً.
١٩ «فَقَامَ يَسُوعُ وَتَبِعَهُ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ».
أجاب المسيح حالاً كعادته الدعوة الناتجة عن الحزن والاحتياج فتبعه تلاميذه وجمعٌ ممن أرادوا مشاهدة ما يكون (مرقس ٥: ٢٤ ولوقا ٨: ٤٢).
٢٠ «وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ نَازِفَةُ دَمٍ مُنْذُ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً قَدْ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَمَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ».
مرقس ٥: ٢٥ ولوقا ٨: ٤٣
بينما المسيح ذاهب ليجري المعجزة في بيت يايرس، صنع معجزة أخرى في الطريق. فقد كان في ذلك المجمع امرأة لم تأتِ لمشاهدة ما يكون في بيت يايرس، بل لتطلب شفاءً من مرض اعتراها منذ اثنتي عشرة سنة. وعلى قول مرقس ولوقا «أنفقت كل مالها على الأطباء فلم تستفد شيئاً بل زادت مرضاً» فيئست من البشر، ورجت المسيح بالإيمان. وكان مرضها مما تستحي أن تعلنه، فطلبت الشفاء سراً.
مِنْ وَرَائِه أتت ذلك عمداً لا صدفةً بسبب ما ذكرناه. ولعلها كتمت أمرها لأنها كانت حسب شريعة موسى نجسة بسبب ذلك المرض (لاويين ١٥: ٢٦).
مَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِه كان هذا الثوب رداءً أو ما يُلبس فوق سائر الثياب. وكان العبرانيون يعلقون الهدب بطرف ذيل الثوب طاعةً لأمر الله، وعلامة على أنهم شعبه (عدد ١٥: ٣٨ وتثنية ٢٢: ١٢). ولا بدَّ أن لمسها كان بإيمان وصلاة غير مسموعة.
٢١ «لأَنَّهَا قَالَتْ فِي نَفْسِهَا: إِنْ مَسَسْتُ ثَوْبَهُ فَقَطْ شُفِيتُ».
قالت ذلك في قلبها وهي تزاحم الناس مقتربة إلى المسيح، معتقدة أن لمس ذيله يشفيها. وهذا دليل على قوة إيمانها.
٢٢ «فَٱلْتَفَتَ يَسُوعُ وَأَبْصَرَهَا، فَقَالَ: ثِقِي يَا ٱبْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. فَشُفِيَتِ ٱلْمَرْأَةُ مِنْ تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».
لوقا ٧: ٥٠ و٨: ٤٨ و١٧: ١٩ و١٨: ٤٢
ذكر متّى هنا أنها شُفيت حالاً بلمس ثوبه، وزاد مرقس ولوقا على هذا بعض أمور (مرقس ٥: ٣٠ - ٣٣ ولو ٨: ٤٥ - ٤٧). ولا شكَّ أن المسيح عرف قصد المرأة وهي تقترب إليه لتلمس ثوبه، كما عرف أفكار الكتبة (متّى ٩: ٤). فإيمانها هبة منه، وهو جذبها إليه.
فَٱلْتَفَتَ التفات الحنو والشفقة
ثِقِي يَا ٱبْنَة قال ذلك دفعاً لخوفها لأنها كانت تتوقع التوبيخ على تلك الجسارة.
إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ شفتها قوة المسيح، ولكن إيمانها كان الوسيلة إلى تحريك تلك القوة. فالإيمان هو يد النفس التي تتناول البركة. كلمات المسيح شفت وطهرت. فنرى من التأمل في هذه المعجزة تعزية عظيمة للحزانى، لأن أقل التجاء إلى المسيح بالتواضع والإيمان من قلب خائف يمنح شفاءً تاماً للنفس المريضة.
أتت تلك المرأة خائفة فعادت مبتهجة. وهكذا كل من أتى إلى المسيح بالتوبة، يعود مسروراً مطمئناً.
٢٣ «وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ ٱلرَّئِيسِ، وَنَظَرَ ٱلْمُزَمِّرِينَ وَٱلْجَمْعَ يَضِجُّونَ».
مرقس ٥: ٣٨ ولوقا ٨: ٥١ و٢أخبار ٣٥: ٢٥
اختصر متّى الخبر فلم يذكر إتيان الرسول إلى يايرس في الطريق ليخبره أن ابنته ماتت، ولم يذكر كلمات المسيح لتقوية إيمانه (مرقس ٥: ٣٥، ٣٦ ولوقا ٨: ٤٩، ٥٠). ولم يذكر أنه لما وصل إلى البيت أدخل معه ثلاثة فقط من تلاميذه (مرقس ٥: ٣٧ - ٤٠) ولا بد أن التعطيل الذي حصل للمسيح في الطريق كان واسطة لامتحان إيمان يايرس وتقويته. ولا بد أن المعجزة التي شاهدها على الطريق زادت ثقته بالمسيح.
ٱلْمُزَمِّرِينَ ذلك من استعدادات الدفن، فاليونانيون والرومانيون واليهود كانوا يستأجرون نادبين في جنازاتهم. وكان القصد من استعمال آلات الطرب مساعدة النادبين. وبما أن الميتة كانت من عائلة شريفة زاد الاحتفال بجنازتها. وكل ما ذُكر علامة على أنها ماتت حقيقة لأنه كان كله استعداداً للدفن.
٢٤ «قَالَ لَـهُمْ: تَنَحَّوْا، فَإِنَّ ٱلصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لٰكِنَّهَا نَائِمَةٌ. فَضَحِكُوا عَلَيْهِ».
أعمال ٢٠: ١٠
صرف المسيح النادبين والضاجين لا لأن الصبية حية، بل لأنه قصد أن يبدل حزنهم إلى فرح عاجل، ولأنه لم يرهم مستعدين وليسوا أهلاً أن يشاهدوا أعظم آياته. ويدل على عدم أهليتهم لذلك هزؤهم به عند قوله «إن الصبية لم تمت».
لَمْ تَمُتْ لٰكِنَّهَا نَائِمَة لم يرد أنه أُغمي عليها، بل قوله إنها نائمة كقوله «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ» وهو عالم أنه قد مات (يوحنا ١١: ١١ - ١٤) فاستعار النوم لموتها لقرب إحيائها، وليوقفهم عن استعدادات الدفن. واستعارة النوم للموت مجازٌ شائع في أكثر لغات الأرض. وما يجمع بين الأمرين: الراحة والسكون في كليهما، ولأنه يلي الموت القيامة كما يلي النوم اليقظة (دانيال ١٢: ٢ و١تسالونيكي ٤: ١٤) فيجوز أن يُقال إن النوم موت قصير والموت نوم طويل.
فَضَحِكُوا عَلَيْه ذكر متّى ذلك برهاناً قاطعاً على أنها ماتت حقاً، وإنما ضحكوا لمعرفتهم علامات الموت، ولأنهم لم يفهموا ما قصده المسيح بالنوم.
٢٥ «فَلَمَّا أُخْرِجَ ٱلْجَمْعُ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا، فَقَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ».
دخل المسيح بعد أن أخرج الجمع على غير إرادتهم مع والدي الصبية وثلاثة من تلاميذه إلى حيث الصبية.
وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا تنازل المسيح إلى ذلك تقوية لإيمان أبيها الضعيف، وإشارة إلى أن إحياءها كان بقوته. وزاد مرقس على ذلك أن المسيح قال لها «طليثا قومي» (مرقس ٥: ٤١).
فَقَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ أي من الموت ومن سريرها. وزاد مرقس على ذلك أنها مشت (مرقس ٥: ٤٢) وأمر أن تطعم لتقويتها بعد مرضها ولبيان أنها جسد حقيقي لا خيال (لوقا ٨: ٥٥) ورأى البعض من أمر المسيح بإطعامه رقة قلبه خوفاً من أن ينسى والداها لشدة فرحهما أن يطعماها. وهذه أول معجزات أربع أظهر بها المسيح سلطانه على الموت، ثلاث منها أقام بها غيره، وهي إقامته هذه الصبية، وإحياءه ابن أرملة نايين، وإقامة لعازر. وواحدة في نفسه إذ قام من الموت. وأثرت هذه المعجزات في الناس أكثر من غيرها لأنهم لم يشاهدوا في تغيرات الطبيعة شبيهاً لها.
٢٦ «فَخَرَجَ ذٰلِكَ ٱلْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا».
لم يقتصر انتشار الخبر في كفرناحوم، بل ذاع في كل البلاد المجاورة لها.
٢٧ «وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرُخَانِ وَيَقُولاَنِ: ٱرْحَمْنَا يَا ٱبْنَ دَاوُدَ».
متّى ٢٠: ٣٠ ومرقس ١٠: ٤٧ ولوقا ١٨: ٣٨
ذكر متّى هنا معجزتين أتاهما يسوع بعد إقامة ابنة يايرس لم يذكرهما غيره من البشيرين، وذلك من الأدلة على أنه كتب بشارته مستقلاً.
تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ رافق أحدهما الآخر لاشتراكهما في الانفعالات، وليساعد الواحد الآخر عند الحاجة. والأرجح أنهما سمعا من المارين وأبناء السبيل الأخبار عن المسيح ومعجزاته وأنه قريب منهما.
يَصْرُخَانِ وَيَقُولاَن أي يرفعان الأصوات الدالة على الشدة حتى ينتبه إليهما.
ٱرْحَمْنَا أي اظهر شفقتك علينا بمنحنا البصر.
يَا ٱبْنَ دَاوُد أي يا سلالة داود وخليفته على عرش ملكه. وذلك من ألقاب المسيح عند اليهود بناءً على ما جاء في الأنبياء (انظر إشعياء ٩: ٧ و١١: ١ وإرميا ٢٣: ٥) وسمياه بذلك على شهادة من شاهدوا آياته. وأظهرا بذلك إيمانهما بأنه قادر أن يشفيهما.
٢٨ «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْبَيْتِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلأَعْمَيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هٰذَا؟ قَالاَ لَهُ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ».
متّى ١٣: ٥٨ ومرقس ٩: ٢٣، ٢٤ ويوحنا ٤: ٤٨، ٥٠ و١١: ٢٦، ٤٠
لم يظهر أن المسيح انتبه لصراخهما إلى أن دخل بيتاً (الأرجح أنه بيت بطرس) امتحاناً لإيمانهما. فبعد ما أظهرا الإيمان به والرغبة في الشفاء أجاب طلبهما. ولعله أحب أن يتوارى عن أعين الناس عند فعله المعجزة، ثم امتحنهما بالكلام كما امتحنهما بالفعل فقال:
أَتُؤْمِنَان طلب اعترافهما بالإيمان استعداداً لنوال الشفاء.
٢٩ «حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلاً: بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا».
لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا لمس الأعين دون غيرها لأنها هي المصابة. ولمسهما يبين أن الشفاء منه. وتلك كانت عادة المسيح في تفتيح أعين العمي دائماً، لأن ما كان يستفيده غيرهم بالنظر إلى وجه المسيح وعمله كانوا يستفيدونه باللمس (متّى ٩: ٢٩ ويوحنا ٩: ٦ ومرقس ٨: ١٢).
بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا أي على قدر الإيمان، لا حسب استحقاقه. وهذا يظهر العلاقة بين إيمان الإنسان وهبة الله، فالإيمان ليس سوى واسطة لقبول البركات الإلهية، وبه الاتصال بين غنى الله وفقر الإنسان. وبمثل إيمان هذين الأعميين والاعتراف به تخلُص نفوسنا من الهلاك الأبدي.
٣٠ «فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَٱنْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلاً: ٱنْظُرَا، لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ!».
فَٱنْفَتَحَتْ يعبر الكتاب عن منح البصر للعميان بانفتاح العيون.
لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ أمر المسيح بإخفاء خبر المعجزة لتواضعه، وعدم رغبته في الشهرة، لأن الافتخار بأنه صانع معجزات كان يعيقه عن العمل الأعظم وعن التعليم، وأنه كان يشغل أفكار الناس بالدنيويات عندما كان يريد توجيهها إلى الروحيات. ولم يرد ذلك خوفاً من أن الناس يقيمونه ملكاً على الرغم منه، وخيفة أن يقوم عليه الحكام توهُّماً أنه يريد الفتنة والعصيان. ولا نعلم لماذا أمر بكتم بعض المعجزات تارة وإظهارها أخرى، ولعله رأى غيرة البعض شديدة فأراد أن يقللها، ورأى غيرة الآخرين ضعيفة فأراد تقويتها. أو لعل الأحوال كانت تقتضي الإظهار تارة والإخفاء أخرى.
٣١ «وَلٰكِنَّهُمَا خَرَجَا وَأَشَاعَاهُ فِي تِلْكَ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا».
مرقس ٧: ٣٦
لعل الذي حملهما على تلك الإشاعة الشكر للمسيح. لكن هذا ليس عذراً لعدم طاعتهما أمره، لأن المسيح لا يأمر بشيء يريد خلافه، لأنه عند الله دائماً «الاسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ» (١صموئيل ١٥: ٢٢).
٣٢ «وَفِيمَا هُمَا خَارِجَانِ إِذَا إِنْسَانٌ أَخْرَسُ مَجْنُونٌ قَدَّمُوهُ إِلَيْه».
متّى ١٢: ٢٢ ولوقا ١١: ١٤
أَخْرَسُ مَجْنُون الأرجح أن الروح النجس كان سبب خرسه، فحالة هذا المصاب تشبه حالة الإنسان الذي ذكره متّى ١٢: ٢٢. إلا أن ذلك أعمى زيادة على الجنون والخرس. فكانت قوة الشياطين على إيقاع الضرر بالناس تختلف باختلاف الأشخاص.
قَدَّمُوه لعل الذين قدموه أقرباؤه أو جيرانه لشفقتهم عليه، لأن المرجح أن ذلك المسكين كان أصم، والصمم يرافق الخرس غالباً. فلم يمكنه أن يعرف شيئاً من أمر المسيح. ولو لم يقدموه للمسيح لبقي بلا شفاء.
٣٣ «فَلَمَّا أُخْرِجَ ٱلشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ ٱلأَخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ قَائِلِينَ: لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هٰذَا فِي إِسْرَائِيلَ».
تَكَلَّمَ ٱلأَخْرَسُ هذا يبرهن أن الشيطان كان سبب خرسه، لأنه تكلم حالما خرج.
فَتَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ لأن هذه المعجزة أظهرت قوة جديدة لم يشاهد مثلها قبلها.
لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ الخ ليس أن هذه المعجزة كانت أعظم من سائر معجزات المسيح، بل إن النتائج المذكورة لم تحدث قبلاً عند إخراج الشياطين، وإن الذين كانوا حاضرين وقتها لم يشاهدوا غيرها قط، ولعلهم شاهدوا كل معجزات المسيح أو أكثرها فحكموا عليها بما قالوا.
فِي إِسْرَائِيل أي في أخبار بني إسرائيل منذ كانوا أمة إلى الآن، فلم يفعل مثل المسيح أحد من الأنبياء كموسى وإيليا وأليشع وغيرهم من أنبياء إسرائيل. وقد تم بهذه المعجزة قوله بلسان إشعياء «حِينَئِذٍ تَتَفَقَّحُ عُيُونُ الْعُمْيِ، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ. حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الأَخْرَسِ» (إشعياء ٣٥: ٥، ٦).
٣٤ «أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَقَالُوا: بِرَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ».
متّى ١٢: ٢٤ ومرقس ٣: ٢٣ ولوقا ١١: ١٥
ذكر متّى في الآية السابقة خلاصة أفكار الجمهور في أمر المسيح بعد مشاهدتهم الآيات، وذكر هنا خلاصة أفكار الفريسيين بعد ذلك. وهذه هي المرة الأولى التي تجاسر فيها الفريسيون أن ينسبوا معجزات المسيح إلى عمل الشيطان، وكرروا ذلك بعده كثيراً. فجواب المسيح على هذا التجديف ذكره متّى ١٢: ٢٢ - ٣٧ وأتوا ذلك القول التجديفي ليمنعوا الناس من أن يستنتجوا أن يسوع هو المسيح.
ِرَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ سمي هذا الرئيس بعلزبول (متّى ١٢: ١٤). لما لم يقدر الفريسيون أن ينكروا إخراج يسوع الشياطين، نسبوا قوته إلى بعلزبول، فيكون المسيح بهذا شريكاً للشيطان. وكان الواجب أن يعترفوا بالحق أنه هو المسيح.
٣٥ «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ ٱلْمُدُنَ كُلَّهَا وَٱلْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي ٱلشَّعْبِ».
متّى ٤: ٢٣ ومرقس ٦: ٦ ولوقا ١٣: ٢٢
ذكر متّى هذه الآية عينها في ٤: ٢٣ ولكنها كانت هنالك مقدمة لما بعدها إلى هنا. وكانت خلاصة ما ذكر من هنالك بعد الإثبات بالبراهين.
٣٦ «وَلَمَّا رَأَى ٱلْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا».
مرقس ٦: ٣٤ عدد ٢٧: ١٧ و١ملوك ٢٢: ١٧ وحزقيال ٣٤: ٥ وزكريا ١٠: ٢
هذا ما فعله المسيح أثناء جولانه في الجليل يعلم الناس ويشفي مرضاهم.
ٱلْجُمُوع أي الجماعات التي أتت من كل الجهات لتسمع تعاليمه. ولم يعين متّى زمان حدوث ذلك، ولعله زمن اجتماع الناس الذي ذكره في الأصحاح الخامس.
تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ هذا لا ينفي أنه تحنن عليهم في غير هذا الوقت، إنما ذكره هنا افتتاحاً للحديث الذي دار بينه وبين تلاميذه، ومقدمة لإرساله الإثنى عشر مبشرين (متّى ١٠: ٥). ولم يحرك شفقته كثرة عددهم ولا احتياجاتهم الجسدية، بل فقرهم الروحي.
مُنْزَعِجِين أي مضطربين ومهتمين ومتعبين من عدم القوت الروحي، ومن ثقل الأحمال التي حملهم إياها الفريسيون والكتبة من طقوسهم وتقاليدهم.
مُنْطَرِحِينَ كغنم لا تساق إلى مرعى نهاراً ولا تصان في حظيرة ليلاً.
كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا أشار بذلك إلى سوء أحوالهم وعدم الاعتناء بهم ممن كان يجب أن يفعلوا ذلك. وقصد الله أن يكون معلموهم بالنسبة إليهم كالرعاة إلى الغنم، لكنهم غفلوا عن واجباتهم كرعاة غير أمناء (إرميا ٢٣: ١، ٢ وحزقيال ٣٤: ١ - ٦ و١ملوك ٢٢: ١٧) فكان في شعب إسرائيل كتبة كثيرون وكهنة وناموسيون ورؤساء دين ومعلمون، ولكن لم يكن من الرعاة الروحيين إلا القليل.
٣٧ «حِينَئِذٍ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٱلْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ».
لوقا ١٠: ٢ ويوحنا ٤: ٣٥
الحديث هنا نتيجة شفقته. والحصاد الذي لا حاصدين له هو الجموع الذين تحنن عليهم، وشبههم بالغنم بلا راعٍ، إشارة إلى ضياعهم. وشبههم هنا بحصاد لم يُجمع إشارة إلى أن الله خسرهم.
ٱلْحَصَادُ كناية عن شيء ذي قيمة، وما يتعب فيه أصحابه ثم لا يستفيدون منه. وهو استعارة للشعب اليهودي بأسره، أو للمستعدين منهم إلى قبول التعليم الروحي.
ٱلْفَعَلَةَ هم الذين يعتنون بجمع حصاد الله الروحي أي بتعليم جهلاء الشعب.
٣٨ «فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِه».
مزمور ٦٨: ١١ وإرميا ٣: ١٥ ولوقا ٦: ١٢، ١٣ و١٠: ١ ويوحنا ٤: ٣٥ و٢٠: ٢١ وأعمال ٨: ٤ و١كورنثوس ١٢: ٢٨ وأفسس ٤: ١١ و٢تسالونيكي ٣: ١
فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أن يعين فعلة، فهذا عمل رب الحصاد، وينبغي أن يُطلب إليه أن يعينهم. وكان المسيح هو رب الحصاد. وربما قصد ذلك بقوله ولم يوضحه في حال اتضاعه ولم ينتبه تلاميذه له. وأشار بقوله «اطلبوا» إلى أن الصلاة شرط لإرسال الله الفعلة، كما اتضح من متّى ٧: ٧ - ١١. وتعلمنا هذه الآية وجوب التوسل من أجل العالم، فالحصاد لا يزال كثيراً، والفعلة لا يزالون قليلين. فيجب أن نصلي بلا انقطاع ونسأل الله أن يرسل أناساً أمناء غيورين، يخبرون الأمم بالمسيح الذي صُلب ومات لأجلهم وقام لتبريرهم، وهو الآن يشفع فيهم.
أَنْ يُرْسِل الأصل اليوناني أن يسرع بإرسال أولئك الفعلة. والذين يرسلهم الله هم الذين ينجحون في أعمالهم لا غيرهم.
إِلَى حَصَادِه هذا الحصاد لله وحده، وهو يعتبره كذلك ويصرح به.
الأصحاح العاشر
ذكر متّى أنباء خدمة المسيح إجمالاً في ص ٤: ٢٣ حيث يقول «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب» وبيّن أسلوب تعليمه في ٥، ٦، ٧ وأورد بض الأمثلة من معجزاته في ص ٨، ٩ وأخذ هنا يبين نظام الرسل الاثني عشر وأوامر المسيح لهم.
١ «ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ».
دَعَا تَلاَمِيذَهُ علاوةً على خدمته في نشر بشراه دعا المسيح اثني عشر من تلاميذه ليساعدوه في تلك الخدمة، وكان قد اختارهم قبلاً (متّى ٤: ١٨ ومرقس ٣: ١٤) ليرشدهم ويعلمهم استعداداً لذلك. لكنهم لم يستعدوا كما ينبغي ليكونوا رسلاً إلا بعد يوم الخمسين (لوقا ٢٤: ٩ وأعمال ١: ٤١).
ٱلاثْنَيْ عَشَرَ لا بد أن المسيح اختار أن يكون الرسل اثني عشر ليكونوا وفق عدد أسباط إسرائيل.
سُلْطَاناً أوكل إليهم هذا السلطان من هو أعظم. وهو سلطان مقيَّد بالهدف الذي أعطاهم هذا السلطان لأجله. فليس لهم أن يتصرفوا به كما شاءوا.
أَرْوَاحٍ نَجِسَة ليس على كل الأرواح، بل على الملائكة الساقطين. وسُموا «أرواحاً نجسة» لتأثيرهم النجس.
حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا الخ قيد خدمتهم هنا بأن ينادوا بأن المسيح قد أتى، ويشرحوا أمور ملكوته الروحي، ويثبتوا تعاليمهم بمعجزات المسيح. ولكن تلك الخدمة اتسعت بعد يوم الخمسين بأن أسسوا كنيسة المسيح، وأوضحوا التعاليم المسيحية ونشروها. وتطورت أحوال الرسل مع دعوة المسيح في ثلاثة أحوال: (١) أنه اتخذهم أصدقاء، أسمعهم بعض تعاليمه وهم باقون في أعمالهم اليومية. و(٢) أنه اتخذهم رفقاء. و(٣) أنه عينهم رسلاً وأرسلهم للتبشير. وجاء في لوقا ٦: ١٢ - ١٩ أنه اختارهم قبل وعظه على الجبل، وأنه قضى الليلة السابقة لاختيارهم في الصلاة.
٢ «وَأَمَّا أَسْمَاءُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هٰذِهِ: ٱلأَوَّلُ سِمْعَانُ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ».
يوحنا ١: ٤٢ وأعمال ١: ١٣
لأسماء الرسل أربع قوائم مستقلة، (١) ما ذكره متّى هنا. و(٢) ذكرها مرقس (مرقس ٣: ١٦ - ١٩) و(٣، ٤) ذكرهما لوقا (لوقا ٦: ١٤ - ١٦ وأعمال ١: ١٣) وفيها اختلاف في الأسماء وفي ترتيبها. لكن ذُكر فيها كلها اسم بطرس أولاً، واسم فيلبس خامساً، واسم يعقوب تاسعاً، واسم يهوذا الإسخريوطي أخيراً في ثلاثة منها وتُرك في الرابعة.
سِمْعَانُ هو ابن يونا وهو صياد سمك، وُلد في بيت صيدا على شاطئ بحر الجليل، وسكن في كفرناحوم، وكان أولاً من تلاميذ يوحنا المعمدان (يوحنا ١: ٤٠، ٤١).
يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ لقَّبه المسيح بذلك في أول معرفته إياه (يوحنا ١: ٤٣) وكرر ذلك بعدئذٍ (متّى ١٦: ١٨) وغلب الاسم الجديد، لكن القديم بقي، فدُعي بطرس سمعان مراراً (متّى ١٦: ١٦ و١٧: ٢٥ ولوقا ٢٤: ٣٤ وأعمال ١٥: ١٤) ودُعي أحياناً «صفا» وهو معنى اسمه في السريانية (١كورنثوس ١: ١٣ و٣: ٢٢ وغلاطية ٢: ٩). ولقَّبه المسيح ببطرس أي «صخر» إشارة إلى قوته وجسارته. وورود اسمه أولاً لا يدل على أنه أُعطي الرئاسة على الرسل، ولا أنه أحسن من الآخرين في قواه العقلية أو الأدبية ولكن غيرته وشجاعته وحرارته جعلت له التقدم على الآخرين في القول والفعل (انظر متّى ١٦: ١٦ و١٩: ٢٧ ومرقس ٨: ٢٩ ولوقا ١٢: ٤١ وأعمال ١٥: ٧).
أَنْدَرَاوُسُ أَخُوه وهو صياد أيضاً، وأحد تلاميذ يوحنا المعمدان قبلاً (يوحنا ١: ٣٧ - ٤٠) وتبع المسيح حين أُشير إلى أنه حمل الله. ويظهر أن طبعه كان غير طبع أخيه بطرس، لأنه كان يميل إلى الهدوء.
يَعْقُوبُ... وَيُوحَنَّا هما ابنا زبدي وسالومي (ومعنى كلمة «زبدي» العبرانية عطية يهوه) ذُكرت دعوتهما قبلاً (انظر متّى ٣: ٢١، ٢٢). ويعقوب أول من مات من الرسل ويوحنا آخر من مات منهم. ويعقوب أول شهيد بينهم قتله هيرودس (أعمال ١٢: ٢). وسُمي هذان الأخوان بابني الرعد (مرقس ٣: ١٧) إشارة إلى قوتهما في الوعظ والإنذار. ولُقب يوحنا بالتلميذ «الذي كان يسوع يحبه». وكتب بشارةً وثلاث رسائل وسفر الرؤيا .
٣ «فِيلُبُّسُ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا، وَمَتَّى ٱلْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى، وَلَبَّاوُسُ ٱلْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ».
فِيلُبُّسُ وُلد في بيت صيدا كالأربعة المذكورين، ودعاه الرب في غد اليوم الذي أتى فيه أندراوس إلى المسيح. وهو غير الشماس الذي ذُكر في أعمال الرسل (أعمال ٦: ٥ و٢١: ٨).
بَرْثُولَمَاوُس هو ابن ثولماوس والمرجح أنه نثنائيل. وكان شائعاً بين اليهود أن يكون للشخص اسمان أحدهما عبراني والثاني يوناني أو لاتيني. عرَّفه فيلبس بالمسيح، وشهد المسيح له يومها شهادة حسنة (يوحنا ١: ٤٨). ولم يُعرَف باسم نثنائيل بين الرسل بعد ذلك إلا بعد قيامة المسيح (يوحنا ٢١: ٢) كان يسكن في قانا الجليل مكان أول معجزات المسيح (يوحنا ٢: ١ و٤: ٤٦).
تُومَا وسمي «التوأم» أيضاً (يوحنا ١١: ١٦ و٢٠: ٢٤).
مَتَّى ذُكرت دعوته قبلاً (متّى ٩: ٩) وسماه لوقا لاوي (لوقا ٥: ٢٦) وقد سمى هو نفسه «متّى العشار» تواضعاً. ولم يلقِّبه أحد من البشيرين الثلاثة الآخرين بالعشار.
يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى حلفى في اليونانية مثل كلوبا في السريانية (يوحنا ١٩: ٢٥) وكان ساكناً في أورشليم (أعمال ١٥: ١٣). وهو كاتب الرسالة المعروفة برسالة يعقوب.
لَبَّاوُسُ ٱلْمُلَقَّبُ تَدَّاوُس وسُمي بهذا اللقب في مرقس ٣: ١٨. والمرجح أنه هو المشار إليه بقول يوحنا «يهوذا ليس الإسخريوطي» (يوحنا ١٤: ٢٢). ونستنتج من قائمة أسماء الرسل في لوقا أنه هو أخو يعقوب بن حلفى، والأغلب أنه كاتب الرسالة المعروفة برسالة يهوذا.
٤ «سِمْعَانُ ٱلْقَانَوِيُّ، وَيَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيُّ ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ».
لوقا ٦: ١٥ وأعمال ١: ١٣ ويوحنا ١٣: ٢٦
سِمْعَانُ ٱلْقَانَوِيُّ ولقَّبه لوقا بالغيور. وليس المراد من القانوي أنه منسوب إلى قانا، بل هو لقب عبراني معناه الغيور. فإنه كان بين اليهود طائفة صغيرة يسمى أعضاؤها بالغيورين، أخذوا فينحاس بن هارون مثالاً لهم في الغيرة للشريعة الموسوية، وكانت زيادة غيرتهم وسفكهم الدماء علة لسرعة خراب أورشليم. فالظاهر أن سمعان كان من هذه الطائفة قبل أن صار تلميذاً للمسيح.
يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيّ هو ابن سمعان (انظر يوحنا ٦: ٣١ و١٢: ٤ و١٣: ٢، ٢٦) وأصل لقبه في العبراني «إيش قريوت» أي رجل قريوت، وهي قرية في أرض يهوذا (يشوع ١٥: ٢٥).
ٱلَّذِي أَسْلَمَه اختار المسيح هذا الشخص رسولاً وهو يعلم طبيعته يظهر من أغرب الأمور. ولكن «جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ» (١كورنثوس ١: ٢٥). ولعل قصده من ذلك أن يعلِّمنا أن أعظم الفرص والوسائط لا تكفي لخلاص نفس، وأنه يمكن أن يوجد في كل كنيسة خائنون. ويدفع اعتراض من يقول إن الشهادة للمسيح كانت كلها من أصدقائه. فيهوذا كان رفيق المسيح ثم أسلمه، ولو كان له أدنى شيء يشتكي به على المسيح ما عدل عن ذكره ليبرر نفسه في ذلك، لكنه شهد ببر المسيح بقوله «قد أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً» (متّى ١٧: ٤).
٥، ٦ «٥ هٰؤُلاَءِ ٱلاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. ٦ بَلِ ٱذْهَبُوا بِٱلْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ ٱلضَّالَّةِ».
متّى ٤: ١٥ ويوحنا ٧: ٣٥ وأعمال ١٠: ٤٥ - ٤٨ و١١: ١ - ١٨ و٢٢: ٢١ ورومية ١٥: ٨، ٩ و١تسالونيكي ٢: ١٦ و٢ملوك ١٧: ٢٤ وعزرا ٤: ٩، ١٠ ويوحنا ٤: ٩، ٢٠ وإشعياء ٥٣: ٦ وإرميا ٥٠: ٦، ١٧ وحزقيال ٣٤: ٥، ٦، ١٦ ومتّى ١٥: ٢٤ وأعمال ١٣: ٤٦ و١بطرس ٢: ٢٥
أَرْسَلَهُمْ ذكر مرقس أنه أرسلهم اثنين اثنين (مرقس ٦: ٧). وذكر متّى دعوة الرسل مع إرسالهم مع أنه مضت مدة بين الأمرين.
إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا أرسلهم أولاً إلى أمتهم، لكن ذلك لم يكن إلا إلى حين، فالمسيح بعد قيامته أرسلهم إلى الأمم بقوله «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ الخ» (مرقس ١٦: ١٥).
لِلسَّامِرِيِّينَ هذه طائفة عقائدها يهودية ووثنية معاً، فكانت كحلقة بين اليهود والأمم، وكانت تسكن البلاد بين الجليل واليهودية، وأهلها من أخلاط، جمعهم الأشوريون وأتوا بهم بدل الأسباط العشرة التي سبوها (٢ملوك ١٧: ٢٤). وبعد ذلك اقتدوا باليهود في بعض الأمور، فقبلوا شريعة موسى (أي الأسفار الخمسة) دون غيرها من كتب اليهود المنزلة ومن تقاليدهم. فبنوا لهم هيكلاً على جبل جرزيم وعبدوا الله هناك تاركين هيكل أورشليم، لأن اليهود لم يسمحوا لهم أن يشتركوا في البناء معهم بعد الرجوع من سبي بابل (عزرا ٤: ١ - ٣). وكان السامريون يتوقعون مجيء المسيح (يوحنا ٤: ٢٥). لذلك وعظ يسوع بينهم وأعلن لهم أنه هو المسيح (يوحنا ٤: ٢٦، ٢٩، ٣٩، ٤٢). فنهي المسيح الرسل من تبشيرهم انتهى بعد القيامة وحلول الروح القدس (أعمال ١: ٨ و٨: ٥). وكان بين السامريين واليهود عداوة شديدة منعتهم من التعامل معاً (يوحنا ٤: ٩).
خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ ٱلضَّالَّةِ أي اليهود الذين ضلوا عن مسالك الحق والعبادة الروحية فكانوا كغنم بلا راعٍ (متّى ٩: ٣٦) وعرضة للهلاك الأبدي. والمراد ببيت إسرائيل نسل يعقوب.
٧ «وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ ٱكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ».
لوقا ٩: ٢ و١٠: ٣ الخ
سبق الكلام على موضوع تبشير الرسل في متّى ٣: ٢، وخلاصته أن المسيح أتى وبدأ ملكوته. فهذا التبشير كان استعدادياً لتنبيه أفكار اليهود وتمهيد الطريق لكل التعاليم المسيحية.
٨ «اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصاً. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّاناً أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أَعْطُوا».
أعمال ٨: ١٨، ٢٠
يجب أن يرافق عمل الكرازة عمل الشفاء أيضاً. الكرازة تتناول النفس فتهدي إلى الله، والشفاء يتناول الجسد فيعود إلى الصحة.
ذكر في هذا العدد براهين صحة إرساليتهم. والمعجزات التي منحهم سلطاناً عليها كانت كمعجزاته، ومنحها لهم إلى أمدٍ محدود وغاية معينة. وكانوا يستعملون ذلك السلطان بإرشاد الله. فإنه بدون تلك البراهين لا يصدقهم أحد، وكانت كلها مفيدة لا كبعض آيات موسى للانتقام إثباتاً لرسوليته أمام فرعون.
أَقِيمُوا مَوْتَى لم يذكر أن الرسل أقاموا ميتاً قبل صعود المسيح.
مَجَّاناً أَعْطُوالم يأذن لهم أن يتقاضوا أجراً مقابل شفاء الأمراض، فخدمتهم ليست تجارة يربحون بها. فكان كل ما استعملوه من قوتهم نفعاً لغيرهم لا لأنفسهم. لكن المسيح لم يمنعهم من أخذ ضروريات حياتهم (لوقا ١٠: ٧ و١كورنثوس ٩: ٨ - ١٤ و١تيموثاوس ٥: ١٨) فمجانية خدمتهم رمز إلى مجانية بركات الإنجيل التي هي أعظم.
٩ «لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ».
ذهباً.. فضة نحاساً: هذه المعادن الثلاثة كانت مواد النقود الرائجة في تلك الأيام، كما هي اليوم. وكانت عادة الناس يومئذٍ أن يحملوا النقود في مناطقهم كعادة بعض الناس اليوم.
لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً لأنهم في غنى عن النقود، فهم لا يحتاجون إلى استئجار مأوى أو شراء طعام، لأن الناس كانوا مسؤولين بإطعامهم وإيوائهم، بعد أن ينالوا خدمتهم.
١٠ «وَلاَ مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصاً، لأَنَّ ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَه».
١صموئيل ٩: ٧ ومرقس ٦: ٧ - ١١ ولوقا ٢٢: ٣٥ و١كورنثوس ٩: ٧ و١تيموثاوس ٥: ١٨
وَلاَ مِزْوَداً أي وعاء لطعام السفر.
وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصاً ليس المقصود منعهم من أخذ حذاء أو عصا، بل منعهم من أخذ أكثر من حذاء وعصا، وذلك ظاهر من بشارة مرقس (٦: ٨، ٩). فلا تناقض بين متّى ومرقس، لأن متّى قال أن لا يأخذوا أثواباً غير التي عليهم ولا يحملوا أحذية غير ما في أرجلهم ولا عصياً غير ما في أيديهم. ولا يعني هذا أن التقشف فضيلة وأن الفقر الاختياري تقوى. إنما قصد المسيح بمنعهم عما ذكر أن يكونوا بلا ثقل في جولانهم ليتمموا ذلك بالسرعة. ولثقته أن الناس الذين يذهبون إليهم سيقدمون لهم ما يحتاجون إليه. ولعل المقصود بذلك أن يذهب الرسل بما هو عليهم، فالذي له عصاً فليأخذه (كما ذُكر في مرقس). ومن ليس له فليذهب بلا عصاً كما هو ظاهر في كلام متّى.
ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَه هذا مثلٌ أراد به المسيح أن خدمتهم توجب لهم أن يثابوا بأن يُعطوا ما يحتاجون إليه. فلا بد من أن يحصلوا على ذلك.
١١ «وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَٱفْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌّ، وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَخْرُجُوا».
دَخَلْتُمُوهَا أي للتبشير فيها.
مُسْتَحِقٌّ أي مستعدٌ لقبول رسل الله ضيوفاً. والاستعداد علامة الاستحقاق فيجب أن يفحصوا عن ذلك قبل دخولهم لئلا يهانوا.
أَقِيمُوا أي امكثوا في البيت الذي تدخلونه إلى أن تكملوا تبشيركم. فعليهم أن يبينوا بسلوكهم أن عملهم ذو شأن عظيم، ولا يكلفوا الناس تعباً زائداً في خدمتهم، ولا يظهروا أنهم غير راضين بما قُدم لهم، ولا أنهم يهتمون بالرفاهية.
ولا يخفى أن هذه الأوامر كانت مؤقتة، أي إلى حين، وكانت لمقتضى أحوال خاصة، فهي تختلف باختلاف الأحوال. ولكن لا بد من بقاء روح هذا التعليم على خدام الإنجيل في كل حال.
١٢ «وَحِينَ تَدْخُلُونَ ٱلْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ».
معنى هذه الآية وجوب أن يكون الرسل لطفاء، وأن يظهروا إمارات الصداقة، وأن لا يهملوا شيئاً من التحيات المألوفة بين الأصحاب، وأن يظهروا الاهتمام بالناس، وأن يحسبوا الإضافة من حقوقهم.
ٱلْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْه أي على أهله.
١٣ «فَإِنْ كَانَ ٱلْبَيْتُ مُسْتَحِقّاً فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُم».
مزمور ٣٥: ١٣
مُسْتَحِقّا علامة استحقاق أهل البيت أن يردوا تحيتكم ويقبلوكم ضيوفاً.
فَيَأْتِي سَلاَمُكُمْ... فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُم يعني إن لم ينتفع أهل البيت من التسليم انتفع به من سلَّم. ويظهر من هذا أن تلك التحيات ليست ألفاظاً بلا معنى كما هو غالب العادة، بل هي دعاء قلبي يستجيبه الله.
١٤ «وَمَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فَٱخْرُجُوا خَارِجاً مِنْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ، وَٱنْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ».
نحميا ٥: ١٣ وأعمال ١٣: ٥١ و١٨: ٦
لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَع أي من لا يقبلهم ضيوفاً، ولا يسمع كلامهم بروح المحبة والطاعة، بل يكره رسالتهم.
وَٱنْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُم هذه عادة شائعة بين اليهود تقول إن النافض يعتبر الذين تركهم نجسون غير مستحقين لمعاشرته، ولا يريد مشاركتهم في شيء، حتى في غبار أرضهم اللاصق برجله. وقد فعل بعض الرسل ذلك، في أنطاكية بيسيدية، وفي مجمع اليهود في كورنثوس (أعمال ١٣: ٥١ و١٨: ٦). ولم يُبنَ هذا على تركهم كأشخاص، بل على رفض أنهم رُسل الله. وكله رمزٌ إلى رفض الله اليهود لرفضهم المسيح.
١٥ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ».
متّى ١١: ٢٢، ٢٤
عقاب الذين يرفضون رُسُل الله أشد من عقاب أهل سدوم وعمورة، فإن هاتين المدينتين انقلبتا مع ثلاث مدن أخرى في سهل سدوم لزيادة شرها (تكوين ١٨: ٢٠ و١٩: ٢٤) فاتخذهما الكتاب مثلاً لمن عظُم شرهم واشتد عقابهم، عبرة لغيرهم. فقال المسيح بهذا المثل إن من يرفضونه (برفضهم رسله) أشرٌ ممن ارتكبوا أفظع الآثام في سدوم وعمورة، لأنهم كانوا جهلة. أما سامعو المسيح ورسله فيعرفون ويرفضون.
يَوْمَ ٱلدِّين أي اليوم الأخير الذي يُدان فيه جميع الناس حسب أعمالهم وعلى قدر نورهم.
١٦ «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَٱلْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَٱلْحَمَامِ».
رومية ١٦: ١٩ و١كورنثوس ١٤: ٢٠ وأفسس ٥: ١٥
ما قاله المسيح (من الآية ٧ - ١٦) نصائح للرسل في بدء إرساليتهم، وتعليم لهم كيف يتصرفون في أثناء أحوالهم الحاضرة. وما بقي من الآية ١٦ - ٤٢ كلام يعم كل أعمالهم المستقبلة طول الحياة، وفيه إشارة إلى أحوالهم زمن الاضطهاد الذي لم يثُر عليهم إلا بعد نهاية خدمة المسيح على الأرض. ولم يذكر مرقس ولوقا من هذا الخطاب سوى أوله.
أَنَا أُرْسِلُكُم لا يذهبون من تلقاء أنفسهم، بل هو أرسلهم.
كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ أول أمر أنبأهم به أن العالم سيكون عدواً لهم بالطبع، فإن العداوة بين الذئاب والغنم طبيعية. فالغنم ضعيفة والذئاب قاسية. وبتشبيهه تلاميذه بالغنم أعلن ضعفهم وعلاقتهم القريبة إليه، باعتباره راعيهم. وقد شبه أهل العالم بالذئاب لأنهم يكونون أعداءً لهم أقوياء وقساة. فإرساله الغنم بين الذئاب أمر غير طبيعي، إذ تكون عرضة للافتراس والهلاك. وعليه فنجاتهم من الذئاب وانتصارهم عليهم من أعظم البراهين على إرساليتهم الإلهية. وهذه العداوة تقتضي أن تكون لهم صفات خاصة للنجاة. وذكر أربعة تشبيهات: واحداً لأعدائهم إذ شبههم بالذئاب؛ وثلاثة لرسله: (١) شبههم بالغنم، و(٢) بالحيات، و(٣) بالحمام. وكما شبه المسيح الرسل بالغنم شبه إشعياء المسيح نفسه بذلك (إشعياء ٥٣: ٧).
حُكَمَاءَ كَٱلْحَيَّات الخ أفادهم بواجباتهم ليتجنبوا الخطر المحيط بهم. فعليهم أن يُظهروا الحكمة والوداعة والطهارة. وذكر الحكمة كالحيات. وحكمة الحيات مشهورة بشدة احتراسها من الخطر. فوجب على التلاميذ أن يماثلوها بذلك الاحتراس، لا بالخبث والحيلة (تكوين ٣: ١). وأمر تلاميذه بأن يشبهوا الحمام لأنه مشهور بالوداعة وعدم الإيذاء. وظهر الروح القدس وقت معمودية المسيح بهيئة الحمام (متّى ٣: ١٦). وقد أظهر المسيح حكمة الحيات في جوابه للكتبة والفريسيين والصدوقيين (متّى ٢٢: ١٥ - ٤٦) وأظهر وداعة الحمام وقت محاكمته (متّى ٢٦: ٦٣، ٦٤).
١٧ «وَلٰكِنِ ٱحْذَرُوا مِنَ ٱلنَّاسِ، لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ».
متّى ٢٤: ٩ ومرقس ١٣: ٩ ولوقا ١٢: ١١ و٢١: ١٢ وأعمال ٥: ٤٠
ٱحْذَرُوا مِنَ ٱلنَّاس الذين يشبهون الذئاب، فلا تقعوا في أيديهم بغير ضرورة.
سَيُسَلِّمُونَكُم لتُحاكموا وتدانوا لإيمانكم بي.
إِلَى مَجَالِس هي المجالس الصغرى، وكانت يومئذ في كل قرية ومدينة في البلاد، وتخضع كلها للمجلس الأكبر في أورشليم المؤلف من سبعين عضواً. وقد تم هذا القول على الرسل فعلاً (انظر أعمال ٤: ٥ - ٢٢ و٥: ٤٠ و٢٢: ١٩ و٢٦: ١١).
فِي مَجَامِعِهِم كان أعضاء المجالس يجتمعون أحياناً في المجامع للمحاكمة، وكان في كل مجمع ثلاثة قضاة، لهم سلطان أن يوقعوا بعض القصاص، ومنه الجَلد (أعمال ٢٢: ١٩ و٢٦: ١١).
يَجْلِدُونَكُمْ ذُكر الجلد في شريعة موسى (تثنية ٢٥: ٢٣). وكان القانون أن لا تزيد الجلدات على أربعين، وجعلها اليهود بعد ذلك ٣٩ خوفاً من الغلط. وجعلوا السوط مثلثاً، وعدد الضربات بها ١٣. وعلى ذلك جُلد بولس خمس مرات (١كورنثوس ١١: ٢٤). أما الشريعة الرومانية فلم تعين عدد الضربات. والمقصود بالمجالس والمجامع المحاكم الدينية التي كانت في القرون المظلمة تضطهد تلاميذ المسيح. وكان من وظيفة خدام الدين أن يعلموا غيرهم الرحمة، لكنهم قصروا عن أن يتعلموها.
١٨ «وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ».
أعمال ١٢: ١ و٢٤: ١٠ و٢٥: ٧، ٢٣
من أعظم واجبات المؤمن الحقيقي أن يشهد للمسيح بسيرته قبل أقواله، لا سيما وقت الاضطهاد وبين أعداء مجدفين.
وُلاَة هم الحكام الرومان. وتم ذلك لما وقف بولس أمام فيلكس (أعمال ٢٤) وفستوس (أعمال ٢٥) وسرجيوس بولس (١٣: ٧) وغاليون (أعمال ١٨: ١٢).
مُلُوكٍ وهذا تم بوقوف بولس أمام هيرودس أغريباس (أعمال ٢٦) وأمام نيرون (أعمال ٢٥: ١٢). ويكنى بالولاة والملوك المسؤولين عن كل الأحكام السياسية. وكثيراً ما أعانت القوة السياسية القوة الدينية على تلاميذ المسيح. وتمام هذه النبوة برهان على أن المسيح عالم بالمستقبل، فمن المحال أن يقف صيادو الجليل أمام الملوك.
شَهَادَةً لَهُمْ تكون تلك الشهادة لهم إذا قبلوها كما قبلها سرجيوس بولس (أعمال ١٣: ٧). ولكنها تكون عليهم إن لم يقبلوا كما كانت على فيلكس (أعمال ٢٥: ٢٥). وتلك الشهادة بالمسيح. وقد وسع الاضطهاد دائرتها، فكان موت الشهداء شهادة قوية للحق.
وَلِلأُمَم كرر المسيح هذه النبوة بقوله: «ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم، ثم يأتي المنتهى» (متّى ٢٤: ١٣). وتظهر فاعلية تلك الشهادة مما ورد في فيلبي ١: ١٢ - ١٨ وذكر الأمم بعد ذكر ولاتها وملوكها لعموم تلك الشهادة.
١٩، ٢٠ «١٩ فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، ٢٠ لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ».
خروج ٤: ١٢ وإرميا ١: ٧ ومرقس ١٣: ١١ - ١٣ ولوقا ١٢: ١١ و٢١: ١٤، ١٥ و٢صموئيل ٢٣: ٢ وأعمال ٤: ٨ و٦: ١٠ و٢تيموثاوس ٤: ١٧
بعد أن أنبأهم بالخطر الذي سيحيط بهم، أراد أن يشجعهم بالتعزية، فوعدهم بإلهام خاص يمكِّنهم حين يُساقون إلى المحاكمة أن يجاوبوا عن أنفسهم وعن الحق الإنجيلي. وإدراكهم هذا الوعد سيحفظهم من اليأس، لأنهم سيقدرون أن يحاموا عن الحق وعن أنفسهم أمام الملوك، مع أن للملوك رتبة تفوق رتب الرسل الذين كانوا في أعين أنفسهم جهلاء وضعفاء.
فَلاَ تَهْتَمُّوا أي لا تتكلفوا الهم الزائد، وهذا مثل ما سبق في متّى ٦: ٢٥، ٢٧.
كَيْفَ أَوْ بِمَا أي لا تهتموا بأسلوب الإجابة ولا بحقيقة الأجوبة، فالمعونة التي وعدهم بها هي أن الروح القدس يتخذهم آلات له فيتكلم بألسنتهم.
رُوحُ أَبِيكُمُ هو الروح القدس، وسماه «روح أبيهم» لأنه من الآب، ولأنهم بمنزلة البنين لله (انظر متّى ٥: ١٦) ووعد المسيح بالروح القدس بأكثر إيضاح في يوحنا ١٥: ٢٦، ٢٧. ورأينا إتمام هذا الوعد في بطرس ويوحنا أمام مجلس السبعين (أعمال ٤: ١٣) فإنهما تكلما بشجاعة وحكمة. ولم يحجب الروح شيئاً من الحق بسبب جهل الرسل أو عدم فصاحتهم، فجاءت كل أجوبة الرسل في سفر الأعمال لا من عندهم بل من عند روح الله. فليس لنا أن ننسب إلى بولس خطأ في جوابه لرئيس الكهنة بالغضب (أعمال ٢٣: ٣) ولا أن ننسب إليه الحكمة الدنيوية في تخلصه من الصدوقيين بإلقاء الخلاف بينهم وبين الفريسيين من جهة القيامة (أعمال ٢٣: ٦). فكما ألهم الروح القدس الرسل بالكلام في المحافل، ألهمهم بما كتبوه شهادة لكل بشر في كل زمن. ولا نستنتج من ذلك أن الروح القدس اليوم يتكلم بأفواه المبشرين الذين لا يهتمون بالدرس والاستعداد الواجب للوعظ، فهو ليس وعداً لأهل الكسل. وكان مقصوراً على الرسل والمبشرين الأولين في أوقات خاصة، كما يستفاد من القول «فمتّى أسلموكم» وقوله «في تلك الساعة».
٢١ «وَسَيُسْلِمُ ٱلأَخُ أَخَاهُ إِلَى ٱلْمَوْتِ، وَٱلأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ ٱلأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ».
ميخا ٧: ٦، ٣٦ ولوقا ٢١: ١٦ الخ
مع أن المسيح وعدهم بتلك التعزية، أكد لهم أن امتحان إيمانهم سيكون شديداً حتى ينفصل بعض الأقربين عن بعض.
سَيُسْلِم لا تسليم خيانة، بل تسليم إجبار لرجال الحكومة والقضاة.
وَٱلأَبُ وَلَدَه ولكن حسب الوعد السابق إن من يضطهده الأب الأرضي يعينه الآب السماوي.
يَقُومُ ٱلأَوْلاَدُ أي يعصى الأولاد والديهم ويقاومونهم أشد مقاومة.
يَقْتُلُونَهُمْ ذلك نتيجة التسليم لرجال الحكومة والقضاة. ومن الغريب أن التعصب الديني يزيل المحبة الطبيعية بين الأقربين، فيجعل النساء والرجال أشد شراسة من الوحوش. وتبدو هذه النبوة غريبة جداً أنها بخلاف طبيعة الأبوة والبنوة، لكنها تمت بالفعل مرات لا تحصى.
٢٢ «وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. وَلٰكِنِ ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ».
مرقس ١٣: ١٣ ومتّى ٢٤: ١٣
من هذا القول يظهر أن المسيحية ستلقى المقاومة من كل الناس في كل الأرض، لا من شعب واحد في عصر واحد. وسبب ذلك أن هذا الدين يضاد فساد القلب البشري الطبيعي. وتمت هذه النبوة في القرن الأول وما بعده إلى الآن، وصدقت على المسيحيين في كل عصر كما صدقت على الرسل الاثني عشر. ولا بد من أن تبقى العداوة بين نسل الحية ونسل المرأة إلى نهاية الزمن.
مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ أي عرضة للبغض الذي ينتج عنه الأذى من أكثر الناس.
مِنْ أَجْلِ ٱسْمِ أي لاتحادكم بي، ولأنكم تنادون بي وتشهدون بأني إلهكم والوسيط الوحيد والكاهن والملك (يوحنا ١٥: ١٨، ١٩).
ٱلَّذِي يَصْبِرُ نستنتج من ذلك أن مقاومة الأعداء للمسيحيين لا تميتهم كلهم، وأن نهايتها النجاة. والمراد بالصبر هنا احتمال الاضطهاد، مع التمسك بالإيمان قلبياً، والاعتراف العلني الذي هو سبب الاضطهاد.
ٱلْمُنْتَهَى أي نهاية الاضطهاد عند خراب أورشليم (كما في العدد الآتي)، أو نهاية الحياة، أو مجيء المسيح ثانيةً.
يَخْلُصُ أي ينجو من الموت كنجاة المسيحيين في خراب أورشليم (متّى ٢٤: ١٥ - ١٨). أو أنه ينجو النجاة الأبدية إن مات قتلاً من أجل المسيح.
٢٣ «وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ فَٱهْرُبُوا إِلَى ٱلأُخْرَى. فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ».
متّى ٢: ١٣ و١٢: ١٥ وأعمال ٩: ٢٥ و١٤: ٦ ومتّى ١٦: ٢٨
أمر المسيح تلاميذه هنا بأن يستعملوا حكمة الحيات في مثل تلك الضيقات، بأن يحذروا الخطر، فلا يعرضون أنفسهم له لغير اضطرار، وأن لا يمكثوا حيث الموت بلا فائدة، بل أن يحسبوا حياتهم عزيزة ليصرفوها بخدمته في المستقبل. وأباح المسيح بذلك لتلاميذه في كل عصر أن يستعملوا الحكمة في إنقاذ حياتهم من الخطر كلما قدروا بلا ضرر للحق.
