اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّادِسُ وَٱلْعِشْرُونَ

تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ عِنْدَمَا رَدَّ ٱلرَّبُّ سَبْيَ صِهْيَوْنَ صِرْنَا مِثْلَ ٱلْحَالِمِينَ. ٢ حِينَئِذٍ ٱمْتَلأَتْ أَفْوَاهُنَا ضِحْكاً وَأَلْسِنَتُنَا تَرَنُّماً. حِينَئِذٍ قَالُوا بَيْنَ ٱلأُمَمِ: إِنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ ٱلْعَمَلَ مَعَ هٰؤُلاَءِ. ٣ عَظَّمَ ٱلرَّبُّ ٱلْعَمَلَ مَعَنَا وَصِرْنَا فَرِحِينَ. ٤ ٱرْدُدْ يَا رَبُّ سَبْيَنَا مِثْلَ ٱلسَّوَاقِي فِي ٱلْجَنُوبِ. ٥ ٱلَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِٱلدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِٱلٱبْتِهَاجِ. ٦ ٱلذَّاهِبُ ذَهَاباً بِٱلْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ ٱلزَّرْعِ، مَجِيئاً يَجِيءُ بِٱلتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ».
هذا حصاد الفرح بعد بذار الدموع. وما أعمقها من حقيقة. وما أشرفها من أفكار. فإن الحياة لكي تكمل معانيها يجب أن نختبر حلوها ومرّها هوانها وكرامتها شقاءها وهناءها. وما المصاعب سوى تلك الامتحانات التي تكشف عن جوهرها وتؤكد حسن صيتنا وكرم أصلنا. وهو لا شك مزمور يعبر عن ذلك الفرح العظيم الذي خالج قلوب المسبيين لدى عودتهم إلى الوطن الأم. فيصف ذلك الفرح بأجمل الكلمات وأطربها على الآذان.
(١ - ٣) لقد عاد المسبيون إلى الوطن وهم الآن يفرحون بالرجوع بعد طول الغياب. وهم من شدة الفرح لا يدرون أهم في يقظة أم في حلم لذيذ ولكن لا يطول بهم الوقت وإذا الحقيقة تظهر جلية أمام أعينهم ويتحققون عظمة ما هم فيه فكان أن امتلأت الأفواه بالضحك علامة البهجة. وكان أن أخذوا بالترنيم حتى قال الناس حولهم إن الرب قد آتاهم بالعظائم فكيف لا يفرحون. وهم يؤكدون للناس هذه العظائم ولا يتركونهم في أية حيرة. نعم إن الرب قد عظم العمل ولذلك قد امتلأوا بالفرح (راجع يوئيل ٢: ٢٠ و١صموئيل ١٢: ٢٤ وإشعياء ٤٥: ١٤ و٥٢: ١٠). ولا شك أن أعظم الشهادة هي ما شهدت به الأعداء.
(٤ - ٦) يطلب في العدد الرابع أن يرد الرب هذا السبي كما ترتد السواقي في أيام الشتاء لتعود إلى جريها كالسابق. لأن هذه السواقي الجنوبية تنشف تماماً بعد أيام الصيف الطويلة. وما عليهم إلا أن ينتظروا فقد زرعوا بالدموع من قبل والآن يستطيعون أن يبتهجوا ولا يبقى أي داع لمصائبهم وآلامهم فقد أصبحت كلها في حكم الماضي. ولا شك أن الاستعارة هنا جميلة للغاية ولا سيما في العدد ٦ فقد ذهبوا للسبي باكين ولكنهم صبروا مؤمنين وهوذا الآن يعودون فرحين (راجع عزرا ٣: ١٢). وكما يفعل الحاصد إذ يحمل حزمه التي يضعها على البيدر رمزاً للخيرات التي منحها الله كذلك فإن هؤلاء المسبيين لا ينسون قط خيرات الرب فهم يفرحون ويترنمون شاكرين.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّابِعُ وَٱلْعِشْرُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ. لِسُلَيْمَانَ


«١ إِنْ لَمْ يَبْنِ ٱلرَّبُّ ٱلْبَيْتَ فَبَاطِلاً يَتْعَبُ ٱلْبَنَّاؤُونَ. إِنْ لَمْ يَحْفَظِ ٱلرَّبُّ ٱلْمَدِينَةَ فَبَاطِلاً يَسْهَرُ ٱلْحَارِسُ. ٢ بَاطِلٌ هُوَ لَكُمْ أَنْ تُبَكِّرُوا إِلَى ٱلْقِيَامِ، مُؤَخِّرِينَ ٱلْجُلُوسَ، آكِلِينَ خُبْزَ ٱلأَتْعَابِ. لٰكِنَّهُ يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْماً. ٣ هُوَذَا ٱلْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ، ثَمَرَةُ ٱلْبَطْنِ أُجْرَةٌ. ٤ كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ هٰكَذَا أَبْنَاءُ ٱلشَّبِيبَةِ. ٥ طُوبَى لِلَّذِي مَلأَ جُعْبَتَهُ مِنْهُمْ. لاَ يَخْزَوْنَ بَلْ يُكَلِّمُونَ ٱلأَعْدَاءَ فِي ٱلْبَابِ».
إن شكل هذا المزمور هو أقرب للمثل الذي اشتهر فيه سليمان ولا شك أن الناظم قد اتبع طريقة الحكم المأثورة في كلامه هذا. وقد ذهب ثيودورت بأن العدد الأول يشير إلى بناء الهيكل في أورشليم أكثر من أي شيء آخر ولكنه ليس من الضروري أن يكون لبنائه في أيام سليمان كما هو مناسب أن يكون لأيام زربابل ويشوع أي لدى إعادة بناء الهيكل الثاني حينما كان الجيران المعادون يحيطون بالشعب من كل جانب. ولم يعد الكثيرون وحدهم بل يصحبهم زوجاتهم وأولادهم دليلاً على بركة الرب.
(١ - ٢) في العدد الأول ذكر لبناء البيت ولحفظ المدينة وكلاهما باطل بدون معونة الرب لأن البيت يبنى بالحكمة وتقوى الله وليس بأي الأمور الخارجية كما أن المدينة لا يحرسها غير الرب وإن توافر لديها الحراس إذ قد يكون كل عمل بدون رضا الرب باطلاً من أساسه. ونلاحظ في العدد جمال المقابلة بين التبكير للقيام والتأخير في الجلوس وهذا يدل على أن الإنسان يسعى بكل قدرته لتحصيل رزقه بعرق الجبين حتى يأكلوا خبز التعب لا خبز الراحة كما يفعل الكسالى الخاملون. ولكن هذا كله باطل إذ الرب ذاته هو الذي يعطي الراحة لمن يحبونه ويهب الرزق بكرم وسخاء للمحتاجين.
(٣ - ٥) ويتابع كلامه السابق بقوله إن بركة الرب ليس فقط على البيت والمدينة ولكنه على أفراد الناس وعيالهم فبعنايته أيضاً يمنح البنين الصالحين ويجعل من أولاد الإنسان أجرة على أتعابه فهم من أعظم بركات الرب. لا سيما أولئك الشبان الأشداء الذين يستعملهم آباؤهم كما يستعمل الجبار سهامه ويصيب بهم كيد الأعداء وحينئذ يهنئ أولئك الآباء الذين لهم أولاد كثيرون يملأون جعبتهم من هذه السهام القوية الحادة. فهم ينطلقون بعيداً كالسهم ويمجدون الوالدين الذين ربوهم وحيئنذ لا يجرؤ الأعداء على الاقتراب فلا يتجاوزون الأبواب إذ يجدون من يصدهم عندها ولا يستطيعون أي هجوم أو تقدم. وبعكس هؤلاء ما ورد في (أيوب ٥: ٤).


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّامِنُ وَٱلْعِشْرُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ طُوبَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّقِي ٱلرَّبَّ وَيَسْلُكُ فِي طُرُقِهِ، ٢ لأَنَّكَ تَأْكُلُ تَعَبَ يَدَيْكَ. طُوبَاكَ وَخَيْرٌ لَكَ. ٣ ٱمْرَأَتُكَ مِثْلُ كَرْمَةٍ مُثْمِرَةٍ فِي جَوَانِبِ بَيْتِكَ. بَنُوكَ مِثْلُ غُرُوسِ ٱلزَّيْتُونِ حَوْلَ مَائِدَتِكَ. ٤ هٰكَذَا يُبَارَكُ ٱلرَّجُلُ ٱلْمُتَّقِي ٱلرَّبَّ. ٥ يُبَارِكُكَ ٱلرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، وَتُبْصِرُ خَيْرَ أُورُشَلِيمَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ، ٦ وَتَرَى بَنِي بَنِيكَ. سَلاَمٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ».
موضوع هذا المزمور يتناول وصف العائلة التي يخاف أفرادها الرب. فيطوبها على السعادة التي تتمتع بها والتي مصدرها من بركة الرب فقط وليس بمساعي الإنسان وبكثرة اجتهاده. والسر الذي يذكره لأجل هذه السعادة إنما هو خوف الرب وطاعته. وما أجمله مزموراً يجب على العيال أن تترنم به في كل حين وتعيش بفرائض الله وتأتمر بأوامره وهكذا تصبح بركة لنفسها وللآخرين حولها أيضاً.
(١ - ٣) يطوب المتقي السالك في الطريق المستقيم والسبب في ذلك لأنه يأكل تعب يديه فلا يأكله إنسان آخر كيف لا ومصائب المدنية الحاضرة تقوم على أن الإنسان إما لا يأكل تعبه ولا يتمتع بالخير الذي ينتجه أو أنه يتعدى على الآخرين ويأكل أتعابهم بجشع ومحبة ذات. واجب الإنسان كما رسم الرب الإله منذ القديم (راجع تكوين ٣: ١٩) أن يعمل مجتهداً في الأرض. كذلك (راجع أعمال ٢٠: ٣٤). على الإنسان أن يكون نافعاً للآخرين وفي الوقت ذاته يبقى مستقلاً عنهم غير مستعبد لأحد فهذا هو المطوب السعيد. فتصبح المرأة في البيت كرمة مملوءة بالثمار الكريمة الطيبة ويصبح الأولاد كأغراس الزيتون ينمون في زهوهم وبهائهم. وقوله «جوانب بيتك» أي في كل أنحاء بيتك فالمرأة تملأ جو البيت كله بالقداسة والتوفيق. فهي لا توضع في مكان معين بل البيت كله لها.
(٤ - ٦) هو رجل مبارك من الآب لأنه يتقي اسمه ويتمشى حسب وصاياه وقوله يبارك من صهيون أي من مكان قدسه (راجع مزمور ١٣٦: ٣ و٢٠: ٣). وقوله «تبصر خير أورشليم» أي تتمتع بذلك الخير الذي يملأ أورشليم بسبب وجود الهيكل فيها ويكون لك كما لها روح السيادة والقدرة فتعيش سعيداً مكرماً على مدة الحياة (راجع زكريا ٨: ١٥). وهذه السعادة تكمل بطول الأيام إذ يعيش ليرى بني بنيه ويتمتع بوجوده فيما بينهم. ويصلي أخيراً صلاة الشفاعة لأجل الشعب عموماً فيقول سلام على إسرائيل.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلتَّاسِعُ وَٱلْعِشْرُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ كَثِيراً مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي. لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: ٢ كَثِيراً مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي، لٰكِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيَّ. ٣ عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ ٱلْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلاَمَهُمْ. ٤ ٱلرَّبُّ صِدِّيقٌ. قَطَعَ رُبُطَ ٱلأَشْرَارِ. ٥ فَلْيَخْزَ وَلْيَرْتَدَّ إِلَى ٱلْوَرَاءِ كُلُّ مُبْغِضِي صِهْيَوْنَ. ٦ لِيَكُونُوا كَعُشْبِ ٱلسُّطُوحِ ٱلَّذِي يَيْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُقْلَعَ، ٧ ٱلَّذِي لاَ يَمْلأُ ٱلْحَاصِدُ كَفَّهُ مِنْهُ وَلاَ ٱلْمُحَزِّمُ حِضْنَهُ. ٨ وَلاَ يَقُولُ ٱلْعَابِرُونَ: بَرَكَةُ ٱلرَّبِّ عَلَيْكُمْ. بَارَكْنَاكُمْ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
يصف لنا في هذا المزمور آخرة أولئك الأشرار الذين يضطهدون أتقياء الرب فهم لا شك هالكون. فينظر المرنم إلى الماضي وتلك الاختبارات التي مرت عليه ويشكر الله من أجلها ثم يلتفت إلى المستقبل ويرجو أشياء كثيرة. وقد يكون هذا المزمور قد نظم في أثناء السبي ويرينا كيف استطاع الشعب أن يحتمل ذلك الاضطهاد المرير ويبقى قوياً ثابتاً إلى النهاية. بل كانت المصائب دورساً عظيمة لا تقوّم بثمن.
(١ - ٢) يكرر في هذين العددين «كثيراً ما ضايقوني...» ولكنهم أخيراً لم يقدروا أن يصدوه عما هو فيه (راجع هوشع ٢: ١٧ و١١: ١ وإرميا ٢: ٢ وحزقيال ٢٣: ٣).
(٣ - ٥) لقد استعمل هؤلاء الأعداء شعب الرب للسخرة والعمل المضني وجعلوهم كالثيران للحراثة وطوّلوا أتلامهم لكي يكون مقدار العمل أعظم وأطول (إشعياء ٥١: ٢٣ أيضاً أيوب ٤: ٨ وهوشع ١٠: ١٣) ولكن الرب رؤوف به فقد قطع تلك الربط التي ربط الأعداء شعب الله بها وجعلهم أحراراً. ثم يترجى من الرب أن يخزي أعداءه ولا يسمح لهم أن ينالوا مرامهم لأنهم قد أبغضوا الحق ولا يريدون انصاره.
(٦ - ٨) يطلب لهؤلاء الإبادة بالتمام فيأخذ الصور من إشعياء ٢٧: ٢٧ ويقول عنهم إنهم كعشب السطوح الذي لا بد له من الاقتلاع وهم لا ينفعون شيئاً لأن الحاصد لا يستفيد منهم كذلك فالمحزم لا يشعر بوجودهم فهم محتقرون مرذولون إلى النهاية. وحينئذ قد يمر بهم المارون ولا يلقون عليهم أي سلام. فهم قوم لم يباركهم الرب لذلك فقد كان زهوهم من قبل إلى وقت محدود وقد انقضى.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّلاَثُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ مِنَ ٱلأَعْمَاقِ صَرَخْتُ إِلَيْكَ يَا رَبُّ. ٢ يَا رَبُّ ٱسْمَعْ صَوْتِي. لِتَكُنْ أُذُنَاكَ مُصْغِيَتَيْنِ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي. ٣ إِنْ كُنْتَ تُرَاقِبُ ٱلآثَامَ يَا رَبُّ يَا سَيِّدُ، فَمَنْ يَقِفُ؟ ٤ لأَنَّ عِنْدَكَ ٱلْمَغْفِرَةَ. لِكَيْ يُخَافَ مِنْكَ. ٥ ٱنْتَظَرْتُكَ يَا رَبُّ. ٱنْتَظَرَتْ نَفْسِي، وَبِكَلاَمِهِ رَجَوْتُ. ٦ نَفْسِي تَنْتَظِرُ ٱلرَّبَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْمُرَاقِبِينَ ٱلصُّبْحَ. أَكْثَرَ مِنَ ٱلْمُرَاقِبِينَ ٱلصُّبْحَ. ٧ لِيَرْجُ إِسْرَائِيلُ ٱلرَّبَّ، لأَنَّ عِنْدَ ٱلرَّبِّ ٱلرَّحْمَةَ وَعِنْدَهُ فِدىً كَثِيرٌ، ٨ وَهُوَ يَفْدِي إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ آثَامِهِ».
هذا هو أحد المزامير السبعة للتوبة ومن واجب الإنسان الخاطئ أن يصليها بخشوع فهي أشبه بالمرآة الوضية التي تعكس ما نحن فيه وترينا أنفسنا كما نحن على شرط أن ننظر جيداً فقط. وقد أطلق على هذا المزمور اسم «من الأعماق» وقد سئل لوثر ذات يوم ما هي المزامير الأحب إليك فقال هي تلك التي تتشابه مع كتابات بولس الرسول وقد وضع هذا المزمور بينها.
(١ - ٤) شعوره أنه قد وصل للأعماق وهو يلتمس من الرب أن يسمع صوته (راجع تكوين ٢١: ١٢ و٢٧: ١٣ و٣٠: ٦). هذا الإله الذي يسمع التضرعات الخفية. بل هذا الإله الذي يراقب بعينيه جميع البشر. ولولا رحمته العجيبة وإحسانه الذي يظهره للجميع فمن يمكنه يا ترى أن يبقى على حاله؟ بل من يقف في وجهه ويسأل ماذا تفعل؟ (راجع أيوب ٢٢: ٢ و٣١: ١٨ و٣٩: ١٤ وإشعياء ٢٨: ٢٨ وقابل أيضاً مع جامعة ٥: ٦).
(٥ - ٨) هو ينتظر الرب ويصبر له (راجع مزمور ٢٥: ٥ و٢١ و٤٠: ٢) ويملأ الرجاء قلبه لأنه يؤمن بكلام الرب ويترجى تحقيقه عاجلاً أم آجلاً. ويرى أن يتمنى ذلك كالذي يراقب الصبح بفارغ الصبر وهو في الليل الطويل المظلم ويكرر ذلك للتوكيد. بل هو يرجو الرب بعد ويتكلم بفم إسرائيل عموماً وينصح أن يفعلوا ذلك بثقة وقوة ولا يفدي من كل الآثام والسرور (راجع إشعياء ٤٣: ٢٥). بل هو يرجو بروح العهد الجديد ويلتمس الفداء الروحي الكامل (راجع مزمور ٢٥: ٢٢).


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْحَادِي وَٱلثَّلاَثُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ


«١ يَا رَبُّ، لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي، وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ، وَلَمْ أَسْلُكْ فِي ٱلْعَظَائِمِ وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي. ٢ بَلْ هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ. نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ. ٣ لِيَرْجُ إِسْرَائِيلُ ٱلرَّبَّ مِنَ ٱلآنَ وَإِلَى ٱلدَّهْرِ».
يحمل هذا المزمور الصغير اسم داود أيضاً. لأنه أشبه بالصدى للصوت المتكلم في (٢صموئيل ٦: ٢١ وما بعده). فإن الناظم وهو قد جاء بعد الرجوع من السبي يرى الصعاب والعقبات أمامه فيذكر ما قالته ميكال لداود كما يذكر لعنات شمعي ويرى إن أفضل شيء يمكن فعله هو كما فعله داود ذاته فقد سلم أمره للرب وأظهر خضوعه التام لما يرتبه السيد. ذلك لأن التسليم يفيد صاحبه أكثر كثيراً من استعمال الحكمة البشرية. ولا شك أن الناظم قد ذكر حادثة أبشالوم مع أبيه وكيف أنه استمال إليه الشعب وحاول أن يتعظم كثيراً ويغتصب الملك لنفسه ولكنه نظر إلى النتيجة التي حصلت بعد ذلك فإذا داود يعتز ويزداد مجداً بينما أبشالوم يصبح من الهالكين.
(١ - ٣) يبدأ كلامه بكل تواضع وانكسار أمام الرب فيقول إنه لم يحاول قط أن يرفع قلبه بالتعظم والكبرياء كما أنه لم يشمخ بأنفه وعينيه إلى فوق بل لم يتعظم بشيء في سلوكه كما أنه لا ينظر إلى تلك الأشياء غير العادية بل نجده يضع نفسه في مستوى واطئ حقير ويسكت تلك الأصوات الصارخة في داخله. وهو يهدئ نفسه كما تهدئ الأم ولدها الفطيم أي بكل حكمة ودراية (راجع حبقوق ٣: ٨). وهو ولد فطيم قد أنهى زمان رضاعته ويكتفي فقط بحنان الأم وعطفها ويرى أن يبقى بين ذراعيها فهذا أعظم ما تطلبه نفسه. وهكذا فإن الإنسان المؤمن يشعر أن الله وحده يستطيع تهدئة خاطره ومنحه تلك الطمأنينة وذلك السلام الذي يناله بكل تأكيد. وبعدئذ فإن النفس تهدأ وتسكن مطمئنة لأن رضا الرب وحده هو الذي يعطي العون الكامل والقوة الكافية. وفي العدد الثالث يلتفت هو نفسه إلى الناس الآخرين وينصحهم كما انتصح هو نفسه وهكذا فليترك كل إنسان أي تفاخر وادعاء وليأت إلى الله طالباً الرحمة فقط وهو وحده مستعد أن يمنحها إلى التمام.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّانِي وَٱلثَّلاَثُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ اُذْكُرْ يَا رَبُّ دَاوُدَ، كُلَّ ذُلِّهِ. ٢ كَيْفَ حَلَفَ لِلرَّبِّ، نَذَرَ لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ: ٣ لاَ أَدْخُلُ خَيْمَةَ بَيْتِي. لاَ أَصْعَدُ عَلَى سَرِيرِ فِرَاشِي. ٤ لاَ أُعْطِي وَسَناً لِعَيْنَيَّ وَلاَ نَوْماً لأَجْفَانِي».
لقد وضع هذا المزمور عقب المزمور المئة والحادي والثلاثون إذ يوجد علاقة متينة بين الاثنين فكلاهما يشيران إلى جلب تابوت العهد وقد بذل داود جهوداً جبارة ليضعه في مكان معين. فقد شاء الملك أن يكون هذا التابوت موضوعاً بين الشعب للبركة وطلب الرضا. وعلى ما يظهر فإن الكاتب يأخذ فقرات من أسفار مختلفة (راجع مزمور ١٣٠: ٢ وأيضاً ٢أخبار ٦: ٤١ وما بعده).
يلتمس المرنم أن يبارك الرب الممسوح من قبله فهو ليس داود ذاته ولا هو رئيس كهنته ولا هو إسرائيل أو يعقوب. ولكنه قد يكون زربابل نفسه لأن هذا المزمور يشير كبقية مزامير المصاعد إلى ما بعد السبي لا قبله. وإذا راجعنا نبوءة حجي ولا سيما آخرها وجدنا النبي يذكر عصراً لسلسلة ملوك من نسل داود. ولكن الصعوبة هنا أن زربابل لم يكن ممسوحاً من الرب ولذلك فقد ذهب البعض إلى حسبان هذا المزمور بقلم سليمان نفسه حينما نقل تابوت العهد من الخيمة إلى الهيكل المبني (راجع ٢أخبار ٥: ٥ وما بعده).
(١ - ٤) يريد المرنم أن يذكر أشياء قديمة وهذا مما يجعلنا نعتبر المزمور من مؤلفات بعد السبي لا قبله. فهو يذكر داود وأيامه القديمة كيف أنه تذلل أمام الرب وحلف ونذر ولكنه وفى بوعده وعمل بكل أمانة واجتهاد (راجع ٢أخبار ٦: ٤٢ وقابله مع إشعياء ٥٥: ٣). فقد نذر أنه لن يدخل خيمة ويرتاح فيها ولا يصعد لينام على سريره. لقد وعد ناثان (راجع ٢صموئيل ٦) بأن يقيم بناء للرب ولكنه حينما جاءته النبوءة أنه لن يبنيه بل ابنه الخارج من صلبه يفعل ذلك نجده يتحول لإعداد مسألة البناء فقط ويحضّر اللوازم ويختار الموقع ويدبره. بل نجده يرتب كافة شؤون العبادة القادمة في الهيكل ويهيء لها كل معداتها ويشجع الناس للإقبال عليها. بل نجده ينفخ في صدورهم أن يقبلوا بعزيمة جبارة للاضطلاع بهذا العمل الكبير الذي يرضيه تعالى لأجل تمجيده.
«٥ أَوْ أَجِدَ مَقَاماً لِلرَّبِّ، مَسْكَناً لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ. ٦ هُوَذَا قَدْ سَمِعْنَا بِهِ فِي أَفْرَاتَةَ. وَجَدْنَاهُ فِي حُقُولِ ٱلْوَعْرِ. ٧ لِنَدْخُلْ إِلَى مَسَاكِنِهِ. لِنَسْجُدْ عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ. ٨ قُمْ يَا رَبُّ إِلَى رَاحَتِكَ أَنْتَ وَتَابُوتُ عِزِّكَ. ٩ كَهَنَتُكَ يَلْبِسُونَ ٱلْبِرَّ، وَأَتْقِيَاؤُكَ يَهْتِفُونَ. ١٠ مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِكَ لاَ تَرُدَّ وَجْهَ مَسِيحِكَ. ١١ أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ لِدَاوُدَ بِٱلْحَقِّ، لاَ يَرْجِعُ عَنْهُ: مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ».
(٥) وهكذا فقد تمّم داود نذره وأوجد مقاماً للرب وإن يكن لم يستطع البناء بذاته. وهو عزيز يعقوب أي أنه الإله المعبود في وسط شعب يعقوب الذي دعي اسمه عليه.
(٦ - ١٠) قوله وجدناه في حقول الوعر هو إشارة لقرية يعاريم حيثما وجد التابوت بعد أن أخذه الفلسطينيون المنتصرون (انظر إرميا ٢٦: ٢٠ وعزرا ٢: ٢٥ وقابله مع يشوع ١٨: ٢٨). والأرجح أنها مذكورة قرية بعل (راجع يشوع ١٥: ٦٠) أو بعلة كما في (يشوع ١٥: ٩ و١أخبار ١٣: ٦). وقد كانت مقاطعة مملوءة بالأشجار عندئذ. ويكون المعنى أننا سمعنا به في أفراتة أولاً أي في بيت لحم ولكننا وجدناه في مكان آخر. ولكن لا يغرب عن بالنا أن تابوت العهد كان أولاً في شيلوه وهي مدينة في أفرايم وليست من مدن يهوذا ولكن يظهر أن أفراته أطلقت على حقول خصبة ويمكن نسبتها إلى بيت لحم أو إلى مكان آخر في أفرايم نفسها. فيكون المعنى أن هذا التابوت الذي كان في أفراتة إذا به الآن موجود في قرية يعاريم ينتظر أن يؤخذ إلى مكانه الدائم حيث يبقى فيه ويبارك شعبه. وهكذا يرجو أن يدخل الناس مساكنه ويسجدوا عنده بإيمان وورع. ثم يخاطب هذا التابوت بأن يكون له العز والجلال. وهكذا يلبس الكهنة أثواب البر كما يهتف الأتقياء بحمد اسم الرب وتسبيحه. فهو يلتمس شفاعة داود وكرامة وجهه لدى الرب بعد هذا العمل الجليل الذي قام به لكي يبارك مسيحه كما فعل بداود من قبل.
(١١) وهكذا فإن الرب ذاته قد استجاب لداود طلبه وحاشا له أن يرجع عن عهوده مع عبده. وهو أنه سيقيم من نسله فقط من يأخذون الملك بعده. فلم ير الله أحداً يناسب الملك ويكون عادلاً في حكمه ومستحقاً لهذا المقام الرفيع سوى الذين من نسل داود.
«١٢ إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ عَهْدِي وَشَهَادَاتِي ٱلَّتِي أُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا، فَبَنُوهُمْ أَيْضاً إِلَى ٱلأَبَدِ يَجْلِسُونَ عَلَى كُرْسِيِّكَ. ١٣ لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدِ ٱخْتَارَ صِهْيَوْنَ. ٱشْتَهَاهَا مَسْكَناً لَهُ: ١٤ هٰذِهِ هِيَ رَاحَتِي إِلَى ٱلأَبَدِ. هٰهُنَا أَسْكُنُ لأَنِّي ٱشْتَهَيْتُهَا. ١٥ طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً. مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزاً. ١٦ كَهَنَتَهَا أُلْبِسُ خَلاَصاً، وَأَتْقِيَاؤُهَا يَهْتِفُونَ هُتَافاً. ١٧ هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْناً لِدَاوُدَ. رَتَّبْتُ سِرَاجاً لِمَسِيحِي. ١٨ أَعْدَاءَهُ أُلْبِسُ خِزْياً، وَعَلَيْهِ يُزْهِرُ إِكْلِيلُهُ».
(١٢ - ١٣) ولكن لهذا الشرف العظيم قاعدة لا يجوز أن يتعداها وهذه القاعدة هي أن يحفظ البنون عهود الرب ويمشوا بحسب شهاداته وأحكامه وحينئذ فهؤلاء البنون يثبتون في ملكهم إلى الأبد. وفي العدد ١٣ يرينا لماذا هذا الاحتفاظ بالعهد لأنه قد أحب المدينة المقدسة إجمالاً فهو يقيم عهده نحوها لأنها مسكنه المحبوب. فهي شهوة لجميع البشر.
(١٤ - ١٨) ويدعم كلامه عن هذه الشهوة أن الرب ذاته قد اشتهاها واتخذها مكاناً لراحته. لقد رُفضت شيلوه (راجع مزمور ٧٨: ٦٠) كما أنه لم يبق في بيت إيل سوى وقت قصير (راجع قضاة ٢٠: ٢٧) والمصفاة أيضاً (راجع قضاة ٢١: ٥) ولم يبق بقرية يعاريم في بيت أبيناداب إلا لوقت قليل (راجع ١صموئيل ٧: ٢). وأما صهيون نفسها فهي تلك التلة المقدسة التي عليها أقيم هيكل الرب وهناك يتمجد اسمه إلى الأبد.
فهو الذي يبارك ما يأكله الناس فيها أنه حتى المساكين أنفسهم لا يحتاجون شيئاً فيما بعد بل يغنمون ويسعدون في حياتهم طالما الرب قد بارك حياتهم وجميع مقتنياتهم. وهوذا الكهنة أنفسهم يلبسون خلاص الرب كما يلبسون الثياب فهم سبب خير ونجاة للآخرين يمشون أمامهم في طريق الرب وبقية الناس يتبعون وأما الأتقياء فهم يشاهدون هذا الخلاص ويهتفون من البهجة والفرح. وهكذا فإن هذا المقر الملكي يكون قد ثبت في موضعه مرة بعد أخرى فلا يتزعزع فيما بعد بل جعلت مسيحي مثل السراج المنير وكل الذين في ظلمة يبصرونه ويسترشدون وأما بقية الناس ولا سيما الأعداء منهم فقد لبسوا الخزي والعار وأما على النسل الملكي فإن إكليل الرب يزين جبينه ويجعله زاهراً كريماً على مدى الحياة (راجع لوقا ١: ٦٨ - ٧٠).


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّالِثُ وَٱلثَّلاَثُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ


«١ هُوَذَا مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ ٱلإِخْوَةُ مَعاً! ٢ مِثْلُ ٱلدُّهْنِ ٱلطَّيِّبِ عَلَى ٱلرَّأْسِ ٱلنَّازِلِ عَلَى ٱللِّحْيَةِ، لِحْيَةِ هَارُونَ، ٱلنَّازِلِ إِلَى طَرَفِ ثِيَابِهِ. ٣ مِثْلُ نَدَى حَرْمُونَ ٱلنَّازِلِ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ. لأَنَّهُ هُنَاكَ أَمَرَ ٱلرَّبُّ بِٱلْبَرَكَةِ، حَيَاةٍ إِلَى ٱلأَبَدِ».
في هذا المزمور مديح للإخوّة وروح الصفاء والوداد المقيم حينما يجتمع شعب الله من مختلف الأمكنة إلى صعيد واحد لكي يعبدوا إلههم ويمجدوا اسمه فهو يخبرهم عن انتهاء الشتات وأنهم لن يكونوا في ما بعد مبعثرين في كل أنحاء الدنيا بل جلّ ما يخبرهم به هو أن الله سيكون فيما بينهم للبركة ولكي يقدموا له العبادة الحقيقية بروح التآخي فلا يوجد أي فارق يميز بينهم أو يشتت شملهم. وهذا المزمور على نسق مزامير داود ولكن اللغة تنم عن حداثة نظمه فهو قد نظم بعد السبي لا قبله. ولا نجد هذا العنوان «لداود» في الترجمة السبعينية ولا في الترجوم. وإذا كان يحمل هذا العنوان فمن قبيل التبرك به وإشارة إلى تلك الصداقة المتينة التي كانت بين داود ويوناثان.
فإذن هذا المزمور هو دعوة للتآخي وقد كان من عادة اليهود أن يجتمعوا في هيكل أورشليم في الأعياد الثلاثة الكبرى حتى يتحققوا وحدتهم ليس فقط بالنسب ولكن بالدين وممارسة فروضه التقوية. وهو يصور لنا رئيس الكهنة ومعه دهن المسيح المطيّب كما هو مذكور (خروج ٣٩: ٢٢ - ٣٣) لقد مسح موسى هارون كاهناً بينما أولاد هارون فقد رشوا به فقط ولذلك فإن هارون وحده هو الكاهن الأعظم المعين من الله. وبقية الكهنة بعده كانوا مرشوشين بالدهن أو الزيت الطيب وأيضاً بدم الخروف المكرس للذبيحة (راجع سفر العدد ٣: ٣ وايضاً العدد ٨: ١٢ و٣٠).
(١ - ٣) إن هذه الاستعارة عن هارون والدهن المطيب الذي يصل من الرأس إلى أطرافه إشارة إلى وحدة الشعب وإخائه رغم المسافات والشتات فهو حينما يجتمع في أورشليم يصبح شعب الله الواحد المتآخي. ثم نأتي للاستعارة الثانية التي تجمع بين جبل حرمون وجبل صهيون فمعروف أن الندى ينزل بكثرة من أعالي حرمون على التلال المجاورة لأن على رأس حرمون يظل الثلج على مدار السنة كلها. وكما يأتي الندى من أعالي الجبل لكي يلطف الهواء حوله ولا سيما بعد أوقات الجفاف التي تحيط بجبال اليهودية هكذا فإن المحبة الأخوية تلطف الحياة الإنسانية وتقويها وتنعشها ويختم المرنم كلامه بتمجيد أورشليم لأنه ذلك المكان المقدس الذي يجمع هؤلاء الأقوام بالحب الأخوي والدين القويم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلرَّابِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ هُوَذَا بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ عَبِيدِ ٱلرَّبِّ، ٱلْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ بِٱللَّيَالِي. ٢ ٱرْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ نَحْوَ ٱلْقُدْسِ وَبَارِكُوا ٱلرَّبَّ. ٣ يُبَارِكُكَ ٱلرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، ٱلصَّانِعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ».
هذا المزمور ١٣٤ يحمل لنا تحية حراس الليل ثم جواب التحية. فالتحية هي في العددين ١ و٢ وأما الجواب ففي العدد الثالث. وقد كان من عادة الكهنة واللاويين أن يقفوا للحراسة (تثنية ١٠: ٨ و١٨: ٧ و١ أخبار ١٣: ٣٠ و٢أخبار ٢٩: ١١ وقابل مع إشعياء ٦١: ١٠ ومزمور ١١٠: ٤). وقد ذهب البعض إلى أن العدد الأول هو تحية الشعب للكهنة الذين بقوا الليل كله في الحراسة والآن يدعونهم ليبدأوا في الخدمة الشفاعية من أجل الشعب أمام الرب. ولا شك أن سفر المزامير يحوي مزامير صباحية مثل ٣ و٦٣ وأيضاً مزامير مسائية مثل ٤ و١٤١ فلا يستبعد أن يكون هذا المزمور عند انبثاق الفجر الباكر. فإن خدام الله بعد أن يكونوا قد داروا في كل أنحاء الهيكل ليروا كل شيء مرتباً وفي محله وقد حرسوا الهيكل حتى الفجر فقد حان الوقت الآن لكي يتركوا دورهم ويسلموه لآخرين.
(١ - ٣) يطلب إلى الكهنة هؤلاء أن يباركوا الرب أولاً قبل أن يباركوا الشعب لأن منه تعالى يجب أن يستمدوا كل بركة لأنفسهم وللآخرين أيضاً. وهم يرفعون أيديهم نحو المكان المقدس بطهارة وصفاء نية فبعد أن يغسلوا أيديهم ويطهروها يجب أن يكون ذلك فاتحة لغسل القلوب وطهارتها أيضاً (راجع مزمور ٢٨: ٢ و٥: ٨ و١٣٨: ٢ وقابل حبقوق ٣: ١٠).
والآن يأتي دور هؤلاء الكهنة الذين يقفون في تلة الهيكل فيباركون الشعب لأن الرب قد باركه من صهيون (راجع مزمور ١٢٨: ٥). هذا الإله الذي خلق السموات والأرض (مزمور ١١٥: ١٥ و١٢١: ٢ و١٢٤: ٨). وهذه البركة ترجع في تاريخها إلى العصور القديمة (راجع سفر العدد ٦: ٢٤) فهي بركة الكهنوت للشعب المتعبد للرب وهي موجهة نحو شعب الله بشخص واحد لأن هذا الشعب هو واحد أمام الله ولا شيء أعظم من وحدته في تلك العلاقة المقدسة لدن يأخذ البركة من يد الله الحنون.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْخَامِسُ وَٱلثَّلاَثُونَ


