اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلسَّبْعُونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ. مَزْمُورٌ لآسَافَ. تَسْبِيحَةٌ


«١ اَللّٰهُ مَعْرُوفٌ فِي يَهُوذَا. ٱسْمُهُ عَظِيمٌ فِي إِسْرَائِيلَ. ٢ كَانَتْ فِي سَالِيمَ مَظَلَّتُهُ، وَمَسْكَنُهُ فِي صِهْيَوْنَ».
هو مزمور حمد الله لأجل قضائه العادل على الشعوب والملوك. وهذا المزمور مع المزمور الخامس والسبعين سابقه يؤلفان وحدة متماسكة. إذ الأول ينبئ عن عدل الله وهذا الأخير يخبر كيف إن هذا العدل جار حكمه على العالم أجمع. وذكره لجبال السلب أي جبل عسير حيثما كانت تكثر عليه اللصوص وقطاع الطرق.
(١) إن اسم الله معروف في كلا يهوذا وإسرائيل فهو الإله القدير خالق السموات والأرض وعظمته لا حد لها ولا استقصاء. إذاً فكلتا المملكتين هما على دين واحد موروث عن الآباء والجدود ولا سيما فإن مملكة يهوذا وفيها أورشليم والهيكل العظيم لا شك كانت المركز الرئيسي لمثل هذه العبادة. واسمه عظيم بالنسبة لعظمة العجائب التي أتمها مع شعبه منذ القديم وإلى الآن. ولأن أورشليم هي ذات الأبواب الدهرية التي إذا انفتحت تنفتح لدخول الرب العظيم ملك المجد. ولأن الله يملك هناك لذلك فإن ملوكها هم أعظم الملوك أيضاً.
(٢) وأما ساليم فهي أورشليم نفسها باسمها القديم ليس إلا. حيثما كان ملكي صادق وحيثما كان أدوني صادق (يشوع ١٠: ١). في هذا العدد يستعمل المظلة وربما يكنى بها عن الخيمة أي حينما كانوا كالعرب الرحل يذهبون من مكان إلى آخر. وهذا إشارة إلى خيمة الاجتماع التي كان يوضع فيها تابوت العهد فيرافقهم الله من مكان إلى آخر. وقد بقيت هذه الخيمة وإن كانت قد استقرت بمركزها في أورشليم حتى أيام داود ولم يبن الهيكل إلا في أيام سليمان كما هو معلوم. والقصد من هذا أن الله إله إسرائيل قد رافق شعبه منذ القديم فسكن معهم في خيامهم كما أنه سكن معهم في الهيكل الذي أنشئ له بعد ذلك. فالشيء المهم أن الله هو مع شعبه لا يتركهم ولا يتخلى عنهم في أية الظروف والأحوال.
«٣ هُنَاكَ سَحَقَ ٱلْقِسِيَّ ٱلْبَارِقَةَ. ٱلْمِجَنَّ وَٱلسَّيْفَ وَٱلْقِتَالَ. سِلاَهْ. ٤ أَبْهَى أَنْتَ أَمْجَدُ مِنْ جِبَالِ ٱلسَّلَبِ. ٥ سُلِبَ أَشِدَّاءُ ٱلْقَلْبِ. نَامُوا سِنَتَهُمْ. كُلُّ رِجَالِ ٱلْبَأْسِ لَمْ يَجِدُوا أَيْدِيَهُمْ».
(٣) هنا يذكر السبب لماذا اسم الله عظيم ولماذا له هذا المجد والإكرام فيقول إن ذلك بالنسبة لأنه هناك ظهرت قوته العظيمة ومدى جبروته وسلطانه فقد سحق تلك السهام الطائرة في الهواء لكي تصل إلى قلوب الأعداء وهي تلمع من شدة بريقها لأنها مسنونة ومعدة للقتال. بل إن الله قد سحق المجن وبقية أنواع الأسلحة إذ لم يستطع الأعداء أن يصمدوا في وجه الرب الذي جاء لنجدة شعبه. وقوله «هناك» إشارة للمكان الذي جرى فيه كل هذا وهو الذي بعد حين مكان المجد والتكريم إذاً فتكريم اسم الله هو على نسبة فعله مع شعبه وما آتاهم به من نصر عظيم. وينهي الكلام بارتفاع الموسيقى لزيادة تمجيد اسم الله وتكريمه لأنه وحده يستحق السجود والعبادة إلى منتهى الدهور.
(٤) يقصد بجبال السلب هنا ربما الساكنين فيها أي المعتزين بقوتهم وجبروتهم أن سكان الجبال المعتادين على التغلب على الصعاب هم أشداء وأقوياء لا يهابون أحداً ولا يتورعون لدى أي الأعداء مهما عظم شأنهم. ولكن الله رب الجنود القدير هو أبهى منهم وأمجد وسلطانه يمتد إلى كل مكان وعلى البشر جميعهم أن يهابوا اسمه المجيد (راجع دانيال ٢: ٢٢ و١تيموثاوس ٦: ١٦). إن يهوه هو رب الجبال لذلك فهو يخضع جميع سكانها ويدوسهم تحت قدميه (إشعياء ١٠: ٣٤). والحق يقال لا شيء أبهى وأمجد من الجبال العالية المشرفة على كل ما حولها دليل السيادة والسلطان وهكذا فإن سكانها يعبزون بالأعالي.
(٥) هذا الإله القدير قد سلب أشداء القلوب والشجعان في القتال ولم يترك لهم مجالاً للافتخار بما لديهم من قوة وبطش. وهؤلاء الشجعان بدلاً من أن يواجهوا الخطر ويصدوه عنهم إذا بهم مدهوشون مما ألمّ بهم من ويلات فناموا نوم الاستكانة والضعف ولم ينهضوا. وكإنما لم يستطيعوا أن يحركوا أيديهم من هول ما يصادفون لأن الرعب الشديد قد تملكهم وهكذا شلت أيديهم عن أية حركة (انظر ناحوم ٣: ١٨). ربما هذه الأيدي كانوا قد رفعوها ضد أورشليم مهددين وإذا بها تقف عن الحركة (انظر يشوع ٨: ٢٠ و٢صموئيل ٧: ٢٧ كذلك راجع إشعياء ١٧: ١٣).
«٦ مِنِ ٱنْتِهَارِكَ يَا إِلٰهَ يَعْقُوبَ يُسَبَّخُ فَارِسٌ وَخَيْلٌ. ٧ أَنْتَ مَهُوبٌ أَنْتَ. فَمَنْ يَقِفُ قُدَّامَكَ حَالَ غَضَبِكَ؟ ٨ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَسْمَعْتَ حُكْماً. ٱلأَرْضُ فَزِعَتْ وَسَكَتَتْ ٩ عِنْدَ قِيَامِ ٱللّٰهِ لِلْقَضَاءِ، لِتَخْلِيصِ كُلِّ وُدَعَاءِ ٱلأَرْضِ. سِلاَهْ».
حتى أن الحركة الحربية إذا انتهرها الرب لا تعود تستطيع حراكاً بل تقف في مكانها ولا تفيد في الحرب والصدام شيئاً. وهنا إشارة إلى ما ورد في (خروج ١٥ وكذلك إشعياء ٤٣: ١٧). وكانت الحركة الحربية عندئذ أعظم معدات القتال. فبعد أن ذكر أن اليد لا تستطيع أن تبدي حراكاً في وجه قوة الرب كذلك فإن أعظم مظاهر القوة الحربية لا تستطيع شيئاً وهكذا يهلك الفارس والفرس وتتحطم المركبة ومن فيها. وقوله يسبّخ أي يقع في السباخ والأمكنة الموحلة المزلقة ولا تخرج للمعركة إذ هي لا تقدر أن تجر نفسها فتفقد قوتها كلها.
(٧) إذا راجعنا ناحوم ١: ٦ نرى النبي هناك يستنتج النتيجة نفسها من اندحار سنحاريب وهكذا يستخلص المرنم أيضاً. ذلك بالنسبة لأن الله مخوف ومهوب فكم بالأحرى ساعة غضبه حينئذ كل القوات الأرضية يجب أن ترتعب أمام وجهه (قابل راعوث ٢: ٧ وإرمياء ٤٤: ١٨). وقوله غضب الرب هو من قبيل الاستعارة وإلباس الأمور الإلهية بالصور البشرية ليس إلا إذ حاشا لله أن يغضب كما يغضب البشر. ولكن المرنم يرينا كم يهتم الله بشعبه حتى أنه يحميهم من كل أذى ومن الأعداء الأشداء مهما عظموا.
(٨) إذاً فإن السماء ليست بعيدة عن الأرض وليس الله ليسكن السماء ويترك الأرض وسكانها يفعلون كما يشاؤون إذ له كل السلطان أن يتداخل في أي شأن من الشؤون ولا يستطيع أحد أن يقول له ماذا تفعل أو يعترض على أحكامه. وحينما يصدر الله حكمه إذا بالأرض كلها تفزع وترتعب وتهدأ ساكنة لا تبدي حراكاً ولا تحير جواباً طالما القدير يتكلم.
(٩) يعود المرنم للفكرة الأساسية أن الله يدين الأرض كلها وله الحكم والقضاء. وغايته من مداخلته هذه هي التخليص فإن الودعاء والمساكين لا يعود الظالمون يسحقونهم بأي ظلم ولا يستطيع المستعبد أن يتصرف كما يشاء طالما يوجد إله يحاسب أخيراً. وهنا ترتفع الموسيقى مرة أخرى والمعنى في ذلك لكي يطمئن كل إنسان للنتائج التي يتوقعها فإن العدل الأساسي للكل لا بد أن يجري وما علينا سوى التريث والانتظار (انظر إشعياء ٣٣: ١٠ و٣٣: ٢).
«١٠ لأَنَّ غَضَبَ ٱلإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ ٱلْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا. ١١ اُنْذُرُوا وَأَوْفُوا لِلرَّبِّ إِلٰهِكُمْ يَا جَمِيعَ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ. لِيُقَدِّمُوا هَدِيَّةً لِلْمَهُوبِ. ١٢ يَقْطِفُ رُوحَ ٱلرُّؤَسَاءِ. هُوَ مَهُوبٌ لِمُلُوكِ ٱلأَرْضِ».
(١٠) إن غضب الإنسان يحمد الرب أي أنه يسبب مجداً للرب إذ لا يضطر الرب أن يبالي بمثل هذا الغضب فيعود على صاحبه بالويل وتكون النتيجة أن الله يتمجد بانخذال الإنسان الغضبان الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً ضد اسم الله. وحينئذ فإن غضب الرب يظل متقداً على ذلك الإنسان الذي يكون قد انطفأ غضبه ولم يفده شيئاً وإذا بالرب يجازي الإنسان على نسبة أفعاله الرديئة التي لا ترضيه تعالى. إذاً فزيادة الغضب هذه تكون واسطة لمجد الرب الذي يظهر قدرته وجبروته كديان عادل للعالمين.
(١١) هؤلاء الذين كانوا في ضيق ونذروا للرب نذوراً لأجل تخليصهم عليهم أن يوفوها. إذ لا يجوز أن يكون هناك نذور في أوقات الشدائد والضيقات ثم ننسى كأن لم يكن شيء. وهكذا فالمتدين بالحق هو الذي يذكر الرب في كل حين وليس على نسبة المصلحة الوقتية. فالديانة العميقة هي تلك التي لا تتغير مع الظروف ولا تتبدل في أية الأحوال. وهكذا من الواجب أن يقدموا عربون الشكر والاعتراف بالجميل لهذا المخلّص الذي نجا شعبه بواسطة هيبته وعظمته وسلطانه التي تخضع لها جميع الشعوب.
(١٢) ذلك لأنه هو المتسلط الحقيقي وحده فليس الرؤساء رؤساء إلا على نسبة ما يسمح به وإلا فهو يقبض أرواحهم ويعود بهم للعدم ولا يحسبون شيئاً. وهو الذي له كل الهيبة والوقار (إشعياء ٨: ١٣). وهوذا قضاء الله يجري على أشور وكوش (إشعياء ١٨). وكذلك فإتمام النبوءة (٢أخبار ٣٢: ٢٣). إن الله لا يرضى عن أي المتصلفين المتكبرين أو المستبدين الظالمين وبعد أن يغلب كل قوى الشر حينئذ تخضع كل الممالك للرب ولمسيحه.

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلسَّبْعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «يَدُوثُونَ». لآسَافَ. مَزْمُورٌ


«١ صَوْتِي إِلَى ٱللّٰهِ فَأَصْرُخُ. صَوْتِي إِلَى ٱللّٰهِ فَأَصْغَى إِلَيَّ. ٢ فِي يَوْمِ ضِيقِي ٱلْتَمَسْتُ ٱلرَّبَّ. يَدِي فِي ٱللَّيْلِ ٱنْبَسَطَتْ وَلَمْ تَخْدَرْ. أَبَتْ نَفْسِي ٱلتَّعْزِيَةَ. ٣ أَذْكُرُ ٱللّٰهَ فَأَئِنُّ. أُنَاجِي نَفْسِي فَيُغْشَى عَلَى رُوحِي. سِلاَهْ».
يتمنى المرنم في هذا المزمور أن يهرب من ويلات الحاضر ومتاعبه وضيقاته لكي ينعم بالاً بالماضي السعيد الذي يمدحه ويمجده. ولا يخلو تمنيه هذا من توجع من الآلام التي يعانيها فهو في انكسار قلب ربما لأسباب شخصية حدثت معه ولكنه بكبر نفس وسمو أخلاق ينظر إلى أشياء أبعد من نفسه ويرى إصبع الله عاملة في تاريخ أمته بالأولى. وفي حاله هذه يشعر أن الله قد توارى عنه وحجب وجهه عن مساعدته يقابل ذلك كيف أن الله كان يساعد شعبه في القديم ويظهر لهم قدرته ويجزل عليهم مراحمه التي لا تستقصى. ولأن المرنم يهتم بشعبه الاهتمام كله فهو يشعر شعور الشعب كله ويضع نفسه مكانهم وقد يكون تعبيره عن أحزانه الشخصية بالنيابة عن شعبه ليس إلا فهو وإياهم واحداً على ما قد يظن أيضاً. ويذهب ديلتش إلى الحسبان أن هذا المزمور غير كامل وإن حبقوق ص ٣ نرى فيه إتمامه. ولكن الذين يدرسون المزامير الأسافية (نسبة لآساف) يلاحظون أن ختام الكثير من هذه المزامير مقتضب وكان الفكر ينتظر إيضاحاً أكثر. إذ أنه يعود بالذاكرة إلى أعظم الحوادث في فاتحة تكوين الأمة الإسرائيلية أيام موسى وهارون. وفي هذه الخاتمة بلاغة وإيجاز لا نستطيع أن نمر بهما دون إعجاب وحسن تقدير.
(١) يبدأ المرنم بالصلاة الحارة إلى الله فهي أشبه بالصراخ. إذاً فهي بصوت عال مسموع ويكرر كلامه بالصلاة لكي يصغي الله إلى دعائه. والأفضل أن تترجم «صوتي إلى الله ليصغي إليّ». إذ أن القرينة تدل بعد ذلك أن الله لم يكن قد أصغى إليه بعد. أما واو العطف في النص العبراني فقد تكون للحالية ليس إلا. أي إنني أصرخ إلى الله وأنا أنتظر أن يصغي الله إليّ فهو إذاً لم يكن قد تأكد أن الله قد أصغى إليه حقيقة. أو قد يكون المعنى لقصد التوسل أي أن المرنم يصلي ويصرخ لله فيلتمس أن يصغي إليه.
(٢) يزيد في هذا العدد لجاجته بالصلاة ويخبرنا انه في ضيق لذلك فهو يصلي عن اندفاع وطلباً لسد حاجة نفسية ملحة. وقد رفع يديه بالصلاة الليلية وتكاد تخدران من كثرة الرفع على هذه الصورة طالباً ملتمساً ولا يتراجع عن ذلك طالما هو في هذه الضيقة العظيمة وطالما يعاني هذه الآلام النفسية الشديدة حتى لا يرى أي سبيل للسلوان أو التعزية. لا يرى سبيلاً لتحقيق أمانيه لذلك فهو في حالة الغم الشديد (راجع تكوين ٣٧: ٣٥ وإرميا ٣١: ١٥).
(٣) إذا ذكرنا الله فإنما ذلك بالأنين لأنه يرى أن الله قد حجب ذاته عنه فهو إذاً وحيد فريد في هذه الحياة. ولكثرة ما يعانيه يعود منكمشاً على نفسه يغشى عليه من شدة ما يعانيه ولأنه لا يتحقق مساعدة الله له فهو في حالة الضياع الكلي. ثم ينتهي بكلمة سلاه بالنسبة لعواطف الأحزان التي يعانيها.
«٤ أَمْسَكْتَ أَجْفَانَ عَيْنَيَّ. ٱنْزَعَجْتُ فَلَمْ أَتَكَلَّمْ. ٥ تَفَكَّرْتُ فِي أَيَّامِ ٱلْقِدَمِ، ٱلسِّنِينَ ٱلدَّهْرِيَّةِ. ٦ أَذْكُرُ تَرَنُّمِي فِي ٱللَّيْلِ. مَعَ قَلْبِي أُنَاجِي وَرُوحِي تَبْحَثُ. ٧ هَلْ إِلَى ٱلدُّهُورِ يَرْفُضُ ٱلرَّبُّ وَلاَ يَعُودُ لِلرِّضَا بَعْدُ؟».
(٤) يمكن إبدال كلمة أجفان بحراس فيقول لقد منعت حراس عينيّ من أن يطبقوا على العينين بالغفلة والنوم. أي أن المانع هو الله نفسه إذ أن المرنم وهو يديم تأملاته الروحية وصلاته يسهد أثناء الليل ولا يستطيع الرقاد. ومما زاد في عذابه هو أنه قد صمت أمام هذه النوائب حتى لا يحير جواباً. ولا شك أن الأحزان العظيمة تجعل الإنسان ساكتاً في الخارج من شدة ما يعانيه في الداخل.
(٥) هنا يترامى على أقدام الماضي مستعيناً مستنجداً وهو يفعل ذلك لأمرين على الأرجح:
الأول: يريد أن يتناسى الحاضر ويهرب من ويلاته وشروره على قدر إمكانه.
الثاني: إنه يريد أن يرى فيه دروساً قيمة لحالته الحاضرة. نعم إن ذكر الماضي بصورة متزنة معقولة يساعد الإنسان على تحسين حاضره ورفعه إلى مستوى أعلى. لا سيما متى كان ذلك الماضي كالتاريخ المقدس وما فيه من عجائب الله وآياته فالمرنم يدمج نفسه بكل ذلك ويعتز متفاخراً كما أنه يتحقق علاقته الوطيدة بذلك التاريخ كأحد أبنائه البررة المخلصين. هو الله إله الآباء والجدود ويظهر رحمته الدائمة للذراري (إشعياء ٤١: ٩).
(٦) في الوقت ذاته يذكر أيضاً أياماً هانئة سعيدة حينما كان يترنم في الليل بدلاً من أن ينحب بسبب بلاياه الكثيرة. كما أنه يتذكر أياماً أسعد لشعبه وأمته ويرى رأفة الله ورحمته. لذلك فهو يعيد لنفسه بالمناجاة الخفية بل يبحث في عقله وأفكاره وكل قوة روحه يقابل بين حاضره التاعس وذلك الماضي السعيد المجيد (راجع مزمور ١٦: ٧ و٤٢: ٩ و٩٢: ٣ وقابل ذلك مع أيوب ٣٥: ١٠) فبدلاً من فرحه وترنمه السابقين إذا به الآن في حالة التنهد والغشيان والحيرة الكلية.
(٧) وهنا يأتي للسؤال الخطير ويقول لنفسه ألا يرضى الله علينا؟ أيظل رافضاً لشعبه غير مكترث بمصيرهم؟ وفي هذا السؤال من طلب الرحمة والعفو ما يمس أعماق القلوب ويحننها على الحالة السيئة التي وصلوا إليها. وقال إلى الدهور ولم يكتف بدهر واحد للمبالغة حتى يكون الكلام أشد وقعاً في النفس وأعظم تحريكاً للعواطف.
«٨ هَلِ ٱنْتَهَتْ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتُهُ؟ هَلِ ٱنْقَطَعَتْ كَلِمَتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ؟ ٩ هَلْ نَسِيَ ٱللّٰهُ رَأْفَةً أَوْ قَفَصَ بِرِجْزِهِ مَرَاحِمَهُ؟ سِلاَهْ. ١٠ فَقُلْتُ: هٰذَا مَا يُعِلُّنِي: تَغَيُّرُ يَمِينِ ٱلْعَلِيِّ. ١١ أَذْكُرُ أَعْمَالَ ٱلرَّبِّ إِذْ أَتَذَكَّرُ عَجَائِبَكَ مُنْذُ ٱلْقِدَمِ».
(٨) هنا أيضاً تكرار لما ورد في العدد السابع يلتمس أن لا تكون قد انتهت رحمة الله فلا يعود يرحم أيضاً لا سيما وهم في أمس الحاجة لمثل هذه المراحم العظيمة. بل يسأل أيضاً وهل لا يعود فيرسل الله كلامه بفم عبيده الأنبياء لكي يشجعوا شعبه ويهدوهم في الطرق المستقيمة. هوذا قد مر دور أثر دور ولا يسمع أي تعليم روحي جديد وهذا الجديد الذي يذكر بالقديم لأنه مرتبط بحوادث تاريخية مقدسة يجب أن لا ينسوها أبداً.
(٩) هنا يزداد تساؤله وتشتد حيرته ويكاد ينسب لله النسيان. وأعظم النسيان هذا هو أن ينسى أن يمنح رأفة لطالبيها. قوله «قفص برجزه مراحمه» هو ترجمة حرفية غير موفقة - في نظري وأرى الترجمة اليسوعية جيدة فتقول «أم حبس على الغضب أحشاءه». ويريد المرنم أن يقول مؤكداً كلامه السابق هل نسي الله أن يترأف وهل عدم رأفته هذه بسبب غضبه علينا. فقد تراجع عنا وسد أحشاءه عن إغاثتنا. ثم ينتهي بقوله سلاه مرة أخرى بالنسبة لتعبيره عن عميق أسفه لهذه الحالة.
(١٠) هنا الترجمة على ما اعتقد موفقة تماماً رغماً عن أن هذا العدد صعب الترجمة من نصه العبراني. يقول إن سبب سقامه وعلته بل سبب أحزانه وآلامه هو أن الله العلي قد غيّر يده اليمنى عليه وعلى شعبه. أي إن الله قد ترك معاملته الأولى الحسنة وأتى الآن إلى معاملة أخرى وكانت النتيجة أن هذا التغيير قد سبب له انشغال البال إلى تلك الدرجة البعيدة حتى حرم الراحة والهناء ولازمه التعب والشقاء (راجع إرميا ١٠: ١٩).
(١١) لكي يترضى الله ويرجعه عن نسيانه لشعبه يقول إنني أنا (أي المرنم) أتذكر الأيام القديمة والعجائب التي تممت منذ ذاك الحين. هنا له تعزية أيضاً إذ أن خلاص الرب موجود في العصر الحاضر أيضاً. هنا يجدد عزيمته ويشحذ نشاطه فيكون التاريخ الماضي سبب سلامه القلبي الحاضر. وحينئذ فهذه الحالة تنتهي إلى خاتمة سعيدة مجيدة. ذلك لأن الله حاكم في مدى التاريخ كله لأنه هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد.
«١٢ وَأَلْهَجُ بِجَمِيعِ أَفْعَالِكَ وَبِصَنَائِعِكَ أُنَاجِي. ١٣ اَللّٰهُمَّ فِي ٱلْقُدْسِ طَرِيقُكَ. أَيُّ إِلٰهٍ عَظِيمٌ مِثْلُ ٱللّٰهِ! ١٤ أَنْتَ ٱلإِلٰهُ ٱلصَّانِعُ ٱلْعَجَائِبَ. عَرَّفْتَ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ قُوَّتَكَ. ١٥ فَكَكْتَ بِذِرَاعِكَ شَعْبَكَ، بَنِي يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ. سِلاَهْ».
(١٢) هو يلهج بأفعال الرب فهو يذكرها دائماً ويتحدث عنها في السر والعلن ويذيعها على الناس غير هياب من أحد. بل هو يذكر تلك الصنائع والأعمال الجبارة العظيمة ويضعها في نفسه أي يناجي بها نفسه. وهي حديثة لأنها أمور حدثت في الماضي ولها علاقة بالحاضر ودلالة عليه لكي تهدي هؤلاء الناس السالكين في هذه الأيام أيضاً. وهكذا فإن الله كما يقول النبي حبقوق يتمم خلاصه وسط السنين حتى يوصل الإنسان إلى نتائج مجيدة.
(١٣) أما طريق الله فهي طريق مقدسة أي إن أحكامه وأعماله كلها لا يمكن أن يعتز بها أي فساد أو زيغان. قد يغضب الله على شعبه ولكن غضبه طاهر ومقدس أيضاً. إذ غضبه هو لأجل الإصلاح وليس للتشفي والانتقام. وكيف لا يغضب على البشر وهم يعصون أوامره ويتعدون وصاياه مرة بعد أخرى (راجع خروج ١٥: ١١ وقابل هذا مع مزمور ٦٨: ٢٥). وهو إله لا مثيل له فأي الآلهة يقاس به إذا أحكامه كلها حق وعدل وإنصاف للجميع على السواء.
(١٤) كيف لا وهو الله الذي صنع ما صنع في القديم وستبقى آثاره خالدة على مرور الزمان. وقد أعلن ذلك بأعماله المتواصلة داعياً الجميع لكي يعترفوا به رباً ومخلصاً. إذاً فليس للشعوب أن يعتذروا أنهم غير داخلين في نطاق هذا الخلاص إذ أن الدعوة عامة والعجائب ظاهرة ومتواصلة وما على البشر سوى أن ينظروا وينتبهوا ويخضعوا.
(١٥) ولكن الله في نظر المرنم له رحمة خاصة يظهرها نحو شعبه فلا يطيق قط أن يراهم في أي أسر أو ضيق بل يفكهم ويطلقهم أحراراً على نسبة مؤهلاتهم وخدماتهم للبشرية جمعاء. يذكر يعقوب ويذكر يوسف أيضاً مع أنه ابنه لكي يعيد للذاكرة تلك الحوادث العظيمة حينما خلّص الله شعبه وأنقذهم من عبودية مصر وجعلهم يتمتعون بالحرية المنشودة (راجع خروج ٩: ١٦ و١٥: ١٤). مرة أخرى تضرب الموسيقى عالية لهذا التذكار الجليل.
«١٦ أَبْصَرَتْكَ ٱلْمِيَاهُ يَا اَللّٰهُ، أَبْصَرَتْكَ ٱلْمِيَاهُ فَفَزِعَتْ. اِرْتَعَدَتْ أَيْضاً ٱللُّجَجُ. ١٧ سَكَبَتِ ٱلْغُيُومُ مِيَاهاً. أَعْطَتِ ٱلسُّحُبُ صَوْتاً. أَيْضاً سِهَامُكَ طَارَتْ. ١٨ صَوْتُ رَعْدِكَ فِي ٱلزَّوْبَعَةِ. ٱلْبُرُوقُ أَضَاءَتِ ٱلْمَسْكُونَةَ. ٱرْتَعَدَتْ وَرَجَفَتِ ٱلأَرْضُ. ١٩ فِي ٱلْبَحْرِ طَرِيقُكَ، وَسُبُلُكَ فِي ٱلْمِيَاهِ ٱلْكَثِيرَةِ، وَآثَارُكَ لَمْ تُعْرَفْ. ٢٠ هَدَيْتَ شَعْبَكَ كَٱلْغَنَمِ بِيَدِ مُوسَى وَهَارُونَ».
(١٦) هنا إشارة في الأرجح لحادثة البحر الأحمر لا سيما والمرنم يذكر الأيام القديمة وعجائب الله وصنائعه العظيمة. حتى أن لجج المياه العميقة قد ارتعدت وفزعت. هنا أن الله قد أجرى حكمه على مصر وأخرج شعبه من أرض العبودية بذراع قوية ويد قديرة. وقوله أبصرتك المياه أي سكان المياه وقد يكون القصد من ذلك هو المجاز ليس إلا. ويستطيع الشاعر أن يتخيل ما يشاء فقد رأى بعض الظواهر الطبيعية وفسرها على هذه الصورة الوقورة.
(١٧) إنما المياه تعطي صوتاً حينما تنسكب على الأرض والوصف هنا لزوبعة قوية وهذه قد تحدث في فلسطين على حين غرة حينما لا يكون أحد ينتظرها. وقوله عن السهام فهي على الأرجح الصواعق التي تنصب من السماء وتسبب أضراراً وهلاكاً بعض الأحيان.
(١٨) هوذا فوق ذلك يذكر الأصوات المفزعة التي تسببها الرعود القوية. لذلك فهذا الرعد يستوقف السمع كما أن البروق تستوقف النظر وتجعل الإنسان يتذلل صاغراً أمام عظمة الطبيعة فكم بالأحرى أمام الله الذي أوجدها. لقد رجفت الأرض وارتعدت من هذه المظاهر التي يتعلم منها المرنم دروساً لحياته الروحية (راجع مزمور ٨٣: ١٤ وكذلك حزقيال ١٠: ١٣).
(١٩) إن طرق الله وسبله واضحة لا فرق أكانت في المياه أم على اليابسة فالسبب لأنه يريد أن يخلص شعبه وينجيهم فهو رفيقهم ومعينهم في أية المواقف وفي جميع الظروف والأحوال. ولا شك أن المياه كانت سبب عجب وروعة دائمين ولا سيما في الأيام القديمة (إرميا ١٨: ١٥). وأثاره لا تعرف لأن المياه تعود إلى حالتها الأولى وهكذا تختفي عن العيان كذلك فإن الله يعرف كل شيء ولكنه محجوب عن أبصار البشر جميعهم.
(٢٠) نأتي لختام هذا المزمور الذي قد نحسبه مثل قرار يمكن ترديده. إن الله نفسه هو الراعي لشعبه (عدد ٣٣: ١). وحينما يصل المرنم إلى هذه الصورة الجميلة ويرجع بالذاكرة إلى تلك الأيام القديمة إذا به يتوقف فجأة ولا يريد أن يتذكر حالته الحاضرة وويلاتها بل ينسى نفسه في تلك الروعة الأخاذة التي يسترسل فيها مؤمناً بالله وبعظمة قدرته وشمول عنايته.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلسَّبْعُونَ


قَصِيدَةٌ لآسَافَ


«١ اِصْغَ يَا شَعْبِي إِلَى شَرِيعَتِي. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ إِلَى كَلاَمِ فَمِي. ٢ أَفْتَحُ بِمَثَلٍ فَمِي. أُذِيعُ أَلْغَازاً مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. ٣ ٱلَّتِي سَمِعْنَاهَا وَعَرَفْنَاهَا وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا».
يسمّي أحد المفسرين هذا المزمور المرآة التاريخية لشعب إسرائيل منذ أيام موسى إلى داود إذ فيه قائمة مفصلة للآيات والعجائب التي صنعها مع شعبه. يختم المزمور السابق كلامه بأن إسرائيل هو رعية الله ويرعاها موسى وهارون أما في هذا المزمور فإن الراعي هو داود الذي أخذه الله من وراء الغنم وأقامه على شعبه ليرعاهم ويهديهم. وهذا المزمور مثل كل المزامير التي كتبها آساف يجعل الأفرايميين ذوي مكانة خاصة مرموقة من جميع الشعب. ومما هو جدير بالذكر أن المرنم ينبه الذهن للتخلص من خطايا الآباء والأجداد وتمردهم ويطلب من الجيل الحاضر يكونوا أفضل من أولئك. كما وأنه يذكر ذهاب خيمة شيلو إذ قام عوضاً عنها بيت داود وهكذا انتهى مجد بنيامين إلى الأبد ويوجد إشارة في العدد التاسع إلى انقسام المملكة بذهاب العشرة أسباط وهوذا الآن تعود هذه الأسباط لداود ونسله خاضعة ذليلة.
ينقسم المزمور إلى قسمين من العدد ١ - ٣٧ ثم من العدد ٣٨ إلى الآخر. ففي القسم الأول يذكر كثيراً من النقاط التاريخية والعجائب التي أتمها الله مع شعبه قديماً. ثم في القسم الثاني يذكر بني إسرائيل في حياتهم وسكناهم أرض كنعان وفي كلا القسمين نجد قلم كاتب ماهر جريء لا يتهيّب أن يسرد الحوادث ويعلق عليها بكل صرامة.
(١) هنا يبدأ الكلام كما يبدأه كاتب المزمور ٤٩ فيتقدم أمام الشعب خطيباً ونذيراً ويطلب منهم أن يصغوا لكلامه لئلا يفوتهم ما يريد أن يقوله لهم بفم الله ذاته. يطلب منهم أن ينتبهوا للشريعة (توراة) التي يقولها لهم. هو كلام الحكمة الإلهية والنبوة التي لا تتهيب إنساناً ولا تطلب مرضاة من أي منهم لذلك عليهم أن ينتبهوا ويستفيدوا.
(٢) إن آساف لنبي حقاً ونجد متّى ١٣: ٣٥ يقتبس منه «سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ». وأما قوله بمثل أي بوقائع الأيام والألغاز أي بأحداثها وعبرها فهي إذاً ليست تعاليم بل حوادث جارية مرت على الشعب وتمر كل يوم. وهي منذ القدم لأنها قد بني عليها تاريخ الشعب الإسرائيلي وأمجاده.
(٣) هي أحاديث غير مبتكرة بل قد جرت على الألسنة منذ فجر وجودهم فقد أخبر الآباء أبناءهم عنها وهؤلاء بدورهم قد أخبروها أولادهم إذ لم تكن الكتابة معروفة فجرت مجرى الأمثال والأحاديث. وعادة لا يرسخ في الذهن على مرور الأيام سوى الأحاديث الهامة الخطيرة.
«٤ لاَ نُخْفِي عَنْ بَنِيهِمْ إِلَى ٱلْجِيلِ ٱلآخِرِ، مُخْبِرِينَ بِتَسَابِيحِ ٱلرَّبِّ وَقُوَّتِهِ وَعَجَائِبِهِ ٱلَّتِي صَنَعَ. ٥ أَقَامَ شَهَادَةً فِي يَعْقُوبَ، وَوَضَعَ شَرِيعَةً فِي إِسْرَائِيلَ، ٱلَّتِي أَوْصَى آبَاءَنَا أَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَبْنَاءَهُمْ، ٦ لِكَيْ يَعْلَمَ ٱلْجِيلُ ٱلآخِرُ. بَنُونَ يُولَدُونَ فَيَقُومُونَ وَيُخْبِرُونَ أَبْنَاءَهُمْ، ٧ فَيَجْعَلُونَ عَلَى ٱللّٰهِ ٱعْتِمَادَهُم، وَلاَ يَنْسَوْنَ أَعْمَالَ ٱللّٰهِ، بَلْ يَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ».
(٤) كيف يمكنهم أن يخفوا هذه الأخبار الخطيرة عما صنعه الله معهم منذ الأزمنة القديمة أيام الآباء والجدود (راجع قضاة ٦: ١٣). ولا يجوز أن تخفى عن الأولاد مثل هذه الأخبار لئلا ينسوا الإنسان مطبوع على النسيان ولئلا يفوتهم مثل هذه الأمجاد التي تهز القلوب بالفخار وتحمس الضمائر وترشدها في سبل أفضل (راجع أيوب ١٥: ١٨) يخبرونهم معلمين بتسابيح الرب أي تلك القصص القديمة الموضوعة بقالب شعري مثل ترنيمة مريم ونشيد دبورة. وكذلك يخبرونهم قصصاً واقعية عما حدث وعن تلك العجائب التي بواسطتها استطاع الشعب أن يدخلوا الأرض ويمتلكوها ولأنها امتلكت بقدرة الله فهي ملك أبدي لله.
(٥) وكانت النتيجة أن أقام شهادة له في ذرية أولئك الآباء الأقدمين. وأي الناس أولى أن يخبروا مثل هذه الأخبار أكثر من الذين صنعت معهم هذه العظائم هم أهلها يجب أن يتذكروها على الدوام بل عليهم أن يعيشوا شهوداً مستحقين لمثل هذه الأحداث العظيمة. بل أن الله قد سلّم شريعته المقدسة لكي يحفظوها ويرعوها ويتمشوا عليها دوماً. ولا حجة لهم أن يقولوا هي للآباء فقط بل هي لهم بحكم الوراثة أيضاً.
(٦) وهكذا فإن هذه الأخبار يجب أن يتناقلها الخلف عن السلف ثم هؤلاء بدورهم يسلمونها للذين يأتون بعدهم. هي سلسلة متصلة الحلقات فلا يجوز أن تنفرط أية حلقة منها لأن قوة السلسلة كما هو معلوم تقاس بقوة أضعف حلقاتها (راجع حزقيال ١٣: ٨ و١٤ وتثنية ٤: ٩). ولا شك أن التاريخ المقدس لا يحفظ فقط في بطون الكتب بل بالأحرى في صدور الأبناء والأحفاد الذين يتعلمون من السلف الصالح ويتبعون مثالهم.
(٧) وأما الغاية من هذا جميعه فهو أن يكون لهم تلك الحاسة الروحية التي تجعلهم متكلين على الله ومعتمدين على اسمه القدوس. إن الغاية هي لأجل الإرشاد وإيجاد روح التدين الصحيح لئلا يبتعد هؤلاء البنون عن تلك المعرفة التاريخية المقدسة ويكون لهم مجال للاعتذار ربما بقولهم ليس لنا المعرفة وليس لنا الاختبار وهكذا تذهب عبادة الله الحي من قلوبهم مع السنين. أما إذا قام الآباء بواجباتهم وعلموا أولادهم ما تعلموه هم أنفسهم حينئذ تنتقل هذه المعرفة من جيل إلى جيل وتبقى خالدة.
«٨ وَلاَ يَكُونُونَ مِثْلَ آبَائِهِمْ جِيلاً زَائِغاً وَمَارِداً، جِيلاً لَمْ يُثَبِّتْ قَلْبَهُ وَلَمْ تَكُنْ رُوحُهُ أَمِينَةً لِلّٰهِ. ٩ بَنُو أَفْرَايِمَ ٱلنَّازِعُونَ فِي ٱلْقَوْسِ ٱلرَّامُونَ، ٱنْقَلَبُوا فِي يَوْمِ ٱلْحَرْبِ. ١٠ لَمْ يَحْفَظُوا عَهْدَ ٱللّٰهِ وَأَبَوْا ٱلسُّلُوكَ فِي شَرِيعَتِهِ ١١ وَنَسَوْا أَفْعَالَهُ وَعَجَائِبَهُ ٱلَّتِي أَرَاهُمْ. ١٢ قُدَّامَ آبَائِهِمْ صَنَعَ أُعْجُوبَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ بِلاَدِ صُوعَنَ».
(٨) بل هوذا المرنم ينتظر من هؤلاء الأبناء أن يفوقوا أسلافهم ولا يكتفوا قط بما وصل إليه أولئك. لا سيما ولهم تاريخ أسود من نواحيه الكثيرة المتعددة فليس كل ما فيه للفخار بل كثير منه ما هو مخزي ومدعاة للعار والشنار فقد زاغوا عن السبل المستقيمة مرات كثيرة وتمردوا على الله وعصوا أوامره الصريحة ولنا من هذا أن نقتدي بالآباء القدوة الصالحة فقط ولا نتعامى عن الشر ولا نخفيه مع مرور السنين حاسبين أن الماضي فاضل كله. بل ليكن هدفنا الصلاح الحقيقي وهذا يثبت القلب بالله ونكون أمناء في عهوده (راجع ٢أخبار ٢٠: ٣٣).
(٩) لماذ يلتفت المرنم الآن لبني أفرايم بصورة خاصة فهذا لا ندريه يقيناً على كلٍّ ليس هؤلاء ليقوموا مقام بني إسرائيل جميعاً إذ في العدد ٦٧ وما بعده ما ينفي مثل هذا الزعم. على كل فإن مزامير آساف طالما تذكر قبائل يوسف ولكن الذكر هنا لكي يضع المرنم أمامنا أمثولة خالدة فيضرب بهم مثلاً كيف كانت مملكة الشمال ثم كيف صارت. أولئك الأشداء في استعمال القوس والرامون بالنبال في يوم الحرب إذا بهم يرتمون مندحرين.
(١٠) ويعزو هذا السقوط لأنهم لم يحفظوا عهد الله ولم يمشوا حسب شرائعه ووصاياه ولا عجب أن يصيبهم ما أصابهم. من ركبوا الأسباب عليهم أن يتحملوا النتائج ولا حق لهم أن يلوموا غير أنفسهم. ونلاحظ أن حفظ العهد معناه السلوك في الشريعة والتمشي بحسب الوصايا. إن هؤلاء الأفرايميين الأقوياء كان من واجبهم أن يفعلوا أكثر جداً مما فعلوه فقد كانوا أشداء في الحروب ولو تابعوا غزواتهم لاستطاعوا إخضاع أرض كنعان كلها ولكنهم فشلوا وفشلهم في الدرجة الأولى لأنهم لم يرعوا عهود الله ولا تمسكوا به إلى المنتهى.
(١١) لقد نسوا ذلك التاريخ الحافل بجلائل الأعمال ولم يبرهنوا أنهم أهل لمواصلة ذلك الجهاد في سبيل الله فقد خارت عزائمهم وسقطت هممهم لا سيما وقد رأوا أنفسهم محاطين بالأمم الغريبة حولهم وهي تفوقهم مدنية ورقياً وهكذا تسربت إليهم العبادة الوثنية وخضعوا لها ونسوا إله أبائهم. لم يعتبروا أن لله عهداً عليهم وهم شعبه بواسطة ذلك التاريخ منذ أيام موسى ويشوع.
(١٢) هذا الإله العظيم الذي صنع أعجوبة منذ القديم يوم كانوا في أرض مصر مع بقية إخوانهم الإسرائيليين. ويذكرهم بما أنهم أحفاد يوسف الذي كان له ذلك الشأن في مصر إذا بالمصريين يعاملون آباءهم أسوأ معاملة ولا نجاة لهم بعد ذلك إلا بقدرة الله التي خلصتهم من أرض العبودية.
«١٣ شَقَّ ٱلْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ، وَنَصَبَ ٱلْمِيَاهَ كَنَدٍّ. ١٤ وَهَدَاهُمْ بِٱلسَّحَابِ نَهَاراً، وَٱللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ. ١٥ شَقَّ صُخُوراً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَسَقَاهُمْ، كَأَنَّهُ مِنْ لُجَجٍ عَظِيمَةٍ. ١٦ أَخْرَجَ مَجَارِيَ مِنْ صَخْرَةٍ وَأَجْرَى مِيَاهاً كَٱلأَنْهَارِ. ١٧ ثُمَّ عَادُوا أَيْضاً لِيُخْطِئُوا إِلَيْهِ، لِعِصْيَانِ ٱلْعَلِيِّ فِي ٱلأَرْضِ ٱلنَّاشِفَةِ».
(١٣) يشرع هنا في سرد التاريخ باختصار ويذكر واقعة بعد أخرى. وأول شيء يذكره هو كيف شق البحر الأحمر حتى عبروا بالرجل (راجع خروج ١٥: ٨) وجعل المياه كندّ أي ككومة واحدة من كل جانب (راجع مزمور ٣٣: ٧). ويظهر أن المرنم كان أمامه التوراة تقريباً بكتبها الخمسة الأولى إذ نجده يعيد للذاكرة ما ورد من تلك الحوادث.
(١٤) هنا يقتبس مما ورد (خروج ١٣: ٢١). وكذلك في العدد ١٥ وما يليه يلخص حادثة خروج الماء من الصخرة في السنة الأولى من خروج بني إسرائيل من أرض مصر (خروج ١٧). كما وأنه يضم إليها حادثة السنة الأربعين (العدد ص ٢٠).
(١٥) لم يكن خروج الماء بصورة بسيطة بل قد سقاهم الله كإنما من لجج عظيمة هي مياه متدفقة غزيرة فإذاً هي عجيبة تستوقف الفكر وتلهبه بالتأملات العميقة. إن الله إذا أعطى فعطاياه كلها بكرم وغزارة هو الذي يعطي ولا يعيّر ويمنح مراحمه ولا يطلب مقابلها لأنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين (متّى ٥: ٤٥).
(١٦) لقد كانت مياهاً مروية للغاية فهي ليست كثيرة بالنسبة لحاجتهم الماسة إليها لأنهم كانوا في البرية وأي مقدار من المياه يكون سبباً للدهشة أو أي نوع منها حتى ولو كانت ذات طعم ومعدنية تصبح ذات قيمة عظيمة. لا ليس الأمر كذلك هنا فهي مجاري مياه جبارة هي أشبه بالأنهار التي تتدفق زاخرة وتنعش كل ما حولها وهنا أكبر مدعاة للتفاخر بقدرة الله العظيمة.
(١٧) ولكن رغماً عن كل ذلك عادوا يخطئون ولم يذكروا الرحمة التي رحمهم بها. وقوله عادوا لأنهم من قبل فعلوا مثل ذلك وتمردوا وعصوا لذلك فهم قد رجعوا إلى سابق ما كانوا فيه وليس غريباً عليهم أن «يعود الكلب إلى قيئه». نعم إن هذا الإنسان الكنود الناكر للجميل لهو في كفر دائم لنعمة الله طالما لا يذكر الرحمة أبداً. إنه قد يذكر الله ولكن لكي يأخذ منه خيراً وبركة ليس إلا ومتى أخذهما فهو ينسى حتى أعظم المراحم لأنه تعوّد أن يعيش لنفسه وليس فيما لله خالقه (راجع العدد ص ٢٠: ١٣ وقابله مع ٢٧: ١٤ وتثنية ٣٢: ٥١).
«١٨ وَجَرَّبُوا ٱللّٰهَ فِي قُلُوبِهِمْ بِسُؤَالِهِمْ طَعَاماً لِشَهْوَتِهِمْ. ١٩ فَوَقَعُوا فِي ٱللّٰهِ. قَالُوا: هَلْ يَقْدِرُ ٱللّٰهُ أَنْ يُرَتِّبَ مَائِدَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ؟ ٢٠ هُوَذَا ضَرَبَ ٱلصَّخْرَةَ فَجَرَتِ ٱلْمِيَاهُ وَفَاضَتِ ٱلأَوْدِيَةُ. هَلْ يَقْدِرُ أَيْضاً أَنْ يُعْطِيَ خُبْزاً أَوْ يُهَيِّئَ لَحْماً لِشَعْبِهِ؟ ٢١ لِذٰلِكَ سَمِعَ ٱلرَّبُّ فَغَضِبَ، وَٱشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي يَعْقُوبَ، وَسَخَطٌ أَيْضاً صَعِدَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، ٢٢ لأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِٱللّٰهِ وَلَمْ يَتَّكِلُوا عَلَى خَلاَصِهِ».
(١٨) وقوله «جربوا الله في قلوبهم» أي أنهم أخذوا يتذمرون سراً في داخلهم قبلما باحوا به للآخرين. هنا المرنم يلخص تلك التذمرات المتكررة التي نفثوها قبلما أعطاهم الله المن والسلوى (خروج ١٦) بل وأعطاهم الله السلوى مرة أخرى (العدد ص ١١). فكما أعطاهم الماء مرتين كذلك أعطاهم طعاماً مرتين لكي يشبعوا تماماً كما ارتوا من قبل. ولكن هل يشبع الإنسان ويكتفي وهنا جيد لنا أن نراجع اكتفاءنا فقط بخبر الحياة ليس إلا (انظر متّى ٥: ٥).
(١٩) هكذا كانت التجربة شديدة عليهم فسقطوا وأنكروا الله ولم يحسبوا قدرته كافية لسد احتياجاتهم فقالوا هل يقدر الله أن يهيء طعاماً في البرية القاحلة حيثما الجدب والعوز من كل جانب هل يستطيع الله أن يعطي نعمة في ظرف هو أبعد ما يكون عن النعمة. لقد قللوا إيمانهم بالله إلى درجة محزنة ووضعوه تحت الامتحان وهنا منتهى القحة.
(٢٠) وبدلاً من أن يكون اختبارهم في الماضي سبباً جديداً للإيمان والرجاء إذا بهم وهم يذكرون ما فعله بالصخرة وكيف فاضت المياه من كل جانب يعودون فيقولون ولكن هل يقدر الله أن يعطي طعاماً. قد تكون أن هذه المياه موجودة هناك ولكن هل بالإمكان أن يوجد الطعام أيضاً. ما أقل الإيمان في قلوبهم وهكذا تصبح الآية التي عملها الله سبباً جديداً للشك (راجع خروج ١٦: ٣ والعدد ١١: ٤ وما بعده و٢١: ٥).
(٢١) عرف الله هذه النوايا الباطلة وهذا الكنود المستحكم فغضب عليهم غضباً شديداً. وكان غضبه مثل نار مشتعلة تحرق كل ما هو أمامها. وإذا قابلنا هذا العدد ٢١ بما ورد في سفر العدد ١١: ١ نجد تماثلاً تاماً. وهكذا فإن ناراً قد اشتعلت في خيام أولئك القوم الظالمين لأن الله لم يكن راضياً عليهم فكيف هو لمن يتوخى السلام ويعمل في سبيله. وأي حق لهم على الله بعد ذلك.
(٢٢) والسبب الجوهري لمثل هذا الغضب هو عدم الإيمان. ذلك الإيمان الذي يجعلهم متكلين على قدرة العلي ثابتين في عهده مخلصين في محبته. لا شيء من ذلك كان عندهم فقط أصبحوا ريشة في مهب الرياح وسط البرية القاحلة. لقد أظلمت الدنيا أمام عيونهم لأنهم قد أظلموا في الإيمان من قبل (انظر العدد ١٤: ١١) لقد نسوا كل شيء ولم يذكروا ما خلصهم به الله ويا للأسف.
«٢٣ فَأَمَرَ ٱلسَّحَابَ مِنْ فَوْقُ، وَفَتَحَ مَصَارِيعَ ٱلسَّمَاوَاتِ ٢٤ وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مَنّاً لِلأَكْلِ، وَبُرَّ ٱلسَّمَاءِ أَعْطَاهُمْ. ٢٥ أَكَلَ ٱلإِنْسَانُ خُبْزَ ٱلْمَلاَئِكَةِ. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ زَاداً لِلشِّبَعِ. ٢٦ أَهَاجَ رِيحاً شَرْقِيَّةً فِي ٱلسَّمَاءِ وَسَاقَ بِقُوَّتِهِ جَنُوبِيَّةً ٢٧ وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ لَحْماً مِثْلَ ٱلتُّرَابِ، وَكَرَمْلِ ٱلْبَحْرِ طُيُوراً ذَوَاتِ أَجْنِحَةٍ».
(٢٣) في هذه الأعداد ٢٣ - ٢٥ يوجد وصف كيف أن الله قد أرسل المن من السماء. ويتبادر للذهن لأول وهلة حينما قال أمر السحاب وفتح مصاريع السموات أن القصد من ذلك هو المطر ولكن لا يطول انتظارنا حتى يخبرنا بما جرى. ولا يهتم المرنم كثيراً لتعاقب الحوادث من جهة تاريخية إذ أن نزول المن كان قبل أن اشتعلت النيران في المحلة. وإنما اقتضى السرد الشعري أن يضع النار بعد الغضب الإلهي. ولكن الله الحنان الرحيم لم يهتم بقلة إيمانهم ولم يجازهم على أعمالهم بل أظهر رحمته مرة أخرى وفتح أبواب السموات لهم لكي يشبعوا.
(٢٤) وإذا المن ينزل عليهم مثلما ينزل المطر دافقاً غزيراً لا شيء يعيق سبله طالما مصاريع السموات قد انفتحت وطالما رحمة الله تسعنا رغماً عن كل نكراننا وخطايانا. وقوله مصاريع السموات تعبير قديم يدل على ما اعتقده العبران الأقدمون من وجود مياه فوق السموات تنزل على الأرض متى فتحت الأبواب لذلك (راجع تكوين ٧: ١١ و٢ملوك ٧: ٢ وملاخي ٣: ١٠) ويدعو هذا المن براً أي ذرة من السماء أو كما (خروج ١٦: ٤) هو خبز السماء. بل كما نجد في العدد الذي يليه خبز الملائكة.
(٢٥) كان ينزل من السماء مثل حبوب الذرة على الأرض فيجمعونه ويحفظونه قوتاً لهم ولعيالهم. وحتى الآن لا يزال يسمى في اللغة العربية «منّ السماء». ولا يزال يوجد في برية سيناء نوع من الخضار اسمه Coccus Manniparus ينز سائلاً ثميناً لسكان شبه جزيرة سيناء إذا فزر من جهة يخرج منه عصير يستعمله الناس قوتاً طيباً.
(٢٦) ثم هنا يصف كيف أرسل لهم الله السلوى والكاتب يذكر كما ورد (خروج ١٦) وهذا حدث قبل إعطاء المن. وإذا رياح مختلطة بين شرقية وجنوبية آتية من الخليج (راجع العدد ١١: ٣١).
(٢٧) وأمطر عليهم دليل الكثرة المتناهية فهي لا تعد من غزارتها وكثرتها. هي مثل التراب أصبحت بدون قيمة لأنها كانت عادية لم يتعبوا في تحصيلها ولم يصطادوها بأنفسهم بل ارتمت عليهم من السماء من منبع كل خير وبركة ونعمة. وهي كثيرة كرمل البحر (راجع تكوين ٢٢: ١٧). وهذه التشابيه موجودة بكثرة في الكتابات المقدسة.
«٢٨ وَأَسْقَطَهَا فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ حَوَالَيْ مَسَاكِنِهِمْ. ٢٩ فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جِدّاً، وَأَتَاهُمْ بِشَهْوَتِهِمْ. ٣٠ لَمْ يَزُوغُوا عَنْ شَهْوَتِهِمْ. طَعَامُهُمْ بَعْدُ فِي أَفْوَاهِهِمْ، ٣١ فَصَعِدَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ ٱللّٰهِ وَقَتَلَ مِنْ أَسْمَنِهِمْ. وَصَرَعَ مُخْتَارِي إِسْرَائِيلَ. ٣٢ فِي هٰذَا كُلِّهِ أَخْطَأُوا بَعْدُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِعَجَائِبِهِ».
(٢٨) وإن رحمة الله هذه قد شملتهم إلى التمام فهي التي جاءت إليهم وهم لم يذهبوا إليها ولا حركوا ساكناً في سبيل الحصول عليها. إن تلك المحلة المتذمرة الجائعة التي عرفت دائماً كيف تعترض على ترتيبات الله وتتغاضى عن مراحمه إذا بها الآن تنال الخير والنعمة في وسطها حيثما كانوا ساكنين. هي محلة إسرائيل (راجع العدد ١١: ٣١ وقابله مع خروج ١٦: ١٣).
(٢٩) ولم يبطئ الشعب بأن ينال هذا الخير فيأكل منه ويشبع. لقد اشتهوا هذه الشهوة وصاحوا متذمرين من أجلها ولكن الله قد أعطاهم سؤل قلوبهم ولم يبخل عليهم قط. هم لا يستحقونه ولكن محبته لهم تستحق كل شيء. نتساءل طالما كانوا في جوع فلماذا غضب الله عليهم حينما أكلوا وشبعوا ألا يريد الله إشباعهم يا ترى؟ بالطبع لا ولكن غضبه هو بالنسبة لكنودهم المتواصل ولأنهم شهوانيون لا يهمهم شيء سوى أن يملأوا بطونهم.
(٣٠ و٣١) بينما هم غارقون في هذه اللذة الوقتية وهم غير شكورين لنعمة أسبغت عليهم بل بينما كانوا لا يزالون يمضغون الطعام في أفواههم إذا بالغضب يأتي عليهم ولا يهنأون طويلاً. وهنا يتبع المرنم الكلام نفسه الذي ورد في (العدد ١١: ٣٣). فنجد مقابلة شيقة لكي يلفت نظر أولئك الآكلين أن الأهمية ليس بالطعام الذي وضعوه في أفواههم بل عليهم أن يشكروا الله ويحمدوا اسمه لأجل عنايته الدائمة الحنونة. ويظهر أن غضب الله هذا قد ظهر في الشعب لدن سقطوا مرضى من جراء تلك التخمة التي أصابتهم بعد جوعهم في الماضي. فهم لم يوفروا شيئاً للمستقبل بل تناولوا هذا الخير وتمتعوا به غير حاسبين لحوادث الزمان أي حساب. ولكن النتيجة كانت سريعة ومؤلمة وإذا بعدد كبير منهم يسقط صرعى الأدواء والأوجاع التي انتابتهم.
(٣٢) وهنا يعود مرة أخرى للتوبيخ والتأنيب فإن هذا الشعب الذي تكررت معه هذه الحوادث لم يتعظ شيئاً ولم يتعلم وكانوا مثل الحديد الذي يضربه الحداد مرة بعد أخرى فلا يزداد سوى شدة وصلابة. ذلك لأن الشيء المهم ليس الحوادث ذاتها بل كيف نقابلها وماذا نفعل في تفسيرها ثم تطبيقها على حياتنا اليومية. إن الدروس موجودة ولكن المهم أن يفتح الإنسان ذهنه ويتعلمها ويستفيد منها أكمل استفادة.
«٣٣ فَأَفْنَى أَيَّامَهُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَسِنِيهِمْ بِٱلرُّعْبِ. ٣٤ إِذْ قَتَلَهُمْ طَلَبُوهُ، وَرَجَعُوا وَبَكَّرُوا إِلَى ٱللّٰهِ، ٣٥ وَذَكَرُوا أَنَّ ٱللّٰهَ صَخْرَتُهُمْ، وَٱللّٰهَ ٱلْعَلِيَّ وَلِيُّهُمْ. ٣٦ فَخَادَعُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ وَكَذَبُوا عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ. ٣٧ أَمَّا قُلُوبُهُمْ فَلَمْ تُثَبَّتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي عَهْدِهِ».
(٣٣) هكذا ذهبت الدروس باطلاً ومرت الأيام بلا جدوى. لأن مرور الأيام والسنين وحده لا يعطي الإنسان حكمة بل الحكمة أن نتعلم ما تلقيه تلك السنون من دروس قيمة وعبر ذات معنى عظيم الأثر في نفوسنا. بل أن مرور السنين قد تجعل الإنسان يرتعب من اقتراب الأجل وإذا كل شعرة شائبة تصبح كالسيف المصلت على الرأس تنذر صاحبه بالموت المحتوم. وهنا إشارة لانتقام الله من هؤلاء الخارجين من مصر (العدد ١٤: ٢٨ - ٣٤).
(٣٤) ولكن في هذه المحنة العظيمة بينما ملاك الموت يحصد أرواحهم حصداً أخذوا يعودون إلى رشدهم الروحي ويندمون. لقد رجعوا إلى الله الآن وبكروا إليه قبل فوات الأوان وقبلما يأتي ملاك الموت عليهم أيضاً. هم كالأولاد العصاة لا يتوبون حتى يقاضوا أعظم القصاصات فإذا توبتهم النجاة الآن لا الهلاك الذي يجرف رفاقهم وعيالهم بلا رحمة ولا هوادة.
(٣٥) وسبيل نجاتهم الوحيد هو أن يذكروا إذ أنهم حينما نسوا إصابتهم البلايا فإذا ذكروا يعودون إلى الرحمة والرضوان. ذكروا أن الله صخرتهم (تثنية ٣٢: ١٥ و١٨ و٣٧). ذكروا أن الله وليهم وفاديهم ومخلصهم (تكوين ٤٨: ١٦). وهو عليّ رب السموات يتعطف عليهم من علو مجده ولا ينساهم وإن كانوا في وهدة الهلاك والموت.
(٣٦) ولكن رجوعهم على ما يظهر لم يكن عن توبة قلبية. ولم يكن التفاتهم إلى الله سوى تهرب من الآلام الحاضرة التي يعانونها. يحتمون بالله إلى أن تمر عليهم موجة الغضب هذه وتهدأ حدة الضربة ثم يعودون إلى ما كانوا عليه. هم مخادعون كاذبون. يقولون شيئاً ويفعلون آخر وهكذا فإن ألسنتهم ليست للحمد والتسبيح بل للكذب والبهتان.
(٣٧) هل الله يهتم فقط أليس أن نظره هو للقلب فيقول لنا «يا ابني أعطني قلبك» (راجع مزمور ٥١: ١٠) ذلك لأن الخلوص لله هو أهم ما تتطلبه التقوى الحقيقية. ولكن الذي يخادع ويكذب فهو بعيد عن الله ولا يعرف طريق النجاة التي أعدها لأتقيائه الحقيقيين. وهكذا فقد خانوا عهده المقدس الذي قطعوه على أنفسهم ولم يعيشوا أهلاً لتلك العلاقة الكريمة المقدسة التي هي درع المؤمنين وسبب نجاتهم.
«٣٨ أَمَّا هُوَ فَرَؤُوفٌ يَغْفِرُ ٱلإِثْمَ وَلاَ يُهْلِكُ، وَكَثِيراً مَا رَدَّ غَضَبَهُ وَلَمْ يُشْعِلْ كُلَّ سَخَطِهِ. ٣٩ ذَكَرَ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. رِيحٌ تَذْهَبُ وَلاَ تَعُودُ. ٤٠ كَمْ عَصَوْهُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَأَحْزَنُوهُ فِي ٱلْقَفْرِ! ٤١ رَجَعُوا وَجَرَّبُوا ٱللّٰهَ وَعَنُّوا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ. ٤٢ لَمْ يَذْكُرُوا يَدَهُ يَوْمَ فَدَاهُمْ مِنَ ٱلْعَدُوِّ، ٤٣ حَيْثُ جَعَلَ فِي مِصْرَ آيَاتِهِ، وَعَجَائِبَهُ فِي بِلاَدِ صُوعَنَ».
(٣٨) هنا يبدأ القسم الثاني من هذا المزمور التاريخي الشيق الذي يسرد الوقائع ويأخذ منها عبراً ودروساً لكل الأجيال. نعم إن الله حنان ورؤوف ولا تتوقف رحمته على أعمال البشر وتصرفاتهم وإذا أظهر غضبه فهو لأجل القصاص لا الاقتصاص والإهلاك. لقد رد حمو غضبه وعاد للرضا والعفو. هو إله الحق والعدالة ولكنه هو إله الحنان والمغفرة أيضاً.
(٣٩) فمن جهة طبيعة الله هو يغفر ويرحم ويعود للرضا وأما من جهة البشر فقد ذكر أنهم بشر مثل ريح يعبرون ولا يوجدون فيما بعد. إذاً يوجد مجال للعفو والغفران ولا يطول غضبه عليهم ولا يلومهم كثيراً. لأنهم بشر فهم يستحقون أن يرأف الله بهم ولا يعاملهم حسب أعمالهم (إشعياء ٤٢: ١٣).
(٤٠) يراجع المرنم بصورة سريعة تلك الحوادث التي ذكرها سابقاً كيف أن هذا الشعب قد عصا إلهه وكان الأحرى به أن يطيع وقد أحزنه في البرية حيث لا أنيس ولا عضد غير الله نفسه. فكان عصيانهم كبيراً وقبيحاً لأنهم فعلوا ذلك في وقت كانوا أحوج فيه لعون الله وإرشاده. بل تمردوا في مكان غير آهل بالناس ونسوا سبب التعزية الحقة لأنهم إذا كانوا مع الله فلا خوف عليهم من أي المخاطر والشرور.
(٤١) ولكنهم رجعوا وجربوا الله بل سببوا أتعاباً عظيمة للإله القدوس. فبدلاً من أن يشكروا كانوا جاحدين منكرين لكل فضل. ومرة أخرى يستعمل كلمة جربوا الله أي وضعوه في الامتحان بسبب قلة إيمانهم.
(٤٢) وسبب ذلك كله مرة أخرى يعود للقول لأنهم لم يذكروا فهم دائماً ينسون الله ولا يقرون بمراحمه الواسعة ونعمه السابغة (راجع خروج ١٠: ٢). وقد يكون يوم فداهم إشارة هنا إلى (خروج ٧: ١٤ - ٢٥).
(٤٣) يذكر تلك الآيات التي جرت في مصر في أرض صوعن. لأن هناك يبدأ التاريخ المقدس فقد أراد الله أن يخرج شعبه بيد قوية وذراع ممدودة لذلك أعطى موسى تلك القدرة والصلابة حتى يستطيع أن يقف أمام فرعون ولا يهاب ذلك المكان العظيم ويتفوق على كل ما كان لديه من أعوان إذ ظهرت قدرة الله أعظم من قدرة أولئك السحرة الذين استعان بهم فرعون. فكانت آيات وعجائب لا ترد مطلقاً.
«٤٤ إِذْ حَوَّلَ خُلْجَانَهُمْ إِلَى دَمٍ وَمَجَارِيَهُمْ لِكَيْ لاَ يَشْرَبُوا. ٤٥ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ بَعُوضاً فَأَكَلَهُمْ، وَضَفَادِعَ فَأَفْسَدَتْهُمْ. ٤٦ أَسْلَمَ لِلْجَرْدَمِ غَلَّتَهُمْ وَتَعَبَهُمْ لِلْجَرَادِ. ٤٧ أَهْلَكَ بِٱلْبَرَدِ كُرُومَهُمْ وَجُمَّيْزَهُمْ بِٱلصَّقِيعِ. ٤٨ وَدَفَعَ إِلَى ٱلْبَرَدِ بَهَائِمَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ لِلْبُرُوقِ. ٤٩ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حُمُوَّ غَضَبِهِ سَخَطاً وَرِجْزاً وَضِيقاً، جَيْشَ مَلاَئِكَةٍ أَشْرَارٍ».
(٤٤) يذكر هنا الضربة الأولى التي ضرب بها الله أرض المصريين (راجع خروج ٧: ١٤ - ٢٥). وكان من باب مخالفة النظير أن يذكر هذه الضربة بعد أن ذكر كيف أن الله قد أعطى شعبه ماء من الصخرة حتى شربوا بينما أولئك المصريون الذين لهم الماء بوفرة بواسطة نهر النيل إذا بهم يعطشون لأن تلك المياه قد تحولت إلى مياه غير صالحة للشرب يعافها الإنسان والحيوان.
(٤٥) ثم نجد المرنم يقفز من هذه الضربة الأولى إلى الرابعة حينما يذكر البعوض وهو نوع من البرغش على ما يظهر أو الذباب (راجع خروج ٧: ١٦ - ٢٨). ويذكر مع هذه الضربة الضفادع التي هي الضربة الثانية حسب ترتيبها في سفر الخروج. وهي تلك الضفدعة المصرية الصغيرة الموجودة ربما حتى الآن واسمها Rana Mosaica .
(٤٦) وينتقل بعد ذلك للجردم والجراد. أما الجردم فهو أقرب للجندب وهو إذا كثر يؤذي المزروعات كثيراً ولكنه لا يقاس بشيء بالنسبة إلى الجراد شر أنواع الحشرات وأفتكها بكل أنواع النباتات على صورة مخيفة للغاية. فإذا كان حتى اليوم يخيف الناس في هذه البلدان وطرق المكافحة قد ترقت كثيراً فهل نلوم خوف القدماء. ولا أزال أذكر حينما هاجم الجراد البلاد السورية واللبنانية سنة ١٩١٥ مما زاد في ويلات الحرب شدة وفي أقوات الناس قلة وجوعاً.
(٤٧) ثم ينتقل إلى ضربة البرد (خروج ٩: ١٣ - ٣٥) وقابل ذلك مع (حزقيال ٨: ٢). وهذه ضربة لا شك فيها حينما تأتي في منتصف الربيع إذ تكون الأشجار في كامل براعمها وزهورها لا سيما إذا عقب ذلك الصقيع الذي ييبس ما تبقى بعد البرد حتى لا تكون مواسم تقريباً.
(٤٨) أما المواشي وهي إذا كانت في طور الولادة فإنه لا شك يموت الكثير منها بسبب شدة البرد. لا سيما وأغلبها يكون في الأرض العراء كما هي الحالة حتى الآن وحينئذ تتعرض لعوامل الطبيعة القاسية بل قد تصاب أيضاً بالبروق والصواعق من السماء وهذه كثيرة الحدوث في أشهر الخريف أو الربيع وتقل في الشتاء.
(٤٩) ثم يلخص هذه كلها بأنها ضربات من الله إذ يرسل ملائكته بهذه الضربات القاسية الشريرة. ولنا من هذا أن المرنم يرى أن عند الله نوعين من الملائكة أما هؤلاء فهم أشرار إذا يتممون الضربات.
«٥٠ مَهَّدَ سَبِيلاً لِغَضَبِهِ. لَمْ يَمْنَعْ مِنَ ٱلْمَوْتِ أَنْفُسَهُمْ بَلْ دَفَعَ حَيَاتَهُمْ لِلْوَبَإِ. ٥١ وَضَرَبَ كُلَّ بِكْرٍ فِي مِصْرَ. أَوَائِلَ ٱلْقُدْرَةِ فِي خِيَامِ حَامٍ. ٥٢ وَسَاقَ مِثْلَ ٱلْغَنَمِ شَعْبَهُ، وَقَادَهُمْ مِثْلَ قَطِيعٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ. ٥٣ وَهَدَاهُمْ آمِنِينَ فَلَمْ يَجْزَعُوا. أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَغَمَرَهُمُ ٱلْبَحْرُ. ٥٤ وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ، هٰذَا ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي ٱقْتَنَتْهُ يَمِينُهُ. ٥٥ وَطَرَدَ ٱلأُمَمَ مِنْ قُدَّامِهِمْ وَقَسَمَهُمْ بِٱلْحَبْلِ مِيرَاثاً، وَأَسْكَنَ فِي خِيَامِهِمْ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ».
(٥٠) ولأن الله غاضب على هؤلاء الناس فقد أظهر غضبه بشكل مخيف. ولم يكتف بما تقدم بل أرسل عليهم الوباء فجرف حياة الكثيرين ونستطيع فهم عمله الذريع عندئذ طالما لم يكن للناس أي الوسائط الألوف منهم صرعى كلما زاد المرض فيما بينهم انتشاراً. ولم يستطيعوا أن يتقوا النتائج المرعبة التي صادفتهم بسبب ذلك وهذا كله لأن الله غضب عليهم ولم يرتد حتى أنزل عقابه بهم تماماً.
(٥١) وهوذا كل بيت فيه مأتم ومناحة إذ قد أصيب أعز الأولاد هم الأبكار سند العيال ومبعث عزها ومجدها (راجع خروج ١١ و١٢). وقد ذكر هنا خيام حام كما في (المزمور ١٠٥ و١١١) وهذا ينطبق على ما ورد في (تكوين ١٠: ٦). بل قد دعا المصريون أنفسهم (كامي أو خامي).
(٥٢) وحينما تمت هذه الضربات المتكررة العظيمة إذ بفرعون قد فارقته قوته ولم يشاء أن يتمسك بشعب إسرائيل بعد بل سمح لهم أن يتركوا البلاد بسلام وهكذا قاد الله شعبه من أرض مصر كما يقود الراعي الغنم إلى مواطن الأمن والمراعي الخصبة (انظر إرميا ٣١: ٢٤). وهذا التشبيه وارد كثيراً في مزامير آساف يقود قطيعه في البرية.
(٥٣) إن هذا الراعي قد سار أمامهم مرشداً هادياً فلم يتركهم وحدهم ولم يتكل فقط على موسى وهارون أن يتمما العمل وحدهما بل اصبع الله القديرة هي التي فعلت كل شيء إلى التمام. وأما الأعداء فقد أصابهم مرة أخرى انخذال عظيم فهم قد ضربوا في عقر دارهم فهل يسلمون وقد خرجوا منها ليظلموا بعد.
(٥٤) ولم يزل يسير معهم مرافقاً هادياً يدلهم على الطريق ويعزيهم ويشددهم إلى أن أوصلهم إلى جبل الله سيناء. إن يمين الله هي التي فعلت ذلك ببأس. واليمين هي دليل اليمن والبركة إذاً فالعمل كان بكل اهتمام وجد فلا يتركهم الله إلى تحكم الظروف والأحوال الطارئة والمخاطر بل هو معهم في كل المواقف إلى أن يتمم لهم كل أسباب الفوز والنجاة. وأما تخوم قدسه فيقصد ربما كل أرض الموعد (تثنية ١١: ١١ والعدد ٣٤: ٢ و٣٦: ٢).
(٥٥) وقد رافقهم بعد ذلك إلى أن استتب لهم الأمر في الأرض التي سكنوا فيها. فطرد الأمم من قدامهم وأصبحت الأرض ملكاً لهم واقتسموها بالحبل (انظر مزمور ١٠٥: ١١) إذاً هم الآن في راحة واطمئنان لا يستطيع أحد أن يعكر صفوهم على شرط أن يبقوا ممسكين بيد الله القديرة ومستعدين أن يتعاونوا بعضهم مع بعض.
«٥٦ فَجَرَّبُوا وَعَصَوْا ٱللّٰهَ ٱلْعَلِيَّ، وَشَهَادَاتِهِ لَمْ يَحْفَظُوا، ٥٧ بَلِ ٱرْتَدُّوا وَغَدَرُوا مِثْلَ آبَائِهِمْ. ٱنْحَرَفُوا كَقَوْسٍ مُخْطِئَةٍ. ٥٨ أَغَاظُوهُ بِمُرْتَفَعَاتِهِمْ وَأَغَارُوهُ بِتَمَاثِيلِهِمْ. ٥٩ سَمِعَ ٱللّٰهُ فَغَضِبَ وَرَذَلَ إِسْرَائِيلَ جِدّاً، ٦٠ وَرَفَضَ مَسْكَنَ شِيلُوهَ، ٱلْخَيْمَةَ ٱلَّتِي نَصَبَهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ. ٦١ وَسَلَّمَ لِلسَّبْيِ عِزَّهُ وَجَلاَلَهُ لِيَدِ ٱلْعَدُوِّ».
(٥٦) ولكن هوذا الأحوال تتبدل معهم وإذا بهم بعد أن استقروا في الأرض يعودون ليجربوا الله ويعصوا أمره كأنه لم يكن شيء من ذلك التاريخ الحافل بجلائل الأعمال. بل إن شهادات الرب والحوادث التي جرت وكل تلك الذكريات لم تساو في نظرهم شيئاً يُذكر. والأرجح أن عصر الارتداد هذا كان بعد موت يشوع وأليعازر وفي بدء أيام القضاة.
(٥٧) لقد ارتدوا غادرين ولا عجب إذ هكذا عمل آباؤهم من قبلهم لقد انحرفوا عن الهدف الذي أمامهم كما تنحرف القوس إذا أخطأت ولم تصب بسهمها المكان المعين (انظر هوشع ٧: ١٦). لقد كان ارتدادهم بغدرٍ وخيانة فهم قد عبدوه بالظاهر ربما ولكنهم تركوه بالحقيقة فكانوا أنذالاً جبناء لأنهم كانوا مرائين كاذبين.
(٥٨) وهنا يذكر السبب لماذا غضب الله عليهم. فقد عبدوا البعليم كما كان يفعل الكنعانيون لذلك فقد ذهبوا وراء عبادة الأمم التي تغلبوا عليهم وامتلكوا أرضهم ولكن هؤلاء غلبوهم بتلك العبادات الوثنية النجسة. ولم يكتفوا بالمرتفعات بل أقاموا التماثيل وعبدوها وتركوا إلههم الحقيقي (انظر إرميا ٢: ٢١).
(٥٩) لقد كانوا يصرخون للبعليم كإنما هي الآلهة الحقيقية (قضاة ٢: ١١) ولكن هذه لا تسمع إنما الله قد سمع وهكذا غضب عليهم من جراء هذه الأعمال الرديئة وكانت النتيجة أنه تركهم ورذلهم لأنهم لا يستحقون تلك العناية الحنونة التي أحاطهم بها وليسوا أهلاً أن يكونوا خاصته. ثم يكرر القسم الأول من العدد ٢١ بصورة مؤثرة.
(٦٠) لقد رفض الله مسكن شيلو والخيمة التي نصبوها لعبادته. لأنهم قد خصصوا مكان العبادة ولكنهم لم يحفظوا عهودها ولم يتمموا ما قطعوه على أنفسهم ولا يغرب عن البال أن في شيلوه خيمة الاجتماع (يشوع ١٨: ١) هناك مركز العبادة في أيام عالي وصموئيل (١صموئيل ١ - ٣). حتى أنه كان مسكن للرب هناك وليس مجرد خيمة فقط توضع وتنقل.
(٦١) إذا راجعنا (قضاة ١٨: ٣٠ وما بعده وقابلنا ذلك مع إرميا ٧: ١٢ - ١٥) نجد أن شيلوه لم تبطل أن تكون مركزاً للعبادة حتى عند الغزو الأشوري وعند سقوط مملكة السامرة يذكر المرنم تلك النكبة التي حلت وكيف سبي الشعب وذهب جلال تلك الأمكنة المقدسة بسبب ذلك.
«٦٢ وَدَفَعَ إِلَى ٱلسَّيْفِ شَعْبَهُ وَغَضِبَ عَلَى مِيرَاثِهِ. ٦٣ مُخْتَارُوهُ أَكَلَتْهُمُ ٱلنَّارُ وَعَذَارَاهُ لَمْ يُحْمَدْنَ. ٦٤ كَهَنَتُهُ سَقَطُوا بِٱلسَّيْفِ وَأَرَامِلُهُ لَمْ يَبْكِينَ. ٦٥ فَٱسْتَيْقَظَ ٱلرَّبُّ كَنَائِمٍ، كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ ٱلْخَمْرِ. ٦٦ فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ. جَعَلَهُمْ عَاراً أَبَدِيّاً. ٦٧ وَرَفَضَ خَيْمَةَ يُوسُفَ وَلَمْ يَخْتَرْ سِبْطَ أَفْرَايِمَ».
(٦٢) لا ندري إذا كانت هنا الإشارة إلى تلك المعركة الدامية مع الفلسطينيين في أفيق (راجع ١صموئيل ٤: ٢١ وما بعده). فقد سقط في تلك المعركة نحو ثلاثين ألفاً من العبرانيين وقتل حفني وفينحاس ابنا عالي الكاهن بل الأعظم من ذلك أن فقد بنو إسرائيل تابوت العهد. ذلك لأن الرب قد غضب على ميراثه فدفعهم للسيف يهلكون ولا من معين.
(٦٣) أما النار التي أكلتهم فهي نار الحرب (راجع العدد ٢١: ٢٨) هوذا الرجال المختارون أهل البأس والقوة قد قتلوا ولذلك فإن العذارى لم يعد لهن أن يترنموا بالأناشيد. «لم يحمدن» أي لا يغنين تلك الأغاني الدارجة في الأعراس القديمة إذ أن النكبة عظيمة والشعب غير مستعد لغير النوح والبكاء.
(٦٤) بينما من الجهة الأخرى قد سقطت الكهنة بحد السيف أولئك الذين عملهم أن ينهضوا بالشعب لعبادة الله فيضطرون للقتال ويموتون. بينما نجد أن الأرامل قد قست قلوبهن فلا يبكين نادبات أزواجهن الذين ماتوا. ذلك لأن المصيبة كانت مداهمة حتى أفقدت الناس رشدهم ولم يعوا ماذا يفعلون (راجع أيوب ٢٧: ١٥). والبكاء الذي يقصده المرنم هو تلك العادة القديمة في بلاد الشرق (انظر تكوين ٢٣: ٢) ثم أن هؤلاء الأرامل لم يسمح لهن بالبكاء كما يحدث في الحروب حينما يعم القتل والتشتيت ولا يستطيع أحد أن يبكي رافعاً صوته من الخوف.
(٦٥) بعد كل هذه الضربات عاد الرب إلى شعبه فاستيقظ بعد نوم طويل وصرخ كما يصرخ جبار مهتاج. وهي صورة بدائية بالنسبة لله تدل على بساطة كلية ولكن المعنى الذي يقصده أن الله لم يتخل عن شعبه للأبد.
(٦٦) وهكذا ضرب أعداءه الذين اعتدوا على شعبه وأذلوهم وقد يكون هذا الحادث إشارة إلى ما ورد في (١صموئيل ٥: ٦ وما بعده). وهنا إشارة إلى العصر الذي عاش فيه شاول وداود وتلك الانتصارات التي أحرزاها (راجع ١صموئيل ٥ وما بعده).
(٦٧) ولكن الله بعد أن تمت هذه الانتصارات على الأعداء بواسطة داود عبده على الأخص فقد رفض من أجل ذلك يوسف وسبط أفرايم. لذلك فقد اختار عوضاً عنهما سبط يهوذا ومكان سكناه أورشليم (راجع تثنية ٣٣: ١٢). وبالنسبة لتوزيع الأرض (راجع مزمور ٦٨: ٢٧) نجد يهوذا يبدأ بالأهمية والظهور.
«٦٨ بَلِ ٱخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا جَبَلَ صِهْيَوْنَ ٱلَّذِي أَحَبَّهُ. ٦٩ وَبَنَى مِثْلَ مُرْتَفَعَاتٍ مَقْدِسَهُ، كَٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَسَّسَهَا إِلَى ٱلأَبَدِ. ٧٠ وَٱخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ ٱلْغَنَمِ. ٧١ مِنْ خَلْفِ ٱلْمُرْضِعَاتِ أَتَى بِهِ لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَهُ. ٧٢ فَرَعَاهُمْ حَسَبَ كَمَالِ قَلْبِهِ وَبِمَهَارَةِ يَدَيْهِ هَدَاهُمْ».
(٦٨) إن الله قد اختار يهوذا بعد أن رفض بنيامين بشخص شاول الذي قتل مع ابنه بيد الفلسطينيين وقد رثاهما داود بتلك المرثاة الخالدة (راجع ٢صموئيل ١: ١٧ - ٢٧). إن الله القدير يختار لنفسه ما يشاء ومن يشاء ذلك لأنه بحكمته الكلية يريد أن يصل بشعبه إلى ملء النجاح ومن يتمم مقاصده فهو مقبول عنده.
(٦٩) حينئذ بدلاً من تلك المرتفعات التي عبدها الشعب آخذينها من الكنعانيين بعباداتهم البعليم وأوثانهم الكثيرة إذ الهيكل المقدس يرتفع على جبل الموريا لكي يعبد الرب عبادة حقة دائمة ما دام الشعب متمسكاً بإلهه ويتمم نواميسه بكل أمانة واستقامة (راجع إشعياء ٦٥: ١٧) إذاً هنا يشير ليس فقط للهيكل العظيم بل للعبادة التي تستمر فيه بدون انقطاع بواسطة شعب متعبد غيور يعبد إلهه بورع ويحيا للأبد.
(٧٠) هكذا يقع الاختيار على داود ذلك الراعي الصغير يصبح راعياً لشعب الله بدلاً من الغنم. لقد بقيت له الوظيفة ذاتها ولكن قد تغير القطيع وبالتالي عظمت المسؤولية أضعافاً كثيرة. وهنا نجد أن هيكل الله موجود كما أن نسل داود الملكي سيحتفظ بمقامه لأجيال كثيرة.
(٧١) لقد تسلّم داود تلك المسؤولية وسلمها إلى بنيه من بعده إرثاً أبدياً. ذاك داود ابن يسىّ الراعي الملك فليكن ملكه وطيداً على نسبة حسن رعايته لشعب الله والقيام بعبادته المقدسة. لقد أخذ من خلف المرضعات وهي التي تعتني بأولادها أتم عناية وهكذا عليه أن يعتني بشعب الله بمثل تلك العناية ولا يخون العهد الذي قطعه على نفسه كما فعل شاول من قبله. وحينئذ فإن الشعب كله معه. هو ميراث رب الجنود وما الملك سوى خادم يرعى شعب الله ويهديهم في الطريق المستقيم.
(٧٢) وهكذا فإن داود لم يخن الأمانة التي وضعت في عنقه بل قد قام بالواجب خير قيام. فقد كان طاهر القلب يرعى شعبه بحنو ومحبة (تكوين ٣٣: ١٣ وقابله مع ١صموئيل ١٦: ١١ و١٧: ٣٤) وكذلك كان ماهراً في الإدارة وحكيماً في الحكم على شعبه. وبمثل هذه الخاتمة الجميلة ينتهي من هذا المزمور الجامع ولا يتركه إلا والأصداء المدوية تظن في الآذان فقد جمع التاريخ وهو يصلح للاعتبار اليوم كما كان في القديم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلسَّبْعُونَ


مَزْمُورٌ. لآسَافَ


«١ اَللّٰهُمَّ، إِنَّ ٱلأُمَمَ قَدْ دَخَلُوا مِيرَاثَكَ. نَجَّسُوا هَيْكَلَ قُدْسِكَ. جَعَلُوا أُورُشَلِيمَ أَكْوَاماً. ٢ دَفَعُوا جُثَثَ عَبِيدِكَ طَعَاماً لِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ، لَحْمَ أَتْقِيَائِكَ لِوُحُوشِ ٱلأَرْضِ».
يظهر أن هذا المزمور يتصل صلة وثيقة مع المزمور الرابع والسبعين ليس فقط من جهة الناظم وهو آساف بل أيضاً بالنسبة لموضوع المزمورين. فإن كان الرابع والسبعون يدل على بدء الاضطهاد وتخريب الهيكل فلا شك أن هذا المزمور يرينا أن الخراب قد أكمل وهكذا فإن عبيد الرب وأتقياءه يحتملون أشد الاضطهاد في سبيل ديانتهم. كلا المزمورين يحملان طابع إرمياء النبي ويمتان إليه بصلة الفكر والتعبير. ويظن أن عصر هذا المزمور هو في أيام السلوقيين (راجع سفر المكابيين الأول ص ١: ٣١ و٣: ٤٥ والمكابيين الثاني ٨: ٣). وقد يكون عصره في أيام الكلدانيين حينما نُجس الهيكل وذبح الكثيرون من خدام الله. وفي هذا المزمور كما فيما سبقه (المزمور ٧٤) يقرأ الإنسان عن تلك الويلات التي أصابت الشعب ليس من جراء حرب اشتعل أوارها وذكت نارها بل بالأحرى فالشكوى تأتي من الاضطهادات والمظالم.
ومما يجدر ذكره أن العددين ٦ و٧ في هذا المزمور هما صورة مأخوذة طبق الأصل عن (إرميا ١٠: ٢٥). ويستبعد أن إرمياء أخذ من هذا المزمور والأرجح أن العكس قد حصل وهكذا يكون إرمياء هو المثال الذي احتذاه المرنم وسار على منواله لا سيما حينما كرر التاريخ تلك المأساة بخراب أورشليم كما حدث في أيام نبوخذ نصر.
(١) يبدأ المرنم كلامه بالشكوى فهو يشكو إلى الله ما توالى على الشعب من متاعب ومصائب وكلامه شبيه بما ورد في (مراثي إرميا ١: ١٠). بل هي شكوى شبيهة بما ورد في نبوءة (ميخا ٣: ١٢). ومما لا شك فيه أن نبوءة ميخا هذه قد أوجدت ثوراناً عظيماً في أفكار الشعب عندئذ (راجع إرميا ٢٦: ١٨ وأيضاً ٢ وثم تثنية ٢٨: ٢٦). الأمر المهم في نظر المرنم هو كيف تطاولوا على الدخول إلى البلاد التي هي ميراث من رب الجنود بل كيف نجسوا الهيكل واستباحوه وجعلوا خربه أكواماً وليس من ينقذ.
(٢) وقوله «دفعوا جثث عبيدك» أي جثث أولئك الشهداء الذين ماتوا في سبيل دينهم وبلادهم. لقد تركت تلك الجثث في العراء لا يهتم أحد بأن يجمعها ويدفنها حتى جاءت طيور السماء وأكلتها وهذا منتهى العار في نظر الأقدمين لا سيما إذا تذكرنا أن الله يجمع الجثث ويعيدها ذاتها للحياة ولكن الآن فإن هؤلاء القتلى لم يعد لهم أي أمل بالعودة والقيامة من الموت كما أن وحوش الأرض ذاتها قد شاركت في هذه الوليمة العظيمة.
«٣ سَفَكُوا دَمَهُمْ كَٱلْمَاءِ حَوْلَ أُورُشَلِيمَ وَلَيْسَ مَنْ يَدْفِنُ. ٤ صِرْنَا عَاراً عِنْدَ جِيرَانِنَا، هُزْءاً وَسُخْرَةً لِلَّذِينَ حَوْلَنَا. ٥ إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَغْضَبُ كُلَّ ٱلْغَضَبِ وَتَتَّقِدُ كَٱلنَّارِ غَيْرَتُكَ؟ ٦ أَفِضْ رِجْزَكَ عَلَى ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَكَ وَعَلَى ٱلْمَمَالِكِ ٱلَّتِي لَمْ تَدْعُ بِٱسْمِكَ. ٧ لأَنَّهُمْ قَدْ أَكَلُوا يَعْقُوبَ وَأَخْرَبُوا مَسْكَنَهُ».
(٣) بل قد استباحوا سفك دمائهم ومن كثرتها أصبحت تجري كالماء وهي مسفوكة حول أورشليم أي من كل جانب فإن هذا الويل العظيم قد أحاق بشعب الله فنكل بهم العدو أعظم تنكيل وجعلهم يحتارون كيف ينجون وفي أية جهة يذهبون لأنه قد سدت في وجوههم كل سبل الخلاص. وفي نظر المرنم كان هذا المصاب مؤثراً للغاية إذ لم يكن أحد يدفن هؤلاء القتلى بل قد تركوا معرضين لأبشع التعديات وأفظعها إن كان من طيور السماء أو من وحوش البرية ولا يوجد من يشفق.
(٤) وقد زاد في آلام المرنم صرخته بالعار واعتباره أن شعبه قد أصبح هزءاً وسخرة أمام الجميع. إن آلام الجسد لا تقاس شيئاً بالنسبة لآلام الروح. فقد سقطت الهمة وذهب العزم وفسد كل شيء أمامهم. وإذا بأولئك الجيران الذين كانوا بالأمس عبيداً أذلاء إذا بهم يتعظمون عليهم ويفتخرون وإذا حسبنا هذا الكلام ينطبق على الغزو الكلداني فالأعداء هم الأدوميون.
(٥) إلى متى؟ هذا هو السؤال الخطير إلى متى تشتعل كالنار غيرة الرب ضد شعبه الذين عصو أوامره وساروا في طرق رديئة وهكذا استحقوا مثل هذا الغضب (راجع تثنية ٣٢: ٢٢).
(٦) أما حان الوقت إن هذا الغضب الذي يظهره الرب ضد شعبه يتحول الآن ضد أولئك الأمم الذين قد عظموا الاضطهاد ضد مختاريه وأذاقوهم العذاب أشكالاً وألواناً. أليس هؤلاء الشعوب أنفسهم أحق بالقصاص والعقاب أكثر كثيراً من شعبك الذي أذللته. وكما قلنا سابقاً فإن هذا العدد والذي بعده مأخوذان من (إرميا ١٠: ٢٥).
(٧) هذه الممالك الغريبة التي لم تعرف اسمك ولم تدع به بل عاشت وثنية غريبة هل يجوز لهذه أن تصول وتطول على هذه الصورة المؤسفة. هوذا هم قد فتكوا بالشعب فتكاً ذريعاً وأكلوه كما يأكل الإنسان خبزاً أو بعض المأكولات وتجرأوا بعد ذلك على أن يخربوا مساكن الناس ويطردوهم ويشردوهم إلى كل ناحية (انظر إشعياء ٥: ٢٦ و١٧: ١٣). وإن يكن إن هذا القصاص الصارم قد جرى على شعب إسرائيل نتيجة عصيانهم وتعديهم على أوامر الله.
«٨ لاَ تَذْكُرْ عَلَيْنَا ذُنُوبَ ٱلأَوَّلِينَ. لِتَتَقَدَّمْنَا مَرَاحِمُكَ سَرِيعاً لأَنَّنَا قَدْ تَذَلَّلْنَا جِدّاً. ٩ أَعِنَّا يَا إِلٰهَ خَلاَصِنَا مِنْ أَجْلِ مَجْدِ ٱسْمِكَ، وَنَجِّنَا وَٱغْفِرْ خَطَايَانَا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ. ١٠ لِمَاذَا يَقُولُ ٱلأُمَمُ: أَيْنَ هُوَ إِلٰهُهُمْ؟ لِتُعْرَفْ عِنْدَ ٱلأُمَمِ قُدَّامَ أَعْيُنِنَا نَقْمَةُ دَمِ عَبِيدِكَ ٱلْمُهْرَاقِ. ١١ لِيَدْخُلْ قُدَّامَكَ أَنِينُ ٱلأَسِيرِ. كَعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ ٱسْتَبْقِ بَنِي ٱلْمَوْتِ».
(٨) يمكننا أن نرى هنا بدء الارتداد للتوبة فالمرنم يرجو الله أن لا يحسب على الشعب ما ارتكبه آباؤهم. ذلك لأن هؤلاء الأبناء قد ارتدعوا عن غي آبائهم وتعديهم وعادوا يطلبون الله (انظر قضاة ٦: ٦) ولا يعني المرنم أن يبرر هؤلاء البنين من الذنب الموروث بل يطلب العفو والرحمة والرضا (انظر تثنية ٢٤: ١٦ و٢ملوك ١٤: ٦ وحزقيال ١٨: ٢٠). فهو يصلي صلاة التوبة كما يطلب المغفرة للأولين أيضاً.
(٩) إن الله في نظر المرنم لا يرضى أن تسود الأمم طويلاً على شعبه إذ هو يستعملهم كقضيب يضرب بهم أولاده لكي يرجعوا ويتوبوا ومتى تم له هذا الأمر يرمي هذا القضيب من يده جانباً ويعود لأولاده كالسابق. وهذا العدد يحرك العواطف القلبية بطلب العون والإسعاف ولا سيما فإن هذا الطلب ليس لأن الشعب يستحق بل لأن اسم الله وحده يستحق كل شيء. هو طلب لأجل غفران الخطايا ليس إلا ومتى تاب الشعب يعود الله راحماً.
(١٠) هل يسمح الله أن يتبجح هؤلاء الأمم العتاة الظالمون حتى يقولوا أين هو إلههم المعين؟ نعم إن الله يريد أن يقاص شعبه ولكنه تعالى لا يريد أن يتصرف هؤلاء بصلف زائد حتى يكفروا بالله ولا يعودوا للرشاد ويحسبوا له كل حساب أولاً. بل إن الله لا شك سيعود للرضا على شعبه وحينئذ فإنه ينتقم من أجل دم عبيده المهراق كأنه ماء مسكوب وليس دماً زكياً يريد الله الاحتفاظ به وتكريمه (راجع خروج ٣٢: ١٢ وقابله مع العدد ١٤: ١٣ - ١٧ وتثنية ٩: ٢٨ وأيضاً يوئيل ٢: ١٧).
(١١) إن هذا الاستعطاف يشبه كثيراً ما ورد في (مزمور ١٠٢: ٢١ وقابله مع مزمور ١٨: ٧). لا يزال عدد كبير من الأسرى في يد الأعداء وهم ينتظرون الموت ساعة بعد أخرى لذلك يسميهم «بني الموت». إذ لم يكن شيء من الرحمة في قلب المنتصر على الأسير المسكين. ولكن هوذا الله وحده يسمع أنينه ويرثي لحاله ويمد ذراعه وينتشله مما هو فيه ولا يبقيه قط في هذه الآلام العظيمة المبرحة. ذلك لأن ذراع الله وحدها تديره لذلك فلتقصر كل ذراع يمده العدو مهما طالت.
«١٢ وَرُدَّ عَلَى جِيرَانِنَا سَبْعَةَ أَضْعَافٍ فِي أَحْضَانِهِمِ ٱلْعَارَ ٱلَّذِي عَيَّرُوكَ بِهِ يَا رَبُّ. ١٣ أَمَّا نَحْنُ شَعْبُكَ وَغَنَمُ رِعَايَتِكَ نَحْمَدُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ. إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ نُحَدِّثُ بِتَسْبِيحِكَ».
(١٢) يطلب أن يرد النقمة على رأس هؤلاء الجيران سبعة أضعاف. إذ قد يكون لهؤلاء الأعداء العتاة البعيدين بعض العذر في ظلمهم وتجنيهم على شعب الله ولكن هؤلاء الجيران الذين شاهدوا أعمال رب إسرائيل واختبروا قدرته مدى السنين فأي عذر لهم؟ هؤلاء بالحق يستحقون أن يقتص الرب منهم على نسبة شرورهم هذه. ولينالوا هذا القصاص في أحضانهم أي في أعز مكان لديهم. فبدلاً من أن ينالوا منهوبات الغنائم التي يضعونها في أحضانهم ويضمونها في صدورهم ليكن لهم العار فيرجع ما عيروا الله به إلى نحورهم وصدورهم لأنهم قد تطاولوا أكثر مما يستطيع الإنسان احتماله. والحضن هو المكان الذي يختزن به الإنسان ما يسلم إليه (انظر لوقا ٧: ٣٨ وأيضاً إشعياء ٦٥: ٦ و٧ وإرميا ٣٢: ١٨). والعدد سبعة هو عدد مقدس كامل (انظر تكوين ٤: ١٥ و٢٤).
(١٣) والسبب الذي يلتمس به هذا الالتماس برجوع الرب إلى شعبه هو بالنسبة لتلك العلاقة المتينة الكائنة بينه وبينهم والتي لا تتغير أبداً وإن مرّ الزمان وجرى ما لم يكن في الحسبان فهي أمور وقتية لا بد أن تزول بزوال أسبابها. هم غنم رعاية الرب فقد ضلوا وشردوا والآن يريدون الرجوع. لقد ابتعدوا عن الوطن زمناً ولكنهم يلجأون من براري الحياة ومجاهلها إلى مواطن الأمن والسلام. ذلك لأنهم يعودون للحمد الأبدي فهم الذين يعبدونه بالحق ويتسمون باسمه ويتبعون شريعته وإن كان في الماضي قد أغفلوها مهملين فليس ذلك إلا إلى حين. وليكن أن كل حديث يتناول موضوع التسبيح للرب حتى إلى دور فدور ولا نصمت إلى أن يكون القلب واللسان معاً في طاعة الله وحسب مشيئته.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّمَانُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى اَلسَّوْسَنِّ. شَهَادَةٌ. لآسَافَ. مَزْمُورٌ


«١ يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ ٱصْغَ، يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَٱلضَّأْنِ، يَا جَالِساً عَلَى ٱلْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ. ٢ قُدَّامَ أَفْرَايِمَ وَبِنْيَامِينَ وَمَنَسَّى أَيْقِظْ جَبَرُوتَكَ وَهَلُمَّ لِخَلاَصِنَا. ٣ يَا اَللّٰهُ أَرْجِعْنَا وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ».
هذه صلاة قلبية من أجل الكرمة التي هي إسرائيل. يبدأ المرنم كلامه مخاطباً راعي إسرائيل لافتاً نظره إلى حالة القطيع وما يتحمله من مشقات. قد انتهى المزمور السابق بقول «نحن شعبك وغنم رعايتك» وهنا يتابع هذه الصورة المؤثرة ويخاطب هذا الراعي بما فيه العطف والشفقة على الرعية. ومما هو جدير بالذكر أنه يذكر أسباط أفرايم وبنيامين ومنسى في العدد الثاني ولا يذكر بقية الأسباط ولعل ذلك إشارة إلى سقوط مملكة الشمال بيد الأشوريين الذين يسميهم (خنزير الوعر). لقد حاولت مملكة السامرة (الشمال) محاولات كثيرة بواسطة تعاونها مع دمشق والسوريين أن تنجو من الخطر المحدق بها ولكن على ما يظهر كان ذلك عبثاً وإذا بها تخضع خضوعاً تاماً لتلك السيطرة الماحقة التي سادت العالم عندئذ وكان ذلك في السنة السادسة لملك حزقيا. والأرجح أنه مزمور كتب قبل السبي البابلي وهو شبيه جداً بالمزامير المنسوبة لآساف حتى نتساءل من هو آساف هذا. أتراه أحد الرعية في سبطي أفرايم ومنسى؟ ونجد في هذا المزمور ثلاثة تكرارات للعبارة «ارجعنا وأنر بوجهك فنخلص» وهذا دليل على الضيق المستحوذ حتى يصيح المرنم من أعماق نفسه طالباً النجدة والخلاص.
(١) لا يحوي هذا العدد الأول سوى الاستعطاف فهو يدعو شعب الله إسرائيل وينسى بذلك الانقسامات التي شطرت الأمة شطرين وهكذا يعود بالذاكرة إلى الأيام القديمة وإلى الجد الأول الذي يضم جميع الأسباط. وبعد ذلك يدعو الله قائد يوسف وهو جد آخر بعد يعقوب يجمع إليه شمل أفرايم ومنسى. هذا الإله القديم الأيام الجالس على الكروبيم وهو أيضاً قبل جميع أولئك الجدود.
(٢) يطلب المرنم نجدة ونوراً ينير السبيل أمام هؤلاء الصارخين بطلب العون الإلهي ويسميهم حسب أسباطهم بأسماء. ومن المناسب أن نذكر هنا أن يعقوب حينما بارك ولده يوسف فيدعو الله راعيا (انظر تكوين ٤٨: ١٥ و٤٩: ٢٤) هنا يطلب من الله أن يظهر بجبروته ويستخدم سلطانه ويسرع بالنجدة والخلاص لقد طفح كيل الأعداء ولا يطيق الشعب أي احتمال فيما بعد.
(٣) يطلب إلى الله أن يضع نوره ويظهر بمجده ويبدد أعداءه الذين يحيطون بشعبه ويضايقونهم. لا يقصد المرنم بقوله ارجعنا كإنما الشعب قد سبي عن بلاده وشرد في أقاصي الأرض بل يقصد أن هذا الشعب المنكوب المغلوب على أمره يعود فينهض للحياة والحرية مرة أخرى ولا يعرف أي سلطان سوى يهوه رب الجنود إله الآباء والجدود.
«٤ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ، إِلَى مَتَى تُدَخِّنُ عَلَى صَلاَةِ شَعْبِكَ؟ ٥ قَدْ أَطْعَمْتَهُمْ خُبْزَ ٱلدُّمُوعِ وَسَقَيْتَهُمُ ٱلدُّمُوعَ بِٱلْكَيْلِ. ٦ جَعَلْتَنَا نِزَاعاً عِنْدَ جِيرَانِنَا، وَأَعْدَاؤُنَا يَسْتَهْزِئُونَ بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ. ٧ يَا إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ أَرْجِعْنَا، وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُص. ٨ كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ. طَرَدْتَ أُمَماً وَغَرَسْتَهَا».
(٤) يستعمل هنا كل أسماء الله التي يعرفها المرنم ضارعاً مسترحماً لكي لا يظل مدخناً على صلاة شعبه. والدخان هنا يقصد به ما يخرج من أنف الله دليلاً على غضبه (راجع مزمور ٧٤: ١ وتثنية ٢٩: ١٩ و٢٠) أي لماذا لا تزال تقسو على شعبك ولا ترحمهم؟ لماذا لا ترجع فتضمهم إليك مرة أخرى؟ إلى متى يسأل بها نهاية لهذه الأحزان والمتاعب.
(٥) لا سيما وإن هذا الشعب قد تحمل من الآلام ما لا يطاق وإلى زمان طويل حتى وهو في صيامه كان يبكي حتى تصبح هذه الدموع قوته اليومي بل حتى يضطر أن يشربها بدلاً من الماء (انظر مزمور ٤٢: ٤). ذلك هو خبز الدموع وماء الدموع تصبح قوتاً وشراباً.
(٦) وهكذا اشتدت الحالة المؤسفة سوءاً حتى أصبحوا سبب نزاع لدى الجيران. وهؤلاء الجيران هم الأمم المجاورة الذين جاءوا للفتك بنا والحط من كرامتنا وهكذا تنازعوا بين أنفسهم علينا بل كنا سبب هزء وسخرية لهم لا يهمهم أمرنا إلا على مقدار ما يربحون ويستفيدون وهكذا لقد انحط شأننا وساء مصيرنا حتى أصبح هؤلاء الجيران يتحكمون بنا ويعاملوننا بكل احتقار.
(٧) ولكن ما أجمل هذا الالتفات لله. فبعد أن ييأس من حالة هؤلاء الناس الذين لا يهمهم أمرنا إلا على مقدار مصالحهم الذاتية أي تلطف بنا بعد ولا تتركنا بل انظر إلينا بضياء وجهك فنهتدي ولا تدخن علينا بنار أنفك فنهلك. إن الحاجة ماسة للرجوع إلى الله والسير في سبله وهكذا ننجو مما نحن فيه مهما اشتدت علينا النكبات واستحكمت الظلمات أنر لنا يا رب فنخلص.
(٨) إذا رجعنا مرة أخرى إلى بركة يعقوب ليوسف (راجع تكوين ٤٩: ٢٢). نجده هناك أغصان قد ارتفعت فوق حائط. لقد نما وتقدم في مصر وكان سبباً لنجاة إخوته. ولكن الله قد أخذ هذه الكرمة وغرسها في مكان جديد بعد أن طرد أمماً كثيرة من وجهها ووضعها مكانها وهذا منتهى الرضا والرحمة إذ ستنمو عظيمة جداً في أرض الموعد حيثما وعد الله بها ميراثه لإبراهيم ونسله إلى الأبد.
«٩ هَيَّأْتَ قُدَّامَهَا فَأَصَّلَتْ أُصُولَهَا فَمَلأَتِ ٱلأَرْضَ. ١٠ غَطَّى ٱلْجِبَالَ ظِلُّهَا وَأَغْصَانُهَا أَرْزَ ٱللّٰهِ. ١١ مَدَّتْ قُضْبَانَهَا إِلَى ٱلْبَحْرِ وَإِلَى ٱلنَّهْرِ فُرُوعَهَا. ١٢ فَلِمَاذَا هَدَمْتَ جُدْرَانَهَا فَيَقْطِفَهَا كُلُّ عَابِرِي ٱلطَّرِيقِ؟ ١٣ يُفْسِدُهَا ٱلْخِنْزِيرُ مِنَ ٱلْوَعْرِ وَيَرْعَاهَا وَحْشُ ٱلْبَرِّيَّةِ!».
(٩) إن هذه الكرمة التي أخذت من محل ونصبت في محل آخر قد نجحت كثيراً وإذا بها قد بعثت أصولها إلى أعماق التربة وامتدت وعظمت جداً. والفضل في ذلك إلى الله ذاته الذي أعد لها تربة صالحة غير صخرية ولا مجدبة وهكذا فإن المملكة الإسرائيلية قد امتدت إلى كل جهة من المكان الذي نزلت فيه حسب إتمام الوعد الإلهي.
(١٠ و١١) فامتدت إلى الجبال جنوباً وغطى ظلها حتى تلك الأماكن العالية كما أنها قد أرسلت أغصانها حتى أرز الله (لبنان). وهذا من جهة الشمال. كما وأنها قد مدت قضبانها إلى البحر المتوسط من الجهة الغربية وأما من الشرق فقد اتصلت بالنهر العظيم الفرات (راجع تثنية ١١: ٢٤). لقد كثرت هذه الكرمة حتى ملأت الجبال منتشرة إلى كل ناحية وما أجمل الكروم تراها حتى الآن ممتدة على التلال المختلفة جلا بعد جل دليل نموها وازدهارها. وهو أرز الله أو أرز الرب لأنه دليل على قدرة الله الحية فهو ينمو على أعالي الجبال إشارة دائمة للعظمة والجلال. ومع ذلك فإن هذه الكرمة قد تسلقت إلى أعالي تلك الأشجار العظيمة وغطتها حتى لم تعد ترى بل تظهر الكرمة فوقها فقط. وقديماً وحتى الآن تنمو العرائش على هذه الصورة.
(١٢) هنا يعود المرنم يسأل هذا السؤال الخطير لماذا إذاً هدمت جدرانها حتى لم تعد مصونة من أقدام العابثين والسارقين. كيف سمحت أن تمتد إليها أيدي عابري الطريق فلا يرعون لها حرمة ولا يحفظون ذماماً. إن حالتها الحاضرة مما يحير عقل المفكر المنصف إذ كيف أنك يا رب بعد أن اعتنيت هذه العناية العظيمة فأصبحت كرمة عظيمة مثمرة بل امتدت حتى أصبحت كرماً كبيراً ذا نفع جزيل فكيف تمتهن حقوقها ويذهب مركزها عبثاً.
(١٣) الأرجح أن خنزير الوعر هو إشارة لدولة أشور كما أسلفنا من قبل أو ربما أي معتدٍ يستطيع كالوحش البري أن يعتدي على ثمرها وينتهك حرمتها ويفسدها ويذهب برونقها ونفعها وهو حيوان يعيش في البراري والوعور ولكنه يسطو على الحقول ويأكل ما يجده أمام وجهه غير مشفق على نمو الكرمة ولا يهمه تقدمها. وكم الفرق عظيم بين رعايتها بيد الله وبين هذه الرعاية التي لا تبقي منها شيئاً.
«١٤ يَا إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ ٱرْجِعَنَّ. ٱطَّلِعْ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱنْظُرْ وَتَعَهَّدْ هٰذِهِ ٱلْكَرْمَةَ ١٥ وَٱلْغَرْسَ ٱلَّذِي غَرَسَتْهُ يَمِينُكَ، وَٱلٱبْنَ ٱلَّذِي ٱخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ. ١٦ هِيَ مَحْرُوقَةٌ بِنَارٍ، مَقْطُوعَةٌ. مِنِ ٱنْتِهَارِ وَجْهِكَ يَبِيدُونَ. ١٧ لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَى رَجُلِ يَمِينِكَ وَعَلَى ٱبْنِ آدَمَ ٱلَّذِي ٱخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ، ١٨ فَلاَ نَرْتَدَّ عَنْكَ. أَحْيِنَا فَنَدْعُوَ بِٱسْمِكَ. ١٩ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ أَرْجِعْنَا. أَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ».
(١٤) مرة أخرى يلتفت إلى الله ويلتمس منه أن يعود فيتعطف برحمته ويحنو عليها بعنايته. وهنا نجد ثلاث درجات يتدرح بها هذا الإله المحب العطوف. أولاً يطلب منه أن يرجع ولا يبقى معرضاً ولا بعيداً وثانياً يطلب منه أن يطلع ويتطلع من مكان سكناه في الأعالي وثالثاً ينظر متعهداً هذه الكرمة إذ لا يكفي أن يتطلع بل أن يعقب تطلعه ما فيه النظر والعناية بحالة هذه الكرمة لئلا تهلك ويعفو أثرها.
(١٥) ذاك لأنه غرس مغروس بيد الله هو ليس شيئاً برياً ينبت من نفسه ويضمحل من نفسه أيضاً بل هو معتنى به من قبل ولا يعيش إلا بمثل هذه العناية كما هي الحالة بالأشجار المثمرة كلها فهي تنمو وتثمر على نسبة العناية والأكلاف التي تبذل في سبيلها. وهنا يترك المجاز (الكرمة) ويأتي للكلام الحقيقي ويطلب لهذا الابن أن يكون برعاية أبيه أيضاً كابن مختار.
(١٦) ثم ينتقل مرة أخرى للمجاز فيعود للكرمة ويقول عنها أنها محروقة ومقطوعة وهي كذلك هذه المرة ليست من العدو بل من الله ذاته الذي غضب على شعبه وقاصهم هذا القصاص الصارم. فقد انتهرهم وهكذا بادوا من أمام وجهه ولكنه إذا رضي عنهم يعودون.
(١٧) لا سيما وإسرائيل هو ابن لهذا الإله المحب الذي عاهده منذ القديم فلا ينساه الآن هو رجل يمينه الذي يتكل عليه (خروج ٤: ٢٢ وهوشع ١١: ١) فكما أن اسمه بنيامين فهو يجب أن يكون يميناً لله يتكل عليه ويثق به بعد.
(١٨) لذلك نحن لا نرتد عنك وإن كنت يا رب قد انتهرتنا بأن لم تعطنا وجهك بل دخنت علينا بغضبك ولكن هذا كله إلى حين. عدّ يا رب واعطنا حياة ولتعد هذه الكرمة لكي تنبت من جديد قبل فوات الآوان. وحينئذ متى عدت إلينا بالرضا ندعو باسمك ونحمده إلى الأبد.
(١٩) وأخيراً يختم بهذه الآية المتكررة ثلاث مرات كما رأينا في هذا المزمور ومما يجب أن ننتبه إليه هو أن الله يرضى علينا أولاً ويرجعنا إليه فنغير اتجاهنا عن الشر والفساد ونلتفت إلى نبع الخلاص والرشاد. وهكذا فإن الظلمة تتبدد من حياتنا ونعيش بنور الله وخلاصه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلثَّمَانُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ٱلْجَتِّيَّةِ. لآسَافَ