فالهرب من الاضطهاد لمجرد راحة الجسد جُبنٌ وإثم، لكن المحافظة على الحياة لخدمة الكنيسة ونفعها من الواجبات المسيحية. وقد بيَّن المسيح معنى هذا الكلام بفعله (لوقا ٤: ٢٧ - ٣٠ ويوحنا ٨: ٥٩ و١٠: ٣٩) وبيَّن الرسل ما فهموه منه بفعلهم أيضاً (أعمال ٨: ١، ٤ و١١: ١٩).
لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ أراد بذلك أن تلك المدن كانت كثيرة كافية لأن يبشروا أهلها بالتتابع، وهم يعتزلون ما فيها من الاضطهاد. وأنهم لا يفرغون من تعليمهم فيها حتى يُرفع الخطر ويؤسس ملكوته.
يَأْتِيَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ رأى البعض أن هذا إشارة عامة إلى نهاية إرساليتهم بإتمامهم خدمتها، ورأي البعض الآخر أنها إشارة إلى مجيء المسيح للنقمة بإهلاك أورشليم وإزالة الطقوس الموسوية. وتم ذلك بعد ثلاثين سنة من كلام المسيح هذا، وهو الرأي الأصح. وتنبأ الأنبياء علاوة على مجيئه متواضعاً بمجيء آخر بالقوة والمجد (دا ٧: ١٣) فكان إتيانه لخراب أورشليم رمزاً في بعض الأمور إلى ذلك الإتيان العظيم.
٢٤، ٢٥ «٢٤ لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلْمُعَلِّمِ، وَلاَ ٱلْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ. ٢٥ يَكْفِي ٱلتِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ، وَٱلْعَبْدَ كَسَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ ٱلْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ أَهْلَ بَيْتِهِ».
لوقا ٦: ٤٠ ويوحنا ١٣: ١٦ و١٥: ٢٠ ومتّى ١٢: ٢٤ ومرقس ٣: ٢٢ ولوقا ١١: ١٥ ويوحنا ٨: ٤٨، ٥٢
كلام المسيح من هنا إلى آخر الأصحاح يصح أن يوجه إلى كل تلاميذ المسيح إلى نهاية الزمان.
لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلْمُعَلِّمِ الخ الأرجح أن هذا الكلام كان مثلاً، فاستعمله المسيح مراراً لمقاصد مختلفة (لوقا ٦: ٤ ويوحنا ١٣: ١٦ و١٥: ٢٠). وكأنه قال لهم هنا: لا تعجبوا من نبواتي بإتيان الشرور عليكم، لأنكم إن احتملتموها اتَّبعتم خطواتي. وقصد بذلك تعزيتهم، إذ يذكرون في كل ضيقاتهم أنهم شركاؤه، فلا يكونون عُرْضة لمشقات وتعييرات أكثر مما احتمل هو لأجلهم.
بَعْلَزَبُولَ أي رئيس الشياطين (متّى ١٢: ٢٤ ولوقا ١١: ١٥ ويوحنا ٨: ٤٨) وهو اسم إله العقرونيين (٢ملوك ١: ٢) ولفظهُ الأصلي «بعلزبوب» أي إله الذباب، وسمُّوه كذلك لاعتقادهم أنه يقيهم من كثرة الذباب. ولكن اليهود سمُّوا به الشيطان، وبدَّلوا الباء باللام لإهانته. وسموا المسيح به ليهينوه. وأشار المسيح في هذين العددين إلى علاقته بتلاميذه بثلاثة أمور: (١) علاقة المعلم بالتلميذ (متّى ٥: ١ و٢٣: ٧، ٨ ولوقا ٦: ٢٠) و(٢) علاقة السيد بالعبد (يوحنا ١٣: ١٣) و(٣) علاقة رب البيت بأهل بيته (متّى ٢٦: ٢٦ - ٢٩ ولوقا ٢٤: ٣٠).
٢٦ «فَلاَ تَخَافُوهُمْ. لأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ».
مرقس : ٢٢ ولوقا ٨: ١٧ و١٢: ٢ الخ
ذكر المسيح هنا عدة أسباب لإزالة خوفهم: الأول أن انتصار الأشرار إلى حين، كخسوف القمر أو كسوف الشمس، لا بد أن يليه النور بعد قليل. فلا يمكن أن تخفي نميمةُ أعدائهم أو شكاواهم الكاذبة الحقَّ زماناً طويلاً. فأصحاب الحق مهما أُهينوا واتُّهموا لا بد أن ينالوا الاحترام والتبرئة بعد ذلك. وكل شركاء المسيح في عاره وإهانته يشتركون معه في مجد نصرته. وقول المسيح هنا بشرى للأبرار وإنذار للأشرار.
يُسْتَعْلَن قد يستعلن الحق وصدق أهله في هذه الأرض. ولكن لا بد من أن يعلن كل الإعلان في يوم الرب العظيم بدليل القول «حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا ويظهر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله» (١كورنثوس ٤: ٥) وهذا الاستعلان قد تجريه العناية الإلهية في هذه الدنيا، ولكن الله يجريه في يوم الدين بالذات.
خَفِيٌّ أي حقٌ مستور، أو بر ذي حق محجوب بشهادة زور أو تحريف أو كتم شهادة تجب تأديتها (كولوسي ٣: ٣ و١يوحنا ٣: ٢).
يُعْرَف كما قيل «مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٤) والقول «وَيُخْرِجُ مِثْلَ النُّورِ بِرَّكَ، وَحَقَّكَ مِثْلَ الظَّهِيرَةِ» (مزمور ٣٧: ٦).
٢٧ «ٱلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي ٱلظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي ٱلنُّورِ، وَٱلَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي ٱلأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى ٱلسُّطُوحِ».
مقاومة العالم للتلاميذ تكون واسطة لانتشار الحق، فالذي علمهم المسيح لهم ليس كنزاً يخفونه لأنفسهم ليتمتعوا به، بل هو نور ينشر ليبدد الظلام الأخلاقي.
فِي ٱلظُّلْمَةِ... فِي ٱلأُذُنِ كلام جارٍ مجرى المثل، يُراد به المخاطبات السرية. وليس المقصود أن كلام المسيح كان سراً للرسل، لكن دعاه كذلك بالنسبة إلى قوة ظهوره في ما بعد.
فِي ٱلنُّورِ... عَلَى ٱلسُّطُوح أي الإظهار الكامل. إن تعليم المسيح التلاميذ وهم مسافرون من مكان إلى مكان في الجليل، أو هم مجتمعون في البيت، ليس قاصراً عليهم ليحفظوه في قلوبهم، بل ليبذروه هم ومن بعدهم على توالي الأزمنة حتى تمتلئ الأرض بالثمار. فإنجيل المسيح بشرى لكل أمم الأرض، واضطهاد المبشرين ووقوفهم في المجالس أمام المحاكم والولاة من أعظم الوسائط لإعلان الحق والمناداة بذلك الإنجيل.
ويظهر من هذه الآية أن الوقت الذي تُعلن فيه البشارة كل الإعلان لم يكن قد جاء بعد، ولا يأتي إلا بعد موته وقيامته وحلول الروح القدس يوم الخمسين. فإن قلوب الناس لم تكن يومئذ مستعدة لقبوله. وأن التعليم نفسه لم يكمل إلا بعد أن قال المسيح وهو على الصليب «قد أكمل». وكتم المسيح أمره يومئذ بعض الكتمان، واعتزل اليهود خوفاً من أن يأخذوه ويجعلوه ملكاً بالرغم عنه، وخشية من أن الرومان يتهمونه بتهييج الفتنة في البلاد.
٢٨ «وَلاَ تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ وَلٰكِنَّ ٱلنَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّم».
إشعياء ٨: ١٢، ١٣ ولوقا ١٢: ٤ و١بطرس ٣: ١٤
السبب الثاني لنفي خوف التلاميذ من أعدائهم القساة الأشرار هو أن قوة إيذائهم تقع على الجسد فقط ولا تبلغ النفس. وذلك يدل على أن النفس لا تموت مع الجسد.
خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِك هذا القادر هو الله. فإذا خفنا من الناس فأخفينا الحق أغظنا الله، فيكون غضبه أعظم من غضب الناس. فمن خالف أمره وأهمل واجباته خوفاً من الناس جلب على نفسه وجسده خوفاً أعظم.
ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا لا قوة لأذى الإنسان إلا الجسد بأن يحرمه بعض اللذات ويجلب عليه بعض الآلام، وتنتهي تلك القوة بانتهاء الحياة الأرضية. ولكن لله قوة على النفس والجسد إلى الأبد بأن يهلكهما في جهنم النار.
فِي جَهَنَّم هي محل العذاب (انظر شرحنا لمتّى ٥: ٢٢)
٢٩ «أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لاَ يَسْقُطُ عَلَى ٱلأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ؟».
يجب أن نثق في محبة الله وعنايته كما يجب أن نخشى غضبه. وهذا هو السبب الثالث لنفي خوف الخطر في إتمام واجباتنا. فإن المسيح ذكر أن قوة أعداء تلاميذه مقصورة على أذى أجسادهم آية ٢٨)، وذكر هنا أن تلك الأجساد هي في حراسة الله.
عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ الفلس عُشر الدينار، والدينار أجر عامل في اليوم.
وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا ذكر الواحد منهما لتقليل القيمة.
لاَ يَسْقُطُ عَلَى ٱلأَرْضِ لا يمكن أن يسقط بدون معرفته وإذنه، ولكنه يسقط إذا أراد.
أَبِيكُمْ أشار بتسمية الله أباً إلى محبته للتلاميذ، وأنها كمحبة الأب لأولاده. وإذا كان الذي يعتني بالعصافير كل تلك العناية أباً لهم، فلا يبقى مبرر لخوفهم. فإن كان الله يعتني بما ليس له قيمة كالعصافير، فكم بالحري يعتني بالناس! وإذا كان يعتني بكل الناس فكم بالحري يعتني بمن هم بمنزلة أولاده.
٣٠ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ».
١صموئيل ١٤: ٤٥ و٢صموئيل ١٤: ١١ ولوقا ٢١: ١٨ وأعمال ٢٧: ٣٤
هذا كلام جارٍ مجرى المثل، يراد به العلم الكامل والعناية الشاملة. وليس في ألفاظ اللغة ما يدل على علم الله وعنايته وحمايته أكثر مما دلت هذه الكلمات. فإن شعور الرأس قليلة القيمة حتى لم يهتم أحد قط بإحصائها. لكن عناية الله شاملة إلى هذا الحد حتى أنه أحصاها. فهو يعتني بما لا نظنه يستحق العناية من أمورنا. فالذي نراه لا قيمة له هو عند الله ذو شأن. وإن كانت شعور رؤوسنا محصاة فلا بد أن تكون دموعنا وأوجاعنا وتنهداتنا كذلك.
٣١ «فَلاَ تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ».
هذا خلاصة العدد السابق، فإن اعتنى الله بالعصافير، فكم بالحري يعتني برسل المسيح الذين هم أولاده.
٣٢، ٣٣ «٣٢ فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، ٣٣ وَلٰكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَات».
لوقا ١٢: ٨ ورومية ١٠: ٩، ١٠ ورؤيا ٣: ٥ ومرقس ٨: ٣٨ ولوقا ٩: ٢٦ و٢تيموثاوس ٢: ١٢
أورد هنا السبب الرابع لعدم تأثر تلاميذه من خوف الناس. فمعاملة الله لهم في المستقبل متوقفة على أمانتهم له في الحاضر.
كُلُّ مَن أي كل أحد بلا استثناء.
يَعْتَرِفُ بِي أي يُقر بأني المسيح سيده ومعلمه بالقول والفعل، ويترك كل ما لا يليق بهذا الإقرار وبإتباعه إياي. ولا يعتبر المسيح خدمة أحد ما لم تكن في العلن. والاعتراف بالمسيح أشمل من الاعتراف بالاعتقاد، فيؤثر في كل أعمالنا مدة الحياة.
أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِه أي أعترف بأنه تلميذي وأني فديته. فهذه الكلمة القصيرة جمعت أبدية المسرات.
قُدَّامَ أَبِي في السماء أو في اليوم الأخير. فمثلما قال في عدد ٣٢ في شأن الاعتراف قال في أمر الإنكار. وكرر الأسلوب لزيادة الإيضاح. فإنكار المسيح قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل بأن يرتكب المسيحي ما لا يليق بدعوته، وقد يكون بسكوته حين يجب أن يتكلم.
أُنْكِرُه هذه العبارة القصيرة جمعت ما لا يُحصى من أنواع الشقاء. فمن أنكره المسيح لا يستطيع أن يرفع دعواه إلى الآب، لأن من رفضته الرحمة لا يعفو عنه العدل.
٣٤ «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى ٱلأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً».
لوقا ١٢: ٤٩ - ٥٣
مقاومة العالم للتلاميذ ليست صدفةً يستغربون حدوثها، بل هي نتائج ضرورية لانتشار الحق يجب أن يتوقعوها.
لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً أي لا تنتظروا راحة وسلاماً في وقتٍ لا بد فيه من التعب والجهاد، ولا تتوقعوا أثمار الإنجيل الكاملة في أول أمره. ولكن المسيح كان رئيس السلام، فيحق لتلاميذه أن يتوقعوا سلام العالم من مجيئه. ولا بدَّ من هذه النتيجة أخيراً لأن الإنجيل بشَّر بالسلام بين السماء والأرض (إشعياء ٩: ٦ و١١: ٦ ولوقا ٢: ١٤)، وبسلام الضمير، وبالسلام بين الناس. وهذه نتائج الإنجيل الحقيقية التي لا بد منها أخيراً، ولكن نتائجه الحاضرة حروباً وعداوات واختلاف الأقارب. وعلة ذلك عصيان الناس على الله ومقاومتهم للحق.
سَيْفاً السيف هنا كناية عن الحرب، ولا بد من أن تسبق الحربُ السلامَ في المملكة العاصية على ملكها الشرعي. والمسيح أتى لكي يحارب الشيطان وكل أعماله (أفسس ٦: ١١، ١٢ و١تيموثاوس ٦: ١٢). أما السلام الذي جاء في ترنيم الملائكة يوم ميلاد المسيح فالمقصود به ليس السلام بين المسيح والعالم الشرير، بل السلام بين الله ومختاريه. وذلك السيف إما سيف المسيح على الشيطان كما فُسر، وإما سيف الاضطهاد من أعداء المسيح عليه وعلى المؤمنين به. وهذا السيف لا يبرح من الأرض ما دام الحق يقاوم الباطل والباطل يقاوم الحق.
٣٥ «فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ ٱلإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَٱلابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَٱلْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا».
ميخا ٧: ٦
هذا مقتبس من ميخا ٧: ٦ وقد بين إتمامه في يوحنا ٧: ٢ - ٥ وهو من الأمثلة على أن المسيح جاء ليلقي سيفاً. فدينه كثيراً ما يكون علة لاختلاف الأقارب وانفصال بعضهم عن بعض. وإذا قبل بعض أفراد العائلة المسيح ورفضه البعض الآخر، فلا بد أن يقع أولاً الخصام، ثم البغض، ثم الانفصال. فأنبأهم المسيح أنهم لا بد من أن يتوقعوا خسارة محبة أصدقائهم لأجل اسمه. فيخسرون سلام العائلة ليربحوا سلام الله بالمسيح.
٣٦ «وَأَعْدَاءُ ٱلإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ».
مزمور ٤١: ٩ و٥٥: ١٢، ١٣ ويوحنا ١٣: ١٨
هذا العدد كالعدد السابق إلا أنه أعم. وقد أثبت اختبار المسيحيين صدقه منذ كان المسيح على الأرض إلى الآن.
أَعْدَاءُ ٱلإِنْسَان أي الإنسان الذي يتبع المسيح بالأمانة.
٣٧ «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي».
لوقا ١٤: ٢٦، ٢٧
كثيراً ما يكون الإيمان بالمسيح سبب الاختلاف بين الأقارب، فيضطر الإنسان إلى أن يختار إما ترك أقاربه واتِّباع المسيح، وإما إتباع أقاربه وترك المسيح. وفي ذلك امتحان له يتبين به إن كان مؤمناً حقيقياً.
مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً خلق الله الوالدين والأولاد حتى يحب بعضهم بعضاً، وذلك فرض واجب إن لم يخالف فرضاً أعظم منه. فمن أصعب التجارب أن يترك الإنسان والديه أو أولاده لأجل المسيح، لأنه بذلك يقاوم ما فُطر عليه. ولكن إذا حدث مثل ذلك وجب على الإنسان أن لا يتوقف في الاختيار. فيجب أن يُحب المسيح أكثر من كل إنسان، وإلا فلا تحسب محبته شيئاً. أما سبب تفضيل المسيح فلأنه إله.
لاَ يَسْتَحِقُّنِي أي لا يستحق أن أعترف به قدام الآب ولذلك لا أعترف به. والحق أنه لا أحد يستحق المسيح، لكنه هو يتنازل إلى أن يعترف بمن يعترف به قدام الناس ويتبعه. فاعتراف المسيح بالإنسان أفضل شرف وبركة له، وخير ثواب عن كل الضيقات. وإنكار المسيح أعظم عار وأشر خسارة.
٣٨ «وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي».
متّى ١٦: ٢٤، ٢٥ ومرقس ٨: ٣٤، ٣٥ ولوقا ٩: ٢٣، ٢٤ و١٤: ٢٧
يَأْخُذُ صَلِيبَهُ كان الرومان يلزمون المحكوم عليه بالصلب أن يحمل صليبه إلى محل العقاب. ومن ذلك صار حمل الصليب كناية عن حمل الخزي والآلام. وتكلم المسيح هنا كأنه حُكم عليه بالموت صلباً، وأنه ذاهب إلى مكان العقاب، وكل واحد من تلاميذه يسير وراءه حاملاً صليبه. وأخذ الصليب إكراماً للمسيح أفضل من مجرد حمله، لأنه يعني التعرُّض للخطر والألم حتى الموت، عن علم واختيار (في ٣: ٨ - ١٠). وصار معنى حمل الصليب بعد موت المسيح مصلوباً مشاركة للمسيح في الإهانة والآلام.
وَيَتْبَعُنِي سبق المسيح تلاميذه في طريق الآلام، فاحتمال المصائب اقتفاءٌ لآثار المسيح في تلك الطريق.
لاَ يَسْتَحِقُّنِي انظر شرح عدد ٣٧.
٣٩ «مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا».
يوحنا ١٢: ٢٥
للحياة معنيان: حياة الجسد وحياة النفس، فالأولى زمنية على الأرض، والأخرى أبدية في السماء. والذي ينكر المسيح ليجد الحياة الأرضية يضيع الحياة السماوية (أي حياة نفسه)، والذي يخسر الحياة الدنيوية لأجل المسيح يربح حياة النفس الخالدة. ومحبة الحياة أقوى من محبة الأقارب، ولكن محبة المسيح يجب أن تفضَّل على كلتيهما.
وربما توهم البعض أن هذه الآية تحثنا على الانتحار (أي قتل الإنسان نفسه) والحق أنها تعني بذل الخير الأدنى الزمني بالخير الأسمى الأبدي، كقلع العين اليمنى وقطع اليد اليمنى (متّى ٥: ٢٩، ٣٠). وكلها أمثلة لترك عزيز ثمين لربح ما هو أعز وأثمن منه في المستقبل. فيستحيل على الإنسان أن يبقى في الحياة الطبيعية بكل شهواتها وميولها كما هي ويحصل مع ذلك على حياة المحبة والقداسة في السماء. فلا بد أن يترك الواحدة منهما، لأنه لا يمكن أن يرث ملكوت الله بالطبيعتين العتيقة والجديدة معاً. فيجب على الذي وُلد من فوق وابتدأ الحياة المقدسة مع الله أن يموت للعالم والخطية. فجزاء خسارة الحياة الأرضية ربح جزيل في السماء.
أَضَاع أي سمح عند الضرورة أن يبذل نفسه. لنا في العدد ٣٧ وجوب تفضيل المسيح على أعز الأقارب. وفي العدد ٣٨ وجوب تفضيله على الراحة والصيت. وفي العدد ٣٩ وجوب تفضيله على الحياة نفسها.
٤٠ «مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي، وَمَنْ يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي».
متّى ١٨: ٥ ولوقا ٩: ٤٨ و١٠: ١٦ ويوحنا ١٢: ٤٤ و١٣: ٢٠ وغلاطية ٤: ١٤
بعد أن ذكر المسيح ما يلحق تلاميذه من المصائب عزاهم بأن ذكر أنه يشاركهم في كل شيء، وأن إكرامهم إكرامه وخدمتهم خدمته، وأنه يجازي من يكرمهم ويخدمهم كمن يكرم ويخدم المسيح نفسه.
مَنْ يَقْبَلُكُمْ باعتبار أنكم رُسلي، وأن رسالتكم حق، فيرحب بكم ويكرمكم ويحسن إليكم.
يَقْبَلُنِي أي يُجازى كأنه فعل كل ما ذُكر لي. وقبول الرسول كقبول رسالته، وقبول الرسالة كقبول الذي أرسلها، كما أن إكرام السفير إكرام لملكه، وإهانته إهانة لذلك الملك. وغاية هذا الكلام تشجيعه التلاميذ في مناداتهم بالإنجيل وتعزيتهم حين يرفضون.
٤١ «مَنْ يَقْبَلُ نَبِيّاً بِٱسْمِ نَبِيٍّ فَأَجْرَ نَبِيٍّ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَقْبَلُ بَارّاً بِٱسْمِ بَارٍّ فَأَجْرَ بَارٍّ يَأْخُذُ».
١ملوك ١٧: ١٠ الخ و١٨: ٤ و٢ملوك ٤: ٨ الخ
مَنْ يَقْبَلُ نَبِيّاً قبول النبي باسم نبي ليس قبوله كمجرد شخص، بل قبوله لأنه نبي مع الإصغاء إلى نبوَّته وطاعتها، وإظهار كل الإكرام له باعتبار أنه رسول الله. ومن فعل ذلك يشارك النبي في الثواب يوم الإثابة.
مَنْ يَقْبَلُ بَارّاً المراد بالبار هنا المسيحي بالحق. وقبوله يُظهر الشركة معه في الشعور والهدف، فيستحق أن يشاركه أخيراً في الجزاء. فالذي بأعماله حبَّه للبر وأهله يبرهن أنه أهلٌ للشركة في ملكوت البر وكل ما فيه من البركات.
٤٢ «وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِٱسْمِ تِلْمِيذٍ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ».
متّى ١٨: ٥، ٦ و٢٥: ٤٠ ومرقس ٩: ٤١ وعبرانيين ٦: ١٠
هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ أراد بهم تلاميذه، وسماهم صغاراً إشارة إلى تواضعهم في عيون أنفسهم، وإلى ضعفهم بالنسبة إلى قوة أعدائهم. وكما كانوا صغاراً في عيون أنفسهم كانوا كذلك في عيون أهل العالم، الذين لا يحترمون إلا الكبار الأغنياء والشرفاء والعلماء والأقوياء. ويحتمل أن المسيح أراد بالصغار «الأقل معرفة واعتباراً» بين تلاميذه.
كَأْسَ مَاءٍ بَارِد الماء أرخص منعشات الإنسان، فيكنى به عن أصغر هبة يقدمها الإنسان لغيره. ورفض تقديمه لعطشان توحُّش وعمل غير إنساني.
بِٱسْمِ تِلْمِيذ أي باعتبار أنه للمسيح وأنه تلميذه. فالذي يصنع هذا المعروف الزهيد لأحدٍ باعتبار أنه مسيحي، ولإظهار محبته للمسيح، يكون كأنه صنع ذلك المعروف للمسيح نفسه ويُجازى عليه كذلك.
لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ لا تتوقف قيمة الهدية على كبرها أو صغرها، بل على قصد المُهدي وحالته. فيجب على المسيحي مهما كان فقيراً وضعيفاً أن لا ييأس من أخذ الأجر (لوقا ٢١: ١ - ٤). وذلك الأجر ليس أجرة حقيقية بل هبة يمنحها الله إياه.
الأصحاح الحادي عشر
١ «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ أَمْرَهُ لِتَلاَمِيذِهِ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ لِيُعَلِّمَ وَيَكْرِزَ فِي مُدُنِهِمْ».
وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ أَمْرَهُ أي حديثه في أصحاح ١٠.
ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاك لم يذكر من أين انصرف، ولكن يظهر من متّى ٩: ٣٥ أنه خاطبهم بذلك وهو يجول للتبشير.
لِيُعَلِّمَ وَيَكْرِز أي لينادي بأخبار الملكوت الجديد، فلم يوقفه تعيينه الاثني عشر رسولاً عن التبشير بنفسه.
فِي مُدُنِهِم أي مدن الجليل، كما تدل عليه القرينة.
٢ «أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي ٱلسِّجْنِ بِأَعْمَالِ ٱلْمَسِيحِ، أَرْسَلَ ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ».
متّى ١٤: ٣ ولوقا ٧: ١٨ - ٣٥
أوضح متّى في هذا الأصحاح علاقة المعمدان بالمسيح، وكان قد أشار لذلك في متّى ٤: ١٢. ولا علاقة في الزمن بين متّى ٤: ١٢ وما جاء هنا من إرسال يوحنا اثنين من تلاميذه، والأرجح أن هذا الإرسال كان قبل ما جاء في متّى ٤: ١٢.
سَمِعَ من تلاميذه (لوقا ٧: ١٨).
فِي ٱلسِّجْن قال المؤرخ اليهودي يوسيفوس إن هذا السجن كان في قلعة ماخيروس في بيرية شرق بحر لوط، ولا تزال آثار تلك القلعة باقية إلى الآن. وأشار متّى إلى سجن يوحنا قبل هذا في متّى ٤: ١٢ وذكر في متّى ١٤: ٣ سبب سجنه وكيفية موته.
بِأَعْمَالِ ٱلْمَسِيح أي بمعجزاته ليبين أنه المسيح (يوحنا ١٠: ٣٨ و١٤: ١١ و١٥: ٢٤).
تَلاَمِيذِه استمرَّ أتباع يوحنا يعتبرونه معلمهم، وأبوا أن يعتبروا المسيح أعظم منه، بالرغم من شهادة يوحنا للمسيح (متّى ٣: ١١، ١٤ و٩: ١٤ ويوحنا ١: ٢٠ و٣: ٢٥ - ٣٠) وظن أكثر المفسرين أن يوحنا أرسل هذين التلميذين ليزيل شكوك كل تلاميذه التي بقيت فيهم بعد شهادته، وذلك بلقائهم للمسيح وسماع كلامه ومشاهدة معجزاته. ولعله أرسل التلميذين ليتحقق أن النبي الذي ظهر في الجليل هو نفس الشخص الذي عمده في الأردن. أو لعله قصد أن يحث المسيح على أن يظهر نفسه ملكاً زمنياً إسرائيل يحررهم من عبودية الرومان كما كان يتوقع، وتعجب من بطئه في ذلك. وظن بعضهم أن إيمان يوحنا في المسيح ضعف قليلاً في أثناء سجنه، لأن المسيح تركه كل تلك المدة، ولأنه سلك طريقاً يختلف عن الطريق التي توقع يوحنا أن المسيح يسلكها، فاعتراه بعض الشك في ذلك. وقد يعتري بعض المسيحيين الشك مثله بسبب تباطؤ تقدم ملكوت المسيح في العالم.
٣ «وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟».
تكوين ٤٩: ١٠ وعدد ٢٤: ١٧ ودانيال ٩: ٢٤ ويوحنا ٦: ١٤
وَقَالَ بواسطة رسوليه. وهو مجاز مرسل شائع في كل اللغات.
ٱلآتِي أي المسيح الذي انتظر مجيئه منذ قرون كثيرة. وفي اصطلاح اليهود يشير إلى المسيح، وبُني ذلك الانتظار على نبوات العهد القديم (تكوين ٤٩: ١٠ وإشعياء ٩: ١ - ٦ و١١: ١ - ٥ و٣٥: ٤ - ٦ وص ٥٣ كله ودانيال ٩: ٢٤ - ٢٧).
أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ أي نتوقع إتيان غيرك لتتحقق فيه النبوات؟ لقد بذل يوحنا كل الجهد في سبيل خدمة الله وممارسة وظيفته وإفادة تلاميذه، ولا شيء في ذلك من النفع الخاص له، لأن المسيح لم ينقذه من سجنه.
٤ «فَأَجَابَهُمَا يَسُوعُ: ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ».
لم يجاوب المسيح يوحنا بقوله نعم أو لا، بل اقتصر على توجيه أفكاره وأفكار تلاميذه إلى البراهين الحسية التي هي معجزاته، إتماماً للنبوات التي نسبها المسيح إلى نفسه، كقوله بلسان إشعياء «حينئذ تتفتح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح. حينئذٍ يقفز الأعرج كالإيل، ويترنم لسان الأخرس» (إشعياء ٣٥: ٥) ومثل ذلك ما جاء في إشعياء ٦١.
وهذا أفضل الجواب، فلا شيء يقنعنا مثل العمل، ولا شيء يتكلم بصوتٍ أعلى من سيرة الإنسان وتصرفاته. فلنفحص نفوسنا: لماذا لا يكون لكلامنا التأثير الصالح الذي ننتظره؟ هل السبب أننا نقول غير ما نفعل؟ وما تأثير قولنا عندئذ؟
أَخْبِرَا يُوحَنَّا هذا لا يستلزم القطع بشك يوحنا، فقد وجَّه المسيح الجواب إليه ليمحو شكه. وأفضل طريق لإزالة الشكوك في الدين هي أن نعرضها على المسيح بالصلاة. ومعجزاته ختم الله لصدق تعاليمه، ونتائج دينه النافعة من أفضل البراهين على صحة ذلك الدين.
٥ «ٱلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَٱلْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَٱلصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَٱلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ».
إشعياء ٢٩: ١٨ و٣٥: ٤ - ٦ و٤١: ٧ ويوحنا ٢: ٢٣ و٣: ٢ و٥: ٣٦ و١٠: ٢٥، ٣٨ و١٤: ١١ ومزمور ٢٢: ٢٦ وإشعياء ٦١: ١ ولوقا ٤: ١٨ ويعقوب ٢: ٥
هذا تفسير قوله في العدد السابق «ما تسمعان وتنظران» وهو ما أراد أن يخبرا يوحنا به. وزاد لوقا على ذلك بقوله «في تلك الساعة شفى كثيرين من أمراض وأدواء وأرواح شريرة، ووهب البصر لعميان كثيرين» (لوقا ٧: ٢١).
وَٱلْمَوْتَى يَقُومُون كانت إقامة ابن أرملة نايين من المعجزات التي شاهدها تلميذا يوحنا.
وَٱلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُون من النبوات المتعلقة بالمسيح قوله «روح السيد الرب عليَّ لأن الرب مسحني لأُبشر المساكين» (إشعياء ٦١: ١). فيمتاز دين المسيح على غيره بأنه لا يفرق بين الأغنياء والفقراء والشرفاء والأدنياء، لأن كل بركاته بلا فضة وبلا ثمن، فيمكن للفقير أن يحصل عليها كالغني. إنه يعزي المساكين ولا سيما المساكين بالروح الذين يشعرون بجوع النفس وعطشها إلى البر أكثر من غيرهم. ولا بد من أن هذا البرهان يؤثر في يوحنا وإن كان لا يؤثر في الكتبة والفريسيين، لأنه كان يعتبر النجاة الروحية أعظم العجائب وأن شفاء الأمراض الجسدية رمز إلى تلك النجاة.
٦ «وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ».
إشعياء ٨: ١٤، ١٥ ومتّى ١٣: ٥٧ و٢٦: ٣١ ورومية ٩: ٣٢ و٣٣: و١كورنثوس ١: ٢٣ و٢: ١٤ وغلاطية ٥: ١١ و١بطرس ٢: ٨
هذا كلام عام يناسب يوحنا إن كان هو الذي شكَّ، ويناسب تلاميذه إن كان سؤاله لمجرد نفعهم.
طُوبَى أي غبطة وسعادة من الله.
يَعْثُر أي يشك فيقع في هاوية الإثم والضلال.
فِيَّ أي لفقري وتواضعي وتصرفي خلاف ما يتوقع الناس من المسيح. على أن المسيح صار عثرة لكثيرين (رومية ٩: ٣٣ و١كورنثوس ١: ٢٣) وبذلك تمت نبوة إرميا ٦: ٢١. واليهود أكثر من عثروا به، لأنه لم يأتِ وفق انتظاراتهم من جهة حكمه الزمني ومجده العالمي. فكلام يسوع على غبطة المؤمن به يتضمن إنذاراً رهيباً للذين يشكون في أنه المسيح.
وإن سلمنا أن يوحنا شكَّ وقتاً، فلا ريب أنه وثق كل الثقة بالمسيح قبل موته شهيداً، لأن تلاميذه أتوا عند موته وأنبأوا المسيح، فأظهروا بذلك أنه لم يبقَ عندهم شك فيه.
٧ «وَبَيْنَمَا ذَهَبَ هٰذَانِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟».
قصد المسيح من هذا الكلام أن يمنع الشعب من نتائج فاسدة من سؤال يوحنا إياه وجوابه له.
بَيْنَمَا ذَهَبَ هٰذَانِ لم يرد المسيح أن يمدح يوحنا أمام تلميذيه، لئلا يظن السامعون أنه يتملقه. ولكنه لم يسكت بعد ذهابهما دقيقة واحدة عن تبرئة يوحنا، لئلا يظن السامعون السوء في يوحنا.
مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ ذكر الشعب بذلك خروجهم إلى البرية عند بحر لوط حيث ذهبوا ليروا ويسمعوا ذلك النبي الشهير الذي كان حينئذ في سجن ماخيروس، ليجدد احترامهم له. وهذا السؤال يدل على أنهم نظروا في يوحنا حقيقة ما خرجوا لينظروه.
أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟ كان نبات القصب يكثر على شاطئ الأردن حيث ذهبوا ليشاهدوا يوحنا ويسمعوه. والقصبة التي تحركها الريح ترمز للإنسان السريع التأثر الكثير التقلب الذي يقول اليوم غير ما قاله بالأمس. وهذا السؤال أشد نفياً لذلك عن يوحنا. ومعلوم أن يوحنا كان ثابتاً شديد التمسك بما يعتقده، فيستحيل أن يكون قد غيَّر شهادته. فسؤاله المسيح بواسطة تلميذيه لا شيء فيه من الدلالة على تغيير اعتقاده. وهذا مما يقوي القول بأن قصد يوحنا بسؤال المسيح هو إزالة شكوك تلاميذه فيه لا شكوكه هو.
٨ «لٰكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا ٱلَّذِينَ يَلْبَسُونَ ٱلثِّيَابَ ٱلنَّاعِمَةَ هُمْ فِي بُيُوتِ ٱلْمُلُوكِ».
أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ أي مترفهاً هائماً باللذات الجسدية. ولكن لبس يوحنا كان من وبر الإبل ومنطقة من جلد.
فِي بُيُوتِ ٱلْمُلُوك مثل قصر الملك هيرودس. ولم يكن يوحنا من حاشية الملك، ولا كان من أهل التملُّق الذين يشهدون بما يسر الذين يسمعونهم رغبةً في منفعة ذاتية. والخلاصة أن شهادة يوحنا للمسيح لم تتغير، فشهد له وهو في السجن كما شهد له وهو في البرية.
٩ «لٰكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ».
متّى ١٤: ٥ و٣١: ٢٦ ولوقا ١: ٧٦
سألهم المسيح ثالثةً، كأنهم أجابوا على السؤالين السابقين سلباً من شهادة ضمائرهم. فإذا لم يكن يوحنا كقصبة ولا كأحد أهل البلاد، فماذا يكون؟
أَنَبِيّاً أي كما أنتم تعتقدون. وسألهم هذا لكي يحقق لهم صحة ذلك الاعتقاد.
نعم أقول لكم وأفضل من نبي: كان أفضل من نبي لأن قواه فاقت قوى سائر الأنبياء. ولأن غيره من الأنبياء لم يتنبأ بالمسيح في الوضوح كما تنبأ هو به. وهو كان الواسطة لتعريف اليهود بأن يسوع هو المسيح بشخصه.
١٠ «فَإِنَّ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ».
ملاخي ٣: ١ ومرقس ١: ٢
أَمَامَ وَجْهِكَ الخطاب هنا للمسيح والكلام على يوحنا.
مَلاَكِي أي رسولي وذلك دليل على أنه لم يأتِ من تلقاء نفسه بل من الله للكرازة. وذكر ملاخي في نبوته التي منها هذا الكلام ملاكين، أحدهما ملاك العهد سيد هيكله، والثاني سابقه وهما المسيح ويوحنا.
يُهَيِّئُ بأن ينبئ بمجيء المسيح ويجهز الناس لقبول تعليمه بواسطة التوبة والانتظار.
١١ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ، وَلٰكِنَّ ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ».
ٱلْحَقَّ أَقُولُ هذا تأكيد لما سيأتي، ودفعٌ لظنهم أنه أراد المبالغة.
ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ الجنس البشري. (أيوب ١٤: ١ و١٥: ١٤ و٢٥: ٤).
أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا أي لم يوجد إنسان أعظم منه بين رؤساء الآباء والكهنة ولا الملوك. ولم تكن أفضليته في سجاياه وإن كان باراً، ولكن في أنه سابق المسيح في الوظيفة، وأقرب إليه من كل الأنبياء. فعظمة الإنسان تزيد بقربه من المسيح. وإذا كان سابق المسيح أعظم من جميع الناس، فكم تكون عظمة المسيح نفسه!
ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَات أي النظام الجديد وهو الكنيسة المسيحية. والمعنى أن أصغر المسيحيين يكون لوفرة النور والمعرفة أعظم من أفضل اليهود، لأن الناس كانوا قبل موت المسيح يسيرون على ضوء الفجر فقط. ولكن لما مات المسيح وقام أشرق ضوء الشمس على العالم، فصاروا إلى نهارٍ كامل، بالنسبة لنوع الأخلاق التي يجب أن يظهروها، ويتوقف على نوع السجايا التي يتحلون بها، والتي ذكرها السيد في وصاياه كما وردت في أصحاح ١٠، وجعلها دستوراً لأتباعه إذا شاءوا أن يؤثروا التأثير الصالح لنشر ملكوته المجيد. فلا يظن من ذلك أن أقل المسيحيين أقدس من يوحنا، فالأفضلية متوقفة على مجرد الوسائط، فإن يوحنا كان واقفاً على عتبة العهد الجديد أما المسيحيون بعده فدخلوا الهيكل. وكان يوحنا صديق العريس (يوحنا ٣: ٢٩) وصار المسيحيون مع عدم استحقاقهم العروس نفسها. ولم يحل الروح القدس على يوحنا بالقوة التي حل بها على تلاميذ ذلك العهد.
١٢ «وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ إِلَى ٱلآنَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ، وَٱلْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ».
لوقا ١٦: ١٦
أشار المسيح بهذا إلى تأثير خدمة يوحنا برهاناً لما بيَّنه من عظمته في العدد العاشر.
مِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا أشار المسيح إلى ما حدث من التغير العظيم بمناداة يوحنا في مدة قصيرة، من بدء كرازة يوحنا إلى أن تكلم المسيح بهذا، ولعلها لا تزيد على سنة أو سنة ونصف. وشهد لوقا بعظمة ذلك التغيير فقال: «كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا. ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله، وكل واحد يغتصب نفسه إليه» (لوقا ١٦: ١٦) ونهضت في تلك المدة أمة اليهود كلها على رغم رؤسائها، فكانت حركتها كحركة مدينة عند افتتاح محاصريها.
ٱلْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَه أي أن اليهود تزاحموا على يوحنا ويسوع ليسمعوا تعليمهما، وكانوا غيورين ومجتهدين كأنهم يخطفون غنيمة ودل قوله «مِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ» (متّى ١١: ١٢). على أن تأثير شهادة يوحنا كان باقياً بعد سجنه. وإن كان دخول الملكوت وقتها لزمه كل ذلك الاجتهاد، فلا بد أنه يلزم مثله اليوم للفوز بالنصر والتغلب على كل مانع أو عائق.
١٣ «لأَنَّ جَمِيعَ ٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا تَنَبَّأُوا».
انتهى بيوحنا نظام العهد القديم الذي كان استعداداً للمسيح، فكان الحلقة الأخيرة في تاريخ الفداء من سلسلة وسائط ذلك العهد الطويلة. وفي هذا العدد إثبات لما قيل في عدد ١١ وردٌّ على توهم البعض أن مثل يوحنا يغير شهادته للمسيح لطول بقائه في السجن.
ٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلنَّامُوسَ يراد بها كل العهد القديم، أي إعلان الله إرادته بالأنبياء والناموس. والحق أن الناموس نفسه نبوة، لأن طقوسه رموز إلى المسيح وهي «ظل الخيرات العتيدة» (عبرانيين ١٠: ١).
إِلَى يُوحَنَّا لأنه آخر أنبياء العهد القديم، وكل ما كان في هذا العهد لم يكن سوى رمز واستعداد.
تَنَبَّأُوا أي اتصلت نبواتهم بالتتابع إلى يوحنا. ومع أن موسى وسائر الأنبياء ماتوا قبل يوحنا بمئات السنين إلا أن المسيح اعتبرهم أحياء لأن شهاداتهم بقيت المكتوبة. فيجوز أن يقال إن البشيرين والرسل لا يزالون يتكلمون إلى اليوم.
١٤ «وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهٰذَا هُوَ إِيلِيَّا ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ».
ملاخي ٤: ٥، ٦ ومتّى ١٧: ١٢ ولوقا ١: ١٧
ختم المسيح كلامه عن يوحنا المعمدان بتفسيره لنبوة ملاخي من جهة يوحنا (ملاخي ٤: ٥، ٦) فإنه أنبأ بمجيء إيليا. فبيَّن المسيح أن يوحنا هو المقصود بإيليا كما شهد الملاك الذي بشر بولادته أيضاً (لوقا ١: ١٧).
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا ذلك يدل على أن بعض السامعين كان يعتقد خلاف تفسير المسيح، فظنوا أن إيليا الحقيقي يأتي بنفسه، لا شخص غيره بروحه وقوته. فقول يوحنا على نفسه إنه ليس إيليا (يوحنا ١: ٢١) لا يناقض تفسير المسيح، لأن يوحنا أراد أنه ليس شخص إيليا. ويحتمل أن يوحنا في ذلك الوقت لم يعرف تمام المعرفة كيف يتمم نبوة العهد القديم.
١٥ «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ».
متّى ١٣: ٩ ولوقا ٨: ٨ ورؤيا ٢: ٧ و٣: ٦
معنى هذا أن المسيح ذو شأن، يجب الإصغاء الشديد له، والتأمل لإدراك المعنى الدقيق لكلامه (انظر مرقس ٩: ١٦ ولوقا ١٤: ٣٥ ورؤيا ٢: ٧). ولأن لكل إنسان أذنين للسمع تكون كرازة يوحنا المعمدان بالمسيح، وبشرى المسيح بالخلاص للجميع. فعدم معرفة الناس طريق الخلاص ليس لعدم وسائط السمع، بل لأنهم لا يريدون أن يصغوا بآذانهم وقلوبهم.
١٦ «وَبِمَنْ أُشَبِّهُ هٰذَا ٱلْجِيلَ؟ يُشْبِهُ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي ٱلأَسْوَاقِ يُنَادُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ».
لوقا ٧: ٣١ - ٣٥
بعد أن أكمل المسيح شهادته ليوحنا ووظيفته، أشار إلى الفرق بين يوحنا وبينه. ومع هذا الفرق لم يفرق الكتبة والفريسيون بينهما في المعاملة (لوقا ٧: ٣٠).
هٰذَا ٱلْجِيل ليس المقصود بالجيل كل أهل العصر، بل رؤساء اليهود الروحيين (لوقا ٧: ٢٩)
يُشْبِهُ أَوْلاَداً في أنهم كثيرو التقلب سريعو الضجر يطلبون ما ليس لهم حق أن يطلبوه.
فِي ٱلأَسْوَاق الأسواق متَّسعة تناسب اجتماع الأولاد للَّعب، كما تناسب البالغين للاتجار.
١٧ «وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا».
هذه شكوى بعض الأولاد من رفقائهم لأنهم لم يريدوا الاشتراك في اللعب، فقد لعبوا مرةً لعبة العرس ومرة أخرى لعبة الجنازة. ولعلهم عرضوا عليهم ألعاباً أخرى، فرفضوا أن يشتركوا في واحدٍ منها، وبقوا معتزلين اللعب، عابسين.
زَمَّرْنَا لَكُمْ أي طربنا لكم بألحان الفرح فلم ترقصوا طرباً.
نُحْنَا لَكُمْ ذلك إما بالأفواه وإما بالآلات كعادة الناس في الجنازة، فلم يظهروا علامة الحزن.
١٨ « لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ».
فسر المسيح بهذا العدد والذي يليه المقصود من التشبيه في العدد السابق.
لا يأكل ولا يشرب: أي أنه لم يأكل ولم يشرب كسائر الناس، لأن طعامه كان الجراد والعسل البري (متّى ٣: ٤). «لاَ يَأْكُلُ خُبْزًا وَلاَ يَشْرَبُ خَمْرًا» (لوقا ٧: ٣٣) لأنه كان نذيراً (لوقا ١: ١٥) فكان لا بد أن يمتاز عن سائر الناس بالأكل والشرب.
فَيَقُولُونَ أي الكتبة والفريسيون.
فيه شيطان: أي أنه يشبه الشيطان في اعتزاله سائر الناس وإقامته في البرية، وفي منعه نفسه عن ضروريات الحياة ولذّاتها كفعل المجنون الذي ذُكر في متّى ٨: ٢٨.
١٩ «جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا».
متّى ٩: ١٠
ٱبْنُ ٱلإِنْسَان هو المسيح (متّى ٨: ٢٠).
يَأْكُلُ وَيَشْرَب كسائر الناس بلا قهر الجسد.
فَيَقُولُونَ الذين لاموا يوحنا على تصرفه لاموا المسيح على خلاف ذلك التصرف. فجاء يوحنا بقساوة العهد القديم فلم يرضهم، وجاء المسيح بلين العهد الجديد فلم يسروا به.
أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ نسبوا ذلك إليه لا لإفراطه في الأكل والشرب، بل لأنه لم ينكر نفسه في مقتضيات الجسد كيوحنا.
مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاة لاموه أنه خالط الناس على اختلاف أحوالهم خلافاً ليوحنا المعمدان الذي انفرد عن الناس وسكن البرية. وأرادوا بقولهم محب للعشارين والخطاة أنه يحب عشرتهم، فهو منهم وفيهم. لكن هذا التعيير (أي أنه صديق الخطاة) هو مجده، لأنه لم يصاحب الضالين إلا ليهديهم إلى طريق التوبة والخلاص.
وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَ أي أن حكمة الله التي تجسدت، كما تجسدت في سفر الأمثال هي علة أعمال يوحنا والمسيح كليهما. وترجمة أخرى تقول «والحكمة تحققت بأعمالها» أي لا شيء يحقق الحكمة ويبررها إلا بتطبيقها على الحياة والسلوك. فإذا لام الفريسيون يسوع لأنه اختلط بالعشارين والخطاة فإن لومهم في غير محله، لأن غرض يسوع هو الخلاص لجميع الناس. لذلك فإن الحكمة في تصرفه قد تحققت بأن أظهر هذا الحب العظيم المسيحي حتى لأشقى الناس.
لام الكتبة والفريسيون أعمال المسيح، أما بنو الحكمة الحقيقية فقد حكموا بصلاحها ومدحوها. وبنو الحكمة هم تلاميذ المسيح المؤمنون. وغيرهم من اليهود كانوا كأولاد الأسواق، كثيري التقلب سريعي الضجر.وإنما برر بنو الحكمة يسوع ويوحنا، لأنهم رأوا تصرفهما مناسباً لوظيفتهما الإلهية، ووفقاً لنبوات العهد القديم المتعلقة بهما. فقد عاب عليه أولاد الجهالة بينما برره أولاد الحكمة. وكما كان اليهود يشتكون على المسيح ويوحنا بلا سبب، فإن أهل العالم لا يزالون يشتكون على المسيحيين لغير علة. فكيفما سار أهل التقوى يستنذبهم أهل الدنيا. ولكن الله يعرف خاصته ويبررهم.
٢٠ «حِينَئِذٍ ٱبْتَدَأَ يُوَبِّخُ ٱلْمُدُنَ ٱلَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُوَّاتِهِ لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ».
لوقا ١٠: ١٣ الخ
حِينَئِذٍ ٱبْتَدَأَ لما فرغ المسيح من توبيخ اليهود لشكاواهم بلا سبب على يوحنا وعليه، بدأ ينذر المدن التي نالت زيادة من سماع تبشيره وعمل معجزاته فيها. واستعمل في هذا الإنذار بعض العبارات التي استعملها في خطابه السبعين تلميذاً (لوقا ١٠: ١٣ - ١٥، ٢١، ٢٢).
يُوَبِّخُ وبخهم إظهاراً لحزنه على عدم توبة الذين حصلوا على أحسن الوسائط لمعرفة الحق.
٢١ «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ ٱلْقُوَّاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيماً فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَادِ».
يونان ٣: ٦، ٧، ٨
وبخ المسيح المدن التي كانت وقتئذٍ في غاية العظمة، لكنها خربت منذ قرون كثيرة. والضربات التي أنبأ المسيح بوقوعها على تلك المدن وقعت على أهلها، وعلامات وقوعها لا تزال ظاهرة على أطلالها.
وَيْلٌ أي مصابٌ عظيم. وهذا يدل على شدة حزن المسيح.
كُورَزِينُ لم تُذكر هذه المدينة إلا هنا وفي لوقا ١٠: ١٣ ولم يُعرف موقعها يقيناً، غير أنها كانت قريبة من بيت صيدا وكفرناحوم حتى كانت تذكر معهما. والأغلب أنها «كرازة» الواقعة على بُعد نحو ميلين ونصف ميل شمال خربة تل حوم.
بَيْتَ صَيْدَا هي مدينة في الجليل على شاطئ بحر طبرية الشمالي الشرقي عند مصب نهر الأردن في ذلك البحر. فيحتمل أنها كانت مبنية على جانبي ذلك النهر وهي مكان ميلاد ثلاثة من رسل المسيح: فيلبس وأندراوس وبطرس. ولم يذكر في الإنجيل أن المسيح صنع فيها شيئاً من المعجزات ولكن ذلك لا ينفي معجزاته فيها، لأن متّى ذكر القليل من عجائبه الكثيرة.
صُورَ وَصَيْدَاء مدينتان قديمتان في فينيقية على شاطئ بحر الروم، اشتهرتا بالتجارة البحرية والغِنى والترف والمعاصي. وأقدمهما صيدا التي بناها صيدون حفيد حام بن نوح (تكوين ١٠: ١٩ و٤٩: ١٣) لكن صور فاقتها بعد حين (يشوع ١٩: ٢٩ وإشعياء ٢٣: ٨ وحزقيال ٢٧: ٣٢) وأنذر الأنبياء هاتين المدينتين قديماً على شرهما ومعاصيهما (حزقيال ٢٠، ٢٧، ٢٨). وتمت عليها النبوات فعلاً. فقال المسيح إنه لو كان لهاتين المدينتين اللتين كانتا قديماً وثنيتين فرصة لمعرفة الحق، كما كان لكورزين وبيت صيدا، لتابتا بالتأكيد.
فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَاد كعلامات التوبة والندامة (يونان ٣: ٥ - ٩).
لنا من هذه الآية ثلاث فوائد:
- لا بد من يوم الدينونة.
- حال بعض الخطاة في ذلك اليوم شرٌّ من حال البعض الآخر.
- عقاب أردأ الوثنيين أخف من عقاب الذين سمعوا الإنجيل ولم يتوبوا.
٢٢ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً يَوْمَ ٱلدِّينِ مِمَّا لَكُمَا».
متّى ١٠: ١٥ وع ٢٤
أي أن عقاب مدينتي الجليل سيكون أشد من عقاب مدينتي فينيقية، لأن خطيتهما أعظم. ورفض المسيح أشر من عبادة الأوثان. فمن رفض مواعيد النعمة المعروضة عليه أتته بدلاً منها إنذارات النقمة. فالمسؤولية تزيد بزيادة المعرفة. وفي يوم الدين يدان خطاة الأيام الأولى والأيام الأخيرة معاً أمام الجميع. ويدان كلٌّ على قدر ما كان له من وسائط النعمة. وإن لم يتُب أولاد الأتقياء الذين هُذِبوا منذ الطفولية، والذين واظبوا على سماع الصلاة والوعظ، حُسبوا أعظم إثماً من الوثنيين وعوقبوا أشد عقاب.
٢٣ «وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ ٱلْمُرْتَفِعَةَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، سَتُهْبَطِينَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ ٱلْقُوَّاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى ٱلْيَوْمِ».
إشعياء ١٤: ١٣ - ١٥ ومراثي إرميا ٢: ١
كانت كورزين وبيت صيدا خاطئتين ولكن فاقتهما في الإثم مدينة ثالثة هي كفرناحوم، وطن المسيح ومركز عمله، بعد أن هجر الناصرة. فامتازت على كل ما سواها بوسائط المعرفة والنعمة، وكان فيها بعض التلاميذ المؤمنين بالحق. ولكن أكثر سكانها لم يتأثر بشيء.
كَفْرَنَاحُومَ انظر تفسير متّى ٤: ١٣.
ٱلْمُرْتَفِعَةَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ كانت كذلك لأنه لم يكن لسواها على الأرض ما كان لها من الوسائط التي تشبه وسائط سكان السماء، لأن المسيح سكن فيها مدة، فحصلت على فوائد قدوته وتبشيره ومشاهدة معجزاته.
سَتُهْبَطِينَ إِلَى ٱلْهَاوِيَة أي أنتِ التي ارتفعت فوق كل المدن حتى كدت تبلغين السماء ستنخفضين عن كل المدن حتى تهبطي إلى الهاوية. وذلك دليل على انحطاطها أخلاقياً ومادياً في هذا الزمان وإلى الأبد. وقد تم عليها كل ذلك لأنها فقدت كل العظمة الظاهرة حتى اختلف العلماء على موقعها اليوم. ومقارنة كفرناحوم بسدوم التي هلكت لفظاعة شرها كمقارنة كورزين وبيت صيدا بصور وصيدا. فالمعنى هنا كالمعنى هناك، أي أن وسائط كفرناحوم كانت أعظم من وسائط سدوم، فيكون عقاب أهلها أشد من عقاب أهل تلك.
لَبَقِيَتْ إِلَى ٱلْيَوْم دليلاً على أن خراب سدوم لم يكن من أسباب طبيعية بل من شر أهلها، وكان منع ذلك ممكناً لو تابت. وإمكان نجاة سدوم بالتوبة دليل واضح على أنه يمكن لكل خاطئ أن ينال الغفران لو تاب.
٢٤ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً يَوْمَ ٱلدِّينِ مِمَّا لَكِ».