«١ هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا ٱسْمَ ٱلرَّبِّ. سَبِّحُوا يَا عَبِيدَ ٱلرَّبِّ، ٢ ٱلْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ، فِي دِيَارِ بَيْتِ إِلٰهِنَا. ٣ سَبِّحُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّ ٱلرَّبَّ صَالِحٌ. رَنِّمُوا لٱسْمِهِ لأَنَّ ذَاكَ حُلْوٌ. ٤ لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدِ ٱخْتَارَ يَعْقُوبَ لِذَاتِهِ، وَإِسْرَائِيلَ لِخَاصَّتِهِ».
مما لا شك فيه أن هذا المزمور ١٣٥ ينضم مع المزمور لاحقه ١٣٦ بصورة طبيعية وليس الأمر كذلك مع المزمورين ١١٥ و١١٦ فإن ما ذهب إليه بعضهم هو وهم مسبب لأن هذين المزمورين بلا عنوان ويوجد رابطة عظيمة تربط ما بين المزمور ١٣٥ ورفيقه ١٣٦ كما وأن ما ورد في المزمور ١١٥ نجده هنا بأكثر تفصيل وهو من مزامير هللويا لتسبيح اسم الرب وهو في بداءته كما في ختامه أيضاً يظهر رحمة الرب ويطلب من الشعب أن يباركوا اسم الرب. وهذا المزمور أشبه شيء بالفسيفساء التي تضم قطعاً كثيرة من أسفار الشريعة والأنبياء والمزامير ولكنها تجعلها بصورة جميلة تأخذ بمجموع القلوب.
(١ - ٤) يبدأ كالمزمور السابق العدد ١ كما وأن العدد الثاني يعيد إلى أذهاننا (مزمور ١١٦: ١٩ وقابله مزمور ٩٢: ١٤) كما وأن العدد ٤ هو صدى ما ورد في (تثنية ٦). وهو يدعو عبيد الرب ولا يعني بهم فقط الكهنة واللاويين الذين في الهيكل. يذكر اسم الرب ثلاث مرات في العددين الأول والثاني ثم يذكره مرة في العدد الثالث ومرة في العدد الرابع. ذلك لأن التسبيح صالح والترنيم حلو وهذان يدلان على عمق الاختبار الروحي لأن من فضلة القلب يتكلم اللسان. فالمؤمن يعبد الرب سعيداً مسروراً ويتحول كلامه إلى نغمات طيبة عذبة ترتفع إلى عرش الله.
والمرنم الإسرائيلي لا غش فيه فهو لا يستطيع أن يتغاضى عن تلك الحقيقة الماثلة أمام عينيه بأن الرب قد اختار شعبه وأعطاهم امتيازات وهذه تجبرهم أن يعبدوا الرب ويذيعوا اسمه إلى كل مكان.
«٥ لأَنِّي أَنَا قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ عَظِيمٌ، وَرَبَّنَا فَوْقَ جَمِيعِ ٱلآلِهَةِ. ٦ كُلَّ مَا شَاءَ ٱلرَّبُّ صَنَعَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ، فِي ٱلْبِحَارِ وَفِي كُلِّ ٱللُّجَجِ. ٧ ٱلْمُصْعِدُ ٱلسَّحَابَ مِنْ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ. ٱلصَّانِعُ بُرُوقاً لِلْمَطَرِ. ٱلْمُخْرِجُ ٱلرِّيحَ مِنْ خَزَائِنِهِ. ٨ ٱلَّذِي ضَرَبَ أَبْكَارَ مِصْرَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِلَى ٱلْبَهَائِمِ. ٩ أَرْسَلَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ فِي وَسَطِكِ يَا مِصْرُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَى كُلِّ عَبِيدِهِ. ١٠ ٱلَّذِي ضَرَبَ أُمَماً كَثِيرَةً وَقَتَلَ مُلُوكاً أَعِزَّاءَ. ١١ سِيحُونَ مَلِكَ ٱلأَمُورِيِّينَ، وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ، وَكُلَّ مَمَالِكِ كَنْعَانَ».
(٥ - ٧) في هذه الأعداد الثلاثة يبدأ هذا التسبيح الذي نوّه عنه في ما سبق. فالمرنم يذكر على مسامعنا شيئاً من اختباراته الشخصية إذ يؤكد أن الرب هو فوق جميع الآلهة وكأنه ضمناً يعترف بالآلهة الغريبة ولكنها أقل شأناً من الرب. وإله إسرائيل وحده هو قبل هذه الآلهة جميعها. ذلك لأنه يصنع ما يشاء إن في السموات أو في الأرض أو في البحر أو وسط اللجج المائية العظيمة. فهو إله كل مكان ويملأها جميعاً بمجده وجلاله. ويستلفت نظرنا إلى مرأى الغيوم الصاعدة وكلمح البصر يصور لنا البروق التي تلمع في الآفاق ونكاد نسمع هبوب الرياح كأنها كانت في خزائن محفوظة وقد أفلتت الآن لكي تهب على وجه الأرض. وقد جمع في العدد السادس ثلاثة أشياء خطيرة السماء والأرض والبحر كما جمع في العدد السابع ثلاثة أشياء عجيبة وهي السحب والبروق والرياح وهي تعطي الأمطار أيضاً.
(٨ - ١١) وهو مستحق التسبيح ليس فقط بالنسبة لعظمته في مخلوقاته بل بالنسبة لما فعله مع شعبه. تلك الحادثة الخطيرة التي أوجدت التاريخ المقدس لشعب الله (راجع مزمور ١١٦: ١٩ وقابله مع مزمور ١٠: ٢٧) فإن خروج الشعب من أرض العبودية لا يجوز أن ينسى قط. ويذكرنا بصورة خاطفة بالآيات التي صنعها الرب هناك وتناولت هذه بدورها الناس والبهائم حتى اعتبر بها فرعون وكل عبيده.
وليس ذلك فقط بل هو الإله الذي رافق شعبه إلى أرض الموعد نفسها وقتل من أجل شعبه ملوكاً عظماء وأذل أقواماً كبراء. فيذكر سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان (موران) بل يذكرنا ببقية الأمكنة الأخرى في أرض الكنعانيين (راجع تثنية ٣: ٢١ وأيضاً تثنية ٤: ٣٨ وأيضاً تثنية ٣: ٨).
«١٢ وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثاً، مِيرَاثاً لإِسْرَائِيلَ شَعْبِهِ. ١٣ يَا رَبُّ، ٱسْمُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ. يَا رَبُّ، ذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ١٤ لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَدِينُ شَعْبَهُ، وَعَلَى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ. ١٥ أَصْنَامُ ٱلأُمَمِ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي ٱلنَّاسِ. ١٦ لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. ١٧ لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. كَذٰلِكَ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهَا نَفَسٌ! ١٨ مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا وَكُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا. ١٩ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، بَارِكُوا ٱلرَّبَّ. يَا بَيْتَ هَارُونَ، بَارِكُوا ٱلرَّبَّ».
(١٢ - ١٤) وقد فعل الرب هذه العظائم لأجل غاية جليلة في نظر المرنم ألا وهي أن تكون الأرض كلها ميراثاً لشعب الله. وهذه الفكرة قد تغلغلت عميقاً في قلوب بني إسرائيل حتى لا يستطيعوا أن ينسوها مدى الزمان ونجدهم الآن في العصر الحديث يوجد فكرة الصهيونية التي في أساسها مستمدة من أقوال كهذه تجعل الأرض المقدسة ملكاً لهم ولو كان في ذلك أن يطردوا بقية الأمم ويأخذوا مكانها وفي هذا الكلام تعصب لا مزيد عليه. وهو يجعل أن إسرائيل هو شعب الله فقط ولو رمينا بقية الشعوب جانباً وهوذا الأمم العربية اليوم سنة ١٩٤٨ تحتمل الأمرين من فكرة فظيعة كهذه.
إن هذا الإله ثابت في كل الزمان لأن اسمه يبقى وذكره يتردد على كل شفة ولسان. هو إله لشعبه ويشفق عليه إلى الأبد (راجع خروج ٣: ١٥ وأيضاً تثنية ٣٢: ٣٦ وقابله مع مزمور ٩٠: ١٣).
(١٥ - ١٩) يعطينا في هذه الأعداد التالية تفضيلاً بارعاً لدعم ما ذهب إليه من وجوب عبادة هذا الإله وتسبيح اسمه. بل يعطينا مقابلة مفصلة بين هذا الإله وبين أصنام الأمم. فإن الأصنام مصنوعة والله صانع خالق هي عمل البشر بينما الله قد خلق البشر. وما الأصنام سوى تشابيه للحقائق لأن أفواهها لا تتكلم وعيونها لا تبصر وآذانها لا تسمع ولا حياة فيها ولا نفس يخرج منها وكذلك هم عابدوها والذين صنعوها من جهة مجازية إذ كيف يستطيعون الاتكال عليها وهذا حالتها (راجع ١صموئيل ٢١: ٩).
ثم يلتفت التفاتة سريعة بعد أن دعم أقواله السابقة بالبراهين الحسية عن تلك الأصنام التي لا تجدي نفعاً ويقدم نصيحته إلى شعب الرب بأن يحمدوا اسم الرب فقط ويباركوه على الدوام لأنه وحده مستحق هذا التمجيد وهذه البركة إذا شاءوا الحياة لأنفسهم والحرية والكرامة لأولاده من بعدهم. ويستنجدوا بالكهنة إذ هم بيت هارون ويطلب منهم أن يكونوا القدوة في مثل هذه العبادة ولا يتراجعوا كما تراجع هارون ذاته حينما أقام لهم العجل الذهبي لكي يعبدوه في البرية ونسوا موسى على رأس الجبل وما يحمله لهم من شريعة الرب.
«٢٠ يَا بَيْتَ لاَوِي، بَارِكُوا ٱلرَّبَّ. يَا خَائِفِي ٱلرَّبِّ، بَارِكُوا ٱلرَّبَّ. ٢١ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، ٱلسَّاكِنُ فِي أُورُشَلِيمَ. هَلِّلُويَا».
(٢٠ - ٢١) وفي العدد العشرين يذكر أيضاً بيت لاوي إجمالاً ويطلب منهم ما طلبه من بيت هارون لأنهم مطالبون مثل أولئك بأن يذيعوا الحمد ويقدموا الشكر لأجل كل العظائم التي فعلها الرب مع شعبه. بل هو يذكر جميع خائفي الرب أكانوا كهنة أم لاويين أم من عامة الشعب بهذا الواجب المقدس أمامهم. وهذه الدعوة للبركة مثلثة كما رأينا (راجع مزمور ١١٥: ٩ - ١١ ومزمور ١١٨: ٢ - ٤) وأخيراً يصل إلى المركز وهو الهيكل القائم وعلى رمزه في صهيون وهكذا فينتشر تمجيد الرب من هذا المركز المرتفع فيتمجد اسمه ويسبح له لأنه الإله الحقيقي القدير وحده فيا أيها المؤمنون اهتفوا جميعاً هللويا.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّادِسُ وَٱلثَّلاَثُونَ


«١ اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢ ٱحْمَدُوا إِلٰهَ ٱلآلِهَةِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٣ ٱحْمَدُوا رَبَّ ٱلأَرْبَابِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٤ ٱلصَّانِعَ ٱلْعَجَائِبَ ٱلْعِظَامَ وَحْدَهُ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ».
يوجد ثلاثة أراء بخصوص تقسيم ما يسمونه مزامير التسابيح التي نجد هذا المزمور المئة والسادس والثلاثين يبلغ الأوج فيها. ونلاحظ أن العبارة «لأن إلى الأبد رحمته» تتكرر ستاً وعشرين مرة مما فسح المجال للقول أن هذا المزمور هو مزمور الحمد الأكمل من نوعه. وإذا حسبنا مزامير التسابيح أو الحمد تتناول المزامير ١٢٠ - ١٣٦ فلا يفوتنا أيضاً أن المزامير ١١٣ - ١١٨ هي مزامير حمد من طبقة مشابهة. وهذا التكرار مما يستلفت الأنظار وربما انقسم أجواق المرنمين إلى قسمين فكان يرد واحدهما على الآخر أو ربما أن الشعب نفسه كان يردد العبارة «لأن إلى الأبد رحمته». ولا شك أن هذا المزمور يستعير الكثير من أفكاره من مصادر مختلفة ولا سيما من العدد ١٧ فما فوق. وكأن المزمور ينقسم إلى عمودين متوازيين شبيه بما ورد في (تثنية ٢٣).
لا شك أن ناظم هذا المزمور قد اطلع على سفر التثنية فهو من هذا القبيل مثل المزمور سابقه ١٣٥ يستوحي الكثير من معاني سفر التثنية وتعابيره. وهوذا قوله إله الآلهة ورب الأرباب فمأخوذ من (تثنية ١٠: ١٧). كما أن ما ورد في العدد ١٢ «بيد شديدة وذراع ممدودة» فمأخوذة من (تثنية ٤: ٣٤ و٥: ١٥ وأيضاً قابله مع إرميا ٣٢: ٢١. وأيضاً العدد ١٦ هو يشابه تثنية ٨: ١٥ ويقابل مع إرميا ٢: ٦) وأيضاً فإن الأعداد ١٩ - ٢٢. فهي شبيهة بما رود في (تثنية ٣٥: ١٠ - ١٢). وأيضاً قوله إسرائيل عبده فتذكرنا بما ورد في إشعياء في (الأصحاحات ٤٠ - ٥٦) ومن جهة أخرى فإن هذا المزمور يحمل طابعاً قديماً إذ يعيد للذاكرة عبارات صقلتها الألسنة على مدة التكرار خلال سني التعبد الطويلة في مختلف الأجيال.
«٥ ٱلصَّانِعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِفَهْمٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٦ ٱلْبَاسِطَ ٱلأَرْضَ عَلَى ٱلْمِيَاهِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٧ ٱلصَّانِعَ أَنْوَاراً عَظِيمَةً، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٨ ٱلشَّمْسَ لِحُكْمِ ٱلنَّهَارِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٩ ٱلْقَمَرَ وَٱلْكَوَاكِبَ لِحُكْمِ ٱللَّيْلِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٠ ٱلَّذِي ضَرَبَ مِصْرَ مَعَ أَبْكَارِهَا، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١١ وَأَخْرَجَ إِسْرَائِيلَ مِنْ وَسَطِهِمْ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٢ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ».
(١٠٤) أول شيء يذكره هو صلاح الرب الذي لا يجوز أن يشك فيه أي إنسان. ثم يبدأ بعد ذلك بتمجيد هذا الإله الذي هو إله الآلهة ورب الأرباب ولأنه كذلك فهو الذي صنع العجائب العظيمة حينما أخرج شعبه من عبودية مصر بل هو يعود إلى بدء الحقيقة فهو طالما إله الآلهة لذلك فكل شيء قد صنع بيده الإلهية الكريمة.
(٥ - ١٢) إن هذه القدرة مقترنة بالفهم الكامل لذلك بجنب عمل الخالق العظيم قد أوجد نظامات لا يمكن لأي المخلوقات أن تتعداها وفي هذه الأعداد التالية لا يحاول المرنم أن يشرح لنا عملية الخلق كما وردت في سفر التكوين بل يهمه في الدرجة الأولى أن يدعم كلامه من جهة عظمة هذا الخالق وجلاله. وهذا الإنسان يستطيع أن يفهم نواميس الله هذه تدريجياً ولو كان عقله محدوداً فقد أعطاه الخالق قدرة يستطيع بها أن يكشف هذه النواميس ويستخدمها بما هو في مقدوره وحسب منفعته. يرى المرنم هذه المياه والينابيع تتفجر من قلب الأرض أيضاً. بل يرى الشمس والقمر والنجوم فيذهله جمالها البديع ويقسم خدمتها إلى النهار والليل. ولم يكن من علم للفلك كاف حتى يفسر هذه الظواهر الباهرة أكثر مما ورد في (تكوين ١: ١٦).
وهو يسرع حالاً إلى التاريخ ويذكرنا بمنشأ الأمة الإسرائيلية حينما أخرجهم الله من أرض مصر فضرب أبكارهم وأخرج إسرائيل من بينهم وقد فعل ذلك بالقدرة التي ظهرت في خلقه للعالمين. فهو يستطيع أن يخلق أمة من لا شيء كما يخلق هذه الكائنات من لا شيء أيضاً.
«١٣ ٱلَّذِي شَقَّ بَحْرَ سُوفٍ إِلَى شُقَقٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٤ وَعَبَّرَ إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِهِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٥ وَدَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٦ ٱلَّذِي سَارَ بِشَعْبِهِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٧ ٱلَّذِي ضَرَبَ مُلُوكاً عُظَمَاءَ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٨ وَقَتَلَ مُلُوكاً أَعِزَّاءَ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ: ١٩ سِيحُونَ مَلِكَ ٱلأَمُورِيِّينَ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ ٢٠ وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ».
(١٣ - ٢٠) هذا هو إله التاريخ المقدس. هذا هو تاريخ الخلاص والفداء. ويتكلم مطولاً عن عجيبة البحر الأحمر وكيف قد شق الله هذا البحر وجعل منه معابر يستطيع شعب الله أن يجتازوها بسلام إلى الشاطئ الآخر بينما لم يكن الأمر كذلك مع قوم فرعون العتاة. فقد ظلموا الشعب وسخروه مدى السنين الطويلة وهم الآن ينالون جزاء ما جنته أيديهم «وما ظالم إلا سيبلى بأظلم». ويذكرنا العدد ١٣ بما ورد في (مزمور ٧٨: ١٣ وخروج ١٤: ٢١ ونحميا ٩: ١١). وقوله إلى شقق يجعلنا نتصور أنه كان هناك عدة معابر صغيرة اجتمعت حتى كونت ذلك المعبر العظيم الذي نجا الإسرائيليون به وقطعوا البحر بسلام بينما لم يكن حظ المصريين مثل حظهم. ويرينا أن القدرة هي لله وليس لفرعون فإن هذا الأخير قد حاول جهد المستطاع أن يرجع الإسرائيليون إلى عبوديتهم فما تم له ما أراد بل اندحر شر اندحار.
بعد ذلك يصور لنا بإيجاز كلي ماذا حدث في البرية فقد سار الرب نفسه بهم في تلك البرية القاحلة المهلكة ولم يهلك إلا الذين استحقوا الهلاك. وكانت النتيجة أن سار الشعب من قوة إلى قوة وتغلبوا على ملوك الأرض وقتلوا من قتلوا منهم بيد شديدة غير هيابين. فقد انتصروا على الأموريين بشخص ملكهم سيحون كما انتصروا على سكان باشان (حوران وجوارها) بشخص ملكهم عوج واستتب لهم الأمر منتصرين ظافرين (راجع مزمور ١٣٥: ١٠ - ١٢).
«٢١ وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثاً، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ ٢٢ مِيرَاثاً لإِسْرَائِيلَ عَبْدِهِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٣ ٱلَّذِي فِي مَذَلَّتِنَا ذَكَرَنَا، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٤ وَنَجَّانَا مِنْ أَعْدَائِنَا، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٥ ٱلَّذِي يُعْطِي خُبْزاً لِكُلِّ بَشَرٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٦ ٱحْمَدُوا إِلٰهَ ٱلسَّمَاوَاتِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ».
(٢١ - ٢٦) ولقد ورثوا ما خلفه أولئك الأقوام فهم أصحاب الأرض بالفتح لأنهم دخلوا عليها غرباء. وبالتالي فإذا طرد اليهود منها بعد ذلك بواسطة أقوام أشد منهم وأصلب كاليونانيين والرومانيين فلا يجوز لهم أن يدعوها لأنهم قد اشتروا الأرض بالثمن الذي دفعه الإسرائيليون تماماً أي بقوة الفتح ليس إلا. وهكذا حينما جاء العرب واستولوا على البلاد فقد فعلوا ذلك بقوة الفتح أيضاً وهذا فالأرض ملك الفارس المستأسد. والذي يلفت النظر هو قوله «ميراث» وعادة فالميراث يأتي من الوالدين والأقربين وليس بقدرتهم. وهنا نقف أمام فكرة شعب الله الخاص فهو قد أعطاهم ما هو ملكه (ملك الله) وليس ملك أي الشعوب. فإذن الله قد اختار شعب إسرائيل لمهمة خاصة أن يخرج منهم الرسل والأنبياء ومتى أتموا هذه المهمة فلا ادعاء لهم بملكية الأرض بعض ذلك. هذا ومن جهة ثانية فإن المسيحيين الحقيقيين الذين هم إسرائيل الله قد ورثوا بسكنهم في الأرض المقدسة ما ادعاه الإسرائيليون من قبل. وكل ما يدعيه اليهود الآن هو من قبيل الرجوع إلى نبوآت قديمة قد تمت منذ زمان طويل ولسكان الأرض الأصليين الحق الشرعي والطبيعي في ادعاء كل شبر فيها.
يذكر المذلة التي يتحملها الشعب وكيف ينجي من الأعداء وبالتالي يعطي خبزاً وشبعاً لكل المستنجدين به (راجع الجامعة ١٠: ٦ وأيضاً مراثي إرميا ٥: ٨). ويعود في ختام المزمور لكي يذكرنا بما بدأ به وهو الحمد لإله السموات مصدر كل رحمة وإحسان. والاسم المضاف إله السموات هو من وضع حديث كما في (نحميا ١: ٤ و٢: ٤). وبالإجمال فهو مزمور شكر لمراحم الله الجزيلة الحقيقية.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّابِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ


«١ عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا. بَكَيْنَا أَيْضاً عِنْدَ مَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ. ٢ عَلَى ٱلصَّفْصَافِ فِي وَسَطِهَا عَلَّقْنَا أَعْوَادَنَا. ٣ لأَنَّهُ هُنَاكَ سَأَلَنَا ٱلَّذِينَ سَبَوْنَا كَلاَمَ تَرْنِيمَةٍ، وَمُعَذِّبُونَا سَأَلُونَا فَرَحاً: رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْنَ».
يرجع بنا هذا المزمور إلى ذكريات مريرة عما اختبره الإسرائيليون في أرض بابل وبمثل هذه المرارة يكتب المرنم كلمته وهي تكاد تتقد بنار الحقد والعداوة. وقد ذهب البعض إلى أن هذا المزمور هو من وضع إرمياء النبي يتشبه بخطة داود في كتابة المزامير ولكن هذا الزعم باطل لأن إرميا لم يذهب إلى بابل قط ويستبعد جداً أن ينظمه أحد غير الذين كانوا في السبي وذاقوا مرارته وأهواله. يكتب الناظم هذا المزمور من ذاكرته وهو يشبه بتعابيره ما ورد في الميراث و(إشعياء ١٦: ٩ و١٠).
(١ - ٣) إن الجلوس على ضفاف الأنهر الكبيرة كالجلوس على شواطئ البحار هو من ألذ الأشياء التي يستطيع الإنسان أن يفعله تخفيفاً للحر فإن تلك الرطوبة المنعشة تخفف من آلام النفس ومتاعبها ولكن المرنم بدلاً من الترويج عن نفسه نجده حالاً ينتحي زاوية لكي ينحب ويبكي. بدلاً من الفرح والبهجة كانت الكآبة والأحزان. وليس من الضروري أن يكون أنهار بابل فقط الدجلة والفرات بل تضم الخابور وغيره من الأنهار والمجاري (راجع مزمور ١: ٣ ودانيال ٨: ٢). وقد علق هؤلاء الجالسون أعوادهم - وهي على الأرجح أعواد الطرب المعروفة - على الصفصاف وهذا الشجر كثير جداً جنب مجاري المياه ولا سيما في الأمكنة الحارة. وهو بتدلي أغصانه يشبه النفس الحزينة المسترسلة في آلامها وذكرياتها المرة. ويصور لنا المرنم بدقة جلسة من جلسات نزهة على النهر والأغاني منتشرة في كل مكان فإن الرفاق وهم الأرجح من البابليين وكانوا يطربون مبتهجين يريدون أن يقضوا وقت نزهة مرحة سعيدة. فقد سألوا أن ينشدوا أمامهم من ترانيم بلادهم القديمة ولا قصد لهم في ذلك سوى استكمال أسباب الغبطة والمرح. وقد رأى الإسرائيليون في ذلك زيادة في نكايتهم وتعذيبهم أن يسألهم هؤلاء الناس أن يرنموا والترنم هو من وحي القلوب الفرحة لا الحزينة. أولئك كانوا في فرح وكيف لا يفيحون. وهم الظافرون المستعبدون وأما الإسرائيليون فكانوا في آلام نفسية مبرحة فقد زاد في آلامهم أن يرنموا وهم في حالتهم الكئيبة السيئة هذه.
«٤ كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ ٱلرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟ ٥ إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ! إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي! ٧ اُذْكُرْ يَا رَبُّ لِبَنِي أَدُومَ يَوْمَ أُورُشَلِيمَ، ٱلْقَائِلِينَ: هُدُّوا هُدُّوا حَتَّى إِلَى أَسَاسِهَا. ٨ يَا بِنْتَ بَابِلَ ٱلْمُخْرَبَةَ، طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ ٱلَّذِي جَازَيْتِنَا! ٩ طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ وَيَضْرِبُ بِهِمُ ٱلصَّخْرَةَ!».
(٤ - ٩) قد يكون أن هؤلاء الإسرائيليون قد اضطروا أن يخضعوا لطلب أسيادهم البابليين فيغنون أمامهم بترانيم صهيون ولا شك أن المرنم يأسف لما حدث وبنفس مرة تتمنى الانتقام الفظيع يجيب على الترنيم القسري بطلب القسوة والتقتيل. وبالطبع لا يقصد المرنم أن يحرم على نفسه الترنيم في أرض غريبة بل هو يحرمه إذا كان على هذه الصورة العلنية وبموقف الفرح والاستخفاف في منفاهم قد بقوا محافظين على عبادتهم في دوائر عيالهم المختلفة. وفي العدد الخامس يسرع المرنم لكي يدعم إخلاصه لأورشليم وللتذكارات المقدسة. ويظهر أن «نسي» تفيد معنيين فهي تفيد المعنى المعتاد أي ضد ذكر وتفيد أيضاً معنى الخمول. فيقول إن نسيتك يا أورشليم فلتخمل يدي عن الحركة أو فلتنس أيضاً يدي أن تتحرك. وكذلك أيضاً إذا كنت لا أذكر أورشليم فليصمت لساني إلى الأبد. إذ ما النفع من لسان يغني أغانيها بالهزء بين قوم مستهزئين فالأفضل أن يبكم اللسان وتشل اليد إلى الأبد.
وفي الأعداد الأخيرة (٧ - ٩) يطلب الانتقام بصورة مروعة فالمرنم لا يستطيع أن ينسى بني آدوم الذين شمتوا لدى هد الأبنية المقدسة وشجعوا عليها قائلين «هدوا هدوا حتى إلى أساسها». ثم يخاطب بنت بابل لأنها تحس أكثر من غيرها بالمصيبة التي ستحل بها إذ يطلب أن يمسكوا أطفالها ويحطموهم تحطيماً. يضربون بهم الصخرة دليل القسوة المتناهية فكما فعلوا بالإسرائيليين هكذا يطلب أن يفعل أعداؤهم بهم (عين بعين وسن بسن). ومن هذا نجد أن هذا المزمور قد كتب بعد الرجوع من السبي على وجه الترجيح وربما بقلم أحد الناس الذين سمعوا بأهوال بابل ولم يذوقوها بالفعل بل كمنت الأحقاد في قلبه حتى تفجر بما يشبه القنابل الصاعقة. ومهما حاولنا أن نخفف من حدة هذا المزمور وحقده فلا نستطيع أن نفعل شيئاً نجده أبعد ما يكون عن مطالب العهد الجديد والأناجيل.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّامِنُ وَٱلثَّلاَثُونَ