«١ رَنِّمُوا لِلّٰهِ قُوَّتِنَا. ٱهْتِفُوا لإِلٰهِ يَعْقُوبَ. ٢ ٱرْفَعُوا نَغْمَةً وَهَاتُوا دُفّاً، عُوداً حُلْواً مَعَ رَبَابٍ. ٣ ٱنْفُخُوا فِي رَأْسِ ٱلشَّهْرِ بِٱلْبُوقِ عِنْدَ ٱلْهِلاَلِ لِيَوْمِ عِيدِنَا».
يحيي هذا المزمور احتفالات عيد الفصح عند الإسرائيليين ويغتنمها فرصة لكي ينبه الأفكار إلى وجوب الارتداد إلى الله وسماع صوته والرضوخ لفرائضه وإرشاداته. ويعود بالذاكرة إ لى التاريخ فيذكر (راجع مزمور ٨٠: ٩ وقابله مع ما ورد في العدد ١٠ من هذا المزمور). ولا شك أن ارتباط هذا المزمور بسابقه هو ارتباط وثيق نضم إليهما ٧٨ أيضاً. وما هو جدير بالذكر أن المرنم يقطع حديثه في جميعها بصورة مقتضبة مفاجئة بعد أن يصعد لأسمى الأفكار ويغوص في عمق المعاني إذا به ينتقل بسرعة إلى النهاية دون أن يعود للنقطة التي ابتدأ بها. وهو يذكر يوسف بالأكثر وينتقل بسرعة إلى أشخاص عديدين وهذا مما يعرف بالالتفات في البيان (راجع ميخا ٦: ١٥ وما يليه).
حسب العادات القديمة يخص هذا المزمور رأس السنة الجديدة (نيسان) (راجع سفر العدد ٢٩: ١) وبالتالي فهو يتناول أقدس التذكارات التي تشير للفصح اليهودي (حزقيال ٢٣: ١٦ و٣٤: ٢٢).
(١) هي دعوة موجهة إلى عموم الناس أن يرفعوا أصواتهم بالتهليل والنشيد. والهتاف بقوله «اهتفوا» ليس ضرورياً أن يكون بالبوق بل الأرجح هي الهتافات الصوتية الخارجة من قلوب مترنمة فرحانة (راجع عزرا ٣: ١١) وهذا الترنيم والهتاف هو لله لإله يعقوب الذي فدى شعبه وهم خاصته ولذلك عليهم أن يخصوه بهذا التسبيح.
(٢) يلتفت بعد ذلك إلى اللاويين المخصصين للترنيم في خدمة الهيكل والقيام بالعبادة المقدسة (راجع ٢ أخبار ٥: ١٢) كما وأنه في العدد الثالث يلتفت للكهنة ويطلب منهم أن ينفخوا بالأبواق كما هي عادتهم في رأس الشهر والأعياد هؤلاء اللاويون يذكر عنهم أنهم يستعملون هذه الآلات الدف والعود والرباب. لذلك كانوا يعزفون بشكل أجواق تتناوب الخدمة بترتيب (راجع ٢أخبار ٣٠: ٢١).
(٣) يخاطب الكهنة كما رأينا ويطلب منهم أن ينفخوا بالأبواق في رأس الشهر إيذاناً باقتراب العيد ويذهب ديلتش (راجع المجلد ٢ صفحة ٢٩٤) إلى ترجمة الكلمة العبرانية «البدر» بدلاً من الهلال ويخالف بذلك الكثيرين من الثقات. والمهم في الأمر أن هذه الدعوة إن كان لعامة الشعب أو اللاويين والكهنة إنما هي لكي يبدأوا العيد بما هو واجب التسبيح والتمجيد لصاحبه وهو إله إسرائيل.
«٤ لأَنَّ هٰذَا فَرِيضَةٌ لإِسْرَائِيلَ، حُكْمٌ لإِلٰهِ يَعْقُوبَ. ٥ جَعَلَهُ شَهَادَةً فِي يُوسُفَ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ. سَمِعْتُ لِسَاناً لَمْ أَعْرِفْهُ. ٦ أَبْعَدْتُ مِنَ ٱلْحِمْلِ كَتِفَهُ. يَدَاهُ تَحَوَّلَتَا عَنِ ٱلسَّلِّ. ٧ فِي ٱلضِّيقِ دَعَوْتَ فَنَجَّيْتُكَ. ٱسْتَجَبْتُكَ فِي سِتْرِ ٱلرَّعْدِ. جَرَّبْتُكَ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ. سِلاَهْ. ٨ اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأُحَذِّرَكَ. يَا إِسْرَائِيلُ، إِنْ سَمِعْتَ لِي».
(٤) هنا يشرع المرنم بشرح هذا الأمر بأكثر دقة فيخبرنا كيف أن الله جعله فريضة أبدية تذكاراً للخلاص الذي أعده على يد موسى عبده فهو فريضة لأن ذلك يتناول الناحية القانونية وهو حكم لأن لا مجال في الاختيار أو عدمه إذ هو معين ومرتب بأمر إلهي. فإذاً أصبح أن إسرائيل هو الذي أخذ هذا التشريع من يد الله ذاته وهذا يعود بنا لتاريخ الخروج من أرض مصر.
(٥) نجد واضحاً بذكره هنا أرض مصر فقد خرج الله عليها بالضربات التي تستحقها وفي الوقت ذاته قد نجّى الله شعبه (راجع خروج ١٢: ٢٧) وهذا الشعب عندئذ قد سمع صوتاً لم يفهمه جيداً مع أنه صوت الله الذي كلمه بفم عبده موسى. وقد يكون المعنى أيضاً أن شعب إسرائيل بمكوثه في مصر سمع لساناً هناك ولكنه لم يتعلمه جيداً بل بقي غريباً عنه حتى منّ الله عليه بالخروج فخرج ليعبد إلهه وقد جعل هذا التذكار شهادة أبدية للحدث.
(٦) يعود بالتذكار إلى أرض مصر كيف أن الله قد أعان شعبه ليحتمل الاضطهاد ويخفف عنه الأثقال التي وضعها المصريون عليه. لذلك فقد أبعد كتفه عن الحمل كما حوّل يده عن السل الذي يجلب به الطين واللبن للبناء الذي فرضه فرعون عليهم (انظر خروج ١: ١٤ و٧ وما بعده).
(٧) من حالة العبودية تلك ومن أشد أوقات الضيق قد دعا الشعب إلهه مستنجداً فكانت له النجدة إذ مدّ يده بواسطة العجائب التي صنعها عبد الرب موسى على البحر الأحمر فهداهم بعمود السحاب وفي الوقت ذاته سترهم عن أعين أعدائهم لكي لا يستطيعوا اللحاق بهم. وهنا يشير أيضاً كيف أن الرب كان يتجلبب بالسحاب ويرسل البرق والرعود على جبل سيناء حتى خاف الشعب وطلبوا من موسى أن يكلم الله وحده ويعفيهم هم أنفسهم. بل كان لهم الامتحان على مياه مريبة حينما أعطاهم الله ماء ليشربوا. وينتهي بارتفاع الموسيقى.
(٨) هنا يبدأ بالتحذير والوعظ بعد أن ذكر بالتاريخ الماضي وما فعله الله مع شعبه من عظائم. يريد من شعبه فقط أن ينتبه وأن يسمع وحينئذ يكون له التحذير الكافي وفي التكرار بقوله يا شعبي ثم يا إسرائيل من قبيل عطف البيان لكي يزيد النداء رسوخاً في النفس حتى لا ينسى أبداً.
«٩ لاَ يَكُنْ فِيكَ إِلٰهٌ غَرِيبٌ، وَلاَ تَسْجُدْ لإِلٰهٍ أَجْنَبِيٍّ. ١٠ أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ ٱلَّذِي أَصْعَدَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. أَفْغِرْ فَاكَ فَأَمْلأَهُ. ١١ فَلَمْ يَسْمَعْ شَعْبِي لِصَوْتِي، وَإِسْرَائِيلُ لَمْ يَرْضَ بِي. ١٢ فَسَلَّمْتُهُمْ إِلَى قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ لِيَسْلُكُوا فِي مُؤَامَرَاتِ أَنْفُسِهِمْ».
(٩) وأما موضوع التحذير فهو خطير جداً إذ ينهاهم عن العبادة الوثنية والسجود لآلهة صنمية كانت عبادتها دارجة في تلك الأيام. لقد كان أهم ما ورد في سيناء هو تأكيد العلاقة والعهد بين الرب وشعبه لذلك فهو يذكرهم مرة أخرى بهذا العهد الذي قطعه آباؤهم من قبل وعليهم أن يقوموا به بكل أمانة ليظلوا شعبه الخاص لئلا يصبحوا غرباء وأجانب إذا انغمسوا في تلك العبادة الغريبة الأجنبية.
(١٠) يكرر هنا فاتحة الوصايا العشر (راجع خروج ٢٠) فيؤكد عدم عبادة إله غريب أو أجنبي لأن مثل هذه العبادة هي أساس للكفر بالله وبنعمه وقطع للعلاقات الكريمة بين الرب وشعبه. يذكر الشعب بالبركات التي يمنحها كالمن والسلوى وكل ما يطلبه منه أن يغفر فاه فقط لكي يملأه بهذا الخير. إذاً فالشرط الأولي لنوالنا خيرات الله هو استعدادنا أن نقبلها بالطاعة والشكر. علينا أن نفعل ما يفعله الطفل الصغير لدى رضاعته ثدي أمه وحينئذ فالشبع يأتيه حينما يفغر فمه لقبول اللبن. فلنكن إذاً طالبين للرحمة متعطشين لنيل الخلاص.
(١١) هنا يأخذ الكلام اتجاهاً آخر وفيه مسحة واضحة من الكآبة والحزن فقد عصى هذا الشعب أمر الله ولم يرض به إلهاً. وهكذا رفض الشرائع والوصايا التي تسلمها وبذلك خسر المواعيد الإلهية التي وعدوا بها إذ لم يعودوا مستحقين لها أبداً. إسرائيل لم يرض (راجع إشعياء ١: ٣ كذلك تثنية ١٣: ٩).
(١٢) وبعد ذلك جاءتهم النتيجة القاسية ولكنها نتيجة طبيعية معقولة لا يمكن أن يكون غير ذلك. إن الله الرحيم هو عادل أيضاً وهكذا فإن شريعته لا بد أن تتمم فإذا خالفنا كلامه فنحن النادمون. يقول «سلمتهم إلى قساوة قلوبهم...» إذاً فالقساوة قد خرجت منهم ولذلك عليهم أن يحتملوا ما جنته أيديهم ولا يستطيعون أن يتذمروا لو كانوا يعقلون إذ أن الحكم عليهم بما أصابهم فهم الذين قد حكموا به وحاشا لله أن يحكم عليهم بسوى العدل والإنصاف. فقد سلكوا في معاصيهم إذ أن قساوة القلب يتبعها بعد ذلك القساوة في العمل (راجع إشعياء ٦٥: ٢ وقابله مع إرميا ٧: ٢٤ وكذلك مع ميخا ٦: ١٦).
«١٣ لَوْ سَمِعَ لِي شَعْبِي وَسَلَكَ إِسْرَائِيلُ فِي طُرُقِي، ١٤ سَرِيعاً كُنْتُ أُخْضِعُ أَعْدَاءَهُمْ، وَعَلَى مُضَايِقِيهِمْ كُنْتُ أَرُدُّ يَدِي. ١٥ مُبْغِضُو ٱلرَّبِّ يَتَذَلَّلُونَ لَهُ، وَيَكُونُ وَقْتُهُمْ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ١٦ وَكَانَ أَطْعَمَهُ مِنْ شَحْمِ ٱلْحِنْطَةِ، وَمِنَ ٱلصَّخْرَةِ كُنْتُ أُشْبِعُكَ عَسَلاً».
(١٣) إن كلمة لو هنا شديدة وقاسية فهي نفي لوجود إذ أن هذا الشعب لم يسمع ولم يسلك كما يريد إلهه. إذاً فهنا باب للعتب والملام. لقد ذهب العهد مع الله باطلاً ولم يحفظوا فرائضه وأحكامه ولم يمشوا حسب أوامره. هم زرعوا الأسباب وعليهم أن يحصدوا النتائج وأي حق لهم على ولي أمرهم طالما هم الذين تركوه أولاً. كان المنتظر منهم غير الذي فعلوه وهكذا حدث لهم ما لم ينتظروه بالنسبة لغلاظة قلوبهم وتحجر ضمائرهم وتركهم للرب الإله الذي ذهبت عجائبه فيهم عبثاً.
(١٤ و١٥) لو أطاع الشعب إلهه لكان منتصراً على الأعداء ظافراً ضد كل المضايقين والكائدين له شراً وهكذا كان الرب يرّد يده مرة أخرى كما مدّها قديماً ضد مصر وجميع جندها. وهكذا يصبح هؤلاء الأعداء متذللين لا يقوون على الصمود بوجه الرب ويكون وقت ذلهم إلى الدهر إلى مدى طويل لا يستطيعون معه أن يفعلوا شيئاً ضد إله إسرائيل. ولكن شعبه بسبب عناده هو في حالة التوبيخ لأجل التربية وطلب التوبة (راجع إشعياء ١: ٢٥ وعاموس ١: ٨ وإرميا ٦: ٩ وحزقيال ٣٨: ١٢) أما مبغضو الرب فلا فرق أكانوا من الأعداء الأجانب أو من شعب إسرائيل نفسه فهم لكي ينجوا مما هم فيه يجب أن يتذللوا أمام الرب ويخضعوا له مظهرين سيادته عليهم وإلا فنهايتهم الهلاك كنهاية أعداء الرب جميعهم.
(١٦) ويختم المزمور كلامه بتعبير تاريخي وإن يكن كما رأينا بصورة مقتضبة كما هي الحالة في (المزمورين ٧٧ و٧٨). يعود المرنم إلى تلك العلاقة الجميلة إذا سمعوا صوت الرب (راجع تثنية ٣٢: ١٣ وما بعده). فهو يريد أن يعود الشعب بالذاكرة إلى المواعيد المقدسة ولا ينسوها. وهوذا هنا يستعمل ما قاله لهم الرب نفسه في (مزمور ٥٠: ٨ وتثنية ٤: ٣١). إذا عاد الشعب للرب وسلّم ذاته بالكلية إليه فهو مستعد مرة أخرى أن يصنع عجائبه معه كما حدث في أيام موسى لأنه إله واحد قدير قديم الأيام وهو هو أمساً واليوم وإلى الأبد. حينئذ يأكل الشعب فيشبع ويتمتع بأطايب الحياة كلها حتى من العسل البري الذي تكشفه له الصخرة. وهكذا يعيش سعيداً كريماً بدلاً من عيشه الحاضر.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلثَّمَانُونَ


مَزْمُورٌ لآسَافَ


«١ اَللّٰهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ ٱللّٰهِ. فِي وَسَطِ ٱلآلِهَةِ يَقْضِي. ٢ حَتَّى مَتَى تَقْضُونَ جَوْراً وَتَرْفَعُونَ وُجُوهَ ٱلأَشْرَارِ؟ سِلاَهْ. ٣ اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا ٱلْمِسْكِينَ وَٱلْبَائِسَ».
إن آساف المرنم الرائي في هذا المزمور يشاهد الله آتياً لكي يوبخ ويهدد زعماء شعبه ويقوّم اعوجاجهم ويذكرهم بأن مركزهم السامي هذا وعلاقتهم بإلههم يجب أن تدفعهم للقيام بالواجبات المفروضة عليهم. جيد للإنسان أن يذكر قيمة نفسه ويعتز بها ولكن ذلك جائز حينما يكون دافعاً للنهوض بالعمل المفروض عليه وليس لمجرد التفاخر والاعتداد بالذات. ونرى آساف يجعل الله ذاته يتكلم (راجع مزمور ٥٠ و٧٥ و٨١). فهو يود أن يرينا الله قاضياً على شعبه وعلى العالم أجمع. وقد وضع بعض المفسرين عنواناً لهذا المزمور «قضاء الله على آلهة الأرض». فمن هم آلهة الأرض هؤلاء؟ وهل يقصد بهم ما عبده الناس من أصنام وأوثان أم أنهم الزعماء والقادة ولا سيما من بني إسرائيل أنفسهم. ويستبعد كلمة «إلوهيم» بهذا المعنى في أي مكان من الكتاب المقدس. وقد استخدم السيد المسيح ما ورد في هذا المزمور داعياً نفسه ابن الله (راجع يوحنا ١٠: ٣٤ - ٣٦). فهو بذلك يدحض قول اليهود عندئذ أنه يجدف على اسم الله طالما أولئك قد دعاهم المزمور آلهة. بل أن هؤلاء لا يستحقون هذا الاسم قط بالنسبة لسلوكهم غير المرضي من جهة البر وقداسة الحياة.
(١) إن الله لكونه قد أعطى شعبه شريعة عاهدوه على السير بموجبها فإذاً هو الذي يقضي عليهم بموجبها. وهكذا يصبح مجمع الله هم جماعة إسرائيل الذي انتخبهم الله خاصته (راجع العدد ٢٧: ١٧ و٣١: ١٦ ويشوع ٢٢: ١٦ وما بعده). هذا الشعب الذي منح أن يشارك الله في تفهم الواجبات المطلوبة منه ويقضي على الشعوب من جهة حياتهم الأدبية وسيرتهم.
(٢) هؤلاء أنفسهم لم يكونوا مستحقين هذا الشرف الذي دعوا إليه بل قضوا بالجور وساروا سيرة الأشرار. الذين يرفعون وجوه فيكونون أشراراً هم أنفسهم إذ يصبحون شركاءهم في جريمة الجور والقساوة. يسأل المرنم حتى متى؟ وهنا توبيخ شديد مرّ وينتهي بارتفاع الموسيقى دليل أهمية هذا الموضوع الذي بدأ البحث فيه.
(٣) كان الحق على هؤلاء أن ينصرفوا إلى طلب العدالة والإنصاف وأي الناس أحق بهما من الذليل الذي لا معين له فهو مهضوم الحقوق مدوسها دائماً ومن اليتيم الصغير الذي لا يعرف كيف يدافع عن نفسه ومن المسكين والبائس اللذين ليس لهما مال كاف أو جاه يستطيعان بهما طلب المقاضاة والإنصاف (إشعياء ١: ١٧).
«٤ نَجُّوا ٱلْمِسْكِينَ وَٱلْفَقِيرَ. مِنْ يَدِ ٱلأَشْرَارِ أَنْقِذُوا. ٥ لاَ يَعْلَمُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ. فِي ٱلظُّلْمَةِ يَتَمَشُّونَ. تَتَزَعْزَعُ كُلُّ أُسُسِ ٱلأَرْضِ. ٦ أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو ٱلْعَلِيِّ كُلُّكُمْ. ٧ لٰكِنْ مِثْلَ ٱلنَّاسِ تَمُوتُونَ وَكَأَحَدِ ٱلرُّؤَسَاءِ تَسْقُطُونَ. ٨ قُمْ يَا اَللّٰهُ. دِنِ ٱلأَرْضَ، لأَنَّكَ أَنْتَ تَمْتَلِكُ كُلَّ ٱلأُمَمِ».
(٤) ولكن هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يحصلوا حقوقهم بأنفسهم يجب أن يحصلها لهم من يدعون أنهم يجلسون في مجمع الله وهم صحبه وخاصته. يذكرهم مرة أخرى بواجبهم الأولي وهو أن ينجو المسكين والفقير لأن يد الأشرار شديدة وتقتص منهم في كل حين. عملهم إذاً هو النجاة والإنقاذ إذ أن الحيف واقع لا محالة والمتظلمون كثيرون وإنما من يسمع وينجد ويسرع للعمل قبل فوات الأوان.
(٥) ولكن يظهر أن هؤلاء المكلفين بالقضاء العادل بين الناس لا يتممون ما ينتظر منهم فلم ينجوا المسكين ولم يقضوا بالحق لليتيم والذليل وهكذا يأتي عليهم هم أنفسهم حكم الله العادل فيقول عنهم أنهم لا يعلمون ولا يفهمون. وهكذا يضيع فيهم إرشاد الله فقد قصد أن يسترشدوا بنوره ويهتدوا من الظلمة التي هم فيها لأن استرسالهم في الضلال والغواية يسبب تزعزعاً حتى إلى أساسات الأرض إذ لا يعود يثق أحد بأحد بعد هؤلاء المقامين للعدل والبر.
(٦) يعود فيذكرهم مرة أخيرة باللقب الشريف الذي ينالهم لو فهموا وعقلوا. هم في هذا المقام السامي طالما يستطيعون أن يجروا عدلاً ويتمموا إنصافاً ولكنهم إذا لم يفعلوا ذلك يسقطون ويذهب عزهم من أيديهم على حق قول الشاعر
أعطيت ملكاً فلم تحسن سياسته وكل من لا يسوس الملك يخلعه



إن مقامهم هذا هو مدعاة قيامهم بالواجب فإن لم يفعلوا انتزع منهم كل شيء.
(٧) هوذا يذكرون أيضاً بالعواقب الوخيمة التي يصلون إليها. وإنهم الآن في حياة قصيرة لا بد أن تنقضي وعليهم أن يغتنموا الفرصة ولا يتأخروا. ذلك لأن الموت غير بعيد عن أي منهم. وإذا حسبوا رؤساء أفليس الرؤساء أيضاً يسقطون ولا يبقى سوى الله العلي فوق كل العالمين (راجع قضاة ١٦: ٧) فإذاً وظيفتهم هذه ليست للجماعة بل للدينونة لأن من أعطي كثيراً يطلب منه كثيراً.
(٨) يلتفت أخيراً إلى الله بعد أن أعياه أمر الناس ولم يبق لديه أي أمل بالإصلاح من هؤلاء هوذا الله يقضي بعدل على الجميع (راجع مراثي ٣: ٥٩). هو الذي يدين الأمم جميعاً لأنها كلها ملكه وتخضع لسلطانه. وليس من المحتمل أن يكون التوبيخ موجهاً لقضاة الأرض من الأمم الأخرى بل هو توبيخ لشعب إسرائيل ولا سيما لكبرائه أن ينتبهوا ويضحوا قبل نزع سلطانهم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلثَّمَانُونَ


تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لآسَافَ


«١ اَللّٰهُمَّ لاَ تَصْمُتْ، لاَ تَسْكُتْ وَلاَ تَهْدَأْ يَا اَللّٰهُ، ٢ فَهُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَعِجُّونَ وَمُبْغِضُوكَ قَدْ رَفَعُوا ٱلرَّأْسَ. ٣ عَلَى شَعْبِكَ مَكَرُوا مُؤَامَرَةً وَتَشَاوَرُوا عَلَى أَحْمِيَائِكَ».
هذا هو المزمور الأخير من المزامير المنسوبة لآساف وفيه يستنجد الله لكي يصب نقمته على أعدائه وهم تلك الأمم المجاورة من نسل لوط مثل الموآبيين والعمونيين الذين قصدوا أن يهلكوا شعب الله وأن يقتلعوه لو استطاعوا من الأصول ويرموا به جانباً. يذهب بعض المفسرين أن زمان هذا المزمور ينطبق على ما ورد في (١مكابيين ص ٥) فيكون في منتصف القرن الثاني قبل المسيح ويفضله هؤلاء على أن يكون قد كتب في زمن نحميا لدى شروعه في بناء الهيكل وترميم أسوار أورشليم وما صادفه من مقاومة سنبلط وطوبيا وأتباعهما. كما أنه يوجد احتمال آخر وهو زمن يهوشافاط (راجع ٢أخبار ص ٢٠) حينما تألب عدد من الأمم لكي يجتثوا مملكة يهوذا من أصولها. وهنا نجد موآمرة مدبرة بينما في أيام المكابيين لا نجد شيئاً من ذلك. ولكن يوجد صعوبة هنا أيضاً إذ يذكر صور وفلسطين وأشور وهؤلاء لا شأن لهم في الموآمرة ضد يهوشافاط ولكن إذا وزنا كل الاعتبارات معاً نجد هذا الاحتمال الأخير هو أقرب إلى العقل من كل الاحتمالات الأخرى وحينئذ نتفق مع المزمور ٤٨ بأن هذه الموآمرة كانت موجهة ضد يهوشافاط وهذا يرتاح إليه العدد الأكبر من المفسرين.
(١) يطلب المرنم أن لا يبقى الله بين المتفرجين بينما شعبه يتحمل مثل هذا الاضطهاد ويستهدف لمثل هذا الخطر العظيم. يتمنى أن يكون الله في حالة الاستعداد للعمل ضد الأعداء لذلك يطلب إليه أن لا يصمت ولا يسكت ولا يهدأ لأن ذلك معناه استرسال هؤلاء الأعداء في غيهم وعدم تمهلهم في ما هم مقدمون عليه. هم يطلبون منه أن ينهض ويعمل سريعاً قبل فوات الأوان.
(٢) إن هؤلاء الأعداء يعجون ويضجون فهم يصخبون بكلامهم غير حاسبين للعلي أي حساب ويزعمون أنه باستطاعتهم أن يجروا ما يشاؤونه غير مهتمين بأي إنسان وكأن الله ذاته غير موجود. بل هم يرفعون رؤوسهم بالنسبة لسقوط شعبك إذاً هم مرتاحون للنتائج التي وصلوا إليها حتى يمكنهم أن يتشامخوا متكبرين ويكلموا غيرهم بصلف لا مزيد عليه.
(٣) وما هي مؤامرتهم هذه سوى أن يهلكوا شعبك ويبددوا ميراثك إذاً هم قوم لا حرمة عندهم ولا ذمام إذ يعملون أمورهم بالخفاء يقولون شيئا ويفعلون آخر يدعون بما ليسوا فيه صادقين. وأعظم الخطب هو أنهم يريدون أن يطالوا بشرهم حتى المحميين منك (احميائك) الذين وضعتهم تحت عنايتك الكاملة وهذا منتهى القحة وعدم الاكتراث بأي العهود.
«٤ قَالُوا: هَلُمَّ نُبِدْهُمْ مِنْ بَيْنِ ٱلشُّعُوبِ وَلاَ يُذْكَرُ ٱسْمُ إِسْرَائِيلَ بَعْدُ. ٥ لأَنَّهُمْ تَآمَرُوا بِٱلْقَلْبِ مَعاً. عَلَيْكَ تَعَاهَدُوا عَهْداً. ٦ خِيَامُ أَدُومَ وَٱلإِسْمَاعيلِيِّينَ. مُوآبُ وَٱلْهَاجَرِيُّونَ. ٧ جِبَالُ وَعَمُّونُ وَعَمَالِيقُ. فِلِسْطِينُ مَعَ سُكَّانِ صُورٍ. ٨ أَشُّورُ أَيْضاً ٱتَّفَقَ مَعَهُمْ. صَارُوا ذِرَاعاً لِبَنِي لُوطٍ. سِلاَهْ».
(٤) لقد صرّحوا عن الغاية من مؤامرتهم بقولهم «هلم نبدهم» وما أكثر ما تعرف النوايا بواسطة الكلام. يريدون أن يقضوا قضاء مبرماً على الشعب حتى لا تقوم له قائمة فيما بعد ولا يكون شعباً أو أمة (راجع إشعياء ٧: ٨ و١٥: ١ و٢٥: ٢ وإرميا ٤٨: ٤٢). ونلاحظ أن المرنم قد أخذ عن إرمياء (راجع إرميا ٤٨: ٢) بل يمكننا القول أنه قد أخذ عن عدد من الأنبياء (قابل ذلك مع إشعياء ٤٢: ٦ وما يتلوه مع العدد الثاني من هذا المزمور كذلك إشعياء ١٧: ٢ مع العدد الثالث منه).
(٥) لقد كان لهم قلب واحد في المؤامرة لأنه من السهل في هذه البلاد الشرقية منذ القديم أن يتفقوا مع العدو وأن يختلفوا مع الصديق لذلك فإن الخلاف هين حصوله وأما التعاون وحسن التفاهم شيء معدوم تقريباً. وكانت معاهدتهم العدائية هذه موجهة ضد الله لانه تعالى قد عاهد شعبه على الحفظ والحماية فكل من يخل بهما فهو عدو الله أولاً.
(٦) يذكر المرنم هؤلاء الأعداء بالتفصيل فهم الأدوميون والعمونيون وسكان جبل سعير وقبائل عربية سماها الإسماعيليين والهاجرين. كذلك منهم بنو موآب وجميع هؤلاء يقطنون الجهة الأخرى من نهر الأردن كما أن بعضهم يقطنون الجنوب والجنوب الشرقي من البحر الميت ولأنه ذكر أدوم أولاً فالأرجح أن هؤلاء الأعداء قد التقوا هناك حيثما حاكوا مؤامرتهم وأحكموا صنعها. وقوله خيام أدوم أي سكان الخيام فهم إذاً بدو رحل يعيشون كما اليوم أيضاً.
(٧) ثم يذكر الأعداء بشكل جغرافي فيعدد سكان «جبال» أي جبل سعير على الأرجح فهم سبعة أما عماليق فهم الذين بقوا بعد الحادثة المذكورة في (١أخبار ٤: ٤٢ وما يليه). وإذا راجعنا سفر التكوين ٢٥: ١٨ فهو يذكر الإسماعيليين أنهم سكنوا من الحجاز حتى شبه جزيرة سيناء. وأما الهاجريون فقد قطنوا الخيام من الخليج الفارسي حتى شرقي جلعاد (راجع ١خبار ٥: ١٠) وحتى نهر الفرات أيضاً.
(٨) وهؤلاء الأعداء يشملون الفلسطينيين وسكان صور أيضاً على ساحل البحر وأخيراً يذكر أشور التي لم تصبح عندئذ قوة عالمية جبارة تسود العالم إذ أن ذلك جرى بعد هذا التاريخ وإنما على ما يظهر قد أوعزت لهؤلاء الأعداء وهم بنو لوط وشددت أيديهم وقالت لهم أن يتمموا العمل الذي شرعوا به وهي سراً معهم.
«٩ اِفْعَلْ بِهِمْ كَمَا بِمِدْيَانَ، كَمَا بِسِيسَرَا، كَمَا بِيَابِينَ فِي وَادِي قِيشُونَ. ١٠ بَادُوا فِي عَيْنِ دُورٍ. صَارُوا دِمْناً لِلأَرْضِ. ١١ ٱجْعَلْ شُرَفَاءَهُمْ مِثْلَ غُرَابٍ وَمِثْلَ ذِئْبٍ. وَمِثْلَ زَبَحَ وَمِثْلَ صَلْمُنَّاعَ كُلَّ أُمَرَائِهِمِ. ١٢ ٱلَّذِينَ قَالُوا: لِنَمْتَلِكْ لأَنْفُسِنَا مَسَاكِنَ ٱللّٰهِ».
(٩) هنا إشارة إلى انتصار جدعون على المديانيين (راجع قضاة ٧) وحوادث جدعون بقيت من أعظم الذكريات في تاريخ بني إسرائيل ولطالما علق عليها آمال جسام وكانت سبب نهضة وتعزية للأجيال التي تلتها (انظر إشعياء ٩: ٣ و٤ و١٠: ٢٦ وقابل ذلك مع حبقوق ٣: ٧) فقد كان انتصاراً ساحقاً على يابين ملك المديانيين وعلى سيسرا قائد جنده بواسطة دبورة وباراق. وإذا راجعنا (قضاة ٥: ٢١) نرى أن نهر قيشون قد حمل جثث القتلى وقد كان هذا الأمر مألوفاً في تلك الأيام.
(١٠) عين دور هذه هي بالقرب من طابور وليست بعيدة عن تعنك ومجدو (قضاة ٥: ١٩) لأن تلك الأمكنة كانت مركزاً لتلك المعارك الطاحنة التي قررت مصير التاريخ الإسرائيلي لمدة طويلة. وقد درست معالم أولئك الأعداء حتى أصبحت دمناً للأرض تدل فقط على آثار ذهب أصحابها طعماً للسيف في وسط ذلك القتال.
(١١) فإذا كان هذا نتيجة الاعتداء على شعب الله في القديم فليكن مثل هذه النتيجة للمعتدين على شعب الله في هذا الوقت الذي يذكره. ليكن نصيبهم الخيبة والقتل مثل غراب وذئب أميري المديانيين وكذلك مثل نصيب زبح وصلمناع ملكي المديانيين (راجع قضاة ٨: ٥). وهذا دعاء عليهم بالخيبة والنكوص لأن ادعاءهم بالقوة لا يفيدهم شيئاً إذا كان الله مع شعبه وهكذا لا يكون شرفاء هؤلاء الأعداء ولا أمراؤهم أحسن حالاً وأجل نصيباً من أولئك الأقدمين. إذاً فلا شك التاريخ يعيد نفسه والأمور تجري بحكم الله فقط وعنايته وهو بيده مقادير كل شيء.
(١٢) أما السبب الذي يعززه لخيبة أولئك فهو أنهم أرادوا أن يمتلكوا لأنفسهم مساكن الله. أرادوا أن يحتلوا الأمكنة المقدسة ويستعبدوا شعبه ويزيلوا عبادته من البلاد. إذاً هم مستكبرون قساة عتاة يريدون أن ينفذوا مآربهم الشخصية ومصالح أممهم بقطع النظر عن الواجبات الإنسانية المفروضة نحو الله العلي الذي يجب أن يبقى فوق الجميع ولا يستطيع أحد أن يقول له ماذا تفعل. هذه البلاد المقدسة بالأصل أرض كنعان تصبح أرض إسرائيل ويحكمها الرب الإله (راجع ٢أخبار ٢٠: ١١ وأيضاً مزمور ٧٤: ٢٠). ولا يرغب عن بالنا أن هذا الادعاء ينطبق على بني إسرائيل في ذاك الحين ولكنه لا ينطبق على ادعاء الصهيونيين اليوم. فلقد ورث سكان البلاد من سبقوهم كما ورث اليهود من كان قبلهم.
«١٣ يَا إِلٰهِي ٱجْعَلْهُمْ مِثْلَ ٱلْجُلِّ، مِثْلَ ٱلْقَشِّ أَمَامَ ٱلرِّيحِ. ١٤ كَنَارٍ تُحْرِقُ ٱلْوَعْرَ، كَلَهِيبٍ يُشْعِلُ ٱلْجِبَالَ. ١٥ هٰكَذَا ٱطْرُدْهُمْ بِعَاصِفَتِكَ، وَبِزَوْبَعَتِكَ رَوِّعْهُمُ. ١٦ ٱمْلأْ وُجُوهَهُمْ خِزْياً فَيَطْلُبُوا ٱسْمَكَ يَا رَبُّ. ١٧ لِيَخْزَوْا وَيَرْتَاعُوا إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلْيَخْجَلُوا وَيَبِيدُوا ١٨ وَيَعْلَمُوا أَنَّكَ ٱسْمُكَ يَهْوَهُ، وَحْدَكَ ٱلْعَلِيُّ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ».
(١٣) الجِلّ بالكسر هو قصب الزرع إذا حصد ونجد «الجلة» في العامية وهو ما يصنعه الفلاحون من روث الماشية يخلطونه بالقش والتبن وينشفونه بالشمس لكي يستعمل وقوداً أيام الشتاء. وحسب القاموس فالجُلة بالضم هي البعر فيقال أن بني فلان وقودهم الجِلة والأفضل بالكسر ثم الفتح أيضاً. وهكذا يتابع المرنم دعاءه عليهم ويطلب من الله أن يبددهم تبديداً حتى لا يكون لهم أية قيمة ولا يعطى لهم أي وزن بل يذهبون مع الريح كما يذهب القش.
(١٤) ولا يكتفي لهم بالتبديد بواسطة الريح لئلا يتجمعوا مرة أخرى وينتج عن ذلك ضرر ملموس وهكذا يطلب لهم ناراً من السماء تحرق الوعر وتتصل بأشجار الجبال حتى العالية منها. إذاً مهما علا هؤلاء الأعداء ومهما ادعوا لأنفسهم فإن الله يستطيع أن يبددهم في الوقت الذي يراه أنسب وبالطريقة التي يشاؤها.
(١٥) الشيء المهم هو غضب الله عليهم ولا فرق عند المرنم أي أنواع هذا الغضب ينزل عليهم إذ هنا يطلب لهم أن تجتاحهم العاصفة وتحملهم الزوبعة مدحورين مروعين حتى لا تقوم لهم قائمة. حينما يكون هؤلاء الأعداء على غفلة من أنفسهم عندئذ تكون المصيبة عليهم أكبر وأروع (راجع إشعياء ١٠: ١٦ - ١٩ وتثنية ٣٢: ٢).
(١٦) إذاً فهؤلاء المخزيون المنهزمون أمام وجه الله تأكلهم نار غضبه وهذا يقابل عداوتهم لشعبه وكذلك تبددهم عاصفة سخطه على نسبة بعض هؤلاء الأعداء وحقدهم. وليظل هذا الغضب عليهم حتى يعودوا إلى الله بالتوبة والذل. قد لا يؤمنون به ولكن واجبهم أن يخضعوا لأحكامه وأن يستسلموا لمشيئته ويعرفوا أن الله موجود بين شعبه ليرعاهم ويحميهم.
(١٧ و١٨) يتابع المرنم في هذين العددين سلسلة اللعنات القوية على هؤلاء الأعداء فيطلب لهم مرة أخرى الخزي والرعب والخجل والإبادة. ومتى بادوا تماماً في وسط إبادتهم هذه تعلم كل الأرض اسم الرب يهوه الذي له وحده المجد والقدرة والسلطان. لذلك فأمجاد جميع الأمم تضمحل وأما مجد الرب فهو إلى أبد الآبدين. هو وحده العلي الذي لا يمكن أن يصيبهم أي شيء في الأرض الذي يخضعها دائما تحت قدميه ويسير بها حسب مشيئته السرمدية. ولا أرى كما يذهب بعض المفسرين أن المرنم يعني خضوع الأمم بالإيمان بالله بل هو يرينا أن الله سيخضعهم بجبروته وسلطته بقطع النظر عن إيمانهم به فهو وحده يبقى إلى الأبد يتصرف بالعالمين.


اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلثَّمَانُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ٱلْجَتِّيَّةِ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ


«١ مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ يَا رَبَّ ٱلْجُنُودِ. ٢ تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ ٱلرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ. ٣ اَلْعُصْفُورُ أَيْضاً وَجَدَ بَيْتاً، وَٱلسُّنُونَةُ عُشّاً لِنَفْسِهَا حَيْثُ تَضَعُ أَفْرَاخَهَا، مَذَابِحَكَ يَا رَبَّ ٱلْجُنُودِ، مَلِكِي وَإِلٰهِي».
موضوع هذا المزمور هو التشوق إلى بيت الرب والسعادة التي ينالها المؤمن بواسطة السكنى فيه. وهو من تلك المزامير العاطفية الخلابة التي تدل على عمق الحياة الروحية والتلذذ بالاجتماع في بيت الرب. لذلك فناظمه متصوف من الدرجة الأولى. يرى في العبادة سمواً إلى الأعالي وغذاء روحياً تستقيم به النفوس كما يفعل الغذاء الجسدي للجسد. ويرى أن العصفور والسنونة تجد في بيت الرب ما يجد هو من حماية ورعاية.
هذا المزمور هو لبني قورح كما يذكر عنوانه والأرجح أن المرنم كان بعيداً عن أورشليم وعن الهيكل ولذلك فهو يذكر الوطن بالحنو والحنين. ويتمنى العودة والسكنى قريباً. وقوله على الجتية كما ورد في المزمور الثامن والمزمور الخمسين هي نوع من الآلات الموسيقية. ونسق المزمور هو من النوع الفني العالي الذي يلتهب غيرة وحماسة للرب.
(١ و٢) يتغزل أولاً بمحاسن بيت الرب ويجد فيه حلاوة وطيباً لا يجدهما في غيره. ومساكن الرب هي على جبل صهيون حيثما يقوم الهيكل رفيعاً شامخاً إلى العلاء يسمو بأبراجه وقببه. وهو يحن للوصول إليه حنيناً قلبياً كما (أيوب ١٩: ٢٧). فإن قلبه وجسده كله تشتاق ذلك الشوق المضني بمشاهدة تلك الأمكنة المقدسة. بل هو يجد في ذلك المكان ما يبرد غلته ويروي ظمأه حتى أن قلبه يهتف بحمد الله وشكره على هذا الإحسان العظيم. وهو إله حي لأنه قديم الأيام فكما كان الهيكل للجدود والإله العظيم هو إله الآباء والجدود كذلك فهو الإله الآن أيضاً لا يتغير ولا يزول.
(٣) العصفور هو الأرجح (الدوري) الذي كان معروفاً عندئذ وهو الذي وضع عشه في الهيكل. كما أن السنونة فعلت كذلك. لأن في ذلك المكان حماية وعطفاً لا يجدهما في غيره. وهذه تضع أفراخها في العش آمنة مطمئنة أكثر من أي موضع أخر قد تصل إليه يد الأولاد الذين يهاجمون أعشاش الطيور ليخربوها ويقتلوا أفراخها غير مشفقين على شيء. ويعين مكان الأعشاش أنها في المذابح المقامة حيثما يوجد بعض الشقوق فيها تناسب لبنائها وهي في أمنٍ وسلام.
«٤ طُوبَى لِلسَّاكِنِينَ فِي بَيْتِكَ أَبَداً يُسَبِّحُونَكَ. سِلاَهْ. ٥ طُوبَى لِأُنَاسٍ عِزُّهُمْ بِكَ. طُرُقُ بَيْتِكَ فِي قُلُوبِهِمْ. ٦ عَابِرِينَ فِي وَادِي ٱلْبُكَاءِ يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعاً. أَيْضاً بِبَرَكَاتٍ يُغَطُّونَ مُورَةَ. ٧ يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ. يُرَوْنَ قُدَّامَ ٱللّٰهِ فِي صِهْيَوْنَ. ٨ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ ٱسْمَعْ صَلاَتِي، وَٱصْغَ يَا إِلٰهَ يَعْقُوبَ. سِلاَهْ».
(٤) في هذا العدد نجد أن ذلك العصفور المذكور في العدد الماضي هو للإستعارة فيلتفت إلى نفسه ويتمنى مطوباً الناس الذين يستطيعون السكنى في بيت الرب لكي يسبحوه على الدوام. وينتهي بارتفاع الموسيقى. ما أعمق هذا الحنين وما أجمله صادراً من قلب مشوق بعيد عن الوطن يحن رجوعاً إليه وأحسن محل في نظره هو بيت الرب نفسه للحفظ والحماية من جميع الأخطار والشرور التي تحيط به في غربته.
(٥) ولا يكتفي بأن يطوب الساكنين بل يطوب المعتزين ببيت الرب الذين يفتخرون بدينهم ويعتزون بإيمانهم ويباهون. أولئك الذين يعيشون بديانة قلبية لا ظاهرية فقط. فإن هو تمنى القدوم فإنما بطريق القلب والعبادة الحقة لا بطريق المراسيم الخارجية.
(٦ و٧) وهم في سفرتهم والأمل يملأ قلوبهم يجعلون من وادي البكاء بدلاً من أن يملأوه بالدموع إذا به يتحول ينبوعاً ذلك لأن عظمة ما يتوقعونه يجعلهم ينسون ما هم فيه من وعثاء السفر ومشقاته وحيئنذ فإن الطريق التي يسيرون فيها بمحطاتها الكثيرة المختلفة تصبح أمكنة نزهة وغبطة ويرون البركات المتعددة كلما جدّوا في المسير بعد. وهكذا فإن ضعفهم يتحول إلى قوة وتعبهم يتحول إلى راحة ولا يزالون كذلك إلى أن يقفوا أمام المحجة التي يقصدونها.
(٨) وصلاته هي أن يصل إلى ما يقصده بخير وسلام ذلك لأن المهم ليس تعب الطريق بل الوصول إلى نهاية السفرة فنرتاح بالاطمئنان ونسعد بدار الأمان. ثم يعود فيتحول المرنم لكي يسمع صلاته للرب ويلتمس منه الإصغاء حتى لا يذهب تعبه ضياعاً وتكون نهاية السفر أفضل من بدائتها. وهكذا مرة أخرى ترتفع الموسيقى كإنما قد وصل المسافر إلى غرضه بالنسبة لشدة تيقنه بأن الرب لا بد مستجيب صلاته على كل حال.
«٩ يَا مِجَنَّنَا ٱنْظُرْ يَا اَللّٰهُ، وَٱلْتَفِتْ إِلَى وَجْهِ مَسِيحِكَ. ١٠ لأَنَّ يَوْماً وَاحِداً فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ. ٱخْتَرْتُ ٱلْوُقُوفَ عَلَى ٱلْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلٰهِي عَلَى ٱلسَّكَنِ فِي خِيَامِ ٱلأَشْرَارِ. ١١ لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱللّٰهَ شَمْسٌ وَمِجَنٌّ. ٱلرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْداً. لاَ يَمْنَعُ خَيْراً عَنِ ٱلسَّالِكِينَ بِٱلْكَمَالِ. ١٢ يَا رَبَّ ٱلْجُنُودِ، طُوبَى لِلإِنْسَانِ ٱلْمُتَّكِلِ عَلَيْكَ!».
(٩) يترك المرنم الآن أولئك المسافرين الحاجين إلى الديار المقدسة الذاهبين للوقوف في بيت الرب ويجد نفسه أنه في خيال جميل هو أشبه بالحلم وإذا به يعود إلى نفسه فيجد أنه لا يزال بعيداً عن الأوطان وإن المخاطر لا تزال تحيط به من كل جانب. يحتاج الله لأنه المجن الذي تحته يحتمي. يحتاج إليه لكي يتلفت إلى وجه مسيحه. وفي قوله «وجه مسيحك» قد ذهب بعضهم إلى الظن أن المقصود هو داود وإن زمن كتابة هذا المزمور هو وقت اضطهاد أبشالوم. ولكني لا أرى ضرورة لذلك بل هو دعاء لمسيح الرب أياً كان. فإذا كان المرنم كاهناً فهو مسيح الرب أيضاً. وقد يكون أنه يصلي طالباً الحماية لأمته بواسطة ملكها الممسوح من الرب عليها وهو الآن في حالة الضيق والبعد عن الأوطان.
(١٠) يعود مرة أخرى لما شرع به من تمجيد لبيت الرب وحنين للرجوع إليه. وهو يرى مفضلاً أن يسكن يوماً واحداً في بيت الرب على أن يسكن ألفاً في غيره. بل يفضل أن يقف على العتبة حتى لا يستطيع الدخول لكثرة الازدحام من أن يسكن قرير العين في خيام الأشرار الذين ملّ عشرتهم ويتمنى البعد عنهم الآن.
(١١ و١٢) مما يلفت النظر في هذا العدد أن يذكر أن الرب شمس ثم يتبعه بقوله ومجن. وهذه هي المرة الوحيدة التي وردت في الكتابات المقدسة على هذه الصورة. نعم يوجد «شمس البر والشفاء في أجنحتها». فهو شمس بأنه لا يطال ولكنه يصل إليها فيعطي رحمة للناس كما يتمجد في الأعالي وهكذا فإنه يسكب خيراته بكل كرم على السالكين في شريعته والحافظين وصاياه. ثم ينتهي بتطويب آخر حينما يسلم لله ويتكل عليه لا سيما والرب الإله هو رب الجنود القوي السائر أمام شعبه حتى يدخلهم إلى دياره المقدسة بسلام إذ يحميهم في الطريق ويقودهم دائماً. إذاً لهم الطوبى لأنهم تعبوا ووجدوا بعد ذلك لكي يحيوا مرتاحين دائماً.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلثَّمَانُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ


«١ رَضِيتَ يَا رَبُّ عَلَى أَرْضِكَ. أَرْجَعْتَ سَبْيَ يَعْقُوبَ. ٢ غَفَرْتَ إِثْمَ شَعْبِكَ. سَتَرْتَ كُلَّ خَطِيَّتِهِمْ. سِلاَهْ. ٣ حَجَزْتَ كُلَّ رِجْزِكَ. رَجَعْتَ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ».
هذا المزمور هو أحد تلك الترانيم الفياضة بالعاطفة والشعور التي نظمها الشعراء لدى عودتهم من السبي. ونجد أمثال هذا فيما نسميه إشعياء الثاني أي في الأصحاحات الأربعين إلى الآخر من سفر ذلك النبي. وقد ذكر أحد المفسرين أن كلام هذا المزمور ينطبق على العصر الذي لازم السبي حينما أخذت الأمة تتكون من جديد وتبني معالمها الدارسة وتعيد مظاهر حياتها إلى حالتها الطبيعية. وعلى كل ليس هم المزمور الأول أن يدل على حوادث تاريخية جرت وإن يكن أن الأعداد ٢ - ٤ تنم عن أن الشعب قد استقر في الأرض ولم يعد عليه أي خوف أو خطر.
(١ - ٣) يعود المرنم في هذا العدد إلى التاريخ المملوء بكل دلائل الرضا والقبول. ونلاحظ في بدء الأعداد الثلاثة ١ و٢ و٣ قوله «رضيت. غفرت. حجزت». ثم نجد في القسم الثاني من كل عدد قوله «أرجعت. سترت. رجعت». يذكر المرنم في هذه الأفعال المختلفة حوادث لا شك قد مرت على الشعب وعليهم أن يتذكروا ولا ينسوا قط. وهكذا فإن غضب الله هو إلى حين ثم يعود للرضا على شرط أن يحسن الإنسان سلوكه مع الله ولا يستمر على غوايته وشره. وفي قوله في العدد الأول «سبي يعقوب» يوجد إشارة إلى حادثة تاريخية حقيقية وليس الكلام من قبيل المجاز فقط. ونجد في العدد الثاني «سلاه» دليل ارتفاع الموسيقى وإن المعنى هنا قد وصل إلى غايته القصوى. لأن رضا الله بإرجاع السبي قد عقبه الغفران ومحو الذنوب. إذ لو كان مجرد رضا وقتي ولم يتم الغفران فيكون أن الله سوف يقاص شعبه بعد ولا يرحمهم. والخطية لانها تؤذي الضمير وتلطخ السيرة وتفسدها لذلك فإن سترها معناه محوها بتاتاً حتى لا يستطيع أحد أن يراها. بالطبع لا يقصد بذلك أن يسمح لنفسه بخطايا غير ظاهرة إنما القصد أن يؤكد أن الخطايا الفردية والشعبية قد غفرت تماماً ولم يعد شيء من آثارها.
«٤ أَرْجِعْنَا يَا إِلٰهَ خَلاَصِنَا وَٱنْفِ غَضَبَكَ عَنَّا. ٥ هَلْ إِلَى ٱلدَّهْرِ تَسْخَطُ عَلَيْنَا؟ هَلْ تُطِيلُ غَضَبَكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ؟ ٦ أَلاَ تَعُودُ أَنْتَ فَتُحْيِينَا فَيَفْرَحَ بِكَ شَعْبُكَ؟ ٧ أَرِنَا يَا رَبُّ رَحْمَتَكَ وَأَعْطِنَا خَلاَصَكَ. ٨ إِنِّي أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ ٱللّٰهُ ٱلرَّبُّ. لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِٱلسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ، فَلاَ يَرْجِعُنَّ إِلَى ٱلْحَمَاقَةِ».
(٤ - ٧) في هذه الأعداد الأربعة يوجد صلاة حارة لله لكي يعود فيترأف على شعبه ولا يذكر خطاياهم فيما بعد. لقد سبق لله أن غفر الإثم وصفح عن الذنب فليكن هذا العمل إذن ليس شيئاً تاريخياً تم في الماضي ولا يعود الآن بل بالأحرى هو عمل مستمر يبقى ما دام الله غفوراً رحيماً. ونلاحظ أن الضمير هو للمتكلم الجمع فكان دليلاً على أن الكلام هو باسم الشعب كله وليس باسم أي فرد منهم. وفي العدد الرابع بدلاً من القول «ارجعنا...» كان الأفضل أن تترجم ارجع إلينا... أي إن الله قد التفت بعيداً مهملاً شعبه وهذا الشعب أصبح في غضب الله وبعده فيطلب المرنم أن يعود الله إليهم وليس فقط أنهم هم يعودون إليه. إذ في نظره لا قيمة لرجوع الخاطئ طالما الله لا يلتفت ولا يهتم به. بالطبع هنا دلالة على أن الكلام لم يصل إلى ذلك النضج الروحي الذي يصوره العهد الجديد بأجلى بيان (راجع لوقا ١٥: ١٢) حينما يصرخ الابن الضال «أقوم واذهب إلى أبي...» بعد أن يعود إلى نفسه فإن الأب الحنون يقبل الابن التائب حالاً وبلا أقل تردد. بعد أن يلتمس في العدد الرابع يتساءل في العدد الخامس ويترجى في السادس وأخيراً في السابع يطلب الرحمة الكاملة والخلاص.
(٨) بعد هذا التساؤل والترجي إذا بالمرنم يعود إلى نفسه واثقاً متأكداً فهو قد أصغى طويلاً والآن يسمع. وهل نستطيع أن نسمع دون إصغاء؟ فلولا تساؤله الطويل وكثرة انتظاره وترجيه لما قدر أن يأخذ من الله وعداً كريماً صريحاً بأن يتكلم بالسلام لشعبه. فبعد تلك الحروب الطاحنة التي أذلت الشعب وكسرت شوكته وأزالت استقلاله فنفي بعيداً وسبي إلى أرض غريبة واحتمل هناك كل أنواع الإهانة والذل إذا به الآن يعود إلى عيش كريم هنيء. ولكن يضع المرنم أمامهم شرطاً أساسياً بقوله إنهم لا يجوز أن يعودوا إلى حماقتهم الأولى. فقد عصوا الله كفاية وتمردوا على وصاياه فعليهم أن يحتفظوا برضاه بأن يسلكوا في طاعته دائماً.
«٩ لأَنَّ خَلاَصَهُ قَرِيبٌ مِنْ خَائِفِيهِ، لِيَسْكُنَ ٱلْمَجْدُ فِي أَرْضِنَا. ١٠ ٱلرَّحْمَةُ وَٱلْحَقُّ ٱلْتَقَيَا. ٱلْبِرُّ وَٱلسَّلاَمُ تَلاَثَمَا. ١١ ٱلْحَقُّ مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُتُ، وَٱلْبِرُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يَطَّلِعُ. ١٢ أَيْضاً ٱلرَّبُّ يُعْطِي ٱلْخَيْرَ، وَأَرْضُنَا تُعْطِي غَلَّتَهَا. ١٣ ٱلْبِرُّ قُدَّامَهُ يَسْلُكُ وَيَطَأُ فِي طَرِيقِ خَطَوَاتِهِ».
(٩ - ١٠) في هذين العددين يتابع المرنم كلامه الذي يقتبسه من صوت الله فهو يصغي كما فعل النبي حبقوق (انظر حبقوق ٢: ١). في هذه العبارات القوية المتلاحقة نجد تأكيداً لما يقوله الله فلا يستطيع المرنم أن يسكت لذلك نراه يتكلم بما يحسبه كلام الله له بالذات. أما السلام الذي تكلم عنه في العدد السابق فهو نتيجة خلاص الرب إذ لولاه لما وجد أي سلام. لا سيما وهو ينظر إلى المجد «يسكن في أرضنا» إذن هو سلام الغلبة والظفر لا سلام الاندحار والعار. ويقسم العدد العاشر إلى قسمين «الرحمة والحق» ثم «البر والسلام». هذه الأشياء كلها قد بعدت عن الأرض مدة طويلة ولذلك فوجودها الآن يستقبل بكل حفاوة وترحيب كما تستقبل الأرض العطشانة أول الوسمي من الأمطار. ونرى أن الرحمة التي يظهرها الله توحي للناس أن يتبعوا الحق وهكذا يلتقي الاثنان في شوارع أورشليم. ومن جهة أخرى فإن الحياة الطاهرة النقية والاستقامة في المعاملات بين الناس تسبب سلاماً حقيقياً وهكذا يجتمعان ويقبل واحدهما الآخر علامة السعادة الدائمة والتوفيق.
(١١ - ١٣) الحق يحكم في الناس طالما ينزل عليهم بر الله من السماء. فلولا بذور بر الله النازلة من السماء لما كان استقامة تنبت في معاملات الناس بعضهم نحو بعض. هنا يصوّر لنا علاقة النتائج بأسبابها فلولا هذه لما كانت تلك. وعليه فإن الإنسان الذي ينتظر العدل عليه أولاً أن يتمشى ببر الله وأمانته. ثم في العدد الثاني عشر نجد أن الله يعطي رضاه فيتطلع نحو الأرض بالعطف والإحسان وإذا بها عندئذ تعطي غلتها الكثيرة. فإذن هذه الغلة الكثيرة وهذا الخصب المتزايد هو دليل أن الله قد رضي عن شعبه ويريد لهم تمام النجاح. إن خير الله هو الذي يسبب الغلة في الأراضي أي تعطي خيرها أيضاً. وفي العدد الأخير نجد تكميلاً لهذه الصورة الرائعة بأن يجعل الله يتمشى في أرض شعبه كلها فهو ليس مكان واحد معين بل يريد أن يتفقد كل إنسان بخيره كما يفعل الملك الحنون الحكيم نحو شعبه فهو لهم ومعهم في كل الظروف والأحوال. هوذا البر يسير حيثما يكون الله ولأنه بار على الدوام فإن البر سيبقى في الأرض التي يقطنها الله ويمشي فيها ولا يتخلى عنها أبداً.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلثَّمَانُونَ


صَلاَةٌ لِدَاوُدَ


«١ أَمِلْ يَا رَبُّ أُذُنَكَ. ٱسْتَجِبْ لِي، لأَنِّي مِسْكِينٌ وَبَائِسٌ أَنَا. ٢ ٱحْفَظْ نَفْسِي لأَنِّي تَقِيٌّ. يَا إِلٰهِي خَلِّصْ أَنْتَ عَبْدَكَ ٱلْمُتَّكِلَ عَلَيْكَ. ٣ ٱرْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي إِلَيْكَ أَصْرُخُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. ٤ فَرِّحْ نَفْسَ عَبْدِكَ لأَنَّنِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي».
إن عنوان هذا المزمور «صلاة داود» الموضوع هنا بين مزامير قورح هو لداود فقط على نسبة أنه من نسق كتابة داود وفي ذلك النفس المتواضع الذي كان يسكب داود قلبه بواسطته أمام الله. وإنما ليس في تلك الرتبة العالية التي امتازت بها مزامير داود كما أنه لا يمكن مقابلته مع بقية مؤلفي المزامير الأعلام. فهو مزمور طقسي أكثر مما هو شعري وقد وردت كلمة «يا رب» فيه سبع مرات وهو من مجموعة تلك المزامير «الربية» التي تقابل مجموعة المزامير «الألوهية».
(١ - ٤) يبدأ هذا المزمور بما يشبه المزمور ٥٥: ٣ تماماً. كما أن طلب استجابة الله هو للسبب ذاته الذي يورده (المزمور ٤٠: ١٨). ونجد في العدد الثاني أنه مزمور لطلب حفظ الله وصيانته (راجع مزمور ١١٩: ١٦٧). هو بحاجة إلى حفظ الله ويطلب ذلك بالنسبة لحسبانه نفسه تقياً (راجع لوقا ١٨: ١١ - ١٢). إن التقوى شيء وادعاء التقوى شيء آخر ولذلك نجد في هذا الكلام تديناً من المرتبة الرفيعة التي امتازت بها مزامير داود السهلة المنال القريبة للطبع والمرسلة عفو الخاطئ دون أي تصنع أو ادعاء. في العدد الثاني يرينا قيمة الاتكال الكامل على الله وأنه هو سبب الخلاص. أما العدد الثالث فيذكر فيه استمراره على الصراخ إلى الله لأنه يرجو رحمته ولا يكف عن ذلك حتى ينالها. هو مؤمن واثق برحمة الله لذلك هو لا يتأخر عن الصراخ لحظة واحدة لئلا يعتمد على نفسه ويترك إلهه. إذ ليس في نفسه أي نجاة وكل الخلاص هو منحة من لدنه تعالى. ثم في العدد الرابع يرينا أن الفرح القلبي يخامره لأنه قد ألقى حمله على قوة خارجة عن نفسه قوية جبارة. وهذا المرنم الذي يسقط إلى الحضيض أمام الله إذا به يرتفع رويداً رويداً كلما استمر على صلاته حتى يمتلئ قلبه أخيراً بذلك الفرح الغالب المنتصر الذي يحوّل كل متاعب الحياة إلى راحة كاملة.
«٥ لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ لِكُلِّ ٱلدَّاعِينَ إِلَيْكَ. ٦ اِصْغَ يَا رَبُّ إِلَى صَلاَتِي وَأَنْصِتْ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي. ٧ فِي يَوْمِ ضِيقِي أَدْعُوكَ لأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي. ٨ لاَ مِثْلَ لَكَ بَيْنَ ٱلآلِهَةِ يَا رَبُّ وَلاَ مِثْلَ أَعْمَالِكَ. ٩ كُلُّ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ صَنَعْتَهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُونَ ٱسْمَكَ».
(٥) وفي هذا العدد يتمم المرنم ما شرع به من فكرة عالية. فهو يرى أن إيمانه هذا وطيد مكين لأن الله قريب إليه. هنا صرخة إنسان تقي بالحق ولا يدعي التقوى فقط فهو يدعو الله دائماً ويصرخ إليه منادياً في كل مواقف حياته ولا يتراجع عن ذلك أبداً حتى ينال مبتغاه. يعرف أنه من قبل قد أخطأ ضد اسم الله ولكن قد نال المغفرة والصفح وذلك ليس لبر فيه بل يعترف علناً بأن الله كثير الرحمة ويسمع الدعاء ويرحم ويغفر.
(٦ - ٩) في هذه الأعداد كلها ترديد لما ورد من عبارات في مزامير سابقة ولا مجال للاستنباط والإبداع فهو مقلد أكثر منه منشئ (راجع مزمور ١٧: ٦) بينما نجد أن العدد الثامن القسم الأول منه مأخوذ من (خروج ١٥: ١١) ثم قابل ذلك مع (مزمور ٨٩: ٩) إنما لا يذكر الآلهة. ونجد أن القسم الآخر من العدد ٨ يتابع (تثنية ٣: ٢٤). بينما العدد التاسع هو شبيه (بالمزمور ٢٢: ٢٨) وهكذا نجد بعض الأقسام الأخرى من هذا المزمور مقتبسة من مواضيع مختلفة مما يدلنا أنه لمحفوظات في الذاكرة أكثر مما هو من وضع جديد.
وفي العدد التاسع نجد فكرة سامية من جهة أن الله هو إله كل الشعب لذلك فيتوجب على الجميع أن يأتوا للسجود أمامه وتقديم الخضوع عند موطئ قدميه. إنما يمجدون اسمه لأنهم أصبحوا يعرفونه بالذات ويعترفون بإحساناته وإنعاماته ليس فقط لشعب الله بل لجميع الشعوب. وهؤلاء الأمم قد صنعهم الله على صورته ومثاله لذلك هم مطالبون بالخضوع والسجود ولا يعفون من ذلك لأي جهل يظهرونه فيما بعد.
إن تمجيد اسم الله معناه الخضوع التام لمشيئته إذ أن الاعتراف علناً دون اليقين القلبي لا يفيد شيئاً ومتى أصبح الشعوب كلهم يعترفون بإله واحد فقد تقاربوا وتعاونوا على استتباب السلام الدائم.
«١٠ لأَنَّكَ عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ. أَنْتَ ٱللّٰهُ وَحْدَكَ. ١١ عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ ٱسْمِكَ. ١٢ أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ إِلٰهِي مِنْ كُلِّ قَلْبِي وَأُمَجِّدُ ٱسْمَكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ١٣ لأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ ٱلسُّفْلَى».
(١٠ - ١٣) قابل العدد العاشر بما ورد في (مزمور ٧٢: ١٨) فنجد أنه يتصرف بالمعنى قليلاً فبدلاً من أن يقول «الصانع العجائب وحده» إذا به يقول إنه صانع عجائب. وإنه هو الله وحده. فهذا استنتاج حسن وتصرف يدل على سمو في التفكير. هذا الإله الذي صنع العجائب قديماً وخلّص شعب إسرائيل من عبودية مصر ومن عبوديات أخرى بعدها قد أكد للبشر جميعاً أنه هو الحاكم وحده في السماء والأرض ولا يستطيع أحد أن يقول له ماذا تفعل.
وإن يكن هذا المزمور قد اقتبس الشيء الكثير من مصادر متعددة فهو أيضاً يحوي جمالاً لا نستطيع أن نمر به بدون التفات وتمعن. ففي العدد الحادي عشر نجد المرنم يطلب أن يتعلم الطريق (انظر يوحنا ١٤: ٥) وطلبه هذا يشفعه بقوله أنه يريد أن يسلك بالحق ثم بعد ذلك يصلي لكي لا يكون مشتّت الفكر كثير النزعات مقسّم الاهواء بل يلتمس أن يكون بقلب مخلص أمام الله. يعرف أن لا قوة في حياته إذا كان متضعضعاً إن في عبادته أو تصرفاته. عليه أن يخلّص بالتمام ليكون سعيداً في إيمانه بعد ذلك متمماً للوصية الأولى «لا يكون لك آلهة أخرى أمامي».
ولأنه يشعر بهذا الإخلاص فهو في العدد الثاني عشر يحمد الله ويشكره من كل قلبه. فهذا القلب الذي كان مشتتاً إذا به يجتمع الآن على حب الله والإيمان به. ولأنه كذلك فهو يمجده ويذيع اسمه في كل مكان.
وينتقل في العدد الثالث عشر لكي يبين ما هو السبب الذي يجعله سعيداً على هذه الصورة فهو يذكر رحمة الله لا سيما وقد كانت عظيمة إذ أن مصيبته كانت عظيمة جداً ولا يمكن نجاته منها بدون أن يكون له رحمة تقابلها. على قدر عمق الهوة السحيقة السفلى التي سقط فيها امتدت يد الحنان إليه وانتشلته فكانت نشلة جبارة رفعته مرة أخرى وملأت قلبه بالإيمان. هنا الكلام عن اختبار شخصي فقد حدثت له أمور يذكرها تلميحاً ويجد فيها سبباً حقيقياً للشكر. وأعظم الشكر هو ذاك الذي يخبرنا عن أمور قاسيناها نحن ونجونا منها وليس فقط إننا سمعنا بها.
«١٤ اَللّٰهُمَّ، ٱلْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ، وَجَمَاعَةُ ٱلْعُتَاةِ طَلَبُوا نَفْسِي وَلَمْ يَجْعَلُوكَ أَمَامَهُمْ. ١٥ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلٰهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَٱلْحَقِّ. ١٦ ٱلْتَفِتْ إِلَيَّ وَٱرْحَمْنِي. أَعْطِ عَبْدَكَ قُوَّتَكَ وَخَلِّصِ ٱبْنَ أَمَتِكَ. ١٧ ٱصْنَعْ مَعِي آيَةً لِلْخَيْرِ فَيَرَى ذٰلِكَ مُبْغِضِيَّ فَيَخْزَوْا لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ أَعَنْتَنِي وَعَزَّيْتَنِي».
(١٤) هنا يجد المرنم تشابهاً بين حالته وحالة داود حينما طلب شاول نفسه ليهلكها. فهو إنسان مضطهد يقاسي الآلام والمتاعب العظيمة. لا سيما وإن أخصامه هم من القوم الكبار المعتدين بأنفسهم الذين لم يجعلوا الله أمامهم ولم يخافوا وجه إنسان فماذا يستطيع هو أن يفعل في حالة كهذه سوى التسليم الكامل للعناية الحنونة. أخذ كلمة «اللهم» من مزمور ٥٤: ٥ وأبقاها مثل اسم علم.
(١٥ - ١٧) في العدد الخامس عشر يعود المرنم إلى (خروج ٣٤: ٦) وهكذا نجده يدعم أقواله بأمور تاريخية وبعبارات مألوفة ثقلتها الألسنة على مر الأجيال. ولنا من هذا أنه كان مطلعاً على الكتابات المقدسة التي كانت معروفة في أيامه والأرجح أنه كان من رجال الكهنوت المتعلمين حتى استطاع أن يحفظ بذاكرته هذه المعلومات القيمة.
يرجو الله مرة أخرى أن يلتفت إليه لأنه عبده بل وهو ابن أَمته. أي أنه عبد موروث قديم وليس جديداً في بيت سيده. إذن هو إسرائيلي حقاً لا غش فيه.
وهنا في العدد السابع عشر يلخص المرنم كلامه بطلب آية لكي يدعمه بها تجاه أعدائه ومبغضيه وهكذا ينالهم الخزي وأما هو فيعود بالمجد والفخار ولكن فخره ليس ذاتياً أنانياً بل هو من فضل الله وإحسانه إليه. وأخيراً يختم كلامه بالشهادة المزكاة إن الله قد أعانه وعزّى قلبه وطيّب خاطره فكما فعل معه في الماضي سيفعل الآن لأن العلاقة قوية ومتينة لا يستطيع أي شيء أن يفصم عراها أو يزحزحها عن سبيلها المستقيم. إله الخير يصنع مع عبده آية للخير (راجع نحميا ٥: ١٩ وأيضاً ١٣: ٣١ وكذلك انظر عزرا ٨: ٢٢).
إنها خاتمة لمزمور مملوء بالإيمان والثقة وبفيض بالاختبار الشخصي الذي يجعلنا نستفيد منه لأنفسنا استفادة كبيرة بعد أن نجانا الله من مخاطر متعددة ومصائب متكررة.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلثَّمَانُونَ


لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورُ تَسْبِيحَةٍ


«١ أَسَاسُهُ فِي ٱلْجِبَالِ ٱلْمُقَدَّسَةِ. ٢ ٱلرَّبُّ أَحَبَّ أَبْوَابَ صِهْيَوْنَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَسَاكِنِ يَعْقُوبَ. ٣ قَدْ قِيلَ بِكِ أَمْجَادٌ يَا مَدِينَةَ ٱللّٰهِ. سِلاَهْ».
لقد تناول المزمور السباق فكرة أن الله هو إله الشعوب كلهم وهو الواحد الحي القدير الحاكم على الناس جميعاً وحده. وأما في هذا المزمور فنجد أن الفكرة تتطور إلى سيادة مدينة أورشليم بالذات وتحكمها بالشعوب كلهم. وهو مختصر جداً وموجز إلى درجة إننا نحار بعض الأحيان في فهم المقصود. ولكي تنال بعض المساعدة (انظر إشعياء ٤٤: ٥) فهو أشبه بمفتاح للمعاني.
بالنسبة لذكره عدداً كبيراً من الأمم التي أحاطت بإسرائيل فيمكننا أن نفتكر أن هذا المزمور قد كتب بعد أن اندحرت جيوش أشور في أيام حزقيا (انظر ٢أخبار ٣٢: ٢٣).
(١ - ٣) يبدأ المرنم كلامه في موضوع منشغل فيه دون أن يذكره ويتكلم عن الأمجاد المحيطة به ويعددها. إن أورشليم مؤسسة على الجبال المقدسة التي تحيط بها من كل جانب. فبعد أن يتكلم عن الأساس الذي هو أهم شيء يأتي في العدد الثاني لذكر أبواب صهيون والقصد من ذلك إن من أحب مدينة أكثر من التردد على أبوابها وهو يدخل ويخرج. وهذا المرنم الذي بلا شك هو من أورشليم نفسها يجد فيها عزه بأنها أعظم من كل مدن إسرائيل الأخرى. لا شك كانت السامرة قد سقطت وزال مجدها وجبروتها بعد أن نفي سكانها وتبددوا في كل مكان. ولم يكن في كل مملكة يهوذا مدينة تضارع أورشليم بعزها وصولتها فهي مركز الملوك وهي أيضاً مركز الهيكل العظيم الذي كان يحسب بحق فخر كل يهودي.
وأما العدد الثالث فيذكر أن الله قد مجّدها على جميع مدائن الشعوب وينتهي بارتفاع الموسيقى. إن الله ذاته هو الذي صرّح الآن ويخبرنا عن مدينته المجيدة التي هي فخر العالم ويجب أن تنشر رسالتها وتبعث بصيتها إلى كل مكان لأنه يجب أن تكون مكان ولادة جميع الشعوب.
هنا اعتزاز بمكان معين ولا عجب أن يهرع بنو إسرائيل للذهاب إلى أورشليم في الأعياد والمواسم لتأدية ما يتوجب عليهم من فروض ولكي يعتزوا بالذكريات والأمجاد القديمة.
«٤ أَذْكُرُ رَهَبَ وَبَابِلَ عَارِفَتَيَّ. هُوَذَا فِلِسْطِينُ وَصُورُ مَعَ كُوشَ. هٰذَا وُلِدَ هُنَاكَ. ٥ وَلِصِهْيَوْنَ يُقَالُ: هٰذَا ٱلإِنْسَانُ وَهٰذَا ٱلإِنْسَانُ وُلِدَ فِيهَا، وَهِيَ ٱلْعَلِيُّ يُثَبِّتُهَا. ٦ ٱلرَّبُّ يَعُدُّ فِي كِتَابَةِ ٱلشُّعُوبِ أَنَّ هٰذَا وُلِدَ هُنَاكَ. سِلاَهْ. ٧ وَمُغَنُّونَ كَعَازِفِينَ كُلُّ ٱلسُّكَّانِ فِيكِ».
(٤ - ٧) أما رهب فهي مصر على الأرجح (انظر مزمور ٨٩: ١١ وإشعياء ٣٠: ٧ و٥١: ٩). كانت مصر القوة الجبارة من الجنوب وأما بابل فكانت من الشمال والشرق. كذلك يذكر فلسطين وقوتها الحربية وصور وقوتها المالية والتجارية ولا ينسى أن يذكر كوش وهي على الأرجح بلاد الحبشة التي كانت مغامرة وذات سيطرة بعيدة إلى آخر الحدود (انظر إشعياء ١٨). هؤلاء الشعوب جميعاً يأتون ويسجدون في أورشليم وتكون لهم موطناً روحياً ثانياً. قد يكون المعنى أن شعب الله الذي كان قد تفرق في كل مكان يعود الآن ليجتمع في مقر ملكه ومجده. كذلك يمكن أن نفسر الكلام إن أورشليم ستكون فوق جميع الذين ذكرهم وإذا ذكرت هي فلا عز ولا أمجاد لأولئك بجانبها.
وفي العدد الخامس نجد أن هذه المدينة التي تحوي من مختلف الشعوب تصبح عامة للكل وتمنح جنسيتها الروحية بكل سخاء حتى يقول كل إنسان متفاخراً لقد ولدت فيها. وعظمتها ليست لأمور أرضية لئلا يكون فخرها مدعاة لتأخرها وخزيها ذلك لأن فخرها هو بالعلي الذي يثبت أركانها ويقوي بنيانها على الأساسات القديمة.
ونجد العدد السادس يؤكد هذا المعنى حينما تنظر الشعوب كلهم إلى هذا الشرف الذي ينالها بالانتماء إلى هذه الأمجاد العريقة حتى ينسوا تاريخهم وأنفسهم ويندمجوا في تمجيد الله العظيم في مدينته المقدسة التي هي موئل وملاذ جميع الشعوب.
والعدد الأخير يمكن ترجمته «كل الينابيع فيك». وهذا إتمام للمعنى السابق. فهؤلاء السكان الفرحون السعداء لأنهم يغنون ويعزفون بالنسبة لما هم فيه من أمجاد وراحة وسلام. يتوحدون بأنهم مجتمعون معاً ولو كانوا في الأصل من مصادر مختلفة. هم في بوتقة واحدة تصهرهم ولو كانوا من قطع معدن مختلف الأشكال. إن أورشليم هي نقطة الارتباط ومركز التلاقي للجميع لذلك فهي مدينة الله وهنيئاً لمن كان اسمه فيها.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلثَّمَانُونَ


تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِبَنِي قُورَحَ. لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ٱلْعُودِ لِلْغِنَاءِ. قَصِيدَةٌ لِهَيْمَانَ ٱلأَزْرَاحِيِّ


«١ يَا رَبُّ إِلٰهَ خَلاَصِي، بِٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ صَرَخْتُ أَمَامَكَ، ٢ فَلْتَأْتِ قُدَّامَكَ صَلاَتِي. أَمِلْ أُذُنَكَ إِلَى صُرَاخِي، ٣ لأَنَّهُ قَدْ شَبِعَتْ مِنَ ٱلْمَصَائِبِ نَفْسِي، وَحَيَاتِي إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ دَنَتْ».
على مقدار ما في المزمور السابق المزمور ٨٧ من رنة الفرح والابتهاج يوجد في هذا المزمور الثامن والثمانين من التعاسة والشقاء. ومجيئهما الواحد بعد الآخر يدل على شدة التعاكسات بينهما. ومع أن هذا المزمور يبدأ بقوله «يا رب إله خلاص...» كأنه ينتظر خلاصاً من يد الرب إذا به ينزل إلى عمق الآلام والمتاعب ويملأ قلب القارئ بالنحيب المتواصل حتى يكاد يشبه مراثي إرميا. والذي يطالع هذا المزمور ملياً يجد فيه عبارات متشابهة مع كتابات قديمة. وهو يشكو من مرض جسدي على ما يظهر قد يكون البرص الذي لازمه منذ صباه حتى لم يجد معه أيام توفيق وهناء. ولا شك أن هذا المزمور يدل على اختبار شخص خاص ولا ندري من هو هذا «هيمان الأزراحي» وربما انتهى إلى عهد سليمان الملك وإلى تلك الفئة من الكتبة الحكماء التي حاولت أن تفسر موضوع الآلام فأوجدت كتاب أيوب مثلاً. ونسأل هنا عن المؤلف فلنا العنوان أنها لبني قورح ثم في الوقت ذاته يذكر هيمان الأزراحي فلمن من الاثنين يا ترى؟ وهل من الممكن أن يكون هيمان هذا من بني قورح أيضاً؟ الأرجح أن القسم الأخير من التسمية هو الذي يجب الاعتماد عليه لا سيما وهو يحوي طبيعة المزمور وكيفية غنائه وأما قوله لبني قورح فهو اتباع لكلام سابق. ولذلك فالمزمور قديم وعليه صبغته التاريخية رغم التشويش الظاهر في العنوان.
(١ - ٣) يبدأ المرنم كلامه وسط حالة من اليأس شديدة فهو يصرخ في الليل والنهار مستغيثاً مستنجداً. لقد وصل إلى هوة سحيقة ولكنه يحاول الصعود منها على قدر الإمكان. هو لا ينسى إله خلاصه ويسميه هكذا مترجياً الخلاص. يرجو الله أن يصغي لصوته وهكذا تكون الصلاة قدامه لكي يبالي بها وبصاحبها ولا يرفضه بعد. يطلب من الله أن يعطي أذنه ولا يهمله على الإطلاق. وأما العدد الثالث فيصل إلى غاية الأحزان ويقول أنه قد شبع من المصائب فلا يستطيع أن يحتمل بعد. لقد كان له منها الكفاية وفوق الكفاية أيضاً إذ أن حياته أصبحت تدنو من الهاوية بسرعة ولم يعد في داخله شيء من القوة.
«٤ حُسِبْتُ مِثْلَ ٱلْمُنْحَدِرِينَ إِلَى ٱلْجُبِّ. صِرْتُ كَرَجُلٍ لاَ قُوَّةَ لَهُ. ٥ بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ فِرَاشِي مِثْلُ ٱلْقَتْلَى ٱلْمُضْطَجِعِينَ فِي ٱلْقَبْرِ ٱلَّذِينَ لاَ تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ، وَهُمْ مِنْ يَدِكَ ٱنْقَطَعُوا. ٦ وَضَعْتَنِي فِي ٱلْجُبِّ ٱلأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ، فِي أَعْمَاقٍ. ٧ عَلَيَّ ٱسْتَقَرَّ غَضَبُكَ وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي. سِلاَهْ. ٨ أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي. جَعَلْتَنِي رِجْساً لَهُمْ. أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ».
(٤) في حياته يسير نزولاً فكلما مرت به الأيام تزيده ثقلاً فوق ثقل حتى لا يستطيع أن ينهض بعد. هو بلا قوة ولا قدرة حياته هي بالاسم كذلك.
(٥) يمكن ترجمة القسم الأول هكذا «اطلق سراحي بين الأموات» أي أنني حي أتمشى بين الموتى فأذن لي صورة الحياة ولكن الأفضل لي أن أموت (انظر أيوب ٣: ١٩) وأيضاً (أيوب ٣٩: ٥) وأصبحت حياته نسياً منسياً ولم يعد لهم أي ذكر بين الأحياء. لقد انقطع ذكرهم ولم يعد ليد الله علاقة بهم (راجع مزمور ٣١: ٢٣ ومراثي ٣: ٥٤ وإشعياء ٥٣: ٨). ربما كانت يد الله تقودهم من قبل وتهديهم وأما الآن فهم بعيدون عن الرحمة والرضوان كل البعد.
(٦) لقد وصل إلى الجب الأسفل إلى نهاية الظلمات (راجع أيوب ١٠: ٢١ وكذلك مراثي ٣: ٥٤ ثانية). هي هوة مفتوحة الباب. من فوق تستقبل إليها الهاوين فيها ولا ترحمهم بعد ذلك.
(٧) ولأنه في هذه السقطة وفي ذلك المكان الأسفل فأصبح من الطبيعي أن يستقر عليه الغضب كما تستقر كل أرماث الأنهار في الأمكنة الواطئة. وحيئنذ وأنا في تلك الحالة المؤسفة إذا بالتيارات تمر عليّ وتسحقني سحقاً. وينتهي بارتفاع الموسيقى.
(٨) ولم تكن المصيبة فقط بما انتابه من آلام وضيقات بل أعظم المصائب عليه هو أنه قد ابتعد عنه الأصدقاء والمعارف وتركوه وحده يتخبط في ضيقاته ولا من يسعفه وهذا لعمر الحق من أعظم ما يستطيع الإنسان أن يحتمله (راجع أيوب ١٩: ١٣ وما بعده) هؤلاء الأصدقاء الذين كان يلتذ بعشرتهم ويتقرب إليهم ويتقربون إليه أصبحوا يبتعدون عنه كأنه رجس عندهم لا يجوز أن يتعاطوا معه بأي أمر من الأمور. وهكذا حبس نفسه وأغلق عليه في غياهب الظلمات فلا يرى فرجاً.
«٩ عَيْنِي ذَابَتْ مِنَ ٱلذُّلِّ. دَعَوْتُكَ يَا رَبُّ كُلَّ يَوْمٍ. بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ. ١٠ أَفَلَعَلَّكَ لِلأَمْوَاتِ تَصْنَعُ عَجَائِبَ، أَمِ ٱلأَخِيلَةُ تَقُومُ تُمَجِّدُكَ؟ سِلاَهْ. ١١ هَلْ يُحَدَّثُ فِي ٱلْقَبْرِ بِرَحْمَتِكَ أَوْ بِحَقِّكَ فِي ٱلْهَلاَكِ؟ ١٢ هَلْ تُعْرَفُ فِي ٱلظُّلْمَةِ عَجَائِبُكَ وَبِرُّكَ فِي أَرْضِ ٱلنِّسْيَانِ؟ ١٣ أَمَّا أَنَا فَإِلَيْكَ يَا رَبُّ صَرَخْتُ، وَفِي ٱلْغَدَاةِ صَلاَتِي تَتَقَدَّمُكَ».
(٩) قد يكون أن هؤلاء المعارف قد تركوه في حالة مرضه الشديد خوفاً من العدوى ولا نعجب من ذلك طالما لم يكن في ذلك الزمان أي معرفة للتوقي من الأمراض ومن الطبيعي للإنسان أن يهرب من شيء مخيف يجهل أسبابه. وما معنى ذبول العينين؟ هل امتد المرض حتى وصل إلى الرأس فلم يعد يستطيع الوقوف أو النهوض؟ ولكنه في ضيقته العظيمة هذه لم ينس الله بل دعاه كل يوم باسطاً يديه أمامه طالباً منه الرحمة والرضوان بعد وإن كان لا يستحق شيئاً فإن الله رحيم.
(١٠ - ١٣) هذا الوصف ينطبق على حالة البرص وربما أن عدداً من الأمراض كان يأتي تحت اسم البرص (راجع لاويين ١٣) وعلى حد التعبير الشرقي بأن البرص هو أعظم الأمراض إذ يميت الإنسان وهو لا يزال حياً (راجع العدد ١٢: ١٢). كان على الأبرص أن يبقى تحت معاينة الكاهن سبعة أيام فإذا ثبت عليه المرض بعد ذلك كان يفصل عن عائلته وأهله ويعيش وحيداً في البراري. ولكنه يلتمس عوناً ويبني التماسه على أمرين: الأول أن يظهر الله عجيبة فيه والثاني أن يمكنه من حمده تعالى وإن يكن بحالة الموت وشبه الخيال.
وحينما يصل إلى العددين الحادي عشر والثاني عشر يعزز طلبه بالسؤال الإنكاري هل يحدّث في القبر برحمتك؟ وهل تعرف في الظلمة عجائبك؟ إذن يا رب سهلّ أمامي طريق الحياة قبل أن أصل إلى الموت فلا أعود أقدر أن أحمد أو أخبر بحقك فأنسى كل شيء في الهاوية.
ولكنه يعود إلى نفسه في العدد الثالث عشر ويقول إنه قد صرخ إلى الرب مستنجداً ولم ييأس بعد. وعند الصباح الباكر كان يقدم صلاته قبل أن يفعل أي شيء أخر. فهو وإن كان تحت عصب الله فطالما فيه رمق من الحياة لا يزال يترجى أن الله يعيده إلى عافيته وقوته. إن الأمل في قدر الإنسان لا ينقطع إلا متى ذهب الإيمان من صدره وحينئذ يموت في خطاياه حقيقة ويتمرغ في تعاسته إلى الأبد.
«١٤ لِمَاذَا يَا رَبُّ تَرْفُضُ نَفْسِي؟ لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ ١٥ أَنَا مِسْكِينٌ وَمُسَلِّمُ ٱلرُّوحِ مُنْذُ صِبَايَ. ٱحْتَمَلْتُ أَهْوَالَكَ. تَحَيَّرْتُ. ١٦ عَلَيَّ عَبَرَ سَخَطُكَ. أَهْوَالُكَ أَهْلَكَتْنِي. ١٧ أَحَاطَتْ بِي كَٱلْمِيَاهِ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. ٱكْتَنَفَتْنِي مَعاً. ١٨ أَبْعَدْتَ عَنِّي مُحِبّاً وَصَاحِباً. مَعَارِفِي فِي ٱلظُّلْمَةِ».
(١٤ - ١٨) إن هذه العبارات وإن كانت تحمل طابع الشكوى فهي في حقيقتها توسلات أكثر منها تشكيات. يعود هذا الإنسان ويستجمع قواه المبعثرة ليسكبها أمام الله مصدر كل نعمة وقوة وإحسان. يعود بالذكريات إلى الأيام القديمة حينما كان في مستهل العمر. هو مسكين ضعيف لا قوة في روحه ولا نشاط في عقله أو جسده. ومع ذلك فقد احتمل الأهوال وإن يكن محتاراً لا يدري المعنى من هذا كله.
كل ما يلاحظ أن سخط الله عليه وأهواله الشديدة تفسد حياته وتعدمه كل اللذات. ونجده في العدد السابع عشر تتحول هذه النيران إلى شكل طوفان يعوم حوله ويكاد يغرقه في تياراته المزبدة. هو في الوسط لا يدري أي مخرج أمامه ومن أين المناص. جسمه ضعيف وأصدقاؤه وأهله قد تركوه ويستنجد بإلهه فإذا به يعبر عليه كالنيران الجارفة. ومتى وصلنا للعدد الأخير نكاد نلمس فيه ما ورد في (أيوب ١٧: ١٤ أو أيوب ١٩: ١٤) حينما يصور لنا أن أصحابه هم في الظلمات أو هي الظلمة نفسها. فلم يعد يرى بعينيه إذ قد غشي عليهما حتى إذا فتحهما لا يجد شيئاً أمامه. وهكذا ابتعد المحبون أولاً وبعد ذلك لو اقتربوا الآن فلا يمكن أن يتمتع بصحبتهم لأنه لم يعد يراهم.
وهكذا ينتهي هذا المزمور المفعم بالآلام ونكاد نسمع صوت الأنّات والحسرات. ولأن الاختبارات هي بالأحرى شخصية لذلك فإن الكلام ليس من قبيل ما يصيب الجنس البشري عموماً بل ما تختبره نفس متألمة وصلت إلى عمق التعاسة والشقاء. ولا يوجد شيء في هذه الصورة مما يشدد العزيمة وينهض بها سوى اتكاله الكامل على الله فهو لم يتزعزع إيمانه رغم كل الصعوبات والأمراض والويلات التي تنتابه لا يزال يرى أن يد الله يمكنها أن تمتد إليه وتنتشله على شرط أن يظل داعياً لله متضرعاً بكل ثقة وورع.