لشدة ما وقع على سدوم من العقاب وسرعته ضُرب بها المثل إنذاراً للعبرانيين بالخطر المحيط بهم (إشعياء ١: ١٠ ومرقس ٤: ٦ وحزقيال ١٦: ٤٦ - ٥٧). وكل ما ذكره المسيح من عقاب كفرناحوم يصدق بأكثر تدقيق على الذين يرفضون المسيح اليوم.
٢٥ «فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ قَالَ يَسُوعُ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ».
لوقا ١٠: ٢١ مزمور ٨: ٢ ومتّى ١٦: ١٧ و١كورنثوس ١: ١٩، ٢٦ و٢كورنثوس ٣: ١٤
كان في مدن الجليل وقراها بعض الكتبة الفهماء الحكماء (لوقا ٥: ١٧) وهو قوله «وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ كَانَ يُعَلِّمُ، وَكَانَ فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ». فبعد ما ذكر المسيح ما كان من أمر مدن الجليل، كان لا بد أن يخطر علماؤها على باله، فقد قاوموه أشد مقاومة.
قَالَ يَسُوعُ لأن الأعداء وجَّهوا له سؤالاً لم يُذكر هنا. وقال البعض إن جواب المسيح كان على سؤال أضمروه في صدورهم، ظهرت علاماته على وجوههم وإشاراتهم. وظن آخرون أن السؤال ما تصوره من عدم توبتهم وعدم إيمانهم اللذين وبخهم عليهما، وهو التفسير الأرجح.
أَحْمَدُكَ ليس هذا مجرد الشكر على إحسان كشكر مُحسنٍ إليه للمحسن، لكنه إعلان الرضى بقضاء الله، فكأنه قال لأبيه: حسناً فعلت!
أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ خاطبه المسيح باعتباره ملك الكون، لأنه أظهر ذاته متنزهاً عن كل حكمة وسلطة بشرية، وخاطبه بكلمة الآب بياناً لقرب العلاقة بينه وبين ذلك الملك العظيم.
أَخْفَيْتَ لم يشكر المسيح أباه على أنه أخفى الحق عن بعض الناس، بل على أنه أظهره للأطفال. فما أخفاه عن البعض لم يُخفِه عن الكل. ولا شك أن الله يخفي الحق عن البعض أحياناً عقاباً لهم لأنهم أغمضوا عيونهم عنه وقسوا قلوبهم عليه. ويخفي ذلك غالباً بأن لا يمنحهم النعمة التي تقودهم على قبول الحق، فيتركهم في العمى الطبيعي الذي هو ثمرة خطيتهم الطبيعية. أو أن معنى ذلك أن الله سمح بأن كبرياءهم وعماهم الاختياري يخفيان عنهم الحق الإنجيلي، لأننا نقرأ أن ما سمح بوقوعه يُنسَب إليه، كما يُقال إنه قسى قلب فرعون، والمعنى أنه سمح بأن يتقسى.
هٰذِه أي معرفة الحق الروحية وتأثيره في قلوبهم وتمييز فوائد الإيمان والانتباه لإنذار الإنجيل (لوقا ١٩: ٤٢) ومواعيده (٢كورنثوس ٤: ٣).
ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ أراد بهما الكتبة والفريسيين، لأنهم كانوا حكماء وفهماء في الأمور الدنيوية، وفي معرفة الشريعة. وقد ظنوا أنهم كذلك في فهم معناها الروحي وهم يجهلونه كل الجهل. فلم يخترهم الله آنية لنعمته بسبب شدة كبريائهم التي جعلتهم يرفضون تعليمه لأنهم لم يشعروا باحتياجهم إليه. فنحن لا نتوصل إلى معرفة الحق الديني بمجرد الدرس العقلي، ولا بالحكمة البشرية، فكثيراً ما جهل أكابر الفلاسفة أبسط حقائق الإنجيل «لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ» (١كورنثوس ١: ٢١).
لِلأَطْفَالِ أي تلاميذه، لأنهم كانوا كالأطفال في الصفات الأخلاقية، وشعروا بأنهم كأطفال في المعرفة (١كورنثوس ٢: ٦، ٨، ١٠). والحق أنهم كانوا جهلاء وضعفاء في الأمور الروحية قبل أن ينيرهم الله ويقويهم. ولأنهم كانوا كالأطفال في التواضع والوداعة والتصديق أعلن الله لهم أسرار ملكوته. واليوم يجب أن نكون كالأطفال ليعلن لنا طريق الخلاص. لقد مجَّد المسيح الله وابتهج لرئاسته الفائقة العادلة. فعلى ذلك يجب أن يبتهج تلاميذه بالله ويمجدوه كلما تأملوا في هذا الشأن.
٢٦ «نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَك».
أي أشكرك أيها الآب لأنك اخترت أن تفعل هكذا، وما تختاره هو الأفضل، وهذه هي مسرتك في الأفضل الذي تريده وتفعله.
نَعَمْ هي حرف جواب. والجواب هنا عن سؤال مقدر هو: هل تشكرني على ذلك؟
هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أي مسرتك يا الله، وهذه المسرة ليست بلا سبب، وليس فيها شيءٌ من الظلم لأحد، وهي مبنية على غاية من الحكمة والمحبة. فإذا علمنا أن الله حكم بأمرٍ كفانا أن نعتقد أنه عن عدل وأنه أفضل ما يمكن حدوثه، لأنه يستحيل أن يخطئ الله في شيء من أعمال قضائه.
٢٧ «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلاَّ ٱلآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلابْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ».
متّى ٢٨: ١٨ ولوقا ١٠: ٢٢ ويوحنا ٣: ٥٣ و١٣: ٣ و١٧: ٢ و١كورنثوس ١٥: ٢٧ ويوحنا ١: ١٨ و٦: ٤٦ و١٠: ١٥
الأرجح أن المسيح أقال هذا دفعاً لما يمكن أن يتوهَّمه التلاميذ من أن المسيح أدنى مرتبةً من الآب، فأظهر هنا أنه والآب واحد في بيعته الإلهية، وأن الله الآب سلم السلطان إليه في ذلك إلى حين إتمام الفداء.
كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ باعتبار أن المسيح فادٍ سلم إليه كل سلطان (متّى ٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ و٥: ٤٦ وكولوسي ١: ١٦ - ١٩ وعبرانيين ١: ٨). فرئاسة الكون لا تزال للمسيح لعمل الفداء، ولكن في نهاية ذلك العمل يرجع كل شيء إلى الحال الأصلي. «وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ» (١كورنثوس ١٥: ٢٨) فتسلُّم المسيح السلطان من الآب لا يلزم منه أنه أقل من الآب، لأنه لا يستطيع أن يتسلم قوة غير متناهية إلا الله، ولا يقدر أحد أن يحكم في وقت واحد على كل المخلوقات في السماوات والأرض والجحيم إلا وهو.
لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ الخ لا يستطيع أن يدرك إنسان ولا ملاك ولا رئيس الملائكة أن يدرك كُنه الابن، فذلك مقصور على اللاهوت. فالمسيح أعلن أن طبيعته غير محدودة، حتى أنه لا يقدر أن يدركه سوى الآب غير المحدود (١كورنثوس ٢: ١١) فلا أحد من الناس يقدر أن يدرك تمام الإدراك سر شخص المسيح ووظيفته. ولو كان المسيح مجرد إنسان لما قدر أن يقول هذا.
مَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَه هذا مثل قول يوحنا «الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يوحنا ١: ١٨) فوظيفة المسيح هي أن يعلن الآب للبشر، لأنه الكلمة الأزلي، ومن تلك الوظيفة يعلن لنا كل ما نقدر أن ندركه عن طبيعته. ولا شيء يمكنه أن يعلن لنا الله من تاريخ أو علم أو عقل أو شيء آخر غير إعلان الابن خاصة (يوحنا ٣: ٣٥ و١٤: ١٥ - ٢٤). وهذا الإعلان يكون بكلامه، وبأعماله، وبالروح القدس الذي يرسله.
٢٨ «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ».
لنا في هذا العدد جواب السؤال في عدد ٣ من هذا الأصحاح وهو «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» (متّى ١١: ٣). فبعد أن قال المسيح «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ» (لوقا ١٠: ٢٢) وأنه يعلن الآب، استعمل وظيفته فدعا الناس إلى المصالحة مع الله على يده لنوال الراحة الأبدية.
تَعَالَوْا إِلَيَّ أي ارجعوا عن معلمي الناموس الذين يحمِّلون ضمائر الناس أحمالاً ثقيلة. واقبلوا إليَّ بالذات باعتبار لاهوتي وناسوتي، لا لتعليمي أو كنيستي أو رسلي أو غيرهم سواي. تعالوا إليَّ لأني أنا الطريق إلى الآب، ولأنكم لا تقدرون أن تأتوا إليه إلا بي، لأني أنا الوسيط الوحيد بين الله والناس. تعالوا إليَّ لتخلصوا بالشروط التي وضعتها لنوال الخلاص. وهذه الدعوة هي خلاصة البشرى الإنجيلية، وهي دليل على تنازل وشفقة ومحبة لا تحد. ولم يدَّعِ أحدٌ من الناس إلى نفسه كذلك غير المسيح، فلم يقُلها ملاك ولا نبي ولا فيلسوف ولا معلم. ولو كان المسيح مجرد إنسان ما تجاسر على ذلك.
يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ كانت هذه الدعوة عامة لأن الشقاء والحزن والتعب عمَّ الجميع، فإن نسل آدم كله يئن تحت حمل الخطية والشقاء الناتج عنها. فضميره متعب يوبخه على خطيته، وخوفه من العقاب الآتي يثقل عليه. فيدعو المسيح كل واحد إليه لينجو من الحزن والخوف، وهو يغفر له ويطهره ويخلصه من سلطة الخطية ودينونتها. فالذين رغبوا في أن يخلِّصوا أنفسهم بأعمالهم الصالحة وبرهم الذاتي هم تحت حمل لا يطاق من وفاء القوانين وزيارة الأماكن المقدسة والأصوام والأسهار والتقشف والصلوات الطويلة واعتزال الراحة والغِنى والحياة نفسها (وهذا أثقل مما تسمح رحمة الله أن تحمِّلهم إياه لو كان الخلاص بالأعمال) فهؤلاء يدعوهم المسيح إليه ليخلصوا ببره، ويستريحوا من أحمالهم.
أراد اليهود أن يكملوا كل فرائض ناموس موسى ليبرروا أنفسهم، فوقعوا تحت حمل ثقيل (متّى ٢٣: ٤ وأعمال ١٥: ١٠) وقد كمَّل المسيح الناموس، فهو يدعو اليهود إليه للراحة. والذين يجرون وراء اللذات في طرق الخطية التي هي خدمة الشيطان يجدون أنفسهم أخيراً تحت عبودية شر من عبودية مصر، إذ يقعون تحت عبودية البخل والكبرياء وطلب الرياسة والشهوات.
وَأَنَا أُرِيحُكُمْ لم يَعِدْنا المسيح أن نكون بلا حمل ولا تعب في هذه الأرض، إنما وعد بالراحة كل من ألقى حمله عليه. والراحة أعظم ما يحتاج إليه البشر. والعالم يعد بها كذباً، ولا يستطيع أحد إلا المسيح أن يهبها تامة وإلى الأبد. فهو يمنحنا الراحة لأنه رافع الخطية (يوحنا ١: ٢٩، ٣٦ وإشعياء ٥٣: ٤). ولأنه رئيس كهنة يرثي لضعفاتنا (عبرانيين ٤: ١٥). وهو يريحنا من حمل التبرير بالأعمال، ويريح الضمير من التوبيخ، ويريح القلب من مخاوف الموت ويوم الدين. ويريحنا بأن يهب لنا الغفران والسلام والمصالحة، وقلباً وديعاً متواضعاً صابراً قنوعاً يثق به. فطوبى للنفس التي استراحت برجاء الخلاص بالمسيح، فلها به فوق هذا كله راحة أبدية في السماء (عب ٤: ٩).
٢٩ «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ».
يوحنا ١٣: ١٥ وفي ٢: ٥ و١بطرس ٢: ٢١ و١يوحنا ٢: ٦ وزكريا ٩: ٩ وفيلبي ٢: ٧، ٨ وإرميا ٦: ١٦
هنا إشارة إلى ما يصيب زوجين من البقر معاً، فعليهما أن يشدّا النير بصورة منتظمة لكي يتقاسما الحمل. وفي هذا التشبيه يجعلنا المسيح شركاء له في حمل نير العالم لخلاصه، وهذا منتهى الشرف لنا والفرصة السانحة لنبرهن عن تكريس حياتنا لخدمته.
وَتَعَلَّمُوا مِنِّي باعتبار أنه نبي ومعلم عظيم يعلن الآب للناس (آية ٢٧). ويتم ذلك بتعليمه بالكلام والسيرة، وبثبوته في الناس. وهو لا يأمر بشيء لم يمارسه.
لأَنِّي وَدِيعٌ الخ أول درس ينبغي أن يتعلمه الناس من المسيح هو التواضع والتأثر بتعليمه، وهو خير قدوة لنا في التواضع. فالجلوس عند أقدام المسيح وحفظ هذا الدرس سر الراحة الفضلى والمسرة الخالدة.
فَتَجِدُوا رَاحَةً أي أن الذين يأتون إليه ويتعلمون منه يدركون الراحة التي يسألونها غيره عبثاً (يوحنا ١٤: ٢٧ و١٦: ٣٣). وكثيراً ما تم هذا الوعد في أشد المصائب كما قال بولس «فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ» (٢كورنثوس ١٢: ٩، ١٠).
لِنُفُوسِكُمْ أي تستريح أرواحكم من أثقال الخطية وتعب الضمير.
٣٠ «لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ».
ميخا ٦: ٨ و١يوحنا ٥: ٣
زاد المسيح هذه الكلمات دفعاً للتوهم أن المسيحي يستبدل نيراً صعباً وحملاً ثقيلاً بمثيلهما.
نِيرِي هَيِّنٌ لأن المسيح يعين المؤمن به على حمله، ويهب النعمة الكافية لحامله، ولأن محبة المسيحي للمسيح تجعله لا يشعر بصعوبة حمله، ولأن لحامل ذلك النير وعداً بتواب جزيل. وإلا فذلك النير ليس هيناً، لأنه نير مقاومة الخطية، ونير الأحزان، ونير القيام بالواجبات. ولا يخفى ما في ذلك من الصعوبة على الطبع البشري وعدم قدرة الإنسان على حمله بدون معونة المسيح. ومع ذلك كله فإن نير المسيح أهون من كل نير. إنه أهون من نير الشريعة اليهودية مع ما أضافه إليها الكتبة والفريسيون من الطقوس والتقاليد. وأهون من نير الأديان الباطلة الذي على رقاب الوثنيين. وأهون من نير الشيطان الذي على رقاب عبيد اللذات والشهوات.
وَحِمْلِي خَفِيفٌ تقتضي خدمة المسيح إتمام واجبات كثيرة من جملتها حمل الصليب، لكنها تُسِر من قام بها، لأنها مصحوبة بسلام يفوق كل عقل (في ٤: ٧). إن حمل المسيح على المسيحي كالريش للطائر يزيد ثقله ولكنه لا يستطيع أن يعلو إلى السماء بدونه.
ومن آيتي ٢٨، ٢٩ نتعلم أن الداعي إلى الإقبال للمسيح أنه ابن الله الأزلي الذي صار إنساناً لأجلنا. وهو يدعو كل من شعروا بثقل الخطية وتعب الضمير، ويعدهم بالراحة والتعزية، على شرط أن يأتوا إليه ويتعلموا منه التواضع والمحبة.
الأصحاح الثاني عشر
معظم هذا الأصحاح يشرح المقاومة الشديدة للمسيح لسبب معجزاته وتعاليمه وقد جُمعت فيه الحوادث بقطع النظر عن أزمنتها.
١ «فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي ٱلسَّبْتِ بَيْنَ ٱلزُّرُوعِ، فَجَاعَ تَلاَمِيذُهُ وَٱبْتَدَأُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ».
تثنية ٢٣: ٢٥ ومرقس ٢: ٢٣ ولوقا ٦: ١
اعترض الكتبة والفريسيون على المسيح قبل ذلك ثلاثة اعتراضات: (١) ادعاؤه السلطان على مغفرة الخطايا (متّى ٩: ٣)؛ و(٢) مخالطته العشارين (متّى ٩: ١١)؛ و(٣) إهماله الصوم وما شاكل ذلك من أنواع الزهد (متّى ٩: ١٤ و١١: ١٩). واعترضوا هنا على أنه لم يحفظ السبت حسب تقاليدهم، ولم يُلزم تلاميذه بذلك. وأراد البشير بالوقت بقوله «في ذلك الوقت» الزمن التابع للحوادث المذكورة في أصحاح ٧.
فِي ٱلسَّبْتِ أي اليوم السابع من الأسبوع حسب الشريعة اليهودية، ولكن السبت المسيحي هو اليوم الأول منه وصار بدلاً من السابع بعد قيامة المسيح إكراماً لتلك القيامة.
بَيْنَ ٱلزُّرُوع كان الناس من أعداء وأصدقاء يزدحمون على المسيح فكان يضطر إلى اعتزالهم حين يريد الانفراد مع تلاميذه للصلاة. ولعل ذلك هو ما حمله على الذهاب بين الزروع، أو لعله كان راجعاً من الفصح الثاني بعد ابتدائه الخدمة (يوحنا ٥: ١).
يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ كانت تلك السنابل من الحنطة أو الشعير، وكان قطف الجائع لتلك السنابل من حقل غيره وفركها باليدين وأكلها أمراً عادياً شائعاً مباحاً حسب شريعة موسى (تثنية ٢٣: ٢٥). فنستنتج من قطف التلاميذ للسنابل أنهم فقراء، وكذلك المسيح. ومع أن المسيح كان معهم إلا أنهم لم يكن معهم خبز، واضطروا أن يدفعوا جوعهم بأكل حبوب السنابل. فكون الإنسان بلا خبز لا يعني أن الله تركه.
٢ «فَٱلْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ: هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي ٱلسَّبْتِ».
كان الفريسيون يراقبون المسيح وتلاميذه دائماً ليمسكوهم في خطأ يشتكونهم عليه. فلم يلوموا التلاميذ على أنه ارتكبوا حراماً، بل على أنهم فعلوا ذلك يوم السبت، فإن الفريسيين كانوا محافظين كل المحافظة على شريعة موسى وعلى تقاليدهم، ففسروا قطف السنابل يوم السبت أنه بمنزلة الحصاد، وفركها بين اليدين بمنزلة الدرس، فحسبوها من المحرمات في السبت.
لقد غضَّ رؤساء اليهود النظر عما قصدته الشريعة بذلك اليوم من الفوائد الروحية، واقتصروا على الامتناع عن كل عمل فيه، وحسبوا من يحفظ السبت بهذا الأسلوب إسرائيلياً حقاً. فجاء في أحد كتبهم أنه يحرم في السبت ٣٩ نوعاً من العمل. ولكن المشكل عندهم كان في تحديد نوع هذا العمل، فإن فرك السنابل باليد مثلاً كان يحسب عملاً ممنوعاً في السبت! بل إن قطفها هو نوع من الحصاد، فحسبوا أن التلاميذ قد ارتكبوا نوعين من الأعمال التسعة والثلاثين الممنوعة، هما الحصاد والتذرية. فهل بعد هذا تفكير أضيق؟! وجاء في كتاب آخر تعيين المسافة التي يجوز فيها المشي بشرط أن يكون صاحبها يحتاج كل الاحتياج.
٣، ٤ «٣ فَقَالَ لَـهُمْ: أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ، ٤ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ ٱللّٰهِ وَأَكَلَ خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ ٱلَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ، بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ».
١صموئيل ٢١: ١ - ٦ خروج ٢٥: ٣٠ ولاويين ٢٤: ٥ الخ وخروج ٢٩: ٣٢ ولاويين ٨: ٣١ و٢٤: ٩
ردَّ المسيح على اعتراض اليهود الباطل على تلاميذه بخمسة براهين، ذكر متّى أربعة منها وذكر مرقس الخامس. الأول مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ عندما هرب من شاول وأتى إلى نوب وسأل الكاهن خبزاً فلم يجد سوى خبز التقدمة فأعطاه فأكل (١صموئيل ٢١: ١ - ٦) وكان ما فعله داود معروفاً عندهم، وكانوا يعتبرون داود من أفضل رجال الله، ويستحق أن يقتدوا بأعماله. فالضرورة أباحت ذلك لداود. فإذاً الأعمال الضرورية مباحة في يوم الراحة، لا تخالف الوصية الرابعة. واضطرار التلاميذ كاضطرار داود فعملهم مباح كعمله. وأما البراهين الأربعة الباقية فسنذكرها في مكانها.
بَيْتَ ٱللّٰهِ أي المكان الذي يظهر الله حضوره فيه، وهو يصدق على خيمة الاجتماع كما يصدق على الهيكل الذي جاء بعدها. وكانت الخيمة وقت الحادثة المذكورة في نوب (١صموئيل ٢١: ١).
خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ هو اثنا عشر رغيفاً كانت توضع على مائدة في القدس، أي القسم المتوسط من الخيمة. وكان الكهنة يأتون بخبز جديد كل يوم سبت يضعونه على تلك المائدة، ويأخذون الخبز ويأكلونه (لاويين ٢٤: ٥ - ٩). ولم يكن يجوز لغير الكهنة أن يأكل ذلك الخبز (خروج ٢٥: ٣٠). وكان هذا جزءاً مما أمر به الله من خدمة الخيمة أو الهيكل، فهو واجب كالسبت وإن كان أقل أهمية منه، لأن الله أمر بهما.
لَمْ يَحِلَّ أَكْلُه بحسب شريعة موسى التي لام الفريسيون التلاميذ على مخالفتها. فالمحافظة على الحياة في قصة داود حللت المحرم، وهكذا كان أمر التلاميذ. وفي ١صموئيل ٢١: ٦ أن خبز التقدمة كان عندما أخذه داود سخناً إذ وضع في ذلك اليوم على المائدة، وهذا دليل واضح على أن داود أخذه يوم السبت (لاويين ٢٤: ٨).
٥ «أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ أَنَّ ٱلْكَهَنَةَ فِي ٱلسَّبْتِ فِي ٱلْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ ٱلسَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟».
عدد ٢٨: ٩ ويوحنا ٧: ٢٢
البرهان الثاني عمل الكهنة يوم السبت، وهو ذبح البهائم المقدمة في ذلك اليوم وسلخها وتقطيعها وإحراقها. فهذا كان حسب حرف الشريعة محرماً، لكنه جاز لأنهم خدموا به الله. فالعمل الذي تقتضيه الخدمة التي أمر بها الله في العبادة يحل يوم السبت.
فِي ٱلتَّوْرَاة أي خمسة أسفار موسى، والمقصود هنا سفر العدد منها، فإنه فيه ذُكر نوع الذبيحة المفروض تقديمها يوم السبت (عدد ٢٨: ٩، ١٠).
فِي ٱلْهَيْكَلِ حيث يتوقع حفظ الشريعة أكمل حفظ، فيكون تعدي الشريعة فيه أشرّ من كل تعدٍّ آخر.
يُدَنِّسُونَ المراد بالتدنيس هنا العمل في يوم السبت كسائر الأيام. فلو لم تكن غاية الكهنة من أعمالهم في يوم السبت عبادة الله لكانت تلك الأعمال تدنيساً للسبت.
يُدَنِّسُونَ لأنهم أطاعوا أمر الله بخدمتهم الهيكلية في يومه. فليس كل عمل محرماً في يوم الراحة بل الأعمال الدنيوية. فالاجتهاد في خدمة الله في يومه أمر واجب.
٦ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هٰهُنَا أَعْظَمَ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ».
٢أخبار ٦: ١٨ وملاخي ٣: ١ويوحنا ١: ٣ وعبرانيين ٣: ٣
أراد المسيح بمن هو أعظم من الهيكل نفسه. وهنا البرهان الثالث على جواز عمل التلاميذ المذكور، وهو حضور المسيح معهم وكونهم في خدمته يومئذٍ. فإذا جاز عمل الكهنة في يوم السبت (وهو مخالف لحرف الشريعة) بسبب قداسة خدمتهم في الهيكل جاز بالأولى عمل التلاميذ لحضور المسيح معهم وقداسة خدمتهم إياه، لأنه هو هيكل الله الحقيقي على الأرض لأنه به حضر الله لشعبه. ولم يكن هيكل سليمان سوى رمز إليه (يوحنا ٢: ١٩، ٢١). وكان التلاميذ حينئذٍ جياعاً فخارت قواهم. فلو لم يأكلوا حبوب السنابل ما استطاعوا خدمة سيدهم. فأبان المسيح في هذا الكلام أن خدمته أفضل من خدمة الهيكل. فلو لم يكن إلهاً حقاً لكان ذلك الكلام تجديفاً فظيعاً، لأنه ليس لأحدٍ غير الله أن يجيز للإنسان مخالفة الأوامر الإلهية.
٧ «فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى ٱلأَبْرِيَاءِ».
هوشع ٦: ٦ وميخا ٦: ٦ - ٨ ومتّى ٩: ١٣
مَا هُو أي ما معنى قول النبي «إني أريد» الخ. واقتبس المسيح هذا الكلام من نبوة هوشع ٦: ٦ ومعناه أن الله يفضل أعمال الرحمة على كل الأعمال الطقسية مهما عظم شأنها، واقتبسه المسيح مرة أخرى قبل هذه (انظر شرح متّى ٩: ١٣)
رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً إن حدث وجوب الاختيار بين الرحمة والذبيحة، واستحال أن يجتمعا معاً، ووجب أن نختار واحدة منهما، فنختار الرحمة ونترك الذبيحة. ومثل ذلك قول الرسول «وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئًا» (١كورنثوس ١٣: ٣). فقد خالف الفريسيون شريعة الرحمة وهم يلومون التلاميذ بسبب أكلهم وهم في حاجة إلى الطعام، لأنهم حافظوا على شريعة السبت الطقسية.
ٱلأَبْرِيَاء أي التلاميذ الذين تبرأوا، لأن قطفهم الطعام كان من أعمال الرحمة، رحموا به أجسادهم، ولأنهم كانوا حينئذ يمارسون أعمال الرحمة والمحبة بخدمتهم للمسيح.
٨ «فَإِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضاً».
البرهان الرابع على جواز عمل التلاميذ هو سلطان المسيح وإباحته لهم ذلك العمل. فالمسيح هو الله، وهو أحقُّ بتفسير شريعة السبت وتوضيح ما تأمر به وما تنهى عنه. فرضاه عن فعل تلاميذه هو تبرئة لهم. وهذه الآية تبرهن لاهوت المسيح صراحةً وبقاء شريعة يوم الراحة في النظام المسيحي.
ٱبْنَ ٱلإِنْسَان ورد هذا الاسم ٨٧ مرة في العهد الجديد، ولم ينسب في مرة منها إلى غير المسيح.
رَبُّ ٱلسَّبْتِ السبت في سلطان المسيح ليجعله وفق الغاية التي وُضع لها، وهي مجد الله وما لا يجوز. وقوله إنه «رب السبت» لا يعني أن المسيح أبطل السبت، بل يدل على أنه أثبته، لأنه لو أبطل السبت لم يبقَ ربَّه. فالله عيَّن السبت لخدمته، والمسيح هو الله لقوله إنه رب السبت. فكل خدمة له في يوم الراحة تقديس لذلك اليوم. فللمسيح سلطان على السبت كما أن له سلطاناً على مغفرة الخطايا. وسلطانه على السبت سندٌ لإبدال اليوم السابع باليوم الأول، ليكون الأحد هو سبت الراحة. والمسيح أمر تلاميذه أن يعلموا كل ما أوصاهم به، وهم علموا المؤمنين أن يحفظوا يوم الأحد سبتاً للرب.
وزاد مرقس على هذه البراهين الأربعة برهاناً خامساً، هو قوله «السبت إنما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت» (مرقس ٢: ٢٧) فيحقُّ للإنسان أن يعمل في السبت لحفظ حياته.
٩ «ثُمَّ ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى مَجْمَعِهِمْ».
مرقس ٣: ١ ولوقا ٦: ٦
في الأعداد ٩ - ١٣ مناظرة أخرى جرت بين المسيح والفريسيين التقليديين في حفظ يوم السبت. وذكر متّى هذه بياناً لشدة مقاومة الفريسيين الدائمة للمسيح، وردّ المسيح على اعتراضاتهم. وكانت نتيجة المناظرة أنهم عزموا على قتله.
ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاك من موضع المناظرة، وهذا يعني أن المسيح كان يشغل وقته بالذهاب من موضع إلى آخر للتبشير (متّى ١١: ١ و١٥: ٢٩).
إِلَى مَجْمَعِهِم المرجح أن هذا المجمع كان في قرية كبيرة أو في مدينة بالجليل. وقال لوقا إن المسيح علم هناك (لوقا ٦: ٦).
١٠ «وَإِذَا إِنْسَانٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ، فَسَأَلُوهُ: هَلْ يَحِلُّ ٱلإِبْرَاءُ فِي ٱلسُّبُوتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ».
لوقا ١٣: ١٤ و١٤: ٤ ويوحنا ٩: ١٦
يتناول الإنجيل هنا مسألة أخرى من جهة حفظ السبت، وهو هل يجوز عمل الشفاء فيه؟ رأينا في الأعداد ١ - ٨ أن الشغل ممنوع أيضاً. وإذا كان ممنوعاً، فما هي حدود ذلك؟
يَدُهُ يَابِسَة ذكر لوقا أن هذه يده اليمنى، فالمصيبة عظيمة. وهذا أليبس نوعٌ من الشلل يُبطل الحركة ويمنع النمو، فهو كمرض يربعام (١ملوك ١٣: ٤ - ٦). ولا ضرورة للظن أن حضور ذلك الإنسان إلى المجمع كان بمؤامرة الفريسيين ليتخذوا شفاء المسيح إياه علة للشكوى، لأن المصابين كانوا يتبعون المسيح حيث ذهب.
فَسَأَلُوه أي الفريسيون (كما يظهر من عدد ١٤). وسأله الكتبة أيضاً (لوقا ٦: ٦ - ١١). وسأله الهيرودسيون أيضاً (مرقس ٣: ١ - ٦). ولم يقصدوا بالسؤال أن يستفيدوا، بل أن يجدوا علة في جوابه يشتكون بها عليه، كما قصدوا أن يقللوا احترام الشعب للمسيح عندما يظهرونه مخالفاً لشريعة موسى ولإيجاد ما يشتكون به عليه للمجلس المحلي.
لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْه لرؤساء المجمع الذين هم المجلس المحلي. ويظهر من سؤالهم أنهم حسبوا الإبراء في السبوت محرماً.
١١ «فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ خَرُوفٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ سَقَطَ هٰذَا فِي ٱلسَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ، أَفَمَا يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟».
خروج ٢٣: ٤، ٥ وتثنية ٢٢: ٤
أجابهم المسيح على سؤالهم لكي تجيبهم ضمائرهم بالجواب الصحيح وتبين لهم خطأهم بإنكارهم على المسيح عنايته بالناس، وهو ما لا ينكرونه على أنفسهم في عنايتهم بالبهائم.
أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُم أشار بهذا إلى أمر كثير الوقوع أجازته الشريعة اليهودية، لكن علماء اليهود غيّروا هذه الشريعة بعد ذلك، فلم يجيزوا لصاحب الخروف الساقط إلا أن يضع خشبات في الحفرة يصعد عليها الخروف وحده.
١٢ «فَٱلإِنْسَانُ كَمْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ ٱلْخَرُوفِ! إِذاً يَحِلُّ فِعْلُ ٱلْخَيْرِ فِي ٱلسُّبُوتِ».
الذي يجوز من أفعال الرحمة في السبوت للحيوان أولى أن يجوز فيها للإنسان. فإذاً أفعال الرحمة جائزة يوم الراحة للإنسان والحيوان.
١٣ «ثُمَّ قَالَ لِلإِنْسَانِ: مُدَّ يَدَكَ. فَمَدَّهَا. فَعَادَتْ صَحِيحَةً كَٱلأُخْرَى».
ما أثمن قيمة الإنسان في عيني يسوع، فكما أن ابن الإنسان هو رب السبت، كذلك فإن الإنسان نفسه يجب أن يستعمل السبت لأجل خيره وتقديسه. ومعنى تقديس السبت هو في تمجيد الله بخدمة الآخرين، لا سيما الذين هم أقل حظاً منا في الحياة. هوذا إنسان يده يابسة لا يستطيع العمل فيعيده يسوع للعمل والكرامة.
مُدَّ يَدَكَ لو لم يكن لذلك الإنسان إيمان ما استطاع أن يمد يده لأنها كانت يابسة لا قوة لها على أن تتحرك، فمده يده برهان على ثلاثة أمور: صدق إيمانه؛ والقوة الإلهية؛ وصحة المعجزة. وقد أظهرت المعجزة قوة الله الشافية، وإرادة المصاب أن يحرك يده. ولكن لا نعلم أي الأمرين سبق الآخر. وكما فعل ذلك الإنسان يومئذٍ يجب أن يفعل الخاطئ الآن، لأن المسيح يقول لكل خاطئ: آمن بي، كما قال له مد يدك. فمن أطاع الأمر الإلهي نال قوة على أن يؤمن، كما نال ذاك قوة على أن يمد يده اليابسة.
ولنا من هاتين الحادثتين والكلام عنهما معرفة ما يجوز عمله في يوم الرب، وهو الأعمال الضرورية، والأعمال الخيرية، والأعمال المأمور بها في عبادة الله، ولا يجوز غيرها في ذلك اليوم. فلا يجوز أن نحسب ما ليس بضروري ضرورياً، ولا أن ننفق شيئاً من ذلك اليوم بالنزهات أو الأعمال الدنيوية العادية. فالذي يفعل هذا يدَّعي بأن ما يخص رب السبت يخصه هو نفسه. فلا حقَّ لأحد أن يخالف شريعة يوم الرب، ولا حق له أن يخالف غيرها من وصايا الشريعة. نعم إن المسيح أبطل كل تقاليد الشيوخ وتعاليمهم الكاذبة التي غيَّروا بها يوم الراحة والعبادة، فجعلوه يوم عبودية. لكنه لم ينطق بكلمة يُظهر بها أنه قصد نسخ الوصية الآمرة بحفظه، بل أثبتها وبيَّن دوامها في النظام المسيحي بقوله: «ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ» (لوقا ٦: ٥).
فَعَادَتْ صَحِيحَةً أعلن المسيح في عددي ٦، ٨ أنه إلهٌ، وأثبت تلك الدعوى في هذا العدد، فخيب المسيح أمل الفريسيين أن يجدوا عليه علة للشكوى، لأنه لم يدنس فيها السبت بعملٍ جسدي لا ولا بحركة إصبع، فلم يمس المصاب ولم يقل له «اشفَ» بل اقتصر على أن أمره أم يمدَّ يده، وهذا ليس ممنوعاً يوم السبت.
١٤ «فَلَمَّا خَرَجَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ».
متّى ٢٧: ١ ومرقس ٣: ٦ ولوقا ٦: ١١ ويوحنا ٥: ١٨ و١٠: ٣٩ و١١: ٥٣
هذا أول نبأ في بشارة متّى بأن الفريسيين عزموا بعد المؤامرة على قتل المسيح. وأما ما كان من أمر أهل الناصرة في أن يطرحوه من فوق الجبل فكان نتيجة هيجان الجمع على غير قصد. ولم يعزم الفريسيون على قتله إلا بعد أن عجزوا عن دفع حججه. وهذا ما حدث مع ألوف شهداء المسيح الأمناء، الذين سُجنوا ورجموا وجلدوا وأُحرقوا وأُغرقوا، لا بالحجة والبرهان.
تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ المرجح أن الاجتماع للتشاور لم يكن عاماً، بل حُصر في فريسيي المدينة التي صُنعت فيها المعجزة. إلا أن مرقس ذكر أن الهيرودسيين اتفقوا معهم في المؤامرة، لأسباب دينية وسياسية وشخصية، وأعظمها حسدهم المسيح على اتباع الناس له. وما حدث بعد هذه المعجزة يرينا أن ليس للمعجزات تأثير حسن في المشاهدين إن كانوا من المتعصبين.
١٥ «فَعَلِمَ يَسُوعُ وَٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ. وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعاً».
متّى ١٠: ٢٣ ومرقس ٣: ٧ ومتّى ١٩: ٢
فَعَلِمَ يَسُوعُ أي علم مؤامراتهم مع أنها كانت سرية.
ٱنْصَرَف إلى بحر الجليل (مرقس ٣: ٧) لأنه لو بقي لكان في خطر، إما من تحريك أعدائه رجال الحكومة عليه، وإما من تهييجهم أوباش المدينة عليه، وإما من أن يغتالوه أو يقتلوه مكراً. وانصرافه لم يكن عن خوف بل لحكمة، لأن ساعته للموت لم تكن قد أتت، وكان يجب أن يتمم وظيفته (باعتباره نبياً) في تعليم تلاميذه حقيقة ملكوته وقواعد نظامه، قبل أن يقدم جسده ذبيحة على الصليب (باعتباره كاهناً).
وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ انصرافه لم يعطله عن عمل الخير، ولم يقسِّ جورُ الناس عليه قلبه. وقد «تبعه جمع كثير من الجليل ومن اليهودية ومن أورشليم ومن أدومية ومن عبر الأردن والذين حول صور وصيدا» (مرقس ٣: ٧، ٨) وكان سكان بعض تلك الأماكن من الأمم. فالذين سمعوه كان بعضهم من الأمم، فاقتبس (في عدد ٢١ من هذا الأصحاح) قول إشعياء «على اسمه يكون رجاء الأمم».
فَشَفَاهُمْ جَمِيعا أي شفى جميع المصابين بين أولئك الجموع.
١٦ «وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ».
متّى ٩: ٣٠
لأنه لم يرد أن يزيد غضب أعدائه عليه لزيادة انتشار شهرته، لئلا يعطلوه عن التبشير. ولم يرد أن يظهر أن شفاء الأجساد أهم من شفاء النفوس بتعليمه الإلهي. وأبى أن يجعل في قلوب الناس آمالاً دنيوية لئلا يقيموه ملكاً بالرغم منه، ولئلا ينشئ في قلوب ولاة الرومان خوف الفتنة. وتوصيته إياهم بأن لا يظهروه برهان تواضعه.
١٧ «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ».
إشعياء ٢: ١ - ٤
أراد البشير أن يبين أن اعتزال المسيح الجموع كان وفق نبوة إشعياء (إشعياء ٤٢: ١ - ٤). وامتاز متّى عن سائر البشيرين باقتباسه كلام الأنبياء وبيان إتمامه بالمسيح. ولم يقتبس هنا كلام النبوة بلفظه تماماً، بل بمعناه. لقد انتظر اليهود أن يكون مسيحهم رئيس جيش منتصراً، فلما رأوا يسوع يعتزل الجموع حكموا بأنه ليس المسيح، فأورد متّى هذه النبوة ليبين خطأهم بذلك الحكم، وأن تصرف يسوع تحقيق لنبوَّة إشعياء.
١٨ «هُوَذَا فَتَايَ ٱلَّذِي ٱخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي ٱلَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِر ٱلأُمَمَ بِٱلْحَقِّ».
متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥
فَتَايَ وفي العبرانية «عبدي» لأنه وهو ابن الله أخذ صورة عبد (في ٢: ٧) ومع كونه ابناً تعلم الطاعة (عبرانيين ٥: ٨).
ٱلَّذِي ٱخْتَرْتُهُ اختار الله المسيح ليكون رسوله ومخلِّص شعبه، لأن الحكمة الإلهية لم تر غيره لائقاً لتلك الوظيفة من الناس والملائكة.
ٱلَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي وهذا ما قاله الآب بصوتٍ من السماء (متّى ٣: ١٧) فكل رجائنا في قبول الآب لنا مبنيٌ على أن المسيح نائبنا مختار محبوب، سُرت به نفس الآب.
أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ حدث هذا بعلامة منظورة وقت معمودية يسوع (متّى ٣: ١٦) فصار أهلاً لممارسة وظيفته (يوحنا ٣: ٣٤).
فَيُخْبِر ٱلأُمَمَ بِٱلْحَقِّ الحق هو خلاصة المسيحية والإنجيل، بدليل قوله في عدد ٢٠ «حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ» إشارة إلى انتشار الإنجيل في كل الأرض. وهذا لا يناقض أن المسيح أُرسل إلى اليهود لا إلى الأمم، لأن ذلك مقصور على خدمة المسيح الشخصية وهو على الأرض.
١٩ «لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي ٱلشَّوَارِعِ صَوْتَهُ».
هذا العدد يكمل عدد ١٨، وفيه بيان صفات المسيح باعتبار شخصيته واعتبار وسائط تأسيس ملكوته وامتداده. أما صفاته الشخصية فهي الوداعة واللطف والحلم وحب السلام واعتزال الجاه والمجد العالمي. وأما وسائط امتداد ملكوته فكانت روحية، قائمة بالهدوء والانفعالات القلبية. فما كان المسيح يصيح كأبطال الحرب، ولا كان يطلب النصرة بكلام الافتخار أو بضجيج المناداة أو بهتاف تابعيه في الشوارع أو بالجدال العنيف أو بالإجبار أو علامات الجاه. لقد كان مختلفاً عن الكتبة محبي الخصومات، وولاة الرومان الذين كان دأبهم الإجبار، وأعمال المسحاء الكذبة في تهييج الفتن. وعلى ذلك يكون الدين الحق في كل عصر وديعاً هادئاً لطيفاً لا يقوم بالصياح ولا الخصومة ولا الإجبار ولا كلام الافتخار فهو محصور في المحبة والتوبة والإيمان والوقار والتقوى.
٢٠ «قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ ٱلْحَقَّ إِلَى ٱلنُّصْرَةِ».
بهذا يتجلى لطف المسيح الحقيقي، فهو يواسي المساكين ويشفي المرضى، ولكنه كان يعنِّف المتغطرسين والمتكبرين والمرائين المنافقين الذين يتسترون باسم الدين وهو منهم براء.
هذا العدد كالعدد الذي قبله يكملان عدد ١٨ حيث قيل «فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ» وقيل في هذا «حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ» وما بين هاتين العبارتين بيان وسائل تحقيق النصرة. وكلها تظهر أن ملكوت المسيح ليس من هذا العالم (يوحنا ١٨: ٣٦) وإنه لم يأت بمراقبة (لوقا ١٧: ٢٠) بحسب القول «لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (زكريا ٤: ٦) ووفق قول مؤسس ذلك الملكوت «لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ» وقوله «لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ» (يوحنا ١٨: ٣٦، ٣٧).
قَصَبَةً مَرْضُوضَةً ... َفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً هاتان في غاية الضعف. فالقصبة جوفاء فارغة. فإن كانت مرضوضة كانت في غاية الضعف تُقصف بأقل قوة. والفتيلة المدخنة هي فتيلة السراج إذا نفد زيته، فأضعف نفخة تطفئها. ويراد بكلام بالمثلين: القلب المنسحق بالتوبة والندامة، والقلب الذي فيه بقية من أشعة المحبة والإيمان. والمعنى أن المسيح لا يقسو على التائبين بالتوبيخ والإنذار لما سلف من آثامهم، بل يقويهم ويعزيهم ويجبر قلوبهم المنكسرة، ويأتي بزيت النعمة للقلوب التي بقي فيها قليل من نار المحبة والغيرة الدينية. فالخاطئة التي أتت بيت سمعان وغسلت قدمي المسيح بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها كانت «قصبة مرضوضة» أراد سمعان أن يقصفها، أما المسيح فجبر كسر قلبها (لوقا ٧: ٣٧ - ٤٨). وزكا عشار أريحا كان فتيلة مدخنة أراد الفريسيون أن يطفئوها ولكن المسيح أتاها بزيت النعمة فأوقدها (لوقا ١٩: ١ - ١٠).
ٱلنُّصْرَة هي غاية المسيح وملكوته، ولا بد من أن تكون مجيدة. ولو أنها لم تكن كما توقعها اليهود من مسيحهم.
٢١ «وَعَلَى ٱسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ ٱلأُمَمِ».
عَلَى ٱسْمِه أي عليه نفسه. ويُظهر هذا العدد شدة حاجة العالم إلى عمل المسيح الخلاصي، وهو ينبئ أن رسالة المسيح هي لكل العالم، إذ تنضم الأمم إلى مملكته. وذكر مرقس أن كثيرين من الذين تبعوا المسيح في ذلك الوقت كانوا من الأمم (مرقس ٣: ٧، ٨) ولا بد أنهم فرحوا بقول المسيح في هذا العدد.
ٱلأُمَمِ هذا على ما في الترجمة السبعينية، وفي العبرانية «الجزائر». ولا بد أن يكون المقصود سكان تلك الجزائر، وهم كانوا من الأمم. فالمراد بالكلمتين واحد، وهو أن الأمم يسمعون الإنجيل ويقبلونه.
٢٢ «حِينَئِذٍ أُحْضِرَ إِلَيْهِ مَجْنُونٌ أَعْمَى وَأَخْرَسُ فَشَفَاهُ، حَتَّى إِنَّ ٱلأَعْمَى ٱلأَخْرَسَ تَكَلَّمَ وَأَبْصَرَ».
متّى ٩: ٣٢ ومرقس ٣: ١١ ولوقا ١١: ١٤
ذكر متّى هذه الحادثة ليبين مقاومة أخرى من رؤساء اليهود للمسيح، وإنذار المسيح الرهيب على أثر ذلك.
مَجْنُونٌ أَعْمَى وَأَخْرَس يُفهم من القرينة أن عماه وخرسه كانا نتيجة سكنى الشيطان فيه. فمصيبته كانت من شر المصائب وأشد من مصيبة المجنون الذي ذُكر في متّى ٩: ٣٢، ٣٣، لأن ذاك كان مصاباً بالخرس وليس العمى.
٢٣ «فَبُهِتَ كُلُّ ٱلْجُمُوعِ وَقَالُوا: أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ دَاوُدَ؟».
فَبُهِتَ كُلُّ ٱلْجُمُوعِ هذه المعجزة المثلثة الشفاء أثرت في الناس تأثيراً غريباً، كما دلَّ عليه قوله «بهت» أي تحير ودُهش كثيراً، فسألوا هذا السؤال.
أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ دَاوُدَ؟ أي ألعله المسيح المنتظر الذي قالت النبوات إنه يكون نسل داود؟ (مزمور ١١٠). وابن داود لقبه الغالب على ألسنة اليهود. وسألوا ذلك لاستنتاجهم أنه لا يقدر على هذا العمل إلا المسيح (متّى ٩: ٢٧). وسؤالهم هذا أخاف الفريسيين وأغاظهم وحملهم على التجديف الآتي.
٢٤ «أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: هٰذَا لاَ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ».
متّى ٩: ٣٤ ومرقس ٣: ٢٢ ولوقا ١١: ١٥
بعلزبول هو من آلهة الساميين القدماء، وقد دعاه اليهود «بعلزبوب» أي إله الذباب، للتحقير. ثم جعلوه «رئيس الشياطين» زيادة في الاستهزاء. والفريسيون هنا هم الكتبة (وهم قسم من الفريسيين) أتوا من أورشليم لمجرد أن يراقبوا أعمال المسيح ويمحو تأثيرها (مرقس ٣: ٢٢). فالظاهر أن رؤساء الأمة اليهودية اضطربوا كثيراً من نجاح المسيح، ورأوا أنه من أهم الأمور أن يحفظوا مقامه ويمنعوا انتشار صيته بعد ذلك.
وأرسل رؤساء اليهود قبل هذا لجنة كهذه إلى يوحنا المعمدان سألته: من هو؟ ولماذا يُعمِّد؟ ولم يكن ممكناً أن ينكر الفريسيون المعجزة، فلم يبق لهم واسطة لمنع تأثيرها في الشعب إلا بأن ينسبوها إلى السحر ومشاركة المسيح للأرواح الشريرة. وهذا يدل على شر قلوبهم وعداوتهم وضعف حجتهم وصحة معجزة المسيح التي لو أمكنهم إنكارها ما قصروا عنه. فعدم اقتناعهم بمعجزات المسيح وإيمانهم به ليس إلا لعمى قلوبهم وقساوتها، ومحبتهم الظلمة والضلال أكثر من محبتهم للنور والهدى.
بَعْلَزَبُولَ هو اسم إهانة لبعلزبول أي إله الذباب وكان أحد آلهة الفلسطينيين (٢ملوك ١: ٢، ٣، ٦). عبدوه لاعتقادهم أنه وقاهم من ضربة الذباب وما شابهه من البعوض والهوام الضارة. أو لأن تمثاله كان كهيئة ذبابة. فبدل اليهود الباء في آخر اسمه باللام للإهانة. لقد نسب الكتبة معجزة المسيح إلى قوة الشيطان بعد تشبيهه ببعلزبول، وهذا دليل واضح على غاية بغضهم للمسيح واحتقارهم إياه.
رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ أي رئيس الملائكة الذين سقطوا من المقام الأسنى. ويُعرف بإبليس والشيطان. ولقبه اليهود ببعلزبول لزيادة الإهانة. اتهم الكتبة يسوع بمشاركة أنجس الأبالسة لكي يُخرج بقوته الشياطين الذين هم دونه، فارتكبوا بذلك أفظع تجديف. ولا يزال أعداء الإنجيل إلى اليوم يلقبون المسيحيين بأقبح الألقاب وينسبون إليهم شر الأعمال.
٢٥ «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ».
متّى ٩: ٤ ويوحنا ٢: ٢٥ ورؤيا ٢: ٢٣
كُلُّ مَمْلَكَةٍ ردَّ يسوع تهمتهم الفظيعة بدليل مبني على مبادئ سياسية يُسلم بها الجميع، وهي أن المملكة الواحدة إذا حارب بعضها بعضاً خربت لا محالة. ولا نظن ملكاً يبلغ به الجهل أن ينشئ حرباً بين رعاياه. فإذا استحال ذلك في ملك بشري فبالأولى أن يستحيل في أمر الشيطان الذي هو أحكم من الناس، كما أنه أشر منهم. فلا يتوقع أن يفسد عمله عمداً، وهو الذي بدأه منذ بداءة العالم. فمُهلك غيره لن يهلك نفسه.
فمن أوضح المبادئ أن نجاح المملكة متوقف على اتحاد رؤسائها واتفاقهم في الرأي والعمل. فمملكة الشيطان بأسرها مع ما بين جنودها من روح البغضة والخصام متحدة كل الاتحاد على مقاومة ملكوت المسيح.
وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْت ما صدق على المملكة يصدق على المدينة والبيت. فإن حارب بعض أهل مدينة بعضاً، وإن قاوم بعض عائلة بعضاً فلا بد أن تكون النتيجة خراب تلك المدينة أو ذلك البيت. فهل يجهل الشيطان أمراً واضحاً لكل إنسان؟ وهل يقلب عرشه بيده؟
٢٦ «فَإِنْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يُخْرِجُ ٱلشَّيْطَانَ فَقَدِ ٱنْقَسَمَ عَلَى ذَاتِهِ. فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟».
ما صدق على المملكة والمدينة والبيت يصدق على الشخص. فإن حارب الشيطان نفسه ما أمكنه أن يثبت، ولأبطل قوته وهدم مملكته. فأورد المسيح ذلك ليبين استحالة تهمتهم أنه شريك لعدوِّه، واستحالة ظنهم أن الشيطان يساعده على إخراج جنوده من الناس بعدما أرسلهم ليدخلوا فيهم ويعذبوهم، واستحالة حكمهم أن الشيطان يخرب بإحدى يديه ما يبنيه بالأخرى.
٢٧ «وَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذٰلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ».
أَبْنَاؤُكُم أي أبناء أمتكم اليهود وتلاميذكم وأتباعكم. وفي هذا العدد دفع ثان لتلك التهمة. فإن ما اتهموه به أن صحَّ عليه، صح على أبنائهم الذين يدَّعون أنهم يخرجون الشياطين، ويُصدِّق الناس أنهم يفعلون ذلك. إنهم لا يتهمونهم بمشاركة للشياطين، فبأي حق يتهمون المسيح بذلك؟ ويظهر ادعاء اليهود أن لهم قوة على إخراج الشياطين من أعمال ١٩: ١٣ فقد كان لسكاوا رئيس كهنة لليهود سبعة بنين يدَّعون تلك القوة، وذُكر مثل ذلك في تاريخ يوسيفوس. فلم يقل المسيح أنهم كانوا يُخرجون الشياطين حقاً. والمرجح أنهم لم يستطيعوا ذلك بدليل ما قيل في متّى ٩: ٣٣. فعندما كان المسيح يُخرج شيطاناً كان المشاهدون يشهدون بأنه «لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هذَا فِي إِسْرَائِيلَ!».
يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ أي يثبتون كذبهم وبغضهم وظلمهم، إذ ينسبون إليه ما ينسبونه إليهم، مع أن الفعل واحد. والأبناء يحكمون على آبائهم عقلياً لا لفظياً.
٢٨ «َلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ».
دانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤ ولوقا ١: ٣٣ و١١: ٢٠ و١٧: ٢٠، ٢١
ذكر المسيح في هذا العدد النتيجة التي كان على الكتبة أن يستنتجوها لو تبعوا أحكام عقولهم، ولو لم تكن قلوبهم عمياء قاسية.
بِرُوحِ ٱللّٰه أي أنه ثبت مما بيَّنه لهم أن إخراج الشياطين لا يمكن أن يكون بقوة الشيطان. فإذاً لا بد من أن يكون بقوة روح الله، أي بقوة الله نفسه.
أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰه الله لا يعمل المعجزات ليثبت بها الكذب. فإذاً دعوى يسوع صحيحة، وملكوت الله قد أتى، ومُلك المسيح ابتدأ حسبما أنبأ الأنبياء وتوقع اليهود. ولو أن شيوخ اليهود أخطأوا في ماهية حكمه. وهذا برهان قاطع على أن المسيح أتى، وملكوته تأسس، ولو أن رؤساء اليهود لم يقتنعوا بذلك البرهان.
٢٩ «أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ ٱلْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ ٱلْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟».
إشعياء ٤٩: ٢٤ ولوقا ١١: ٢١ - ٢٣
أورد المسيح هنا مثلاً من الحوادث اليومية المألوفة ليوضح لهم عدم صحة دعواهم أنه شريك الشيطان، وليبرهن صحة دعواه أنه يقاومه. فقال إنه إذا سُلب أحد الأغنياء لا يصدق أحدٌ أنه هو سلب نفسه، بل يؤكد الجميع أن السالب عدوٌ له أقوى منه. فكان يجب أن الكتبة عندما رأوا أن الشيطان فقد قوته وطُرد من حصنه يستنتجون أن من هو أقوى من إبليس رئيس هذا العالم التقى به وهزمه (يوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١).
بَيْت أي نفس الإنسان الذي دخله الشيطان.
ٱلْقَوِيّ أي الشيطان.