لِدَاوُدَ


«١ أَحْمَدُكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. قُدَّامَ ٱلآلِهَةِ أُرَنِّمُ لَكَ. ٢ أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ، وَأَحْمَدُ ٱسْمَكَ عَلَى رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ، لأَنَّكَ قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتَكَ عَلَى كُلِّ ٱسْمِكَ. ٣ فِي يَوْمَ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَنِي. شَجَّعْتَنِي قُوَّةً فِي نَفْسِي».
يعزى تأليف هذا المزمور إلى داود ولا يبعد أن يكون المعنى في ذلك أنه على نسق كتابات داود وأشعاره بل نستطيع أن نحسبه خارجاً من أعماق حياة داود ومن روحه فهو ينطبق تماماً على ما ورد في (٢صموئيل ص ٧ وأيضاً ١أخبار ص ١٧). وإذا حسبنا أن الكاتب هو ملك ومن نسل ملكي فهو يطالب أن يحقق الله مواعيده نحو بيت داود ويثبت عرشه إلى الأبد. وقد ذهب أحدهم إلى القول إن هذا المزمور يعبر عن شعور داود النفسي السامي بعد انتصاراته الباهرة على أعدائه وقد تواعد مع نفسه أن يبني هيكلاً للرب بدلاً من خيمة الاجتماع التي كانت تستعمل قديماً.
(١ - ٣) يقدم الحمد القلبي لله وهو يفعل ذلك أمام بقية آلهة الشعوب لكي يريهم ما فعله الله نحوه من إحسانات وأفضال. والمؤمن يجب أن يشهد أمام الآخرين ولا يكتفي أن ينال الإحسانات بل أن يشكر الله من أجلها. فهو يذكر رحمة الله وحقه. أما الرحمة فلأنه ينجي من مخاطر وشرور عديدة وأما الحق فلأنه يري أولاده سواء السبيل فلا يبقون في أية ظلمة بل ينتقلون منها إلى النور. وقد يكون معنى «الآلهة» أي علية الناس وأكابر القوم (راجع ٢صموئيل ٧: ٩) وهذا الإله الذي يحمد من أجل رحمته وحقه فإن اسمه قد عظم بين الشعوب وانتشر جلاله حتى عرفه القاصي والداني.
يذكر المرنم في العدد الثالث حادثة وقعت معه فقد أجابه الله على أثر دعوته هذه وكانت النتيجة أنه نال شجاعة وقوة. ولا شك أن أعظم الشكران يأتي حينما نقدمه عن عواطف اختبار شخصي عميق وليس مجرد ترديد كلمات نقولها ولا نعنيها. والحق يقال أن الإنسان المؤمن يتشجع من قوة داخلية في النفس وهذه تأتي فقط من الإحسان الإلهي.
«٤ يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ إِذَا سَمِعُوا كَلِمَاتِ فَمِكَ. ٥ وَيُرَنِّمُونَ فِي طُرُقِ ٱلرَّبِّ، لأَنَّ مَجْدَ ٱلرَّبِّ عَظِيمٌ. ٦ لأَنَّ ٱلرَّبَّ عَالٍ وَيَرَى ٱلْمُتَوَاضِعَ. أَمَّا ٱلْمُتَكَبِّرُ فَيَعْرِفُهُ مِنْ بَعِيدٍ. ٧ إِنْ سَلَكْتُ فِي وَسَطِ ٱلضِّيقِ تُحْيِنِي. عَلَى غَضَبِ أَعْدَائِي تَمُدُّ يَدَكَ، وَتُخَلِّصُنِي يَمِينُكَ. ٨ ٱلرَّبُّ يُحَامِي عَنِّي. يَا رَبُّ رَحْمَتُكَ إِلَى ٱلأَبَدِ. عَنْ أَعْمَالِ يَدَيْكَ لاَ تَتَخَلَّ».
(٤ - ٨) وهذا الحمد الذي يقدمه المرنم يجب أن يقدمه أيضاً جميع ملوك الأرض عليهم أن يعترفوا بقدرة الله الفائقة وبرحمته التي لا تستقصى. وحينئذ يمتلئ قلبهم بالحبور ويترنمون بتلك الطرق والأساليب التي يستعملها الرب في إظهار رحمته وحقه. فإن الرب عظيم جداً وليس لعظمته استقصاء ليس فقط من جهة قصده الإلهي بل بالأحرى من جهة تلك الطرق الحنونة التي يستعملها لكي يري الناس رحمته وحقه فهم لا يعترفون بالفضل إلا بعد البراهين والشواهد الكثيرة التي لا يمكن أن ترد أبداً. وهذا الإله عال جداً في كل أعماله ومع ذلك فهو يحب المتواضعين ويعرفهم حالاً ويرعاهم بعطفه وبعنايته.
يقول المرنم في العدد ٧ عن اختبارات روحية عميقة وهو يذكرنا بما ورد في (مزمور ٢٣: ٤) وهو مملوء بالرجاء والثقة أن الله سيرحمه بالمستقبل كما رحمه في الماضي. وما هذا التذلل الحاضر إلا لكي يرجع عن خطأه إلى الصواب فإن الرب وحده هو الذي ينجي من تلك المصائب التي تحطم القلوب. ولكن غضب الأعداء إلى حين لأن الرب يرفع يمينه للخلاص ويمد الأخرى للبركة والنعمة. فهو يسكت الأعداء ليس بالكلام فقط ولكن بإظهار قدرته الإلهية نحوهم. هذا الإله الذي يحامي عن المؤمنين باسمه ويعطي رحمة للذين يعترفون بأفضاله الإلهية العميمة. وهو لا يتخلى عن أعماله لأنه بذلك يبرهن عن ثباته في الخطط المرسومة التي يتبعها إذ أن مشيئته الإلهية هي وحدها التي تثبت إلى الأبد (راجع نحميا ٦: ٣). هو إله باق على الدوام ولا يتغير ولا يزول شيء من كلامه لأنه وحده قدوس وكل ترتيباته وأحكامه كاملة مقدسة. وعليه فكل من يعرف الحق ويمسك به إلى المنتهى فهو يشبه الله القدوس الذي لا أخطاء في أحكامه ولذلك فهو لا يتراجع عن أي شيء منها.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلتَّاسِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ


«١ يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. ٢ أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. ٣ مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ».
لهذا المزمور نقاط عديدة مشتركة مع المزمور سابقه وهو سامي المعاني جليل الفوائد ولا سيما من الناحية التعليمية واللاهوتية ومن الناحية الشعرية أيضاً فهو يستحق أن يلحق بمزامير داود من جهة النسق العالي وإن لم يكن من جهة التأليف بالنسبة لكثرة الكلمات الآرامية الواردة فيه وهي تخص العصور المتأخرة في التاريخ اليهودي. ويستعمل المزمور هذه الكلمة «لداود» من قبيل التبرك وإنه يتبع النسق الداودي.
ينقسم المزمور إلى ثلاثة أقسام الأول من العدد ١ - ١٢ والثاني من ١٣ - ١٨ والثالث من ١٩: ٢٤. ويرى المرنم أن الله عالم بكل شيء وحاضر في كل مكان وعنايته الإلهية تحيط بالإنسان من كل جانب ولا يستطيع أحد أن يجد أي مهرب. ثم يتناول هذا الإنسان المخلوق بقدرة الله ويذكرنا بواجب الإنسان نحو خالقه. وأخيراً يلتفت إلى أعداء الله وينصحهم بالتوبة والرجوع قبل فوات الأوان. ومهما يكن من أمر فإن الناظم شاعر من الطبقة الأولى وأفكاره تلبس حلل الروعة والجمال وإن يكن أن اللغة العبرانية كانت قد امتزجت بالآرامية لا سيما بعد الرجوع من السبي ويظهر تأثير ذلك في سفري دانيال وعزرا على وجه خاص.
(١ - ٣) يذكرنا العدد الأول بما رود في مزمور ٢٣ وهذا العدد يرينا حالاً تلك العلاقة الوطيدة الكائنة بين الله والإنسان فالله وحده يختبر الإنسان في كل حالاته وهكذا يعرفه معرفة تامة. لذلك فهو الذي يعرفه لدى الجلوس أي في أوقات الراحة والطمأنينة كما أنه يعرفه في وقت القيام أي حينما ينهض للعمل ويتمم جميع الواجبات ولا يلزم الله قط أن يقارب للإنسان حتى يعرفه بل هو يعرفه من بعيد ولا يخفى عليه خافية. وهو يعرف كيف يسلك وأي الطرق يتبعها كما أنه يعرف أين يرتاح وكيف يجلس آمناً مطمئناً. ذلك لأن الرب نفسه يذريه أي يحميه ويقف حاجزاً بينه وبين عواصف الحياة. والرب يفعل ذلك لأنه يعرف حاجة الإنسان للنجدة ثم أهمية هذه النجدة وموافقتها للإنسان.
«٤ لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا. ٥ مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ. ٦ عَجِيبَةٌ هٰذِهِ ٱلْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ٱرْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا. ٧ أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ ٨ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. ٩ إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، ١٠ فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ».
(٤ - ٦) وهذه المعرفة الإلهية للإنسان تجعلها متسلطة على دقائق الأمور وحذافيرها حتى أن كلمة واحدة لا تفلت من اللسان إلا والرب قد عرفها من قبل. بل أن يد الله القديرة قد حاصرته من كل جانب أي لا تسمح له أن يتيه في الأرض ويفتخر كما يشاء (راجع أيوب ٩: ٢٣). وهذه اليد قديرة تصل إليه أينما كان فهو بعنايتها يحيا ولولاها لكان بين الهالكين. وكيف يمكن للإنسان أن يدرك هذه المعرفة التي تتسلط عليه كما يتسلط الهواء على رئتي الإنسان فلا يحيا بدون أن يستنشقه وكما يتسلط الماء على السمك السابح فيه. هي معرفة ليس بمقدور الإنسان الوصول إلى كنهها لأنها قد ارتفعت جداً لأنها سماوية وهو بين الأرضيين.
(٧ - ١٠) وأما الهرب هنا فمسبب عن الشعور بالخطية فيريد الإنسان أن يختبئ كما فعل الأب الأول آدم حينما ناداه الله أين أنت (راجع تكوين ٣: ٨ - ١٠). هذا الإله الموجود في كل مكان فهو يملأ السموات بمجده كما أنه جعل الأرض موطئاً لقدميه بل هو في أعماق الأودية السحيقة لأن لا علو عنده ولا عمق ولا بعد ولا قرب فهو في كل مكان. وهل يستطيع أن يهرب بأن يأخذ أجنحة يطير بها من أقصى الأرض إلى أقصاها كما ينتشر نور الصبح فيملأ الأفق البعيد بالأنوار وفي غير أمكنة يذكر جناحي الشمس (راجع ملاخي ٣: ٢٠) وأيضاً جناحي الريح (راجع مزمور ١٨: ١١). وهو يأخذ جناحين للطيران كما في (خروج ١٠: ١٦). حتى إذا استطعت أن أذهب بعيداً إلى أقاصي البحر المتوسط حيثما جزر الأمم. ولكن في تلك الأمكنة البعيدة هوذا الله موجود ليهدي ويشدّد ويقوّي.
«١١ فَقُلْتُ: إِنَّمَا ٱلظُّلْمَةُ تَغْشَانِي. فَٱللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! ١٢ ٱلظُّلْمَةُ أَيْضاً لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَٱللَّيْلُ مِثْلَ ٱلنَّهَارِ يُضِيءُ. كَٱلظُّلْمَةِ هٰكَذَا ٱلنُّورُ. ١٣ لأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. ١٤ أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَباً. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذٰلِكَ يَقِيناً. ١٥ لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. ١٦ رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا. ١٧ مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اَللّٰهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا! ١٨ إِنْ أُحْصِهَا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ ٱلرَّمْلِ. ٱسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكَ».
(١١ - ١٢) يعود أخيراً بعد أن يرى الأبعاد لا شيء في نظر الله إلى آخر ملجأ يلتجئ إليه الشرير وهو الظلام فيحاول أن يختفي تحت أستاره ولكن الله هو النور ذاته فهل يجتمع النور والظلام معاً؟ وهوذا الليل يضمحل متبدداً أمام الضوء المشرق من العلاء. إن الليل هو في نظر الإنسان فقط وإن الظلمة هي في البعد عن الله ليس إلا إذن لا ليل ولا نهار في عيني الله لأنه وحده فوق جميع خلائقه فهو الذي يتسلط عليها ويتحكم بها بحسب مشيئته الإلهية.
(١٣ - ١٨) هذا الإله القادر على كل شيء والحاضر في كل مكان والعالم بكل شيء هو نفسه يعرف هذا الإنسان لأنه صوّره ونسجه في بطن أمه لذلك فهو يعرف دخائله بالتمام ليس للإنسان إلا أن يحمده من كل جوارحه لا سيما والإنسان يفعل ذلك وهو مأخوذ بعاطفة التعجب من كل ما يختبره وحينئذ يعود إلى نفسه ويتأكد هذه الحقيقة الماثلة أمام عينيه. حتى أن العظام في مراكزها الداخلية في الجسم كانت ظاهرة أمام الله وإن تكن قد صيغت بعيدة عن أي الأنظار (راجع أيوب ١: ٢١).
وقد رأى الله أعضاء الإنسان وكوّنها وعرف تفاصيلها وكتبها في سفره حتى تأخذ شكلها الذي يعينه وتقوم بوظائفها المرتبة المعروفة. وهكذا فإن الله قد عرف الإنسان وهو جنين لأن الزمان عنده غير محدود. ولذلك فأفكار الله كريمة وواسعة لأنها تشمل كل شيء وهي في العدد مثل الرمل الذي لا يحصى. وهي مرقومة في كتابه العزيز حيث يخبرنا عن أعمال الخليقة والمرنم يقرأ ذلك ويتعب من كثرة المراجعات حتى ينام وإذا به يستيقظ بعد ذلك ويجد نفسه لا يزال يطالع ما كتبه الله عن أعماله العظيمة.
«١٩ لَيْتَكَ تَقْتُلُ ٱلأَشْرَارَ يَا اَللّٰهُ. فَيَا رِجَالَ ٱلدِّمَاءِ ٱبْعُدُوا عَنِّي. ٢٠ ٱلَّذِينَ يُكَلِّمُونَكَ بِٱلْمَكْرِ نَاطِقِينَ بِٱلْكَذِبِ، هُمْ أَعْدَاؤُكَ. ٢١ أَلاَ أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ وَأَمْقُتُ مُقَاوِمِيكَ؟ ٢٢ بُغْضاً تَامّاً أَبْغَضْتُهُمْ. صَارُوا لِي أَعْدَاءً. ٢٣ ٱخْتَبِرْنِي يَا اَللّٰهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي. ٢٤ وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَٱهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً».
(١٩ - ٢١) لقد أكثر المرنم من تأملاته الروحية في هذه الخليقة العجيبة التي تشمل العالمين جميعها والتي تشمل الإنسان هذا المخلوق العجيب الذي هو زينة مخلوقات الله. وقد سما في تفكيره إلى أعلى المراتب وحاول أن يدمج نفسه بين عباد الله الصالحين الذين يطالعون الكتاب ويأتمرون بأوامره ولا يغرب عن باله أن يرى الشواهد ناطقة بعظمة الخالق التي لا تستقصى. وفي العدد ١٩ نكاد نذهل من هذا الهبوط المفاجئ فيطلب أن يقتل الأشرار الذين لا يؤمنون بالله بل قد نكثوا العهود وخانوا المواثيق حتى أراقوا الدماء فلا عجب أن تهرق دماؤهم هم بدورهم الآن. نشعر بالألم الذي يشعر به المرنم من أناس أشرار لا يتورعون عن القتل وهم يفعلونه بالمكيدة والمكر بينما يتظاهرون بعكس ما يضمرون. هم كذابون أعداء الله وشبعه. وفي العدد ٢١ يسائل نفسه ما هو الواجب عليه تجاه حالة كهذه؟ ألا يغار غيرة للرب كما فعل إيليا (راجع ١ملوك ١٩: ١٠). ولا يطول به الوقت حتى يجاوب نفسه ويقول أنه يبغضهم ويعاديهم إلى التمام.
(٢٢ - ٢٤) و هل بغض الأعداء لأجل الرب إلا فضيلة في نظره؟ لأنه لا يستطيع أن يتساهل مع أي الأشياء التي تفسد عليه إيمانه بالله كما لا يستطيع أن يتساهل مع أولئك الوثنيين من سكان الأمم الذين قد احتقروا إله إسرائيل واضطهدوا شعبه إلى أبعد الحدود.
وأخيراً يعود المرنم إلى نفسه لكي يطلب من الله أن يفحصه ويختبره ويرى هل فيه أمور ملتوية باطلة (راجع إرميا ٦: ١٦ وأيضاً أيوب ٢٢: ١٥ وإرميا ١٨: ١٥). وهل سلوكه أعوج غير صالح ولا مستقيم ويود أن يهتدي للطريق الأبدي الذي يسلك فيه على الدوام. لأن طريق الخطأ لا يوصل إلا إلى الهلاك ومن الحكمة إنما العودة عنه بأول فرصة سانحة وبأسرع وقت ممكن.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلأَرْبَعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ أَنْقِذْنِي يَا رَبُّ مِنْ أَهْلِ ٱلشَّرِّ. مِنْ رَجُلِ ٱلظُّلْمِ ٱحْفَظْنِي. ٢ ٱلَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ بِشُرُورٍ فِي قُلُوبِهِمْ. ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَجْتَمِعُونَ لِلْقِتَالِ. ٣ سَنُّوا أَلْسِنَتَهُمْ كَحَيَّةٍ. حُمَةُ ٱلأُفْعُوانِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. سِلاَهْ».
هذا المزمور هو صرخة استنجاد من قلب مؤمن متألم. فهو محاط بالأعداء الذين يظهرون العطف ويضمرون ضده. هم أشبه بالحية اللينة الملمس ولكنها تلدغ ولا تشفق على أحد على حد قول الشاعر:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب



وهذا المزمور هو جريء أكثر مما هو جميل ويمكن نسبته للنسق الداودي حينما كان يصرخ داود طالباً النجدة من يد الله على أعدائه الكثيرين ولا سيما من يد أبشالوم ابنه. ولا يغرب عن بالنا مشابهة هذا المزمور للمزمورين ٥٨ و٦٤. ولا سيما أن ختام هذه المزامير هي متشابهة للغاية وتحوي مرارة قوية ضد الأعداء الذين يوجه غضبه ونقمته عليهم.
(١ - ٣) إن أهل الشر هم الذين يحيطون الناس بفخاخهم وينصبون لهم الأشراك حتى يقعوا فيها. وهم أقوياء مملؤون بالعنف والمفاسد فيرتكبوا جميع الموبقات والمظالم. هم في الوقت نفسه يصمّمون على الشر ويفتكرون به طويلاً لذلك هم مجرمون عن سابق تصور وتصميم. ولأنهم كذلك فهم يلهجون بالقتال اليوم كله ويضعون الخطط لارتكاب ما يرتكبون. ونجدهم يسنون ألسنتهم كما يسنون سكاكينهم وأدوات حربهم بالتمام (راجع مزمور ٦٤: ٤ و٥٨: ٥). وهذه الألسنة هي أشبه بحمة الأفعوان فينفث بها سمّه للقتال. فهؤلاء الأشرار إذن هم جريئون على ارتكاب الشر على قدر ما يضمرونه في قلوبهم فهم لهم حمة الأفعوان كما لهم عضته المميتة أيضاً. ولذلك فهم يفكرون الأفكار الخبيثة ولا يطول بهم الوقت حتى ينفذوها. فهم قوالون فعالون ولكنهم للشر والهلاك لسوء الحظ.
«٤ ٱحْفَظْنِي يَا رَبُّ مِنْ يَدَيِ ٱلشِّرِّيرِ. مِنْ رَجُلِ ٱلظُّلْمِ أَنْقِذْنِي. ٱلَّذِينَ تَفَكَّرُوا فِي تَعْثِيرِ خُطُوَاتِي. ٥ أَخْفَى لِي ٱلْمُسْتَكْبِرُونَ فَخّاً وَحِبَالاً. مَدُّوا شَبَكَةً بِجَانِبِ ٱلطَّرِيقِ. وَضَعُوا لِي أَشْرَاكاً. سِلاَهْ. ٦ قُلْتُ لِلرَّبِّ: أَنْتَ إِلٰهِي. أَصْغِ يَا رَبُّ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي. ٧ يَا رَبُّ ٱلسَّيِّدُ، قُوَّةَ خَلاَصِي، ظَلَّلْتَ رَأْسِي فِي يَوْمِ ٱلْقِتَالِ. ٨ لاَ تُعْطِ يَا رَبُّ شَهَوَاتِ ٱلشِّرِّيرِ. لاَ تُنَجِّحْ مَقَاصِدَهُ. يَتَرَفَّعُونَ. سِلاَهْ. ٩ أَمَّا رُؤُوسُ ٱلْمُحِيطِينَ بِي فَشَقَاءُ شِفَاهِهِمْ يُغَطِّيهِمْ».
(٤ - ٥) يطلب من الله حفظاً لكي يتقي تلك الأيادي المرتفعة عليه بالعدوان لا سيما وهذا العدو هو رجل ظالم لا يخاف الله ولا يهاب أي إنسان. فهو الذي قد تفكر بأن يعرقل خطواته ويوقعه في التهلكة. ولا يبرح عن بالنا صورة الصياد الذي يبذل غاية جهده لكي يوقع الطيور في أحابيله فيصطادها. ونجد ذلك واضحاً في العدد السادس فقد صوّر لنا جيداً ماذا يفعل الصيادون للفتك بفريستهم. وفي حالة الشدة العظمى هذه ترتفع الموسيقى سلاه! لكي يعين الله بالشدائد وينقذ وينجي قبل فوات الأوان (راجع ١أخبار ١٨: ١٧ ونحميا ١١: ٢٤). وهذه الأحابيل والأشراك التي وضعوها تكاد تطبق على فرائسها وتنشب فيها ولا تستطيع حراكاً.
(٦ - ٩) هذا ما يفعله الأعداء به ولكن في وسط ضيقته العظيمة لا ينسى الله ويشعر بتلك العلاقة المتينة الكائنة بينهما. هذا الإله الذي يصغي للتضرعات ويستجيب الصلاة. هذا الإله مستعد ليخلص فكان ترساً في يوم القتال يظلل المؤمن به رأسه لئلا تصيبه السهام القاتلة (راجع إشعياء ٥٩: ١٧). ويلتمس في الوقت نفسه أن يفسد الرب مكايد الشرير ولا يسمح له أن ينال مآربه لأنها فظيعة وشريرة. أولئك الذين يفعلون بحسب فكر قلوبهم بكبرياء وغطرسة. ثم ترتفع الموسيقى سلاه مكررة طلب العون والنجدة.
وفي العدد التاسع نجد الأعداء ذوي رؤوس تحيط بالمرنم من كل جانب. هم يحيطون به كالجيش بالقلعة لكي ينظر من أي جهة يهاجمها بالعكس عن إحاطة الرب بالمؤمنين لكي يعينهم ويحميهم. ويطلب المرنم أن شفاه هؤلاء الأعداء تعود على أنفسهم أولاً بالضرر قبل أن تصيب المؤمنين.
«١٠ لِيَسْقُطْ عَلَيْهِمْ جَمْرٌ. لِيُسْقَطُوا فِي ٱلنَّارِ، وَفِي غَمَرَاتٍ، فَلاَ يَقُومُوا. ١١ رَجُلُ لِسَانٍ لاَ يَثْبُتُ فِي ٱلأَرْضِ. رَجُلُ ٱلظُّلْمِ يَصِيدُهُ ٱلشَّرُّ إِلَى هَلاَكِهِ. ١٢ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ يُجْرِي حُكْماً لِلْمَسَاكِينِ وَحَقّاً لِلْبَائِسِينَ. ١٣ إِنَّمَا ٱلصِّدِّيقُونَ يَحْمَدُونَ ٱسْمَكَ. ٱلْمُسْتَقِيمُونَ يَجْلِسُونَ فِي حَضْرَتِكَ».
(١٠ - ١٣) وحينئذ فإن ألسنتهم هذه تصبح كالنار المحرقة التي تصيبهم أولاً بأذاها. وهكذا يسقطون في النار التي هم أشعلوها وأججوها وإن شاءوا فليسقطوا في الغمر العظيم وهم يحاولون أن يطفئوا أنفسهم من لهيب أنفسهم. ولا يغرب عن بالنا أن كلا النار والماء هما من أشد المخاطر الطبيعية التي يتعرض إليها الإنسان. لذلك فالمرنم يطلب من الله أن يهلكهم في أشد المخاطر طالما قد نصبوا من قبل أخطر الأشراك وأفظعها. وهكذا يرى أن الإنسان ذا اللسان الكذوب المرائي المحتال لا يمكن أن يبقى طويلاً وكذلك فإن الذي يصنع الشر لا بد أن يسقط في حبائله أولاً وينال عواقبه الوخيمة. فمن حاول أن يصطاد الآخرين أمسى أول المصيدين. ذلك لأن الله عادل وهو الذي لا يترك المساكين يتخبطون في ظلماتهم بل ينتشله إلى ملء النور والحياة الكريمة. وهكذا يجري الحق للذين قد امتهنهم الناس من قبل فعاشوا أذلاء يائسين منكوبين. ولا نكتم أن اللغة هنا تلبس حالة قشيبة من الانتعاش والبهجة فقد زال اليأس الذي استحوذ عليه من قبل وملأ قلبه الرجاء السعيد واضمحل الضعف من نفسه وأصبح في قوة. هو فرحان سعيد بالله القدير الذي يحوّل كل شيء لخدمة المؤمن كما أنه يستخدم الحوادث ليس للضرر بل لنفع الإنسان وتثبيته في الحق والحياة (راجع أيوب ٤٢: ٢). وهكذا يختم مزموره بحمد اسم الرب لأن ذلك هو واجب الصديقين الأول وبدلاً من أن يطردوا من أرض الأحياء إذا بهم يجلسون في حضرة الله لكي يتمتعوا بأمجاده كل حين. وأي شيء أسعد للمؤمن من أن يكون في حضرة الله العلوية لا شيء من اضطراب الدنيا وأتعابها يمكنها أن تزعزع سلامه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْحَادِي وَٱلأَرْبَعُونَ


مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ يَا رَبُّ إِلَيْكَ صَرَخْتُ. أَسْرِعْ إِلَيَّ. أَصْغِ إِلَى صَوْتِي عِنْدَ مَا أَصْرُخُ إِلَيْكَ. ٢ لِتَسْتَقِمْ صَلاَتِي كَٱلْبَخُورِ قُدَّامَكَ. لِيَكُنْ رَفْعُ يَدَيَّ كَذَبِيحَةٍ مَسَائِيَّةٍ. ٣ ٱجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِساً لِفَمِي. ٱحْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ. ٤ لاَ تُمِلْ قَلْبِي إِلَى أَمْرٍ رَدِيءٍ، لأَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ ٱلشَّرِّ مَعَ أُنَاسٍ فَاعِلِي إِثْمٍ، وَلاَ آكُلْ مِنْ نَفَائِسِهِمْ».
طالما أن هذا المزمور يحمل العنوان لدواد فمن الواجب أن نعرف الظرف الخاص الذي كتبه داود فيه أو كتبه إنسان آخر يصف ذلك الظرف ويضع تلك الصورة واضحة أمام عيوننا. والأرجح أن هذا الظرف الخاص هو حينما طُرد داود من وجه أبشالوم ابنه وبالتالي منعه من أن يقدم الذبائح والتقدمات في أورشليم. وهو مزمور مسائي يصور تلك الحالة المنوه عنها تصويراً دقيقاً في ذلك الحال المملوء بالمتاعب والاضطرابات.
(١ - ٢) إن هذين العددين هما لداود ذاته أكثر مما هما على نسق كتابته فقط. فهو يصرخ طالباً النجدة وهو يطلبها بسرعة ويود لو أن الله يبرهن له أنه يسمع صوته ويصغي إلى تضرعاته فلا يذهب كلامه عبثاً أو كقبض الريح. وبالتالي فهو يلتمس من الله أن يجعل شكل صلاته كأنها مرتفعة نحو السماء كما يرتفع البخور وليكن رفع اليدين في الابتهال والدعاء كأنه يقدم ذبيحة عند المساء فهو إذن يتصوّر أنه قريب من الله في المكان المعتاد ولو كان بعيداً بالجسد (راجع قضاة ٢٠: ٣٨ و٤٠ وقابله مع مزمور ٢٨: ٢ وأيضاً خروج ٢٩: ٣٨ - ٤٢).
(٣ - ٤) يبدأ المرنم بأن يصف لنا بعض مطالبه الخاصة فإن صلاته مرفوعة لأجل مقاصد معينة (راجع مزمور ٣٩: ٢ و٣٤: ١٤). فهو يطلب حفظ اللسان لئلا يتفوه بأمور كان الأولى به السكوت عنها لئلا يندم ولات ساعة مندم. وبعد هذه الصلاة لأجل اللسان يلتمس أن يقطع علاقاته بالأشرار وهكذا يتركهم جابناً من كل قلبه. فلا يسمح لنفسه أن يكون له أي نصيب معهم ولا يكون له أي علاقة بأفعالهم. فيترك الإثم لأصحابه وهكذا يبتعد عن أن يجذبه أحد إلى أي النفائس التي قد يقدمونها لأجل الإرضاء أو الرشوة.
«٥ لِيَضْرِبْنِي ٱلصِّدِّيقُ فَرَحْمَةٌ، وَلْيُوَبِّخْنِي فَزَيْتٌ لِلرَّأْسِ. لاَ يَأْبَى رَأْسِي. لأَنَّ صَلاَتِي بَعْدُ فِي مَصَائِبِهِمْ. ٦ قَدِ ٱنْطَرَحَ قُضَاتُهُمْ مِنْ عَلَى ٱلصَّخْرَةِ، وَسَمِعُوا كَلِمَاتِي لأَنَّهَا لَذِيذَةٌ. ٧ كَمَنْ يَفْلَحُ وَيَشُقُّ ٱلأَرْضَ تَبَدَّدَتْ عِظَامُنَا عِنْدَ فَمِ ٱلْهَاوِيَةِ. ٨ لأَنَّهُ إِلَيْكَ يَا سَيِّدُ يَا رَبُّ عَيْنَايَ. بِكَ ٱحْتَمَيْتُ. لاَ تُفْرِغْ نَفْسِي. ٩ ٱحْفَظْنِي مِنَ ٱلْفَخِّ ٱلَّذِي قَدْ نَصَبُوهُ لِي، وَمِنْ أَشْرَاكِ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ. ١٠ لِيَسْقُطِ ٱلأَشْرَارُ فِي شِبَاكِهِمْ حَتَّى أَنْجُوَ أَنَا بِٱلْكُلِّيَّةِ».
(٥ - ٧) وإذا كان من ضربة قد أتت من يد الصديق فهي بركة وليست ضربة كما أن توبيخه هو زيت لرأسي كي أتدهن به. وهكذا فإن الضربة ترحم الإنسان الذي يُضرب بها لأنها تذكره بالرجوع عن غيه. وهكذا يرضى الرأس بها ويقبلها بل إنني لا أتأخر عن أن أقدم الصلاة الشفاعية من أجلهم لا سيما حينما يكونون في أي المصائب. إذن فهو لا يحسب الضربة كذلك ولا يرضى بالتوبيخ إلا من قبيل ردع النفس نحو الأفضل (راجع مزمور ٢٣: ٥ و١٣٣: ٢).
إن أولئك الذين جعلوا أنفسهم قضاة للشعب قد انطرحوا إلى أسفل ونزلوا عن المقام السامي الذي وصلوا إليه. ذلك لأنهم فعلوا بكبرياء فكانت كلماتهم على مسامع الشعب بصلف وغطرسة وأما كلماتي أنا فكانت متواضعة وهكذا كانت لذيذة على مسامعهم. لقد اغترّ الشعب من قبل فتبع أبشالوم ولكن إلى حين إذ رأوا فساد ما كانوا فيه فعادوا إلى الصواب تائبين. ولكنه في العدد الثامن لا يكتم المصيبة التي داهمت الشعب وسببت خراباً وتقتيلاً وهكذا يشبه تلك العظام المتبددة كالحجارة التي تظهر عندما يشق الفلاح الأرض بسكته. فقد كانت مصيبة عامة على الشعب ولكنها قد انتهت كما تنتهي الفلاحة بالخير للحبوب التي تدفن في الأثلام وتصبح زرعاً يوما ما.
(٨ - ١٠) يلتفت إلى الله طالباً عوناً. ويطلب حماية لئلا تفرغ نفسه من الشجاعة والاحتمال. إن الضيق الذي أحاطه يجب أن يملأه بالإيمان فقط. وهكذا فإنه يعرف الفخ ويتجنب مكانه ويتميز الإشراك فلا يسقط فيها. بل لترجع هذه المصائب على الذين سببوها وليقع هؤلاء المحتالون في الشباك التي رموها أمام أرجلنا وهكذا يمنح الله نجاته الكاملة للملك ولشعبه المخلص نحوه إلى المنتهى.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّانِي وَٱلأَرْبَعُونَ


قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ لَمَّا كَانَ فِي ٱلْمَغَارَةِ. صَلاَةٌ


«١ بِصَوْتِي إِلَى ٱلرَّبِّ أَصْرُخُ. بِصَوْتِي إِلَى ٱلرَّبِّ أَتَضَرَّعُ. ٢ أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ. بِضِيقِي قُدَّامَهُ أُخْبِرُ. ٣ عِنْدَ مَا أَعْيَتْ رُوحِي فِيَّ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ مَسْلَكِي فِي ٱلطَّرِيقِ ٱلَّتِي أَسْلُكُ أَخْفَوْا لِي فَخّاً».
هي صرخة في طلب النجدة من سجن إلى أصدقاء مخلصين يؤمنون بالله ويمحضون الصداقة صادقة كريمة. وهو المزمور الثامن من هذه السلسلة الأخيرة التي تحمل اسم داود وربما نظمت في ذلك الوقت الذي كان داود فيه أسيراً مضطهداً بيد أبشالوم ابنه. أو أن الناظم - وهو غير داود نفسه - قد اتخذ تلك الحوادث الرائعة في تاريخ الملك داود حتى ينظم ما يخلد ذكراها في هذه المزامير المتتابعة. وقد تكون المغارة المذكورة هي مغارة عدلام (راجع ١صموئيل ٢٢) أو مغارة عين جدي (راجع ١صموئيل ٢٥). ومع أن هذا المزمور لا يحمل دلائل قاطعة أنه قد نظم بعد العصر الداودي ولكنه لا يخفى أيضاً أنه منسوج على منوال مزامير متقدمة أخذ عنها كثيراً من الأفكار والمعاني (راجع مزمور ٧٧ وأيضاً مزمور ١٤٣).
(١ - ٣) يشرع المرنم حالاً بأن يعرض شكواه فهو يشعر أنه مهجور من الناس ومتروك من أخلص الأصدقاء ولذلك يطلب من الرب أن يعينه على احتمال هذه الحالة الصعبة. فهو مثقل بالهموم العظيمة ولذلك فهو يتضرع إلى الرب حتى يخفف عنه الأحمال ويقويه ويشدده لكي يجابه كل المتاعب. وهو يقدم لديه الشكوى لأنه يشعر أن الحمل أعظم من أن يبقى على أكتافه وعليه أن يزحزخه بعيداً. ولا يكتم أنه في ضيق وإن روحه في عياء شديد لذلك فهو يعتقد أن الله سيمنحه مما هو فيه لا سيما وإن طريقه مملوء بالفخاخ الكثيرة وهو كل حين في خطر شديد أن يسقط فيها. إن الرب وحده يعرف الطريق التي يسلك فيها المرنم ولا تخفى عليه تلك المخاطر لذلك فهو سيمد يد العون والإسعاف وينتشل عبده من ملماته قبل أن يسقط سقوطاً لا قيام بعده.
«٤ اُنْظُرْ إِلَى ٱلْيَمِينِ وَأَبْصِرْ، فَلَيْسَ لِي عَارِفٌ. بَادَ عَنِّي ٱلْمَنَاصُ. لَيْسَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِي. ٥ صَرَخْتُ إِلَيْكَ يَا رَبُّ. قُلْتُ: أَنْتَ مَلْجَإِي، نَصِيبِي فِي أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ. ٦ أَصْغِ إِلَى صُرَاخِي لأَنِّي قَدْ تَذَلَّلْتُ جِدّاً. نَجِّنِي مِنْ مُضْطَهِدِيَّ لأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنِّي. ٧ أَخْرِجْ مِنَ ٱلْحَبْسِ نَفْسِي لِتَحْمِيدِ ٱسْمِكَ. ٱلصِّدِّيقُونَ يَكْتَنِفُونَنِي لأَنَّكَ تُحْسِنُ إِلَيَّ».
لقد كانت الطرق مملوءة بالفخاخ والأشراك التي وضعها أناس ماهرون ولكنهم بلا ضمير ولا وجدان. ويخاطب المرنم نفسه ويحذرها قائلاً انظر وابصر قبل أن ينال هؤلاء الكائدون مأربهم. وهو يلتفت إلى اليمين لكي يرد عنه ضربات الأعداء لأن السلاح تحمله عادة اليد اليمنى وهكذا فإن حامل الأسلحة كان عادة يمشي عن يمين سيده لكي يناوله السلاح اللازم ويحميه في وقت الخطر أيضاً. وفي حيرته هذه لا يجد أحداً يسعفه ولا يرى أي خلاص من المأزق الحرج لأن الاصدقاء المحبين قد تركوه جانباً ولكنه يلتفت وينجده. وفي شدته هذه يصرخ إلى الرب ويحسبه أنه الملجأ الوحيد والنصيب الكامل الذي يكفيه بين الأحياء.
وفي العدد ٦ يأخذ الكلام شكلاً مؤثراً فإن المرنم يشعر بالطمأنينة والهدوء. ويتأكد أن الله سيجيب الطلب. ذلك لأنه قد تذلل أمام الرب ولأن الأعداء أقوى منه فالرب لن يتركه فريسة بين أيديهم (راجع مزمور ١٧: ١ وأيضاً ٧٩: ٨ وأيضاً ١٨: ١٨). ولأول مرة في كل المزامير يخبرنا المرنم صراحة أنه في ضيقة معينة فيعرفنا أنه في حبس ويرجو الله أن يخرجه منه. وعندما يخرج سيحمد اسم الرب على هذا الإحسان العظيم ويجد حينئذ جميع الصديقين قد أحاطوا به وأنجدوه أيضاً. لقد عرفوه وافتقدوه بعد أن افتقده الله برحمته وأخرج من الحبس نفسه. وهكذا فإن هؤلاء يقوونه ويسعفونه لأن الله قد قواه ولم يتخل عنه أبداً.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّالِثُ وَٱلأَرْبَعُونَ


مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ يَا رَبُّ، ٱسْمَعْ صَلاَتِي وَأَصْغِ إِلَى تَضَرُّعَاتِي. بِأَمَانَتِكَ ٱسْتَجِبْ لِي، بِعَدْلِكَ. ٢ وَلاَ تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ. ٣ لأَنَّ ٱلْعَدُوَّ قَدِ ٱضْطَهَدَ نَفْسِي. سَحَقَ إِلَى ٱلأَرْضِ حَيَاتِي. أَجْلَسَنِي فِي ٱلظُّلُمَاتِ مِثْلَ ٱلْمَوْتٰى مُنْذُ ٱلدَّهْرِ.
هنا صرخة أخرى من صرخات طلب النجدة بينما المرنم في غياهب السجون. ونجد أن المزمور هذا أيضاً يحمل عنوان «لداود» مع أن ذلك غير مذكور في الترجمة السبعينية. ولكنه ينتمي بشكل طبيعي إلى المزمور سابقه وإن ظرف نظمه لا يستبعد أن يكون كما ذكرنا سابقاً في أيام ابنه أبشالوم. وتتميز هذه المزامير أنها تحمل طابع الحزن والأسى بل طابع التوبة والرجوع إلى الله وهي بذلك تختلف عن المزامير التي نظمت في أيام اضطهاد شاول. فتلك تحمل طابعاً آخر يدل على الاستناد إلى يد الله القديرة لكي تنجي من يد قديرة مماثلة ولا تحمل شيئاً من التوبة وطلب الغفران. ونجد في هذا المزمور أن كلمة سلاه تقسمه إلى قسمين متعادلين.
(١ - ٣) يدعم المرنم طلبه بأن الله يسمع صلاته ويصغي إلى تضرعاته بالنسبة إلى أمرين: الأول بالنسبة لأمانة الرب. فهو الذي وعد وعاهد وحاشا له أن يخلف عهوده التي قطعها. ثم ثانياً بالنسبة لعدل الرب فإن دعوى داود على أعدائه هي عادلة ولذلك يطلب أن يعاقب الرب المعتدي وبالتالي أن يعفو عنه فقد ذكر الآن خطاياه التي ارتكبها وكيف له أن يتبرر منها بغير العفو والسماح. وليس هو وحده في هذه الحالة بل أن كل حي هو كذلك لا بر له إذا وقف في محاكمة الرب. وفي العدد الثالث يلتفت إلى الرب مسترحماً من أجل ما يحتمله من اضطهاد الأعداء له حتى سحقه سحقاً ولم يعد بإمكانه أن يقف على رجليه ولذلك فهو قد ارتمى في مكان مظلم لا يجرؤ على الدنو من النور ولقد حُسب بين الموتى الذين ماتوا منذ زمن بعيد. مع أنه من الأحياء ولكن حياة هؤلاء هي أشبه بالموت منها بالحياة.
«٤ أَعْيَتْ فِيَّ رُوحِي. تَحَيَّرَ فِي دَاخِلِي قَلْبِي. ٥ تَذَكَّرْتُ أَيَّامَ ٱلْقِدَمِ. لَهَجْتُ بِكُلِّ أَعْمَالِكَ. بِصَنَائِعِ يَدَيْكَ أَتَأَمَّلُ. ٦ بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ. نَفْسِي نَحْوَكَ كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ. سِلاَهْ. ٧ أَسْرِعْ أَجِبْنِي يَا رَبُّ. فَنِيَتْ رُوحِي. لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فَأُشْبِهَ ٱلْهَابِطِينَ فِي ٱلْجُبِّ. ٨ أَسْمِعْنِي رَحْمَتَكَ فِي ٱلْغَدَاةِ، لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. عَرِّفْنِي ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا، لأَنِّي إِلَيْكَ رَفَعْتُ نَفْسِي. ٩ أَنْقِذْنِي مِنْ أَعْدَائِي يَا رَبُّ. إِلَيْكَ ٱلْتَجَأْتُ».
(٤ - ٦) ويصف في العدد الرابع تلك الحالة النفسية حينما ينصرف المنهزم إلى استجماع قواه فيجد عياء في روحه وحيرة في قلبه لا يدري ماذا يفعل وأين يذهب فلو أن الحيرة لم تقترن بالعياء لهان الأمر إذ كان يفتش عن مخارج جديدة يستعيد بها سابق عزه فتعود الأمور إلى مجاريها الطبيعية. ولا يعتم طويلاً حى يسترسل في الذكريات لكي يجد لنفسه حالة شبيهة يتعزى بها عن آلام حالته الحاضرة. وأخذ حينئذ يلهج بأعمال الرب وعجائبه التي أجراها نحو شعبه في القديم. ولا شيء كالتأملات العميقة تفرج عن النفس بلواها لا سيما إذا كانت مقترنة بروح التدين الحقيقي. وفي حالة كهذه بسطت أمامك يدي دليل التسليم للمشيئة الإلهية وفي الوقت ذاته أخذت أصلي إلى الله وهو الملجأ الأخير فإنه قد شعر أن نفسه كادت تموت من العطش الروحي حتى أشبهت القفر القاحل. وهنا ترتفع الموسيقى سلاه (راجع مزمور ٧٧: ٤ - ٧ وأيضاً ١٢ والأعداد بعده).
(٧ - ٩) هنا نبدأ بالقسم الثاني من المزمور فنجد أيضاً تكراراً عن مزامير سابقة (راجع مزمور ٦٨: ١٨ و٢٧: ٩ وقابله مع مزمور ١٠٢: ٣. وأيضاً قوله «أشبه الهابطين...» (راجع مزمور ٢٨: ١ وقابله مع مزمور ٨٨: ٥). وأيضاً حينما يذكر «اسمعني بالغداة رحمتك» فإننا نتذكر صلاة موسى (راجع مزمور ٩٠: ١٤) وقوله «لأني عليك توكلت» (راجع مزمور ٢٥: ٢) وغير مواضع أيضاً. والمرنم يلتمس أن يأتيه الصباح - الغداة برحمة جديدة تنسيه آلام ما مر به من قبل وهكذا ينقذ من الأعداء لأنه قد التجأ إلى الرب الذي لن يتخلى عن الصارخين إليه أبداً.
«١٠ عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلٰهِي. رُوحُكَ ٱلصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ. ١١ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ يَا رَبُّ تُحْيِينِي. بِعَدْلِكَ تُخْرِجُ مِنَ ٱلضِّيقِ نَفْسِي، ١٢ وَبِرَحْمَتِكَ تَسْتَأْصِلُ أَعْدَائِي وَتُبِيدُ كُلَّ مُضَايِقِي نَفْسِي، لأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ».
(١٠ - ١٢) وهو يريد الآن أن يتتلمذ بين يدي الله ويطلب أن يتعلم كيف يرضي الله. ليس من قبيل التمليق بل لأنه يحبه بهذا المقدار فهو يلتمس أن يتمم مشيئته ولا يسكت عن ذلك حتى ينهي ما شرع به من قبل. هذا الإله المحب الكريم الذي لا يترك عبده بل يهديه في أرض مستوية مستقيمة فلا يضل السبيل بل يعرف أين يذهب ويؤكد لنفسه الوصول إلى المحجة التي يريدها (راجع نحميا ٩: ٢٠ وأيضاً إشعياء ٢٦: ٧). ويمكن ترجمته أرض مستوية بأرض ميسورة أي مملوءة باليسر بدلاً من العسر فهي طريق لا تضل السالكين فيها (راجع تثنية ٤: ٤٣ وإرميا ٤٨: ٢١). وفي هذه الأعداد أيضاً نتذكر بعض المزامير التي مرت بنا فقوله «علمني أن أعمل رضاك» (راجع مزمور ٤٠: ٩). وقوله لأنك أنت إلهي (راجع مزمور ٤٠: ٦) وقوله روحك الصالح. والأرض المستوية (راجع مزمور ٥١: ١٤ و٢٧: ١١) بل وبقية ما ورد من هذه التعابير التي أصبحت مألوفة في كتاب المزامير مما يدلنا بوضوح عن مدى اقتباس هذا المؤلف من مزامير سابقة مما لا يعطي مجالاً للشك أن الناظم غير داود بالطبع. وهو إن طلب الرحمة لنفسه فإنما يطلب لأجل اسم الرب الذي يحييه. ولأن الرب عادل فهو لا يسمح أن يبقى متقيه في ضيق نفس ومرارة حياة. وقوله تستأصل أعدائي يذكرنا (مزمور ٩٤: ٢٣) لأن هؤلاء قد تمادوا في طغيانهم وأرادوا أن يمحوا عبادة الرب من الأرض فليكن نصيبهم الإبادة ولا يكونون فيما بعد. ويطلب المرنم هذا الطلب لأنه يشعر أنه بالمقابلة مع هؤلاء الأعداء فهو في حفظ بيد الله وأما اولئك فللهلاك والدمار لا محالة سائرون.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلرَّابِعُ وَٱلأَرْبَعُونَ


لِدَاوُدَ


«١ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ صَخْرَتِي ٱلَّذِي يُعَلِّمُ يَدَيَّ ٱلْقِتَالَ وَأَصَابِعِي ٱلْحَرْبَ. ٢ رَحْمَتِي وَمَلْجَإِي، صَرْحِي وَمُنْقِذِي، مِجَنِّي وَٱلَّذِي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، ٱلْمُخْضِعُ شَعْبِي تَحْتِي. ٣ يَا رَبُّ، أَيُّ شَيْءٍ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَعْرِفَهُ، أَوِ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَكِرَ بِهِ؟ ٤ ٱلإِنْسَانُ أَشْبَهَ نَفْخَةً. أَيَّامُهُ مِثْلُ ظِلٍّ عَابِرٍ».
في هذا المزمور طلب الشجاعة والعون من السماء قبل الشروع في معركة حربية فاصلة. وهو يصور لنا بركة الرب على شعبه الذين يسمعون صوته ويتممون إرادته. وقد ذهب بعض المفسرين أن هذا المزمور ينتهي بالعدد الحادي عشر وأما بقية الأعداد حتى النهاية فهي مأخوذة من محل آخر. ولكننا لا نستطيع نسبتها إلى أحد المزامير السابقة أو اللاحقة. وأما هتزج فيظن أنه يمكن وضعها ما بين العدد الثالث عشر والرابع عشر من (المزمور ١٤٧). والذي يشجع على هذا الزعم هو عدم وجود أية علاقة بين هذه الأعداد الأخيرة وهذا المزمور ١٤٤ الذي بين أيدينا.
(١ - ٢) إن هذين العددين يتمثلان بمزمور الحمد الثامن عشر العظيم المنسوب إلى داود فيدعو الرب صخرته كما في (مزمور ١٨: ٣ و٤٧). ثم نلاحظ عدداً من الكلمات المألوفة كما ورد في (٢صموئيل ٢٢: ٢) وقوله يعلم يدي القتال فمذكور في (مزمور ١٨: ٣٥). وكذلك في بقية العدد الثاني نجد ما يماثله في (إشعياء ٤٥: ١ و٤١: ٢) وكذلك نجد أمثال ذلك في (٢صموئيل ٢٢: ٤٨). وقد ذهب البعض أن ما ورد في هذا العدد موجود بصورة خاصة في ثلاثة مواضع هي في هذا المزمور وفي (٢صموئيل ٢٢: ٤٤ وأيضاً في المراثي ٣: ١٤).
(٣ - ٤) أيضاً نجد أن العدد الثالث هو ما ورد في (مزمور ٨: ٥) مع بعض تحريف قليل. وكذلك نجد العدد الرابع هو ما ورد في (مزمور ٣٩: ٦ وما يتبعه والعدد ١١ ثم قابله مع مزمور ٦٢: ١٠) وقوله الظل العابر هو أيضاً كما ورد في (مزمور ١٠٢: ١٢ ويقابله ١٠٩: ٢٣) ولا نجد علاقة كبيرة بين العدد الثاني والثالث بل نجد الأعداد متقطعة إلى حد كبير.
«٥ يَا رَبُّ، طَأْطِئْ سَمَاوَاتِكَ وَٱنْزِلِ. ٱلْمِسِ ٱلْجِبَالَ فَتُدَخِّنَ. ٦ أَبْرِقْ بُرُوقاً وَبَدِّدْهُمْ. أَرْسِلْ سِهَامَكَ وَأَزْعِجْهُمْ. ٧ أَرْسِلْ يَدَكَ مِنَ ٱلْعَلاَءِ. أَنْقِذْنِي وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْمِيَاهِ ٱلْكَثِيرَةِ، مِنْ أَيْدِي ٱلْغُرَبَاءِ ٨ ٱلَّذِينَ تَكَلَّمَتْ أَفْوَاهُهُمْ بِٱلْبَاطِلِ، وَيَمِينُهُمْ يَمِينُ كَذِبٍ. ٩ يَا اَللّٰهُ، أُرَنِّمُ لَكَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً. بِرَبَابٍ ذَاتِ عَشَرَةِ أَوْتَارٍ أُرَنِّمُ لَكَ. ١٠ ٱلْمُعْطِي خَلاَصاً لِلْمُلُوكِ. ٱلْمُنْقِذُ دَاوُدَ عَبْدَهُ مِنَ ٱلسَّيْفِ ٱلسُّوءِ».
(٥ - ٨) لا شك أن الناظم هنا يضع المزمور ١٨ في باله تماماً. وما يجده فيه من حوادث جسام وعجائب أجراها الله مع شعبه في القديم إذا بها في هذا المزمور مواضيع للصلاة والابتهال مما يدل على أن الكتابة قد جرت بعد المزمور ١٨ بزمان طويل. وهو يشير في العدد الخامس إلى وقت إنزال الشريعة. بينما نجد العدد السادس يشير إلى حوادث عبور البحر الأحمر حينما نجّى الله شعبه وأطبق بلججه العظيمة على الأعداء. وقوله في العدد السابع «نجني من المياه الكثيرة» فمأخوذة حرفاً بحرف من (مزمور ١٨: ١٧). هؤلاء الأعداء الذين يطلب من الله أن ينقذه منهم. فقد رفعوا أيديهم إلى العلاء وهم يقسمون يميناً كاذبة. يتكلمون بأفواههم بالباطل ويضمرون أموراً أخرى في قلوبهم.
(٩ - ١١) ينادي الله في بدء هذا العدد وهنا يذكرنا (مزمور ٣٣: ٢) وفي العدد العاشر نجد المرنم يذكر اسم داود وهذا تقليد لما ورد في (مزمور ١٨: ٥١). ونجد أن هذا المزمور بعد أن يكون مزمور حمد وشكران إذا به يتحول ليكون مزمور التماس بركات من الله. وهو يرنم ترنيمة جديدة دليلاً على هذا الشكر العميم وهو يستعين بذات عشرة الأوتار لكي يزيد جمال الترنيم جمالاً. هذا الإله الذي يعطي الخلاص لعبده وينجي الملوك. وأعظم نجاة لهم هو أن يخلصوا من السيوف التي تستعمل للشر والنقمة. لأن أغلب الملوك يموتون اغتيالاً وعدوناً وهكذا ينجي الله عبده داود من كل شر ويوليه نصراً (راجع ٢ملوك ٥: ١ و١صموئيل ١٧: ٤٧).
«١١ أَنْقِذْنِي وَنَجِّنِي مِنْ أَيْدِي ٱلْغُرَبَاءِ ٱلَّذِينَ تَكَلَّمَتْ أَفْوَاهُهُمْ بِٱلْبَاطِلِ، وَيَمِينُهُمْ يَمِينُ كَذِبٍ. ١٢ لِكَيْ يَكُونَ بَنُونَا مِثْلَ ٱلْغُرُوسِ ٱلنَّامِيَةِ فِي شَبِيبَتِهَا. بَنَاتُنَا كَأَعْمِدَةِ ٱلزَّوَايَا مَنْحُوتَاتٍ حَسَبَ بِنَاءِ هَيْكَلٍ. ١٣ أَهْرَاؤُنَا مَلآنَةً تَفِيضُ مِنْ صِنْفٍ فَصِنْفٍ. أَغْنَامُنَا تُنْتِجُ أُلُوفاً وَرَبَوَاتٍ فِي شَوَارِعِنَا. ١٤ بَقَرُنَا مُحَمَّلَةً. لاَ ٱقْتِحَامَ وَلاَ هُجُومَ وَلاَ شَكْوَى فِي شَوَارِعِنَا. ١٥ طُوبَى لِلشَّعْبِ ٱلَّذِي لَهُ كَهٰذَا. طُوبَى لِلشَّعْبِ ٱلَّذِي ٱلرَّبُّ إِلٰهُهُ».
(١٣) في هذا العدد والأعداد التي تليه نرى ملحقاً لهذا المزمور. وإذا حسبنا الأعداد الأولى مأخوذة من مزامير أخرى فلا عجب أن تكون هذه الأعداد قد ألحقت هنا كما نلاحظ مثل ذلك في مواضع كثيرة في العهد القديم (راجع قضاة ٩: ١٧ وإرميا ١٦: ١٣) وغيرها كثير لا محل لذكره الآن.
يذكر أولاً البنين الذين ينمون كالأغراس فهم عنوان القوة والنشاط بهم يعتز البيت ويحمي من مخاطر الأعداء. وأما البنات فهن عنوان الجمال والترتيب هن حجارة الزوايا التي تربط بين حائط وآخر. وهكذا تفعل الأبنة الحكيمة حينما ترتبط بالزواج المقدس مع شريك حياتها فتجعل من العائلتين عائلة واحدة، وهي تبني كذلك ليس بشكل بسيط معتاد بل كما تبني أعظم المباهي وأجملها وهي الهياكل ذاتها. ويصف الخير الموجود فإذا المخازن القروية مملوءة بأنواع الحبوب على أصنافها لحياة الإنسان والحيوان. كما أن الأغنام هي كثيرة حتى تعج الشوارع بسيرها فيها. وكذلك فالبقر هي منتجة أيضاً بكثرة دون أن يصيبها ضرر من أمراض وأوبئة كما تصيب الأنعام والماشية في مختلف أنحاء بلدان الشرق حتى اليوم أيضاً. كما أنها محمية من الله فلا تهجم عليها الوحوش الضارية وتفتك بها لأن الله قد باركها وهكذا يكون الخير في الشوارع بدلاً من التذمر والشكوى.
وأخيراً في العدد ١٥ يطوب هذا الشعب الذي ينال مثل هذا الخير العميم إن من جهة البنين والبنات أو الغلال والمواسم أو الغنم والماشية وهذا منتهى الكرامة والغنى حسب العادات الشرقية منذ القديم إلى الآن - هو شعب مخصص لله لذلك ينال حظا سعيداً موفوراً وتكون له النعمة كاملة عميقة (راجع مزمور ٣٢: ١٢).