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلثَّمَانُونَ


قَصِيدَةٌ لأَيْثَانَ ٱلأَزْرَاحِيِّ


«١ بِمَرَاحِمِ ٱلرَّبِّ أُغَنِّي إِلَى ٱلدَّهْرِ. لِدَوْرٍ فَدَوْرٍ أُخْبِرُ عَنْ حَقِّكَ بِفَمِي. ٢ لأَنِّي قُلْتُ: إِنَّ ٱلرَّحْمَةَ إِلَى ٱلدَّهْرِ تُبْنَى. اَلسَّمَاوَاتُ تُثْبِتُ فِيهَا حَقَّكَ. ٣ قَطَعْتُ عَهْداً مَعَ مُخْتَارِي. حَلَفْتُ لِدَاوُدَ عَبْدِي».
إن القصد من هذا المزمور هو الابتهال لله لكي يجدد مراحمه على عبده داود أي على نسله إلى الأبد. الناظم هو حسب العنوان إيثان الأزراحي وهو أحد الموسيقيين الثلاثة مع آساف وهمان. وكان رئيساً على ست فرق فرعية ترأسها بنوه الستة (انظر ١أخبار ٢٥) وهذا المزمور مع المزمور سابقه يحسبان لمؤلف واحد وإن يكن هذا يصطبغ بصبغة وطنية بينما الآخر فله صبغة شخصية بحتة. ويرى الناظم أن مبعث الفخر هو في العائلة الملكية أي عائلة داود التي تمثل الأمة كلها ومدعاة مجدها وفخارها.
أما الداعي المباشر لنظمه فهو على أثر غزو فرعون شيشق لمملكة يهوذا وذلك في السنة الخامسة لملك رحبعام ابن سليمان وقد نهب الهيكل والقصر كليهما وأخذ معه تروس سليمان الذهبية (راجع ١ملوك ١٤: ٢٥ - ٢٨) وأيضاً (٢أخبار ١٢: ١ - ١٢). وفي آثار الكرنك قد كشفت الكتابات الهيروغليفية عن وجود ملك يهوذا بين الأسرى الذين يقدمون هداياهم أمام الإله أمون.
(١ - ٣) يبدأ المرنم كلامه بأنه يغني بمراحم الرب ويخبر عن حق الله بصوت مسموع لجميع الناس غير هياب ولا متردد. وأي شيء أبعث على الغناء من الابتهاج بمثل هذه المراحم العظيمة التي يختبرها الإنسان يومياً ويحق له حينئذ أن يذيعها على الناس ولا يبقيها طي الكتمان.
أما الرحمة فهي تبني بناء أي على شكل مستمر ولا يقوم البناء بدون أساس وهذا الأساس هو حق الله ذاته وتلك العهود المقدسة الكائنة بين يهوه وشعبه. وهذا البناء سوف يسمو ويعلو إلى أن يتصل بالسموات ذاتها وحيئنذ يكون كل شيء ظاهراً ولا يستطيع الأعداء أن ينكروه. وحق الله مثبت في السموات لأن هذه الأرض وما فيها سريع التغير والزوال بينما كل ما هو سماوي فهو ثابت لا يتغير قط. وفي العدد الثالث يبدأ بذكر الكلام الذي قاله الله لداود فيردد نص العهد الذي قطعه عندئذ. إن الله قد قطع عهداً لداود أن يثبت عرشه فبقي الملك في ذريته على مدى الأجيال الطويلة.
«٤ إِلَى ٱلدَّهْرِ أُثَبِّتُ نَسْلَكَ، وَأَبْنِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ كُرْسِيَّكَ. سِلاَهْ. ٥ وَٱلسَّمَاوَاتُ تَحْمَدُ عَجَائِبَكَ يَا رَبُّ، وَحَقَّكَ أَيْضاً فِي جَمَاعَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ. ٦ لأَنَّهُ مَنْ فِي ٱلسَّمَاءِ يُعَادِلُ ٱلرَّبَّ. مَنْ يُشْبِهُ ٱلرَّبَّ بَيْنَ أَبْنَاءِ ٱللّٰهِ؟ ٧ إِلٰهٌ مَهُوبٌ جِدّاً فِي مُؤَامَرَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ، وَمَخُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ. ٨ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ، مَنْ مِثْلُكَ قَوِيٌّ رَبٌّ، وَحَقُّكَ مِنْ حَوْلِكَ؟»
(٤) يتابع في هذا العدد وعد الله لداود عبده بأنه يثبته ويبني ملكه إلى دور فدور. والكرسي في هذا العدد إنما هو عرش الملك كما في بعض الترجمات الأخرى. إن الله لا يسمح أن هذا النسل الملكي ينقطع ولا أن هذا العرش المثبت الأركان أن يضمحل من الوجود ذلك لأن أمانة الله نحو هذا البيت لا تسمح أن يزول فلا يشيخ بمرور الزمان ولا يعتريه أي تبدل أو زوال.
(٥ - ٨) يرى المرنم أن ينتقل إلى وصف رائع لجلال الله وعظمته وجبروته لأن ذلك مدعاة اطمئنان لعرش الملك الأرضي الذي يمثله لأن هذا الملك هو من الله فأحرى به أن يتمثل بهذه العظمة الإلهية التي تجترح العجائب وتذيع الحق بين الناس ولا سيما جماعة القديسين. وحينما يقابل بين الآلهة في العالم الثاني بين الأرواح لا يجد شبهاً له قط. وقد يقصد هنا في قوله أبناء الله أي الملائكة (راجع أيوب ٥: ١ و١٥: ١٥ وقابل ذلك مع تثنية ٣٣: ٢). لأن الله هنا مكرم فوق جميع الأجناد السماوية ولا يعادله أحد في الجلال والقدرة.
هو مهوب جداً ويسمو على كل من حوله دون استثناء (١ملوك ٢٢: ١٩ وقابله مع دانيال ٧: ١٠) ولا يستطيع أحد أن يدنو من مكان سكناه لأنه مخوف جداً.
وفي سؤاله «من مثلك قوي؟» يرجح أصلها من (الخروج ١٥: ١١) ولا يغرب عن بال الناظم أن يتمسك دائماً بأن الله يرعى العهد والأمانة لشعبه ولا سيما لبيت داود عبده. وهذا الحق يتجلبب به ويحيا فيه على الدوام ولا يمكن أن يتصوره بدونه قط. إن هذه الفكرة عظيمة حقاً. إذ أن رب الجنود القوي الجبار هو كذلك بالنسبة للحق الذي يجريه والأمانة التي يتممها مع أتقيائه ومحبيه ولذلك فهو يرمز بطرف خفي للملك أن يكون كذلك ليكون أهلاً للحكم على شعب الله. إذ لا حكم من الله إذا لم يكن بالحق والأمانة.
«٩ أَنْتَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِبْرِيَاءِ ٱلْبَحْرِ. عِنْدَ ٱرْتِفَاعِ لُجَجِهِ أَنْتَ تُسَكِّنُهَا. ١٠ أَنْتَ سَحَقْتَ رَهَبَ مِثْلَ ٱلْقَتِيلِ. بِذِرَاعِ قُوَّتِكَ بَدَّدْتَ أَعْدَاءَكَ. ١١ لَكَ ٱلسَّمَاوَاتُ. لَكَ أَيْضاً ٱلأَرْضُ. ٱلْمَسْكُونَةُ وَمِلْؤُهَا أَنْتَ أَسَّسْتَهُمَا. ١٢ ٱلشِّمَالُ وَٱلْجَنُوبُ أَنْتَ خَلَقْتَهُمَا. تَابُورُ وَحَرْمُونُ بِٱسْمِكَ يَهْتِفَانِ. ١٣ لَكَ ذِرَاعُ ٱلْقُدْرَةِ. قَوِيَّةٌ يَدُكَ. مُرْتَفِعَةٌ يَمِينُكَ».
(٩ - ١٣) في وقت كتابة هذا المزمور كان الأعداء الأقوياء يحيطون بأورشليم من كل جانب. كانوا أشداء في جميع الأسلحة المعروفة عندئذ لذلك فالمرنم ينظر إليهم بعين الاطمئنان لأنه يلتجئ لله القدير الذي يحكم على كبرياء البحر ويخفض ارتفاعه فهو الذي خلق البحر ويستطيع أن يتصرف به كما يشاء ثم بعد ذلك يستعير هذه الفكرة فيقول إن الله يخفض ارتفاع الشعوب العاتية التي تسود على شعب الله وتستعبده. فيذكر أولاً رهب أي مصر ويعود بالتاريخ إلى حادثة عبور البحر الأحمر فأسكت الله البحر وأسكت كبرياء شعب مصر الذي كان كالبحر أيضاً. وأما السبب في ذلك فلأن الله هو مالك السموات والأرض وهو الذي بفضل إحسانه قد ملك العالمين جميعاً. يلتفت شمالاً وجنوباً فيجد أصبع الله في كل مكان. إذن فالمسكونة كلها هي من الله وإليه تعود. حتى أن الجبال الشامخة مثل تابور - وإن يكن بعلو متواضع نسبياً فهو جميل الارتفاع بالنسبة لإشرافه على السهول الفسيحة حوله لا سيما سهل يزرعيل (مرج ابن عامر) - وأيضاً مثل حرمون - جبل الشيخ الذي كان الإسرائيليون يرونه في الطرف الشمالي من بلادهم مرتفعاً عالي الذرى. وكلاهما باسم الله يهتفان أي أصبح على أمكنة عديدة تقام عبادة الله فيهما. وقد يكون المعنى أن هذين الجبلين بالنسبة لأنهما من أعظم أمجاد الطبيعة فهما بذلك يسبحان اسم الخالق.
يذكر ديليتش في الصفحة ٣٧ من مجلده الثالث أن حرمون يقع للجهة الشرقية من الأرض المقدسة والحقيقة أن حرمون هو للشمال أكثر منه للشرق. يعود فيذكرنا بقدرة الله فيده قوية ويمينه مرتفعة لذلك فهي تتناول كل إنسان فيفعل ما يشاء ولا يستطيع أحد أن يسأله ماذا تفعل.
«١٤ ٱلْعَدْلُ وَٱلْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّكَ. ٱلرَّحْمَةُ وَٱلأَمَانَةُ تَتَقَدَّمَانِ أَمَامَ وَجْهِكَ. ١٥ طُوبَى لِلشَّعْبِ ٱلْعَارِفِينَ ٱلْهُتَافَ. يَا رَبُّ بِنُورِ وَجْهِكَ يَسْلُكُونَ. ١٦ بِٱسْمِكَ يَبْتَهِجُونَ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ وَبِعَدْلِكَ يَرْتَفِعُونَ. ١٧ لأَنَّكَ أَنْتَ فَخْرُ قُوَّتِهِمْ، وَبِرِضَاكَ يَنْتَصِبُ قَرْنُنَا. ١٨ لأَنَّ ٱلرَّبَّ مِجَنُّنَا وَقُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ مَلِكُنَا».
ولكن هذا الإله القدير لا شيء يقارب قدرته السرمدية سوى بره الكامل وقداسته الكلية. هوذا العدل والحق ترتكز عليهما قاعدة العرش كما أن الرحمة والأمانة تطلبان البشر وتنجيان من حمو غضبه. أي أن الله قبل أن يجري عدله وحقه يستعمل رحمته وأمانته إلى أقصى حدودهما (راجع أمثال ١٦: ١٢ و٢٥: ٥).
(١٥ - ١٨) بعد أن يصف المرنم هذا الإله العظيم الرحيم ينظر إلى الشعب الآن ويطوبهم ذلك لأنهم يعرفون أن يهتفوا لهذا الإله فكانوا به جديرين على قدر الإمكان ولذلك فهم بنور وجهه يمشون في طريق الحياة بقوة وثقة ورزانة. أن يكونوا فيما بعد مترددين طائشين لا يدرون أية جهة يتجهون بل هم واثقون بكل شيء. وسبب بهجتهم هو اسم الله منذ بدء اليوم إلى آخره. وهم يرتفعون بعدل الله من أي ذل سقطوا فيه أو أية خطة تدنوا إليها. إذن هم شعب سعيد لا يهاب أي الأعداء طالما أن الله ذاته هو فخر القوة. قوتهم ليست من أنفسهم بل من الله وعزتهم ليست بأي جبروت مادي يتمتعون به بل برضا الله عليهم ورحمته التي تكتنفهم. ذلك لأن الرب نفسه هو الترس والمجن وهكذا لا تصلهم سهام الأعداء ولا تؤذيهم ضرباتهم. وقوله إن قدوس إسرائيل ملكنا أي أنه هو الذي يحمي الملك من كل ضيم ويرفعه لدى كل سقطة هوذا عائلة داود المالكة هي مثبتة الأركان طالما هي في حماية الله وحفظه فالقدرة ليست لها بل لله وما هي سوى وكيلة عنه عليها أن تؤدي الحساب لدى كل ملمة. وهكذا فوراء هذا الملك الأرضي يوجد الملكوت السماوي الذي بقدرة الله وعدله وأمانته يثبت إلى الأبد.
«١٩ حِينَئِذٍ كَلَّمْتَ بِرُؤْيَا تَقِيَّكَ، وَقُلْتَ جَعَلْتُ: عَوْناً عَلَى قَوِيٍّ. رَفَعْتُ مُخْتَاراً مِنْ بَيْنِ ٱلشَّعْبِ. ٢٠ وَجَدْتُ دَاوُدَ عَبْدِي. بِدُهْنِ قُدْسِي مَسَحْتُهُ. ٢١ ٱلَّذِي تَثْبُتُ يَدِي مَعَهُ. أَيْضاً ذِرَاعِي تُشَدِّدُهُ. ٢٢ لاَ يُرْغِمُهُ عَدُوٌّ، وَٱبْنُ ٱلإِثْمِ لاَ يُذَلِّلُهُ. ٢٣ وَأَسْحَقُ أَعْدَاءَهُ أَمَامَ وَجْهِهِ وَأَضْرِبُ مُبْغِضِيهِ».
(١٩ - ٢٢) قد يكون هذا التقي الذي كلمه الله بالرؤيا هو ناثان (راجع ١أخبار ١٧: ١٥) أو داود ذاته. وتقول الترجمة اليسوعية «لقد كلمت صفيك في رؤيا فقلت إني هيأت نصرة للجبار ورفعت المختار من الشعب». يقصد هنا كيف أن الله قد اختار داود ولم يزل فتى صغيراً ورفض شاول فان الله عوناً لداود على عدوه القوي الملك الجبار. ذلك لأنه اختاره من بين الشعب ولم يلتفت إلى النسل الملكي بل إلى الأهلية والكفاءة. ولم يصبح نسلاً ملكياً بالسلالة إلا بعد داود لا قبله.
وقد وجد الله داود أنه الشخص الأنسب لهذه المهمة الخطيرة أن يرعى شعب الله بعد أن كان راعياً للغنم (راجع ٢صموئيل ٧) فقد مسحه الله عندئذ على كل إسرائيل. وقد رافقه الله منذ ذاك الحين وثبت يده في الملك وشدد ذراعه بحمل الصولجان لئلا يفشل ويضعف وقد أظهر داود كفؤ ليضطلع بالمهمة الخطيرة التي ألقيت على كتفيه فلم يتراجع ولم يتوان. وهكذا استمر على القوة وأخضع أعداءه فلم يستطيعوا النيل منه وإضعافه كما أن الأشرار لم يستطيعوا أن يذللوه بأي وجه من الوجوه فكان المقاومون يفشلون واحداً بعد الآخر إلى أن تمت النصرة واستتب الأمن والنظام في البلاد كلها.
(٢٣) بل أن الله يشدد يده بعد فلا يكتفي بالوجهة السلبية أي أنه يرد عنه سهام الأعداء ويحميه منهم بل يهاجمهم ويتغلب عليهم حتى لا يجسروا أن يقفوا أمام وجهه. وكان يضربهم بلا شفقة ولا هوادة لئلا يتقووا فيغلبهم على أمرهم قبل أن يتشددوا.
«٢٤ أَمَّا أَمَانَتِي وَرَحْمَتِي فَمَعَهُ، وَبِٱسْمِي يَنْتَصِبُ قَرْنُهُ. ٢٥ وَأَجْعَلُ عَلَى ٱلْبَحْرِ يَدَهُ وَعَلَى ٱلأَنْهَارِ يَمِينَهُ. ٢٦ هُوَ يَدْعُونِي: أَبِي أَنْتَ. إِلٰهِي وَصَخْرَةُ خَلاَصِي. ٢٧ أَنَا أَيْضاً أَجْعَلُهُ بِكْراً أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ. ٢٨ إِلَى ٱلدَّهْرِ أَحْفَظُ لَهُ رَحْمَتِي. وَعَهْدِي يُثَبَّتُ لَهُ».
(٢٤ - ٢٨) في هذه الأعداد المتوالية يجد القارئ تكراراً لهذه المواعيد الإلهية. السابقة وقديماً وعد الله شعبه مواعيد كثيرة وحققها لهم (راجع تكوين ١٥: ١٨ و٢أخبار ٩: ٢٩). فيمتد ملك داود من البحر أي المتوسط ويتسلط على عدد من الأنهار أي يمتلكها ويستخدمها لمنفعته الخاصة. ولم يكن الإنسان قد تقدم في معرفة استخدام الأنهار سوى ري بعض الأراضي المجاورة بصورة أولية للغاية. وليس في هذه البلاد أنهار كبيرة يمكن أن تمخر فيها السفن والقوارب. فالكلام هنا في الدرجة الأولى عن حدود سلطانه أكثر منه عن كيفية ذلك السلطان.
وفي العدد السادس والعشرين يستلفت نظرنا قوله إن الملك يدعو الله أباه وفي الوقت ذاته هو إلهه وصخرة خلاصه القوية المتينة. قد يكون من باب الامتياز فقط أن يسمي الله أباً ولكن ليس كذلك لعامة الشعب فإنه على الكثير يكون الملك هو أبوهم. ولذلك فإننا نجد سمواً أعظم في تعليم السيد المسيح له المجد في الصلاة الربانية أبانا الذي في السموات.... وعلى كل فهي فكرة جريئة في ذلك الحين لم يستطع المرنم معها إلا أن يتبعها بقوله «إلهي» لئلا يكون قد تجاسر كثيراً. هو الله الذي اختاره وهو الصغير ليجعله بالفعل بكراً بين إخوته جميعاً. ولا ننس أهمية البكورية في ذلك الزمان ومع ذلك فداود قد تخطاها بكفارته ومقدرته حتى أصبح عظيماً. أما قوله أعلى من ملوك الأرض أي الملوك الصغار المجاورين لملكه. ثم أيضاً بالنسبة للملوك الذين جاءوا بعده ما عدا سليمان قبل انقسام المملكة إلى شطرين.
ثم يكرر الوعد بالرحمة وحفظ العهد. فإن الله لن ينسى على شرط أن الملك لا يركب متن الغرور بل يسلك متواضعاً مع إلهه.
«٢٩ وَأَجْعَلُ إِلَى ٱلأَبَدِ نَسْلَهُ، وَكُرْسِيَّهُ مِثْلَ أَيَّامِ ٱلسَّمَاوَاتِ. ٣٠ إِنْ تَرَكَ بَنُوهُ شَرِيعَتِي وَلَمْ يَسْلُكُوا بِأَحْكَامِي، ٣١ إِنْ نَقَضُوا فَرَائِضِي وَلَمْ يَحْفَظُوا وَصَايَايَ، ٣٢ أَفْتَقِدُ بِعَصاً مَعْصِيَتَهُمْ وَبِضَرَبَاتٍ إِثْمَهُمْ. ٣٣ أَمَّا رَحْمَتِي فَلاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ، وَلاَ أَكْذِبُ مِنْ جِهَةِ أَمَانَتِي. ٣٤ لاَ أَنْقُضُ عَهْدِي وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ».
يتابع في العدد (٢٩) الوعد ذاته من جهة النسل الملكي وتثبيت العرش على أسس متينة لا تزعزعها تطورات الحدثان (راجع تثنية ١١: ٢١ ولا سيما ٢صموئيل ٧: ١٦) وهذا الأخير على الأرجح هو أساس ما ورد في (العدد ٢٩) من المزمور إنما يضعه المرنم بقالب شعري جذاب.
(٣٠ - ٣٧) يبدأ المرنم في العدد الثلاثين ويقتبس (٢صموئيل ٧: ١٤) بأن أمانة الله نحو ذرية داود لا تتوقف على نسبة أمانتهم هم بل على نسبة العهد الذي قطعه الله مع داود نفسه. وهنا يفسح مجالاً لضعف الإنسان وسقوطه في الخطايا فهؤلاء البنون قد يتركون الشريعة ولا يطبقون أحكامها بل ينقضون الفرائض ويهملون الوصايا. وهنا الله لا يترك لهم الحبل على غاربه بل يفتقدهم بعصا التأديب حتى يعودوا. ويسمح بالضربات حتى يتوبوا. ولكن مهما عظم ذنبهم فإن رحمة الله أعظم. فإذن السبب في دوام هذا الملك هو لرحمة الله أولاً ولأمانته. فقد وعد الله أن يثبته ويبقى عرشه وحاشا لله أن يخلف الميعاد.
أيضاً في (العدد ٣٤) يكرر الكلام ذاته من جهة عدم نقض الله لعهد قطعه قديماً ولا يغير ما خرج من شفتيه كما يفعل البشر فهم وحدهم منافقون كذابون.
إذن هو وعد وعهد في آن واحد ويبني المرنم كلامه على ما ورد في (تكوين ٨: ٢١ و٢صموئيل ٧ و١أخبار ١٧ وإشعياء ٤٤: ٩). ويجعل من هذه الأحداث التاريخية دعامة يدعم بها موقفه من جهة علاقة الله ببيت داود المختار.
«٣٥ مَرَّةً حَلَفْتُ بِقُدْسِي أَنِّي لاَ أَكْذِبُ لِدَاوُدَ. ٣٦ نَسْلُهُ إِلَى ٱلدَّهْرِ يَكُونُ، وَكُرْسِيُّهُ كَٱلشَّمْسِ أَمَامِي. ٣٧ مِثْلَ ٱلْقَمَرِ يُثَبَّتُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. وَٱلشَّاهِدُ فِي ٱلسَّمَاءِ أَمِينٌ. سِلاَهْ ٣٨ لٰكِنَّكَ رَفَضْتَ وَرَذَلْتَ. غَضِبْتَ عَلَى مَسِيحِكَ. ٣٩ نَقَضْتَ عَهْدَ عَبْدِكَ. نَجَّسْتَ تَاجَهُ فِي ٱلتُّرَابِ. ٤٠ هَدَمْتَ كُلَّ جُدْرَانِهِ. جَعَلْتَ حُصُونَهُ خَرَاباً».
يتابع المرنم الموضوع نفسه بأن الله حلف وهو الصادق الأمين بأن النسل الملكي - وقد يكون نسل إبراهيم على وجه الإجمال - أن يبقى على الدوام ولا يضمحل وهكذا يثبت هذا العرش كثبوت الشمس بل كما يثبت القمر الذي لا يخل في مواعيده وهو أساس الشهر حسب الحساب القديم وبواسطة ذلك قسمت السنون والقرون. ووراء هذه المظاهر الطبيعية الجبارة من الشمس والقمر يوجد الخالق العظيم الذي أبدع الكائنات كلها وبقدرته صنعت. وعرشه ذاته في السماء وهنا ترتفع الموسيقى بقوله - سلاه - أما الشاهد الأمين الذين في السماء فقد يكون قوس قزح الذي وعد الله به نوحاً. أما أيوب فيقول أيوب ١٦: ١٩ «أَيْضاً ٱلآنَ هُوَذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ شَهِيدِي وَشَاهِدِي فِي ٱلأَعَالِي».
(٣٨ - ٤٥) يبدأ في هذا العدد يعاتب الله. فبعد أن يذكر المرنم أن الله قد أقسم بعهود لداود فكيف يرفضه ويرذله؟ بعد أن كان له الرضا فكيف يكون نصيبه السخط. ويستمر العتاب بقوله لقد نقضت العهد مع عبدك وهذا شيء لم يستطع المرنم فهمه بل قد دفعت تاجه للتراب بدلاً من أن يكون على الرأس. وبدلاً من أن يكون مقدساً جعلته في نجاسة. بل أن الله قد أزال الحواجز عن ممتلكات الملك وعدم الجدران وقد يكون المعنى مجازياً أي أنه لم يعد من فارق بين الملك والعامي كلاهما واحد في الامتهان والضعة. بل إنك يا رب قد هدمت تلك الحصون التي أقامها الملك على حدود بلاده فاجتازها الأعداء بقوة ولم يعد للملك قدرة أو مهابة.
«٤١ أَفْسَدَهُ كُلُّ عَابِرِي ٱلطَّرِيقِ. صَارَ عَاراً عِنْدَ جِيرَانِهِ. ٤٢ رَفَعْتَ يَمِينَ مُضَايِقِيهِ. فَرَّحْتَ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ. ٤٣ أَيْضاً رَدَدْتَ حَدَّ سَيْفِهِ وَلَمْ تَنْصُرْهُ فِي ٱلْقِتَالِ. ٤٤ أَبْطَلْتَ بَهَاءَهُ وَأَلْقَيْتَ كُرْسِيَّهُ إِلَى ٱلأَرْضِ. ٤٥ قَصَّرْتَ أَيَّامَ شَبَابِهِ. غَطَّيْتَهُ بِٱلْخِزْيِ. سِلاَهْ».
وهكذا فإن كل عابر طريق قد تجاسر على الاعتداء فلم يعد من حرمة ترعى ولا من كرامة تحترم.
يستمر المرنم في تعداد الإهانات التي لحقت بالملك وشعبه وإذا بأيدي المضايقين ترتفع بالعدوان فهم علاوة على صلفهم لا يتورعون من أن يلحقوا الأذى في أي وقت. وهكذا كان الأعداء في فرح بينما كان الشعب في غمٍ وكمد.
بل إن الله لم ينصر الملك في المعركة فنبا سيفه وانخذل وبدلاً من أن يحوز الانتصار كان نصيبه الفشل والانكسار.
وكانت النتيجة أنه لم يعد له أي بهاء إذ لا بهاء بدون قدرة وصولة ولا عظمة إلا بما يدعمها ويثبتها. وكانت النتيجة أن ألقي العرش في التراب بدلاً من أن ينتصب شريفاً عالياً بالنسبة للمكانة التي رمقه الله بها من قبل وبالنسبة للعهود الثابتة المقطوعة التي لا يمكن أن ينساها الله أو ينقضها.
وكانت النتيجة أيضاً أن هذا الملك المدحور قد مات كمداً وهو لم يبلغ من العمر مبلغاً كبيراً. إذ أن الخزي قد غطاه فلم يستطع أن ينهض بعد فسلم نفسه لليأس القاتل.
وهكذا لقد انقسمت المملكة فذهب القسم الأكبر شاقاً عصا الطاعة وأما القسم الصغير الآخر فهو تحت نفوذ مصر وسطوتها لذلك قد ذهب المجد وقوله - سلاه - لعظمة النكبة التي يذكرها فهي تستحق أن يلتفت إليها الله ويرحم عبده ويرضى عليه بعد وهو الغفور الرحيم.
«٤٦ حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ تَخْتَبِئُ كُلَّ ٱلٱخْتِبَاءِ؟ حَتَّى مَتَى يَتَّقِدُ كَٱلنَّارِ غَضَبُكَ؟ ٤٧ ٱذْكُرْ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ. إِلَى أَيِّ بَاطِلٍ خَلَقْتَ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ؟ ٤٨ أَيُّ إِنْسَانٍ يَحْيَا وَلاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ؟ أَيٌّ يُنَجِّي نَفْسَهُ مِنْ يَدِ ٱلْهَاوِيَةِ؟ سِلاَهْ. ٤٩ أَيْنَ مَرَاحِمُكَ ٱلأُوَلُ يَا رَبُّ ٱلَّتِي حَلَفْتَ بِهَا لِدَاوُدَ بِأَمَانَتِكَ؟ ٥٠ ٱذْكُرْ يَا رَبُّ عَارَ عَبِيدِكَ ٱلَّذِي أَحْتَمِلُهُ فِي حِضْنِي مِنْ كَثْرَةِ ٱلأُمَمِ كُلِّهَا».
(٤٦ - ٥١) بعد أن ينهي المرنم تعداده لمظاهر العار التي لحقت بالشعب فإنه يبدأ هنا بأن يذكر بعض الأشياء التي تزيل النكبة وتنهض الساقطين. فيرى الله أنه قد حجب وجهه وهو كأنه غائب أو موجود ولكنه مختبئ. وإنما هو كذلك لأنه لا يزال غضباناً ويلتمس المرنم من الله الرضا فيتذلل أمامه بقوله هوذا كل شيء زائل لا يمكن أن يبقى بل أن هذه هي حالة كل من في الدنيا هي ليست دار قرار بل دار فرار ليس إلا يأتيها الناس ثم يذهبون. ويتساءل المرنم متعجباً أي إنسان يحيا لا يرى الموت؟ إن الإنسان باطل ولكن الرب نفسه فهو الذي ينقذ وينجي. لذلك يلتفت إلى الله بطلب العون ويسأله المراحم وأن يعود للعهود القديمة للتذكار. يراجع المرنم المجد الغابر في أيام داود وسليمان ولا يسعه إلا أن يذرف الدموع على ما مضى.
(أما العدد ٥٠) فيحتاج إلى قليل من التمعن فماذا يعني بقوله احتمله في حضني... وفي الترجمة اليسوعية «اذكر أيها السيد عار عبيدك الذي تحملته في حضني...» أي أن هذا الشعب قد ذل إلى درجة أنه يضطر أن يتحمل الذل والأذى صابراً ساكتاً ويضم هؤلاء الأعداء إلى صدره رغماً عنه على حد قول أبي الطيب المتنبئ:
ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى عدواً له ما من صداقته بدّ



«٥١ ٱلَّذِي بِهِ عَيَّرَ أَعْدَاؤُكَ يَا رَبُّ، ٱلَّذِينَ عَيَّرُوا آثَارَ مَسِيحِكَ. ٥٢ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلَى ٱلدَّهْرِ. آمِينَ فَآمِينَ».
لقد كفى هذا العار الذي لحق شعبك وملكهم. لقد كفى يا رب ما تطاولوا به وما شوهوه من معالم الأمجاد القديمة. إن آثار مسيحك يجب أن تظل مفهومة واضحة حتى يراها الناس ويفتخروا بها فلا تطمس فيما بعد ولا تضمحل.
وأما العدد (٥٢) فهو خاتمة تسبيحة للرب ينتهي بها القسم الثالث من كتاب المزامير.