أَمْتِعَتَهُ أي آلاته، وأراد بها جنوده الأبالسة الذين يدخلون الناس. فإخراج المسيح تلك الجنود وسكنه محلها في قلب الإنسان برهان على أنه أقوى من الشيطان، وأنه ربطه واستولى على بيته.
٣٠ «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ».
قال المسيح إنه والشيطان في حرب دائمة، وزاد على ذلك هنا أن كل من ليس معه هو عدوٌ له كالشيطان، وشريك لذلك الروح الشرير. وكان الكتبة ضده، فيكونون بذلك أعداءه وشركاء الشيطان، فبدل أن يثبتوا شركته للشيطان أثبت عليهم تلك الشركة عينها. وأظهر المسيح بهذا الكلام أن الحياد في تلك الحرب العظيمة بين ملكوته وملكوت الشيطان غير جائز، وأنه يحسب من لا يحارب معه بكل قوته عدواً له (رومية ٨: ٧).
وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ هذا مثل مأخوذ من عمل الحصاد، وهو به يوضح ويؤكد أن «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ». فالذي لا يجمع النفوس مع المسيح للخلاص يبددها ويمنعها من الخلاص فيهلكها. وخلاصة كل ذلك أن في هذا العالم مملكتين فقط، هما مملكة النور ومملكة الظلمة، أو مملكة الحق ومملكة الباطل، أو مملكة البر ومملكة الإثم، أو مملكة الله ومملكة الشيطان. وهاتان المملكتان متضادتان، لا تنتهي الحرب بينهما، وليس فيها صلح ولا هدنة. فكل مخلوق عاقل لا بد من أن يكون من إحدى تلك المملكتين في الدنيا وفي الآخرة، يشارك جنودها هنا في العمل، ويشاركهم هناك في الجزاء.
٣١ «لِذٰلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا ٱلتَّجْدِيفُ عَلَى ٱلرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ».
مرقس ٣: ٢٨ ولوقا ١٢: ١٠ وأعمال ٧: ٥١ وعبرانيين ٦: ٤ - ٦ و١٠: ٢٦ - ٢٩ و١يوحنا ٥: ١٦
اكتفى المسيح بما قاله من العدد ٢٥ - ٣٠ بالرد على الكتبة بدعواهم أنه شريك الشيطان، وأخذ هنا يبكتهم على تجديفهم عليه وبغضهم له بأن يظهر لهم فظاعة إثمهم وشر العقاب الذي عرضوا أنفسهم له.
لِذٰلِكَ أي لتهمتكم الباطلة الناتجة عن الحسد والبغض.
أَقُولُ لَكُمْ أي أنا ابن الله وابن الإنسان، أقول لكم أيها الأعداء الذين تتهمونني كذباً.
كُلُّ خَطِيَّةٍ مهما كانت فظيعة يمكن أن تُغفر إلا الخطية التي ذكرها بعد ذلك.
وَأَمَّا ٱلتَّجْدِيف التجديف أكبر من الحلف، لأنه أعظم إهانة لله ودينه، ولأنه يُرتكب عن عمد.
عَلَى ٱلرُّوحِ شرح المقصود بالتجديف على الروح في العدد الآتي.
٣٢ «وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَلاَ فِي ٱلآتِي».
هذا شرح العدد ٣١. والتجديف على الروح القدس هو الاسترسال في المكابرة رغم معرفة الصواب، بل هو زيادة التحقير للصواب حتى يعتاد القلب على العمى الروحي فلا يقتنع لأنه لا يريد الاقتناع، لذلك لا يغفر له أبداً.
عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَان على المسيح في اتضاعه، أي وهو في صورة عبد على الأرض (فيلبي ٢: ٧). فيكون قصده أن الطعن فيه (ما دام لاهوته محجوباً) إثم يُغفر. وواضحٌ أن ذلك الغفران يُنال على شرط أن يكون مقروناً بالتوبة وطلب المغفرة. ومن أمثال ذلك تعييرهم إياه بأنه من الناصرة، وأنه محب للعشارين والخطاة، وأنه أكول وشريب خمر. ومن أمثاله ما ارتكبه شاول الطرسوسي قولاً وفعلاً.
وَأَمَّا... عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُس المقصود بهذا أن الروح القدس شهد أن يسوع هو المسيح، فكانت مقاومة الكتبة له بالبغض والإهانة مقاومة للروح القدس نفسه، وذلك إثم لا يغفَر (انظر مرقس ٣: ٣٠). لقد نسبوا القوة التي صنع بها المسيح المعجزات إلى الشيطان، والمسيح صنعها بقوة الروح القدس، فيكونون قد أنزلوا ذلك الروح مصدر كل خير منزلة الشيطان مصدر كل شر، وهذا أفظع تجديف.
فَلَنْ يُغْفَرَ لَه وسبب ذلك أن ليس لهذه الخطية مغفرة، إذ لا يرتكبها إلا الذين حصلوا على أحسن معرفة بالحق كالكتبة الذين شاهدوا براهين لاهوت المسيح بمعجزاته (عبرانيين ٦: ٤ - ٧ و١٠: ٢٦، ٢٧)؛ وأن مرتكبها لا يمكن أن يتوب ويطلب المغفرة لأن الذي يأتي بالخاطئ إلى التوبة هو الروح القدس الذي أغاظه الخاطئ بمقاومته عمداً حتى فارقه.
والذين في خطر الوقوع في هذه الخطية هم أولاد المسيحيين إذا بقوا بلا توبة، والعاملون في بيوت الأتقياء، والذين واظبوا على سماع الوعظ والإنذار ولم يتأثروا. والذين في خطر مقاومة الروح القدس هم الذين يرفضون تنبيهاته وتوبيخاته، ويتخذون فعله في تجديد القلب موضوعاً للهزء والضحك، لأنهم مشغولون بالملاهي والملذات الدنيوية.
لاَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَلاَ فِي ٱلآتِي يوضح مرقس ذلك بقوله «وَلكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً» (مرقس ٣: ٢٩) وقد قسم اليهود الزمان كله إلى قسمين عظيمين: الحاضر، والمستقبل. وسمّوا الأول «هذا العالم» والثاني «العالم الآتي». فذكر متّى القسمين بمعنى أن ذلك الذنب لن يُغفر أبداً. فإذاً الخطايا قسمان: قسم يُغفَر وقسم لا يُغفَر. فكما أن الذي يُغفر يُغفر إلى الأبد، كذلك الذي لا يُغفَر لن يغفر إلى الأبد. ولا صحَّة لزعم البعض أن بعض الخطايا تُغفر في العالم الآتي وإن لم تُغفر هنا.
٣٣ «اِجْعَلُوا ٱلشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّداً، أَوِ ٱجْعَلُوا ٱلشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيّاً، لأَنْ مِنَ ٱلثَّمَرِ تُعْرَفُ ٱلشَّجَرَةُ».
متّى ٧: ١٧ لوقا ٦: ٤٣، ٤٤
إذا نظرنا في هذه الآية بقطع النظر عن القرينة رأيناها وفق قول المسيح في وعظه على الجبل (متّى ٧: ١٦ - ٢٠) ومعناه أنه يجب على من يقولون إنهم أتقياء أن يجعلوا حياتهم وفق كلامهم. ومن القرينة نرى أن قصد المسيح أنه يجب على الذين اتهموه بأنه شريك الشيطان أن يقيسوا أعماله على هذا القياس، أي أن يحسبوا الشجرة جيدة إذا رأوا ثمرها جيداً، ويحسبوها رديئة إذا رأوا ثمارها رديئة. فكأن المسيح يقول: إن كانت أعمالي جيدة يستحيل أن تكون بشركة الشيطان، لأن الشيطان مصدر كل شر لا شركة له في شيء من الأعمال الحسنة فإن الكتبة سمعوا أقوال المسيح وشاهدوا أعماله. فإذاً لا عذر لهم على تلك التهمة الباطلة، لأن إخراج الشيطان من الإنسان وشفاءه من الأثمار الجيدة.
٣٤، ٣٥ «يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِٱلصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ ٱلْفَمُ لإِنْسَانُ ٱلصَّالِحُ مِنَ ٱلْكَنْزِ ٱلصَّالِحِ فِي ٱلْقَلْبِ يُخْرِجُ ٱلصَّالِحَاتِ، وَٱلإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنَ ٱلْكَنْزِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشُّرُورَ».
متّى ٣: ٧ و٢٣: ٣٣ ولوقا ٦: ٤٥
بعد أن وبخ المسيح الكتبة على افترائهم الباطل قال إن ذلك الافتراء يدل على سوء نواياهم وطباعهم، دلالة الإثمار على الشجرة.
يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي هذا ما لقب به يوحنا المعمدان أمثال هؤلاء من الكتبة (متّى ٣: ٧). ولقبوا بذلك نسل الحية المذكور في تكوين ٣: ١٥ الذي يقاومه نسل المرأة (أي المسيح) دائماً وينتصر عليه أخيراً. فالكتبة بين الناس كالأفاعي بين الحيات، فإنها اشتهرت بالسم وإيقاع الضرر.
كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِٱلصَّالِحَاتِ ما دامت صفاتكم كذلك لا يمكنكم أن تتكلموا إلا بمثل ما قلتم عليَّ.
مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْب شبَّه القلب بنبع والكلام بما يجري من النبع، فيمكن أن يُعرف القلب من الكلام كما يُعرف النبع من الماء الجاري منه.
ٱلْكَنْزِ يُقصَد بالكنز هنا أشياء مجموعة بغضّ النظر عن قيمتها، فيحتمل أن يكون حسناً أو رديئاً. والكنز هو ما حصل عليه الإنسان من التعاليم والتربية والعادات وأسلوب التفكير والاتجاهات والميول. وخلاصة هاتين الآيتين أن قلوب الناس تُعرف مما يتكلمونه به اختياراً بلا خوفٍ أو حياء كما تكلم هؤلاء الكتبة، فكلماتهم الشريرة برهنت أن كنز قلوبهم شرير.
٣٦ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا ٱلنَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ ٱلدِّينِ».
انظر جامعة ٢: ١٤
كلام الإنسان دليل واضح على صفاته، وهو من جملة ما يحاسب الله عليه يوم الدين. وقد قال البعض أن لا حساب على الكلام، إذ لا طائل تحته.
كُلَّ كَلِمَةٍ أي غير نافعة كما هو مفهوم عموماً، لكن القرينة تدل على أن المسيح أشار بذلك إلى الكلمات الشريرة التي قالها الكتبة عليه، فأنذرهم بأن الله يحاسبهم عليها كما يحاسبهم على أفعالهم. ولا ريب أن ذلك يصدق أيضاً على كل الكلمات الكاذبة والكلمات النجسة وكلمات التذمر والكلمات المهيجة الخصومات. قال سليمان الحكيم «اَلْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ فِي يَدِ اللِّسَانِ» (أمثال ١٨: ٢١) وقال داود «اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِسًا لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ» (مزمور ١٤١: ٣) وقال الرسول «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحًا بِمِلْحٍ» (كولوسي ٤: ٦).
٣٧ «لأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ».
ما أعظم قيمة الكلام في نظر المسيح، فمن فضلة القلب يتكلم اللسان، فهو المعبر الحقيقي عن الفكر، وهو أعظم أداة للإعراب عما في داخلنا. فالناس لا يستطيعون أن يروا قلوبنا ولا يعرفوها، ولكنهم يسمعون كلامنا ويفهمون ما نحن ويحكمون علينا. وفي هذه القاعدة لخَّص المسيح كل ما قاله في هذا المعنى.
بِكَلاَمِك لأن الكلام يبين صفة القلب، لذلك اتخذه الناس مثلاً فيقولون «الكلام صفات المتكلم». وليس المعنى أن الحساب مقصور على الكلام بدون نظر إلى الأعمال، بل المقصود (كما في عدد ٣٦) أن الكلام من جملة ما يحاسَب الإنسان عليه. فبكلماتنا نكتب تاريخ حياتنا والقائمة التي ندان أو نتبرر بها يوم الدين. إن نسيناها فالله لا ينساها «اللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ. هكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ، الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ» (يعقوب ٣: ٦)
تَتَبَرَّرُ الإنسان يتبرر قدام الله بالإيمان لأنه وحده يعرف قلوب الناس، ولكنه يتبرر أمام الناس الذين لا يستطيعون معرفة القلوب بالكلام والأعمال التي تشهد بما في القلب.
٣٨ «حِينَئِذٍ قَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً».
متّى ١٦: ١ ومرقس ٨: ١١ ولوقا ١١: ١٦ ويوحنا ٢: ١٨ و١كورنثوس ١: ٢٢
قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ أي غير الذين جدفوا عليه منهم لأن لوقا يقول «وَآخَرُونَ طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ يُجَرِّبُونَهُ» (لوقا ١١: ١٦).
يَا مُعَلِّمُ قالوا له ذلك إما تملُّقاً، وإما تهكماً، لأنهم لم يعتقدوا أنه معلم بالحق.
آيَة أي من السماء (مرقس ٨: ١١ ولوقا ١١: ١٦) فإنهم شاهدوا معجزاته في شفاء المرضى وإخراج الشياطين، ولكنهم لم يعتبروها برهاناً كافياً على أن يسوع هو المسيح، لأنه كان يفعلها بيده، وكانت متعلقة إما بأهل الأرض وإما بأهل الجحيم، فسألوه معجزة من السماء لا يد له فيها لتكون مجرد برهان من الله على أنه المسيح، لا لمنفعة إنسان. وفي سؤالهم ذلك تعريض بأن يسوع كان يعمل المعجزات بالسحر أو بخفة اليد، ولذلك سألوه معجزة لا تصل يده إليها. وربما خطر على بالهم حينئذٍ المعجزات التي جرت على يد موسى، كإتيانه بخبزٍ من السماء، وكبعض ضربات مصر كالرعود والبروق والبرَد والظلمة، فأرادوا أن يشاهدوا مثلها منه.
٣٩ «فَقَالَ لَـهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ».
إشعياء ٥٧: ٣ ومتّى ١٦: ٤ ومرقس ٨: ٣٨ ولوقا ١١: ٢٩ ويوحنا ٤: ٤٨
جِيلٌ أراد به أغلب أمة اليهود في ذلك الوقت، فقصد الحاضرين والكثيرين من أمثالهم.
فَاسِقٌ شبه العهد القديم علاقة الله ببني إسرائيل بعلاقة الرجل بامرأته، وأن العهد بينه وبينهم كعهد الزواج (إشعياء ٥٧: ٣ وهوشع ٣: ١ وحزقيال ١٦: ١٥) فلذلك حسب عليهم عبادة الأوثان فسقاً. نعم أنهم لم يكونوا من عبدة الأوثان يومئذٍ، لكن عدم أمانتهم له في أمور كثيرة أوجب عليهم أنهم فاسقون.
َلاَ تُعْطَى لَهُ آيَة أراد أنه لا يعطيهم آية من نوع طلبهم، وليس أنه لا يُجري المعجزات أمامهم بعد ذلك. ورفض طلبهم دفعاً لإرادة الله، ولأنهم أهانوا المسيح به إذ احتقروا المعجزات التي صنعها قبلاً كأنها من أعمال السحر أو الشعوذة، ولأنه قدم قبل ذلك ما يكفي من البراهين على إثبات دعواه.
إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ قدم لهم يونان، والمقصود بها قيامته بعد موته، ليس لأنها وفق طلبهم، بل لأنه حسبها أعظم معجزاته، وأنها توجب عليهم الاقتناع بصحة دعواه. ويونان هو أول أنبياء العهد القديم، وهو «ابن أمتاي الذي أبوه من جث حافر» (٢ملوك ١٤: ٢٥). عاش حوالي ٨٦٠ ق.م.
٤٠ «لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ».
يونان ١: ١٧
أعطاهم آية موته ودفنه وقيامته بدلاً من الآية السماوية التي طلبوها، وربط ذلك بإحدى حوادث العهد القديم على طريق اللغز، واختار ذلك مثلاً للمشابهة بين الأمرين والمخالفة بينهما في النتائج.
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ كان اصطلاح اليهود في تلك الأيام أن يحسبوا الجزء من النهار نهاراً كاملاً، والجزء من الليل ليلاً كاملاً (١صموئيل ٣٠: ٢ أو ١٣ وتكوين ٤٣: ١٧، ١٨ و٢أخبار ١٠: ٥، ١٢ وهوشع ٦: ٢). فيصحُّ أن يكون معنى قوله «ثلاثة أيام وثلاث ليال» يوماً كاملاً أي أربع وعشرين ساعة، وجزئين من يومين آخرين مهما كان الجزآن صغيرين. وليس هذا التفسير من اختلاق المسيحيين كما يزعم أعداء الدين للتوفيق بين نبوة المسيح وإتمامها، فإن ذلك مبدأ من كتاب التلمود أقدس كتب اليهود بعد كتاب الله ففيه «إن إضافة ساعة إلى يوم تُحسب يوماً آخر، وإضافة يوم إلى سنة يُحسب سنة أخرى» وهكذا كان الأمر في زمن أستير (أستير ٤: ١٦ و٥: ١). ولو كان هناك خطأ لاعترض اليهود على المسيحيين وادعوا كذب مسيحهم لعدم إتمامهم وعده بقيامته صباح اليوم الثالث. ولكنهم لم يذكروا هذا الاعتراض قط.
فِي قَلْبِ ٱلأَرْض أي في القبر، وذلك يشبه قول يونان في صلاته «صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ.. لأَنَّكَ طَرَحْتَنِي.. فِي قَلْبِ الْبِحَارِ» (يونان ٢: ٢، ٣) وإشارة المسيح هنا إلى أعظم معجزاته وهي قيامته بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال لم يفهمها الفريسيون، ولا فهمها تلاميذه وقتها.
٤١ «رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا».
إرميا ٣: ١١ وحزقيال ١٦: ٥١ ولوقا ١١: ٣٢ ورومية ٢: ٢٧ ويونان ٣: ٥
ذكر المسيح في عدد ٤٠ المشابهة بينه وبين يونان في بعض الأحوال، وذكر في هذا العدد الفرق بين تأثير وعظه ووعظ يونان، وذلك ليبيِّن قساوة قلوب اليهود الذين لم يؤمنوا به، لأن الوثنيين الذين وعظهم يونان تابوا ونجوا، ولكن اليهود الذين وعظهم المسيح لم يتوبوا وكانوا عرضة للهلاك.
نِينَوَى هي عاصمة أشور، بناها نمرود أو أشور (تكوين ١٠: ١١) وموقعها على نهر دجلة. وكانت مدينة عظيمة محيطها ٤٨ ميلاً أو نحو مسيرة عشرين ساعة، وعلو أسوارها مئة قدم، وعرضها عشرة أقدام، عليها ١٥٠٠ برج، علو كل برج ٢٠٠ قدم. وأنبأ الله بخرابها بلسان يونان فتابت بوعظه، فتأخر خرابها مئتي سنة. وأنبأ بخرابها بعد ذلك ناحوم النبي (ناحوم ١: ٨ و٢: ٦). وتم خرابها قبل الميلاد بأكثر من ست مئة سنة، وآثارها اليوم قرب مدينة الموصل.
سَيَقُومُون أي وقوفهم أمام منبر الديان، لا قيامتهم من القبور.
هٰذَا ٱلْجِيلِ أي يهود عصر المسيح.
يَدِينُونَهُ لا بكلامهم، بل بأعمالهم الماضية.
وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا البرهان هنا من الأدنى إلى الأعلى، كما في شرح لعدد ٦ من هذا الأصحاح. المنادي بالتوبة هنا أعظم من المنادي بها هناك، لأن الأول ابن الله والثاني ابن أمتاي. والأسباب الموجبة للتوبة في وقت المسيح أعظم منها في زمن يونان. والهلاك الأبدي الذي أنذر به المسيح أهول من الهلاك الزمني الذي أنذر به يونان.
٤٢ «مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هٰهُنَا».
١ملوك ١٠: ١، ٢أخبار ٩: ١ ولوقا ١١: ٣١
وفي ترجمة أخرى بدل «التيمن» ذكرت «ملكة الجنوب» أي جنوب بلاد العرب بالنسبة لما كانت عليه من حضارة عريقة وتقدم وعمران. وقد انتقل المسيح من بيان الفرق بين توبة أهل نينوى وعدم إيمان اليهود، إلى ذكر تعجب ملكة سبا من حكمة مجرد إنسان وهزء الكتبة والفريسيين بحكمة معلم إلهي للمشابهة.
مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ هي ملكة سبا (١ملوك ١٠: ١) ولعلها اليمن، وهي الجزء الجنوبي من بلاد العرب.
أَقَاصِي ٱلأَرْض أي بلاد بعيدة، وهو تعبير يوناني يقصد به المسافة البعيدة مع اختلاف الأمة والدين. فالاختلاف بين عمل ملكة التيمن وعمل اليهود يومئذٍ يظهر قساوتهم أكثر مما أظهرها اختلاف عمل أهل نينوى وعملهم، لأن أهل نينوى تأثروا من وعظ يونان وهو أمامهم، أما ملكة التيمن فتأثرت بسمعها خبر سليمان على البعد. واحتملت مشقة السفر من على بُعد نحو ألف ميل وهي امرأة وملكة لتسمع حكمة سليمان. ولكن المسيح نفسه أتى إليهم. وهي أتت بلا دعوة من سليمان، وأما المسيح فلم يكف عن أن يدعوهم إليه. وسليمان لم يستطع أن يعطي تلك الملكة حكمته، أما المسيح فمستعد أن يعطيهم كل كنز الحكمة الحقيقية. فإذاً المسيح أعظم من سليمان، وموضوع كلامه أهم من موضوع حديث سليمان وتلك الملكة، وحكمته أعظم من حكمة سليمان. ومع كل ذلك تأثرت كل التأثر وهم لم يتأثروا. وأعلن المسيح في هذا الأصحاح عظمته الإلهية أولاً بأنه أعظم من الهيكل (عدد ٦)؛ وثانياً بأنه أعظم من يونان النبي (عدد ٤١)؛ وثالثاً بأنه أعظم من سليمان الملك.
٤٣ «إِذَا خَرَجَ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ».
أيوب ١: ٧ ولوقا ١١: ٢٤ و١بطرس ٥: ٨
أخذ المسيح هنا يبين الحال التي صارت إليها الأمة اليهودية كلها وبعض أفرادها بتعليم الفريسيين وتقاليدهم وسيرتهم. لقد نفر اليهود بسبب بقائهم سبعين سنة في سبي بابل من عبادة الأوثان التي كانوا قبل ذلك يميلون إليها، فشبَّه المسيح هذا بإخراج روح نجس من قلوبهم. ولكن تعليم الفريسيين صيَّرهم إلى حالٍ أردأ، وكأنه دخل فيهم سبعة أرواح أشر من الأولى. وحال الإنسان مثل حال الأمة، فيمكن أن يرجع عن بعض الخصال الرديئة ويصلح سيرته بعض الإصلاح، ولكنه إن لم يتغير قلبه يسقط عند التجربة إلى حال الشر والبر الذاتي والكفر وقساوة القلب، فيكون رجاء خلاصه في هذه الحال أضعف مما كان في الحال السابقة.
إِذَا خَرَجَ لا نعلم هل خرج الروح من نفس الإنسان بإرادته أم رغماً عنه، ولكن لا بد أنه إذا قصد الإنسان إصلاح نفسه وابتدأ ذلك لم تكن نفسه مسكناً يرغب فيه الروح النجس، فيخرج مؤقتاً.
فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاء كان اليهود يحسبون القفار مساكن الشياطين (إشعياء ١٣: ٢١، ٢٢ و٣٤: ١٤) ونسب يوحنا ما ذكر إلى خراب بابل (رؤيا ١٨: ٢) وكلام المسيح هنا وفق هذا الرأي.
يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِد الأبالسة لا يستريحون ما لم يضروا أحداً، فلا يجد الروح في القفار فرصة للضرر كما يجد في قلب الإنسان، فلذلك لا يرضى بما هو فيه من تقلبه في الشقاء من مكان إلى آخر.
٤٤ «ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي ٱلَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً».
بَيْتِي أي جسد الإنسان الذي كان داخلاً فيه ونفسه. والمعنى أن الروح النجس عزم بعد مدة على الرجوع، ليرى ماذا كانت نتيجة شروع الإنسان في إصلاح نفسه.
فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً قال بعضهم إن معنى ذلك أن روح الإنسان عادت إلى الصحة التامة بعد خروج الشيطان منها. وقال آخرون إن ذلك إشارة أنه مُعدٌ لرجوع الروح الشرير، فيكون «فارغاً» من التأثيرات الصالحة إذ لم يدخله المسيح بعد خروج الشيطان، و «مكنوساً» أي خالياً من كل مانع للشيطان، و «مزيناً» لإبهاجه. والمذهب الثاني أوفق لحال اليهود يومئذٍ لأنهم لم يكونوا حين جاء المسيح في حال الصحة الروحية التامة والطهارة الكاملة، بل كانوا عكس ذلك. فلم يكن إصلاحهم بسبي بابل وبمناداة يوحنا المعمدان بالتوبة إلا ظاهراً، وكان الرياء زينة لهم فكانوا أشبه بالقبور المبيضة.. فلا أمن للنفس بالإصلاح إن لم يسكن الله القلب وتخضع قوى النفس كلها له. فكثيراً ما طُرد شيطان المسكرات من قلوب السكارى، وأقيم كل مانع من رجوعه يستطيع عقل الإنسان أن يخترعه، مع كل القصد بعدم التسليم له. لكن كل ذلك لم ينفع بلا طلب نعمة الله والحصول عليها.
٤٥ «ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هٰكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلشِّرِّير».
عبرانيين ٦: ٤ و١٠: ٢٦ و٢بطرس ٢: ٢٠ - ٢٢
ثُمَّ أي حين يجد أنه غير مستريح، وأن قلب الإنسان معدٌّ له.
يَذْهَبُ أي في طلب رفاق له.
سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أي عدد غير معينة (متّى ١٨: ٢١، ٢٢). وكان هذا العدد من الأرواح النجسة في مريم المجدلية (مرقس ١٦: ٩ ولوقا ٨: ٢). وأشار بذلك إلى زيادة تسلط القوات الشريرة على الإنسان، وقلة الرجاء بخلاصه.
هٰكَذَا يَكُونُ الخ نسب المسيح هنا ما سبق إلى يهود عصره، فإن أحوالهم الأخيرة التي صارت أشر من الأولى هي الأحوال التي كانوا فيها بعد رفضهم كون يسوع مسيحهم، وقبل خراب أورشليم. قال يوسيفوس المؤرخ «إن اليهود ولا سيما رؤساؤهم كانوا في ذلك الوقت في أشد الغلو والتعصب والهيجان فأشبهوا من سكنهم الأبالسة». وقد تم قول المسيح على اليهود، فإنهم حين رجعوا من السبي كانوا يكرهون الأوثان وظلوا كذلك، فكانوا أحسن من ذي قبل قليلاً، ثم سقطوا في فسادٍ آخر كمحبة العالم والرياء والتمسك بالطقوس الدينية دون الجوهر وعمى القلب، وزادوا إثماً حتى أنهم صلبوا ابن الله، فأسلم هيكلهم ومدينتهم إلى أيادي الرومان فقُتل منهم ربوات كثيرة وسُبي ربوات كذلك، وتبددوا منذ ذلك الوقت في أطراف الأرض. وهذا نصيب كل خاطئ نبهه الروح القدس فأغاظه، أي أن حاله الأخيرة تكون أشر من الأولى.
٤٦ «وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ ٱلْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ».
متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٣: ١٣ و٦: ٣ ولوقا ٨: ١٩ - ٢١ ويوحنا ٢: ١٢ و٧: ٣، ٥ وأعمال ١: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٥ وغلاطية ١: ١٩
لا بد أن هناك سبباً لمجيء أمه وإخوته إليه يطلبونه وهو يخاطب الجمع. والمحتمل أن ذلك خوفهم عليه من زيادة التعب العقلي والجسدي (انظر مرقس ٣: ٢١) أو خوفهم على حياته لأنهم سمعوا ببغض الكتبة والفريسيين له. فلا نتعجب من هذا الاهتمام الناتج عن المحبة العائلية، مع عدم كفاية علمهم بحقيقته وإرساليته (يوحنا ٧: ٣ - ٥). فلو كان لهم كمال اليقين بحكمة يسوع وقدرته لما وقفوا خارجاً يطلبونه.
وَقَفُوا خَارِجاً أي خارج البيت، أو خارج دائرة السامعين. ووقوفهم كذلك إما لعدم إمكانهم أن يصلوا إليه لازدحام الناس عليه، وإما لأنهم أرادوا توفيقه عن الكلام واتخاذ فرصة الانفراد به ليكلموه.
٤٧ «فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ».
يظهر من مرقس ٣: ٣٢ أن الجمع كان جالساً حوله فبلغه طلب أمه وإخوته بانتقاله من واحد إلى آخر.
٤٨ «فَأَجَابَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟».
حاشا أن يكون في كلام المسيح أي تحقير لنسبه الجسدي بأمه وإخوته حسب ظاهر هذا الكلام، ولكن ما يجب أن نفهمه هو شدة اهتمامه بنسبٍ روحي أسمى وأعظم، وهو نسبه إلى أتباعه المؤمنين باسمه، الذين هم نواة ملكوته السماوي المجيد. فهؤلاء أمه وإخوته الحقيقيون.
أخذ ربنا من ذلك فرصة لتعليم الحاضرين بقوله وفعله أن علاقته بأقاربه ليست كعلاقتهم بأقاربهم، وأن ارتباطه بعائلته الروحية أشد من ارتباطه بعائلته الجسدية. فقرابة الإيمان والمحبة أقرب من قرابة اللحم والدم.
مَنْ هِيَ أُمِّي الخ أراد بذلك أن علاقته بعائلته ليست كعلاقتهم بعائلاتهم، وأنه ليس ملزوماً مثلهم أن يطيع أوامر العائلة. وفي ذلك لا شيء من الإهانة لتلك العائلة أو عدم الاكتراث بها، لأنه أطاعها الطاعة الواجبة وهو ولدٌ. وعندما كان على الصليب اعتنى بوالدته كل الاعتناء (يوحنا ١٩: ٢٥ - ٢٧). لكنه أراد أن يبين خصوص علاقته بعائلته. فهذا قريب من جوابه لوالديه بقوله «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟» (لوقا ٢: ٤٩) وأتى المسيح ذلك بطريق السؤال ليجعلهم يتوقعون الجواب فيحملهم ذلك على زيادة الإصغاء.
٤٩ «ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي».
أتى يسوع مخلِّصاً لجميع البشر، وصار أخاً لكل أولاد آدم إذ صار آدم الثاني، وهو أخو المؤمنين به على نوع أخص.
مَدَّ يَدَهُ ليميز تلاميذه أكمل تمييز. ولا بد من أن تلك الإشارة كانت مصحوبة بنظره إليهم نظر المحب إلى أحبائه.
هَا أُمِّي وَإِخْوَتِ لم ينكر بذلك محبته لأمه وإخوته، بل أراد بيان شدة محبته للمؤمنين به لأنه فوق كل محبة بشرية.
٥٠ «لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي».
يوحنا ١٥: ١٤ وغلاطية ٥: ٦ و٦: ١٥ وكولوسي ٣: ١١ وعبرانيين ٢: ١١
أوضح بهذا أن مجرد سمع تعاليمه والتتلمذ له ظاهراً يوجب تلك العلاقة العظمى التي ذكرها، فحقق لهم أن سبب تلك العلاقة هو العمل بموجب تعليمه لا مجرد سماعه، وأن هذا الإكرام مقصور على صنع مشيئة الله. فمن قام بذلك الشرط أُحب واعتبر كأم يسوع وإخوته، وإن كان فقيراً ساذجاً لا صفة له تجذب القلب إلى محبته (يوحنا ١: ١٢، ١٣ و١٥: ١٥ ورومية ٨: ٣٢ - ٣٩ وأفسس ٥: ٢٥، ٣٧). ومما يستحق الملاحظة هنا أن يسوع لم يذكر له أباً بين هذه العائلة، ولم يذكر يوسف قط كأبٍ له لأن لا أب له غير الله.
وفي هذا العدد إنذار للذين يبغضون المسيحيين ويضطهدونهم لأنهم يضطهدون أقارب ملك الملوك. وفيه تعزية عظيمة لجميع المؤمنين، فإن إيمانهم به وطاعتهم لله جعلاهم أقرب الخلق إليه، فذلك الأخ الأكبر يعتني بهم إلى الأبد. فإن كان يوسف قد اعتنى بإخوته في مصر، فبالأولى يعتني يسوع بإخوته الروحيين على الأرض وفي السماء. وهذه العلاقة الشريفة من نتائج الولادة الجديدة التي نصير بها أولاداً لله وإخوة للمسيح. وطاعتنا لله أجلى برهان على تلك الولادة السماوية.
وفي هذه الآية ما ينبه المسيحيين إلى وجوب حب بعضهم بعضاً، لأن إخوة المسيح أخوة لبعضهم.
الأصحاح الثالث عشر
١، ٢ «١ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَجَلَسَ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ، ٢ فَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ وَجَلَسَ. وَٱلْجَمْعُ كُلُّهُ وَقَفَ عَلَى ٱلشَّاطِئِ».
مرقس ٤: ١ الخ، لوقا ٨: ٤ الخ، لوقا ٥: ٣
قال متّى في هذا الأصحاح إن المسيح علَّم بأمثال، وذكر فيه سبعة منها، مع تفسير اثنين من السبعة. ويظهر مما قاله متّى ومرقس ولوقا أن شروعه في التعليم بأمثال بدية تطوُّر في أعمال يسوع، فإنه علَّم قبلاً بمواعظ كموعظته على الجبل، وكان لوعظه تأثير عظيم. وشرع الآن بأسلوب جديد يبيِّن حقيقة ملكوته، ليعرِّف سامعيه بدون إعلان أنه المسيح، لأن الناس لم يكونوا قد استعدوا لقبول الإعلان الكامل لدعواه.
عِنْدَ ٱلْبَحْرِ أي بحر الجليل.
جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ أشار بذلك إلى صنوف الناس، كما أشار إلى كثرة عددهم.
دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ أي أحد قوارب الصيد، طلبه لخدمته (مرقس ٣: ٩). وكان الجموع مزدحمين عليه حتى لم يمكنه أن يخاطبهم وهو واقف بينهم، فجلس في السفينة تجاههم، وخاطبهم وهم وقوف أمامه على الشاطئ.
جَلَسَ كان الجلوس عادة المعلم عند التعليم (متّى ٥: ١ و٢٣: ٢ ولوقا ٤: ٢٠).
٣ «فَكَلَّمَهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً: هُوَذَا ٱلزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ».
كَثِيراً ما أورده متّى من أمثال المسيح جزءٌ قليل من كثير، وأورده مثالاً للأسلوب الجديد من تعليمه.
بِأَمْثَالٍ المثل حقيقة مادية قصصية توضح حقيقة عقلية روحية، وهو أحياناً يُبنى على التشبيه، وأحياناً على المفارقة، وقد يكون خبر حادثة. وقد يُراد بالمثل عبارة وجيزة تتضمن معاني كثيراً كأمثال سليمان. وقد يُراد به كلام يحتمل غير ظاهر معناه. وأكثر الأمثال الدائرة على الألسنة اليوم تصورية لا أصل لها في الواقع، ولكن كل أمثال المسيح مبنية على حوادث حقيقية.
ولا يجب في تفسير المثل أن نطلب المعنى الروحي لكل ما جاء به، ويجب أن نميز بين لب الحق وقشره. وضرب المسيح أكثر أمثاله مما شاهده السامعون في وقته.
هُوَذَا ٱلزَّارِعُ يحتمل أنه كان حينئذ على القارب وأمامه أناس يزرعون.
٤ «وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ ٱلطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ».
عَلَى ٱلطَّرِيق أي الممر إلى الحقل حيث يبقى البذار مكشوفاً لا تغطيه التراب الندي.
٥ «وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ».
ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَة هي الأرض ذات الحجارة الكثيرة فتكون التربة الرقيقة على الصخور الواسعة الثابتة.
فَنَبَتَ حَالا بسبب رقة التربة أثَّرت الحرارة فيه وجعلته ينبت بسرعة.
٦ «وَلٰكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ ٱلشَّمْسُ ٱحْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ».
ٱحْتَرَق لأن حرارة الشمس يبَّست رطوبته، ولأن رقة التربة منعت الزرع من تعمق أصوله.
٧ «وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلشَّوْكِ، فَطَلَعَ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ».
ٱلشَّوْك ينبت في الحقول عادة.
خَنَقَه اختنق الزرع لأن مدد الحياة انقطع عنه، لأن الشوك أقوى من الزرع، فسلبه الرطوبة والحرارة.
٨ «وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ».
تكوين ٢٦: ١٢
ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَة أي المعدَّة لقبول الزرع ولتقديم وسائط النمو، بخلاف الأرض التي يبست من وطء أقدام المارة، وخلاف المحجرة، والكثيرة الأشواك.
مِئَةً... سِتِّينَ... ثَلاَثِين هناك نسب مختلفة بين مقدار البذار ومقدار غلته.
٩ «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَع».
متّى ١١: ١٥ ومرقس ٤: ٩
فُسر كلام هذا العدد في شرح متّى ١١: ١٥.
١٠ «فَتَقَدَّمَ ٱلتَّلاَمِيذُ وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟».
ٱلتَّلاَمِيذ المقصود بالتلاميذ هنا جميع السامعين الذين صدقوا قوله (مرقس ٤: ١٠). وهؤلاء هم الذين بقوا بعد انصراف كل الجمع. فلم يوجه المسيح هذا الشرح لكل الجموع الكثيرة، ولا إلى الاثني عشر وحدهم، بل إلى الذين صدقوا تعليمه. فهذا التفسير جواب لسؤالين: (١) لماذا تكلم بأمثال؟ و(٢) ما هو معنى هذا المثل؟
١١ «فَأَجَابَ: لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ».
متّى ١١: ٢٥ و١٦: ١٧ ومرقس ٤: ١١، ١٢ و١كورنثوس ٢: ١٠ و١يوحنا ٢: ٢٧
هذا جواب المسيح على السؤال الأول، وهو بيان ما حمله على التعليم بأمثال. فقال إنه بدأ يميز بين سامعيه الذين استناروا بتعاليمه وخلصوا، والذين ليسوا كذلك. وهذا الفرق كله من نعمة الله. وعندما يضرب مثلاً يتضح معناه للراغبين في معرفة الحق، ويصبح مبهماً لمن يريدون أن يبقوا في جهلهم. فالإنجيل رائحة حياة للحياة للبعض، ورائحة موت للموت للآخرين (٢كورنثوس ٢: ١٦). فأمثال المسيح للأولين تشرح الحق السماوي للمؤمنين وتخفيه عن الذين يظنونه مجرد قصص وأحاديث.
أُعْطِيَ لَكُمْ على سبيل الهبة لا على سبيل أجرة تستحقونها (رومية ٦: ٢٣ وأفسس ٢: ٨). وهذه العطية موقوفة على الذين يسألون عن معنى المثل ويرغبون في معرفة كل الحق.
أَنْ تَعْرِفُوا أي أن تفهموا بلا مثل القول الواضح، أو أن تدركوا المراد في المثل بواسطة تفسيري المنزه عن الغلط.
أَسْرَارَ أي ما لا يدركه عقل البشر بلا وحي إلهي. وأعظم هذه الأسرار معرفة المسيح حق المعرفة، بدليل القول «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦).
مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أي حقيقة هذا الملكوت وكيفية انتشاره.
وَأَمَّا لأُولَئِكَ أي الذين لا يبالون بي والذين «هم الذين من خارج» (مرقس ٤: ١١).
١٢ «فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ».
متّى ٢٥: ٢٩ ومرقس ٤: ٢٥ ولوقا ٨: ١٨ و١٩: ٢٦
ذكر هذا المبدأ شرطاً لاكتساب المعرفة الروحية. فمراده أن الذي يسمع تعليمه ويحفظه ويعمل بمقتضاه يحصل على معرفة زائدة به. والذي لا يستفيد من المعرفة التي حصل عليها من المسيح ولا يسير بموجبها تؤخذ منه. وهذا مبدأ عام في الحياة الروحية. فلا بد من أن الإنسان يربح أو يخسر في الروحيات، فهو إما أن يتقدم أو أن يتأخر. ولا يمكن أن يقف على نقطة واحدة.
مَنْ لَه أي من يسمع بأذنيه ويدرك بعقله ويقبل بقلبه يستفيد من وسائطه.
مَنْ لَيْسَ لَه أي من لا يستفيد من وسائطه ولا يريد أن يقبل التعليم ويعمل بموجبه، فهذا له شبه العلم. وذلك ليس بشيء عند الله.
سَيُؤْخَذُ مِنْهُ أي تؤخذ منه وسائط النفع والمعرفة القليلة التي حصل عليها من التعليم الروحي. وأورد المسيح نفس هذا المعنى في «مثل الوزنات» في كلامه على صاحب الوزنة الواحدة (متّى ٢٥: ٢٨، ٢٩).
١٣ «مِنْ أَجْلِ هٰذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ، لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ».
مِنْ أَجْلِ هٰذَا أي بناء على المبدأ الذي ذكره في عدد ١٢.
بِأَمْثَال أكثر المسيح التعليم بالأمثال امتحاناً لقلوب السامعين، فأخذ بعضهم ظاهر كلام المثل، ولم يسأل عن معناه، فكان المثل له مجرد قصة. وأخذه البعض الآخر بخلاف ذلك. فالحق في أيدي بعض الناس كمصباح ينطفئ حالما يمسكونه بأيديهم، ويظل في يد الآخرين موقداً يرشدهم إلى السماء.
مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُون الخ ورد مثل هذا الكلام على سبيل المثل في خُطب ديموستينيس وأسكليوس الخطيبين اليونانيين، والمقصود به تأثير الصوت في الأذن دون العقل أو القلب، وبلا فائدة في السلوك. فالمثل بفم المسيح يشبه حجاباً يخفي الحق وراءه، فاكتفى بعضهم بمجرد مشاهدة ذلك الحجاب، ورغب الآخر في إدراك ما وراءه، فرفعه فرأى الحق جلياً. إن المثل يشبه عمود السحاب والنار بين المصريين وبني إسرائيل: مظلم للأولين ومنير للآخرين (خروج ١٤: ٢٠).
١٤ «فَقَدْ تَمَّتْ فِيهِمْ نُبُوَّةُ إِشَعْيَاءَ: تَسْمَعُونَ سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُونَ، وَمُبْصِرِينَ تُبْصِرُونَ وَلاَ تَنْظُرُونَ».
إشعياء ٦: ٩ وحزقيال ١٢: ٢ ويوحنا ١٢: ٤٠ وأعمال ٢٨: ٢٦ ورومية ١١: ٨ و٢كورنثوس ٣: ١٤، ١٥
نُبُوَّةُ إِشَعْيَاءَ انظر إشعياء ٦: ١٠ وهذا إنذار أورده متّى كنبوَّة والأصل العبراني يحتمل المعنيين.
تَسْمَعُونَ سَمْعاً أي تدركون الصوت ولا تستفيدون منه.
مُبْصِرِين الخ تدركون ظاهر الأمر وتغفلون عن المقصود به. فالمعنى أنهم في السمع والإبصار يدركون الظواهر دون الجوهر الروحي.
١٥ «لأَنَّ قَلْبَ هٰذَا ٱلشَّعْبِ قَدْ غَلُظَ، وَآذَانَهُمْ قَدْ ثَقُلَ سَمَاعُهَا. وَغَمَّضُوا عُيُونَهُمْ، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ، وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ».
عبرانيين ٥: ١١
هذا إيضاح لما قبله وتأكيد له. والألفاظ وفق الترجمة السبعينية، وهو يصدق على كل الذين «يحبون الظلمة أكثر من النور» (يوحنا ٣: ١٩).
غَلُظَ أي غلبت حيوانيته على روحانيته فصار بلا شعور بالروحيات.
غَمَّضُوا عُيُونَهُمْ أبوا أن يفتحوها لئلا يبصروا الحق الذي يقودهم إلى التوبة وإصلاح السيرة. فالذي أتوه أولاً عمداً واختياراً وقع عليهم بعد ذلك إجباراً واضطراراً عقاباً لهم.
لِئَلاَّ يُبْصِرُوا... وَيَسْمَعُوا... وَيَفْهَمُوا هذا نتيجة تغميضهم الاختياري وسد آذانهم الإرادي، فإن الله الديان العادل تركهم إلى الظلمة التي اختاروها والجهل الذي رضوه، ليدوموا في الظلمة والعصيان إلى الأبد (مزمور ٨١: ١١، ١٢ وإشعياء ٦٦: ٤).
فَأَشْفِيَهُمْ أي من مرض الخطية.
١٦ «وَلٰكِنْ طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلِآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ».
متّى ١٦: ١٧ ولوقا ١٠: ٢٣، ٢٤ ويوحنا ٢٠: ٢٩
هنأ المسيح تلاميذه هنا بأنهم ليسوا عمياً ولا غليظي القلوب، لأنهم نظروا وأدركوا الحقائق المجيدة التي أعلنها لهم. نعم أنهم كانوا بطيئي الفهم، لكن عيونهم كانت مفتوحة توقعاً لزيادة النور وآذانهم مصغية إلى الصوت الإلهي.
١٧ «فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَاراً كَثِيرِينَ ٱشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا».
عبرانيين ١١: ١٣ و١بطرس ١: ١٠، ١١
هنأهم المسيح بأنهم أدركوا ما لم يدركه الكتبة والفريسيون في عصرهم، ويهنئهم على مشاهدتهم وإدراكهم ما اشتهى الأنبياء والأتقياء القدماء أن يروه ولم يروا. وقد رغب قديسو العصور القديمة أن يشاهدوا المسيح وظهور ملكوته، فلم تكن لهم إلا الرموز والنبوات وظلال الخيرات المقبلة، وأما التلاميذ فصار لهم الجوهر لأنهم رأوا المسيح عياناً وشاهدوا معجزاته وسمعوا تعاليمه من فمه (٢صموئيل ٢٣: ٥ وأيوب ١٩: ٢٣، ٢٧ وعبرانيين ١١: ٤٠) وشرح حال أولئك الأتقياء بطرس الرسول بقوله «الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ» (١بطرس ١: ١٠، ١١). وكانوا ينتظرون التعزية السماوية كسمعان الشيخ، ولكنهم لم ينالوا ما نال من النعمة بأن «أبصرت عيناه خلاص الرب» (لوقا ٢: ٢٥، ٣٠).
١٨ «فَٱسْمَعُوا أَنْتُمْ مَثَلَ ٱلزَّارِعِ».
مرقس ٤: ١٤ الخ ولوقا ٨: ١١ الخ
يقول: يا تلاميذي الذين أنعم عليهم أكثر مما أنعم على غيرهم بتفسير المثل الذي طلبوه: أدركوا بقلوبكم المستنيرة بالروح القدس المعنى المقصود. ويرشدنا شرح المسيح لهذا المثل إلى تفسير ما لم يفسره من الأمثال. فيجب أن نسمع تفسير هذا المثل كما سمعه الرسل لأن فيه ما يحدث كل يوم حيث يُنادى بالإنجيل.
١٩ «كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ ٱلْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ، فَيَأْتِي ٱلشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هٰذَا هُوَ ٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلطَّرِيقِ».
متّى ٤: ٢٣
كَلِمَةَ ٱلْمَلَكُوت بدأ لوقا في شرح هذا المثل بقوله إن «الزرع هو كلمة الله» (لوقا ٨: ١١) وقال المسيح إنه هو زارع الكلمة (متّى ١٣: ٣٧). فكل الذين يبشرون اليوم بكلمته هم زارعون. ولا يستطيع أن يتوقع حصاد النفوس إلا من يزرعون الكلمة الإلهية خالصة.
وَلاَ يَفْهَمُ ذكر المسيح في هذا المثل أربعة أصناف من السامعين. وذكر في هذا العدد أولهم وهو الذي يسمع بأذنه لا بقلبه، أي لا ينتبه لما سمعه ولا يدرك معناه الروحي ولا يعتبر أنه هو المخاطب. وسبب عدم فهمه مذكور في متّى ١٣: ٤ وهو قوله «سقط بعض على الطريق» أي كان قلبه لكثرة الأفكار الرديئة والتأثيرات الشريرة فيه، كالطريق التي تصلَّبت من كثرة المرور عليها، فلم يشقه محراث الناموس ليقبل زرع الإنجيل.
فَيَأْتِي ٱلشِّرِّيرُ أي الشيطان مقاوم ملكوت الله وعدو نفوس الناس، الذي ينتهز دوماً الفرصة لمنع الإنسان عن الاستفادة من كتاب الله، وبذلك يؤكد هلاكه.
يَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِع يفعل الشيطان هذا بأن يصرف أفكار الإنسان عن الحق الذي سمعه إلى الأمور الدنيوية والأهواء، فإنها تسرق الحق بتدبير الشيطان. والشيطان هو رئيس كل ما يسرق الوعظ والإنذار من أذهان السامعين. والقلوب التي تشبه الطريق هي قلوب مشتَّتي الأفكار، الذين لا يتروون في الأمور الأساسية، فلا تؤثر فيهم أهم الحقائق. وللأسف فإن هؤلاء الأكثر عدداً. إنهم مثل المدعوين إلى العرس الذين قيل إنهم «تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ» (متّى ٢٢: ٥) «الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ٤: ٤)
٢٠ «وَٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ هُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ، وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَح».
إشعياء ٥٨: ٢ وحزقيال ٣٣: ٣١، ٣٢ ويوحنا ٥: ٣٥
وصف هنا الصنف الثاني ممن يسمعون الكلمة بلا فائدة. إنهم الزرع المزروع في أرض محجرة. ورجاء الفائدة من هؤلاء أعظم من رجائها من أهل الصنف الأول. ولكن النتيجة واحدة، فمجرد سماع الكلمة لا يكفي للخلاص. وأهل الصنف الثاني هم الذين يقبلون الإنجيل ولا يحسبون النفقة من إنكار الذات والاضطهاد والمشقات (لوقا ١٤: ٢٥ - ٣٣).
حَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَح هذا الفرح ليس هو الفرح المذكور في غلاطية ٥: ٢٢ بأنه أحد ثمار الروح، لأن ذلك الفرح يتبع التوبة عن الخطية، لكنه وقتيٌّ ناتج عن النظر في الوعود بالسعادة الأبدية. فلذة السامعين بالوعظ ليست برهاناً على أنهم استفادوا منه، بدليل قول الله للنبي «هَا أَنْتَ لَهُمْ كَشِعْرِ أَشْوَاق لِجَمِيلِ الصَّوْتِ يُحْسِنُ الْعَزْفَ، فَيَسْمَعُونَ كَلاَمَكَ وَلاَ يَعْمَلُونَ بِهِ» (حزقيال ٣٣: ٣٢) وكذلك مجرد دموع السامعين ونذورهم وعزمهم لا يؤكد تجديد قلوبهم. فاستعارة التربة الرقيقة فوق الصخور مناسبة لأصحاب الانفعالات السريعة الزوال. فكان البذار في أول المثل كلمة الله. ولما صار زرعاً كان المراد به السامعين لها.
٢١ «وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ».
متّى ١١: ٦ و٢تيموثاوس ١: ١٥
لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ إما لأنه ليس له مبادئ راسخة كالإيمان والتوبة والمحبة لله، أو لأن الحق لا يتأصل في ذاكرته وضميره وأشواقه ومقاصده. يعترف أنه مسيحي، لكنه لم يولد ثانية. وهذا الصنف كالبيت المبني على الرمل (متّى ٧: ٢٦) وكالمصابيح بلا زيت (متّى ٢٥: ٢).
إِلَى حِينٍ يبقى وقتاً يعترف بالمسيح.
ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ إذا كان الإنسان مسيحياً بالحق ينشئ فيه الاضطهاد زيادة القداسة والاستعداد للسماء. ولكن كما أن حرارة الشمس تفيد الزرع في التربة العميقة وتحرقه في التربة الرقيقة (ع ٦) فكذلك الضيقات تجعل صاحب الانفعالات السريعة الزوال، ينكر ما كان قد اعترف به. والزرع في المثل لم ييبس لشدة حرارة الشمس، بل لأن ليس له أصل. فليس للأحوال تأثيرٌ في المسيحي الحقيقي «المتأسس والراسخ» في الإيمان.
فَحَالاً يَعْثُر وتعثُّره سريعٌ سرعة قبوله الحق. فإنه فتح قلبه الحق بالفرح متوقعاً المسرة، فلما نزلت به الشدائد عثر وسقط، بدل من أن يصعد عليها ويرتقي بواسطة الإيمان والصلاة.
٢٢ «وَٱلْمَزْرُوعُ بَيْنَ ٱلشَّوْكِ هُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَغُرُورُ ٱلْغِنَى يَخْنُقَانِ ٱلْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ».
إرميا ٤: ٣، ٤ ومتّى ١٩: ٢٣ ومرقس ١٠: ٢٣ ولوقا ١٨: ٢٤ و١تيموثاوس ٦: ٩ و٢تيموثاوس ٤: ١٠
وصف هنا الصنف الثالث من السامعين، وهم الذين أرادهم بالزرع المزروع بين الشوك. وهم الذين سمعوا الحق واعترفوا به موقتاً. وهم يختلفون عن المزروعين في الأرض المحجرة لأن هؤلاء عثروا وتركوا الحق من الاضطهاد، وأما أولئك فخدعتهم الشهوات واللذات عن الاستمرار في الحق.
هَمُّ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أي كثرة الانهماك وزيادة الاعتناء بأمور هذه الحياة كالطعام والكسوة وسائر لوازم الجسد، لأن الهموم الجسدية هي من أعظم الموانع للنمو في النعمة والتقوى، إذ هي تمنع الناس من طلب ملكوت الله أولاً.
هم الذين يريدون الأمرين معاً: الله والمال، بل ويعبدونهما معاً، متناسين قول المسيح «لا تعبدوا ربَّين: الله والمال» وهذا لا يعني أن لا يكون لنا مال، بل أن لا يكون للمال سلطان علينا، فلا نسلمه قيادتنا ولا نُستعبد له لئلا نشقى به وتموت كلمة الله في نفوسنا.
غُرُورُ ٱلْغِنَى أي محبة المال وزيادة الرغبة في إحرازه وشدة التمسك به بعد الحصول عليه، لأن هذه هي الأشواك التي تخنق الكلمة في قلب الإنسان. فالخطر للنفس من الغِنى أكثر منه في الفقر، لأن المال يفعل خفية. وأضاف الغرور إلى الغنى، لأن الناس لا يحصلون على الفائدة التي يتوقعونها من الغِنى، فإنهم ينتظرون السعادة الدنيوية منه فيجدون الشقاء الأبدي. والذين يسرعون إلى إدراك الغنى بغية السعادة منه، والذين يحسبون أنفسهم سعداء لأنهم أدركوه بالرغم من أنهم مغرورون ينطبق عليهم القول «وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ، فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ، تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ» (١تيموثاوس ٦: ٩). لكن يصعب على أكثر الناس أن يدركوا أن الغنى شوك، لأنهم يحسبونه من خير النعم. ولكنه يشبه بالشوك لأن عاقبته تجرح النفس جرحاً عميقاً وتؤلمها إيلاماً شديداً.