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْخَامِسُ وَٱلأَرْبَعُونَ


تَسْبِيحَةٌ لِدَاوُدَ


«١ أَرْفَعُكَ يَا إِلٰهِي ٱلْمَلِكَ، وَأُبَارِكُ ٱسْمَكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٢ فِي كُلِّ يَوْمٍ أُبَارِكُكَ، وَأُسَبِّحُ ٱسْمَكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٣ عَظِيمٌ هُوَ ٱلرَّبُّ وَحَمِيدٌ جِدّاً، وَلَيْسَ لِعَظَمَتِهِ ٱسْتِقْصَاءٌ».
هذا المزمور هو تسبيحة لله الملك المنعم الجواد ويحمل اسم داود في عنوانه. ومما نلفت إليه الأنظار هو أن هذا المزمور هو الوحيد الذي يحمل كلمة «تهله» العبرانية. وجمعها «تهاليم» وهي المزامير بالذات. وهو من تلك المزامير المرتبة حسب أحرف الهجاء كما رأينا من قبل المزمور المئة والتاسع عشر وغيره كالمزمور المئة والثامن والثلاثين وهو يتناول موضوعين هامين الأول عناية الله بخلائقه. والثاني صلاح الله وبرّه. وقد قال باكيوس عنه أنه يحوي طلب البركة وتقديم الشكر لله على إنعاماته فيتعلمه أولادنا قبل أي وجبة للطعام. وهذ المزمور هو الذي كان تستعمله الكنيسة المسيحية للشكر لدى وجبة الغداء. كما أنها تستعمل العدد الخامس عشر منه لدى ممارسة الشركة المقدسة.
والمزمور يحوي واحداً وعشرين بيتاً وينقص حرف النون من أحرف الهجاء العبرية هي اثنان وعشرون حرفاً وكل بيت مؤلف من شطرين كما نلاحظ.
(١ - ٣) بداءة هذا المزمور هي مألوفة عندنا وتذكرنا (بالمزمور ٣٠: ٢) كما تذكرنا بالمزامير الهجائية المملوءة بالحمد والتسبيح والشكر كما في (مزمور ٣٤: ٢). وهو يدعو الله الملك كما في (المزمور ٢٠: ١٠ وأيضاً ٩٨: ٦). أما إذا كان المؤلف ملكاً أيضاً فتكون هذه التسبيحة أعمق وأعظم إذ يتكلم عن اختبار شخصي ويضع نفسه تحت تصرف هذا الملك الإلهي الذي هو ملك الملوك ورب الأرباب. وحينما يخاطب هذ الملك القدير يبارك اسمه إلى الدهر والأبد أي على الدوام فينسى حدود الزمان مع هذا الإله الذي لا ابتداء أيام له ولا نهاية. وقد ذهب البعض أن من جملة البراهين على الخلود هو هذا الاشتياق الروحي بأن ينصرف الإنسان لله بالتسبيح والتمجيد إلى الأبد ويشارك بذلك الملائكة العلويين.
وليس لعظمته استقصاء أي لا يصل إلى عمقها (راجع إشعياء ٤٠: ٢٨ وأيوب ١١: ٧ وما يليه). فالإنسان يستطيع أن يصل إلى الظواهر فقط ولا يرى كنه الأشياء فكم بالأحرى أن يفهم أسرار الله ويدرك مدى تلك العظمة الإلهية.
«٤ دَوْرٌ إِلَى دَوْرٍ يُسَبِّحُ أَعْمَالَكَ، وَبِجَبَرُوتِكَ يُخْبِرُونَ. ٥ بِجَلاَلِ مَجْدِ حَمْدِكَ وَأُمُورِ عَجَائِبِكَ أَلْهَجُ. ٦ بِقُوَّةِ مَخَاوِفِكَ يَنْطِقُونَ، وَبِعَظَمَتِكَ أُحَدِّثُ. ٧ ذِكْرَ كَثْرَةِ صَلاَحِكَ يُبْدُونَ، وَبِعَدْلِكَ يُرَنِّمُونَ. ٨ اَلرَّبُّ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ. ٩ ٱلرَّبُّ صَالِحٌ لِلْكُلِّ، وَمَرَاحِمُهُ عَلَى كُلِّ أَعْمَالِهِ. ١٠ يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ أَعْمَالِكَ، وَيُبَارِكُكَ أَتْقِيَاؤُكَ».
(٤ - ٧) أما هذه العظمة فقد اخبر بها الأنبياء ورآها الراؤون ولو شيئاً من أمجادها وكانت النتيجة أنهم سبحوا أعمال الرب وأخذوا يخبرون بقوته وسلطانه إلى كل الزمان. فالآباء بدورهم يخبرون ابناءهم وهؤلاء يخبرون من يأتي بعدهم على التوالي إلى أن يعم معرفة الرب كل بني شعبه. وهكذا فالناظم بدوره لا ينفك يسبح هكذا ويخبر الآخرين بهذا الجلال الإلهي ويذيع تلك العجائب التي أثبتت للملإ أن الرب هو الله وحده وهو ملك العالمين مما في السماء وما على الأرض. هو الغالب الذي ينتصر على كل شيء حتى أن كل الأشياء ترتعد أمام الرب لأنه هو مرجعها الأخير الوحيد ولذلك فالشاعر يحدث بهذه العظمة وينطلق لسانه بالكلام عنها غير هياب بل يؤدي رسالة لا يستطيع كتمانها زماناً طويلاً ومما يقابل هذه العظمة الإلهية إنما الصلاح والعدل. وعلى الناس أن يعترفوا بذلك ويبدوه للآخرين ويرنموا به فرحين مبتهجين وليس فقط أن يعترفوا بعظم الرب وقدرته.
(٨ - ١٠) يأتي الآن لأوصاف الرحمة التي يتصف بها (راجع مزمور ١٠٣). والتي تظهر لنا بصورة لا تقبل أدنى شك أنه إذا غضب على الإنسان فغضبه ليس للانتقام ولكنه لإرجاع الخاطئ عن شروره. هي محبة ورحمة وحنان لا تفصل أحداً من الناس إلا الذي فصل نفسه بملء مشيئته واختياره. لذلك فهو صالح للكل ورحمته تشمل الجميع وتخبر بأجلى بيان عن مدى هذه المحبة وعظمتها. بل أن الإنسان الذي يخاف الله عن محبة وعمق اختبار لهذه المراحم يتوجب عليه أن يخبر الآخرين أيضاً الذين لا يرون بعيونهم هذه العظمة ولا يسمعون بآذانهم ما تقدمه لهم من معان. على الأتقياء واجب يؤدونه نحو غير الأتقياء إذ يقودونهم للرب الإله الذي يستحق كل حمد وبركة.
«١١ بِمَجْدِ مُلْكِكَ يَنْطِقُونَ وَبِجَبَرُوتِكَ يَتَكَلَّمُونَ، ١٢ لِيُعَرِّفُوا بَنِي آدَمَ قُدْرَتَكَ وَمَجْدَ جَلاَلِ مُلْكِكَ. ١٣ مُلْكُكَ مُلْكُ كُلِّ ٱلدُّهُورِ، وَسُلْطَانُكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ١٤ اَلرَّبُّ عَاضِدٌ كُلَّ ٱلسَّاقِطِينَ وَمُقَوِّمٌ كُلَّ ٱلْمُنْحَنِينَ. ١٥ أَعْيُنُ ٱلْكُلِّ إِيَّاكَ تَتَرَجَّى، وَأَنْتَ تُعْطِيهِمْ طَعَامَهُمْ فِي حِينِهِ. ١٦ تَفْتَحُ يَدَكَ فَتُشْبِعُ كُلَّ حَيٍّ رِضىً. ١٧ ٱلرَّبُّ بَارٌّ فِي كُلِّ طُرُقِهِ وَرَحِيمٌ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ».
(١١ - ١٣) وهذا الاعتراف يجعلونه شاغلهم وديدنهم لا ينون في تأديته ولا يتراجعون حتى يعم الاعتراف بالرب في كل مكان وحتى يقبل الجنس البشري بجملته إلى هذه المعرفة حت يعم ملكه المجيد كل العالم. فهم ينطقون بالتمجيد ويتكلمون بالجبروت الإلهي حتى لا يكون تمجيد للإنسان بل لله وهكذا يقلع البشر عن جهلهم وغوايتهم بالقوة ويعترفون بها لله وحده القوي الجبار. وفي العدد الثاني يكرر الفكرة التي وردت في العدد العاشر ولكن بأكثر بيان وأعظم بلاغة. والواجب على المؤمنين ليس أن يعرفوا فقط بل أن يعرّفوا. ليس أن يعتقدوا هم فقط بل يجعلون الناس معتقدين. وحينئذ يرى الناس أن هذا الملكوت هو لكل الدهور لا تغيير فيه ولا تبديل لا في الشخص الإلهي المعبود كما ولا في أمجاده العظمة أو سلطانه الذي يتداول على البشرية ولا يدول أبداً (راجع مزمور ٤٥: ١٨ وأستير ٩: ٢٨). هذا السلطان الذي يضم إليه كل الأشخاص والأشياء (راجع أفسس ١: ١٠ وأيضاً دانيال ٣: ٣٣ و٤: ٣ و٤: ٣١ و٣٤).
(١٤ - ١٧) ولأنه إله حنان ورحيم كما ورد في العدد ٨ لذلك فهو يظهر هذه السجايا الإلهية فيعضد الساقطين والبائسين حتى أنهم لا يترجون سواه وهو لا يخيب سؤل قلوبهم إذ يمنحهم الطعام في حينه فلا يجوعون قط بل لهم شبع وسرور في كل شيء وكل حال. هذا الإله هو أب في بيته وسيّد في كل أعماله وكما تلتفت جميع العيون في البيت إلى صاحبه الأول هكذا تلتفت البشرية وجميع المخلوقات إلى الرضا الإلهي. هو يفتح يده دليل الكرم لأن قبض اليد دليل البخل. هذا الإله الذي يسلك في كل طرق بارة ويرحم في كل عمل يعمله.
«١٨ ٱلرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَهُ، ٱلَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِٱلْحَقِّ. ١٩ يَعْمَلُ رِضَى خَائِفِيهِ وَيَسْمَعُ تَضَرُّعَهُمْ، فَيُخَلِّصُهُمْ. ٢٠ يَحْفَظُ ٱلرَّبُّ كُلَّ مُحِبِّيهِ، وَيُهْلِكُ جَمِيعَ ٱلأَشْرَارِ. ٢١ بِتَسْبِيحِ ٱلرَّبِّ يَنْطِقُ فَمِي، وَلْيُبَارِكْ كُلُّ بَشَرٍ ٱسْمَهُ ٱلْقُدُّوسَ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ».
(١٨ - ٢١) وهو إله متنازل قريب في متناول كل إنسان على شرط أن ذلك الإنسان يدعوه بالحق ويخلص في دعواه من كل قلبه. لأنه يوجد أناس يدعون ولكنهم مراؤون يفعلون ذلك وقت مسيس الحاجة ثم بعد ذلك ينسون الله ولا يذكرونه أبداً. وهنا يشير إلى تلك الصلاة الحقيقية الخارجة من أعماق القلب والمعبرة عن نوايا الإنسان وأفكاره الداخلية وليس مجرد ما يدعيه (راجع إشعياء ٢١: ١٣). يجب أن تكون الصلاة بإيمان وحرارة واتكال حتى يستجيب الله حسب قصده وليس حسب ما يشاؤه الإنسان ذاته لأننا لا نعلم ما نصلي من أجله (راجع إشعياء ١٠: ٢٠ و٤٨: ١ وأيضاً راجع يوحنا ٤: ٢٣ وما بعده).
وهو يعمل ما يرضي خائفيه وهكذا يسمع التضرع ويخلّص وبالتالي يحفظ الذين يطلبونه بمحبة وإكرام كما أنه يرذل الأشرار لأنهم رذلوا أنفسهم وبالتالي يهلكهم لأنهم لم يعرفوا زمان افتقادهم ولم يتوبوا عن خطاياهم بل عاشوا في إثم وعناد وكان لهم الهلاك المحتوم. وأخيراً يصل للختام ويضع واجباً على فمه أن ينطق بالتسبيح (راجع تثنية ٣٢: ٤٣). فهو ينطق بالتسبيح بالنسبة لهذه الاختبارات الروحية الشخصية التي مرت عليه بل إنه يلتفت إلى الناس جميعاً - وهنا الأتقياء وغيرهم - ويطلب منهم ما هو واجب الخلائق نحو خالقهم الواحد العظيم أن يباركوا اسم الرب القدوس ولا يفترون في ذلك أبداً بل يستمرون عليه إلى الدهر والأبد (راجع زكريا ١٤: ١٩).


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّادِسُ وَٱلأَرْبَعُونَ


«١ هَلِّلُويَا. سَبِّحِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ. ٢ أُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ فِي حَيَاتِي. وَأُرَنِّمُ لإِلٰهِي مَا دُمْتُ مَوْجُوداً. ٣ لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى ٱلرُّؤَسَاءِ وَلاَ عَلَى ٱبْنِ آدَمَ، حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِنْدَهُ. ٤ تَخْرُجُ رُوحُهُ فَيَعُودُ إِلَى تُرَابِهِ. فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ نَفْسِهِ تَهْلِكُ أَفْكَارُهُ».
في هذا يبدأ سفر المزامير اقترابه من الختام ولذلك يضع أمامنا خمسة مزامير هللويا. ولا يستطيع القارئ أن ينكر العلاقة الكائنة بين هذا المزمور وبين سابقه الذي رأيناه مرتباً حسب أحرف الهجاء ولا سيما العدد الثاني في كلا المزمورين. وكذلك العدد الخامس وعلاقته في العدد الخامس عشر من المزمور السابق. ثم العدد السابع وعلاقته في العدد نفسه من المزمور السابق. بل أن تناسق الأفكار في الاثنين يوحي بأن المؤلف واحد.
ومما يجدر بالذكر أن هذه المزامير الخمسة الأخيرة كان الناس يستعملونها في العبادة الصباحية في الهيكل. وقد سماها بعض المفسرين بمزامير التهليل الإغريقية لكي يميزوها عن تلك المزامير الأخرى التي كانت تستعمل في خدمة الفصح وقد سميت «مزامير التهليل المصرية». وأما تاريخ كتابة هذا المزمور فمتأخرة وكل ما نعرفه أنها كتبت قبيل كتابة سفر المكابيين الأول وهو يصرف نظرنا عن الاتكال على الرؤساء والعظماء في العالم لكي نتكل على الله وحده.
(١ - ٤) بدلاً من أن يبدأ كلامه «بباركي» كما في المزمورين ١٠٣ و١٠٤ نجده يقول «سبحي» بعد ذكر الهللويا الأولى. يشعر المرنم بعمق الاختبار الروحي الذي يتكلم عنه في هذا التسبيح الذي يتفوه به الآن بل أن شعوره هذا يرافقه على مدى الحياة والوجود فهو إذن ليس عن إحساس ديني وقتي يأتي ويضمحل بل هو عمل حياة مكرسة لله. حالاً يأتي في العدد الثالث إلى تصريح شديد اللهجة يحمل في طياته مرارة ويعلمنا أن لا نتكل على الرؤساء وهذا يعود بنا إلى ما ورد في (مزمور ١١٨: ٨) وما يليه. هذا الإنسان مهما عظم وتكبر لا يخرج عن كونه ابن آدم الذي أخذ من تراب الأرض (راجع تكوين ٢: ٧ و٣: ١٩). وسوف يعود إلى التراب متى انتزعت روحه منه فكيف إذن يستطيع أن ينجي وهو ذاته ليس بمنجاة؟ وحينما يعود جثة هامدة لا يعود يستطيع التفكير أيضاً بل ينتزع منه كل شيء.
«٥ طُوبَى لِمَنْ إِلٰهُ يَعْقُوبَ مُعِينُهُ، وَرَجَاؤُهُ عَلَى ٱلرَّبِّ إِلٰهِهِ ٦ ٱلصَّانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ، ٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا. ٱلْحَافِظِ ٱلأَمَانَةَ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٧ ٱلْمُجْرِي حُكْماً لِلْمَظْلُومِينَ ٱلْمُعْطِي خُبْزاً لِلْجِيَاعِ. ٱلرَّبُّ يُطْلِقُ ٱلأَسْرَى. ٨ ٱلرَّبُّ يَفْتَحُ أَعْيُنَ ٱلْعُمْيِ. ٱلرَّبُّ يُقَوِّمُ ٱلْمُنْحَنِينَ. اَلرَّبُّ يُحِبُّ ٱلصِّدِّيقِينَ. ٩ ٱلرَّبُّ يَحْفَظُ ٱلْغُرَبَاءَ. يَعْضُدُ ٱلْيَتِيمَ وَٱلأَرْمَلَةَ. أَمَّا طَرِيقُ ٱلأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ. ١٠ يَمْلِكُ ٱلرَّبُّ إِلَى ٱلأَبَدِ، إِلٰهُكِ يَا صِهْيَوْنُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. هَلِّلُويَا».
(٥ - ٧) طالما لا عون يأتينا من البشر فمن هو المعين سوى الله ذاته. هذا الإله الذي يعيننا اليوم كما أعان يعقوب من قبل وهو الأب الأول الذي عاهد الرب عهداً أبدياً وقت هربه من أخيه عيسو ومنها جاءت الأسباط كلها (راجع مزمور ١١٩: ١١٦) إن البشر لا يعينون ولو كان باستطاعتهم أن يفعلوا ذلك بعض الأحيان إذ يكون المانع عدم الرغبة أكثر من عدم القدرة. ولكن ماذا يهم المؤمن الذي يترجى الرب الإله وحده. هو الصانع السموات والأرض والفاصل بين البحر واليابسة وخالق جميع ذوات الحياة من كبارها لصغارها إذ كان البشر يغيرون وعودهم وينكثون عهودهم فإن الرب وحده هو الذي يحفظ الأمانة ويجريها. وأول من يلتفت الرب إليهم هم المظلومون فيكون لهم عوناً في الضيقات ويخلصهم من يد الظالم ويطعمهم في الجوع ويفك أسراهم في العبودية.
(٨ - ٩) يتابع المرنم في هذه الأعداد ذكر عمل الرب المشجع المقوي فكما أنه لا يدع أحداً في الأسر بل يعتقه ويطلقه كذلك فهو الذي يفتح أعين العمي ويقوّم المنحنين ويحفظ الأبرار الصديقين. فهذا الرب لا يكتفي بتحطيم الأغلال عن الرقاب بل يأتي للإنسان نفسه ويعطيه الصحة والخير. ينظر إلى الغريب المنبوذ ويجد أنه في الله قد وجد صحبة كبيرة ومحبة أكيدة. كذلك فهو لا يتخلى عن اليتيم الذي لا معين له كما أنه لا يغفل عن الأرملة المكسورة الخاطر والجناح إذ هو عضدها أيضاً كما هو أب لجميع الأيتام (راجع مزمور ٢٠: ٩ و٣١: ١٢) ومن جهة أخرى فهو لا يرضى عن الأشرار ولا قبل طرقهم بل تكون نهاية طريقهم العوجاء إلى الهلاك والدمار (راجع مزمور ١: ٦).
هذا هو ملك الملوك بالمحبة للمساكين والغضب على الأشرار. لذلك انعمي بالاً وقري عيناً يا أمة الله ويا شعبه وسبحوا له هللويا.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّابِعُ وَٱلأَرْبَعُونَ


«١ سَبِّحُوا ٱلرَّبَّ، لأَنَّ ٱلتَّرَنُّمَ لإِلٰهِنَا صَالِحٌ. لأَنَّهُ مُلِذٌّ. ٱلتَّسْبِيحُ لاَئِقٌ. ٢ ٱلرَّبُّ يَبْنِي أُورُشَلِيمَ. يَجْمَعُ مَنْفِيِّي إِسْرَائِيلَ. ٣ يَشْفِي ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ وَيَجْبُرُ كَسْرَهُمْ. ٤ يُحْصِي عَدَدَ ٱلْكَوَاكِبِ. يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ».
ربما كان هذا المزمور من لهجة كلامه قد كتب في العصر الذي بعيد أيام عزراء ونحميا حينما كانت أسوار أورشيم قد بنيت ثانية وعادت الحياة إلى مجراها الطبيعي وأصبح الشعب يتمتع بالكرامة القومية والحرية. وهكذا أمكنهم الآن أن يدافعوا عن أنفسهم ويحموا ذواتهم بمقدرة وكفاءة. ولا بأس أن نذكر شيئاً من التاريخ هنا فإن عزرا الكاهن كان قد جاء إلى اليهودية في السنة السابعة من ملك ارتحشستا وهو ركتزر كسيس وقد اشتهر بالحلم على اليهود واللين. وبقيت سفرة عزريا خمسة أشهر وجلب معه نحواً من ألفين من المسبيين وأغلبهم من اللاويين وأخذ ينشر في البلاد تعاليم الشريعة الموسوية والرجوع إليها حتى جاء نحميا بعد ذلك بثلاث عشرة سنة وانصرف بالأحرى إلى ترميم أسوار أورشليم وكان ساقي الملك الخاص. وبعد أن انتهى كلا الرجلين جرت احتفالات شائقة لتكريم هذه الذكريات ويرجح أن هذه المزامير الأربعة الأخيرة كانت ترنم في تلك المناسبات.
ينقسم هذا المزمور إلى قسمين هما من (العدد ١ - ١١ وثم من العدد ١٢ - ٢٠). وقد حسب البعض أن الناظم قد اتخذ حادثاً طبيعياً كسقوط الثلج وشرع في نظمه وبعد ذلك أكمله.
(١ - ٤) يبدأ حالاً بالتسبيح للرب ويدعم كلامه بإثبات صواب ذلك أنه صالح ولاذّ ولائق (راجع مزمور ٣٣: ١). وأما الداعي لهذا التسبيح فهو أمران جوهريان الأول إعادة بناء أورشليم والثاني جمع المنفيين (راجع إشعياء ١١: ١٢ و٥٦: ٨).
هذا الرب الذي يشفي المنكسري القلوب ويجبر خواطرهم كما فعل بإرجاعهم من السبي فلا يتركهم ولا يتخلى عن أحبائه الصارخين إليه. وهذا الأمر لا يصعب عليه قط طالما يستطيع أن يعدّ النجوم ويحصي مراكزها ويدعوها بأسمائها. ولأول وهلة نجد علاقة قليلة بين الإنسان والنجوم إذ ينتقل فجأة من الواحد للآخر ولكن إذا فهمنا أن القصد هو إظهار محبة الله وعنايته الشاملتين يهون علينا الأمر كثيراً.
«٥ عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا وَعَظِيمُ ٱلْقُوَّةِ. لِفَهْمِهِ لاَ إِحْصَاءَ. ٦ ٱلرَّبُّ يَرْفَعُ ٱلْوُدَعَاءَ وَيَضَعُ ٱلأَشْرَارَ إِلَى ٱلأَرْضِ. ٧ أَجِيبُوا ٱلرَّبَّ بِحَمْدٍ. رَنِّمُوا لإِلٰهِنَا بِعُودٍ. ٨ ٱلْكَاسِي ٱلسَّمَاوَاتِ سَحَاباً، ٱلْمُهَيِّئِ لِلأَرْضِ مَطَراً، ٱلْمُنْبِتِ ٱلْجِبَالَ عُشْباً ٩ ٱلْمُعْطِي لِلْبَهَائِمِ طَعَامَهَا، لِفِرَاخِ ٱلْغِرْبَانِ ٱلَّتِي تَصْرُخُ. ١٠ لاَ يُسَرُّ بِقُوَّةِ ٱلْخَيْلِ. لاَ يَرْضَى بِسَاقَيِ ٱلرَّجُلِ. ١١ يَرْضَى ٱلرَّبُّ بِأَتْقِيَائِهِ، بِٱلرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ».
(٥ - ٦) هذا الإله العظيم الذي لا يحده زمان ولا مكان يستطيع أن يدرك أعظم الأشياء في الطبيعة وهي النجوم كما أنه لا يفوته أشد الأشياء غموضاً وهو قلب الإنسان وأسراره الخفية. لقد أوجد الأشياء الحقيرة التي تسبب ربما للإنسان والحيوان تعباً ومشقة ولكنه فعل ذلك بمقتضى حكمته التي لا نستطيع إدراكها (راجع إشعياء ٤٠: ٢٦ وأيضاً أيوب ٣٧: ٢٣) هو إله يرفع من يشاء ويخفض من يشاء. فهو يرفع الذين يتواضعون أمامه ولو كانوا في أشد حالات الضيق كما أنه يلتفت إلى الأشرار بالقصاص والنقمة وينزلهم عن مراتبهم ولو بلغوا حسب الظاهر أسمى الدرجات.
(٧ - ١١) يأخذ المرنم هنا التفاتة جديدة ويطلب أن يزيدوا الحمد والترنيم لهذا الإله الذي يغطي وجه السماء بالغيوم وهذه بدورها تعطي الأمطار للمزروعات وفي الوقت ذاته تنعش الأعشاب الموجودة في الجبال لأجل المراعي. وهكذا تشبع البهائم من الخير الذي يعطيه الرب ومن دسم الأرض التي باركها بالري الكافي. بل إن هذا الإله يعطي الطعام للحيوانات غير الأليفة كما لطيور البرية ويقدم مثلاً فراخ الغربان التي تصرخ والتي يشمئز الناس من نعيبها ولكن الله يطعمها ويقوتها أيضاً (راجع لوقا ١٢: ٣٤). وهكذا فإن عطاء الله الجواد لا يضع شروطاً سوى قبولها بالشكر والتمتع بها. ومن جهة أخرى فهو لا يرضى بالقوة والصلف لا فرق أكان من الخيالة أم الرجالة ولكنه يرضى بمن يرجو رحمته ويطلب نعمته ويعيش بموجبهما قائماً شكوراً (راجع مزمور ٣٣: ١٦ وما يليه وأيضاً عاموس ٢: ١٤).
«١٢ سَبِّحِي يَا أُورُشَلِيمُ ٱلرَّبَّ. سَبِّحِي إِلٰهَكِ يَا صِهْيَوْنُ. ١٣ لأَنَّهُ قَدْ شَدَّدَ عَوَارِضَ أَبْوَابِكِ. بَارَكَ أَبْنَاءَكِ دَاخِلَكِ. ١٤ ٱلَّذِي يَجْعَلُ تُخُومَكِ سَلاَماً، وَيُشْبِعُكِ مِنْ شَحْمِ ٱلْحِنْطَةِ. ١٥ يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ فِي ٱلأَرْضِ. سَرِيعاً جِدّاً يُجْرِي قَوْلَهُ. ١٦ ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلثَّلْجَ كَٱلصُّوفِ، وَيُذَرِّي ٱلصَّقِيعَ كَٱلرَّمَادِ. ١٧ يُلْقِي جَمْدَهُ كَفُتَاتٍ. قُدَّامَ بَرْدِهِ مَنْ يَقِفُ؟ ١٨ يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ فَيُذِيبُهَا. يَهُبُّ بِرِيحِهِ فَتَسِيلُ ٱلْمِيَاهُ. ١٩ يُخْبِرُ يَعْقُوبَ بِكَلِمَتِهِ، وَإِسْرَائِيلَ بِفَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ. ٢٠ لَمْ يَصْنَعْ هٰكَذَا بِإِحْدَى ٱلأُمَمِ، وَأَحْكَامُهُ لَمْ يَعْرِفُوهَا. هَلِّلُويَا».
(١٢ - ٢٠) يطلب من عباد الله وأتقيائه الذين اجتمعوا الآن آمنين في المدينة العظيمة. فسبحي إذن أيتها المدينة وزيدي التهليل ولا تتراجعي. لقد عادت المدينة إلى العمران بعد الخراب وتمتعت بالحرية بعد الاستعباد وعاشت برغد وهناء بعد أيام الذل والعبودية ويجدر إذن أن لا تمر هذه الفرصة دون تقديم الشكر الحقيقي (راجع نحميا ٧: ١ - ٤) هوذا بركة الرب الشاملة فقد شدد عوارض الأبواب حتى تفتح وتغلق كما يشاء أصحابها لا كما يشاء العدو (إشعياء ٦٠: ١٧) ولذلك يمكن للبلاد أن تعيش بأمن وسلام. فلا يعتدي أحد من الجيران على التخوم كما أن السكان في بحبوحة إذ يشبعون من الخيرات الفائضة إذ يأكلون لباب الحنطة وأفضل دسمها وأطيبه. بل هوذا كلمة الرب معروفة ومسموعة في كل مكان فلا يوجد من يستخف بها أو يرمي إرشادها جانباً. وهكذا تتمم فرائضه بسرعة ويتعرف شعبه على الشريعة بدقة وسهولة. هذا الإله الذي يسمح بالثلج والبرد والصقيع حتى تجمد الأرض كلها من أهوال الشتاء ولكن هذا إلى حين - وما أصدق هذا القول في هذه البلاد حيثما لا يطول وقت الثلوج والصقيع - وبعد ذلك تعود الأرض فتكتسي بحلل الربيع القشيبة حينما تذوب الثلوج كلها وتنعش ينبايع المياه التي هي سبب خير الأراضي في الربيع المتأخر والصيف والخريف.
لذلك فمن واجب هذه الأمة أن تعبد إلهها بأكثر حرارة وإخلاص وعلى نسبة هذا الشرف الخاص بين الأمم فليكن أيضاً عظمة الخدمة ومطاليبها من كل فرد (راجع تثنية ٤: ٧ وما يليه وأيضاً ٤: ٣٢ إلى ٣٤). فإذا كان بقية الأمم لم يعرفوا ذلك فلنعرفهم به ويكون الإيمان الحقيقي سبب خلاص كامل للعالم أجمع.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّامِنُ وَٱلأَرْبَعُونَ