بِلاَ ثَمَرٍ كلمة الله (في هذه الحالة) تكون كالزرع الذي لا يأتي بالثمر المطلوب من إصلاح قلب الإنسان وسيرته.
٢٣ «وَأَمَّا ٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ فَهُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ».
وصف هنا الصنف الرابع من الناس الذين سمعوا الكلمة وقبلوها (كالصنفين السابقين) وخالفوهم بأنهم انتصروا على موانع الإثمار، فأثمروا، وأظهروا بأعمالهم وثباتهم نتيجة ما أثرته كلمة الحق في قلوبهم. فهذا الصنف وحده يحقق قصد الزارع.
ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ هي القلب الذي ألانته نعمة الله وأعدته لقبول الحق قولاً وفعلاً. فهو مثل قلب ابن السلام (لوقا ١٠: ٦) وقلب ليديا (أعمال ١٦: ١٤) وقلوب أهل بيرية (أعمال ١٧: ١١). والناس مسؤولون عن أحوال قلوبهم، واللوم عليهم إذا لم تكن قلوبهم كالأرض الجيدة.
يَأْتِي بِثَمَر هذا هو البرهان الوحيد الكافي على أن السامعين للكلمة الإلهية استفادوا. فعلامات استفادتهم من الكلمة ثلاث: إصغاؤهم إليها، وإدراكها مع اعتبارها موجَّهة إليهم، وطاعتهم إياها. وهذه الطاعة هي الثمر.
بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ الخ اختلاف هذه الأعداد إشارة إلى اختلاف مقدار الاستفادة من الأمانة والغيرة وممارسة الصلاة. فيختلف المسيحيون في مقدار الفضائل وإظهار أثمار الروح ونفعهم للغير. فعلى جميع المسيحيين أن يجتهدوا في أن يصيروا كالأرض الجيدة التي تصير مئة ضعف، أي أن يكونوا مثل إبراهيم الخليل في الإيمان، وأيوب الصديق في الصبر، ويوحنا البشير في المحبة، وبولس الرسول في الغيرة. وذلك وفق قول المسيح «بِهذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي: أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» وقوله «أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ» (يوحنا ١٥: ٨، ١٦) وقول رسوله «كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ» (يعقوب ١: ٢٢) وقول نبيه «اِزْرَعُوا لأَنْفُسِكُمْ بِالْبِرِّ. احْصُدُوا بِحَسَبِ الصَّلاَحِ. احْرُثُوا لأَنْفُسِكُمْ حَرْثًا، فَإِنَّهُ وَقْتٌ لِطَلَبِ الرَّبِّ حَتَّى يَأْتِيَ وَيُعَلِّمَكُمُ الْبِرَّ» (هوشع ١٠: ١٢).
٢٤ «قَالَ لَـهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ».
قَالَ لَهُمْ مَثَلاً كالأحجية لينبِّه أفكارهم ليبحثوا عن معناه الروحي.
مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ أي الملكوت الجديد الذي أتى المسيح ليبدأه على الأرض ويتممه في السماء.
إِنْسَاناً زَرَعَ أي أحوال الإنسان أو ما يحدث كثيراً للإنسان.
زَرْعاً جَيِّداً أي نافعاً كالحنطة ومن أحسن الأنواع.
٢٥ «وَفِيمَا ٱلنَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ ٱلْحِنْطَةِ وَمَضَى».
فِيمَا ٱلنَّاسُ نِيَامٌ أي في الليل الذي هو وقت النوم وزمن انتهاز الأشرار خفية. فلا لوم على صاحب الحقل ولا على خدامه بأنهم ناموا.
عَدُوُّه أي أحد جيرانه ممن أرادوا ضرره.
زَوَان صنف من الحبوب يشبه الحنطة شكلاً ولكن علاوة على عدم نفعه فهو ضارٌّ. فالمسيح لم يفترض نوعاً من الأذية لم يكن معهوداً للناس، فالأشرار الذين يحبون الانتقام ولا يخافون الله موجودون دائماً، يسهل عليهم أن يأتوا خفية ويضرون غيرهم.
وَمَضَى خفية كما أتى، ولم يحتج بعد ذلك إلى عناء لكي ينتج الشر مما فعل.
٢٦ «فَلَمَّا طَلَعَ ٱلنَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً، حِينَئِذٍ ظَهَرَ ٱلزَّوَانُ أَيْضاً».
لا يظهر الفرق بين الحنطة والزوان في أول الإنبات، لكن متّى ظهرت السنابل ظهر جلياً. وكذلك قلّما نميِّز الشرور في أول حدوثها.
٢٧ «فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ ٱلْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟».
يظهر من هذا أن هؤلاء العبيد لم يكونوا كسالى أو نياماً حين يجب أن يسهروا لأنه حين ظهر الشر انتبهوا له وأخبروا به سيدهم.
أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً أرادوا بالاستفهام هنا إثبات أن الزرع كان جيداً حقيقةً، وفيه تعجب وحيرة من النتيجة التي هي خلاف المنتظر.
فَمِنْ أَيْنَ زَوَانٌ يصح أن نحسب معظم تعاليم البشر جواباً لهذا السؤال لكثرة الآراء الفاسدة، مع أن تعليم المسيح كان زرعاً جيداً.
فسر المسيح هذا المثل بعد ذلك ولم يذكر أحداً من أولئك العبيد. فيكون أن ذكرهم جاء تكملة عرضية للمثل لا لغرض آخر. وإن كان ذكرهم لقصد فهم إشارة إلى المسيحيين الذين يغارون على طهارة الكنيسة، وغيرتهم هي أعظم من حكمتهم، مثل ابني زبدي اللذين أرادا أن تنزل نار من السماء وتحرق السامريين (لوقا ٩: ٥٤).
٢٨ «فَقَالَ لَـهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هٰذَا فَقَالَ لَهُ ٱلْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟».
عَدُوٌّ زرع الزوان وسط الحنطة لا يفعله إلا من تمكنت العداوة في قلبه فلا يمكن أن يفعله صديق.
فَعَلَ هٰذَا أي في وقت الفراغ.
نَجْمَعَهُ أي الزوان.
٢٩ «فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا ٱلْحِنْطَةَ مَعَ ٱلزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ».
منع السيد قلع الزوان لأنه يأتي بالشر أكثر من الخير. لا ريب في أن الزوان يضر بالحنطة، ولكن قلعه في أول الأمر أكثر ضرراً من تركه، لأنه يصعب حينئذٍ أن يتميَّز عن الحنطة، فيحتمل أن تُقلع الحنطة معه. وعلى هذا النسق يصبر الله على الأشرار لأجل الأخيار.
٣٠ «دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً إِلَى ٱلْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ ٱلْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: ٱجْمَعُوا أَوَّلاً ٱلزَّوَانَ وَٱحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا ٱلْحِنْطَةَ فَٱجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي».
ملاخي ٤: ١ ومتّى ٣: ١٢
ترك رب الحصاد الزوان ينمو مع القمح، دون أن يتغافله، لأنه قصد أن يفصل الواحد عن الآخر في وقت الحصاد ويجمع النافع ويحرق الضار. وفسر المسيح ذلك بعدئذٍ.
٣١، ٣٢ «٣١ قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، ٣٢ وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُورِ. وَلٰكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ ٱلْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ ٱلسَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا».
إشعياء ٢: ٢، ٣ وميخا ٤: ١ ومرقس ٤: ٣٠ الخ ولوقا ١٣: ١٨، ١٩
هذا مثل ثالث ضربه المسيح وأخذه من حياة المزارع، لأن كل سامعيه كانوا يعرفونها.
حَبَّةَ خَرْدَلٍ أي بزرة واحدة
أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُور أي البزور التي يزرعها الناس. وبينها وبين نبتها أعظم تباين في المقدار. وتستعار حبة الخردل كثيراً للأمر التافه والزهيد (لوقا ١٧: ٦).
وَتَصِيرُ شَجَرَة أي تنمو حتى تستحق أن تُحسب من الأشجار.
حَتَّى إِنَّ طُيُورَ الخ أي أن نبتة الخردل تبلغ كالأشجار قدراً يصح معه أن تستظل الطيور بها.
والمشابهة بين ملكوت المسيح أي كنيسته وحبة الخردل تقوم بثلاثة أمور.
- صغر كل منهما في أول أمره.
- نمو كل من الكنيسة والبزرة بالتدريج الدائم في هدوء وبلا مراقبة.
- عظمة النتيجة في كليهما بالنسبة إلى أول أمره. فإن الكنيسة وإن كانت صغيرة في بدايتها وُعدت بأن تصير عظيمة تمتد إلى أقاصي الأرض. وبذلك تختلف عن برج بابل فإنه قصد أن يكون رأسه في أول الأمر بالغاً السماء فصار ردماً من اللبن والتراب. ويظهر التشابه بين الكنيسة وحبة الخردل من النظر إلى مؤسسها: وهو طفل في بيت لحم، والنظر إليه في ممارسته وظيفته وهو ابن ثلاثين سنة بلا غنى ولا رتبة ولا جند، والنظر إليه وهو معلم نحو ثلاث سنين في مدن فلسطين وقراها يتبعه قليل من التلاميذ الأميين الفقراء، ثم انتهت حياته الأرضية بموته المهين على الصليب، ومن النظر إلى الكنيسة بعد قيامة المسيح حين اجتمع الأحد عشر رسولاً في علّية أورشليم، وكان عدد المؤمنين ١٢٠ فأخذت تنمو وتزيد من يوم الخمسين فصاعداً حتى انتشر الإنجيل بعد ثلاثين سنة في كل ما عُرف من المسكونة يومئذٍ. وبعد ثلاث مئة سنة صارت ديانة المسيح ديانة المملكة الرومانية ولم تزل تمتد منذ ذلك العهد إلى اليوم.
ويظهر صدق التشابه إذا نظرنا إلى أول بدء ملكوت المسيح في قلب الإنسان، فيحتمل أن يكون البدء من سماع آية من الكتاب المقدس أو موعظة في الكنيسة، أو نصيحة من صاحب، ومن ذلك نتجت دموع التوبة مع قليل من انفعالات الإيمان والمحبة، ثم تظهر علامات النمو في النعمة بالانتصار على الخطية والشهوات وإظهار الفضائل المسيحية وثمار الروح، حتى يتم العمل في السماء وتحصل النتيجة وهي القداسة الكاملة. فما أعظم الفرق بين حال بولس حين قال عند بدء إيمانه قرب دمشق «يا رب ماذا تريد أن أفعل؟» وحاله حين قال في آخر حياته «أَنَا الآنَ أُسْكَبُ سَكِيبًا، وَوَقْتُ انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ. قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ. وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ» (٢تيموثاوس ٤: ٦ - ٨) وبين حال الابن الضال حين وهو جائع وعريان «أقوم وأذهب إلى أبي» وحاله وهو جالس في بيت أبيه لابساً الحلة الأولى والخاتم في يده والوليمة أمامه.
وفي هذا المثل كما في مثل الزوان، الزارع الأصلي هو المسيح، والزرع هو الكلمة تنبت في قلوب المؤمنين، والحقل هو العالم الذي تنمو الكنيسة في وسطه.
٣٣ «قَالَ لَـهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا ٱمْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيعُ».
لوقا ١٣: ٢٠، ٢١
هذا المثل الرابع وموضوعه كموضوع سابقه: نمو ملكوت المسيح من بدءٍ صغير في الكنيسة وفي قلب المؤمن. والفرق بينه وبين المثل السابق هو أن الأول يتكلم عن علامات النمو الظاهر، والثاني عن النمو الخفي الذي يغيِّر كل الصفات إلى مثل صفات الخميرة، بلا انقطاع حتى يعم تأثيره.
يجب أن تذوب الخميرة وتمتزج بالعجين، فهي لا تريد المجد لنفسها، بل تفعل فعلها غير ظاهرة، ولا تطلب أجراً ولا شكراً. فإن كنا من أهل النعمة الذين يطلبون الخير والإصلاح يجب أن ننسى نفوسنا ونذكر الواجب العظيم الذي أمامنا، فيزيد تأثيرنا بنسبة اختفائنا وراء صليب المسيح الغافر الآثام.
خَمِيرَةً من صفات الخميرة أنها إذا وُضعت في مادة تختلف عنها حوَّلتها كلها حتى صارت مثلها. فهكذا النعمة في قلب الإنسان تحول كل صفاته إلى مثل صفاتها. ومثلها ملكوت الله الذي وُضع بين ممالك العالم حتى يجعلها كلها مثله، وذلك بواسطة تأثير كل مؤمن في غيره تأثير المحبة والغيرة والطاعة التي تمتد من قلب إلى قلب ومن بيت إلى بيت ومن بلاد إلى بلاد، بذهاب المبشرين حاملين إنجيل السلام. ونتيجة ذلك كله اختمار أرضنا بخميرة الإنجيل السماوي، فتصير مثل السماء حيث تتحول قلوب الناس وتتغير وتصير مثل قلب الله في الطهارة.
أَخَذَتْهَا أي من خارج العجنة. فكذلك إنجيل المسيح أتى إلى هذا العالم وإلى قلب كل إنسان من الخارج، أي من السماء. فهو ليس بنشوءٍ طبيعي، ولا بإصلاح موجود، بل بخَلْق جديد.
ٱمْرَأَةٌ خص المرأة بالذكر لأن العجين من اختصاصها.
خَبَّأَتْهَا أي خلطتها بالعجين حتى لم تتميز عنه لكنها تفعل بقوة.
ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ وذلك هو الإيفة عند العبرانيين وهو مقدار العجنة المعتادة (تكوين ١٨: ٦ وقضاة ٦: ١٩ و١صموئيل ١: ٢٥). فليس للعدد قصد في المثل، وإنما ذُكر بناء على الواقع.
حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيع في هذا الكلام تاريخ ماضي الكنيسة وإنباءٌ بمستقبلها. ومن تأثيرات الإنجيل التي تشبه تأثير الخميرة إلغاء كثير من عبادة الوثنيين وعاداتهم، وتجارة العبيد ونحوها. ومنها ترقية أحوال المرأة، وتقليل الحروب ونزع قساوة المتحاربين، وإلغاء المبارزة الشخصية ونشر التمدن والعلم بدل التوحش والجهل. وحصول كل ذلك تدريجياً بهدوء كفعل الخميرة في العجين لا فجأة باضطراب عظيم كالزلزلة. وكما حدث في الماضي يحدث في المستقبل، فسيغلب دين المسيح كل قوات الشر في العالم. وهو يقدس كل قلب يدخله تقديساً كاملاً.
عجب بعضهم من استعارة المسيح الخمير لملكوته، لأن الخميرة تُستعار للرياء والخبث (لوقا ١٢: ١ و١كورنثوس ٥: ٧ وغلاطية ٥: ٩) ومُنع الخمير من أن يكون في التقدمات (خروج ١٣: ٣ ولا ٤: ١١) باستثناء واحدة منها (لا ٢٣: ١٧). ولكن استعارة الخميرة في بعض صفاتها للشر لا تمنع استعارتها في غير تلك الصفات للخير، فإن الخميرة تنفخ العجين فيزيد حجمه، وبذلك يصح أن تستعار للخبث والفساد. ولكن إذا كان مقداراها معتدلاً فهي تجعل الخبز ألذ طعماً وأسهل هضماً وأوفق للصحة، وبذلك يصح أن تستعار للإصلاح. وظن البعض أن الكتاب المقدس اعتبر الخميرة مادة فعالة مؤثرة في الغير بقطع النظر عن بقية صفاتها، فاستُعيرت أحياناً لقوة فعالة للصلاح، وأحياناً أخرى لقوة فعالة للفساد. وعلى هذا الأسلوب استعير الأسد للمسيح جل وعلا (رؤيا ٥: ٥) واستعير للشيطان عدوه (١بطرس ٥: ٨).
ولنا مما ذكر أن أوجه الشبه بين الخميرة والدين المسيحي ستة: (١) أن كلاً منهما ليس شيئاً في أول أمره. (٢) أن كلاً منهما ليس مما يؤثر فيه بل هو أمر خارج عنه. (٣) أنه لا بد من تأثير كل منهما في غيره عند اختلاطه به (عبرانيين ٤: ١٢ وأعمال ١٧: ٦). (٤) أن كلاً منهما ما يؤثر هو فيه مثله تماماً (١كورنثوس ٥: ٦). (٥) أن كلاً منهما يؤثر باطناً بالهدوء (مر ٤: ٢٧ ولوقا ١٧: ٢٠، ٢١). (٦) أن مفعول كلٍ منهما يؤثر في غيره، فالعجين المختمر يخمر غيره، والمسيحي بالحق يجعل غيره مسيحياً.
٣٤ «هٰذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ ٱلْجُمُوعَ بِأَمْثَالٍ، وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ».
مرقس ٤: ٣٣، ٣٤
هٰذَا كُلُّهُ ليس المراد من هذا أن المسيح من ذلك الوقت لم يكلم الجموع إلا بالأمثال، لأنه كثيراً ما خاطب الجموع بعد ذلك بغير الأمثال. لكن المعنى أنه في الوقت الذي بدأ فيه يعلم بأمثال وروى هذه الأمثال السبعة، اقتصر على هذا الأسلوب من تعليمه.
٣٥ «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلنَّبِيِّ: سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ».
مزمور ٧٨: ٢ ورومية ١٦: ٢٥، ٢٦ و١كورنثوس ٢: ٧ وأفسس ٣: ٩ وكولوسي ١: ٢٦
من عادة متّى أنه يأتي بالنبوات لبيان أنها تمت بما فعله المسيح، وهنا أبان أن تعليمه بالأمثال إتمام لنبوءة.
مَا قِيلَ في مزمور ٧٨: ٢ على ما في الترجمة السبعينية.
بِٱلنَّبِيِّ أي آساف كما في عنوان المزمور. وسمي آساف الرائي (٢أخبار ٢٩: ٣٠) والرائي هو النبي (١صموئيل ٩: ٩). ويظهر أن حوادث هذا المزمور تاريخية، ولكن لا مانع من أن تكون رمزية أيضاً تشير إلى مجيء المسيح وملكه.
٣٦ «حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ ٱلْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى ٱلْبَيْتِ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ ٱلْحَقْلِ».
صَرَفَ أي أذن لهم في الذهاب لانتهاء خطابه لهم.
ٱلْجُمُوعَ هم الذين ذُكروا في العدد الثاني من هذا الأصحاح.
ٱلْبَيْتِ الأرجح أن ذلك بيت سمعان بطرس في كفرناحوم (انظر تفسير ٨: ١٤).
تَلاَمِيذُهُ لا الاثنا عشر فقط، بل غيرهم معهم (مرقس ٤: ١٠).
٣٧ «فَأَجَابَ: ٱلزَّارِعُ ٱلزَّرْعَ ٱلْجَيِّدَ هُوَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ».
هذه مرة ثانية شرح بها المسيح مثلاً، وهو يشبه تفسيره لمثل الزارع في الاختصار والوضوح والنظر إلى الجوهر دون العرض.
ٱلزَّارِعُ أي المذكور في عدد ٢٤ من هذا الأصحاح.
ٱبْنُ ٱلإِنْسَان أي المسيح في حال اتضاعه (متّى ٨: ٢٠). وكان بدء زمن ذلك المثل بدء خدمة المسيح على الأرض. وهو لا يزال يزرع الزرع على يد المبشرين بالإنجيل والمعلمين والوالدين الأتقياء وسائر المسيحيين بالحق، وهم يزرعون بأقوالهم وأفعالهم.
٣٨ «وَٱلْحَقْلُ هُوَ ٱلْعَالَمُ. وَٱلزَّرْعُ ٱلْجَيِّدُ هُوَ بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ. وَٱلزَّوَانُ هُوَ بَنُو ٱلشِّرِّيرِ».
متّى ٢٤: ١٤ و٢٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٥، ٣٠ ولوقا ٢٤: ٢٧ ورومية ١٠: ١٨ وكولوسي ١: ٦ وتكوين ٣: ١٣ الخ ويوحنا ٨: ٤٤ وأعمال ١٣: ١٠ و١يوحنا ٣: ٨
ٱلْحَقْلُ هو الذي زُرع فيه الزرع الجيد والزوان، وهو العالم الذي كان المسيح قد أخذ يؤسس فيه كنيسته فتكون جزءاً منه. ولم يكن التلاميذ محتاجين إلى أن يبين لهم المسيح بمثله اختلاط الأبرار بالأشرار في العالم بأسره، لأن ذلك معروف. إنما أراد أن يوضح لهم أن ذلك الاختلاط يكون في الكنيسة أيضاً كما يظهر من قوله «من ملكوته» (متّى ١٣: ٤١). وفسر الحقل بالعالم لأنه جمع كنيسته منه، ولأن كنيسته أخيراً ستشمل كل أهل الأرض.
بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ أي أصحابه وورثة بركاته، لا بالميلاد ولا بالإرث الدنيوي، بل بالنعمة. وسموا «الزرع الجيد» لأن كلمة الله التي عبر عنها بذلك الزرع في عدد ١٩ زُرعت في قلوبهم وصارت واسطة تجديدهم. فأثمرت أعمالاً صالحة (يعقوب ١: ١٨ و١بطرس ١: ٢٧). وقد قسم المسيح كل صنوف البشر إلى قسمين فقط.
بَنُو ٱلشِّرِّير أي أولاد الشيطان وهم الزوان المذكور في عدد ١٩ وسُموا أولاد الشيطان لأنهم يشبهونه في صفاتهم، وهو يقودهم، وهم خاصته لأنهم نسل الحية ويعملون أعماله في العالم وسيشاركونه في العذاب أخيراً (متّى ٢٥: ٤١).
٣٩ «وَٱلْعَدُوُّ ٱلَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ. وَٱلْحَصَادُ هُوَ ٱنْقِضَاءُ ٱلْعَالَمِ. وَٱلْحَصَّادُونَ هُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ».
يوئيل ٣: ١٣ ورؤيا ١٤: ١٥.
ٱلْعَدُوُّ هو المذكور في عدد ٢٥ وهو عدو المسيح وعدو الإنسان منذ القديم (تكوين ٣: ١٥).
إِبْلِيسُ هو الشيطان ومعناه واشٍ أو مشتكٍ (متّى ٤: ١). ومعنى الشيطان «خصم». وسُمي في عدد ٣٨ بالشرير لأنه أعظم الأشرار شراً في ذاته، وهو علة الشر في غيره. وهو على الدوام يعارض المسيح، فالمسيح يزرع الزرع الجيد وهو يزرع الرديء، ويرسل المسيح أنبياء صادقين وهو يرسل أنبياء كذبة. فلا بد من أن يكون «ضد المسيح» حيث يكون المسيح على الأرض، وأظهر الشيطان أشد أعماله حين كان المسيح على الأرض. وهو رئيس ملكوت الظلمة الباذل جهده في منع تأسيس ملكوت النور. وقد ظهر في هذا المثل إدخاله أولاده بين أولاد الملكوت أي كنيسة المسيح على الأرض. وتعليم المسيح هنا يبين لنا أن لا نتوقع الطهارة الكاملة في الكنيسة، فلا بد من وجود المرائين بين المؤمنين الحقيقيين، كيهوذا الإسخريوطي بين الإثني عشر. ونرى سرعة نبت الزوان في الكنيسة الجديدة من قصة حنانيا وامرأته سفيرة (أعمال ٥).
ولم يفسر المسيح طلب الخدام أن يقلعوا الزوان ونهي رب الحقل إياهم عن ذلك، فيجوز تفسير ذلك بمقارنته بباقي تعاليم الكتاب المقدس. فليس هناك ما يمنع الكنيسة من تأديب أعضائها على أعمال مضادة لشريعة الله ومضرة لطهارة الكنيسة وراحتها، فإن وجوب ذلك التأديب جليٌّ في الإنجيل. لكن منع الخدام من قلع الزوان يمنع الكنيسة من إجبار المرائين والضالين ليرجعوا عن ريائهم وضلالهم، ويمنعها من قصاص المعاندين لها بذاتها، ويمنعها من معاملة أولادها العصاة بطريق لا تُبقي بها لهم فرصة التوبة والإصلاح والرجوع إليها.
ونستنتج من كلام المسيح أنه لا يريد أن يخرج تلاميذه الحقيقيون من كنيسةٍ إن وُجد فيها بعض المرائين، فيخرجون منها ويؤسسون كنيسة منفصلة عنهم لستة أسباب: (١) أن الذين يفعلون ذلك يخالفون أمر المسيح بقوله «دعوهما ينميان كلاهما معاً» وهم في خطر السقوط في هاوية الكبرياء الروحية. (٢) أنه لا يمكن لأحد فصل المرائين عن المخلصين إلا الذي يفحص القلوب والكلى. (٣) إنه يخشى أن يُحسب الأخ ضعيف الإيمان مرفوضاً من النعمة ويُقطع. (٤) إن اختلاط النوعين في الكنيسة يمتحن إيمان خدام المسيح الحقيقيين وإخلاصهم وصبرهم. (٥) إن إبقاء المرائي في الكنيسة فرصة لتوبته ورجوعه إلى الله، فإن بقي على حاله لم تكن له حجة يوم الدين. (٦) إن المسيح أجَّل الانفصال إلى يوم الحساب وحينئذٍ يكون تحت نظره بدليل قوله «فِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ.. الخ» (متّى ١٣: ٣٠).
ٱلْحَصَادُ أي حصاد الله، وهو جمع غلة العالم في كل أزمانه من بدء الخليقة إلى يوم الدين من خيرٍ وشر، لتمييز الواحد عن الآخر وفصله عنه إلى الأبد.
ٱنْقِضَاءُ ٱلْعَالَمِ أي نهاية حال العالم الحاضرة بالنسبة إلى الأبدية، فهو الوقت المعين للفصل.
ٱلْحَصَّادُونَ أي الفعلة الذين يستخدمهم الله للجمع والفصل.
ٱلْمَلاَئِكَةُ هم أرواحٌ أرفع رتبة من البشر منزهون عن العوارض الجسدية والنقص البشري. وأضافهم إلى الله بقوله «ملائكته» لأنهم يطيعون أوامره ويتممون مقاصده. فيليق أن يكونوا الحاصدين لأنهم أصدقاء أمناء للصالحين وأعداء عادلون للأشرار (دانيال ٧: ٩، ١٠).
٤٠ «فَكَمَا يُجْمَعُ ٱلزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِٱلنَّارِ هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱنْقِضَاءِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ».
يهلك الأشرار حالَ فصلهم عن الأخيار.
يُجْمَعُ ٱلزَّوَان وهذا قصاص للأشرار أن يُجمعوا معاً، فما أكره هذه الرفقة!
وَيُحْرَقُ بِٱلنَّارِ لا إهلاك كامل كالإهلاك بالنار المعهودة، ولذلك استعارها الكتاب المقدس لهلاك الأشرار التام في نار جهنم.
٤١ «يُرْسِلُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ ٱلْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي ٱلإِثْمِ».
متّى ١٨: ٧ و٢بطرس ٢: ٢، ٢
ٱبْنُ ٱلإِنْسَان هو الذي يُجري كل تلك الأمور وهو الشخص المُهان نفسه الذي كان يخاطبهم يومئذٍ، فإن المسيح وإن احتمل الأشرار بطول الأناة لا يحتملهم إلى الأبد.
جَمِيعَ ٱلْمَعَاثِرِ أي أصحاب المعاثر المضلين، وهم الذين يوقعون غيرهم في الإثم.
٤٢ «وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ ٱلنَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ».
متّى ٣: ١٢ ورؤيا ١٩: ٢٠ و٢٠: ١٠ ومتّى ٨: ١٢، ٥٠
هذا إضافة وتوضيح لعدد ٤٠ وتأكيد له، فإن عدد ٤٠ ذكر كمال الهلاك، وهذا العدد أوضح شدة العذاب المتعلق به. فعلينا أن نلاحظ أن النار هنا للقصاص والهلاك، لا للتطهير.
٤٣ «حِينَئِذٍ يُضِيءُ ٱلأَبْرَارُ كَٱلشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَع».
هذا تفسير لعدد ٣٠ فسر فيه الحنطة المذكورة هناك بالأبرار.
كَٱلشَّمْسِ وجه الشبه البهاء والطهارة والبهجة وإنارة الغير. وكثيراً ما عبر عن السعادة السماوية بالنور كما عُبر عن جهنم بالنار. وقوله «حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ» يدل على أن مجدهم كان محجوباً قبل ذلك (أمثال ٤: ١٨ ودانيال ١٢: ٣ وكولوسي ٣: ٣ ورومية ٨: ١٨). فجمال الكنيسة لا يظهر كما هو بالحق إلا بعد فصل الأشرار.
فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِم يعترف الله بأن الأبرار أولاده وورثته، وذلك من خير بركات الله عليهم.
مَنْ لَهُ أُذُنَانِ الخ انظر متّى ١١: ١٥.
٤٤ «أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ كَنْزاً مُخْفىً فِي حَقْلٍ، وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَى ذٰلِكَ ٱلْحَقْلَ».
إشعياء ٥٥: ١ وفيلبي ٣: ٧، ٨ ورؤيا ٣: ١٨
مرَّ في عدد ٣٦ أن المسيح صرف الجموع. فالأمثال الثلاثة الباقية من السبعة ضربها في البيت لتلاميذه فقط.
مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ أي مُلك المسيح الجديد الروحي.
كَنْز تكلم المسيح في المثلين السابقين عن نمو ملكوته الغريب من بداية صغيرة، ثم تكلم عن علاقته بكل فرد من المؤمنين كمقتنى خاص. ولا يُسمى كنزاً إلا ما هو ثمين. ففي ملكوت السماوات الغنى الحقيقي، لأن فيه رضى الله والحياة الأبدية والميراث الذي لا يضمحل. وهذا وحده يشبع نفس الإنسان. وأفضل الكنز السماوي هو المسيح «الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ» (كولوسي ٢: ٣).
مُخْفىً فِي حَقْلٍ كانت عادة الأغنياء في الأزمنة القديمة أن يدفنوا أموالهم في الأرض أوقات الخطر (أيوب ٣: ٢١ وأمثال ٢: ٤ وإرميا ٤: ٨). وقوله «مخفى» ليس له معنى جوهري لكنه من الضروريات للمثل لأنه لا يمكن إيجاده ما لم يكن مخفى. ولا شك أن الكنوز الروحية مخفاة عن عيون أهل العالم من عمى قلوبهم، لا لأن الله قصد إخفاءها. قال الرسول «وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا» (١كورنثوس ٢: ١٤). وقال أيضاً «لَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ» (٢كورنثوس ٤: ٤).
وَجَدَهُ إِنْسَان أحياناً يجد بعض الناس كنزاً مخفى منذ قديم، ولعله هذا ما حدث حينئذٍ في تلك المنطقة، وشاع أمره بين الجميع.
فَأَخْفَاه إلى أن اشتراه فصار له الحق الشرعي أن يملكه. ولم يرد في المثل أن هذا حلال أو حرام، لأنه ليس من غرض المسيح، وإنما ذكره على ذلك النسق هو المعهود من أمثاله. ولم يخفِ الواجد الكنز خشية أن يأخذه غيره، بل خشية أنه هو يخسره. فالمقصود من ذلك رغبة الواجد في استعمال كل الوسائط ليملك ذلك الكنز، توضيحاً لوجوب الاجتهاد في طلب ملكوت السماء والاحتراس من كل ما يمنع من ذلك. ولكن لا حاجة أن نخفي الكنز السماوي عن غيرنا حتى نتمتع به، فإنه يكفي ليُغني كل العالم. وعلى قدر عدد الذين ندعوهم إلى مشاركتنا فيه يزيد سرورنا. فأندراوس حين وجد المسيح الذي هو أعظم كنوز السماء أخبر فيلبس، وفيلبس أخبر نثنائيل بقوله «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ» (يوحنا ١: ٤٥).
بَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَه الخ ليس المقصود من ذلك أن الكنوز السماوية تُشترى بمالٍ، لأنها «بلا فضة وبلا ثمن» (إشعياء ٥٥: ١). ولكن الكتاب يشير إلى الحصول على الشيء بشرائه (أمثال ٢٣: ٢٣ ومتّى ٢٥: ٩، ١٠ ورؤيا ٣: ١٨). فلعله أراد بقوله «باع كل ما كان له الخ» إن طالب الخير السماوي يترك كل شيء يمنعه عن إدراك ذلك الخير، وفقاً لقول بولس «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيح» (في ٣: ٧، ٨) ووفقاً لقول المسيح «إِنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. َمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. َنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متّى ١٠: ٣٧ - ٣٩). (انظر متّى ١٦: ٢٤ ومرقس ٩: ٤٣ - ٤٨).
فعلى ذلك يجب على مُحب المال أن يترك طمعه، وعلى المتواني أن يترك كسله، وعلى محب اللذات أن يترك شهواته، وعلى البار في عيني نفسه أن يخلع ثوب بره الذاتي. وهذا الترك يكون اختيارياً سهلاً عليه حين يرى قيمة العوض. فكما أن واجد الكنز «مضى من فرحه وباع كل ما كان له» كذلك المسيحي يترك بكل رضى كل شيء لأجل المسيح.
٤٥، ٤٦ «٤٥ أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً تَاجِراً يَطْلُبُ لَآلِئَ حَسَنَةً، ٤٦ فَلَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ ٱلثَّمَنِ، مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَاهَا».
أمثال ٢: ٤ و٣: ١٤ ، ١٥ و٨: ١٠، ١٩
هذا المثل يشبه الذي قبله في ثلاثة أمور: (١) عظمة قيمة الموجود. (٢) وجوب أن يكون ملكاً خاصاً. (٣) أن يترك كل شيء لأجله عندما يجده.
ويختلف عنه في أمر واحد هو أن الواجد في المثل الأول وجد اتفاقاً، والواجد في الثاني وجد بعد بذل جهده في التفتيش. فمثال الأول المرأة السامرية، فإنها جاءت إلى البئر لمجرد الماء وجدت المسيح هناك. ومثلها بولس الذي لم يقصد أن يجد المسيح حين وجده قرب دمشق. ومثال الثاني المجوس الذين أتوا من المشرق يطلبون مشاهدة الملك المولود حديثاً. ومثلهم الخصي الحبشي فإنه وجد المسيح بإتيانه إلى أورشليم للسجود وبدرسه كلام الأنبياء عن المسيح.
لَآلِئَ تُستخرج من الصدف في البحار ولا سيما بحر الهند، وكانت تعتبر قديماً أكثر مما تعتبر اليوم. وكانوا يبذلون مبالغ عظيمة من المال لشرائها، وكان اقتناؤها دليلاً على غنى مقتنيها وعظمته وشرفه، ولهذا رغب فيها الملوك (متّى ٧: ٦ و١تيموثاوس ٢: ٩).
وكل أهل الأرض مثل ذلك التاجر في أنهم يطلبون الخير الأعظم، لكنهم يخطئون بأنهم يطلبونه حيث لا يوجد لظنهم إياه في المال أو المراتب العالية أو زيادة العلم. وفاتهم أنه لا يوجد إلا عند الله. فمتّى طلبوا الغنى السماوي برغبة كرغبة التاجر في اللآلئ فلا بد أن يجدوه.
لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ ٱلثَّمَنِ اللؤلؤة في هذا المثل إما ملكوت الله في نفس الإنسان، وإما الخلاص، وإما معرفة المسيح وإما المسيح نفسه. ومآل الكل واحد، أي المسيح، لأن بالمسيح كل بركات ملكوته. وقوله «لؤلؤة واحدة» دليل على أن الخير الأعظم واحد.
مرَّ في مثل الكنز المخفي أن الذي وجده فرح، ولم يذكر هنا أن التاجر فرح باللؤلؤة. وليس المقصود أن فرح الذي يجد النفيس بعد الطلب أقل من الذي يجده اتفاقاً بلا طلب. ولكنه ذكر فرح الأول إشارة إلى أنه وجد الكنز على غير انتظار. ولكن كليهما اتفقا في أنهما اعتمدا شيئاً واحداً، وهو الحصول على النفيس بأي نفقة كانت.
بَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَاهَا يتضح معنى ذلك من عدة آيات (أمثال ٢٣: ٢٣ وإشعياء ٥٥: ١ ومتّى ١٠: ٣٧ - ٣٩ و١٦: ٢٤ و٢٥: ٩، ١٠ أو مرقس ٩: ٤٣ - ٤٨ وفيلبي ٣: ٤ - ١١ ورؤيا ٣: ١٨). فمن تحقق قيمة البركات الإنجيلية لا يعطله شيء عن الحصول عليها، فيكون مستعداً ليترك خطاياه ولذاته ومدح الناس وكل خير دنيوي ولينكر نفسه ويتبع المسيح. ومن فعل ذلك لا يندم أبداً، فإن جواهر الأرض ليست شيئاً بالنسبة إلى جوهرة السماء، لأنها تبقى على بهائها وقيمتها إلى الأبد. وكما أن ذلك التاجر هو الذي سعى لإدراك تلك اللؤلؤة لنفسه، وأنفق كل شيء ليحصل عليها، كذلك يجب على كل إنسان في الأرض أن يسعى في إدراك المسيح، فذلك ليس وراثة من الآباء ولا هبة من الكنيسة، بل هو اقتناء خاص بالإيمان.
٤٧ ، ٤٨ «٤٧ أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ شَبَكَةً مَطْرُوحَةً فِي ٱلْبَحْرِ، وَجَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. ٤٨ فَلَمَّا ٱمْتَلأَتْ أَصْعَدُوهَا عَلَى ٱلشَّاطِئِ، وَجَلَسُوا وَجَمَعُوا ٱلْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ، وَأَمَّا ٱلأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجاً».
متّى ٢٢: ١٠
هذا المثل آخر الأمثال السبعة، وهو يشبه مثل الزوان، إلا أن ذاك من أعمال الفلاحة وهذا من صيد السمك. ولعل المسيح اختار هذا المثل من الصيد لأن أربعة من تلاميذه كانوا صيادين، فأورده لزيادة تأثيره في قلوبهم، ولأنه كان يجهزهم كلهم ليكونوا صيادي الناس.
شَبَكَةً الشبكة الكبيرة نسيج طويل ذو عيون ضيقة يثقل بقطع كثيرة من الرصاص من الأسفل، ويخفف بقطع كثيرة من الفلين من الأعلى. تُطرح في البحر فتشتمل على دائرة كبيرة ثم تجر من الطرفين بكل ما فيها إلى الشاطئ. ومعنى الشبكة هنا الكنيسة لأنها تجمع أعضاءها من كل العالم.
مَطْرُوحَةً فِي ٱلْبَحْرِ إشارة إلى انتشار الإنجيل في العالم وأنه ليس لأمةٍ دون أخرى. وطُرحت هذه الشبكة قديماً في نهر صغير، يوم كانت مقصورة على بني إسرائيل . وفي قوله «مطروحة في البحر» نبوَّة بامتداد الإنجيل من أمة إلى أمة من يوم أمر المسيح تلاميذه «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس ١٦:١٥). وتمَّت هذه النبوة فعلاً من يوم الخمسين إلى الآن. وتطرح تلك الشبكة في البحر كلما بُشر الناس وآمنوا واعتمدوا.
جَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْع إشارة إلى مختلفي الصفات الذين يدخلون الكنيسة، بالرغم من اجتهاد أعضائها في ألا يدخلها إلا متجددو القلوب. والشبكة تجمع عندما يسحب الصيادون الشباك الكبيرة إلى الشاطئ، مملوءة من كافة الأسماك الجيدة والرديئة.
فَلَمَّا ٱمْتَلأَتْ أي لما تم عدد مختاري الله.
جَلَسُوا يشير هذا إلى أنهم لم يجروا ذلك إلا بعد النظر والتأمل احتراساً من الخطأ.
ٱلْجِيَادَ... وٱلأَرْدِيَاء المقصود بالجياد المؤمنون، وبالأردياء المراؤون. وهم إما مخدوعون وإما خادعون. فلا عجب من أن نجد في الكنيسة من كل نوع، لأنه كان قايين في العائلة الأولى، وحام في الفلك، وعيسو في عائلة إسحاق، ويهوذا الإسخريوطي بين الرسل، وسيمون الساحر بين المعتمدين في السامرة.
ولم يذكر الصيادين، ولكن الكلام يقتضي وجودهم، فالذين يطرحون الشبكة الإنجيلية هم خدام المسيح الذين ينادون بالإنجيل. ولا بد من أن شبكة الإنجيل تختلف عن الشبكة العادية، لأن الأردياء في الشبكة المعتادة لا تتحول داخل الشبكة إلى أن صالحة. ولكن شبكة الإنجيل تلقى لغاية أن يصير الأردياء داخلها صالحين. فالذين يبقون في الكنيسة أردياء إنما يبقون كذلك باختيارهم.
أَوْعِيَةٍ المقصود بالأوعية هنا المقصود بالمخزن (في عدد ٣٠) وبالمنازل الكثيرة (يوحنا ١٤: ٢) وبالمظال الأبدية (لوقا ١٦: ٩).
٤٩ «هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱنْقِضَاءِ ٱلْعَالَمِ: يَخْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَيُفْرِزُونَ ٱلأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ ٱلأَبْرَارِ».
متّى ٢٥: ٣٢.
يَخْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَة أي يظهرون للأبصار خلافاً لما هم عليه الآن. وقد اعتاد صيادو السمك الذين يطرحون الشبكة أن يعزلوا الأردياء عن الجياد. ولكن الأمر في الروحيات ليس كذلك، فإن البشر يكونون صيادي الناس، ولكن الملائكة هم الذين يُجرون قضاء الله ويفرزون الأثمة عن الأبرار (متّى ١٣: ٤١ و٢٤: ٣١ و٢٥: ٣١ ورؤيا ١٤: ١٨، ١٩).
٥٠ «وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ ٱلنَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَان».
أَتُونِ ٱلنَّارِ إشارة إلى مسكن الأبالسة والهالكين من الناس.
ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَان كناية عن الحزن والألم واليأس. كانت غاية المسيح أن ينادي بالخلاص ويبشر بالحياة الأبدية، ولكنه لم يسكت عن ذكر الدينونة الآتية وهول عقاب الأثمة غير التائبين.
فائدة: ينهانا هذا المثل عن أن نكتفي بانتمائنا للكنيسة «لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ» (رومية ٩: ٦) ويوجب علينا أن «نجعل دعوتنا واختيارنا ثابتين» (٢بطرس ١: ١٠).
والسبعة الأمثال المذكورة في هذا الأصحاح تشتمل على قصد واحد كامل، فالأول (مثل الزارع) يبين أسباب النجاح الإنجيلي أحياناً وأسباب ذلك النجاح في سائر الأحيان.
والمثل الثاني (مثل الزوان) يبين الموانع الداخلية من امتداد الإنجيل، وينسب أصلها إلى الشيطان، ويحذر الناس من إزالتها إجباراً.
والمثلان الثالث والرابع يشيران إلى امتداد الإنجيل وانتصاره أخيراً ظاهراً كما في نمو الخردل، وباطناً كما في فعل الخميرة.
والمثلان الخامس والسادس يُظهران قيمة ملكوت المسيح لكل فرد من الناس، ووجوب ترك كل شيء بغية اقتنائه.
والسابع يشير إلى تمام الانفصال أخيراً بين الصالحين والأشرار المجتمعين الآن في الكنيسة، وأن الله هو الذي يُجري ذلك الانفصال في وقته وفي الطريق التي يختارها.
٥١ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَفَهِمْتُمْ هٰذَا كُلَّهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا سَيِّدُ».
بعد أن علَّم المسيح هذه الأمثال وفسر اثنين منها، سأل التلاميذ: هل فهموا معناها الروحي.
نَعَم أصابوا بهذا الجواب مع أنهم لم يفهموا كل معناها ولا سيما النبوات التي تتضمنها إلا بعد ما حل عليهم الروح القدس كما وُعدوا (يوحنا ١٦: ١٣، ١٤).
فائدة: سماعنا كلام الحق لا يفيدنا شيئاً إن لم نفهم معناه ونحسبه خطاباً لأنفسنا، فالألوف يحضرون الكنيسة ويظنون أنهم أكملوا ما يجب عليهم بمجرد سماعهم كلام المبشر، وهم لا يأخذون شيئاً من تعليمه في قلوبهم. فيجب أن يفهم كل السامعين كلام الإنجيل، لأن المسيح يسأل «أفهمتم هذا كله؟». فطوبى لمن يستطيعون أن يجيبوه «نعم يا سيد».
٥٢ «فَقَالَ لَـهُمْ: مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُداً وَعُتَقَاءَ».
بعد أن أكمل المسيح تعليمه بالأمثال، وسألهم عما استفادوا منها، أخبرهم بالطريق التي يجب أن يسيروا فيها، فيعلِّمون بعد ما تعلموا، ويطعمون غيرهم من خبز الحياة الذي شبعوا به وذخروا منه موزعين على الناس حسب احتياجاتهم.
كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أطلق على معلِّمي المسيحية الاسم الذي عُرف به معلمو اليهود. فكل من يعرف الإنجيل ومعناه الروحي هو الكاتب المتعلِّم الحقيقي.
رَبَّ بَيْتٍ يعطي بحكمة وحنو كل عضو من أهل بيته ما يحتاج إليه، فلا يقلّب كالبخيل، ولا يكثر على نفسه كالمسرف. لكنه يعتني باحتياجات أهل البيت اليومية والخاصة كما في وقت المرض والمصيبة. فالمسيح هو «رب البيت» العظيم الذي أخرج من كنز السماء كل ما يحتاج إليه الناس. فالمتعلم منه ينوب عنه في توزيع هذا الكنز.
مِنْ كَنْزِهِ أتى المسيح بهذا الكنز من السماء. ولكن كل معلم في ملكوته يأتي بكنزٍ من قلبه المملوء من النعمة، المختبر تأثير الحق، المتعلم من الروح القدس. خلافاً لمن يُخرج من ذاكرته ومعرفته العقلية فقط. فلا يجب أن يعلّم أحدٌ بالإنجيل ما لم يكن قد شعر بقوته وتأثيره في نفسه.
وكنز المبشر الذي يخرج منه ما يُعلّمه للشعب يأتيه من أربعة مصادر. (١) الكتاب المقدس. و(٢) بينات لصفات الله. و(٣) أعمال العناية الأزلية. و(٤) اختباره الحق بإرشاد الروح القدس إياه.
جُدُداً وَعُتَقَاءَ أي مما اقتناه حديثاً وقديماً. واستعار ذلك للحقائق السماوية التي تعلمها التلاميذ وهم يهود من العهد القديم، وللذي استفادوه من تعليم المسيح أو مما سيتعلمونه من الروح القدس. ويجوز أن تكون الحقائق الواحدة عتيقة وجديدة بالنسبة إلى قدر إدراكنا لها. فيجوز مثلاً أن نحسب شرائع الحق والبر التي كتبها الله على صفحات الضمير وعلى لوحي الحجر (أي الوصايا العشر) وفي كتب الأنبياء عتيقة، ويجوز أن نحسب الحقائق التي أُعلنت لنا بمجيء المسيح وتجسده وصلبه وقيامته وصعوده ودعوة الأمم وروحانية ملكوت المسيح ووجوب التبشير بالإنجيل في كل العالم جديدة. فعلى القسوس والمبشرين الآن أن يعظوا الناس بحقائق الإنجيل التي اعتادوا سماعها منذ الصغر حتى صارت عندهم بمنزلة العتيقة. ولكن عليهم أن يجتهدوا في الدرس والاختبار والصلاة حتى يشعروا أعظم شعور بمعناها، ويأتوا بطرق جديدة لبيانها حتى تظهر للسامعين كأنها ذات معنى جديد وقوة جديدة. فكل حقائق الكتاب المقدس من أولها إلى آخرها كنز ثمين، يستخرج منها المعلم المسيحي ما يقوي ضعيف الإيمان، وينير الجهلاء، ويعزي الحزانى، ويرشد الضالين.
٥٣ «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَمْثَالَ ٱنْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ».
هذا نهاية وعظ المسيح بالأمثال كما كان في متّى ٧: ٢٩.
٥٤ «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ لِهٰذَا هٰذِهِ ٱلْحِكْمَةُ وَٱلْقُوَّاتُ؟».
متّى ٢: ٢٣ ومرقس ٦: ١ ولوقا ٤: ١٦، ٢٣
هذا بدء كلام على أمر جديد كان في وقتٍ غير وقت الوعظ السابق. ولم يُبيّن متّى زمان حدوثه. فلا تناقض بينه وبين مرقس، فإنه بيَّن أن الحادثة الآتية كانت على أثر إقامة المسيح ابنة يايرس من الموت (مرقس ٦: ١ - ٦). ولكن متّى ذكر إقامة تلك الابنة قبل أن ذكر الوعظ (متّى ٩: ١٨ - ٢٦).
وَطَنِهِ أي الناصرة (متّى ٢: ٢٣). وهذا المجيء إليها غير المجيء الذي ذكره لوقا (لوقا ٤: ١٤ - ٣٠) وهذا كان قبل الذي ذكره متّى هنا. وأحوال المجيئين مختلفة مع أن الناس أظهروا في كليهما عدم الإيمان. ولا عجب من أنه رجع إلى الناصرة غير مرة، وجدد طلباته إليهم بعد رفضهم لأنه تربى هناك، ولم تزل يومئذٍ مسكن أهله.
يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِم اغتاظ أهل الناصرة منه عند مجيئه الأول حتى عزموا على أن يرجموه، أما الآن فلم يعارضه أحد، إما لأن غيظهم كان قد زال، وإما لأن صيته ذاع في البلاد. وسبب قبولهم أن يعلم في مجمعهم أنهم اعتادوا أن يدعوا كل يهودي يظهر أنه من أرباب المعرفة وأنه قادر على الإفادة إلى أن يخاطب الشعب (أعمال ١٣: ١٥) أو أن يسوع عُرف يومئذٍ أنه يعلم تعليماً غير عادي، وأنه ربُّ معجزات عظيمة.
بُهِتُوا لم يتحيروا مما علم كما تحيروا مما ادَّعى من اللاهوت والسلطان، خلافاً لما كانوا يعهدون من أمره مثل كونه من عائلة يعرفونها وأنه تربى بينهم.
مِنْ أَيْنَ لِهٰذَ الخ كان الشعب أقل قسوة مما كانوا في مجيئه الأول إليهم، ولكنهم ليسوا أكثر إيماناً من ذي قبل. وفي سؤالهم شكٌّ واستخفاف. وقد اعترفوا أنه أظهر حكمة وقوة غريبة، ولكنهم عزوهما إلى غيره، ولعل بعضهم ظنهما من الشيطان كما اتهمه الفريسيون (متّى ١٢: ٢٤). ولا ريب في أن أهل الناصرة سمعوا ذلك من أولئك.
أنهم لم ينكروا على المسيح معجزاته لكنهم لم يسلموا بأنها برهان على أنه المسيح، فاكتفوا بأن عجبوا منها كأمر فوق إدراكهم. ولكن تسليمهم بحكمته وقوته لم يترك لهم عذراً على عدم إيمانهم، ودلَّ على أن التعصب والحسد والبغض تعمي القلب وتمنعه من تصديق ما تشهد به الحواس ويحكم به العقل.
٥٥ «أَلَيْسَ هٰذَا ٱبْنَ ٱلنَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟».
إشعياء ٤٩: ٧ ومرقس ٦: ٣ ولوقا ٣: ٢٣ ويوحنا ٦: ٤٢ ومتّى ١٢: ٤٦ ومرقس ١٥: ٤٠
رفض أهل الناصرة قول المسيح بسبب معرفتهم له منذ الطفولية، ومعرفتهم أهله وأنسباءه ومهنتهم، فهو واحدٌ منهم! وهذا عذر باطل لأنه بُني على التعصب والهوى والحسد، لا على استدلال عقلي.
ٱبْنَ ٱلنَّجَّارِ اشتهر المسيح بين الناس بأنه ابن يوسف النجار. وكان هو نجاراً (مرقس ٦: ٣). وكان كل يهودي في ذلك الوقت يتعلم شيئاً من الصنائع، مهما كانت وظيفته أو رتبته. فلا ينتج من دعوتهم إياه بابن النجار أن النجارة كانت صناعة دنيئة، أو أن يسوع صار أدنى منهم لمزاولته النجارة. بل كان غرضهم أن يبينوا أنه مثلهم، لا حق له أن يدَّعي أنه أعظم منهم.
فاتضاع المسيح لم ينتج من كونه نجاراً ابن نجار، بل من أنه صار جسداً وحل بيننا. فلو جاءنا ملكاً لم يكن أقل تنازلاً من كونه نجاراً (في ٢: ٦ - ٨).
وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوب قال بعض المفسرين إن إخوته هم أولاد أخي يوسف، أو أخي مريم أو أختها، أو أنسباؤه من جهة أخرى. وقال البعض الآخر إنهم إخوته وأخواته من أمه ويوسف. ولا توجد إجابة قاطعة. فالذي يرغب في بحث هذا الأمر عليه أن يقارن الآيات الآتية ويحكم لنفسه: متّى ١٢: ٤٦ ومثله مرقس ٣: ٣١ ومثله لوقا ٨: ١٩.. متّى ١٣: ٥٥ ومثله مرقس ٦: ٣..
يوحنا ٢: ١ و٧: ٣، ٥، ١٠ وأعمال ١: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٥ وغلاطية ١: ١٩.
٥٦ «أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهٰذَا هٰذِهِ كُلُّهَا؟».
عِنْدَنَا أي في الناصرة، مما يدل على أن الناصرة ما زالت مسكن أهل يسوع بعد ما ذهب منها. ومن العجب أنهم اتخذوا معرفتهم أصل يسوع وعائلته دليلاً على عدم صحة دعواه أنه المسيح.
٥٧ «فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ».
متّى ٥: ٢٩، ٣٠ و١١: ٦، ٢١ ومرقس ٦: ٣ الخ ولوقا ٢: ٣٤ ولوقا ٤: ٢٤ ويوحنا ٤: ٤٤
ما أعظم ضرر المعرفة الناقصة المدعية كما فعل هؤلاء، فقد حسبوا أنهم عرفوا يسوع معرفة تامة لأنهم عرفوا نسبه وعائلته ومهنته وإخوته وأخواته. وفاتهم أنهم لم يعرفوه في رسالته الجديدة وفي وظيفته المقدسة أنه المسيح المخلص ابن الله الوحيد. ولأنهم قصروا في المعرفة الحقيقية، كان لهم ضيق النظر والعمى الروحي.
فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ هم كسائر اليهود انتظروا أن يأتي المسيح ملكاً أرضياً فيجعل الأمة اليهودية أقوى من الأمة الرومانية، ومجلس السبعين أعظم من السناتوس الروماني، وهيكل أورشليم أشرف من الكابيتول (أي قلعة روما). فصعُب عليهم أن يعتقدوا أن النجار ابن قريتهم هو المسيح المنتظر. فكان حجر عثرة لهم. فإنهم اعترفوا بحكمته وقوته ولكن أهواءهم منعتهم من قبول تعليمه. وكل برهان على صحة دعوى المسيح أو إنجيله، ورفضه الناس، هو حجر عثرة لهم يسقطون عليه لهلاكهم الأبدي.
لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَة الخ لم يتخذ المسيح رفضهم إياه اعتداءً عليه وإهانةً له، بل تصديقاً لقولٍ جرى عندهم مجرى المثل، وهو أن الإنسان يجد من الغرباء اعتباراً لدعواه لا يجدها ممن هم أقرب إليه. وعلة ذلك أن الغرباء يحكمون بالنظر إلى أعماله العلنية وسيرته باعتبار وظيفته، ولكن أقاربه يحكمون بالنظر إلى أمور ماضية من جهة الأصل والسيرة.
وآثر المسيح ذكر «النبي» في ذا القول إما لأنه صدق في الماضي على الأنبياء أكثر من غيرهم، أو لأن أهل الناصرة أنكروا دعواه أنه نبيّ.
٥٨ «وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِم».
كانت نتيجة عدم إيمانهم محزنة، وهي أنه لم يصنع بينهم من المعجزات إلا أقل مما صنعه في غير قريتهم من الجليل، لأنهم لم يطلبوا منه شفاءً لعدم ثقتهم بقوته عليه. ولا دليل على أن أحداً منهم طلب أن يشفيه وطُرد. فيظهر من ذلك أن المسيح لم يصنع المعجزات ليقنع منكري دعواه، وإلا جاء بأعظم المعجزات للذين هم أقل إيماناً من غيرهم. ولكنه صنع المعجزات ختماً لسلطانه لمن استعدوا لقبوله بآية إلهية.
الأصحاح الرابع عشر
١ «فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ».
هِيرُودُس هو أنتيباس بن هيرودس الكبير من امرأته ملثاسي، حكم بعد موت أبيه على الجليل والسامرة وبيرية، أي عبر الأردن. وامرأته الأولى بنت الحارث ملك دمشق المذكور في ٢كورنثوس ١١: ٣٢. وبعد ذلك رأى هيروديا زوجة أخيه فيلبس، وهي بنت أخيه أرستوبولس بن هيرودس الكبير فأغراها بترك زوجها وتزوجها، ولأجلها طلق امرأته بنت الحارث. فوبخه يوحنا المعمدان على هذا الزنا، وهو محرم حسب الشريعة اليهودية لسببين: (١) أنها ابنة أخيه، و(٢) أنها زوجة أخ حي. ووبخه أيضاً على ذنوب أخرى (لوقا ٣: ١٩) فسجنه لتجاسره على توبيخه إياه، ولخوفه من تأثير وعظه في الشعب. وبعد قليل من قتل يوحنا حارب الحارث هيرودس وهزمه وشتت جنوده. ثم ذهب إلى روما يبتغي رتبة ملك، فنُفي إلى ليون في غاليا (أي فرنسا). ورافقته هيروديا وذهبا من هناك إلى أسبانيا وماتا فيها. وكان ظالماً (لوقا ٣: ١٩) خادعاً (لوقا ١٣: ٣١، ٣٢). وهو هيرودس الذي أتى المسيح إليه ووقف أمامه بأمر بيلاطس (لوقا ٢٣: ٦ - ١١).
رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ قُصد بهذا اللقب أولاً ما يدل عليه ظاهر معناه، ثم صار بمعنى والٍ (أقل من الملك) بغضّ النظر عن مساحة ما يتولاه من البلاد. وكانوا يدعونه أحياناً ملكاً على سبيل الإكرام والتعظيم (مرقس ٦: ١٤).
خَبَرَ يَسُوع لا ريب في أن شهرة المسيح بتعليمه ومعجزاته كانت ذائعةً في كل تلك البلاد، وانتشر أكثر من ذلك عندما أرسل تلاميذه ينادون به ويصنعون الآيات باسمه، فبلغ خبره هيرودس ورغب في أن يراه (لوقا ٩: ٩).
٢ «فَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: هٰذَا هُوَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَلِذٰلِكَ تُعْمَلُ بِهِ ٱلْقُوَّات».
قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ اعتقد اليهود كلهم سوى الصدوقيين بقيامة الأموات، مع أن هذه الحقيقة لم توضح في العهد القديم كما وضحت بعدئذٍ في العهد الجديد.
كان هيرودس يعتنق مذهب الصدوقيين (مرقس ٨: ١٥) فكان قوله إن يوحنا قام من الأموات مناقضاً لاعتقاده أن لا قيامة لميت.
وَلِذٰلِكَ تُعْمَلُ بِهِ ٱلْقُوَّات يوحنا لم يفعل معجزة (يوحنا ٤٠: ٤١) فلا يكون صنع المعجزات برهاناً على قيامته. فما قاله هيرودس كان غالباً نتيجة توبيخات ضميره. لكن مخاوفه لم تقده إلى التوبة. فالضمير المؤنب يجعل الخاطئ يتوقع العقاب دائماً، ويتوهم أن كل أمر غريب هو بدء ذلك. وتعنيف الضمير برهان على الدينونة الآتية ونموذجها. وكثيرون يعتقدون في وقت الصحة والنجاح عقائد باطلة ينكرونها في وقت الخطر والاضطراب.
٣ «فَإِنَّ هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا ٱمْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ».
لوقا ٣: ١٩، ٢٠
فَإِنَّ أي الكلام الآتي تعليل وإيضاح لقول هيرودس «قد قام من الأموات».
أَمْسَك أي أمسكه العسكر بأمر هيرودس.
أَوْثَقَه إما بالقيود وإما بسجنه، وذلك نحو سنة ونصف سنة وهو نحو نصف الزمن من بداءة تبشيره إلى وفاته.
فِي سِجْنٍ قال يوسيفوس كان ذلك السجن في قلعة ماخيروس شرقي بحر لوط.
هِيرُودِيَّا بنت أرستوبولس الذي قتله أبوه هيرودس الكبير، وزوجها الأول فيلبس عمها. وهو ليس فيلبس رئيس الربع المذكور في لوقا ٣: ١ لأنه لم يكن ذا منصب. تركته وتزوجت أخاه هيرودس أنتيباس عمها وسلفها، وهو طلق امرأته بنت الحارث لأجلها وبذلك اشتبك في حرب حميه أبيها ولم ينجُ من تلك الحرب إلا بواسطة الرومان. فنسب اليهود مصائبه إلى قتله يوحنا المعمدان ظلماً كما ذكر يوسيفوس المؤرخ.
٤ «لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لَهُ: لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ».
لاويين ١٨: ١٦ و٢٠: ٢١
حرَّم ذلك العمل الناموسي الطبيعي وناموس الله على يد موسى. وفي عمل هيرودس ثلاث خطايا: تطليق امرأته بلا سبب شرعي، وزواجه بامرأة أخيه وهو حيٌّ، وهي ابنة أخيه (لاويين ١٨: ١٦ و٢٠: ٢١). وأظهر يوحنا المعمدان أمانته وشجاعته بأنه وبخ حاكماً قديراً ظالماً ينتقم من كل إغاظة، فأثبت أنه ليس «قصبة مرضوضة تحركها الريح» (متّى ١١: ٧) وقوله «يوحنا كان يقول له» المراد به في الأصل اليوناني أنه كان دائماً يقول له ذلك.
٥ «وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ خَافَ مِنَ ٱلشَّعْبِ، لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ».
متّى ٢١: ٢٦ ولوقا ٢٠: ٦
ما أجمل أن يكون للرأي العام كلمة، ولا سيما إذا كان منصفاً تقياً يرى الصواب فيذيعه، ويرى الخطأ فيبعد الناس عنه. ولكن هذا الرأي العام في ذاك الحين كان ضعيفاً جداً لم يستطع أن يقف في وجه الطاغية ويقول له: هذا لا يجوز. وأمثال يوحنا المعمدان وإيليا النبي قليلون.
تبين لنا مما قاله مرقس (مرقس ٦: ٢٠) أن تعليم يوحنا أثر كثيراً في هيرودس في أول عهده به، وأن هيرودس اعترف بحسن صفاته وجودة تعليمه. لكن تأثيراته كانت وقتية وزالت بما أبدته له هيروديا (مرقس ٦: ٢١) وبضجره من كثرة توبيخ يوحنا له، فأراد قتله وامتنع خوفاً من الناس لأنهم اعتقدوا أن يوحنا نبي. وكان أهل الجليل يومئذٍ يميلون إلى الهياج دائماً، وكان هيرودس لا يستطيع تهدئتهم إلا ببذل كل جهده.
٦ «ثُمَّ لَمَّا صَارَ مَوْلِدُ هِيرُودُسَ رَقَصَتِ ٱبْنَةُ هِيرُودِيَّا فِي ٱلْوَسَطِ فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ».
لَمَّا صَارَ مَوْلِد الاحتفال بعيد ميلاد الملوك من العادات القديمة (تكوين ٤٠: ٢٠) فحضر الاحتفال بعيد ميلاد هيرودس رؤساء البلاد (مرقس ٦: ٢١).
رَقَصَتِ ٱبْنَةُ هِيرُودِيَّا أي ابنتها من فيلبس زوجها الأول، وقال يوسيفوس إن اسمها «سالومي». ولم يكن رقصها كرقص السيدات في بيوتهن بل كرقص المستأجرات في الملاعب بلا حياء، تأباه النساء الشريفات من اليونان والرومان واليهود في المحافل. فخفضت مقامها الملكي وداست شرفها وعفافها لتُسرَّ هيرودس وتنال مرادها. فسُر هيرودس برقصها وبذل جهده في إرضائها وإرضاء مدعويه.
٧ «مِنْ ثَمَّ وَعَدَ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبَتْ يُعْطِيهَا».
تجاوز بهذا الوعد الحد فأظهر به طيشه وشدة لذاته برقص سالومي. ولا يبعد أنه كان نشوان من الخمر، فلم يكتفِ بالوعد بل أثبته بقسم.
٨ «فَهِيَ إِذْ كَانَتْ قَدْ تَلَقَّنَتْ مِنْ أُمِّهَا قَالَتْ: أَعْطِنِي هٰهُنَا عَلَى طَبَقٍ رَأْسَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ».
تَلَقَّنَتْ لقَّنتها أمها وأغرتها. وسرعة طلبها تدل على شدة بغض هيروديا ليوحنا وقصدها الانتقام في أول فرصة. ولعلها أغرت سالومي بذلك لهذه الغاية عينها، وإنما رغبت في قتل يوحنا خوفاً من أن يؤثر كلامه في نفس هيرودس فيقتنع بإثمه، لأنه أخذها من زوجها الشرعي.
فمن أسرار العناية الإلهية أن تُبذل حياة أعظم الأنبياء خليفة إيليا وسابق المسيح تشفياً لامرأة شريرة زانية، وأن يعطى رأسُه أجرة رقص ابنتها. وطلبت هيروديا أن يقدم لها رأس يوحنا لأمرين: (١) أن تتيقن أنه هو قُتل لا غيره بدلاً منه، و(٢) أن تتشفى من غيظها بمشاهدة وجه عدوها قتيلاً.
٩ «فَٱغْتَمَّ ٱلْمَلِكُ. وَلٰكِنْ مِنْ أَجْلِ ٱلأَقْسَامِ وَٱلْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ أَمَرَ أَنْ يُعْطَى».
فَٱغْتَمَّ لم يكن غم هيرودس شديداً ولم يشغل وقتاً طويلاً، فهو كتأثره من وعظ يوحنا (مرقس ٦: ٢٠) ومثل توقف بيلاطس في الحكم على المسيح. ولذلك لم يمنع الغم هيرودس عن أن يرتكب إثماً آخر فوق آثامه السابقة، فخالف شريعة ضميره وشهادته أيضاً. ولعل ذلك كان آخر تأثير للروح القدس ففارقه بعده إلى الأبد.
ويحتمل أنه اغتم خفية لأنه خاف أن ينتج قتل يوحنا هياج الشعب، لأننا نعلم أنه لم يمنعه عن قتله قبلاً سوى الخوف من ذلك (متّى ١٤: ٥). ولعل هذا هو الأرجح.
ٱلْمَلِك لم يلقبه متّى بالملك لأن له حقاً في هذا اللقب بل أتى به على سبيل التعظيم.
مِنْ أَجْلِ ٱلأَقْسَامِ الذي حمله على إجابة سؤال سالومي أمران: (١) إلزام ضميره إياه أن يفي بوعده الذي أثبته بالحلف، و(٢) خوفه من أن يلومه المدعوون ويهزأون به إن لم يفِ. على أنه لم يكن يجوز له أن يجيب سؤلها لأن ليس له حق أن يقتل فاضلاً بريئاً. فخير لنا أن نخالف كلامنا من أن نخالف كلام الله.
ثم أن كل وعدٍ يأتيه الإنسان بلا تأمل ونظر في عواقبه خطيئة، لأنه يعرض صاحبه للضرر، ويضر غيره في الوفاء به، كما كان من أمر يفتاح (قضاة ١١: ٣٠ - ٤٠). فيجب أن ننتبه لما نعد به ولا سيما ما نقسم عليه (جامعة ٥: ٢، ٦).
كثيرون يحذرون من الصغائر ويرتكبون الكبائر بلا تأمل فهم «يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ» (متّى ٢٣: ٢٤) فهيرودس خشي أن يخلف وعده للراقصة، ولكنه لم يبال بارتكاب الزنا والقتل.
وَٱلْمُتَّكِئِين ولعل الخوف من لوم هؤلاء معظم ما حمله على إجابة راقصته، فخشي من هزئهم أكثر مما خشي من تأنيب ضميره ودينونة الله. ومثله اليوم كثيرون يهيِّجون عليهم غضب ولوم الملائكة والناس الصالحين خوفاً من استخفاف الناس وضحكهم بهم. والشبان أكثر تعرضاً لهذه التجربة.
١٠ «فَأَرْسَلَ وَقَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا فِي ٱلسِّجْنِ».
أرسل سيافاً (مرقس ٦: ٢٧). وعلم من قول يوسيفوس أن السجن كان في قلعة ماخيروس شرقي بحر لوط فنستنتج أن احتفال هيرودس كان في تلك القلعة أو في قلعة أخرى في ولاية قريبة منها لأنه لو كان في طبرية عاصمة الولاية لاقتضى ذهاب السياف ورجوعه وقتاً أكثر مما يقتضي نبأ الحادثة في قول الصبية «أريد أن تعطيني حالاً» (مرقس ٦: ٢٥).
قَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا كما كان يوحنا مثل إيليا، كانت هيروديا مثل إيزابل عدو إيليا. فإن كانت هيروديا قد ظنت أنها تخلص من التوبيخ على آثامها بقتل يوحنا فقد غلطت، لأن لدمه صوتاً يشهد عليها كصوت دم هابيل على قايين. وأما يوحنا فقد أكمل عمله وأدى شهادته للمسيح فكان مستعداً للموت، فلم يكن الموت خسارة له بل ربحاً، لأنه انتقل من سجن ماخيروس إلى قصر الملك العظيم السماوي. فموت يوحنا في تلك الأحوال يدلنا على أن الإنسان يمكن أن يكون أميناً في عمله تقياً محبوباً من الله، وموت مع ذلك كله في شبابه. فحين يطالب الله بدم استفانوس ويعقوب وسائر الرسل والشهداء يطالب بذلك الدم الزكي وفقاً لقوله «لأَنَّهُ هُوَذَا الرَّبُّ يَخْرُجُ مِنْ مَكَانِهِ لِيُعَاقِبَ إِثْمَ سُكَّانِ الأَرْضِ فِيهِمْ، فَتَكْشِفُ الأَرْضُ دِمَاءَهَا وَلاَ تُغَطِّي قَتْلاَهَا فِي مَا بَعْدُ» (إشعياء ٢٦: ٢١).
١١ «فَأُحْضِرَ رَأْسُهُ عَلَى طَبَقٍ وَدُفِعَ إِلَى ٱلصَّبِيَّةِ، فَجَاءَتْ بِهِ إِلَى أُمِّهَا».
عَلَى طَبَقٍ أي على ما يؤكل عليه. فقُدم رأس يوحنا عليه وأخذته الصبية كأنه حصتها من الوليمة الملكية وأكثر قبولاً لقلبها القاسي من كل أطايب تلك الوليمة. فنتعلم من هذه القصة رذيلة هيرودس، وسهولة أن يجد من يجرون مقاصده الشريرة، ونهاية محزنة لحياة فاضل تقي لم يبلغ سن الرابعة والثلاثين، وخبث قلبَي والدة وابنتها وقساوتهما الخارقة العادة حتى طلبتا تلك الهبة الفظيعة وسُرتا بقبولها.
ٱلصَّبِيَّةِ هي سالومي تزوجت عمها فيلبس رئيس الربع، وتزوجت بعد موته ابن عمها أرستيبولس الثاني.
١٢ «فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَرَفَعُوا ٱلْجَسَدَ وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ أَتَوْا وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ».
تَلاَمِيذُهُ أي تلاميذ يوحنا (مرقس ٦: ٢٩). فيحتمل أنهم ممن سمعوا وعظه وصدقوا تعليمه واعتمدوا منه، لأن كثيرين منهم كانوا في أرض فلسطين فأظهروا اعتبارهم له بدفنهم بدنه، ولكنهم اكتفوا بذلك دون أن يبقوا عندهم شيئاً من آثاره تذكاراً له أو تبركاً به. ولا ذكر لإبقاء شيء من آثار نبي أو رسول لذلك من بدء كتاب الله إلى آخره. وبذهابهم إلى يسوع ليرووا له الخبر المحزن أظهروا أنهم اعترفوا بأنه خليفة يوحنا، وأخبروه ليشعر معهم بحزنهم ويعزيهم. ويحتمل أنهم قصدوا أن ينبهوه ليحذر الخطر.
فائدة: يجب علينا أن نخبر المسيح بأحزاننا في كل مصائبنا كما أخبره تلاميذ يوحنا بأحزانهم، فلا يقدر أحد أن يعيننا ويعزينا مثله.
ملحوظة: نورد ما يميز بين هيرودس المذكور هنا وهيرودس آخر ممن ذكر في الإنجيل. فنقول هيرودس الكبير قتل أطفال بيت لحم، وهيرودس أنتيباس قتل يوحنا المعمدان وسخر بيسوع، وهيرودس أغريباس قتل يعقوب الرسول وسجن بطرس. فعائلة الهيروديين اشتهرت وزادت عن كل عائلة عُرفت في الأرض بالظلم والرذيلة والقساوة والخداع وتعدي كل الشرائع البشرية والإلهية.
١٣ «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِداً. فَسَمِعَ ٱلْجُمُوعُ وَتَبِعُوهُ مُشَاةً مِنَ ٱلْمُدُنِ».
متّى ١٠: ٢٣ و١٢: ١٥
لَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ خبر مقتل يوحنا وقول هيرودس إنه هو يوحنا قد قام من الأموات.
ٱنْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ أي من كفرناحوم حيث كان ساكناً يومئذٍ من ولاية هيرودس لئلا يطلبه هيرودس فيسجنه توهماً أنه يوحنا، ولأن ساعته لم تأت بعد. أو لأنه لم يرد أن يكون بين الهائجين على قتل يوحنا لئلا يجتمعوا إليه ويتخذوه رئيساً. أو لأن الطبيعة ألجأته إلى الاعتزال لموت حبيبه وقريبه المكرم. ولذلك سبب آخر ذكره مرقس ٦: ٣٠، ٣١ ولوقا ٩: ١٠ وهو رجوع الاثني عشر الذين أرسلهم إلى القرى يبشرون واحتياجهم إلى الراحة.
مَوْضِعٍ خَلاَء وفي لوقا ٩: ١٠ أن ذلك كان في أرض لبيت صيدا شرقي بحر طبرية.
تَبِعُوهُ كان ذلك في أوج اعتباره، والناس لا يزالون متوقعين أنه يتمم آمالهم بأن يكون ملكاً أرضياً ومنقذاً زمنياً.
مُشَاة ذهب يسوع في السفينة وتبعه الناس على شاطئ البحر، فالظاهر أن الريح كانت لينة لم تدفع السفينة بسرعة، فأمكن الناس أن يسبقوه مشاةً إلى حيث رأوا السفينة متوجهة (مرقس ٦: ٣٣).
١٤ «فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ».
متّى ٩: ٣٧ ومرقس ٦: ٣٢ الخ ولوقا ٩: ١٠ الخ ويوحنا ٦: ١ الخ
لَمَّا خَرَج من السفينة أو محل انفراده على البر (يوحنا ٦: ٣).
جَمْعاً كَثِيرا لأن الذين تبعوه اجتمعوا من كل قرى الجليل، وربما اجتمع إليهم الغرباء الذين كانوا صاعدين إلى أورشليم ليحضروا عيد الفصح فإنه كان قريباً (يوحنا ٦: ٤) فمجيئهم منع يسوع عن الراحة المقصودة لكنه لم يغظه.
تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ لاحتياجاتهم ولا سيما الروحية منها. قال مرقس «فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا» (مرقس ٦: ٣٤). فيجب على كل مسيحي يشاهد جمعاً كثيراً من الناس أن يشفق عليهم ويرغب في أن يقودهم إلى المسيح بالإيمان، ويجب عليه إذا افتكر في الألوف والربوات الكثيرة من الجهلاء الهالكين في البلاد الوثنية أن يشفق عليهم كما أشفق المسيح على ذلك الجمع.
وَشَفَى مَرْضَاهُم اعتنى أولاً باحتياجاتهم الجسدية ثم اعتنى بأعظم احتياجاتهم جميعاً «فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا» (مرقس ٦: ٣٤).
١٥ «وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: ٱلْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَٱلْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اِصْرِفِ ٱلْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى ٱلْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَاماً».
لَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ كان عند اليهود مساءان: بداية الأول العصر وهو المذكور هنا، وبداية الثاني المغرب وهو المذكور في متّى ١٤: ٢٣ (سفر العدد ٩: ٥، ١١).
تَلاَمِيذُهُ أي رسله (لوقا ٩: ١٢) وأتوا إليه، إما في أثناء خطابه أو بعد أن فرغ منه.
ٱلْمَوْضِعُ خَلاَء ليس فيه سوق ولا وسيلة إلى تحصيل الطعام.
وَٱلْوَقْتُ قَدْ مَضَى أراد الرسل بذلك أن الوقت الباقي من النهار لا يكفي أن يصل الناس إلى القرى ليشتروا ما يأكلون قبل أن ينسدل عليهم ظلام الليل. فاهتم التلاميذ بأولئك الناس لكثرتهم، ولأنه ليس لهم ما يأكلون، وخافوا أنهم يخورون جوعاً وأن يسوع ينسى حاجات أجسادهم لكثرة عنايته بحاجات نفوسهم.
اِصْرِفِ ٱلْجُمُوع ذلك يدل على أنه لم يزل يخاطبهم.
وَيَبْتَاعُوا لم يخطر على بالهم إلا شراء الخبز.
ذكر يوحنا أن المسيح افتتح الكلام في هذا الشأن مع فيلبس ثم أندراوس. والمرجح أن ذلك كان قبل الحديث الذي ذكره متّى، بدليل قول يوحنا «نَظَرَ أَنَّ جَمْعًا كَثِيرًا مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ» (يوحنا ٦: ٥ - ٩) وقول متّى «لَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ» (متّى ١٤: ١٥) وذلك بعد ما ذكر أنه شفى مرضاهم.
١٦ - ١٨ «١٦ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا. ١٧ فَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ عِنْدَنَا هٰهُنَا إِلاَّ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَانِ. ١٨ فَقَالَ: ٱئْتُونِي بِهَا إِلَى هُنَا».
المعجزة المذكورة هنا هي المعجزة الوحيدة التي ذكرها كل البشيرين الأربعة، فيظهر أنهم رأوها أكثر أهمية من غيرها.
وأبطأ المسيح أن يصرف الجمع أو يطعمهم ليمتحن إيمان تلاميذه بقوته على أن يقوم بما يحتاج إليه الناس في أشد ضيقهم، وليعلّمهم أن يتكلوا عليه في كل ضيق أو شدة. وعلة سؤاله لهم كما ذكر يوحنا هي أن يجعلهم يشعرون ويعترفون بعجزهم ويتوقعون ما سيفعله (يوحنا ٦: ٦)
لاَ حَاجَةَ لَـهُمْ أَنْ يَمْضُوا لم يرد المسيح أن يكلفهم بالذهاب في تلك الساعة وهم جياع ليبتاعوا خبزاً، لأنه يصعب عليهم السير في هذه الحال.
أَعْطُوهُمْ أَنْتُم أمرهم المسيح بذلك ليمتحن إيمانهم، وليعرفهم ضعفهم وعدم قدرتهم.
خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَانِ ذكر يوحنا أن غلاماً أتى بذلك، وقال إن تلك الأرغفة «من شعير» وهو طعام فقراء الناس. وكل البشيرين عينوا مقدار ذلك الطعام ليظهروا صحة المعجزة، وليبينوا أنه لم يكن لهم الطعام سوى ذلك القدر القليل. وذلك كله لا يكفي التلاميذ وحدهم بل يكاد لا يكفي غير اثنين لأن معدل ما يأكله الرجل دفعة ثلاثة أرغفة (لوقا ١١: ٥، ٦).
١٩ «فَأَمَرَ ٱلْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى ٱلْعُشْبِ، ثُمَّ أَخَذَ ٱلأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ، وَٱلتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ».
يَتَّكِئُوا كعادتهم في بيوتهم، وذلك أكثر موافقة لهم وهم في البرية حيث لا مائدة لهم سوى الأرض.
عَلَى ٱلْعُشْب كانت الأرض هنالك مرعى ليست للفلاحة والزرع، وسُميت قديماً «سهل البطيحة» وهي شرقي بيت صيدا. وقال مرقس إنهم «اتكأوا صفوفاً صفوفاً مئة مئة وخمسين خمسين» وغايته من ذلك تسهيل التوزيع، والحذر من أن يُترك أحدٌ.
ٱلسَّمَاءِ أي الجو الذي يظهر أنه يفصل بيننا وبين السماء العليا التي لا تُرى.
وَبَارَك للمباركة في الإنجيل ثلاثة معان: (١) رضى الله عن عبيده (متّى ٢٥: ٣٤) و(٢) طلب الإنسان رضى الله على غيره (لوقا ٢: ٣٤) و(٣) حمد الإنسان لله لأنه رضى عنه (مزمور ١٠٣: ١، ٢). ومعنى بارك هنا شكر أو حمد. وشكر المسيح الله وسأله الرضى باعتبار أنه إنسان، وهو نفسه وهب ذلك باعتبار أنه إلهٌ. وهذا مثال لنا لنشكر الله على كل ما يهبه لنا من الخيرات ونلتمس رضاه علينا في قبولها (١تيموثاوس ٤: ٤).
وَأَعْطَى ٱلأَرْغِفَةَ الخ كان توسط التلاميذ في توزيع الطعام لائقاً، ومساعدةً للمسيح، وتعجيلاً للتوزيع، ورمزاً لعملهم في المستقبل في توزيع خبز الحياة التي أخذوه من يد المسيح. وبذلك كان لهم أن يشهدوا عن يقين بما شاهدوه عياناً واختبروه عملاً من قلة الأكل في أول الأمر وكثرته في نهايته.
٢٠ «فَأَكَلَ ٱلْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ ٱلْكِسَرِ: ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً».
فَأَكَلَ ٱلْجَمِيعُ وَشَبِعُوا هذا يدل على أن المعجزة لم يكن لها حدٌ سوى أنه لم يبق في طاقة الآكلين أن يزيدوا على ما أكلوا، فبقيت إلى أن شبع أكثرهم جوعاً. فإشباع المسيح أولئك الألوف الذين تركوا بيوتهم وأعمالهم وأتوا بلا طعام رغبة في سماع أقواله مصداق لقوله «اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متّى ٦: ٣٣)
رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ ٱلْكِسَرِ أظهر المسيح قوته في تلك المعجزة بتكثير الطعام، وأظهر حكمته بعدها بأمر تلاميذه بجمع الكسر. لأنه لو انصرفوا من هنالك وليس لهم إلا ذكر ما شاهدوه لنسوها بعد قليل. ولكن الاثنتي عشرة قفة من الكسر التي جمعوها بأمر المسيح (يوحنا ٦: ١٢) بقيت برهاناً قاطعاً على صحة المعجزة، وأنها ليست خيالاً أو حلماً. فهكذا أمر الله أن يحفظ قسط المن في التابوت مُذكراً بالمعجزة التي جرت نحو أربعين سنة في البرية.
فأسباب أمر المسيح بجمع الكسر ثلاثة (١) التحذير من الإسراف والإغراء بالاقتصاد، أي الإنفاق على قدر الحاجة ولو في الأمور الزهيدة. و(٢) إرادته أن يبين للتلاميذ أنه لا يعولهم في المستقبل بالمعجزات، فيجب أن يتوقعوا الحصول على ما يحتاجون إليه بالوسائل العادية، ولذلك يجب أن يحفظوا الكسر. و(٣) أن تكون كل كسرة من الكسر شاهدة ما بقيت بالمعجزة ومذكرة بها، بدليل أن المسيح ذكَّر التلاميذ بعدئذٍ بمقدار الكسر الباقية في تلك المعجزة. وفي معجزة أخرى مثلها كأن مقدار تلك الكسر أمر يستحق الاعتبار والتأمل (متّى ١٦: ٩).
ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ قُفَّة هي القفف التي كان اليهود يحملون زادهم فيها وقت السفر. والأرجح أن كل رسول كان يجمع الكسر في قفة معه، ولذلك كانت قففهم اثنتي عشرة. فإن قيل هل كانت الكسر التي جمعوها مما كسره المسيح ولم يوزع، أو مما وُزع وفضل عن الآكلين على الأرض؟ قلنا يُحتمل الأمران. أما ما جمعوه فيُحتمل أنه وزع بعضه على المحتاجين في القرى التي دخلوها جرياً على عادة المسيح في اعتنائه بالفقراء (يوحنا ١٣: ٢٩).
٢١ «وَٱلآكِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ، مَا عَدَا ٱلنِّسَاءَ وَٱلأَوْلاَدَ».
سهل عد الرجال على التلاميذ لاتكائهم مئة مئة، وخمسين خمسين، ولكنهم لم يحسبوا عدد النساء والأولاد لأنهم كانوا أقل من الرجال لبُعد المسافة. والأغلب أن تكثير الطعام لم يحدث دفعة بل تدريجياً، فالذي شاهده الجموع أن الخبز والسمك كانا بلا انقطاع يقدمان من المسيح إلى الرسل، ومن الرسل إلى المتكئين إلى أن شبع الجميع.
هذه المعجزة تشبه ما ذكر في العهد القديم عن معجزة المن في البرية على يد موسى (خروج ١٦: ٣٦) وما ذكر في تاريخ إيليا وأليشع (١ملوك ١٧: ١٤ - ١٦ و٢ملوك ٤: ١ - ٧ و٤٢ - ٤٤). قصد المسيح أن يعلمهم المعجزة أنه هو الخبز الحقيقي لنفس الإنسان الجائعة، وأنه خبز كافٍ لتغذية كل نفوس الناس إلى الأبد.
وما أعظم الفرق بين وليمة هيرودس ووليمة المسيح. كان في الأولى رقص وبطر وسكر وأقسام محرمة، وانتهت بالقتل. وكان في الثانية تعاليم إلهية ومعجزة أظهرت الحنو الإلهي وتلاها شفاء المرضى في سهل جنيسارت (عد ٣٦).
٢٢ «َلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا ٱلسَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ إِلَى ٱلْعَبْرِ حَتَّى يَصْرِفَ ٱلْجُمُوعَ».
اقتنع الناس من هذه المعجزة بأن يسوع هو المسيح اقتناعاً لم يشعروا به قبلها، لأنه بذلك تمت المشابهة بينه وبين موسى كما توقع الناس وعلَّم الكتبة بناءً على النبوة أن «الله يقيم لهم نبياً آخر منهم مثل موسى». ولذلك أرادوا أن يمسكوه ويجعلوه ملكاً على الرغم منه (يوحنا ٦: ١٤، ١٥). أما هو فلم يرد سلطاناً زمنياً فاعتزل عنهم إلى الجبل لكنه صرف التلاميذ أولاً ثم صرف الجموع.
أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أي أقنعهم أن يذهبوا على غير إرادتهم. فلا يبعد أنهم شاركوا الجموع في الأمل بأن يعلن نفسه ملكاً بالفعل. وصعب على التلاميذ أن ينفردوا رغبةً في فائدته وفائدتهم.
ٱلسَّفِينَة لعلها السفينة التي أتوا بها.
إِلَى ٱلْعَبْرِ أي إلى بيت صيدا غربي مكان المعجزة (مرقس ٦: ٤٥). فالتلاميذ توجهوا إليها أولاً لكنهم جاوزوها وبلغوا أرض كفرناحوم (يوحنا ٦: ١٧). ولعلهم دخلوا بيت صيدا ثم قصدوا كفرناحوم.
٢٣ «وَبَعْدَمَا صَرَفَ ٱلْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى ٱلْجَبَلِ مُنْفَرِداً لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ».
صَرَفَ ٱلْجُمُوعَ ربما اقتضى تعباً كثيراً وأنه شغل وقتاً طويلاً.
مُنْفَرِداً لِيُصَلِّيَ لا تناقض لبيان يوحنا، فهذا سبب آخر لانفراده (يوحنا ٦: ١٥). وهو أنه انفرد هرباً من أن يصيِّروه ملكاً.
لم يحتج المسيح مثلنا إلى أن يعترف بالخطايا ويطلب الغفران، لكنه صلى للذَّته بمخاطبة أبيه السماوي. وكان يومئذٍ يشفع في المؤمنين كما يشفع فيهم اليوم وهو عن يمين الله. ولعل الذي حمله يومئذٍ على كثرة التوسل من أجلهم هو توقعهم أن يكون ملكاً أرضياً، فسأل الآب أن يرشدهم إلى أن يعرفوا أن ملكه الروحي وأن يقبلوه ملكاً روحياً.
ٱلْجَبَلِ المراد بذلك الأرض المرتفعة المجاورة للبحر.
وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ أي المساء الثاني (انظر تعليقنا على آية ١٥). واصطلح كتبة الأسفار الإلهية على استعمال المساء لوقتين، أحدهما من العصر إلى المغيب، والآخر من المغيب فصاعداً (خروج ١٢: ٦ و٢٩: ٣٩، ٤١ ولاويين ٢٣: ٥ وعدد ٩: ٣، ٥ و٢٨: ٤).
٢٤ «وَأَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسَطِ ٱلْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ ٱلأَمْوَاجِ. لأَنَّ ٱلرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً».
هذا بيان لحال السفينة والمسيح على الشاطئ.
فِي وَسَطِ ٱلْبَحْرِ أي بعيدة عن الشاطئ نحو ٢٥ غلوة أو ثلاثين (يوحنا ٥: ١٩) وكان عرض ذلك البحر نحو ٤٠ أو ٤٥ غلوة.
مُعَذَّبَةً أي عذاب ركابها لشدة اضطراب البحر كعادته عند هبوب العواصف، زيادة على سائر أمثالها من البحار.
ٱلرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً أي كانت من الغرب فمنعت السفينة من التقدم إلى وجهتها، وجعلت الأمواج تلطم السفينة فأخذ الرسل يجذفون ومع ذلك لم يستطيعوا التقدم إلا قليلاً (مرقس ٦: ٤٨ ويوحنا ٦: ١٩). فسمح المسيح لهم أن يتضايقوا ليعلمهم أنهم بدونه لا يستطيعون شيئاً.
٢٥ «وَفِي ٱلْهَزِيعِ ٱلرَّابِعِ مِنَ ٱللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِياً عَلَى ٱلْبَحْرِ».
وَفِي ٱلْهَزِيعِ ٱلرَّابِعِ كان اليهود قديماً يقسمون الليل إلى ثلاثة هُزع (قضاة ٧: ١٩). ولكن بعد استيلاء الرومان على الأرض المقدسة بواسطة قائد جيوشهم بمبيوس قسموا الليل إلى أربعة هُزع، وعبروا عنها إما بالعدد أو بالأسماء، وهي: المساء، ونصف الليل، وصياح الديك، والصباح (مرقس ١٣: ٢٥). والهزيع الرابع المذكور هنا هو قبل طلوع الشمس بثلاث ساعات.
مَاشِياً عَلَى ٱلْبَحْر أي آتياً من البر إليهم على وجه الماء كأنه ماشٍ على اليابسة. وهذا من آيات لاهوته بدليل قوله «الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ، وَالْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ» (أيوب ٩: ٨) فإن كانت مصائبنا كأمواج البحر الهائجة فلا تمنع المسيح من الإتيان إلينا.
٢٦ «فَلَمَّا أَبْصَرَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ مَاشِياً عَلَى ٱلْبَحْرِ ٱضْطَرَبُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ خَيَالٌ. وَمِنَ ٱلْخَوْفِ صَرَخُوا».
خافوا من أعظم بركاتهم ونحن مثلهم في أنه عندما يأتينا الله بالمصائب لخيرنا، نخاف منها.
خَيَالٌ أي صورة لا ذات لها تنذر بالشر. وكان القدماء يظنون أرواح الموتى تظهر أحياناً للأحياء، وأن ظهورها هذا إعلان لحلول كارثة ستصيبهم.
صَرَخُوا هذا يدل على أن التلاميذ لم يزالوا كالأطفال في أنهم يخافون من الوهم، ولم يحكموا في الأمور بمقتضى العقل السليم، مع أنهم بالغون وقد تعلموا من المسيح كثيراً.
٢٧ «فَلِلْوَقْتِ قَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا».
لم يعرفوا أنه هو المسيح حتى تكلم لأنه كان ليل. فاطمأنوا بسمع صوته المعهود وكلماته المشجعة. لا ريب في أن المسيح سمح بإرسال التلاميذ وحدهم في السفينة، كما سمح بهياج البحر وباضطرابهم وخوفهم لحكمة لا ندركها كل الإدراك. ولكننا نعلم أنه لم يتركهم زمناً طويلاً في الخطر بل بادر إلى معونتهم.
حدث قبلاً مثل هذا الاضطراب (متّى ٨: ٢٤) فعلمهم به وجوب الاتكال عليه وإن كان نائماً وظهر أنه غير منتبه لمصائبهم. وعلَّمهم بهذا الاضطراب وجوب الاتكال عليه وإن كان غائباً في الجسد باعتقادهم أنه يراقبهم دائماً، وأنه مستعدٌ كذلك لإعانتهم.
أَنَا هُوَ الخ في هذا الكلام توبيخ لطيف وتعزية كاملة، وهو يتضمن أنه حيث هو فلا خطر على تلاميذه. ونحن نستطيع أن نطمئن في كل المخاطر وفي وادي ظل الموت، لأنه يراقبنا في كل المصائب، وينادينا: «أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا».
٢٨ «فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ، فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى ٱلْمَاءِ».
أظهر بطرس بذلك شجاعته الخاصة وغيرته المشهورة وإسراعه في الأمور وميله إلى سبق غيره. ولعله فعل ذلك ليستر ما ظهر من خوفه قبلاً. ويحتمل أن في ما قاله شيئاً من الطمع في أن يفعل ما لا يستطيع أن يفعله غيره من التلاميذ، فيظهر به إيماناً أكثر من إيمانهم.
إِنْ كُنْتَ أَنْتَ «إن» هنا للقطع لا للشك، فيكون المعنى لأنك أنت الخ.
فَمُرْنِي تكلم بالصواب لأنه يجب عليه أن يتوقع أمر المسيح قبل أن يذهب إليه على وجه الماء. فبطلب الأمر له وحده دون سائر التلاميذ أظهر نفس الميل الذي أظهره يوم قال للمسيح «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا» (متّى ٣٦: ٣٣).
٢٩ «فَقَالَ: تَعَالَ. فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى ٱلْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ».
مشى المسيح على الماء معجزة. وإعطاؤه بطرس أن يفعل كذلك معجزة أخرى. وسمح لبطرس بهذا ليعلمه ما ينفعه، فكان يمشي على الماء بأمنٍ ما دام ينظر إلى المسيح ويثق به.
٣٠ «وَلٰكِنْ لَمَّا رَأَى ٱلرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ٱبْتَدَأَ يَغْرَقُ صَرَخَ: يَا رَبُّ نَجِّنِي».
لما حوَّل بطرس نظره من المسيح إلى الموج وتأمل في الخطر ونسي التأمل في قوة المسيح ابتدأ يغرق. فظهر أن إيمانه أضعف مما ظن، فانهزم إيمانه أمام عيانه!
صَرَخَ قصد بطرس أن يظهر عظمة إيمانه وشجاعته فأظهر شدة خوفه وزال عنه كل جرأته وثقته. فسرعة تحوله من الشجاعة إلى الخوف جاءت متناسبة مع طبيعته، مثل قطعه أذن ملخس خادم رئيس الكهنة ثم إنكاره للمسيح بعد قليل من ذلك خوفاً من كلام جارية. فتبين من ذلك أنه كان في أول أمره ناقص الثبوت والرزانة، وصار صخراً بعد ذلك بالنعمة لا بالطبيعة.
يَا رَبُّ نَجِّنِي كان بطرس يحسن السباحة (يوحنا ٢١: ٧) لكنه يئس من النجاة بقوته لشدة اضطراب البحر يومئذٍ، فطلب مساعدة المسيح. وكانت صلاته وجيزة لا تزيد على كلمتين، لكنها كانت كافية لنوال المطلوب. وفيها إظهار الاحتياج والإيمان والغيرة، وقد وجهها إلى من يجب أن توجه إليه. نعم إن إيمان بطرس كان ضعيفاً حتى أنه أخذ يغرق، لكنه كان كافياً لأن يصرخ إلى المسيح وينجو. فتعلَّم بطرس من هذه الحادثة أن لا يسأل معجزة لا فائدة منها لأحد، فالمسيحي الحقيقي ينتظر من الله النجاة مما يصيبه، ولكن لا يعرض نفسه للخطر لكي ينقذه الله منه.
٣١ «فَفِي ٱلْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: يَا قَلِيلَ ٱلإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟».
لا شيء يضعف الحياة ويبدد جهودها مثل الشك، إذ نشك أولاً في قدرتنا على طلب العون، ثم نشك في نوال هذا العون لا سيما إذا أبطأ علينا ولم ننل ما نريده فنيأس من أنفسنا ومن نجاتنا. أما يسوع فحاضر دائماً، يمد يده إلينا لينجينا. فهل مددنا إليه يداً وقلنا له: يا سيد أعنا وهو وحده المعين.
لا يطلب أحد معونة المسيح عبثاً، فكان اختبار بطرس كاختبار داود الذي حمله على أن يقول «أَرْسَلَ مِنَ الْعُلَى فَأَخَذَنِي. نَشَلَنِي مِنْ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ» (مزمور ١٨: ١٦) وأن يقول «إِذْ قُلْتُ: قَدْ زَلَّتْ قَدَمِي فَرَحْمَتُكَ يَا رَبُّ تَعْضُدُنِي» (مزمور ٩٤: ١٨). فالمسيح وإن كان غير منظور اليوم ينشل كل مؤمن به ويعضده سريعاً، بدليل قوله في شأن رعيته «وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي» (يوحنا ١٠: ٢٨).
أَمْسَكَ بِهِ لم يُمسك بطرس بمخلصه ونجا، بل أمسك المخلص به ونجاه. فإمساكنا بالمسيح لا يخلصنا بل إمساكه بنا هو واسطة الخلاص.
وَقَالَ نجاه المسيح أولاً ثم وبخه.
َيَا قَلِيلَ ٱلإِيمَان كان قليل الإيمان بأن المسيح يقدِّره على أن يمشي على الماء بعد ما أمره بذلك.
لِمَاذَا شَكَكْتَ لم يقل له: لماذا أتيت إليَّ؟ فلم يخطئ بأنه تعرض لأمر فوق طاقته بل بقلة إيمانه بأن المسيح يقدره عليه.
٣٢ «وَلَمَّا دَخَلاَ ٱلسَّفِينَةَ سَكَنَتِ ٱلرِّيحُ».
لم يذكر البشير أمر المسيح للريح بالسكون، ولكن القرينة تدل على ذلك، فقد تعجب الذين كانوا في السفينة كما يقول العدد التالي. وقال يوحنا إنهم قبلوه في السفينة وللوقت بلغت الشاطئ (يوحنا ٦: ٢١).
٣٣ «وَٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: بِٱلْحَقِيقَةِ أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰه».
مرقس ٢: ٧ ومتّى ١٦: ١٦ و٢٦: ٦٣ ومرقس ١: ١ ولوقا ٤: ٤١ ويوحنا ١: ٤٩ و٦: ٦٩ و١١: ٢٧ وأعمال ٨: ٣٧ ورومية ١: ٤
ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّفِينَةِ أي التلاميذ والملاحون. وحقَّ لهم أن يتعجبوا لأن القوة التي أظهرها يسوع على الريح مما يختص بالله وحده حسب قول المرنم «فِي الْبَحْرِ طَرِيقُكَ، وَسُبُلُكَ فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ، وَآثارُكَ لَمْ تُعْرَفْ» (مزمور ٧٧: ١٩) فذهلوا إذ رأوا إنساناً مثلهم في المنظر متسربلاً بتلك القوة الإلهية.
أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰه هذا الاسم استعمله اليهود كثيراً للمسيح الذي توقعوه. وأظهر الذين في السفينة بذلك زيادة إيمانهم باختبارهم رحمة الله وسلطان المسيح إذ رأوا الرياح والأمواج تطيعه.
يجب علينا كلما نجونا من شدة أن نجعل نجاتنا موضوع شكر، ووسيلة إلى زيادة ثقتنا بالله.
فائدة: تشبه الكنيسة وهي مضطربة من تجارب العالم واضطهاده تلك السفينة وهي مضطربة في بحر الجليل، وكثيراً ما تشعر الكنيسة بأنها متروكة كما ظن التلاميذ أن المسيح قد تركهم في تلك الليلة. وأما المسيح وهو يصلي على الجبل فافتكر في الذين في السفينة، وأتى إليهم حين بلغ الخطر أشدَّه. وهكذا يفعل المسيح الآن، فإنه يشفع في كنيسته في السماء يأتي إلى معونتها على الأرض، وبإتيانه يحول كل خوف وخطر وضيق إلى أمن وسلام واطمئنان.
٣٤ «فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ».
تثنية ٣: ١٧ و١ملوك ١٥: ٢٠ ومتّى ٤: ١٨ ومرقس ٦: ٥٣ ولوقا ٥: ١ ويوحنا ٢١: ١
عَبَرُوا أي بحر الجليل.
أَرْضِ جَنِّيسَارَت هي سهل على الجانب الغربي من ذلك البحر طوله أربعة أميال وعرضه ميل، ولذلك أضيف إليه البحر أحياناً (لوقا ٥: ١). قال يوسيفوس إن ذلك السهل خصيب كجنة وبهيج جداً وكثير السكان. وكانت كفرناحوم على طرفه الشمالي الشرقي، ولذلك قال يوحنا في الكلام عن هذه الحادثة إن المسيح وتلاميذه جاءوا إلى كفرناحوم (يوحنا ٦: ١٧) ولا بد أنهم مروا ببيت صيدا قبلاً لأنها كانت على طريقهم (مرقس ٦: ٤٥). ولما بلغوا كفرناحوم وأرض جنيسارت دار الحديث بين المسيح والذين شاهدوا معجزة الأرغفة في معناها الروحي (يوحنا ٦: ٢٢ - ٦٥).
٣٥ «فَعَرَفَهُ رِجَالُ ذٰلِكَ ٱلْمَكَانِ. فَأَرْسَلُوا إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ وَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ ٱلْمَرْضَى».
عرفه أهل تلك البلاد لأنه صرف مدة طويلة بينهم.
٣٦ «وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا هُدْبَ ثَوْبِهِ فَقَطْ. فَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ لَمَسُوهُ نَالُوا ٱلشِّفَاءَ».
متّى ٩: ٢٠ ومرقس ٣: ١٠ ولوقا ٦: ١٩ وأعمال ١٩: ١٢.
هذا ليس تكراراً لقول البشير في متّى ٨: ١٦ لأن هذه حادثة غير تلك، وقصد متّى بذكرها أن يبين أن المسيح كان يصنع في كل زمن خدمته الأرضية معجزات لم يذكر الإنجيليون سوى قليل منها.
يَلْمِسُوا هُدْبَ ثَوْبِهِ شفوا بلمسهم إياه لأنهم لمسوه بإيمان، ولعلهم أخذوا ذلك عن المرأة نازفة الدم لأن خبرها كان قد شاع هناك (متّى ٩: ٢٠ - ٢٢). وكان في سلطان المسيح أن يشفيهم بكلمة على البُعد، لكنه سُر بأن يصاحب الشفاء شيء من عملهم، كمدِّ أيديهم إليه علامة الإيمان به. فيا ليت كل مرضى الخطية الآن يرغبون في المسيح رغبة الإيمان كأولئك، لأن الناس في كل أرض لا في أرض جنيسارت وحدها يستطيعون أن يلمسوا هدب ثوبه بالإيمان، فيجدوا شفاءً لا موت بعده إلى الأبد.
الأصحاح الخامس عشر
١ «حِينَئِذٍ جَاءَ إِلَى يَسُوعَ كَتَبَةٌ وَفَرِّيسِيُّونَ ٱلَّذِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ».
مرقس ٧: ١ الخ
وهذا دليل أن شهرة يسوع كانت قد انتشرت وذاع ذكره على كل شفةٍ ولسان، وأن من جهة تعاليمه الممتازة، أو إجراء العجائب والمعجزات، أو سيرته المملوءة بالمحبة والحنان، فاقتضى قدوم بعض علماء اليهود ليفحصوا: من هذا؟
أتوا من أورشليم ليراقبوا يسوع ويسمعوا كلامه ويخبروا الرؤساء ويمنعوا الشعب من قبولهم للمسيح. وهنا شكوا التلاميذ إليه، وكانت الشكوى في الحقيقة عليه. وغرضهم من ذلك خفض مقامه وعدم اعتباره عند الشعب.
٢ «لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ ٱلشُّيُوخِ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزاً؟».
كولوسي ٢: ٨
تَقْلِيدَ ٱلشُّيُوخ هو وصايا طقسية أخذها الخلف عن السلف شفاهاً منذ قرون عديدة من آباء الأمة اليهودية المعروفون بالشيوخ.
زعم اليهود (ما عدا الصدوقيين منهم) أن موسى أُعطي على طور سينا نوعين من الوصايا، أحدهما مكتوب والآخر شفوي، فحفظه في ذاكرته وسلمه قبل موته إلى يشوع، وسلمه يشوع إلى القضاة، وسلمه القضاة إلى الأنبياء، وبذلك حُفظ بلا تغيير حتى سُطِّر في التلمود الذي يحترمه اليهود إلى هذا اليوم احترامهم لأسفار موسى والأنبياء بل أكثر منها. فإنهم شبهوا الشريعة المكتوبة بالماء، والتي لم تكتب بالخمر. وكانت تلك التقاليد كثيرة لكنها لا طائل تحتها. فاحترامهم لها دلالة على أنهم تركوا عظائم الناموس وتمسكوا بالأمور الزهيدة في الدين، فجعلوا الجوهريات عرضيات والعرضيات جوهريات. ويوضح ذلك سؤالهم المسيح هنا. وأما الصدوقيون فرفضوا كل تلك التقاليد.
تَلاَمِيذُكَ أي المتعلمون منك فأنت المسؤول عن أعمالهم.
فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُم هذا الغسل مما أمر به موسى في سفر اللاويين (ص ١٢ - ١٥) فإن ذلك مختص بأوقات معينة وهي واسطة التطهير من تدنُّسات مخصوصة لا تتعلق بالأعمال البيتية اليومية. فلم يقصد الكتبة من الغسل النظافة المعتادة، بل الخدمة الدينية التي أوجبوا أن تؤتى دائماً قبل الأكل. واعتبروا ذلك أكثر من اعتبارهم طهارة القلب. وزاد مرقس على اغتسالهم قبل الأكل اغتسالهم بعد مجيئهم من السوق (مرقس ٧: ٣، ٤). وعلة ذلك احتمال اقترابهم في السوق من وثني أو مما له، فتدنسوا به فاغتسلوا بغية أن ترجع إليهم الطهارة الدينية. فلهذا كان الاغتسال عندهم من ضروريات الدين. وكثيراً ما مدحت كتبهم أحد الربانيين بأنه حين سُجن ولم يسمح له من الماء إلا بما يحتاج إلى شربه اختار أن يموت عطشاً على أن يأكل بيدين غير مغسولتين.
خُبْزاً أي طعاماً. واقتصروا على ذكر الخبز لأنه قوام الحياة الجسدية، وهو كناية عن كل أنواع الطعام.
ولم يعتبر المسيح تقاليد الشيوخ ذات شأن. وهذا علة شكوى الفريسيين. على أن المسيح لم يذم الغسل ولكن ذم فرضه شرعاً، وأن الله يوجبه، وهم جعلوه أسمى مما أمر به في الشريعة.
٣ «فَأَجَابَ: وَأَنْتُمْ أَيْضاً، لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ؟».
لم ينكر المسيح أن تلاميذه خالفوا تقاليد الشيوخ، لكنه دافع بأن قال إن اليهود خالفوا شريعة الله بتقاليدهم البشرية المناقضة لها. ومن الخطير أن يفرض البشر على غيرهم أوامر تخالف أمر الله. صحيحٌ أن المسيح أوجب على تلميذه أن يترك أمه وأباه لأجل الإنجيل، وقال إن من أحب أباً أو أماً أكثر منه فلا يكون له تلميذاً (متّى ٤: ١٨، ٢٢) مع أن الله أمر بإكرام الوالدين (خروج ٢٠: ١٢). لكن المسيح قصد بهذا أن ما علينا لله يجيء قبل ما علينا للناس، فإذا اضطر إنسان أن يختار أحد الواجبين وجب أن يختار أعظمهما، وهو طاعة الله. أما الفريسيون ففضلوا الشريعة الوضعية على الشريعة الإلهية.
٤ «فَإِنَّ ٱللّٰهَ أَوْصَى قَائِلاً: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمْ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً».
خروج ٢٠: ١٢ ولاويين ١٩: ٣ وتثنية ٥: ١٦ وأمثال ٢٣: ٢٢ وأفسس ٦: ٢ وخروج ٢١: ١٧ ولاويين ٢٠: ٩ وتثنية ٢٧: ١٦ وأمثال ٢٠: ٢٠ و٣٠: ١٧
ذكر المسيح هنا مثالاً لتعديهم شريعة الله بتقليدهم.