«١ هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا ٱلرَّبَّ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ. سَبِّحُوهُ فِي ٱلأَعَالِي. ٢ سَبِّحُوهُ يَا جَمِيعَ مَلاَئِكَتِهِ. سَبِّحُوهُ يَا كُلَّ جُنُودِهِ. ٣ سَبِّحِيهِ يَا أَيَّتُهَا ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ. سَبِّحِيهِ يَا جَمِيعَ كَوَاكِبِ ٱلنُّورِ».
ينتقل المرنم الآن ليطلب التسبيح من جميع الخلائق ولا يستثني منهم أحداً مما في السموات وما على الأرض من إنسان وحيوان وجماد وما في البحار والأنهار وكل أسماكها وحيواناتها. ومما لا شك فيه أن أسمى شعائر الإيمان تظهر مقترنة في هذا المزمور بأوسع ما يحويه هذا الوجود. ويضع هذا المزمور أمام الكنيسة واجب قيادة البشرية في التسبيح والترنيم لله لئلا يمر الناس بهذه العظائم دون التفات كاف إليها ودون تقديم أسمى ما يكنه القلب البشري من التجلة والعبادة والإكرام. ودعوة المرنم لهذه الكائنات والمخلوقات كلها أن تعبد الرب هو من باب التجريد البياني فيجعلها كأنها أشخاص تنطق وتسبح حتى أن هذا الإنسان العاقل الناطق يقتدي بها ويأخذ منها عبراً ودروساً. وهكذا كإنما هذه الطبيعة كلها لتنطق بألف لسان ولسان بحمد الله وتسبيحه ولا تنفك تفعل ذلك حتى تعمّ معرفة الرب المسكونة بأجمعها وكل ساكنيها (راجع إشعياء ٤٤: ٢٣ و٤٩: ١٣ وقابله مع ٥٢: ٩). ويمكننا أن نقابل ما ورد في إشعياء ٣٥: ١ وما يليه و٤١: ١٩ و٥٥: ١٢) مع تلك الصورة الجليلة التي قدمها الرسول بولس (رومية ٧: ١٨ وما يليه).
(١ - ٣) ليأت التسبيح من أعالي السموات أولاً (أيوب ١٦: ١٩ و٢٥: ٢ و٣١: ٢). وهو يطلب التسبيح أولاً من الذين عملهم الأساسي هو تسبيح الله وتمجيده وهم الملائكة والأجواق العلوية. ومنهم فلتتعلم الشمس والقمر وجميع الكواكب التي ترسل أنوارها إلى كل مكان. وليكن هذا النور ذاته هو لغة التسبيح والتمجيد. حتى متى رأى الإنسان هذه الأمجاد العلوية يتخشع أمام الله ويخضع. ومتى اتحدت هذه الأجرام السماوية في حمدها تكون قدوة للأرضيين الذين يلتهون بما هو في مقدور أبصارهم الضعيفة الكليلة. وهل يجوز أن يتلهوا بالظلمات عن النور؟ أو بالعاجل عن الآجل؟
«٤ سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَيَا أَيَّتُهَا ٱلْمِيَاهُ ٱلَّتِي فَوْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ. ٥ لِتُسَبِّحِ ٱسْمَ ٱلرَّبِّ لأَنَّهُ أَمَرَ فَخُلِقَتْ، ٦ وَثَبَّتَهَا إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ، وَضَعَ لَهَا حَدّاً فَلَنْ تَتَعَدَّاهُ. ٧ سَبِّحِي ٱلرَّبَّ مِنَ ٱلأَرْضِ يَا أَيَّتُهَا ٱلتَّنَانِينُ وَكُلَّ ٱللُّجَجِ. ٨ ٱلنَّارُ وَٱلْبَرَدُ، ٱلثَّلْجُ وَٱلضَّبَابُ، ٱلرِّيحُ ٱلْعَاصِفَةُ ٱلصَّانِعَةُ كَلِمَتَهُ، ٩ ٱلْجِبَالُ وَكُلُّ ٱلآكَامِ، ٱلشَّجَرُ ٱلْمُثْمِرُ وَكُلُّ ٱلأَرْزِ، ١٠ ٱلْوُحُوشُ وَكُلُّ ٱلْبَهَائِمِ، ٱلدَّبَّابَاتُ وَٱلطُّيُورُ ذَوَاتُ ٱلأَجْنِحَةِ».
(٤ - ٦) أما سماء السموات فما هي إلا أقاصي السموات (راجع تثنية ١٠: ١٤ و١ملوك ٨: ٢٧). أما المياه التي فوق السموات فهي تلك الأمطار التي تنزل من الأعالي والتي كانت تحسب موجودة هناك وتنزل على الأرض متى انشقت السحب عنها. وبالطبع لم يكن شيء من التفسيرات عن تكثف البخار المائي ما يعرفه عامة الناس اليوم. والناظم لا يهمه قط هذه التفسيرات التي نسميها علمية الآن بل جل همه أن يجعل هذه السموات وما فيها أن تنطق بحمد العلي اسمه وتسبيح. من واجبها أن تسبّح اسم الرب لأنها مخلوقة كبقية المخلوقات. هذا الإله القدير قد وضع حدوداً لكل شيء حتى أن هذه السموات نفسها لن تتعداها بل تخضع لها وتتمشى بموجب ترتيبات القدير.
(٧ - ١٠) وهنا ينزل من السماء وما تحتويه فيصل إلى الأرض وما يسكنها وما يعيش على خيراتها. وأول الأشياء هي تلك المخلوقات الكبيرة الضخمة وربما كانت الحيتان والدلافين وما أشبه التي عاشت في البحار واللجج الكبيرة. أو هي التماسيح والسلاحف المائية أو حصان البحر وما أشبه. بعد ذلك يلتفت إلى النار والدخان اللذين تقذفهما البراكين كما يذكر البرد والثلج والضباب الذي يغطي وجه الأرض. وكذلك الريح الشديدة التي تزمجر فكأنها تنطق بكلمة الله بل يتوجب على الجبال العالية كما وعلى الآكام الصغيرة أن تشترك بهذا التسبيح. وحينئذ ما على سطحها من أشجار الأرز أو الأشجار المثمرة وقد تكون الكستناء والتفاح وما أشبه أو هي كروم العنب والتين وهذه الأشجار الأخيرة هي المعروفة في هذه البلاد منذ أقدم العصور. بل يجب التسبيح من كل حيوانات البرية من دبابات وطيور.
«١١ مُلُوكُ ٱلأَرْضِ وَكُلُّ ٱلشُّعُوبِ، ٱلرُّؤَسَاءُ وَكُلُّ قُضَاةِ ٱلأَرْضِ، ١٢ ٱلأَحْدَاثُ وَٱلْعَذَارَى أَيْضاً، ٱلشُّيُوخُ مَعَ ٱلْفِتْيَانِ، ١٣ لِيُسَبِّحُوا ٱسْمَ ٱلرَّبِّ لأَنَّهُ قَدْ تَعَالَى ٱسْمُهُ وَحْدَهُ. مَجْدُهُ فَوْقَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتِ. ١٤ وَيَنْصِبُ قَرْناً لِشَعْبِهِ، فَخْراً لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ، لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلشَّعْبِ ٱلْقَرِيبِ إِلَيْهِ. هَلِّلُويَا».
(١١ - ١٤) وينتقل إلى أعاظم الأرض لأجل المقابلة بين أبسط المخلوقات من حيوانات ودبابات وبين الملوك والقضاة والذين بأيديهم زمام الأمور يحلون ويربطون. ولا يكتفي بهؤلاء فقط بل يريد عامة الناس فينظر أولاً إلى الذين هم في عنفوان الشباب وأول العمر من كلا الجنسين كما وإلى الإنسان في اكتمال الحياة كما ينظر للشيوخ وللفتيان. فلا يقول هؤلاء الفتيان إن الوقت متسع أمامنا ويؤخرون التسبيح ويؤجلونه. عليهم أن يفعلوا ذلك بالنسبة للاختبارات الروحية التي يجب أن تشغلهم وتقدس حياتهم لا فرق أفي أولها أو في آخرها. وهذا الإله مستحق كل الحمد لأن اسمه وحده هو أعلى الأسماء ومجده يملأ الأرض والسماء. ولكن هذا الإله الممجد من كل المخلوقات. هذا ينصب قرناً لشعبه (راجع مزمور ١٣٢). وقد ذهب البعض لتفسير ذلك بأنه يعطيهم ميراثاً ولكن القرن هو دليل القوة والسطوة فلا تنبت القرون في الحيوانات إلا بعد أن تستكمل نموها ومقدرتها وهكذا فإن الله يعطي شعبه مركزاً عالياً بين الشعوب حتى يفتخر الأتقياء من بني إسرائيل الذين يقتربون إلى الله بالعبادة والورع وهكذا فيرنموا على الدوام هللويا. هم قريبون إليه بالمواعيد والمراحم (راجع لاويين ١٠: ٣ وقابله مع مزمور ١٤٣: ١٠ و٧٨: ٤٩).
هذا هو إسرائيل كما ورد في (تثنية ٤: ٧) يعرف مركزه الممتاز من عناية الله وترتيب حكمته ويقود الخليقة كلها بالبر والقداسة حتى تمتلئ الأرض والسموات وكل ما فيها من مجده تعالى.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلتَّاسِعُ وَٱلأَرْبَعُونَ


«١ هَلِّلُويَا. غَنُّوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَتَهُ فِي جَمَاعَةِ ٱلأَتْقِيَاءِ. ٢ لِيَفْرَحْ إِسْرَائِيلُ بِخَالِقِهِ. لِيَبْتَهِجْ بَنُو صِهْيَوْنَ بِمَلِكِهِمْ. ٣ لِيُسَبِّحُوا ٱسْمَهُ بِرَقْصٍ. بِدُفٍّ وَعُودٍ لِيُرَنِّمُوا لَهُ».
تسبيح لاسم الرب الذي يعطي الغلبة والانتصار لشعبه وقد حسب بعض آباء الكنيسة إن هذا المزمور قد كتب في أيام المكابيين ولكن كثيرين من المفسرين يعزونه كالمزامير السابقة إلى تلك الأيام التي فيها أستتب الأمن والطمأنينة في البلاد على عهد عزرا ونحميا. والأرجح أن كاتب هذا المزمور هو الكاتب ذاته الذي كتب المزمور سابقه.
ومما هو جدير بالذكر أن بعض الناس في التاريخ قد اتخذوا الكلمات الواردة في هذا المزمور وكتبوها بالدم وقد فهمه الأمراء الكاثوليك أن ينهضوا للانتقام من الإنجيليين وأشعلوا حروب الثلاثين سنة في أوربا. كما أن توما منزر الإنجيلي قد أثار الفلاحين بواسطة هذا المزمور لكي ينتقضوا على أسيادهم في ألمانيا. وقد فات الكثيرين قول العهد الجديد إن سلام المسيحي هي في الروحيات فقط (راجع ٢كورنثوس ١٠: ٤).
(٢ - ٣) طالما أن الأمة تأخذ لنفسها قوة جديدة وتنشأ بعزم وطيد عليها أيضاً أن ترنم ترنيمة جديدة لكي تتناسب مع ما فيها من أفراح. ولتكن هذه النتيجة للتعبيرعما يخالج القلب البشري من عواطف روحية سامية. وليكن هذا الفرح لأن الله هو الخالق كما أنه هو الملك لشعبه وليفعلوا ذلك مستعنين بالرقص لكي يكمل ابتهاجهم بتلك الحركات الجسدية المنتظمة المرافقة كما بواسطة تلك الآلات الموسيقية التي تساعد على التسبيح كالعود. الدف يستعمل عادة للرقص لكي يساعد حركة الرجلين وبقية أعضاء الجسد وإنما العود فيساعد على ضبط النغم وقيادة المرنمين في إيصال تلك النغمات الحلوة إلى أعذب تعبير.
«٤ لأَنَّ ٱلرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِهِ. يُجَمِّلُ ٱلْوُدَعَاءَ بِٱلْخَلاَصِ. ٥ لِيَبْتَهِجِ ٱلأَتْقِيَاءُ بِمَجْدٍ. لِيُرَنِّمُوا عَلَى مَضَاجِعِهِمْ. ٦ تَنْوِيهَاتُ ٱللّٰهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ. ٧ لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً فِي ٱلأُمَمِ، وَتَأْدِيبَاتٍ فِي ٱلشُّعُوبِ. ٨ لأَسْرِ مُلُوكِهِمْ بِقُيُودٍ، وَشُرَفَائِهِمْ بِكُبُولٍ مِنْ حَدِيدٍ. ٩ لِيُجْرُوا بِهِمِ ٱلْحُكْمَ ٱلْمَكْتُوبَ. كَرَامَةٌ هٰذَا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ. هَلِّلُويَا».
(٤ - ٩) كيف لا يفعلون ذلك طالما الرب راضٍ عن شعبه ويريد أن يباركهم بناء على طاعتهم وإخلاصهم. وفي الوقت ذاته يتضع هؤلاء المتعبدون أمام الرب فلا يظهرون الكبرياء والتعظيم لئلا يسقطوا ولا يكون فرحهم كاملاً. إن كانوا في فرح فذلك لأنهم قد نالوا خلاص الرب فليس الخلاص منهم ولا يتمتعون بالمجد كأنهم هم الذين سببوه. فهم فقط يبتهجون ويفرحون لأنهم يشكرون بما ينعمون به وهذا دليل على أتم وجه. يفعلون ذلك و هم ينوهون باسم الرب ولا يمنعهم ذلك عن أن يهجموا على الأعداء والسيوف في أيديهم كما يفعل الفاتحون قديماً وحديثاً إذ يرون أنهم يفعلون ذلك بأمر الرب. ولا يغرب عن بالنا حادثة قسطنطين وانتصاره في المعركة بواسطة شارة الصليب مما يجعله يعتنق المسيحية بعد ذلك. ولا شك في هذا ما فيه من الشيء وضده إذ أن الصليب هو قوة الله الغافرة المضحية لا علامة الانتصار والظفر بواسطة سفك دم الأعداء. والمرنم يرى أن ما يفعله الشعب الآن ما هو إلا للانتقام والتأديب لأن الله قد أقامهم من أجل ذلك وعليهم أن يفعلوه. ولا بأس إذن إذا أسروا الملوك وربما كانوا بقايا الكنعانيين أو حكام البلاد في ذلك العهد. وثم يضعون الشرفاء ويكبلونهم بتلك القيود الحديدية علامة الذل والهوان. فلا يبقى أي إنسان عاصياً أمر الرب أو متكبراً على شعبه. ذلك لأن هذا الترتيب هو مكتوب في أسفار الشريعة وما عليهم الآن سوى الإتمام. وليكن هذا بمثابة كرامة ينالها الأتقياء من المختارين فليحمدوا اسم الرب وليهتفوا هللويا لأن مجد الرب هو الذي وحده يجب أن يملأ السموات كلها والعالمين.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْخَمْسُونَ


«١ هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا ٱللّٰهَ فِي قُدْسِهِ. سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ. ٢ سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ. سَبِّحُوهُ حَسَبَ كَثْرَةِ عَظَمَتِهِ. ٣ سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ ٱلصُّورِ. سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ. ٤ سَبِّحُوهُ بِدُفٍّ وَرَقْصٍ. سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ. ٥ سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ ٱلتَّصْوِيتِ. سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ ٱلْهُتَافِ. كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ ٱلرَّبَّ. هَلِّلُويَا».
هذه هي الهللويا الأخيرة وهي تكرار مؤثر بديع وقد جاء معنا من قبل ذكر هذه الأصوات والآلات (راجع مزمور ١٤٩: ٣) ولا سيما استعمال الدف للرقص وذوات الأوتار لتحسين الغناء وزيادته روعة وعذوبة وجمالاً.
(١ - ٥) كل عدد من هذه الأعداد يبدأ بطلب التسبيح وإذا تمعنا بها جيداً نجد المواضيع الخاصة التي تدعونا لذلك. نسبح الله لأنه قدوس ولأنه القوي الكلي القدرة. ثم نسبحه على عجائبه التي يظهرها فيثبت أمام عيون الناس كم هو إله عظيم ولا حدود لمثل هذه الصفات الإلهية. لذلك لا عجب أن تشترك هذه الآلات الموسيقية بالتعبير عما يخالج النفس الداخلية. وأيضاً ليشترك الجسد كله بهذا التسبيح بواسطة الرقص كما لتشترك الأجواق مع تلك الآلات ذوات الأوتار. ثم أخيراً يطلب النجدة بالتصويت بواسطة الصنوج حتى أن الذين لا يعرفون الترنيم يستطعيون الهتاف على الأقل (راجع ١كورنثوس ١٣: ١). وهكذا يشترك الجميع ويفرح الجميع لأن الشيء المهم هو هذا الاشتراك المفرح الذي يعبر عما تكنه الصدور من عواطف وإحساسات.
(٦) وأخيراً يستنجد بكل ذي حياة فيه نسمة تستطيع أن تعبر أبسط تعبير عما تكنه في داخلها. هذه كلها فلتسبح للعلي الذي خلقها ولتعترف بمجده باللسان وبأجلى ما تستطيعه من بيان.
وقد تدرج هذا المزمور خمس درجات في طلب التسبيح فإذا به الآن ينتهي كل سفر المزامير الذي يلخص بأنه كتاب التسبيح للبشرية جمعاء بالنسبة لما يحويه من غنى وجمال وروعة. ولتشترك الأرض مع السموات وليتعلم كل إنسان أن يعترف بحمد هذا الإله الجواد الكريم الذي يطلب من براياه هذه العبادة الروحية السامية.

Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D - 70007
Stuttgart
Germany