ٱللّٰهَ أَوْصَى في الوصية الخامسة (خروج ٢٠: ١٢).
وَمَنْ يَشْتِمْ الخ قيل ذلك في شريعة الله على يد موسى (خروج ٢١: ١٧).
٥ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ ٱلَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ».
يمكن ترجمة هذه العبارة هكذا «من قال لأبيه وأمه إن ما أقدمه لكما هو قربان وتقدمة للرب، لذلك لا أستطيع تقديمه لكما». أي أن الله أمر بشيء أمر شيوخ اليهود بخلافه، فإن تقليدهم ينافي الوصية الخامسة الآمرة بواجبات الأولاد لوالديهم. ومن تلك الواجبات الاعتناء بهم زمن الحاجة والشيخوخة. وذلك مما يوجبه على الإنسان ضميره ونص الكتاب الإلهي. فإنهم وإن لم ينفوا وصية الله قولاً نفوها عملاً بتعليمهم الوضعي البشري.
ومن قول المسيح هنا نرى أنه أوجب على المؤمنين به ما أوجبته شريعة موسى من أمر إكرام الوالدين وطاعتهما ومحبتهما والاعتناء بهما إن كانا في حاجة أو في شيخوخة.
قُرْبَانٌ تقدمة دينية لله أو شيء مخصص له. وقوله «قربان» بمثابة قولنا «هذا نذر عليَّ أو وقف لله» وكانوا يعينون المال أو جزءاً منه لأمور دينية بمجرد التلفظ بكلمة «قربان» فينفق بعد ذلك على الهيكل أو على الكهنة واللاويين، أو على شراء حيوانات الذبيحة. وكان الفريسيون يعلمون أن وقف المال كذلك يسر الله أكثر من أن ينفق على الوالدين المحتاجين.
قُرْبَانٌ هُوَ ٱلَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّ هذا قول الابن، ومعناه: إني وقفت لله يا والديَّ كل ما أستطيع أن أنفعكما به من مال أو خدمة، فلم يبقَ لكما شيء منه. وبعد قول الابن لوالديه ما ذُكر لا يعطيهما شيئاً من ماله أو خدمته، ولو كانا في أشد الاحتياج.
فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ هذا جواب الشرط في قول الفريسيين «من قال لأبيه أو أمه..». والمعنى أن من قال هذا لا يصبح مكلفاً أن يكرم والديه بتقديم مالٍ أو خدمة لهما ولو كانا في أشد الفقر. وهذا تصريح بالهروب من الواجبات الطبيعية والإلهية للوالدين. فإذا تركهما الولد وماتا جوعاً فلا لوم عليه ولا حرج**فإن تقليد الفريسيين أجاز له أن يوقف ما له للهيكل بعد المدة التي يختارها، ولو كانت نهايتها يوم موته. فيكون له أن ينفق من ماله على نفسه كل تلك المدة ولا يجوز أن ينفق شيئاً منه على والديه.
٦ «فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ».
أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰه خلاصة الوصية الإلهية وجوب إكرام الوالدين، والحكم بقتل من شتم والديه. أما خلاصة تقليد اليهود فإنه إذا اغتاظ ولد من والديه وقال «مالي وخدمتي لكما قربان» يكون قد عمل صالحاً. فإذاً شريعتهم التقليدية البشرية الطقسية أبطلت شريعة الله الأدبية الأبدية.
تَقْلِيدِكُم أي التقليد الذي أنتم تسيرون بموجبه وتلزمون غيركم أن يتبعكم فيه.
ولا يذم المسيح بهذا التعليم من يوقف لله جزءاً من المال لمقاصد دينية أو خيرية، لكنه ذمَّ من يفعل هذا ليتخلص من الواجبات نحو الوالدين والأقرباء لغيظٍ منهم. قال الرسول الإلهي «وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ» (١تيموثاوس ٥: ٨).
٧، ٨ «٧ يَا مُرَاؤُونَ! حَسَناً تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلاً: ٨ يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هٰذَا ٱلشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً».
إشعياء ٢٩: ١٣ وحزقيال ٣٣: ٣١
ظهر هذا الرياء بتشجيع الأبناء على مخالفة الوصية الخامسة «أكرم أباك وأمك..» بادعاء أنه يريد أن يكرم الله قبل الوالدين. والحقيقة أنه يتهرب من واجباته نحو الوالدين.
يَا مُرَاؤُونَ هم الذين يقولون ويعملون خلافاً لما في نفوسهم خداعاً لغيرهم. وصح وصف الفريسيين بالرياء لأنهم ادعوا الغيرة لشريعة الله والدين الحق، وهم يخالفونهما، لأنهم جعلوا ترك الأبناء ما يجب عليهم لوالديهم المحتاجين من أعمال التقوى.
حَسَناً تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ إشعياء ٢٩: ١٣ والكلام منقول عن الترجمة السبعينية. ولم يرد بقوله «عنكم» أن النبي قصدهم دون غيرهم، بل أن ما قاله يصدق عليهم كما صدق على اليهود في عصره، وذلك قبل حديث المسيح بسبعمئة سنة.
يَقْتَرِبُ إِلَيَّ... بِفَمِه أي يظهرون أشد الغيرة لعبادة الله ويتممون كل مطالب الشريعة الخارجية ويعلنون بكلمات شفاههم أنهم يسبحونه، ولكن كل ذلك عبث لأن الله يطلب عبادة القلب وتسليم الإرادة وهم لا يفعلون ذلك.
وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ كل عبادة لا يشترك فيها القلب يحسبها الله رياءً، فأول ما يجب علينا أن يكون لنا القلب الجديد (حزقيال ١٨: ٣١) وأفضل تقدمة لله هي القلب المنكسر (مزمور ٥١: ١٧) والختان الحقيقي هو ختان القلب (رومية ٢: ٢٩) والطاعة المقبولة هي الطاعة من القلب (أفسس ٦: ٦) والإيمان الذي للخلاص هو إيمان القلب (رومية ١٠: ١٠) فيجب علينا أن نسأل حلول المسيح في قلوبنا بالإيمان (أفسس ٣: ١٧) وأعظم طلبة تطلبها الحكمة الإلهية من كل منا هي قوله «يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ» (أمثال ٢٣: ٢٦).
٩ «وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاس».
كولوسي ٢: ١٨ الخ وتيطس ١: ١٤
وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي أفسد رؤساء الدين من اليهود بل من كل طائفة دينهم بما زادوا عليه من دون إذن الله، فلم يبق فيه فائدة لهم ولا للذين اقتدوا بهم في تعليمهم وسيرتهم. فصارت عبادتهم باطلة لأنها كانت خارجية، والله ينظر إلى قلب العابد لا إلى يديه المرفوعتين وركبتيه الجاثيتين وشفتيه المتحركتين، ولأنها لم تكن مبنية على الطاعة لله، ولأنها لم تأت بأثمار لمجد الله ولا لخير الناس ولا لخير أنفسهم هم.
يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاس أي يجعلون وصايا الناس أموراً جوهرية في الدين، فيوجبون الإيمان بها والعمل بموجبها. والمقصود بوصايا الناس هنا التقاليد اليهودية، وهذه التسمية تصدق على التقاليد التي قبل الميلاد وعلى كل أمثالها بعده. ووضع اليهود تلك الوصايا فوق وصايا الله، ولكنها ليست شيئاً بالنسبة إليها ولا تلزم الضمير بالطاعة لها. فأعلن المسيح أن شريعة الله المكتوبة أسمى من كل تعليم سواها فتجب الطاعة الكاملة لها، وإنه لا اعتبار البتة للتقاليد مهما كانت قديمة أو مستندة على أسماء المشهورين من الناس في العلم والمقام.
١٠ «ثُمَّ دَعَا ٱلْجَمْعَ وَقَالَ لَهُمُ: ٱسْمَعُوا وَٱفْهَمُوا».
ثُمَّ دَعَا ٱلْجَمْعَ وجه كلامه السابق إلى الكتبة والفريسيين، وهنا وجه الكلام إلى الجمع المصغي إليه. ولا يلزم من قوله «دعا الجمع» أنه غيَّر مكانه أو أنهم غيَّروا أماكنهم ولا أنهم لم يكونوا يسمعونه قبلاً. ولكن أراد بذلك زيادة انتباههم لما عزم على أن يقوله من مبادئ الدين ولإيضاح الحق، دفعاً لأمثال تلك المسألة التي أوردها الكتبة والفريسيون.
ٱسْمَعُوا وَٱفْهَمُوا قال ذلك تنبيهاً لهم على أهمية ما سيتكلم به، فطلب منهم أن يدركوا المعنى ولا يكتفوا بالسمع.
١١ «لَيْسَ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ، بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ ٱلْفَمِ هٰذَا يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».
أعمال ١٠: ١٥ ورومية ١٤: ١٤، ١٧، ٢٠ و١تيموثاوس ٤: ٤ وتيطس ١: ١٥
ينتقل هنا إلى مواجهة ذلك الغسل اليهودي الطقسي الذي جعلوه كأحد وصايا الله إن لم يكن أعظم، وهكذا تمسكوا بالعرض وتركوا الجوهر. إذ الجوهر هو حفظ اللسان والفم من الدنس قبل حفظهما بواسطة غسل الأيدي فقط.
كان اليهود يهتمون كثيراً بالتمييز بين الأطعمة المحسوبة في شريعة موسى طاهرة والأطعمة المحسوبة فيها نجسة. وغاية الله في وضع ذلك التمييز أمران: (١) أن يعلمهم بأمور محسوسة التمييز بين الحلال والحرام، وقيمة الطهارة القلبية استعداداً لدخول المسكن السماوي. و(٢) أن يجعله حاجزاً بين اليهود وجيرانهم الوثنيين، ليكونوا شعباً متفرِّداً لأنهم يلتزمون ألا يأكلوا معهم. فلم يرد المسيح أن يقول إن بعض الأطعمة أقدس من البعض، ولا أن يكون ذلك إلى الأبد، بل جعله موقوتاً إلى نهاية النظام الموسوي.
وتمت غاية الله بإفراز اليهود عن الأمم بواسطة تمييز الأطعمة خمسة عشر قرناً. لكن نتج من ذلك أمران لم يرضهما الله، وهما أن اليهود حسبوا الشريعة الرمزية الموقوتة جوهرية أبدية، وحسبوا الأطعمة المنهي عنها نجسة، وأنها تنجس النفس والجسد. ثم اعتبروا أن النجاسة الرمزية شرٌ من الدنس الأخلاقي.
ولم يقصد المسيح هنا أن ينسخ الشريعة الموسوية من جهة تمييز الأطعمة، بل أراد إصلاح الخطأ الذي وقع فيه اليهود، وبيان أن روح الإنسان لا تتنجس بالمأكولات. فلا شيء من الأطعمة يمكنه أن ينجس الأخلاق. فالنجاسة الأخلاقية تتوقف على حال القلب لا حال الجسد.
مَا يَدْخُلُ ٱلْفَم أي الأطعمة على اختلاف أنواعها.
يُنَجِّسُ أي تنجيساً أخلاقياً. فلم ينكر المسيح أن بعض الأطعمة ينجس طقسياً، ولا أن الذي يأكل الطعام المنهي عنه يخطئ لتعديه نهي الله. لكنه قال إن الطعام في ذاته لا ينجس ولا يقدس. وقول المسيح «لَيْسَ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يُنَجِّسُ» واضح لكل مسيحي حتى أنه لا يحتاج إلى دليل، ولكنه كان عند اليهود سراً عظيماً لأنه خالف ما علمهم إياه رؤساء دينهم. وتعليم المسيح يخالف اعتقاد ملايين الوثنيين الذين يقوم دينهم على الامتناع عن أكل اللحوم واكتفائهم بأكل البقول. وبذلك يتعلق رجاءهم دخول السماء.
ويظهر قول المسيح المذكور سمو الديانة الروحية وعدم قيمة الطقوس والأصوام والاغتسالات الدينية بالنسبة إلى طهارة القلب التي لا بد منها لمعاينة الله.
١٢ «حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَقَالُوا لَهُ: أَتَعْلَمُ أَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا ٱلْقَوْلَ نَفَرُوا؟».
حِينَئِذٍ أي بعد ما انفصل المسيح وتلاميذه عن الكتبة والفريسيين وانصرف الجموع دخل هو وتلاميذه بيتاً (مرقس ٧: ١٧).
نَفَرُوا أي غضبوا على المسيح لأنه علَّم خلاف تقاليد الشيوخ، وخلاف ما ظهر لهم أنه تعليم موسى، ولأنه دعاهم «مرائين» وأثبت عليهم أنهم تعدوا الوصية الخامسة بتقاليدهم. ونستدل من ذلك أن التلاميذ اضطربوا لما سمعوا وشاهدوا من رؤساء دينهم وبلادهم من أدلة الغضب على معلمهم.
١٣ «فَأَجَابَ: كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي ٱلسَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ».
يوحنا ١٥: ٢ و١كورنثوس ٣: ١٢ الخ.
هذه الاستعارة قديمة ومتواردة جداً كقول المرنم «كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ. طَرَدْتَ أُمَمًا وَغَرَسْتَهَا.. يُفْسِدُهَا الْخِنْزِيرُ مِنَ الْوَعْرِ، وَيَرْعَاهَا وَحْشُ الْبَرِّيَّةِ» (مزمور ٨٠: ٨، ١٣). هذا الكلام مثل استُعير فيه غرس النبات في الأرض وتقرير التعاليم، فالقلوب كالأرض والتعاليم كالغروس.
كُلُّ غَرْسٍ أي كل تعليم من تعاليم الفريسيين وتقاليدهم، فكل ما يتعلق بهم غير نافع كالأعشاب البرية بين الزروع.
أَبِي ٱلسَّمَاوِيُّ ادَّعى الفريسيون أن تعاليمهم إلهية، ولكن المسيح قال إنها بشرية لأنها ستُقلع، وكل ما هو من الله يثبت إلى الأبد. وقوله نبوي، فستنتهي كل الضلالات في الدين، وكل المعلمين الكاذبين أو المفسدين هم للقلع والهلاك.
وهذه النبوة تسر أصحاب الحق كما تخيف أهل الضلال. فالتقاليد البشرية هي مما لم يغرسه الآب فعاقبتها ظاهرة، وتنفيذ قلعها واجب على كل أصحاب الحق.
١٤ «اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ».
إشعياء ٩: ١٦ وملاخي ٢: ٨ ومتّى ٢٣: ١٦ ولوقا ٦: ٣٩
هذه كلمات شديدة جداً تدل على الثورة الروحية التي لا هوادة فيها ولا لين.
اُتْرُكُوهُمْ أي لا تتبعوهم ولا تلتفتوا إلى ما يقولون. لا تسألوا عن ذمهم إياكم أو مدحهم لكم ولا عن رضاهم أو غيظهم، فإن هلاكهم قريب. وإن لم يهلكهم غيرهم سيهلكون أنفسهم، لأن الضالين أعداء نفوسهم فيضرون ذواتهم أكثر مما يضرون غيرهم. ولا تجادلوهم لأن غاية الجدال إرشاد الضالين لا قصاص المضلين، وهذا القصاص من أحكام الله لا من أحكامهم.
هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ المراد بهؤلاء العميان رؤساء اليهود الذين لا بصر روحي لهم ليدركوا الحق لإفادة أنفسهم أو نفع غيرهم.
عُمْيَانٍ العميان هم الشعب الذين انقادوا لتعاليم رؤسائهم بلا نظر، وخضعوا لهم في كل الطقوس والفرائض الباطلة الثقيلة التي حملوهم إياها. فالله ليس ظالماً عندما يسمح لبعض الناس أن يقودوا غيرهم إلى الهلاك، لأن المنقادين غير مجبورين أن يتبعوا أولئك القادة، بل هم مخيرون في اتباع من يحبون. فإذن هم مذنبون . فإن اتباع المعلمين الكذبة إثم، وكذا قبول كل تعليم مخالف لكتاب الله.
أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى الخ هذا الكلام جارٍ مجرى المثل، وضربه المسيح مثلاً في غير هذا الموضع (لوقا ٦: ٣٩). والأمر واضح أنه إذا قاد الأعمى أعمى فهما في خطر أن يسقط كلاهما في كل حفرة. والذي يصدق على العمى الجسدي يصدق على العمى الروحي وهذا أشرّ لأنه اختياري (متّى ١٣: ١٥) ولا يشعرون به (يوحنا ٩: ٤١) ولذلك لا يحترسون. فإن ضرر النفس بالسقوط في هاوية الضلال أشد من ضرر الجسد بالسقوط في حفرة مهما كانت عميقة.
١٥ «فَقَالَ بُطْرُسُ لَهُ: فَسِّرْ لَنَا هٰذَا ٱلْمَثَلَ».
قال بطرس ذلك بالنيابة عن سائر الرسل بدليل قوله «فَسِّرْ لَنَا» وبدليل أن المسيح وجه الجواب إلى جميع الرسل.
هٰذَا ٱلْمَثَل المراد بهذا المثل ما ذكره في آية ١١ بقوله «ليس ما يدخل الفم الخ» وسمى بطرس ذلك مثلاً لأن له معنى باطناً وراء المعنى الظاهر، ولأنه استغرب كلام المسيح فلم يعتقد أنه يقصد منه ظاهر معناه.
١٦ «فَقَالَ يَسُوعُ: هَلْ أَنْتُمْ أَيْضاً حَتَّى ٱلآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟».
يتضمن هذا السؤال توبيخ الرسل على اشتراكهم في الضلالة العامة، لأن أهواءهم اليهودية السابقة منعتهم من إدراك قصد المسيح. وتظهر لنا صعوبة التخلص من تلك الأهواء في أن بطرس احتاج بعد ذلك بزمان إلى رؤيا خاصة لدفع الأوهام التي نتجت من تلك الأهواء (أعمال ١٠). ومع كل ذلك بقي أسيراً لها حتى لامه بولس نحو عشرين سنة من ذلك الوقت (غلاطية ٢: ١١).
أَنْتُمْ أَيْضاً حَتَّى ٱلآنَ كان مما يجب عليهم لتعلمهم منه أن يكونوا أكثر فهماً من سائر الشعب بعد كل تلك المدة التي علمهم فيها.
غَيْرُ فَاهِمِينَ فمعنى المثل واضح لكل ذي عقل سليم ولكل من له معرفة بكتاب الله. ليس لهم عذر إذا منعتهم الأهواء اليهودية وتقاليد اليهود عن فهمه.
١٧ «أَلاَ تَفْهَمُونَ بَعْدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يَمْضِي إِلَى ٱلْجَوْفِ وَيَنْدَفِعُ إِلَى ٱلْمَخْرَجِ؟».
١كورنثوس ٦: ١٣
كأنه يقول لماذا استغربتم قولي؟ إن ما يأكله الإنسان لا يدنس نفسه، فالطعام يدخل الجوف ليهضم ويختلط بعض أجزائه بالدم، ويندفع الآخر إلى الخارج، فبذلك يصل الطعام إلى أعضاء الجسد فقط ولا يمس النفس. فإذاً لا يؤثر فيها خيراً أو شراً. فعواطف الإنسان الأخلاقية لا تتأثر من الطعام.
١٨ «وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ ٱلْفَمِ فَمِنَ ٱلْقَلْبِ يَصْدُرُ، وَذَاكَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».
يعقوب ٣: ٦
بعدما صرّح المسيح بأن ما يدخل الفم لا ينجسه أوضح أن ما ينجسه حقيقة، أي لا يؤهله لدخول هيكل الله السماوي. كما أن الذي يتدنس طقسياً غير أهل لأن يدخل هيكل سليمان.
ٱلْقَلْب كثيراً ما يعبر الكتاب بالقلب عن مستودع ميول الإنسان، خيراً كانت أم شراً. ويعبر به أحياناً عن المشيئة، وأحياناً عن كل الصفات الأخلاقية، وهو المقصود هنا. إذاً غسل القلب لا اليدين يطهر الإنسان، فإن كان قلب الإنسان دنساً كان الإنسان كله دنساً. فقوله «ما يصدر من القلب ينجس» يدل على الحال الداخلية. وليس المقصود هنا أن الأفكار الشريرة لا تنجس القلب إلا عند ظهورها، بل إنها إذا ظهرت دلت على نجاسة مصدرها.
١٩ «ِأَنْ مِنَ ٱلْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ».
تكوين ٦: ٥ و٨: ٢١ وأمثال ٦: ١٤ وإرميا ١٧: ٩ ومرقس ٧: ٢١
هذه أهم الخطايا في العُرف اليهودي لأنها ضد وصايا الله العشر. لذلك لفت يسوع نظرهم إلى هذه الحقيقة الجوهرية لئلا تعمى بصائرهم عن نور الله كما كانت حالة أولئك. فليهربوا إذن من هذا العمى الروحي المخزي. إن أصل كل الرذائل المذكورة هنا في أهواء القلب الرديئة ومبادئه الفاسدة.
أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ هي طليعة جيش الشرور الذي يخرج من القلب وهي أفكار الطبيعة الفاسدة. فمن الأغلاط أن لا يكترث الإنسان بأفكاره، ويكترث فقط بأعماله، فالأفكار أساس كل عمل وينابيع كل ارتكاب الشر. إن طهارة الأعمال أو نجاستها تتوقف على الأفكار التي أنتجتها. ولا يمكن للإنسان أن يكون طاهراً ما دامت أفكاره دنسة.
قَتْلٌ هو إعدام حياة الإنسان عمداً، ونهت عنه الوصية السادسة. والقتل يتولد من الحقد والبغض وروح الانتقام التي في القلب (يعقوب ٤: ١ و١يوحنا ٣: ١٥).
زِنىً، فِسْقٌ الزنى هو تعدي أحد الزوجين الوصية السابعة. والفسق هو تعدي الأعزب تلك الوصية، وكلاهما نتيجة الشهوة الرديئة في القلب (يعقوب ١: ١٥).
سِرْقَةٌ هي كل تعدِ على حقوق الآخرين المالية، وهي نتيجة الطمع في القلب فتكون منهياً عنها في وصيتين هما الثامنة والعاشرة.
شَهَادَةُ زُور هي إخفاء الحق عند الحاجة إلى بيانه، أو إظهار خلافه بهدف ضرر المشهود عليه ونفع الشاهد نفسه. فهي نتيجة الحقد أو الطمع في القلب. واللسان الكاذب يظهر أن القلب مملوء خداعاً. ونهت عنها الوصية التاسعة.
تَجْدِيف شتم الله والناس، وقد نُهي عنه في الوصية الثالثة. ويأتي التجديف نتيجةً للغيظ الشديد في القلب. وذكر مرقس في كلامه على هذا الخطاب خطايا لم يذكرها متّى، وترك خطايا ذكرها فيه متّى. فيظهر من ذلك أن المسيح ذكر عدة خطايا، ذكر متّى بعضها وذكر مرقس البعض الآخر.
٢٠ « هٰذِهِ هِيَ ٱلَّتِي تُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ. وَأَمَّا ٱلأَكْلُ بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فَلاَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».
كرر هنا قوله السابق لزيادة الإيضاح والتقرير، وخلاصة ذلك أن الخطايا المذكورة تنجس الإنسان أي تجعله مكروهاً من الله وغير أهل لدخول السماء الطاهرة.. ولا ينجسه أن يترك غسلات جسدية طقسية. فشهادة المسيح بحال القلب البشري (في آيتي ١٩، ٢٠) ليست على أردأ الناس فقط بل على البشر عامة، وشهادته حق لأنه يعلم ما في الإنسان (يوحنا ٢: ٢٥). فهذا يظهر لنا إثم قلوبنا كما هو في عيني الله، واحتياجنا إلى المخلص ليغفر ذلك الإثم، وإلى الروح القدس ليطهر تلك القلوب وفقاً لقول داود «قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي» (مزمور ٥١: ١٠). فمن طلب هذه الطلبة وحصل على المغفرة والتجديد تغيرت أحواله القديمة الرديئة «إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا» (٢كورنثوس ٥: ١٧).
٢١ «ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَٱنْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ».
خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاك أي من أرض جنيسارت قرب كفرناحوم (متّى ١٤: ٣٤).
وَٱنْصَرَف ظن البعض أنه انصرف ليتقي غضب أعدائه الذين هاجوا كثيراً في ذلك الوقت. وظن آخرون أنه انصرف ليتخلص من ازدحام الجموع الكثيرة الآتية إليه بغية الشفاء أو المشاهدة العادية. ولعله انصرف ليظهر لتلاميذه بفعل الخير لامرأة من الأمم، فإن للأمم نصيباً في فوائد مجيئه، وإن كانت خدمته الأرضية لليهود خاصة (آيتا ٢٤، ٢٦).
ولا ريب في أن كل سفر من أسفار المسيح كان بموجب قضائه السابق لغاية معينة، سواء وضحت لنا تلك الغاية أم لا.
نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاء قال مرقس إنه مضى إلى تخوم صور وصيدا (مرقس ٧: ٢٤) فهو لم يدخل كثيراً في أرض تلك المدينتين. ولعله بلغ التخوم ولم يتجاوزها. وكانت المدينتان أعظم المدن في فينيقية، وهما على شاطئ بحر الروم غرب الجليل وشمال غرب اليهودية.
٢٢ «وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ ٱلتُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ: ٱرْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ٱبْنَ دَاوُدَ. اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّا».
كَنْعَانِيَّةٌ سُميت كذلك لأن سكان فينيقية كانوا أولاد كنعان حفيد نوح، ولم يطردهم بنو إسرائيل من أرضهم كما طردوهم من أرض فلسطين. وسماها مرقس «أممية» لأنها وثنية، وفينيقية سورية لأنها من سلالة القبائل التي أمر الله بإهلاكهم لأجل عبادتهم الأوثان ولأجل كثرة شرورهم. ونُسبت إلى سوريا لأن الأرض التي سكنتها كانت محسوبة عند الرومان جزءاً من ولاية سوريا وتحت حكم واليها.
خَارِجَةٌ مِنْ ٱلتُّخُومِ أي آتية من بيت أو قرية في تلك الأرض قريبة أو بعيدة.
ٱرْحَمْنِي انتشر صيت المسيح يومئذٍ في كل سوريا حتى بلغ أقاصيها (متّى ٤: ٢٤) وأتى الناس إليه من صور وصيدا (مرقس ٣: ٨). فالظاهر أن تلك المرأة سمعت برأفته وحنوه وشفقته على الحزانى والمصابين، فحملها ذلك على أن تقصد المسيح ليشفي ابنتها. فسألته الرحمة لنفسها إذ حسبت مصيبة بنتها مصيبة لها.
وكثيراً ما تكون مصائب الإنسان بركة له، لأنها تقوده إلى المسيح. فلولا مرض تلك البنت ما عرفت هي ولا أمها المسيح، ولا أتت الأم إليه. ومن أعظم ما كان لتلك البنت من خير مع مصابها أنه كان لها والدة صلَّت إلى المسيح من أجلها. فعلى كثيرين من الأولاد الآن أن يشكروا الله أن أمهاتهم لم تكف عن الصلاة إلى المسيح من أجلهم، فإن تلك الصلاة من وسائل خلاصهم.
يَا ٱبْنَ دَاوُدَ غلب أن يدعى المسيح بهذا الاسم أكثر من سائر أسمائه، فلا بد من أن الذين أخبروها بأعمال المسيح سموه بهذا الاسم.
مَجْنُونَةٌ أي فيها شيطان (مرقس ٧: ٢٩).
٢٣ «فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: ٱصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!».
نتعجب من تصرف المسيح مع هذه المرأة المسكينة، كما نتعجب من شدة كلامه معها وهو المشهور عنه بالرقة واللين نحو المرأة بنوع خاص. ونرى فرقاً في هذا الحديث عن حديثه مع المرأة السامرية مثلاً. فلماذا؟ لا نستطيع أن نفهم الموقف تماماً إلا بدرس القرائن كلها. ويظهر أن هذه المرأة احتاجت إلى مثل هذا الكلام لتُظهر إيمانها العظيم.
فَلَمْ يُجِبْهَا أي بقي ساكتاً، وهذه يعني عدم قبوله طلبها. وهذه هي المرة الوحيدة التي ذكر فيها أن المسيح أبى أن يعمل المعجزة إحساناً إلى المصابين، إذ كثيراً ما صنع المعجزات بدون طلب. على أن امتناعه هنا الآن كان وقتياً لغاية ذات شأن، وهي أن يمتحن إيمان الوالدة وليعلّم تلاميذه (لا لعدم إرادته أن يشفي المريضة) كما يظهر من النتيجة. ولا بد أن سكوت المسيح كان محزناً لتلك الأم، وامتحاناً لإيمانها، ومثاراً لاستغرابها، لأنه كان خلاف ما سمعت به من أمر المسيح.
فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ تبعتهم المرأة المذكورة وصرخت وراءهم حتى شفق التلاميذ عليها، أو ضجروا من لجاجتها، أو خافوا أن يجتمع الناس على صراخها. فتوسَّطوا لها مع المسيح.
ٱصْرِفْهَا أي اشفِ ابنتها فتنصرف. ويتضح هذا من القرينة لا من هذا اللفظ.
تَصِيحُ وَرَاءَنَا يُحتمل أنهم قالوا ذلك لتكدرهم من صوتها، أو لأنها أظهرت بصياحها حزنها وغيرتها وثباتها وإيمانها، فلذلك سألوا المسيح إجابتها لطلبها.
٢٤ «فَأَجَابَ: لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ ٱلضَّالَّةِ».
متّى ١٠: ٦ وأعمال ٣: ٢٥ و١٣: ٤٦ ورومية ١٥: ٨
لم ينجح الوسطاء في سؤال المسيح أكثر مما نجحت المرأة نفسها، فأسكتهم بجوابه، كما أنه لم يلتفت إليها. وطلب الرسل من المسيح تلك المعجزة لأنهم أيقنوا أنه لا مانع حينئذٍ من شفاء تلك الابنة سوى عدم إرادته هو أن يشفيها.
أُرْسَلْ أي من الآب.
خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ يظهر من هذا أن وظيفة المسيح كانت مختصة باليهود. ولكن أُنبئ عنه بأن به تتبارك كل قبائل الأرض (تكوين ٢٢: ١٨) وهو نفسه قال «لِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ» (يوحنا ١٠: ١٦) فهذا الاختلاف بين قول المسيح هنا، وقول النبوة، وقوله في يوحنا ١٠: ١٦) ليس أن المسيح غيَّر قصده بعد تأسيس ملكوته وحصوله على شيء من النجاح، فوسع دائرته كما فعل بعض مؤسسي الأديان الفاسدة، لأن المسيح قصد من البدء أن يكون دينه لكل البشر (يوحنا ٣: ١٥، ١٦ و١٢: ٣٢) فجواب المسيح للتلاميذ يشير إلى خدمته الشخصية وهو على الأرض في الجسد يعظ ويصنع المعجزات، ولا يشير البتة إلى عمله باعتباره فادياً أو وسيطاً بين الله والناس. والله قضى أن يُنادى بالإنجيل لليهود أولاً إتماماً للمواعيد التي وعد بها إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وكانت خدمة المسيح على الأرض تكميلاً لذلك القضاء وتلك المواعيد. وشفقة المسيح على اليهود حصرت تبشيره بهم، فإنه لو نادى للأمم أيضاً لرفض اليهود كلهم ذلك في الحال لشدة تعصبهم. وعلى ذلك قال بولس «وَأَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ صَارَ خَادِمَ الْخِتَانِ، مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ، حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ. وَأَمَّا الأُمَمُ فَمَجَّدُوا اللهَ مِنْ أَجْلِ الرَّحْمَةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«مِنْ أَجْلِ ذلِكَ سَأَحْمَدُكَ فِي الأُمَمِ» (رومية ١٥: ٨، ٩). فجواب المسيح لتلاميذه ليس إنكاراً قاطعاً لطلبهم، لكنه إظهار لأن إجابة تلك الطلبة خارجة عن دائرة إرساليته حينئذٍ.
٢٥ «فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: يَا سَيِّدُ أَعِنِّي».
ظلت المرأة تصرخ وراء المسيح وهو ماشٍ إلى أن دخل بيتاً (مرقس ٧: ٢٤) فدخلت وراءه وسجدت له داعية إياه «سيداً» بياناً لاحترامها له، وسألته المعونة لأنها كانت في غاية الشدة. وكانت صلاتها وجيزة جداً. لكن إمارات وجهها ودموعها وإلحاحها جعلت لكلامها تأثيراً.
٢٦ «فَأَجَابَ: لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ ٱلْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ».
ص ٧: ٦ وفيلبي ٣: ٢
أخذ المسيح يجاوبها. لكن جوابه كان مما يحمل على اليأس أكثر من سكوته السابق.
لَيْسَ حَسَناً أي غير لائق.
خُبْزُ ٱلْبَنِين أي الخبز المعد لأجلهم، أي بركات الإنجيل من معجزات وغيرها مما خص الله به اليهود أولاً باعتبار كونهم بني الملكوت (متّى ٨: ١٢) وورثة المواعيد. وإن أظهروا أنهم لا يستحقون. وإذ كان اليهود بمنزلة البنين اقتضى أن يطعمهم أولاً (مرقس ٧: ٢٧) ولا يليق أن يؤخذ الطعام منهم ويُعطى للأمم.
لِلْكِلاَب تستعار الكلاب في الكتاب المقدس للإهانة إذا أريد بها كلاب الأزقة (تثنية ٢٣: ١٨ و١صموئيل ١٧: ٤٣ ومتّى ٧: ٦ ورؤيا ٢٢: ١٥). ولقَّب اليهود الأمم بالكلاب ليهينوهم بدعوى أن هم كالكلاب ينجسون الآخرين. ولو كان هذا قصد المسيح فلا بد أنه أظهر قساوةً أكثر مما يُتوقع منه. ولكن بعض القساوة تزول إذا كان قصده بالكلاب هنا كلاب البيت التي تجلس تحت مائدة أربابها، وهو المرجح.
فعلى ذلك ليست المقارنة هنا بين الأولاد والكلاب المؤذية الكريهة التي تجول في الأزقة، بل بينهم وبين كلاب البيت التي تتوقع أن تُطعم بعد إطعام الأولاد، بدليل قوله له المجد «دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ» (مرقس ٧: ٢٧).
وتزول بعض القساوة إذا اعتبرنا أن المسيح خاطبها بالكلمات التي اعتاد اليهود أن يستعملوها في الكلام عن الأمم، دون أن يحكم بصحة كون الأمم أردأ من اليهود.
وتزول أكثر القساوة إذا اعتبرنا أن المسيح قال لها ذلك امتحاناً لتواضعها وإيمانها.
وتزول تلك القساوة إذا اعتبرنا أن القساوة كانت في اللفظ فقط، وأن قلب المسيح كان مملوءاً حنواً ورحمة لتلك المرأة. ومثل ذلك ما أظهره يوسف في مصر من القساوة لإخوته مع أن قلبه كان مملوءاً بالحب لهم، حتى أنه اضطر أن ينفرد عنهم ليبكي (تكوين ٤٢: ٧، ٢٤)
وخلاصة جواب المسيح لها أن الوقت لإظهار الرحمة لم يأت بعد.
٢٧ «فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَٱلْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ ٱلْفُتَاتِ ٱلَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا».
لو وجه المسيح كلامه السابق إلى غير هذه المرأة ليئس الإنسان كل اليأس منه، أو غضب غضباً شديداً وانصرف. ولكنها رأت بإيمانها وتواضعها من كلامه موضوعاً للرجاء، فحوَّلت لصالحها ما ظهر أنه ضدها. فسلَّمت بقوله إن الأمم بالنسبة إلى اليهود كالكلاب تحت مائدة أربابها، وسألته بالشكر ما يترتب على ذلك من الحقوق. فكأنها قالت: «لا يجوز أن يُحرم البنون خبزهم لتأكله الكلاب. ولكن للكلاب أن تأكل الفتات الساقط من مائدة البنين، فلا يخسر البنون شيئاً. فشفاء ابنتي كأنه فتات بالنسبة إلى كثرة المعجزات التي صُنعت لليهود». فأظهرت بهذا إيماناً مثل الإيمان التي أظهرته المرأة التي تيقنت الشفاء من مجرد لمس هدب ثوبه. لقد تيقنت الفينيقية شفاء ابنتها والتعزية والفرح لقلبها من مجرد كسرة صغيرة تحصل عليها من وليمة بركات المسيح.
أَرْبَابِهَا جاءت بذلك جمعاً لتعدد رؤساء العائلات، مع أنها أرادت واحداً هو الله لأنه رب كل عائلة.
أما خبز البنين الآن فهو المسيح. ولا أحد من أولاد آدم يعد بمنزلة الكلب ويُمنع من الجلوس على مائدة السيد، فالكل مدعوٌ إليها مجاناً. فَفِعل تلك المرأة في ذلك مثال لنا الآن، فإنها طلبت شفاءً جسدياً ولم تيأس من كثرة الموانع الظاهرة. فبالأولى يجب أن نطلب الحياة الأبدية لنفوسنا ونداوم على ذلك مهما ظهر لنا من الموانع.
٢٨ «حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لَـهَا: يَا ٱمْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ. فَشُفِيَتِ ٱبْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».
بعد أن امتحن المسيح إيمانها وتواضعها امتحاناً كافياً أخذ يجيب طلبها، فكافأها على تواضعها بمدحه لها، وتسجيل قصتها في الإنجيل، فتُذكر به إلى نهاية الزمان.
عَظِيمٌ إِيمَانُك لم يمدح المسيح غيرها بمثل هذا المدح سوى قائد المئة المذكور في متّى ٨: ١٠ وكلاهما من الوثنيين. وظهرت عظمة إيمانها بالنسبة إلى عدم إيمان اليهود الذين كانت لهم كل الوسائط لمعرفة المسيح والإيمان به، وكل منهما حصل بإيمانه الشفاء لغيره لا لنفسه. فإيمان المرأة كان عظيماً حتى غلب كل الموانع الظاهرة في طريق الحصول عليه. ولا شك أنها لعظمة إيمانها لم تُحسب أجنبية بعد، بل حُسبت ابنة إبراهيم المؤمن (رومية ٤: ١٦).
كَمَا تُرِيدِينَ أظهر المسيح في أول الأمر أنه لا يريد أن يعطيها أدنى شيء، ولكن بعد امتحان إيمانها فتح لها مخازن نعمته، وأذن لها أن تأخذ كل ما شاءت. فلا شك أن النفع لنفسها في هذا الأسلوب كان أعظم مما لو أجابها المسيح في بدء الطلب.
فَشُفِيَتِ ٱبْنَتُهَا أي خرج الشيطان منها وبرئت من تأثيره الرديء. والمسيح شفى هذه البنت وهي بعيدة عنه كما كان في أمر ابن رئيس المجمع في كفرناحوم (يوحنا ٤: ٥٠) وخادم قائد المئة (متّى ٨: ١٣). وبرهن بذلك فاعلية قدرته بكلمته وهو غائب كفاعليتها بلمسه وهو حاضر.
نرى في قصة هذه المرأة أربعة أمور تستحق الاعتبار: (١) إظهار محبتها كأمٍّ بأحسن طريق، وهو طلب معونة المسيح لابنتها. (٢) تواضعها. (٣) لجاجتها في الصلاة والمداومة عليها. (٤) إيمانها ومدح المسيح ذلك دون غيره، لأن الإيمان أعظم الفضائل عند المسيح وأصل كل فضيلة.
ولنا من هذه القصة تعليمنا أن الله قد يبطئ عن استجابة الصلاة مع أنه عازم على الإجابة. ولنا تعليم قيمة الإلحاح والمداومة والتواضع والإيمان في الصلاة، وإثبات صدق وعده في قوله «اطلبوا تجدوا» وفي القصة تعزية عظيمة للوالدين الذين يسألون المسيح البركات الروحية لأولادهم، وإن الإيمان أصل الشجرة التي أغصانها التواضع والصبر والمداومة على الصلاة. وأن من يُحسبون أدنى الناس وأنهم محرومون هالكون يجب أن لا ييأسوا من النعمة إذا طلبوها بالإيمان والتوبة. وهي تذكرنا بقصة يعقوب وهو يصارع الملاك الليل كله فانتصر أخيراً (تكوين ٣٢: ٢٤ - ٣٢ وهوشع ١٢: ٣، ٤).
٢٩ «ثُمَّ ٱنْتَقَلَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى جَانِبِ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ، وَصَعِدَ إِلَى ٱلْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ».
مِنْ هُنَاك أي من تخوم صور وصيدا.
جَانِبِ بَحْرِ ٱلْجَلِيل قال لوقا إن المسيح مرَّ بالعشر المدن التي هي شرق ذلك البحر.
إِلَى ٱلْجَبَل الأرجح أنه قصد بذلك الراحة والعزلة والانفراد ولكنه قلما حصل عليهما. والمقصود بذلك الجبل الأرض المرتفعة شمال العشر المدن وشرق الأردن.
٣٠ «فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُلٌّ وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ».
إشعياء ٣٥: ٥، ٦ ومتّى ١١: ٥ ولوقا ٧: ٢٢
جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ نستنتج من كثرة المجتمعين إلى المسيح أنه لم يذهب قبلاً إلى تلك البلاد.
وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ ذكر البشير هنا أربعة أنواع من المرضى، ثم وجد «آخرين كثيرين» بأمراض مختلفة لا يسع الوقت ذكر أمراضهم بالتفصيل، فاقتصر على هاتين الكلمتين.
وَطَرَحُوهُمْ أتوا ذلك بغية تحريك شفقة المسيح عليهم، ورغبة في حصول الشفاء بالحال عن يد المسيح.
فَشَفَاهُم نفهم من ذلك أن المسيح شفى كل مريض قُدم إليه بلا استثناء، فلم يذكر متّى شيئاً من ذلك بالتفصيل، ولكن مرقس ذكر إحدى المعجزات الكثيرة التي صنعها المسيح في ذلك الوقت (مرقس ٧: ٣٢ - ٣٥).
فكما كان المسيح قادراً ومستعداً حينئذٍ على شفاء كل أولئك المرضى، هو الآن قادر ومستعد على صنع معجزات أعظم من تلك في نفوس الناس. وكما أنه لم يعسر عليه في ذلك الوقت شفاء أي نوع كان من الأمراض الجسدية، لا يعسر عليه الآن شفاء أي نوع كان من الأمراض الروحية.
٣١ «حَتَّى تَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ إِذْ رَأَوُا ٱلْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ، وَٱلشُّلَّ يَصِحُّونَ، وَٱلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَٱلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ. وَمَجَّدُوا إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ».
في هذه الآية بيان تأثير المعجزات في نفوس المشاهدين، وهو تعجبهم وتمجيدهم، مما يدل على أن المسيح لم يأتِ الأرض قبل ذلك. وكرر متّى هنا ذكر أنواع المرض الأربعة التي ذكرها قبلاً على خلاف الترتيب السابق، وزاد بيان التغيير الذي حصل لكل من شفي.
إِلٰهَ إِسْرَائِيل من هذا نستدل أن أكثر أولئك الجبليين كانوا من الأمم. ولعلهم الجدريون الذين شفى المسيح في أرضهم المجنون الذي كان فيه لجئون وسألوه أن ينصرف عن تخومهم.
٣٢ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ: إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى ٱلْجَمْعِ، لأَنَّ ٱلآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي ٱلطَّرِيقِ».
مرقس ٨: ١ الخ
ما أجمل هذه العناية وما أعظمها! هؤلاء الناس قد انصرفوا إلى يسوع تاركين بيوتهم وعيالهم، فجوعهم ليس عن فقر بل عن انشغال بما هو أعظم من الأكل. لذلك أرادهم يسوع أن ينتعشوا جسدياً كما انتعشوا روحياً، واهتم بإطعامهم.
المرجح أن الموضع الذي صُنعت فيه المعجزة الآتية ليس بعيداً عن الموضع الذي أشبع فيه خمسة الآلاف (متّى ١٤: ١٥ - ٢١) غير أن ذلك كان في سهل قرب بيت صيدا ونهر الأردن. ولكن هذا كان في وعر جبلي شرق ذاك (مرقس ٧: ٣١) ومما قيل في مرقس ٧: ٣٩ عن جهة انصرافه منه، وذلك أنه كان عبر البحر إلى مجدل التي هي على شاطئ البحر الغربي.
فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ أي للعناية بالجمع. وذلك كان من المسيح من تلقاء ذاته. ولا شيء يدل على أن الناس سألوه إياه. وفيه إتمام قوله سابقاً: «اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متّى ٦: ٣٣)
إِنِّي أُشْفِق نُسب إلى المسيح في الإنجيل انفعالات كثيرة كالغيرة والفرح والشكر والغضب والتعجب، والذي نُسب إليه أكثر من الجميع هو الشفقة، فهي صفته الغالبة. ولا ريب في أن ذلك كُتب لتعزيتنا وفائدتنا لنعرف عظمة الملجأ الذي لنا في المسيح.
ثَلاَثَةَ أَيَّام هذا في اصطلاح اليهود، ولا يشير ضرورة إلى أكثر من يوم كامل وجزئين من يومين آخرين. فمضت عليهم ليلتان في تلك البرية. والمرجح أنهم أكلوا في اليوم الأول والثاني ما كان معهم من الطعام. ولذلك لا يجب أن يكون المعنى أنهم لم يذوقوا شيئاً في كل تلك المدة. ولكن في اليوم الثالث لم يكن عندهم شيء يؤكل. فانظروا كيف يحفظ الرب حساب الوقت الذي يُصرف في خدمته (رؤيا ٢: ٢). أما المسيح فصرف تلك الأيام بالتعليم وشفاء المرضى.
صَائِمِينَ أي بلا طعام، وليس لأنهم يؤدون فرضاً دينياً.
يُخَوِّرُوا أي يضعفون من عدم الأكل. قليل من الناس اليوم يهملون أجسادهم ليعتنوا بنفوسهم، ولكن لا بد أن المسيح يعتني بهم.
شفاهم المسيح ثم أطعمهم. وكذلك يصنع للذين يشفي أنفسهم من مرض الخطية، ثم يطعمهم من الخبز الحقيقي النازل من السماء ليتقووا فلا يخورون في الطريق السماوية.
٣٣ «فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهٰذَا ٱلْمِقْدَارِ، حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعاً هٰذَا عَدَدُهُ؟».
٢ملوك ٤: ٤٣
مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هذا دليل واضح أن ذلك المكان قفر خالٍ من السكان والطعام. وكان حصولهم على ما يحتاجون إليه بالوسائط الطبيعية مستحيلاً، ولم يتوقعوا الحصول على ذلك بمعجزة. وسؤال الرسل يذكرنا بقول موسى لله عن إطعام بني إسرائيل لحماً في البرية «أَيُذْبَحُ لَهُمْ غَنَمٌ وَبَقَرٌ لِيَكْفِيَهُمْ؟ أَمْ يُجْمَعُ لَهُمْ كُلُّ سَمَكِ الْبَحْرِ لِيَكْفِيَهُمْ؟» (عدد ١١: ٢٢).
ومن الغريب هنا أن الرسل نسوا معجزة إشباع خمسة آلاف من خمسة أرغفة وسمكتين سابقاً، ولم يتوقعوا مثلها حينئذٍ. لكن قلب الإنسان يميل إلى عدم الإيمان في كل زمان ولا سيما في أوقات الضيق والاضطراب، فينسى النجاة السابقة، كما نسي بنو إسرائيل يوم اشتد بهم العطش أن الرب قد شق لهم البحر الأحمر، وتساءلوا «أَفِي وَسْطِنَا الرَّبُّ أَمْ لاَ؟» (خروج ١٧: ١ - ٧ ومزمور ٧٨: ١٩، ٢٠). فنسيان المراحم في الماضي يُولد الشكوك في الحاضر.
ولعدم توقع الرسل المعجزة ثلاثة أسباب: (١) أنهم لم يروا سوى معجزة واحدة من هذا النوع. ومن وقتها رجعوا إلى الأكل بالطريق العادية. (٢) أنه مضى عليهم ثلاثة أيام دون أن يُظهر لهم من المسيح ما يدل على أنه أراد أن يجري معجزة. (٣) إن مشاورته لتلاميذه حملتهم على الظن بأنه أراد إطعام الجموع بوسائط عادية.
٣٤ «فَقَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ؟ فَقَالُوا: سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ ٱلسَّمَكِ».
لم يسألهم المسيح عن قدر ما عندهم من الطعام لأنه لا يعرفه، بل لينبههم لقلة الطعام بالنسبة إلى كثرة الجياع. وكان عدد الأرغفة يومئذٍ أكثر من عدد الأرغفة في المعجزة الماضية والسمك قليل من صغاره. فيظهر من ذلك أن هذه المعجزة غير تلك. والأرجح أن ذلك الطعام القليل هو ما أعدَّه التلاميذ لأنفسهم. وهذا يدل على بساطة معيشتهم وهم يتجولون من مكان لآخر.
٣٥ «فَأَمَرَ ٱلْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى ٱلأَرْضِ».
هذه هي العادة القديمة عند اليهود أن يتكئوا وقت الطعام لكي يهونوا على أنفسهم ويرتاحوا قبل الشروع في الأكل. ولا شك أن هذه الحكمة شرقية قديمة. فيا ليتنا نأتي إلى الطعام مرتاحين قنوعين.
أمر المسيح الجموع في المعجزة السابقة أن يتكئوا على العشب وهنا أمر من معهم بالاتكاء على الأرض، مما يؤيد القول إن المكان قفر خالٍ. وكان الاتكاء لراحة الجموع وسهولة مرور التلاميذ بينهم عند توزيع الطعام. ولا بد أن اتكاءهم للأكل في تلك الحال كان إيماناً منهم أن لهم طعاماً يكفيهم في مثل ذلك المكان.
٣٦ «وَأَخَذَ ٱلسَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَٱلسَّمَكَ، وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ، وَٱلتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا ٱلْجَمْعَ».
١صموئيل ٩: ١٣ ومتّى ١٤: ١٩ ولوقا ٢٢: ١٩
جاء الشكر قبل كسر الخبز، ولولاه ما جرت المعجزة. فلنكن شاكرين كل حين. وقد ذكر البشير هنا أن المسيح شكر كما فعل في المعجزة السابقة، لكنه زاد في الأولى أنه «َرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ» (متّى ١٤: ١٩). وفي هذا خير مثال للمؤمنين. وكان من عادة المسيح أن يُظهر موافقته للآب، فشكره لأجل الخبز ولأجل شبع الشعب الذي سيكون به. ثم وزَّع الطعام على الجموع على أيدي التلاميذ ليتحققوا أنه يقدر أن يعمل ما اعتقدوا عدم إمكانه.
٣٧ «فَأَكَلَ ٱلْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ ٱلْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَلٍ مَمْلُوءَةٍ».
بقاء الكسر برهان على أن الآكلين شبعوا. فأمر المسيح تلاميذه بجمع الكسر مثال للتدبير والاقتصاد، وجمعوها ليأكلوها عند الحاجة. والأوعية التي جُمعت بها الكسر هنا تختلف عن الأوعية التي جمعت بها الكسر في المعجزة السابقة، في أمرين: (١) عددها، فإنها كانت في الأولى ١٢ وفي الثانية سبعاً. و(٢) نوعها، فإنها كانت في الأولى قففاً وفي الثانية سلالاً وهي أكبر من القفف، فإن السل كان يسع إنساناً (أعمال ٩: ٢٥). والمسيح ميز بعد ذلك بين نوعي الأوعية يوم ذكرهم بالمعجزتين (متّى ١٦: ٩، ١٠).
٣٨ «وَٱلآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُلٍ مَا عَدَا ٱلنِّسَاءَ وَٱلأَوْلاَدَ».
كان عدد الآكلين في هذه المعجزة أقل من عددهم في المعجزة السابقة، وكان عدد الأرغفة عند التلاميذ فيها أكثر من عدد الأرغفة في الأولى، وفي كليهما أظهر المسيح قوته الإلهية. وفي هذا الخبر برهان على صدق البشير، فإنه ذكر الحادثة كما وقعت. فلو كان الخبر مصنوعاً كان زاد عظمة المعجزة الثانية على المعجزة الأولى ليُظهر أن المسيح يرتقي في أعماله. وأولئك الأربعة الآلاف صاروا أربعة آلاف شاهد بقوة المسيح وشفقته.
٣٩ «ثُمَّ صَرَفَ ٱلْجُمُوعَ وَصَعِدَ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ مَجْدَلَ».
مرقس ٨: ١٠
بعد أن أطعم المسيح الجموع صرفهم وأخذ سفينة وعبر البحر إلى الجانب الغربي، فلم يبق هنالك حتى لا يعبده الشعب ويخدمه، بل ذهب ليفعل الخير في مكان آخر.
تُخُومِ مَجْدَل معنى مجدل «برج» وهو اسم عدة أماكن في فلسطين. وهو هنا قرية على بُعد ثلاثة أميال أو ساعة من مدينة طبرية شمالاً، وكان منها مريم المجدلية التي أخرج المسيح منها سبعة شياطين (مرقس ١٦: ٩).
قال مرقس أنهم ذهبوا إلى دلمانوثا (مرقس ٨: ١٠) وهي قرية قرب مجدل وأصغر منها، بينما ذكر متّى تخوم مجدل التي تضم المكانين.
الأصحاح السادس عشر
١ «وَجَاءَ إِلَيْهِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلصَّدُّوقِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
متّى ١٢: ٣٨ ومرقس ٨: ١١ ولوقا ١١: ١٦ و١٢: ٥٤ الخ و١كورنثوس ١: ٢٢
ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلصَّدُّوقِيُّون هما فرقتان من اليهود مختلفتان في بعض العقائد، وبينهما بغضة وخصومة. فكان الفريسيون غيورين للناموس والتقليد، وكان الصدوقيون يرفضون كل التقاليد وبعض أسفار الوحي (متّى ٣: ٧). وبالرغم من تلك العداوة بين الفريقين اتفقا على مقاومة المسيح، فسألاه ما سأله الكتبة والفريسيون قبلاً عبثاً (متّى ١٢: ٣٨).
لِيُجَرِّبُوهُ ليمتحنوا صحة دعواه لشكهم فيها أو لإنكارهم إياها. وكان سؤالهم للتجربة لأنه لم يكن بنيَّة خالصة، بل عن خداع ليصطادوه بفخهم، ويشككوا الناس فيه، فكانوا كالشيطان مجرِّب المسيح والناس. لم يكونوا محتاجين إلى آية من السماء أعظم وأوضح مما شاهدوه أو سمعوا به حتى الآن، ومع هذا انتحلوا السؤال لأن في قلوبهم مرضاً!
آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاء سألوه ذلك لاتهامهم أن ما أتاه من الآيات كان من الأرض بسحر أو شعوذة، أو من جهنم بقوة رئيس الشياطين كما أعلنوا ذلك قبلاً (متّى ١٢: ٢٤). ولعل الناس كانوا يتوقعون أن تظهر عند مجيء المسيح آيات غريبة في السماء، فطلبوا وفق ما توقعوا. والأرجح أنهم طلبوا ذلك تعجيزاً له ليكون لهم حجة على عدم اقتناعهم بالمعجزات التي صنعها قبلاً.
٢ «فَأَجَابَ: إِذَا كَانَ ٱلْمَسَاءُ قُلْتُمْ: صَحْوٌ لأَنَّ ٱلسَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ».
وبخهم على أنهم يستدلون من مظاهر الجو الغامضة على ما سيقع من الحوادث الجوية في الغد، ومع هذا لم يقتنعوا بالبراهين الواضحة التي أقامها على صحة دعواه.
ٱلْمَسَاءُ أي المساء الثاني، وهو بين الغروب والعتمة.
قُلْتُم أي اعتقدتم أن تقولوا في المخاطبات المعتادة في أحوال الجو.
مُحْمَرَّة كثيراً ما تحمر السماء مساءً عند المغرب أو بعده بقليل. وكان القدماء يتخذون ذلك علامة على صحو الغد كعادة الناس اليوم.
٣ «وَفِي ٱلصَّبَاحِ: ٱلْيَوْمَ شِتَاءٌ لأَنَّ ٱلسَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ بِعُبُوسَةٍ. يَا مُرَاؤُونَ! تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ ٱلسَّمَاءِ، وَأَمَّا عَلاَمَاتُ ٱلأَزْمِنَةِ فَلاَ تَسْتَطِيعُونَ».
مُحْمَرَّةٌ بِعُبُوسَةٍ ذلك لا يكون إلا لغيوم تقع عليها أشعة الفجر، فاستدلوا بذلك على قرب المطر.
يَا مُرَاؤُونَ أي يا مخادعون. وصفهم بالرياء لأنهم ادعوا القدرة على الإنباء بالمطر أو الصحو من المظاهر الجوية الغامضة، وهم يسألون زيادة البراهين على أنه قد أتى الزمان الموعود أن يأتي فيه المسيح، وزيادة البراهين منه على أنه هو المسيح المنتظر، مع أنه كان لديهم براهين كافية لإثبات ذلك.
عَلاَمَاتُ ٱلأَزْمِنَةِ أي الأوقات المعينة في النبوات بإتيان المسيح والعصور الإنجيلية. وتلك العلامات هي مجيء يوحنا المعمدان الذي سبق المسيح، والمعجزات التي صنعها يسوع، والنبوات التي تمت في زمانه ومنها «زوال القضيب من يهوذا والمشترع من بين رجليه» (تكوين ٤٩: ١٠) ومنها انتهاء أسابيع نبوة دانيال (دا ٩: ٢٥). فهم لم يروا شيئاً من هذه مع زيادة وضوحها. ولا زلنا نرى كثيرين أذكياء نابهين في أحكامهم الدنيوية، ولكنهم كسالى مخطئون في أحكامهم الدينية، لا يستطيعون إدراك شيء مما يخالف أغراضهم وأهواءهم.
٤ «جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَمَضَى».
متّى ١٢: ٣٩ الخ
في هذه الآية بقية جواب المسيح، وهو كالكلام في متّى ١٢: ٣٩ وقد فُسر هناك. لقد حسب يسوع أن طلبهم المعجزة كان في غير محله، لأنه قد أعطيت لهم آيات بدل آية. فما معنى هذا الطلب؟ أما آية يونان النبي فتفيد على الأيام الثلاثة بين صلبه وقيامته، كما أنها إشارة إلى توبة أهل نينوى. فهل لهم أن يتوبوا كما فعل أولئك؟
تَرَكَهُمْ وَمَضَى في هذا إشارة إلى سرعة ذهابه عنهم حزناً عليهم وغيظاً لعنادهم ومكابرتهم.
٥ «وَلَمَّا جَاءَ تَلاَمِيذُهُ إِلَى ٱلْعَبْرِ نَسَوْا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً».
مرقس ٨: ١٤
إِلَى ٱلْعَبْرِ أي عبر بحر الجليل، فإنهم كانوا قرب مجدل على الشاطئ الغربي، فعبروا إلى الشاطئ الشرقي.
نَسَوْا الخ أي أهملوا الاستعداد للسفر إلى أرض برية حيث يصعب الحصول على الطعام. وذكر مرقس أنه لم يكن معهم سوى «رغيف واحد» (مرقس ٨: ١٤) وذكر متّى الخبر ككل، لأن الخبز هو المعوَّل عليه في التغذية وأسهل نقلاً في السفر.
٦ «وَقَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: ٱنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ».
لوقا ١٢: ١
كان موضوع أفكار التلاميذ وحديثهم نسيان الخبز. وكانوا يهتمون بما يحتاجون إليه في المستقبل، فاغتنم المسيح الفرصة ليعلمهم درساً روحياً باستعارة إحدى المواد المتعلقة بعمل الخبز، وهي الخميرة وتأثيرها التخمير وهو بدء الفساد. فاستعار الخمير للمفسدات الأخلاقية، لأنه حُرِّم في أكثر تقدمات الشريعة الموسوية (خروج ٣٤: ٢٥ ولاويين ٢: ١١).
خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّين أي فسادهم الأخلاقي وهو الرياء (لوقا ١٢: ١). وذلك أنهم ادعوا الغيرة للحق وقلوبهم فارغة منها. وقال مرقس «وأوصاهم قائلاً: انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين وخمير هيرودس» (مرقس ٨: ١٥) لأن هيرودس ومعظم أتباعه كانوا من الصدوقيين. والفريسيون طقسيو ذلك الزمن، والصدوقيون طبيعيو نفس الزمن، وكلاهما لم يكن يكترث بالدين، وكلهم كافرون في القلوب لكنهم تظاهروا بالغيرة العظمى للحق.
فائدتان: (١) أن أفضل الناس يحتاج إلى التنبيه كيلا يقع في التجربة. و(٢) أن الخطر من المضلين المتظاهرين بالتقوى الزائدة أعظم من خطر المضلّين أصحاب الشرور المُعلنة.
٧ «فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ خُبْزاً».
فَفَكَّرُوا اهتموا بالخبز وأظهروا عظمة ذلك الاهتمام بحرارة حديثهم عنه.
إِنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ خُبْزاً فهم التلاميذ كلام المسيح على ظاهر معناه ولم ينتبهوا للمجاز، لأن أفكارهم كانت مشغولة بالخبز، فلم يفهموا من قول المسيح «احترسوا من خمير» إلا الخبز المختمر. ومما عطلهم عن الفهم أنه كان لليهود كلام طقسي كثير في شأن الخمير، فقال بعضهم إنه لا يجوز الحصول عليه من الأمم. ولعل التلاميذ ظنوا أن المسيح حذرهم من أخذ الخبز المختمر من الفريسيين لئلا يتدنسوا منهم كما يتدنسون من الأمم، لأن الفريسيين يقاومونه. ولولا بساطة التلاميذ وجهلهم وبطء فهمهم معاني كلام المسيح الباطنة ما وقعوا في ذلك الغلط بعد مضي زمان طويل لهم معه.
٨ «فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَـهُمْ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ أَنَّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوا خُبْزاً؟».
فَعَلِمَ يَسُوعُ أي علم أفكارهم وأقوالهم، ولم يلمهم على نسيان الخبز لكن على عدم ثقتهم بأنه يقدر أن يسدد احتياجهم.
يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ يبين قلة إيمانهم أمران: (١) عدم فهمهم الأمور الروحية التي أنبأهم المسيح بها باستعارة جسدية. فلو كان لهم إيمان كافٍ لفهموا ذلك، لأن الإيمان قوة تُرى بها الروحيات. و(٢) كثرة اهتمامهم بالاحتياجات الجسدية وعدم ثقتهم بأن المسيح يقوم بها. ولامهم المسيح على أنهم عموا عن الروحيات باهتمامهم بالجسديات.
٩، ١٠ «٩ أَحَتَّى ٱلآنَ لاَ تَفْهَمُونَ، وَلاَ تَذْكُرُونَ خَمْسَ خُبْزَاتِ ٱلْخَمْسَةِ ٱلآلاَفِ وَكَمْ قُفَّةً أَخَذْتُمْ، ١٠ وَلاَ سَبْعَ خُبْزَاتِ ٱلأَرْبَعَةِ ٱلآلاَفِ وَكَمْ سَلاًّ أَخَذْتُمْ؟».
متّى ١٤: ١٧ ويوحنا ٦: ٩ ومتّى ١٥: ٣٤
أَحَتَّى ٱلآنَ لاَ تَفْهَمُونَ أي هل لم تعرفوا بعد مصاحبتكم لي كل هذا الزمان، وسماعكم أقوالي وتعاليمي مراراً كثيرة، أن غاية كلامي وخلاصة تعليمي هي الحقائق الروحية الضرورية لحياة نفوس البشر، لا الأمور الطفيفة كخمير الخبز وفطيره وما أشبه ذلك؟
وَلاَ تَذْكُرُونَ مما زاد اللوم على قلة إيمانهم أنهم شاهدوا منذ قليل عمله المعجز في إشباع ألوف وقت الحاجة، ومع هذا نسوا ما علَّمهم بتلك المعجزتين أنه ما دام معهم فلا يجب أن يهتموا كل هذا الاهتمام بالأمور الجسدية. فكأنه قال لهم: أيها الغافلون، أيعجز من أشبع خمسة آلاف في البرية ثم أربعة آلاف من قليلٍ من الخبز، عن أن يشبع اثني عشر رجلاً؟!.
قُفَّةً... سَلاًّ ميز المسيح بين الأوعية التي جمع فيها الخبز، كما ميز بينها البشير في إنبائه بالمعجزتين.
فائدة: يقتضي أن نتعلم الثقة بالله من اختبارنا رحمته، ولكن قليلين من المسيحيين لا يخجلون إذا سألهم المسيح قائلاً: هل ذكرتم مراحم الله الماضية لكي تطمئن قلوبكم في زمن الشدة؟
١١ «كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ أَنِّي لَيْسَ عَنِ ٱلْخُبْزِ قُلْتُ لَكُمْ أَنْ تَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ؟».
تعجب المسيح من أن تلاميذه لم يعلموا أن هدفه ومعجزاته كان الطعام الروحي الذي هو غذاء النفوس لا الأطعمة الجسدية كالخبز. ولم يفسر المسيح قصده من الخمير، بل وجه أفكار التلاميذ إلى حيث يمكنهم أن يفهموا ذلك القصد. ولا بد من أنهم استفادوا من توبيخه وانتبهوا بعد ذلك لمعنى كلامه الروحي.
١٢ «حِينَئِذٍ فَهِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ ٱلْخُبْزِ، بَلْ مِنْ تَعْلِيمِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ».
علينا أن نقارن هذا بما ورد عن مثل الخميرة (متّى ١٣: ٣٣) فيستعمل السيد الخميرة لمعنيين مختلفين. وهذا كثير الورود في الأمثال والاستعارات، لأن جوهر المعنى في الخميرة هو العمل السري والانتشار، سواء في الخير أو الشر.
استيقظت عقول التلاميذ لما يهمّ المسيح، وانفتحت عيون إيمانهم حتى فهموا من تلقاء أنفسهم أن قصد بالخمير التعليم الفاسد من المعلمين المرائين.
يَتَحَرَّزُوا لم ينه المسيح تلاميذه عن مخالطة الفريسيين والصدوقيين، بل أمرهم أن يحذروا ضلالهم.
تَعْلِيمِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ الخ يشبه الضلال الخميرة في ستة أشياء. (١) أنه يظهر في بادئ الأمر صغيراً لا يعتد به بالنسبة إلى الحق، كما أن الخميرة تكون صغيرة بالنسبة للعجين كله. (٢) إنه يشبه الحق في أول أمره، فيعسر تمييزه، كما أن الخميرة لا تختلف عن العجين منظراً. (٣)إن عمل كلٍ منهما خفيٌ. (٤) أن كلاً منهما يعمل بالتدريج. (٥) إن من صفاتهما الامتداد. (٦)أن الضلال حيث استقر يُفسد عقائد الإنسان، كما أن الخميرة تُصيِّر كل العجين مثلها، فإن «خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ» (غلاطية ٥: ٩).
فائدتان: (١) أنه يجب على المسيحي أن ينتبه لإنذارات الكتاب كما ينتبه لمواعيده. (٢) إن الفريسيين والصدوقيين ماتوا لكن خميرتهم باقية على ما كانت عليه من شدة التأثير. فعلى كل فرد وكل كنيسة الانتباه لإنذار المسيح.
١٣ «وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ: مَنْ يَقُولُ ٱلنَّاسُ إِنِّي أَنَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ؟».
مرقس ٨: ٢٧ الخ ولوقا ٩: ١٨ الخ
بدأ المسيح في ذلك الوقت يجهز التلاميذ لقبول تعليم يعسر عليهم التسليم به. كيف لا، وهو من أعسر التعاليم فهماً وأبعدها منالاً، وهو أنه ينبغي أن يتألم ويموت ليتمم عمل الفداء؟ ولهذا افتتح كلامه بسؤاله عما يفتكرون في أمر دعواه أنه المسيح. وهذه الحكمة الإلهية لم يفهمها الرسل عندئذٍ، فكم بالأحرى عامة الناس. إنها تحتاج إلى تعمُّق كبير في فهم قوة الله للخلاص. لأن ذكر الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فقوة الله.
قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّس هي مدينة شمال الجليل في سفح جبل حرمون (الذي هو جبل الشيخ) وتبعد نحو ساعة عن نبع الأردن. وكان اسم المدينة أولاً «لايش ودان» (يشوع ٧٩: ٤٧ وقضاة ١٨: ٢٧ - ٢٩) واسمها اليوم بانياس، وهو مأخوذ من اسم قديم لها، لأنه كان فيها هيكل «بان» أحد آلهة اليونانيين. وقد جدد بناءها فيلبس رئيس الربع، وهو ابن هيرودس الكبير، قبل ذلك بثلاث سنين ووسعها وزينها وسماها قيصرية إكراماً لقيصر طيباريوس إمبراطور روما، وأضيفت إلى اسمه تمييزاً لها عن قيصرية أخرى بُنيت على شاطئ بحر الروم بين يافا وعكا. وجاء المسيح إلى القرى التي في نواحي قيصرية فيلبس يبشر ويعلم. وفيما كان مسافراً بين قريتين من تلك القرى سأل تلاميذه الاثني عشر السؤال المذكور هنا .
ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ لقَّب المسيح نفسه بهذا إشارة إلى ما في دانيال ٧: ١٣ حيث أُشير إلى المسيح. فسألهم ذلك السؤال ليقودهم إلى الإقرار بما هو أسمى من ذلك اللقب وهو «ابن الله».
١٤، ١٥ «١٤ فَقَالُوا: قَوْمٌ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ. ١٥ قَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟».
متّى ١٤: ٢ ولوقا ٩: ٧
قدموا من الآراء التي ذكروها رأي هيرودس، وهو أنه المعمدان (متّى ١٤: ٢) إما لسمو رتبته أو لأن رأيه انتشر بين عامة الناس.
إِيلِيَّا توقع كثيرون من اليهود مجيء إيليا نفسه قبل إتيان المسيح بناءً على نبوة ملاخي (متّى ٤: ٥، ٦).
إِرْمِيَا هو نبي كان في اليهودية منذ نحو ٦٠٠ سنة قبل الميلاد.
وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ أي أن أحد الأنبياء الأولين قام من الموت.
وَأَنْتُمْ ثم سألهم عن رأيهم الخاص فيه.
١٦ «فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ».
متّى ١٤: ٣٣ ويوحنا ٦: ٦٩ و١١: ٢٧ وأعمال ٨: ٣٧ و٩: ٢٠ وعبرانيين ١: ٢الخ و١يوحنا ٤: ١٥ و٥: ٥
أجاب بطرس بالنيابة عن الباقين، لأن الإسراع إلى الكلام كان من طبعه، أو لأن التلاميذ بسبب سرعة بطرس اتخذوه المتحدث باسمهم.
أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ كل أعمال يسوع منذ شرع يتمم وظيفته كانت تبرهن على أنه المسيح، أي الممسوح لإتمام الوظائف الكبرى لشعبه باعتباره النبي والكاهن والملك كما أنبأ الأنبياء (مزمور ٢: ٢ ودانيال ٩: ٢٥). وهو يخص البشرية كلها ويسمو فوقها، فلا أحد يحتكره لنفسه، ولا أحد يستنفده بامتلاكه، فهو للكل على السواء، على شرط أن يُخلصوا له من كل قلوبهم.
ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيّ وُصف الله بالحي تمييزاً له عن آلهة الوثنيين (يشوع ٣: ١٠ وأعمال ١٤: ١٥) ولأنه حاضر بين الناس ويعلم أحزانهم ويعتني بهم، ويهبهم الحياة والقوة. وهذا اللقب عظيم جداً وهو لائق بالمسيح. وجواب بطرس لم يكن عن نفسه وحده، ولا مجرد تقرير ما قاله أندراوس لما عرفه بالمسيح بقوله «قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا الَّذِي تَفْسِيرُهُ:الْمَسِيحُ» (يوحنا ١: ٤١) بل كان إقراراً موقراً عن نفسه وعن سائر التلاميذ بأن يسوع قد أثبت كل ما ادعى به من أنه المسيح المنتظر منذ القديم. فلا ريب في أن صدَّق سائر الرسل إقرار بطرس كأنه إقراراهم. وهذا الإقرار بين لهم إيماناً قوياً في وقت أنكر فيه رؤساء الأمة صحة ذلك الإقرار، وكان فيه المسيح في صورة عبد فقير لا ثروة له ولا شرف ملكي ولا شيء يدل على عظمته الملكية.
١٧ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
أفسس ٢: ٨ و١كورنثوس ٢: ١٠
طُوبَى لَك أي أن الله أظهر لك نعمة سامية بأن وهبك الإيمان لتقرَّ بذلك. فقد سبق مثل هذا الإقرار بالمسيح لفظاً ممن شاهدوه حين سكَّن اضطراب البحر (متّى ١٤: ٣٣) وسبق من فم نثنائيل حين لقي المسيح أول مرة (يوحنا ١: ٤٩) لكن ذلك كان نتيجة العجب وتأثيراً وقتياً. أما إقرار بطرس فكان عن إيمان ثابت، ولم يُبن على مجرد البراهين العقلية بل على تأثير الروح القدس في قلبه أيضاً.
سِمْعَانُ بْنَ يُونَا ناداه بالاسمين بدون اللقب إشعاراً بأهمية ما هو مزمع أن يتكلم به، ومقارنة بين اسمه العائلي الأرضي والاسم الجديد الروحي الذي عزم على أن يسميه به وهو بطرس.
لَحْماً وَدَماً أي بشراً. وقال ذلك تمييزاً للاهوت كما جاء في يوحنا ١: ١٣ و١كورنثوس ١٥: ٥٠ وأفسس ٦: ١٢. وقصد المسيح هنا أنه لم تُعلن له ذلك قوة بشرية، وهو لم يستطع إدراكه من نفسه ولا من إنسان آخر.
أَبِي أي أن ذلك الإقرار كان بإرشاد روح الله الآب له، وتنويره لبطرس. ولولا ذلك لمنعه عمى قلبه الطبيعي وميوله اليهودية عن معرفة أن يسوع هو المسيح. وهذا التطويب الذي قاله المسيح لم يكن مقصوراً على بطرس وحده، بل كان له أولاً ثم لكل التلاميذ، لأن سؤال المسيح كان للاثني عشر، فأجاب بطرس عن نفسه وعن البقية، وإن كان السؤال والجواب بصيغة المفرد.
١٨ «وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ ٱلْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا».
يوحنا ١: ٤٢ وغلاطية ٢: ٩ وإشعياء ٢٨: ١٦ وزكريا ٦: ١٢، ١٣ و١كورنثوس ٣: ٩، ١٠، ١١ وأفسس ٢: ٢٠ وإشعياء ٥٤: ١٧ ورومية ٨: ٣٣ الخ ورؤيا ١١: ١٥.
أَنْتَ بُطْرُسُ معنى بطرس صخر (كيفا) في السريانية (وصفا) في العربية. ولقَّب المسيح سمعان بذلك عندما صار تلميذاً له (يوحنا ١: ٤٢) وكرره هنا لأجل إيمانه القوي بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي، إنباءً بما يكون له بعد حين عندما يعتمد من الروح القدس يوم الخمسين من الشجاعة والقوة والثبات. وكان إسراعه بالجواب مع الثقة بما أجاب موافقاً لهذا اللقب. فكل مسيحي له إيمان بطرس بأن يسوع ابن الله وشجاعته في مناداته بذلك هو صخرة يبني المسيح كنيسته عليه كحجر حي (١بطرس ٢: ٥).
هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ الصخرة هنا ترجمة (Petra) «بترا» في اليونانية وهي مؤنثة، ومعناها في اليونانية الصخرة العظيمة الثابتة في مكانها الطبيعي و(Petros) «بطرس» مذكر ومعناه عندهم صخر، أو جزء من صخرة يمكن الإنسان أن يحمله. واختلف الناس في المقصود بهذه الصخرة، ولهم في ذلك أربعة آراء. (١) أن المراد بها بطرس وحده، لأن إيمانه بالمسيح كان كالصخرة العظيمة التي لا تتقلقل. (٢)أنه بطرس وسائر الرسل، لأن القول وُجِّه له كنائب عن الكل. (٣) أنه إقرار بطرس حينئذٍ بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي. (٤) أنه المسيح، وأنه أشار إلى نفسه إشارة حسية عندما تكلم بذلك.
وهنا نقول إنه مهما كان قصد المسيح من تلك العبارة لا يمكن أن يخالف تعليم الكتاب المقدس الصريح، وخلاصته في شأن الصخرة التي هي أساس الدين إنها إلهية لا بشرية. وهذا ما أثبتته أسفار الكتاب المقدس، فكلها يقول بصوت واحد «مَنْ هُوَ إِلهٌ غَيْرُ الرَّبِّ؟ وَمَنْ هُوَ صَخْرَةٌ غَيْرُ إِلهِنَا؟» (٢صموئيل ٢٢: ٢٣) وشواهد ذلك كثيرة: (انظر تثنية ٣٢: ٤، ١٥، ١٨، ٣٠، ٣١ ، ٣٧ و١صموئيل ٢: ٢ و٢صموئيل ٢٢: ٢، ٦، ٧ و٧١: ٣ و٧٣: ٢٦ و٩٤: ٢٢ و٩٥: ١. وإشعياء ١٧: ١٠ و٢٦: ٤ و٣٠: ٢٩ و٤٤: ٨ وحبقوق ١: ١٢ ورومية ٩: ٣٣ و١كورنثوس ١٠: ٤ و١بطرس ٢: ٨). ففي كل هذه الآيات يُراد بالصخرة الله أو المسيح، ولم تُوجَّه في الكتاب عن بشر. فإذاً المسيح أمساً واليوم وإلى الأبد هو الصخرة التي هي أساس الكنيسة الوحيد.
وقد قال البعض إن المسيح أراد بالصخرة بطرس عينه، لكنهم اعتقدوا أن ذلك حُصر في تبشيره يوم الخمسين، عندما آمن بالمسيح ثلاثة آلاف نفس، ووضع أساس الكنيسة المسيحية بين اليهود (أعمال ٢) وحين خاطب كرنيليوس ورفقاءه ووضع أساس الكنيسة بين الأمم (أعمال ١٠) فيكون وعد البناء تم في ذلك الوقت وانتهى.
وقال آخرون ممن اعتقدوا هذا الرأي إن الوعد لبطرس كان لزمان خاص، وليس عن الرتبة والمقام، لأن بطرس قال «الَّذِي (أي المسيح) إِذْ تَأْتُونَ إِلَيْهِ، حَجَرًا حَيًّا مَرْفُوضًا مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ مُخْتَارٌ مِنَ اللهِ كَرِيمٌ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيِّينَ *كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ* بَيْتًا رُوحِيًّا» (١بطرس ٢: ٤، ٥) وفهموا منه أن بطرس نفسه أول حجرٍ وُضع على المسيح من تلك الحجارة الحية. وأخذوا قول بولس الرسول «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ» (أفسس ٢: ٢٠) تأييداً لذلك. ولعل هذا الرأي صحيح.
ولا شك أن المسيح قصد بالصخرة بطرس وسائر الرسل، فالمسيح هو الأساس الوحيد الإلهي الأزلي للهيكل الروحاني المبني من حجارة حية. وكان الاثنا عشر رسولاً أول تلك الأحجار، فهم بالنسبة إلى سائر المؤمنين الأساس الإنساني الأول، فأُعطوا هذا الشرف لإقرارهم أن يسوع هو المسيح ابن الله الحي.
ولم يكن ذلك المقام للرسل باعتبار أشخاصهم، بل باعتبارهم شهوداً للمسيح ومنادين بتلك الشهادة العظمى التي أداها بطرس عن نفسه وعن سائر الرسل. ويرجح هذا الرأي أمران: (١) أن سؤال المسيح كان موجهاً إلى الجميع وهو قوله «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» (متّى ١٦: ١٥) فأجاب بطرس عن الجميع. فيكون جواب المسيح موجهاً إليه وإن قصد توجيهه إلى الكل. (٢) أن هذا الرأي وفق وعد المسيح للاثني عشر بشرف واحد وسلطة متساوية في قوله «أنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متّى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً آخر» (متّى ١٩: ٢٨) ووفق قول الرسول «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ» (أفسس ٢: ٢٠) ووفق قول يوحنا «وَسُورُ الْمَدِينَةِ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَسَاسًا، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الْحَمَل الاثْنَيْ عَشَرَ» (رؤيا ٢١: ١٤). وهذا الرأي يعطي كل واحد حقه، فيثبت أن المسيح هو الأساس الإلهي للكنيسة، وأن الاثني عشر هم الأساس البشري لها. وهو لا ينزع عن بطرس الامتياز الذي وهبه له المسيح من أنه جعله أول حجر من الأساس الإنساني، جزاءً على سبقه سائر الرسل بذلك الإقرار.
وأما الرأي الثالث وهو أن المقصود بالصخرة إقرار بطرس أن يسوع هو المسيح، فهو حسنٌ ووفق سائر تعاليم الكتاب المقدس. ولكن لا دليل على أن المسيح قصد أن يعلّم ذلك حينئذ، فيصعب على هذا الرأي أن نرى ارتباطاً بين الجملة الأولى وهي «أنت بطرس» والجملة الثانية وهي قوله «وعلى هذه الصخرة الخ». وكثيراً ما يستعير الكتاب المقدس البناء للكنيسة، ويستعير الحجارة الحية للمؤمنين المبنيين على المسيح الأساس الأزلي. فلا نتصور بناء أساس بعضه أشخاص وأساس البعض الآخر تعاليم. ومن أدلة الكتاب المقدس أن الكنيسة مبنية على أشخاص لا على تعاليم ما يأتي: ١بطرس ٢: ٤ - ٦ و١تيموثاوس ٣: ١٥ وغلاطية ٢: ٩ وأفسس ٢: ٢٠ ورؤيا ٣: ١٢ و٢١: ١٤.
وأما الرأي الرابع وهو أن المقصود بالصخرة المسيح، فتمسك به كثيرون لموافقته تمام الموافقة ما قيل في ١كورنثوس ٣: ١١ وآيات أخرى مثلها. وهرباً من أن يجعلوا إنساناً أساساً للكنيسة بدلاً من الله. فلا شك أن الصخرة هي المسيح ولا تصدق على غيره. ولولا القرينة لتمسك أكثر الناس بهذا الرأي، ولكن لا دليل على أن المسيح أشار إلى نفسه حين قال «وعلى هذه الصخرة الخ» فيمكن أنه أشار ويمكن أنه لم يُشر. وعلى هذا الرأي لا علاقة بين جزئي الكلام «أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ الخ» فلا يلزم أن نتمسك به هرباً مما ذكرناه آنفاً. لأنه إذا جعلنا المسيح الأساس الإلهي للكنيسة، وبطرس وسائر الرسل الأساس البشري لها، لم يكن في ذلك ما يسلب حق المسيح ويعطيه لغيره من البشر.
أَبْنِي المسيح أساسٌ وبانٍ. فإنه وإن لم يكن حاضراً الآن بناسوته على الأرض فهو حاضر بروحه مع كنيسته يهتم ببنائها. فكل تقدم لها منه. فيقبل الناس بتنازله أن يبنوا الكنيسة بإرشاده (١كورنثوس : ١٠).
كَنِيسَتِي لا كنائسي. وما أعظم الفرق بين المفرد والجمع، لأن كنيسة المسيح الجامعة الرسولية هي وحدة روحية مقدسة تسمو على الطائفية والعنصرية والجنسية. وهي الارتباط الحي بالمسيح الذي هو رأسها الوحيد. وقد وردت كلمة «كنيستي» في البشائر مرتين، هنا وفي متّى ١٨: ١٧. ومعناها «جماعة المؤمنين بالمسيح». وهي ليست محصورة بأمة أو زمان أو مكان، بل مجموعة من الذين اغتسلوا بدم المسيح ولبسوا ثوب بره وتجددوا بروحه واتحدوا مع المسيح بالإيمان واعتمدوا باسمه وبالروح القدس. وهي جسد واحد ولها رأس واحد الرب يسوع المسيح (كولوسي ١: ١٨).
وقد سميت الكنيسة أيضاً «بيت الله» (١تيموثاوس ٣: ١٥) و «هيكلاً مقدساً» (أفسس ٢: ٢١).
أَبْوَابُ كانت الأبواب قديماً للمدن المسوَّرة مكاناً لاجتماع أصحاب المشورة وأرباب الحكم (٢صموئيل ١٥: ٢) ولإجراء الأعمال المختلفة (أيوب ٢٩: ٧ ومزمور ٩: ١٤ و٦٩: ١٢ وأمثال ٣١: ٢٣ وإرميا ٣٦: ١٠). فتستعار الأبواب للمشورات والمؤامرات والمقاصد ذات الشأن.
ٱلْجَحِيمِ صوَّر الجحيم هنا قلعة ذات أبواب (أيوب ٣٨: ١٧ وإشعياء ٣٨: ١٠ ومزمور ١٠٧: ١٨ ونش ٨: ٦). ويراد غالباً بأبواب الجحيم قوى الشر، فوُعدت الكنيسة هنا بالوقاية من المشورات والمؤامرات والمقاصد الشريرة التي تقصد هلاكها.
لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا ذلك يدل على أن الكنيسة ستُضطهد وتُقاوم، ولكن كل قوات الشر تعجز عن إهلاكها. وهنا أمران يجب الانتباه لهما: (١) أن هذا الوعد لا يتكفل بأن كل كنيسة توقى من الضلال، فيمكن أن يسقط البعض ككنائس آسيا السبع، فإنها ضلت وزُعزعت منائرها من أماكنها. لكنه يتكفل بأن الكنيسة العامة تبقى كالعليقة التي رآها موسى في البرية تتوقد بالنار ولا تحترق، وأن دين المسيح لا يتلاشى فيبقى في قلوب المؤمنين ويدوم ظاهراً في الأرض. و(٢) أنه قد تم هذا الوعد تماماً في كل القرون، من وقت الإنباء به إلى الآن مع شدة المقاومة للكنيسة داخلاً وخارجاً.
١٩ «وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
أُعْطِيكَ الوعد في هذا العدد كما في السابق لبطرس ولرفقائه الرسل. ولأن بطرس سبق إلى الإقرار أكرمه المسيح بأن جعله أول من يفتح أبواب كنيسته لليهود والأمم.
مَفَاتِيحَ كان في قصور الملوك موظفون يسمون «حجاباً أو خزنة» يحملون المفاتيح علامة وظيفتهم كألياقيم، فإنه قيل فيه «وَأَجْعَلُ مِفْتَاحَ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى كَتِفِهِ، فَيَفْتَحُ وَلَيْسَ مَنْ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلَيْسَ مَنْ يَفْتَحُ» (إشعياء ٢٢: ٢٢).
مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أي كنيسة المسيح، وشُبهت هنا بقصر وشُبه الإدخال إليها أو المنع منها بالمفاتيح. أو شُبهت ببيت مال الملك، فيكون معنى المفاتيح السلطان على فتحه وتوزيع كنوزه على الذين يستحقون أخذها. ووردت المفاتيح بهذا المعنى في لوقا لوقا ١١: ٥٢. فعلى هذا تكون المفاتيح إما مفاتيح التأديب أو مفاتيح التعليم في الكنيسة. ولا شك أن أخذ مفاتيح السماوات بمعناه الأعم خاص بالمسيح وحده، وهو كذلك إلى الأبد وفقاً لقول صاحب الرؤيا «هذَا يَقُولُهُ الْقُدُّوسُ الْحَقُّ، الَّذِي لَهُ مِفْتَاحُ دَاوُدَ، الَّذِي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ» (رؤيا ٣: ٧).
وأما بطرس فباعتباره رسول المسيح وشريك سائر الرسل فتح الكنيسة المسيحية لليهود (أعمال ٢: ٣٨ - ٤١ وللأمم أعمال ١٠: ٤٨ و١٤: ٢٧ و١٥: ٧) وأخرج منها الخائنين كحنانيا وسفيرة (أعمال ٥: ٣ - ٥، ٩) وسيمون الساحر (أعمال ٨: ٢١). ومنذ ذلك الوقت إلى الآن لم تزل أبواب الكنيسة المسيحية مفتوحة لكل المؤمنين من اليهود، والأمم والكنوز الإنجيلية متاحة للجميع.
وبطرس مع سائر الرسل نظَّم الكنيسة، وحكموا بمن يستحق أن يكون عضواً فيها، وبالعقائد والأعمال الواجبة على كل عضو. فالرسل في سفر الأعمال وفي رسائلهم بينوا لنا كيف وزعوا على العالم كنوز ملكوت السموات بتعليمهم وكتاباتهم. وهذه المفاتيح لا تشير إلى سلطة سياسية، إنما هي مقصورة على السلطة الروحية.
تَرْبِطُهُ... تَحُلُّه فهم البعض من هذه العبارة المجازية معنى المفاتيح المذكورة من جهة إدخال بعض الناس إلى الكنيسة وإخراج البعض منها. ولكن الأرجح أن المسيح استعملها بالمعنى المتعارف عليه عند اليهود يومئذٍ، وهو الأمر والنهي. وهذا السلطان مُنح لسائر الرسل كما منح لبطرس بدليل قوله «الحق الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء الخ» (متّى ١٨: ١٨). وبهذا المعنى أعطى المسيح الرسل السلطان على أن يعينوا المربوط على المسيحيين من الشريعة الموسوية والمحلول عنهم منها. فلم يرد أن بقي تلاميذه تحت أثقال تفاسير الفريسيين لتلك الشريعة، ولا تحت حِمل طقوس الشريعة بعد تمام الغاية المقصودة منها، فلذلك وَكَل إلى تلاميذه وضع شرائع الكنيسة المسيحية بإرشاده وإرشاد الروح القدس. ومارسوا ذلك السلطان في مجمع أورشليم (أعمال ١٥: ١٠، ٢٠، ٢٨، ٢٩) ومارسوه في الوعظ والتعليم. ومما حكموا به جواز مخالطة اليهود للأمم، وإلغاء التمييز بين الحلال والحرام في الأطعمة، وإبطال الختان. ومن أمثلة معنى الربط ما ذكر في ١كورنثوس ٧: ٢٧.
فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أي ما توافق عليه السماء. إذن فهو ليس شيئاً أرضياً عالمياً، ولا نظاماً كهنوتياً فحسب، بل هو المعمودية بالروح القدس والنار النازلة من السماء. ونفهم من ذلك أن المسيح أعطى رسله سلطاناً غير عادي ليُعصَموا من الغلط في أحكامهم الدينية التي التزمت الكنيسة بها، فإنهم كانوا ملهَمين بالروح القدس بدليل قوله «وأما متّى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يوحنا ١٦: ١٣) وبذلك أُهِّلوا أن يكونوا معلمي دينه وفق ما علمهم شفاهاً بقوله «عَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (متّى ٢٨: ٢٠) وصرَّح لهم بأن ما يحكمون به على الأرض يُحكم به في السماء لأن الإرشاد الإلهي يعصمهم في كل أحكامهم من الغلط. فكما أن الملك يسلم بكل ما يحكم به سفيره بناءً على تعليمات ذلك الملك، كذلك المسيح يسلم في السماء بكل ما حكم به الرسل سفراؤه على الأرض، بناءً على ما علمهم إياه. وليس للتلاميذ خلفاء معصومون من الغلط، فسلطان الرسل في ذلك وقتي مختص بهم، مثل اختصاص موهبة التكلم بالألسنة وفعل المعجزات.
فالذي رُبط على المسيحيين من جهة نظام الكنيسة وطقوسها إنما هو ما ربطه عليهم المسيح في البشائر الأربع وأعمال الرسل ورسائلهم. فالكنيسة إذا درست كتاب الله وسألته الإرشاد ليحفظها من الضلال أمكنها أن تفحص طالبي الدخول إليها، وتحكم من جهة أهليتهم لذلك، وتحكم على المتهمين بارتكاب ما يخالف طهارة الكنيسة، أو يفسد التعاليم التي تسلمتها من المسيح. وتحكم عند الاقتضاء بما هو تعليم كتاب الله الصريح من جهة المسائل المتعلقة بالأخلاق أو العقائد، متوقعة أن يرشدها الله في ذلك.
٢٠ «حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلاَمِيذَهُ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ».
متّى ١٧: ٩ ومرقس ٨: ٣٠ ولوقا ٩: ٢١
نهاهم المسيح عن أن لا ينادوا جهاراً بذلك الإقرار، لأنه رأى بحكمته إنه لم يأت الوقت الذي يُظهر فيه كمال دعواه الشريفة. ولم يكن ذلك النهي إلا بعد ستة أشهر، أي بعد موته وقيامته. لقد قدَّم المسيح أدلة كافية أنه هو المسيح بمعجزاته، فأراد أن ينظر الناس إليها ويحكموا لأنفسهم بما رأوا وسمعوا، لا بما شاهده غيرهم. ولم يرد يسوع أن ينادي تلاميذه بأنه المسيح لئلا يهيج اليهود الذين كانوا يتوقعون ملكاً أرضياً ومملكة زمنية، فينشأ عن ذلك خوف هيرودس والولاة الرومان فيطلبون قتل المسيح.
٢١ «مِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ».
متّى ٢٠: ١٧ الخ ومرقس ٨: ٣١ الخ و٩: ٣١ و١٠: ٢٣، ٣٤ ولوقا ٩: ٢٢ الخ و١٨: ٣١ الخ.
بعد أن عرف الرسل أن يسوع هو المسيح، تقدم إلى أن يعلمهم أنه مع كونه نبياً وملكاً يجب أن يمارس وظيفته الكهنوتية، أي لا بد أن يتألم قبل أن يملك بدليل قوله «يَنْبَغِي أَنَّ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ» (لوقا ٢٤: ٢٦). وهذا التعليم سبق إليه الأنبياء (إشعياء ٥٣: ٤ - ١٠ ودانيال ٩: ٢٦ ولكن اليهود غفلوا عنه، فقد علَّم كتبتهم أن المسيح سيملك مُلكاً أرضياً، ويكون ظافراً منتصراً يرد المجد إلى إسرائيل، فيجعل اليهود كما كانوا في أيام داود وسليمان. وشاركهم الرسل في ذلك الوهم. فابتدأ يسوع يغير أفكارهم بإنبائه بآلامه وبرفض اليهود له بواسطة أحزابهم الثلاثة المذكورة هنا المترئسة، وبقيامته في اليوم الثالث. وهو علم ذلك منذ البدء (يوحنا ١٨: ١٤) لكنه لم يعلّمه علانية إلا الآن.
يَنْبَغِي أي يجب بمقتضى القصد الإلهي لإتمام غاية إرساله فادياً.
أُورُشَلِيم ليتألم هناك وفق قوله «لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجًا عَنْ أُورُشَلِيمَ» (لوقا ١٣: ٣٣).
وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً انظر متّى ٢٠: ١٩ ولوقا ١٨: ٣٢، ٣٣.
ٱلشُّيُوخِ أي رؤساء الشعب أعضاء مجلس السبعين، وهو المجلس الكبير المعروف بالسنهدريم.
رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَة ومن هؤلاء رئيس الكهنة، ورؤساء الأربع والعشرين فرقة من الكهنة.
ٱلْكَتَبَة أي معلمي الناموس ومن يكتبونه.
يَقُومَ أنبأ المسيح بقيامته ليعزي تلاميذه ويشجعهم بسبب ما اعتراهم من أنباء رفضه وموته. أما هم فلم يدركوا الخبر المحزن ولا الخبر المفرح.
٢٢ «فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَٱبْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً: حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هٰذَا».
ما نقرأه هنا من أعمال بطرس يوافق ما نقرأه في أماكن أخرى في الإنجيل من صفاته، فإنه كان يحب المسيح غيوراً في خدمته، لكنه كان سريع الكلام، يعمل بلا روية. فلم يُفهم تمام الفهم معنى كلام المسيح المذكور آنفاً. ويحتمل أنه لحقه شيء من الافتخار الذاتي لما سمعه من مدح المسيح إياه، مع أنه وُجِّه إليه باعتباره نائباً عن سائر الرسل.
فأخذه: بسؤله إياه أن ينفرد معه للكلام. ولعله فعل هذا لثلاثة أسباب: (١) الخوف من تأثير كلام المسيح في أذهان بقية الرسل. (٢) ظنه أن المسيح قال ذلك لشدة انفعالاته من مقاومة الرؤساء له، ولأوهام وقتية محزنة. (٣) تيقنه استحالة أن المسيح قصد حرفية ما قاله، لأن ذلك يلاشي كل رجائه ورجاء غيره في النجاة والانتصار على يد المسيح. ويظهر مما قيل في مرقس ٨: ٣٣ أن المسيح أبى أن ينفرد مع بطرس.
يَنْتَهِرُهُ أي يردعه ويمنعه، وكان ذلك جرأةً عظيمةً منه، فكيف يوبخ التلميذ معلمه؟ وكيف ينتهر سيداً اعترف أنه «ابن الله الحي».
٢٣ «فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: ٱذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلّٰهِ لٰكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ».
هذا أشد توبيخ يمكن المسيح أن يتلفظ به ليظهر لبطرس خطأه وتطاوله.
ٱذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ هذه الكلمات عين ما قاله المسيح لإبليس حين جربه في البرية (لوقا ٤: ٨ ومتّى ٤: ١٠) وهي تتضمن رفض نصح بطرس وكراهيته لهذا النصح، وأن بطرس مثل إبليس المجرب، وأنه شريكه في العمل باجتهاده أن يرجعه عن القصد الذي لأجله ترك السماء وأتى إلى هذه الأرض، والذي كانت كل خدمته العلنية في السنين الثلاث الماضية استعداداً له. فكأن المسيح قال لبطرس: هل رجع إليَّ الآن المجرب الأول واستخدم واحداً من تلاميذي ليجربني؟ أبعد عني يا خصمي المقاوم.
مَعْثَرَةٌ لِي أي يمنعني من إتمام الواجبات.
لاَ تَهْتَمُّ أي لا تكترث أو تبالي. وأظهر المسيح لبطرس بهذه الكلمات غلطه وإثمه.
بِمَا لِلّٰه أي بمقاصد الله وأفكاره وغاياته، والمراد هنا قصد الله أن يجعل آلام المسيح وموته واسطة لخلاص البشر. فليس ملكوت المسيح أرضياً كما توهم الناس حتى ذاك الحين، وهو لا يُقاس بمقاييس الناس. فما حسبه القوم اندحار الصليب كان بالحقيقة انتصار الله الحقيقي على الخطية، بالمحبة المفتدية لا بصولجان الملك والسيطرة العالمية.
بِمَا لِلنَّاس أي يشتهيه الناس ويتوقعونه ويقصدونه، كالشرف الدنيوي والربح العالمي إلى غير ذلك مما يختص بالممالك الأرضية كما توقع اليهود. وكان غلط بطرس نتيجة عدم إدراكه سر الصليب، وهو إيفاء العدل الإلهي حقه بموت المسيح، وتحصيل الحياة الأبدية للمؤمنين بذلك. فكان غلطه كغلط اليهود واليونانيين كما قال الرسول «لكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً» (١كورنثوس ١: ٢٣)
٢٤ «حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي».
أنبأ المسيح تلاميذه هنا أنه يجب عليهم أن يتيقنوا ما استغربوه مما ذُكر من أمر آلامه، وأنه يجب عليهم فوق ذلك أن يكونوا مستعدين أن يتألموا هم أيضاً كأعضاء الجسد مع الرأس.
إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أي بلا استثناء
يَأْتِيَ وَرَائِي أي يتبعني تلميذاً لي ليخلص بواسطتي.
فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ أي لا يعتبر راحته ولذته وأمنه الغاية العظمى. وإنكار النفس لا يكون بمجرد اعتزال الشهوات، بل بترك كل شيء يمنعه من خدمة الله الكاملة. ولا إشارة في ذلك إلى تعذيب الجسد الاختياري، إنما إلى احتمال ما يأمر به الله ويحدث في طريق القيام بالواجبات.
يَحْمِلْ صَلِيبَهُ هذا مجاز مبني على أن المحكوم عليهم بالصلب كانوا يحملون صلبانهم إلى حيث يصلبون. ولما كان الصلب أشر أنواع الموت لما فيه من العار العظيم والألم الشديد، استُعير حمل الصليب إلى التسليم بأشد العار، والألم بالتواضع والصبر.
يَتْبَعْنِي أي في كل شيء لا في تعليمي أو سيرتي فقط، بل في احتمال المصائب والموت أيضاً. فكأنه قال: إني صاعد إلى الجلجثة فكونوا مستعدين أن تتبعوني ولو إلى هناك. فلا يمكن أن يكون الإنسان مسيحياً إلا بإنكار الذات وحمل الصليب.
٢٥ «فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا».
لوقا ١٧: ٣٣ ويوحنا ١٢: ٢٥ ورؤيا ١٢: ١١
كرر المسيح هذا القول قبلاً وشُرح في محله (انظر متّى ١٠: ٣٩). فاستعدادنا أن نموت لأجل المسيح يفتح لنا أبواب الحياة الأبدية. فمن ينكر المسيح ليخلِّص حياته الأرضية يضيِّع رجاء الحياة السماوية. والخسارة لأجل المسيح ربح (متّى ٣: ٧، ٨) وبالموت لأجله الحياة، وبالعار المجد، وبالصليب الإكليل.
٢٦ «لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ».
لوقا ١٢: ٢٠
الربح والخسارة كلاهما كفتا ميزان الحياة، فأي الاثنتين نرجح؟ خسارة حسب الظاهر أم خسارة بحسب حق الله. والربح، أي نوع هو؟ ومتّى كان المعطي رابحاً؟ أليس الآخذ هو الرابح؟ لا! ليس الربح في شريعة المسيح وفي دين اتباعه الحقيقيين. كل شيء حسبته نفاية لأربح المسيح.
عبَّر المسيح هنا عن الروحيات بما اصطلح عليه الناس في التجارة، فالربح في كلامه ليس هو ربحاً حقيقياً، وإن ظهر كذلك، والخسارة فيه ليست خسارة.
مَاذَا يَنْتَفِعُ؟ نبه المسيح بهذا السؤال الإنسان لأن يستعمل الحكمة والنظر في المستقبل في الأمور الروحية للنفع، كما يستعملها لذلك في الأمور التجارية.
العالم كله: أي كل ما يمكن الإنسان أن يحصل عليه أو يتوقعه في هذه الأرض من لذة أو شرف أو غنى أو رتبة أو اشتهار أو رئاسة. ومن الواضح أنه يستحيل أن أحداً من الناس يربح العالم كله. لكن لو فُرض إمكان ذلك لم يكن شيئاً بالنسبة إلى خسارة النفس.
خَسِرَ نَفْسَه ظن البعض المراد بالنفس هنا الحياة، فعلى هذا يكون المعنى: إن مات الإنسان فماذا ينتفع من ماله وشرفه وسلطته؟ إنه لا يأخذ شيئاً من ذلك معه، لأنه يخسر بخسارة حياته كل ما كسبه من هذا العالم.. وظن الآخرون إن المقصود بالنفس هنا حياة الروح الخالدة لا حياة الجسد، فعلى ذلك يكون معنى خسران النفس ترك الله إياها وتسليطه الموت الأبدي عليها، وهو يتضمن خسارة أفراح السماء، ومقاساة عذاب جهنم. والاثنان صحيحان، فإن موت الخاطئ جسداً بلا رجاء المسيح يتبعه حتماً هلاك النفس الأبدي.
فبمقتضى العدد السابق إن الذي يخسر حياته الدنيا يمكنه أن يربح حياة أفضل منها عوضاً عنها. وبمقتضى هذا العدد إن الذي يخسر الحياة الأبدية يهلك إلى الأبد. فمن المحال أن يكون ربح بدلاً من هذه الخسارة. وهذا هو الجواب لسؤال المسيح.
ونتيجة ذلك أن التتلمذ للمسيح مع ما يلحقه من الآلام والخسائر خيرٌ من التمتع الوقتي بكل لذات العالم. ونجمع ما ذكر في خمس قضايا. (١) أنه لكل إنسان نفس، أي جزء أخلاقي لا بد أن يحاسبه الله عنه. (٢) أنه يمكن أن يخسر الإنسان نفسه، وهذا في غاية الخطر. (٣) إن فُقدت النفس فاللوم على الإنسان وحده، لأن الله أعد طريقاً لخلاصها. (٤) إن نفساً واحدة أثمن من العالم كله. (٥) إنه إن فُقدت النفس مرة ضاعت إلى الأبد، فلا عوض عن تلك الخسارة إذ لا فداء في جهنم.
فِدَاءً عَنْ نَفْسِه الفداء هنا بمعنى البدل أو العوض. وقيمة النفس غير محدودة فلا شيء في العالم يصلح أن يكون فداءً عنها. ويبين عظمة قيمتها ما بذله المسيح ليجعل فداءها ممكناً. فإن خسر الإنسان نفسه بترك فداء المسيح رغبة في العالم فأين يجد فداءً آخر له.
٢٧ «فَإِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ».
دانيال ٧: ١٠ وزكريا ١٤: ٥ ومتّى ٢٥: ٣١ و٢٦: ٦٤ ويهوذا ١٤ وأيوب ٣٤: ١١ ومزمور ٦٢: ١٢ وأمثال ٢٤: ١٢ وإرميا ١٧: ١٠ و٣٢: ١٩ ورومية : ٦ و١كورنثوس ٣: ٨
ترك متّى هنا شيئاً ذكره مرقس ولوقا، وهو إنذار المسيح للذين يستحون به. ولعل تركه إياه هنا لأنه ذكر مثله في موضع آخر (متّى ١٠: ٣٣).
سَوْفَ يَأْتِي أشار المسيح بذلك إلى مجيئه الثاني للدينونة. وورد مجيء المسيح ثانيةً في الإنجيل بثلاثة معانٍ: (١) مجيئه عند موت كل مؤمن (يوحنا ١٤: ٣٢). (٢) مجيئه لخراب أورشليم (يوحنا ٢٠: ٢٢). (٣) مجيئه ليدين العالم، وهو المقصود هنا.
فِي مَجْد الذي كان حينئذٍ في صورة عبد يأتي أخيراً في أعظم مجد. فألم يخطئ التلاميذ وهم ينتظرون مجده، لأن هذا لا بد منه في المستقبل بعد أن يتألم.
أَبِيه أي ليس في مجد الابن فقط، بل في مجد الآب أيضاً. فقوله «ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ» يشير إلى أنه لا يزال ابن الإنسان في السماء، ولا يستحي أن يعترف بأنه أخ لكل مؤمن به. فإنه كما شارك البشر في ناسوتهم يشاركهم في مجده.
مَلاَئِكَتِه أي أتباعه السماويين (متّى ١٣: ٤١ و٢٥: ٣١ و٢تسالونيكي ١: ٧ ويهوذا ١٤).
يُجَازِي لا يأتي حينئذٍ ليتألم كما أتى أولاً، بل يأتي ملكاً يثبت الأبرار ويعاقب الأشرار ويجازي الذين تألموا معه بأن يجعلهم شركاء مجده. فلا يحسن أن يتوقع الأبرار ثوابهم في هذا العالم لأنهم لم يوعدوا بنواله إلا عند مجيء المسيح ثانيةً (٢تيموثاوس ٤: ٨).
٢٨ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ».
متّى ١٠: ٢٣
إتيان هذا الملكوت هو بصورة تدريجية مستمرة. ولا شك أن تلاميذ المسيح قد تحققوا من ملكوته بعد قيامته، ولا يزالون يتحققون منه إلى أن يتم هذا الملكوت في قلوب الناس وسيرهم وأعمالهم.
ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا أي الجمع مع تلاميذه الاثني عشر.
يَذُوقُونَ ٱلْمَوْت شبَّه الموت بكأس شراب مر حُتم على الإنسان أن يشربه. وهذا القول يفيد أن الحادثة التي ينبئ بها تحدث وبعض الحاضرين في الحياة.
آتِياً فِي مَلَكُوتِه أي في عظمته وبهائه الملكي، كقوله «أتى بقوة» (مرقس ٩: ١) وقوله «يروا ملكوت الله» (لوقا ٩: ٢٧). فالمقصود أنه يُظهِر أثناء حياة بعض الحاضرين أدلةً قاطعة على أن الملكوت الذي أنبأ به الأنبياء والمسيح نفسه قد تأسس على الأرض.
وفي أمر هذا الإتيان ثلاثة آراء (١) أنه حادثة تجلّي المسيح، التي حدثت بعد ذلك بستة أيام. وكان هذا التجلي عربون مجيئه ثانيةً ولمعان المجد الذي سيظهر في وقته. ويوافق هذا الرأي قول بطرس وهو يشير إلى التجلي «عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ... مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ» (٢بطرس ١: ١٦). (٢) حلول الروح القدس يوم الخمسين وإيمان ثلاثة آلاف يهودي بالمسيح، وتأسيس الكنيسة المسيحية وقتئذٍ ونجاح الإنجيل على أثر ذلك. وهذا كله دلالة واضحة على أن الملكوت الجديد قد أتى، وأن المسيح قد مارس مُلكه الروحي على القلوب. (٣) خراب أورشليم الذي حدث بعد هذا بنحو أربعين سنة، فإن الخراب كان نهاية كل ما يتعلق بالنظام الموسوي ورمزاً إلى مجيئه في اليوم الأخير لخراب العالم.
ونعتقد أن هذه الآراء الثلاثة صحيحة، لأن ثلاثة من الرسل شاهدوا التجلي، وكلهم ما عدا واحداً شاهدوا حوادث يوم الخمسين ونجاح الإنجيل. وواحد منهم على الأقل (هو يوحنا التلميذ المحبوب) عاش بعد خراب أورشليم وشاهد انتشار الإنجيل في آسيا وبلاد اليونان وروما وأكثر المسكونة المعروفة في ذلك الوقت.