القسم الرابع من كتاب المزامير


المزمور ٩٠ - ١٠٦




اَلْمَزْمُورُ ٱلتِّسْعُونَ


صَلاَةٌ لِمُوسَى رَجُلِ ٱللّٰهِ


«١ يَا رَبُّ، مَلْجَأً كُنْتَ لَنَا فِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ٢ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ ٱلْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ ٱلأَزَلِ إِلَى ٱلأَبَدِ أَنْتَ ٱللّٰهُ».
يبدأ هذا القسم من المزامير بصلاة لموسى ويعطي له اللقب رجل الله (راجع تثنية ٣٣: ١ ويشوع ١٦: ٦). قد يكون هذا المزمور مأخوذاً عن بعض الكتابات القديمة المحفوظة مثل كتاب ياشر والتي فقدت بعد ذلك (راجع يشوع ١٠: ١٣ و٢صموئيل ١: ١٨) والتي ترجع بمستنداتها إلى عصر موسى إذ أن نسق هذا المزمور ينطبق تماماً على روح موسى وعلى أسلوبه في الكتابة وعلى لغته على قدر ما نستطيع تمييزه. فهو يشبه من نواح كثيرة ما ورد في (تثنية ٣٢ وأيضا ٣٣). ويذهب ديتريش إلى الزعم بأن توراة موسى والحق يقال هي في الدرجة الأولى سفر التثنية.
(١ - ٤) يبدأ المرنم كلامه بأن يرى الله أنه هو وحده الملجأ منذ قديم الأزمنة وإلى الآن. ويمكن ترجمته يا رب في العدد الأول يا سيد أو يا مولاي مثل (خروج ١٥: ١٧ وتثنية ٣: ٢٤). إن الله ينتقل بمراحمه من جيل إلى جيل حتى يخص جميع الأجيال فهو لا يخص البعض بل أن عنايته تشمل الجميع على السواء. وكان الله في جميع هذه الأدوار الملجأ والحصن الأمين.
إن عمل خلق الجبال على ظهر اليابسة يشبه وقت المخاض للوالدة فهو قرين الأوجاع والآلام. إن الله موجود قبل كل شيء ثم أوجد اليابسة أي هذه الأرض التي نسكنها وفخر هذه الأرض إنما هي الجبال العالية. الله هو القديم الأيام وجوده منذ الأزل أي قبل كل شيء وسيبقى بعد كل شيء أي إلى الأبد فلا حد له في الزمان بينما هذه الجبال ذاتها محدودة الزمان لها بداءة تولد فيها ولها نهاية حينما تعود الأرض مستوية كما كانت.
«٣ تُرْجِعُ ٱلإِنْسَانَ إِلَى ٱلْغُبَارِ وَتَقُولُ: ٱرْجِعُوا يَا بَنِي آدَمَ. ٤ لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ ٱللَّيْلِ. ٥ جَرَفْتَهُمْ. كَسِنَةٍ يَكُونُونَ. بِٱلْغَدَاةِ كَعُشْبٍ يَزُولُ. ٦ بِٱلْغَدَاةِ يُزْهِرُ فَيَزُولُ. عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يُجَزُّ فَيَيْبَسُ. ٧ لأَنَّنَا قَدْ فَنِينَا بِسَخَطِكَ وَبِغَضَبِكَ ٱرْتَعَبْنَا».
هذا الإنسان الذي طالما نسي أصله فتكبر وتعظم وساد الأرض وتجبر تطلب منه أن يعود إلى التراب لأنه من التراب وإليه يجب أن يعود. ويسمي هذا الإنسان ابن آدم ليذكره بأصل أبيه الترابي لأنه كما التراب هكذا فليكن الترابيون.
وأما الزمان في عين الله فلا حساب له لأن ألف سنة تمر لديه كما يمر اليوم أو قسم من الليل. والعدد الرابع يعود إلى العدد الثاني. إذن فالله لا يحده الزمان قط بل هو الذي يملأ الزمان بمجده وعظمته (راجع ٢بطرس ٣: ٨). لقد قسم الإسرائيليون الليل إلى ثلاثة هزع - الأول ثم منتصف الليل ثم هزيع الصبح.
(٥ - ٦) إذا كان رجوع الضمير في جرفتهم إلى ألف سنة فان الأولى أن يقول جرفتها. أما إذا كان القصد من المعنى أن يقول أهل السنين أو الناس الذي يعيشون في السنين ويموتون فيها. فهذا ممكن أيضاً بل هو الأولى إذ يصف بعد ذلك حياة البشر بأنها مثل سنة النوم أو الوسن يضيع فيه الإنسان وإذا بحياته تضمحل كما يضمحل العشب عند الصباح. وفي العدد السادس نراه يقول إن هذا الشعب قد يزهر في الصباح بدلاً من أن يضمحل ولكنه لا فرق لا بد له بعدئذ من أن يجز وييبس وينتهي أمره.
(٧ - ٨) إن سخط الله علينا هو سبب هذا الفناء فمذ سقوط الإنسان الأول وطرده من جنة عدن لم يعد له أي حياة خالدة مع الله وأعوزته النعمة بالمسيح لكي ترجعه إلى سابق حالته الطاهرة المقدسة. ويكرر قوله أن السخط أفنانا وكذلك الغضب أرعبنا فنحن إذن تحت هذا الغضب إلى أن ننال الرضا والعفو والغفران.
«٨ قَدْ جَعَلْتَ آثَامَنَا أَمَامَكَ، خَفِيَّاتِنَا فِي ضَوْءِ وَجْهِكَ. ٩ لأَنَّ كُلَّ أَيَّامِنَا قَدِ ٱنْقَضَتْ بِرِجْزِكَ. أَفْنَيْنَا سِنِينَا كَقِصَّةٍ. ١٠ أَيَّامُ سِنِينَا هِيَ سَبْعُونَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ ٱلْقُوَّةِ فَثَمَانُونَ سَنَةً، وَأَفْخَرُهَا تَعَبٌ وَبَلِيَّةٌ، لأَنَّهَا تُقْرَضُ سَرِيعاً فَنَطِيرُ. ١١ مَنْ يَعْرِفُ قُوَّةَ غَضَبَكَ، وَكَخَوْفِكَ سَخَطُكَ. ١٢ إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هٰكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ».
(في العدد ٨) يتابع كلامه فيذكر أن هذه الآثام معروفة عند الله وإن جميع الخفايا هي ظاهرة لديه ولا يستطيع الإنسان أن يتخلص منها بالهرب. وهذه الخطايا موضوعة هكذا لكي يؤدبنا بواسطتها فنحن لا نترك على هوانا لئلا نضيع ونشرد. وحينما يشرق وجهه بضيائه فحينئذ لا يبقى شيء طي الخفاء والظلام (راجع العدد ٦: ٢٥).
(٩ - ١٢) يتحسر الإنسان العاقل على أيام تمر في غضب الله ورجزه وهكذا انتهت الحياة كما تنتهي قصة نرويها. وفي ترجمة أخرى «أفنينا سنينا كهمسة». وأما الترجمة اليسوعية فتقول «أفنينا سنينا كالوهم» أما الترجمة الأولى كقصة فهي الأفضل لأن الحياة هي أشبه بقصة أو رواية لها أبطالها ولها زمانها ومكانها وكلها محدودة وهكذا كل إنسان محدود وعليه أن يكون حكيماً.
سنو الإنسان في حياته سبعون وإذا زادت فثمانون ولكن يعود ليخبرنا عما يقاسيه الإنسان من تعب وبلية حتى يتمنى مرورها بسرعة وهكذا تنقضي وكحلم نطير ولا نوجد بعد ذلك. لقد حاول الإنسان أن يرفع معدل طول الحياة فنجح ولكن نجاحه كان بالأكثر بالنسبة لتقليل وفيات الأطفال منه بالنسبة لطول الحياة ذاتها. فهي منذ القديم وإلى الآن قصيرة الأمد محدودة فلنكن واعين في صرفها ولا نبذرها عبثاً. وفي (العدد ١١) ينسب ذلك إلى غضب الله وسخطه على الإنسان كما مرّ معنا من قبل. ولكنه في (العدد ١٢) يلفت نظرنا أن نكون حكماء في إحصاء هذه السنين فإن الأهمية ليس أن نعرف من فوق لكي تزيدنا حنكة واختباراً فلا نقع في أغلاط ارتكبناها بل نصلح ذواتنا على ممرّ الأيام.
«١٣ اِرْجِعْ يَا رَبُّ. حَتَّى مَتَى؟ وَتَرَأَّفْ عَلَى عَبِيدِكَ. ١٤ أَشْبِعْنَا بِٱلْغَدَاةِ مِنْ رَحْمَتِكَ فَنَبْتَهِجَ وَنَفْرَحَ كُلَّ أَيَّامِنَا. ١٥ فَرِّحْنَا كَٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي فِيهَا أَذْلَلْتَنَا، كَٱلسِّنِينِ ٱلَّتِي رَأَيْنَا فِيهَا شَرّاً. ١٦ لِيَظْهَرْ فِعْلُكَ لِعَبِيدِكَ وَجَلاَلُكَ لِبَنِيهِمْ. ١٧ وَلْتَكُنْ نِعْمَةُ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا عَلَيْنَا، وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْ عَلَيْنَا، وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْهُ».
(١٣ - ١٧) بعد التحذير السابق والطلب من الله أن يمنح الإنسان حكمة ودراية. يطلب منه أيضاً أن يرجع للإنسان ويترأف عليه ولا يعامل البشر بما يستحقونه. وقوله عبيدك أي جماعتك الخاصة والمؤمنون الذين يلوذون بك ويدعون باسمك (راجع تثنية ٩: ٢٧ وقابله مع خروج ٣٢: ١٣).
ولا يكتفي بطلب أن يزيل الله غضبه بل أن ينجد برحمته ولدى الصباح ننهض فنجد أنفسنا جائعين فكما نطلب طعاماً لقوتنا كذلك نطلب أن نمتلئ من الرحمة والرضوان وهكذا تكون حياتنا بهيجة فرحانة ويذهب الحزن والتنهد ولا يبقى من ذلك شيء على طول الحياة. وبعد ذلك ينتقل في العدد الخامس عشر فيطلب من الله مقابل تلك السنين التي مرت بالشر والأحزان أن تأتي سنو الخير والرضوان فلا يكون ذلك فيما بعد بل تفاخر ولا يكون تعب ومشقة بل راحة وطمأنينة على الدوام.
وهكذا فإن الله يظهر ذاته لعبيده هؤلاء ثم بعدهم يظهر بكل جلال إلى أولادهم وهكذا على التوالي فتصبح مرور السنين لأجل تثبيت هذا الحق الإلهي الذي ورثه الأبناء عن الآباء.
ثم ينتهي أخيراً بصلاة خشوعية جميلة طالباً نعمة الله أولاً فتنسكب علينا. ثم يطلب أولاً وثانياً تثبيت عمل أيدينا. أي أن قيمة عمل أيدينا تقوم على نسبة استمرار نعمة الله علينا فإن انسبغت علينا فنحن في خير ويمكننا أن نعمل الأعمال ولذلك قدم هذه وأخرّ الطلب بتثبيت العمل لأن لا قمية له إلا على نسبة ما يمنحه الله من نعمته وإحسانه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلتِّسْعُونَ


«١ اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ ٱلْعَلِيِّ فِي ظِلِّ ٱلْقَدِيرِ يَبِيتُ. ٢ أَقُولُ لِلرَّبِّ: مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلٰهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ. ٣ لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ ٱلصَّيَّادِ وَمِنَ ٱلْوَبَإِ ٱلْخَطِرِ. ٤ بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ. ٥ لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ ٱللَّيْلِ، وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي ٱلنَّهَارِ».
يقصد بهذا المزمور أن يكون كالرقية في أيام الحرب والوبأ فينقسم إلى ثلاثة أصوات تتجاوب على الوجه التالي:
العدد الأول: الصوت الأول
العدد الثاني: الصوت الثاني
ثم من العدد الثالث إلى الثامن يعود الصوت الأول.
ثم في العدد التاسع: الصوت الثاني
ثم يعود الصوت الأول من العدد العاشر إلى الثالث عشر.
ثم يأتي الصوت الإلهي من العدد الرابع عشر إلى الآخر.
(١ - ٢) يبدأ الصوت الأول فيستعمل العلي ثم في الشطر الثاني يستعمل القدير أي هو الله العلي فوق الجميع حتى لا يقدر أحدٌ أن يصل إليه وهو القدير لأن بظله نبيت وفي حمايته لنا الأمن والسلام. فيجيبه الصوت الآخر زيادة في الطمأنينة ويقول له أن الله هو الملجأ والحصن ولذلك فهو عليه المتكل. إن الله ليس فقط العلي والقدير بل القريب الذي يحمينا أيضاً.
(٣ - ٩) ينجي من فخ الصياد فالإنسان أشبه بعصفور صغير بالنسبة لجسامة الأحداث حوله والمباغتات التي لا تتركه دقيقة واحدة قرير العين ناعم البال. بل هو ينجي حينما ينتشر مرض مخيف كالطاعون والكوليرا (الهواء الأصفر) كما جرى أخيراً انتشار هذا الوباء المهلك في بلاد مصر سنة ١٩٤٧ فرغماً عن كل الوسائل العلمية الحديثة كان الخطر فظيعاً.
ثم ينتقل ليصور لنا الله يظلل تحت جناحيه كما يفعل النسر على شرط أن نعرف حقه. لذلك لا نخاف أي الشرور إن في الليل أو في النهار. حتى لا نخاف أي سهم طائش يرمى بدون تعمد.
«٦ وَلاَ مِنْ وَبَإٍ يَسْلُكُ فِي ٱلدُّجَى، وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي ٱلظَّهِيرَةِ. ٧ يَسْقُطُ عَنْ جَانِبِكَ أَلْفٌ، وَرَبَوَاتٌ عَنْ يَمِينِكَ. إِلَيْكَ لاَ يَقْرُبُ. ٨ إِنَّمَا بِعَيْنَيْكَ تَنْظُرُ وَتَرَى مُجَازَاةَ ٱلأَشْرَارِ. ٩ لأَنَّكَ قُلْتَ: «أَنْتَ يَا رَبُّ مَلْجَإِي». جَعَلْتَ ٱلْعَلِيَّ مَسْكَنَكَ، ١٠ لاَ يُلاَقِيكَ شَرٌّ وَلاَ تَدْنُو ضَرْبَةٌ مِنْ خَيْمَتِكَ» .
بل لا يخاف المؤمن من أمراض جارفة يحسب مسراها في الليل لأن الظلام يعشش فيه كل أنواع الشرور. بينما النور ولا سيما نور الشمس فهو يطرد كل المخاطر. وأما هلاك الظهيرة فهي على الأرجح مخاطر الحروب والقتال لأنها عادة تجري في أشد ساعات النهار إشراقاً وضياء أي عند الظهر.
وأما المؤمن فيقف من جميع هذه وقفة المشاهد ليس أكثر كإنما هذه الويلات لا تعنيه ولا تناله بأي أذى هو سليم محروس لذلك لأن ملائكة النور تقف ألوفاً عن جانبه وعشرات الألوف عن يمينه. وهكذا تطرد من أمامه كل ما يعترض سبيله أو يكدر عليه صفو عيشه.
ينظر إلى هذه الويلات لأنه يجد فيها دروساً يلقيها الله عليه وهو يجازي الأشرار عن إثمهم. والسبب في ذلك هو لأنك قلت أيها الإنسان إن الله هو الملجأ فانعم بهذا الإيمان وكن سعيداً.
(٩ - ١٦) ومن منتصف هذا العدد يعود الكلام للصوت الأول فيؤكد مرة ثانية أن الإنسان المؤمن طالما قد جعل مسكنه مع العلي فهو في أمان وطيد.
فلا يأتي شر عليه وإذا جاءت الضربة تحيد عن خيمته ولا يُمس بأي سوء.
«١١ لأَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ. ١٢ عَلَى ٱلأَيْدِي يَحْمِلُونَكَ لِئَلَّا تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ. ١٣ عَلَى ٱلأَسَدِ وَٱلصِّلِّ تَطَأُ. ٱلشِّبْلَ وَٱلثُّعْبَانَ تَدُوسُ. ١٤ لأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِي أُنَجِّيهِ. أُرَفِّعُهُ لأَنَّهُ عَرَفَ ٱسْمِي. ١٥ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ. مَعَهُ أَنَا فِي ٱلضِّيقِ. أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ. ١٦ مِنْ طُولِ ٱلأَيَّامِ أُشْبِعُهُ، وَأُرِيهِ خَلاَصِي».
يكرر الصوت المواعيد الكريمة زيادة عما تقدم وإذا بالملائكة خدام له أمناء وظيفتهم الحراسة والتأمين في مختلف الطرق التي يسير عليها الإنسان أي أينما توجه بالطبع لا يقصد أن الملائكة تحرسه في مختلف أفكاره ونواياه وأساليب حياته لأنه قد يشذ عن السبيل وحينئذ من واجبه أن يعود ويهتدي. وفي (العدد ١٢) إذا بهؤلاء الملائكة يحملون ذلك الإنسان ويطيرون به طيراناً لئلا يتعثر في سيره ويصطدم بالحجارة في طريقه. بل إنه يوقي أيضاً من الوحوش الضارية والحشرات السامة. فلا الصل ولا الثعبان يؤذيان كما أنه لا الأسد ولا الشبل يفترسانه لأن حماية الله ورعايته تحيطان به وتحفظانه (راجع مرقس ١٦: ١٨ ولوقا ١٠: ١٩). والقصد من هذا الكلام هو من الجهة الروحية أي أن المؤمن يصادف أعداء يجابهونه كالأسد ويوجد أعداء ينفثون سموماً في الخفاء كالثعبان. ولكن الله يرسل ملائكته للوقاية.
وأخيراً في هذه الأعداد الباقية (١٤ - ١٦) يعطي السبب الحقيقي لماذا هو في أمان ذلك لأنه تعلق بالله فنجا. بل هو يرتفع من الحفرة التي سقط فيها لأنه يعرف اسم الله. ويمجد بل يدعو فيجاب. والذي في ضيق ينقذ ويمجد بل إنه سيكون طويل الأيام ويشبع من الحياة لأن هذا من أكبر نعم الله على الإنسان. بل إن الله يشفق عليه ويمنحه النجاة من ضيقات متنوعة لم يكن ينتظرها. وكلمة خلاص قد تطورت كثيراً في تاريخها حتى لبست حلتها الأخيرة في العهد الجديد ونجد المخلص الوحيد يسوع المسيح ابن الله.

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلتِّسْعُونَ


مَزْمُورُ تَسْبِيحَةٍ. لِيَوْمِ اَلسَّبْتِ


«١ حَسَنٌ هُوَ ٱلْحَمْدُ لِلرَّبِّ وَٱلتَّرَنُّمُ لٱسْمِكَ أَيُّهَا ٱلْعَلِيُّ. ٢ أَنْ يُخْبَرَ بِرَحْمَتِكَ فِي ٱلْغَدَاةِ وَأَمَانَتِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ ٣ عَلَى ذَاتِ عَشَرَةِ أَوْتَارٍ وَعَلَى ٱلرَّبَابِ عَلَى عَزْفِ ٱلْعُودِ».
هذا المزمور كما نجد من عنوانه يناسب الأيام المقدسة والسبوت فهو يدعو للعبادة والتورع أمام الله. وكان معيناً ليوم السبت بينما المزامير غيره كانت لأيام الأسبوع الباقية حينما كانت تقام الخدمة بعد الرجوع من السبي. كان يرنم لدى تقديم التقدمة السبتية (العدد ٢٨: ٩ وما بعده) كذلك يرنم معه (تثنية ٣٢) ويقسم إلى ستة أقسام. وفي مساء السبت لدى التقدمة المسائية كان يرنم إحدى القطع الثلاث (خروج ١٥: ١ - ١٠ أو ١١ - ١٩ أو العدد ٢١: ١٧ - ٢٠).
(١ - ٣) يبدأ كلامه بحمد الرب حاكم العالمين والمدبر الوحيد لكل شيء ويترنم باسم الله العلي الذي هو فوق جميع الأسماء بالنسبة لرحمته الظاهرة في الصباح وأمانته التي ترافقنا في الليل أيضاً. فهو إله حنون لطيف بعباده. وهو يعيد ذكر اسم الله سبع مرات تبركاً لا سيما وهو مزمور ليوم السبت المقدس الذي هو اليوم السابع أيضاً حسب التقويم اليهودي القديم. ونجد هذا التشديد مكرراً في (المزامير ٦٣ و٩٤: ٣ و٩٦: ١٣).
إن يوم السبت في نظره هو اليوم المفرز للعبادة فنترك مهام الحياة والأشغال المعتادة وننصرف إليه (راجع إشعياء ٥٨: ١٣ وما بعده) وهذه العبادة حسنة ليس بعيني الله وحده بل يجب أن تكون كذلك في عيني الإنسان نفسه. وهكذا يترنم اللسان بالحمد والتسبيح ويستخدم فوق ذلك تلك الآلات الوترية التي كانت مستعملة للعبادة عندئذ لكي تزيد الترنيم وقعاً وجمالاً. وأي شيء أوقع في قلب الإنسان من أن يبدأ هذا النهار المقدس المخصص للعبادة بحمد اسم الرب وتكريمه ويستمر ذلك كذلك إلى أن ينتهي اليوم ويأتي الليل وحينئذ نذكر أمانة الرب وما صنعه معنا من عظائم.
«٤ لأَنَّكَ فَرَّحْتَنِي يَا رَبُّ بِصَنَائِعِكَ. بِأَعْمَالِ يَدَيْكَ أَبْتَهِجُ. ٥ مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ وَأَعْمَقَ جِدّاً أَفْكَارَكَ. ٦ ٱلرَّجُلُ ٱلْبَلِيدُ لاَ يَعْرِفُ وَٱلْجَاهِلُ لاَ يَفْهَمُ هٰذَا. ٧ إِذَا زَهَا ٱلأَشْرَارُ كَٱلْعُشْبِ وَأَزْهَرَ كُلُّ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ، فَلِكَيْ يُبَادُوا إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٨ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَمُتَعَالٍ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٩ لأَنَّهُ هُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَا رَبُّ، لأَنَّهُ هُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَبِيدُونَ. يَتَبَدَّدُ كُلُّ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ».
(٤ - ٦) أما سبب هذا الحمد فلا يتأخر أن يقول إن الرب قد فرح عبيده بأعماله العظيمة مدى الأجيال الطويلة التي أظهر فيها سيطرته وجبروته على شعبه. ويا ليت تبدل كلمة «بصنائعك» بقوله «بصنعك». ويقصد المرنم هنا كيف أن الله صنع السموات والأرض وعملهما بيديه بصورة المجاز. إن أعمال الرب عظيمة وأفكاره عميقة جداً وهكذا فإن الإنسان الذي لا يعترف بذلك فهو بليد وجاهل لأنه كيف يستطيع أن يرى آثار هذه الأعمال ثم ينكرها ويرفض صانعها؟ والحق يقال إننا لا نستطيع أن نفهم أعمال الله بعقولنا القاصرة وحده طالما نحن في حدود الجسد «لأننا ننظر الآن في مرآة في لغز» (١كورنثوس ١٣: ١٣) نحن لا نستطيع التمييز إلا بإرشاد روح الله فقط (راجع ٢صموئيل ١٣: ١٧ وكذلك رومية ١١: ٣٣).
(٧ - ٩) أما هؤلاء الأشرار الجهال الذين لا يفهمون مقاصد العلي فهم يزهون إلى حين ثم يضمحلون. قد يزهرون الآن ولكن هذا الزهر لكي يباد ولا يبقى أبداً ولا يمكن يعطي ثماراً على نسبة ذلك الزهر. وبعكس ذلك فإن الله يبقى في مركزه الأعلى. إن الأشرار هم العشب يملأ الأرض ولكنه ييبس ويذبل سريعاً ولا يبقى بينما الرب يبقى رفيعاً فوق كل مخلوقاته فكيف إذن يستطيع الشرير أن يغتر بنفسه ويتمادى. وهكذا ينظر إلى أولئك الجهلة المتكبرين ويرفضهم جانباً. هم أعداء الله لأنهم أعداء أنفسهم لأن الجاهل هو عدو نفسه قبل كل شيء ولأنه كذلك فهو يهلك لأنه فاعل إثم ولا يثبت أمام وجه الله بل يضمحل كما تذهب سحابة الصيف أمام الريح وتتفرق في وجه الشمس (انظر أيوب ٤: ١١).
«١٠ وَتَنْصِبُ مِثْلَ ٱلْبَقَرِ ٱلْوَحْشِيِّ قَرْنِي. تَدَهَّنْتُ بِزَيْتٍ طَرِيٍّ. ١١ وَتُبْصِرُ عَيْنِي بِمُرَاقِبِيَّ، وَبِٱلْقَائِمِينَ عَلَيَّ بِٱلشَّرِّ تَسْمَعُ أُذُنَايَ. ١٢ اَلصِّدِّيقُ كَٱلنَّخْلَةِ يَزْهُو، كَٱلأَرْزِ فِي لُبْنَانَ يَنْمُو. ١٣ مَغْرُوسِينَ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ، فِي دِيَارِ إِلٰهِنَا يُزْهِرُونَ. ١٤ أَيْضاً يُثْمِرُونَ فِي ٱلشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَاماً وَخُضْراً ١٥ لِيُخْبِرُوا بِأَنَّ ٱلرَّبَّ مُسْتَقِيمٌ. صَخْرَتِي هُوَ وَلاَ ظُلْمَ فِيهِ».
(١٠ - ١٢) وأما الذين يتقون الله فهم ليسوا كذلك بل هم ينهضون أقوياء للدفاع عن أنفسهم ولا يبادون سريعاً. البقر الوحشي أو الرثم هو من أجمل الحيوانات ولها قرون قوية تدافع بها عن نفسها. وهي حينما تنصب قرونها تستعد للدفاع عن نفسها بقوة. وقوله «تدهنت بزيت طري» دليل الفتوة الشباب ويكنى بذلك عن النشاط وقوة العزيمة. وحينئذ إذا بعينيه تبصران جيداً لكل المخاطر حوله كأنه يبصر بعين من يراقبه ويسمع بإذن من يقوم عليه بالشر. فهو متنبه حذر لا تغفل عينه عن شيء كذلك لا تفوت إذنه أي الأصوات مهما كانت خفيفة ضعيفة. حينئذ هذا الصديق يرتفع إلى فوق بعكس الأشرار الذين ييبسون ويندثرون وهو كالأرز في قوته وثباته ويستطيع أن يحتمل عواصف الحياة راسخاً لا يعبأ بشيء.
(١٣ - ١٥) يقصد بهذه الاستعارة إنهم متأصلون في إيمانهم ومعرفتهم الروحية لذلك نجدهم ذوي مكانة مرموقة في ديار الرب. فهم منذ شبابهم يتعلمون مخافة الرب وهكذا ينمون في هذه المعرفة على ممر السنين. إذا بهم بعد ذلك حينما يتجاوزون سن الرجولة إلى الكهولة والشيخوخة يعطون ثمراً كثيراً صالحاً يليق بالحياة الأبدية وهكذا يكونون على الدوام في فتوة ونشاط من جهة روحية ولو بلغوا من كبر السن عتياً. وكل من يختبرهم يجد فيهم طيباً ودسماً.
وبالتالي تكون حياتهم بشارة لما صنعه الله معهم من بر واستفادة فيعترفون بالله أنه صخر الدهور. وحينئذ مهما تقلبت عليهم الأيام يجدون أن الله عادل وبار وهو لا يصنع شيئاً إلا بالرحمة والأمانة منذ الطفولة الأولى وعلى مدى الحياة.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلتِّسْعُون


«١ اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ. لَبِسَ ٱلْجَلاَلَ. لَبِسَ ٱلرَّبُّ ٱلْقُدْرَةَ. ٱتَّزَرَ بِهَا. أَيْضاً تَثَبَّتَتِ ٱلْمَسْكُونَةُ. لاَ تَتَزَعْزَعُ. ٢ كُرْسِيُّكَ مُثْبَتَةٌ مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. مُنْذُ ٱلأَزَلِ أَنْتَ».
الرب هو ملك إسرائيل (تثنية ٣٣: ٥ وقابله مع خروج ١٥: ١٨). والرب نفسه هو ملك كل الأرض لذلك يريد المرنم أن يرينا هذه الصورة الجليلة عن الملك القدير. ويستعمل هذا التعبير في أسمى درجات التكريم (انظر إشعياء ٢٤: ٢٣ و٥٢: ٧). وكذلك (الرؤيا ٢١: ١٧ و١٩: ٦). ولا غرو أن يبدأ المرنم هكذا طالما الزمان هو بعد رجوع السبي حينما أخذت الأمة تجدد عهد مجدها ومن غير الله هو باعث مجدها ومجدد حياتها ومنشطها لكل معاني الكرامة والحرية.
(١ و٢) هو الملك الذي يلبس الجلال بدل الحلة الملكية وأزاره القدرة يشد بها وسطه ويظهر جبروته بالنسبة لأن المسكونة كلها تخضع له وتظهر سجودها وبالتالي فهي ثابتة غير متزعزعة على نسبة علاقتها الوطيدة بالله الخالق القدير.
وعرش الله لا بداءة له ولا نهاية إذ هو قبل هذا الوجود وسيبقى بعده أيضاً. ونجد وصفاً بديعاً لهذا الملكوت في (إشعياء ٥٩: ١٧ و٦٣: ١ وما بعده وقابل ذلك مع دانيال ٧: ٩).
قد حدث في التاريخ إن ظهر أن الأمم تتغير وتتبدل وإذا بملوك يهوذا لم يعودوا شيئاً بل سبوا إلى بلاد بعيدة ولكن هوذا قد عاد كل شيء إلى سابق عهده واستتب الشعب في مكانه وأرجع المجد إلى الأرض وهكذا فإن الله هو موجود وهو الملك الحقيقي على البشر جميعهم. فإذا ذهبت الأمم وتبدلت الممالك فإن الرب الخالق القدير يبقى ملكه إلى الأبد.
«٣ رَفَعَتِ ٱلأَنْهَارُ يَا رَبُّ، رَفَعَتِ ٱلأَنْهَارُ صَوْتَهَا. تَرْفَعُ ٱلأَنْهَارُ عَجِيجَهَا. ٤ مِنْ أَصْوَاتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ غِمَارِ أَمْوَاجِ ٱلْبَحْرِ، ٱلرَّبُّ فِي ٱلْعُلَى أَقْدَرُ. ٥ شَهَادَاتُكَ ثَابِتَةٌ جِدّاً. بِبَيْتِكَ تَلِيقُ ٱلْقَدَاسَةُ يَا رَبُّ إِلَى طُولِ ٱلأَيَّامِ».
(٣ - ٥) وهكذا فإن جميع أنهار الدنيا ويكنى بذلك عن المتاعب والمصاعب التي تعترض حياة الإنسان. قد تطوف هذه الأنهار وتهدر أمواجها كالبحار وتعجّ عجيجاً هائلاً يملأ المسكونة وكل القفار ولكن هذا إلى وقت محدود وإذا كل شيء يعود هادئاً ساكناً كأن لم يحدث شيء قط.
هوذا نهر النيل ويكنى بذلك عن مملكة مصر وصولتها وعظتها (راجع إرميا ٤٦: ٧ وما بعده). ونهر الفرات وهو موطن الأشوريين (إشعياء ٧: ٧ وما يليه). والدجلة وهذا بصورة اضبط وأكمل إذ هو سريع كالسهم الذي يرميه الأشوريون والبابليون (رجع إشعياء ٢٧: ١).
هذه المياه المتدفقة الزاخرة. هذه الأمبراطوريات التي سادت وحكمت العالمين. هذه الشعوب التي استبدت في ملكها وسلطانها كلها قد اضمحلت ولكن الله نفسه أقدر من جميعها وهو وحده الباقي حاكماً حقيقياً على هذا الوجود لأنه ملكه ومجلى سلطانه وجلاله.
وما هذه الأحداث الماضية بل هذه الأمور الحاضرة سوى شهادات للرب تري الإنسان أنه وحده الحي إلى الأبد.
وهكذا فإن الإنسان المؤمن يتوجب عليه أن يقدم عبادته في بيت الرب لأن في هذا البر يظهر إيمان الإنسان بإلهه وأمانة الله نحو هذا الإنسان المتعبد الصادق.

اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلتِّسْعُونَ


«١ يَا إِلٰهَ ٱلنَّقَمَاتِ، يَا رَبُّ يَا إِلٰهَ ٱلنَّقَمَاتِ أَشْرِقِ. ٢ ٱرْتَفِعْ يَا دَيَّانَ ٱلأَرْضِ. جَازِ صَنِيعَ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ. ٣ حَتَّى مَتَى ٱلْخُطَاةُ يَا رَبُّ، حَتَّى مَتَى ٱلْخُطَاةُ يَشْمَتُونَ؟».
في هذا المزمور صوت التعزية والسلوان في وسط الآلام المسببة عن اضطهاد المستبدين فيلتفت المرنم إلى مصدر كل تعزية ويقول يا إله النقمات يا رب... وهو متقارب المبنى والمعنى للمزمورين السابقين الثاني والتسعين والثالث والتسعين وهو مكتوب بلا شك بعد عصر داود بزمان طويل ولذلك يتبع نسق آساف وداود من جهة سبكه للمعاني. ويرجح أنه كتب قبيل العصر المكابي أي في أواخر العصر الفارسي حينما كتبت أيضاً بعض أسفار الحكمة كالجامعة مثلاً.
(١ - ٣) يطلب المرنم من الله أن يضع حداً لتصلف الأمم العاتية التي لا تخاف الله ولا تمشي بحسب وصاياه. تلك الأمم ذات الآلهة الغريبة التي أهانت شعب الله مدة الأجيال الطويلة وظهر أن الرب لم يهتم بخاصته بل تركهم في أيدي المغتصبين والظالمين. يطلب أن يشرق على الشعب بقدرته مرة ثانية والسبب في ذلك هو لكي يدين وينتقم من أولئك الذين قد تكبروا على الله ولم يرعوا حرمة لأحد.
وأما ارتفاع الرب هنا فمعناه أن يشرف على أعمال الناس وينظر إليهم جميعاً وهكذا يستطيع أن يحاربهم على شر أفعالهم. أولئك هم المتكبرون القساة الذين يستحقون أشد القصاص لقاء ما جنته أيديهم. قد يترك الله الأشرار إلى حين ولا يجازيهم ولكنه في وقت مناسب سوف يدعوهم لتأدية الحساب. وحسابهم هذا ليس من الضروري أن يكون يوم الحشر بل قد يكون حسابهم في هذا الزمان الحاضر. وأما حجة المرنم فهي لأن هؤلاء الخطاة يشمتون بالأتقياء ويهزأون بهم. وهكذا فهو يطلب أن يضع الله حداً لهذه المهازل القاسية التي يقومون بها لكي يرعووا عن غيّهم.
«٤ يُبِقُّونَ، يَتَكَلَّمُونَ بِوَقَاحَةٍ. كُلُّ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ يَفْتَخِرُونَ. ٥ يَسْحَقُونَ شَعْبَكَ يَا رَبُّ وَيُذِلُّونَ مِيرَاثَكَ. ٦ يَقْتُلُونَ ٱلأَرْمَلَةَ وَٱلْغَرِيبَ وَيُمِيتُونَ ٱلْيَتِيمَ. ٧ وَيَقُولُونَ: ٱلرَّبُّ لاَ يُبْصِرُ، وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ لاَ يُلاَحِظُ. ٨ اِفْهَمُوا أَيُّهَا ٱلْبُلَدَاءُ فِي ٱلشَّعْبِ، وَيَا جُهَلاَءُ مَتَى تَعْقِلُونَ؟».
(٤ - ٧) يتابع المرنم كلامه ويصف هؤلاء الناس الثرثارين الذين يتكلمون مستكبرين ولا يخافون الله ولا يحاسبون ضمائرهم. كلامهم هو دليل حياتهم السطحية الفارغة من الإيمان والتقوى. لهم ألسنة ولا يلجمونها بل يتركون لها العنان بلا قيد ولا شرط. ما يخطر في بالهم يقولونه ولا ينتظرون من أحد أن يحاسبهم على ما يقولون. هو كلام الوقاحة الذي لا يحترم كبيراً ولا يعطف على صغير. لأنه صادر من أناس يرتكبون الإثم ولا يؤدون عن أي شيء حساباً.
هم أناس يسحقون الصديقين سحقاً ويسببون ذلاً وهواناً لأتقياء الله. بل يتمادون في قبائحهم حتى يقتلون الأرملة والغريب ولا يعرفون معنى للحنان. فإذا كان الإنسان لا يشفق على مثل هؤلاء المساكين الضعفاء فعلى من يشفق يا ترى؟ وإذا كان هؤلاء العتاة لا يرحمون أحق الناس بالرحمة فمن يرحمون يا ترى؟
وفي الوقت ذاته هم يزعمون أنهم في حل أكيد مما يقترفون ذلك لأنهم يحسبون أن الرب لا يراهم ولا يدري حالتهم وهكذا يتخذون هذا الوهم حجة فارغة للتمادي. وتتراكم آثامهم وخطاياهم واحدة بعد أخرى.
(٨) والآن يلتفت المرنم من هؤلاء المغتصبين الظالمين. من الطغاة الفظيعين الذين لا يعرفون الله. ويخاطب شعب إسرائيل نفسه وليس الشعوب الغريبة يريدهم أن يفهموا أكثر ولا يبلدوا أفكارهم ولا يعموا بصائرهم. لأن الإنسان مطالب بأن يفهم بعد هذه الحوادث الجسام والدروس القاسية التي ألقيت عليهم فهل تعلموها؟ ومتى يفعلون؟
«٩ ٱلْغَارِسُ ٱلأُذُنَ أَلاَ يَسْمَعُ؟ ٱلصَّانِعُ ٱلْعَيْنَ أَلاَ يُبْصِرُ؟ ١٠ ٱلْمُؤَدِّبُ ٱلأُمَمَ أَلاَ يُبَكِّتُ؟ ٱلْمُعَلِّمُ ٱلإِنْسَانَ مَعْرِفَةً. ١١ ٱلرَّبُّ يَعْرِفُ أَفْكَارَ ٱلإِنْسَانِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. ١٢ طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي تُؤَدِّبُهُ يَا رَبُّ وَتُعَلِّمُهُ مِنْ شَرِيعَتِكَ ١٣ لِتُرِيحَهُ مِنْ أَيَّامِ ٱلشَّرِّ حَتَّى تُحْفَرَ لِلشِّرِّيرِ حُفْرَةٌ».
(٩ - ١١) إن شعب الله أخذ يشك في الانتقام أو إنه انتظر عملاً من الرب فلم يحصل وهكذا تسرعوا بالاستنتاج وحسبوا أن الله لا يجازي ولا يهمه أي أمر من الأمور. وهنا يقول المرنم موبخاً ومبيناً أن موقف هؤلاء الناس لم يكن حكيماً إذ كيف يعقل أن الخالق الذي صنع الأذن لا يسمع هو نفسه. ذاك الإله البار الحكيم القدوس الذي يؤدب الأمم ويقاص الجميع أفهل يعقل أنه ترك هذه المهمة وأهملها جانباً أما أن الذي يعرف كل شيء هل يعقل أن يعوزه شيء من المعرفة عن الناس الأقربين (انظر لاويين ١١: ٧) وكذلك قابل هذا مع (خروج ٤: ١١). ولكن الله يعرف كل أفكار الإنسان وإنما يطيل أناته عليه ويرحمه.
(١٢ - ١٣) ولكن هنيئاً للذي يقبل تأديب الرب وحينئذ يفهم دروس الحياة فلا يتذمر من قسوة ما مر عليه بل يرى يد الله القديرة ممدودة لعونه وإرشاده. وهكذا ينصرف هذا الإنسان لكي يدرس شريعة الرب ويفهم منها ما يريد الله أن يقوله لشعبه. طوبى للإنسان الذي يفهم التأديب وليس الذي يناله لأنه إذا نال التأديب ولم يفهم فلا يكون أي فائدة من وراء ذلك. إن الأهمية هو لقبول التأديب أي نصبح متأدبين مهذبين بالحق (انظر أيوب ٥: ١٧ وقابله أمثال ٣: ١١ وما بعده). هذا هو طريق التأديب فإنه يجب أن يعذبنا قليلاً لنستفيد كثيراً (راجع تثنية ٨: ٥ وإرميا ٤٩: ٢٣ وإشعياء ٣٠: ١٥).
وهكذا ينال المؤمن راحة ولا يعود الشر يضيمه بأي شيء. وأما الشرير فيجد في هذه المصائب حفرة كبيرة يكاد يدفن في جوفها.
«١٤ لأَنَّ ٱلرَّبَّ لاَ يَرْفُضُ شَعْبَهُ وَلاَ يَتْرُكُ مِيرَاثَهُ. ١٥ لأَنَّهُ إِلَى ٱلْعَدْلِ يَرْجِعُ ٱلْقَضَاءُ وَعَلَى أَثَرِهِ كُلُّ مُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ. ١٦ مَنْ يَقُومُ لِي عَلَى ٱلْمُسِيئِينَ؟ مَنْ يَقِفُ لِي ضِدَّ فَعَلَةِ ٱلإِثْمِ؟ ١٧ لَوْلاَ أَنَّ ٱلرَّبَّ مُعِينِي لَسَكَنَتْ نَفْسِي سَرِيعاً أَرْضَ ٱلسُّكُوتِ. ١٨ إِذْ قُلْتُ: قَدْ زَلَّتْ قَدَمِي فَرَحْمَتُكَ يَا رَبُّ تَعْضُدُنِي».
(١٤ و١٥) إذن ما مرّ على الشعب هو مجرد دروس قيمة مفيدة ألقيت عليه للتهذيب. لأن الله لا يرفض شعبه بل يؤدبهم ولا يتركهم جانباً بل يرعاهم ويقودهم. وعليه نجد أن المؤمن يرى يد الله عاملة في كل ما حوله ويعيش مطمئن الخاطر ناعم البال قرير العين وإن كانت الظروف الخارجية لا تبشره بخير كثير ولكن إيمانه القلبي يحوّل جميع ظروف الحياة إلى سلام وقوة.
ذلك لأن الله يحب العدل وما نجده من جور وظلم فهي أحكام وقتية هي كالظل العابر. ونستطيع ترجمة العدد ١٥ هكذا «ولكن يتحول ما هو صواب براً فيتبعه كل مستقيمي القلوب». وأما الترجمة اليسوعية فتقول «وسيعود القضاء إلى العدل ويتبع العدل جميع المستقيمي القلوب» وأعتقد أن المرنم يريد أن يقول للمؤمنين أن لا يخافوا شيئاً لأن الحكم بالعدل سيعم الجميع ويرجع البشر إليه. فإذا ظهر أنه لا يوجد عدل الآن فذلك لا يعني أن يستمر الحال هكذا بل سيتبدل كل شيء للمؤمنين.
(١٦ - ١٨) يتساءل المرنم ترى من الذي يعين على إجراء الحق واستتباب العدالة في كل مكان. ومن الذي يردع الأثمة عن إثمهم فيجيب نفسه حالاً ويقول ذلك هو الرب وحده لأنه لولا معونته لكانت نفسي في الهاوية ولا أبقى بين الأحياء (انظر إشعياء ١: ٩ وتكوين ٢٦: ١٠). أما أرض السكوت فهي الهاوية حيثما يجتمع الأموات ولا يستطيعون كلاماً ولا أن يسبحوا الله.
وهنا يستغفر الله على كل زلل مضى. فإذا كان قد عثر من قبل وسقط فإن رحمة الرب لا تتركه قط بل تعضده وتقويه وتسنده وتعينه وتنجيه. ذلك لأن هذا الإله رحيم غفور لا يريد موت الخاطئ بل توبته ورجوعه ثم حياته الكاملة مع الله.
«١٩ عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِي فِي دَاخِلِي تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِي. ٢٠ هَلْ يُعَاهِدُكَ كُرْسِيُّ ٱلْمَفَاسِدِ، ٱلْمُخْتَلِقُ إِثْماً عَلَى فَرِيضَةٍ؟ ٢١ يَزْدَحِمُونَ عَلَى نَفْسِ ٱلصِّدِّيقِ وَيَحْكُمُونَ عَلَى دَمٍ زَكِيٍّ. ٢٢ فَكَانَ ٱلرَّبُّ لِي صَرْحاً، وَإِلٰهِي صَخْرَةَ مَلْجَإِي ٢٣ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِثْمَهُمْ، وَبِشَرِّهِمْ يُفْنِيهِمْ. يُفْنِيهِمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا».
(١٩) بل حينما تأتي أفكار الهموم والتعاسة والشقاء. ويصبح داخله يعج بالويلات والآلام فإن تعزيات الرب عندئذ تخفف عنه الأثقال وتزيل عن ظهره الأحمال. وقوله «تلذذ» وزن فعّل للتكثير وليس للتعدية فقط. أي إنه لدى كل مصيبة مهما عظمت فإن تعزية الرب تزيل آثارها المزعجة وتجعل بدلاً منها لذة وراحة. فمهما عظمت المصائب تصبح تعزيات الرب أوفر منها وأبعد أثراً.
(٢٠ - ٢٣) يتساءل هنا هل يمكن أن يكون للظلم أية خلطة مع أحكام الرب. لا سيما هل يرضى الرب بمن يختلق الإثم اختلاقاً وهو يحسب أنه يجري حكماً وقضاء للناس. ذلك لأن الناس الذين يوضعون على منصة الأحكام يطلب منهم أن يجروها بعدل وإنصاف أولئك الذين يأخذون قوة من كثرة المؤيدين المتألبين حولهم من أتباع وأنصار. ولكنهم بذلك فقط يحكمون على الأبرياء وبالتالي فإنهم سينالهم القصاص عاجلاً أم آجلاً. ولكن الرب لا يتخلى عن الملتجئين إليه لأنه برج قوة. ولأنه صخرة ملجأ للحماية والإنقاذ. وهكذا تكون النتيجة أن ما قصدوه من شر قد عاد عليهم أولاً. لأن على الباغي تدور الدوائر. والله العادل سوف يجازيهم على نسبة شرهم فلأنهم قد سببوا الشر فهم أول الساقطين فيه ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها. ويؤكد المرنم أخيراً هذا الجزاء العادل الذي سينالهم إذ سيفنيهم الرب لا محالة. وهكذا يختم المرنم هذا المزمور كما افتتحه بطلب الانتقام ولكنه يريده عادلاً وللمتقين فقط.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلتِّسْعُونَ


«١ هَلُمَّ نُرَنِّمُ لِلرَّبِّ نَهْتِفُ لِصَخْرَةِ خَلاَصِنَا. ٢ نَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِحَمْدٍ وَبِتَرْنِيمَاتٍ نَهْتِفُ لَهُ. ٣ لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهٌ عَظِيمٌ، مَلِكٌ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ ٱلآلِهَةِ».
هذا المزمور هو دعوة صارخة لعبادة الرب وطاعة كلمته واتباع إرشاداته الإلهية الحكيمة. وهو ينتسب للمزمور سابقه بأنه يدعو الله صخرة الخلاص. وربما كتب هذا المزمور لداع خاص ولكنه غير معروف وغير مؤكد تماماً.
(١ - ٣) إن الرب هو صخرة الخلاص كما يدعى أيضاً في (مزمور ٨٩ وقابله مع مزمور ٩٤: ٢٢). فهو الملاذ الثابت الأمين لا يتزعزع ولا يتغير. وعلينا أن نرنم لاسمه ونهتف بخلاصه لأن اعترافنا بذلك هو دليل شكرنا القلبي على جميع أعماله الإلهية المنعشة. وهكذا حينما يدخل المتعبد بيت الرب عليه أن يبدأ عبادته بهذه العبارات المشجعة القوية (انظر ميخا ٦: ٦ وأيضاً ٢صموئيل ٢٣: ١). وأما التقدم أمام الرب فمعناه الحضور إلى بيته والسجود عند موطئ قدميه لأنه يريدنا أن نحمده ونرنم لاسمه ونملأ كل مكان من ذكر مجده وقداسته. حتى أن الناس جميعهم حولنا يلتفتون إلى ما نقوله ويقتدون بنا ونذيع اسم الرب فيما بينهم ونعيش شكورين بألسنتنا كما وبحياتنا أيضاً.
ذلك لأن الله عظيم جداً ومستحق كل عبادة و تكريم. هو ملك الأرض كلها وملك عالم الأرواح. إذ أن آلهة الشعوب ليست شيئاً فإذن هو وحده الخالق المدبر وعلى الجميع أن يظهروا خضوعهم التام له ويسيروا حسب مشيئته.
«٤ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَقَاصِيرُ ٱلأَرْضِ وَخَزَائِنُ ٱلْجِبَالِ لَهُ. ٥ ٱلَّذِي لَهُ ٱلْبَحْرُ وَهُوَ صَنَعَهُ، وَيَدَاهُ سَبَكَتَا ٱلْيَابِسَةَ. ٦ هَلُمَّ نَسْجُدُ وَنَرْكَعُ وَنَجْثُو أَمَامَ ٱلرَّبِّ خَالِقِنَا، ٧ لأَنَّهُ هُوَ إِلٰهُنَا وَنَحْنُ شَعْبُ مَرْعَاهُ وَغَنَمُ يَدِهِ. ٱلْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ».
(٤ - ٧) إن الله ممجد في نظر المرنم لثلاثة أسباب الأول لأنه فوق جميع الآلهة وثانياً لأنه هو فوق جميع الأشياء لأنه خالقها ومبدعها وثالثاً هو فوق شعبه لأن يرعاهم ويقودهم إلى تمام الخير والتوفيق والرضا. إذن فالله فوق كل السموات والأرض التي هي من صنع يديه. أما مقاصير الأرض فهي أغوارها والأمكنة الواطئة فيها من وديان وما أشبه وهذه عادة تكون ملأى بالخصب والغلال الكثيرة. ومن ناحية ثانية فإن الجبال بما فيها من كنوز مخزونة هي له أيضاً فإذن كل شيء له ما ارتفع وما انخفض ما خفي وما ظهر. بل له أيضاً هذا البحر الواسع الأطراف بما فيه من مياه كثيرة يسبح فيها أنواع الأسماك العديدة بل هوذا هذه اليابسة كلها فقد سبكتها يداه فقد كانت في حالة الميعان وأما الآن فقد أصبحت آهلة بالسكان.
وهل هو شيء غير معقول أن يطلب المرنم بناء على ذلك كله أن نسجد له ونعبده كما يليق بعزته الإلهية وكما ينبغي علينا كأناس ندعي التدين ونريد أن نظهره للخالق العظيم.
ذاك هو إلهنا لسنا سوى شعب مرعاه أي هو راعينا المحب الذي يقودنا إلى المراعي الخضر وإلى مياه الراحة يوردنا (راجع مزمور ٢٣). وقد كرر الطلب نسجد ونركع ونجثو من باب التوكيد حتى لا نتردد في إتمام هذا الواجب المطلوب منا تجاه الخالق الحنون العظيم (راجع ٢أخبار ٦: ١٣) نحن شعبه الموكول إليه أمر العناية به لذلك نحن غنم يده أي موضوعون في عنايته ورعايته وبدونه لا حياة لنا قط.
«٨ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي مَرِيبَةَ، مِثْلَ يَوْمِ مَسَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، ٩ حَيْثُ جَرَّبَنِي آبَاؤُكُمُ. ٱخْتَبَرُونِي. أَبْصَرُوا أَيْضاً فِعْلِي ١٠ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَقَتُّ ذٰلِكَ ٱلْجِيلَ وَقُلْتُ: هُمْ شَعْبٌ ضَالٌّ قَلْبُهُمْ، وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا سُبُلِي. ١١ فَأَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي لاَ يَدْخُلُونَ رَاحَتِي!».
ويستخلص إلى القول بأن يتعظ الشعب من حوادث أليمة مرت به في الماضي فيذكر الشعب بيوم مريبة ومسّة. وهو الأرجح في السنة الثانية بعد الخروج من مصر حينما أخذوا يتذمرون في برية سيناء بسبب قلة المياه (خروج ١٧: ١ - ٧) وأيضاً جرت حادثة في مريبة في السنة الأربعين من الخروج وهو حادثة ماء مريبة (راجع العدد ٢٠: ٢ - ١٣ وقابل هذا مع المزمور ٧٨: ٢٠).
لقد جرّب الشعب عندئذ الرب وحاولوا أن يختبروا ماذا يفعل الرب بهم وإذا بهم يبصرون ماذا يستطيعون أن يفعله نحوهم (راجع إشعياء ٤٩: ١٥).
وقد استمر هذا العصيان كما نعلم أربعين سنة حتى حكم الله عليهم بالهلاك في البرية ولا يدخلون أرض الموعد. ذلك لأنهم شعب ضال ولم يعرفوا سبله المستقيمة فكان ضلالهم الروحي أعظم من ضلالهم في تلك البرية وتيهانهم فيها.
لقد أقسم الله (راجع العدد ١٤: ٢٧ وما بعده). بأن لا يتمتعوا بأطايب أرض الموعد بل يهلكوا بعيدين مشردين (راجع تثنية ١٢: ٩).
وعليه فالمرنم يأخذ عبرة من التاريخ ويلفت نظر الشعب إليها ويقول لهم انظروا ماذا جرى وماذا كان الحكم وتعقلوا قبل فوات الأوان لئلا يصيبكم ما أصاب أولئك الآباء. وهل نعجب إذا وصلنا للنتائج ذاتها طالما قد سلكنا الأسباب ذاتها. والحكمة تقضي أن يرجعوا ويتوبوا ويعبدوا الرب قبل فوات الأوان لأن الآن وحده هو وقت مقبول.

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلتِّسْعُونَ


«١ رَنِّمُوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً. رَنِّمِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ ٱلأَرْضِ. ٢ رَنِّمُوا لِلرَّبِّ، بَارِكُوا ٱسْمَهُ، بَشِّرُوا مِنْ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ بِخَلاَصِهِ. ٣ حَدِّثُوا بَيْنَ ٱلأُمَمِ بِمَجْدِهِ، بَيْنَ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ بِعَجَائِبِهِ».
في هذا المزمور تحية لملكوت الله الجديد فهو نظر ثاقب إلى المستقبل البعيد يراه بعين الإيمان سعيداً مجيداً. وهو يحمد اسم الله كما يفعل المزمور السابق الذي يقول عن الرب «ملك كبير على كل الآلهة». ونجد هذا المزمور يرنم عند إرجاع تابوت العهد (رجع ١أخبار ١٦: ٢٣ - ٣٣). وهو يناسب جداً للتعبير عن أفراح ذلك العيد والترانيم العذبة التي تتخلله. ويذهب الكثيرون إلى أن هذا المزمور قد كتب بعد السبي حينما عرف إسرائيل رسالته نحو الشعوب الأخرى وهو يدعونا جميعاً للاعتراف بالرب الواحد على العالم أجمع. لقد كانت اختبارات السبي مرّة ولكنها عظيمة وجليلة إذ جعلت حداً فاصلاً بين الأفكار التي قبل السبي والأفكار التي جاءت بعده حينما نجد كمال ذلك ظاهراً في العهد الجديد حينما يأتي المسيح مخلص العالم وحينئذ لا فرق بين يهودي وأممي ذكر وأنثى عبد وحرّ بل الجميع واحد أمام الله ديّان العالمين.
(١ - ٣) يبدأ المرنم بأن يدعو شعب الله للترنيم وبعد ذلك يدعو شعوب الأرض جميعاً ليشتركوا بالترنيم. بل إنه من واجب هذا الشعب أن يكونوا الدعاة لمعرفة الرب الذين ينشرون اسمه ويعرّفون كل الأمم بخلاصه. وهي ترنيمة جديدة في مبناها وليس في معناها إذ أن الترنيم للرب أمر واجب وحلو. وللمرة الثالثة يطلب الترنيم للرب وبركة اسمه وحينئذ يخبر الجميع بالخلاص العجيب الذي أعدّه. هذه الترنيمة الجديدة هي صدى أعماله العجيبة لدى كل الشعوب فهم أيضاً قد اختبروا هذه الاختبارات وعرفوا يقيناً أن الخالق العظيم هو واحد للوجود كله. وهذا الخلاص هو موضوع ما يجب أن ينشر بين الناس من أخبار سعيدة مفرحة. ونلاحظ أن القسم الأول من العدد الأول هو ذاته الذي نجده (إشعياء ٤٢: ١٠) كذلك فالعدد الثاني هو (إشعياء ٥٢: ٧) والعدد الثالث هو (إشعياء ٦٦: ١٩).
«٤ لأَنَّ ٱلرَّبَّ عَظِيمٌ وَحَمِيدٌ جِدّاً، مَهُوبٌ هُوَ عَلَى كُلِّ ٱلآلِهَةِ. ٥ لأَنَّ كُلَّ آلِهَةِ ٱلشُّعُوبِ أَصْنَامٌ، أَمَّا ٱلرَّبُّ فَقَدْ صَنَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ. ٦ مَجْدٌ وَجَلاَلٌ قُدَّامَهُ. ٱلْعِزُّ وَٱلْجَمَالُ فِي مَقْدِسِهِ. ٧ قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا قَبَائِلَ ٱلشُّعُوبِ، قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْداً وَقُوَّةً. ٨ قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدَ ٱسْمِهِ. هَاتُوا تَقْدِمَةً وَٱدْخُلُوا دِيَارَهُ».
(٤ - ٦) هذا الإله هو عظيم ولا حد لقدرته السرمدية وحميد لأنه يستحق المديح والإكرام. وقد فاق كل إله آخر من آلهة الأمم. هو لا ينكر أن لا يكون للأمم الأخرى آلهة ولكنه يهزأ بتلك الآلهة ويقول عنها أصنام لا قيمة لها ولا قدرة فيها. أما الرب فهو ذاته الذي صنع السموات كما أنه بسط الأرض وخلق جميع سكانها. وفي النص العبراني يقول إن إلوهيم هي إيليليم أي لا شيء. وال في العبرانية تقابل لا العربية بواسطة القلب وهو كثير في اللغات. وكلمة «إيليليم» المترجمة أصنام يستعملها إشعياء كثيراً (راجع مثلاً إشعياء ٤٠ و٤٤). وحينما هذا الإله العظيم يسير فإنه يتقدمه المجد والجلال كما أن كمال القداسة والجمال في مقدسه الأرضي حيثما يرى بعين الخيال أكثر من العين الحقيقية (راجع إشعياء ٦٠).
(٧ - ٨) لذلك فهو يدعو الشعوب كلها مرة أخرى أن يقدموا مجداً للرب ويعترفوا بقوته السرمدية التي لا تستقصى. ولا سبيل لأحد أن يعتذر عن ذلك بمعنى أنه يقول ليس هذا إلهي. فقد أراهم من قبل أن آلهتهم ليست شيئاً وعليهم أن يعترفوا بالإله الحقيقي ويتبعوه وحينئذ لا يكون لأمة على أمة أي فضل إذا كانت تتبع إرشادات الله وتتمشى على تعاليمه ووصاياه فهو للجميع لأنه رب الجميع. وهكذا فإن الواجب يقضي أن يذيعوا اسمه ويمجدوه كما يليق به وحده. بل عليهم أن يظهروا ذلك عملياً بأن يقدموا من أموالهم في هذه السبيل. وحينما يقدمون هكذا فهم يدخلون إلى مقادس الله بأيد عاملة وقلوب كريمة مؤمنة. وهذه التقدمات هي لتكريم الرب وليس لاسترضاء وجهه لأنه يستحق كل إكرام.
«٩ ٱسْجُدُوا لِلرَّبِّ فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ. ٱرْتَعِدِي قُدَّامَهُ يَا كُلَّ ٱلأَرْضِ. ١٠ قُولُوا بَيْنَ ٱلأُمَمِ: ٱلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ. أَيْضاً تَثَبَّتَتِ ٱلْمَسْكُونَةُ فَلاَ تَتَزَعْزَعُ. يَدِينُ ٱلشُّعُوبَ بِٱلٱسْتِقَامَةِ. ١١ لِتَفْرَحِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَلْتَبْتَهِجِ ٱلأَرْضُ، لِيَعِجَّ ٱلْبَحْرُ وَمِلْؤُهُ. ١٢ لِيَجْذَلِ ٱلْحَقْلُ وَكُلُّ مَا فِيهِ. لِتَتَرَنَّمْ حِينَئِذٍ كُلُّ أَشْجَارِ ٱلْوَعْرِ ١٣ أَمَامَ ٱلرَّبِّ لأَنَّهُ جَاءَ. جَاءَ لِيَدِينَ ٱلأَرْضَ. يَدِينُ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ وَٱلشُّعُوبَ بِأَمَانَتِهِ».
(٩) وعلى العابدين أن يلبسوا ثياباً لائقة ونجد ذلك مبيناً في العدد الجديد بثياب العرس. فإن لباس الحشمة والأدب والورع لها تأثير كبير على العبادة لذلك فقد اعتاد الناس أن يدخلوا بيوت العبادة وهم لابسون أفخر ملابسهم. فإذا كان من الواجب أن نلبس ثياباً لائقة في السهرات أو أمام الكبار والحكام احتراماً لأصحاب الدعوة أفلا يجوز بالإنسان أن يظهر لائقاً أمام إلهه الذي خلقه لا سيما في أشرف الأوقات حينما يقدم العبادة لجلاله الأقدس.
(١٠ - ١١) وحينئذ على هذه الأمم أن تعترف بالملك الواحد وهكذا تتثبت المسكونة بحكمته وعدالته فلا يكون اختلاف فيما بينها طالما أن الرب واحد لها جميعاً وعليها أن تسمع صوته وتصغي لإرشاده. وحينئذ فهو يدين كل إنسان وكل أمة على موجب ما فعلوه بالعدل والاستقامة. وحينما يتم ذلك يجب أن يعم الفرح جميع الأقطار. وهذه الفكرة من ميزات النبي إشعياء (راجع الأصحاحات ٤٠ - ٥٢). وقوله البحر وملؤه فوارد في (إشعياء ٣٥: ١ وإشعياء ٤٢: ١٠).
(١٢ - ١٣) وبعد أن ينتهي من التعميم بفرح السموات والأرض والبحر يأتي إلى الحقل وما فيه من مزروعات فهي في خير ونعمة كذلك فإن الوعر والبرية والصخور والجبال إذا بها تترنم أيضاً لأن الرب الإله يملأ كل شيء بمجده. ونجد إشعياء يزيد على الأشجار بأن يجعلها تصفق بالأيادي (راجع إشعياء ٤٥: ١٢ و٤٤: ٢٣). وهذه كلها تفعل ذلك أمام الرب الديّان. والمرنم يلتفت إلى الماضي وإلى المستقبل ويربطهما معاً ويرى إصبع الله عاملة في التاريخ كله ومع الشعوب جميعها وليس مع إسرائيل وحده.

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلتِّسْعُونَ


«١ اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ فَلْتَبْتَهِجِ ٱلأَرْضُ، وَلْتَفْرَحِ ٱلْجَزَائِرُ ٱلْكَثِيرَةُ. ٢ ٱلسَّحَابُ وَٱلضَّبَابُ حَوْلَهُ. ٱلْعَدْلُ وَٱلْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّهِ. ٣ قُدَّامَهُ تَذْهَبُ نَارٌ وَتُحْرِقُ أَعْدَاءَهُ حَوْلَهُ».
ما نادى به وتمناه المرنم في المزمور السابق هوذا يؤكده في هذا المزمور ويجعل الله ذاته المخلص والديان كشيء واقعي قد حدث. لقد جاء الرب الملك وجلس على كرسي سلطانه فهو إذن الذي يحكم العالمين. وهذا المزمور قد كتب بعد الرجوع من السبي. وفيه عدد من الأفكار الواردة في مزامير داود ومزامير آساف أو من أقوال الأنبياء في مختلف العصور. فهو إذن ليس نتاجاً أدبياً مبتكراً بحد ذاته بل هو أشبه بفسيفساء مرصعة ترصيعاً جميلاً من حجارة كثيرة متنوعة ومن مصادر متعددة ولكن مرتبها ماهر بارع استطاع أن يضع كل شيء في مكانه بكل لباقة ودقة. وهو يتبع بتعابيره بالدرجة الأولى إشعياء النبي إذ يظهر أنه من المعجبين بذلك الأسلوب النبوي الجميل. ولا شك أن ما اختبره الشعب من آلام السبي وذله ومشقاته قد تغلغل إلى أعماق الحياة الروحية وجعل الناس أكثر تقرباً لله وأعمق تعبداً لجلاله وجبروته.
(١ - ٣) ليس لنا هنا سوى صدى ما ورد في مواضع كثيرة فنجد العدد الأول مأخوذاً من (إشعياء ٤٢: ١٠ - ١٢ و٥١: ٥). وأما العدد الثاني فيقابله (مزمور ١٨: ١٠ و١٢ وأيضاً مزمور ٨٩: ١٥) والعدد الثالث فيقابله (مزمور ٥٠: ٣ و١٨: ٩ وإشعياء ٤٢: ٢٥). لأن الرب هو الملك لذلك فلتعم البهجة كل الأرض ولتفرح الجزائر أيضاً. أي ليعم الفرح كل مكان بعيداً كان أم قريباً. هذا الإله العظيم هو متجلبب بالسحاب والضباب لكي يزيد مظهره روعة وجمالاً فهو غير ظاهر للعيان وفي الوقت ذاته غير مختف تمام الاختفاء. هذا الإله الذي يجلس على كرسي العدل والحق ليحكم على الناس. وهذا التجلبب يزيده هيبة ووقاراً لا سيما وهو الديان القاضي. وسلطانه هذا فعال يؤثر حالاً فكأنما نار حوله تحرق جميع الأعداء فلا يستطيع شيء أو إنسان أن يقف أمام وجهه وأعظم وأول الذين يطولهم قصاصه هم أعداءه فيجازيهم.
«٤ أَضَاءَتْ بُرُوقُهُ ٱلْمَسْكُونَةَ. رَأَتِ ٱلأَرْضُ وَٱرْتَعَدَتْ. ٥ ذَابَتِ ٱلْجِبَالُ مِثْلَ ٱلشَّمْعِ قُدَّامَ ٱلرَّبِّ، قُدَّامَ سَيِّدِ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا. ٦ أَخْبَرَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ بِعَدْلِهِ، وَرَأَى جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ مَجْدَهُ. ٧ يَخْزَى كُلُّ عَابِدِي تِمْثَالٍ مَنْحُوتٍ ٱلْمُفْتَخِرِينَ بِٱلأَصْنَامِ. ٱسْجُدُوا لَهُ يَا جَمِيعَ ٱلآلِهَةِ. ٨ سَمِعَتْ صِهْيَوْنُ فَفَرِحَتْ، وَٱبْتَهَجَتْ بَنَاتُ يَهُوذَا مِنْ أَجْلِ أَحْكَامِكَ يَا رَبُّ».
(٤ - ٦) مرة أخرى نجد هذه الأقوال صدى لكتابات قديمة فالعدد ٤ هو من (مزمور ٧٧: ١٩ و١٧). والعدد ٥ (ميخا ١: ٤ وميخا ٤: ١٣). والعدد ٦ هو من (مزمور ٥٠: ٦ وإشعياء ٣٥: ٢ و٤٠: ٥ و٥٢: ١٠ و٦٦: ١٨). وهذا المظهر الإلهي يضيء المسكونة وفي الوقت ذاته يرعبها (راجع خروج ١٩: ١٦ وما بعده). وكانت النتيجة أن الجبال ذاتها قد ذابت وذوبانها كالشمع مذكور في (مزمور ٦٨: ٢). والرب هو سلطان الأرض كلها وسيدها المطلق (راجع زكريا ٤: ١٤ و٦: ٥). وحينما تخبر السموات بعدله فهي مبتهجة سعيدة. ولكن ذلك ينطوي على أمرين الأول عدل الله الظاهر في السموات بالنسبة لمواعيده الإلهية الصادقة. والثاني مجد الله الذي يختبره كل الشعوب.
(٧ - ٨) وحينما يظهر الله بهذا الجلال يجب أن يختفي كل إله باطل وأن يتحطم كل تمثال منحوت. وهكذا يجب أن يخزى جميع عبدة الأصنام. بل أن الآلهة نفسها أي التي يحسبها البشر آلهة. وهي ليست كذلك عليها أن تسجد للرب وتظهر خضوعها التام لمشيئته. بل يجب على عبدة الأصنام أن يخجلوا من أنفسهم بالنسبة لهذه العبادة الباطلة الحمقاء (راجع إشعياء ٤٢: ١٧ وإرميا ١٠: ١٤). وهذه الآلهة التي هي في الأصل قوات خارقة الطبيعة هذه نفسها يجب أن تتذلل أمام الرب الإله الحقيقي الذي أوجدها وتخضع له خضوعاً حقيقياً.
«٩ لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ عَلِيٌّ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ. عَلَوْتَ جِدّاً عَلَى كُلِّ ٱلآلِهَةِ. ١٠ يَا مُحِبِّي ٱلرَّبِّ أَبْغِضُوا ٱلشَّرَّ. هُوَ حَافِظٌ نُفُوسَ أَتْقِيَائِهِ. مِنْ يَدِ ٱلأَشْرَارِ يُنْقِذُهُمْ. ١١ نُورٌ قَدْ زُرِعَ لِلصِّدِّيقِ، وَفَرَحٌ لِلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقَلْبِ. ١٢ ٱفْرَحُوا أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُونَ بِٱلرَّبِّ وَٱحْمَدُوا ذِكْرَ قُدْسِهِ».
(٩) يمكن أن نعتبر هذا العدد ختام المزمور وعندئذ نرى أن الأعداد الباقية إنما أضيفت إليه بعد حين. فيقول إن الله هو المتعالي جداً على الأرض كلها وعلى جميع قواتها التي يسميها آلهة.
(١٠ - ١٢) ونجد مرة أخرى أن هذه الأعداد مأخوذة من أمكنة أخرى فالعدد ١٠ مأخوذ من (مزمور ٣٧: ٢٨ و٣٦: ٢١). وأما العدد الحادي عشر فهو من وضع الناظم. وهو تشجيع للصديق الذي يجد نوراً في سبيله فلا يجوز له أن يعثر. بل يجد فرحاً وسلاماً لأن في استقامته شجاعة وقوة حتى لا يهاب أي الأعداء مهما عظموا وكثروا وهذا الكلام يناسب جداً العصر المكابي الذي ظهر فيه الاضطهاد الشديد فكان الشعب يحتاج للتقوية والتعضيد لئلا يفشل ولا يحفظ الإيمان المسلم إليه قديماً. ولا يقصد بالنور أنه يزرع بل هو منثور في طريقه وممتد في السبيل كله الذي يجب أن يسلكه. فطريقه إذن منارة وغير مخوفة البتة بل بالأحرى مملوءة بالفرح وإنما هذا الفرح فهو للمستقيمي القلوب الذين عبدوا الرب واعترفوا باسمه فلم يخافوا شراً فيما بعد.
وهكذا ينهي كلامه مكرراً طلب الفرح للصديقين فلا يهابون شيئاً بل يحمدون الله على الدوام ولا يبرح اسمه عن شفاههم. هذه لذتهم فإن عبادة الرب هي سبب فرح قلبي واختبار حقيقي عميق يناله فقط المؤمنون الراسخون في عقيدتهم غير متزعزعين في أي شيء. لأن هذا الملك الحاكم الديان سيقضي بالعدل والحق ولا داعي أن يخافوا أي شيء البتة.

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلتِّسْعُونَ


مَزْمُورٌ


«١ رَنِّمُوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً لأَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ. خَلَّصَتْهُ يَمِينُهُ وَذِرَاعُ قُدْسِهِ. ٢ أَعْلَنَ ٱلرَّبُّ خَلاَصَهُ. لِعُيُونِ ٱلأُمَمِ كَشَفَ بِرَّهُ. ٣ ذَكَرَ رَحْمَتَهُ وَأَمَانَتَهُ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ. رَأَتْ كُلُّ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ خَلاَصَ إِلٰهِنَا».
هذا هو المزمور الوحيد الذي يحمل هذه التسمية فقط «مزمور». ولذلك فقد سماه بعضهم المزمور اليتيم. وهذه الترنيمة الجديدة ليست بالطبع ترنيمة موسى ولكن لأجل المقابلة والتمعن (انظر رؤيا ١٥: ٣). هنا انتصار نهائي للحكم الإلهي طالما الرب نفسه هو الذي يحكم على العالمين ويتصرف بكل شيء حسب مشيئته المقدسة. هنا تكمل هذه السلطنة وتظهر بجلالها وروعتها إلى تمام حقيقتها. فقد جلس للقضاء وقد أتم كل شيء. إن بداءة هذا المزمور كما ونهايته فهما مأخوذان من (مزمور ٩٦). كما وأن أغلب ما ورد من الأفكار فيما بقي من الأعداد فهي مأخوذة من الجزء الثاني من إشعياء (أي من إشعياء ٤٠: ٦٦).
(١ - ٣) نجد العدد الأول في (مزمور ٩٦: ١ وما يتبعه حتى العدد الثالث فهي من إشعياء ٥٢: ١٠ و٦٣: ٥ و٧ و٥٩: ١٦ وقابله مع ٤٠: ١٠).
هذا الإله يستحق أن يرنم له من جديد فقد صنع عجائب وأجرى خلاصاً وكل ذلك بقدرته وبواسطة قداسته. وهذا الخلاص لا نخبر به قط بل هو ظاهر للعيان فكل من له عينان يستطيع أن يرى ولا يحتاج إلا أن ينزع أي ستر فيفهم حقيقة هذا الخلاص العجيب.
وهو يذكر أتقياءه كما في (مزمور ١٠٦: ٤٥ وقابل ذلك مع لوقا ١: ٥٤ وما بعده).
«٤ اِهْتِفِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ ٱلأَرْضِ. ٱهْتِفُوا وَرَنِّمُوا وَغَنُّوا. ٥ رَنِّمُوا لِلرَّبِّ بِعُودٍ. بِعُودٍ وَصَوْتِ نَشِيدٍ. ٦ بِٱلأَبْوَاقِ وَصَوْتِ ٱلصُّورِ ٱهْتِفُوا قُدَّامَ ٱلْمَلِكِ ٱلرَّبِّ. ٧ لِيَعِجَّ ٱلْبَحْرُ وَمِلْؤُهُ، ٱلْمَسْكُونَةُ وَٱلسَّاكِنُونَ فِيهَا. ٨ ٱلأَنْهَارُ لِتُصَفِّقْ بِٱلأَيَادِي ٱلْجِبَالُ لِتُرَنِّمْ مَعاً ٩ أَمَامَ ٱلرَّبِّ لأَنَّهُ جَاءَ لِيَدِينَ ٱلأَرْضَ. يَدِينُ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ وَٱلشُّعُوبَ بِٱلٱسْتِقَامَةِ».
(٤ - ٦) وهذه الدعوة تتناول فرحاً قلبياً وعلى اللسان عندئذ أن يظهر هذا الفرح. وحينئذ يظهر على أشكال مختلفة فأولاً الهتاف وهو أعظم دليل على السرور. بل عليهم أن يرنموا وأن يغنوا لكي تصعد أصوات الموسيقى إلى العلاء وتكون لائقة بهذا الإله العظيم المحب الذي أظهر خلاصه في الماضي ولا يزال يظهره على الدوام.
ويطلب المرنم أن يصير مشاركة أيضاً من ذوات الأوتار وأهمها العود وحينئذ يشترك كثيرون بالنشيد. بل يستعمل البوق والصور وهي من آلات النفخ وكل هذه الأصوات تمتزج معاً لكي تصير أكثر جمالاً ولياقة بالملك الرب العظيم (راجع إشعياء ٤٤: ٢٣ و٤٩: ١٣ و٥٢: ٩ وايضاً ١٤: ٧).
(٧ - ٩) أيضاً هذه الأعداد مرة أخرى هي صدى لما ورد من قبل في المزامير والأنبياء. فالعدد ٧ تجده في (مزمور ٩٦: ١١ و٢٤: ١). والعدد ٨ تجده في (إشعياء ٥٥: ١٢). والعدد ٩ تجده في (مزمور ٩٦: ١٣ وقابله مع العدد ١٠ أيضاً).
يطلب من البحر أن يشترك كما وأن المسكونة كلها عليها أن تترنم. كذلك الأنهار والجبال. والخلاصة فإن كل شيء في الوجود عليه أن يفرح ويبتهج مع أتقياء الله والسبب هو لأنه قد جاء للدينونة فهو يدين كل إنسان بالعدل والاستقامة فلا يذهب حق فيما بعد ولا يُداس بل كل شيء يجري بمشيئته تعالى ولخير جميع من يتقونه. فليفرحوا إذن وليطمئنوا.


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلتِّسْعُونَ


«١ اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ. تَرْتَعِدُ ٱلشُّعُوبُ. هُوَ جَالِسٌ عَلَى ٱلْكَرُوبِيمِ. تَتَزَلْزَلُ ٱلأَرْضُ. ٢ ٱلرَّبُّ عَظِيمٌ فِي صِهْيَوْنَ، وَعَالٍ هُوَ عَلَى كُلِّ ٱلشُّعُوبِ. ٣ يَحْمَدُونَ ٱسْمَكَ ٱلْعَظِيمَ وَٱلْمَهُوبَ. قُدُّوسٌ هُوَ. ٤ وَعِزُّ ٱلْمَلِكِ أَنْ يُحِبَّ ٱلْحَقَّ. أَنْتَ ثَبَّتَّ ٱلٱسْتِقَامَةَ. أَنْتَ أَجْرَيْتَ حَقّاً وَعَدْلاً فِي يَعْقُوبَ».
هذا المزمور هو أحد المزامير الملكية الثلاثة التي تبدأ الرب قد ملك وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهي من العدد ١ - ٣ ثم من العدد ٤ - ٥ ثم ما بقي. وكما قال أحد الأفاضل إن هذا المزمور هو احتفاء بالرب. احتفاء بأنه سيجيء. احتفاء بأنه الكائن واحتفاء بأنه الذي كان. وفي ختام كل قسم من هذه الأقسام تتردد هذه العبارة «قدوس هو».
(١ - ٣) هو الملك العظيم لذلك فهيبته تملأ الشعوب كلها فتخاف وترتعد. وجلوسه على الكروبيم يدل على أنه يملك وهو جالس على العرش يحيط به الكروبيم لخدمة جلاله الأقدس (راجع مزمور ٨٠: ٢ وقابله مع مزمور ١٨: ١١). ولكن عظمته في الدرجة الأولى متجلية بنوع خاص فيجلب صهيون حيث يقوم الهيكل وحينئذ يرتفع على جميع الشعوب. وهذه بدورها لا تفتأ أن تحمد اسم الله العظيم المهوب لأنه قدوس في ذاته وفي جميع تصرفاته. وهنا مرة أخرى يشير المرنم إلى أن الرب هو إله العالمين. فلم يعد محصوراً بفئة من الناس يدعون أنهم شعبه بل هو خالق الشعوب وهي التي تعترف بذلك علناً الآن (راجع تثنية ١٠: ١٧). وحينئذ فإن ديانة الرب لا تبقى محصورة في أرض معينة بل سوف تعمم. وإن ما حمله هذا المرنم قد تم بصورة كاملة بواسطة الديانة المسيحية التي ضمت إليها جميع الشعوب وأصبح إسرائيل الحقيقي هو إسرائيل الله أي كنيسة الأبكار المكملين. كنيسة الله الحي التي تحوي كل أجناس البشر ولغاتهم ونحلهم.
(٤ و٥) ويصح أن يترجم العدد الرابع «ويحمد عز الملك الذي يحب الحق...».
أي أن الله يثبت الملك ليس بالنسبة لأنه من نسل ملكي بل لأنه يحب العدل والاستقامة ويجريهما للناس. ذلك لأن الرب نفسه هو إله الحق والعدل. فالملك الذي ثبته الله على هذه الوظيفة عليه أن يجريها كذلك. أما قوله «أنت أجريت حقاً وعدلاً في يعقوب». لكي يثبت للناس الذين كان لهم أعظم الاختبار في هذا الصدد بصورة خاصة وهم شعب الملك ذاته (راجع ٢صموئيل ٨: ١٥ و١أخبار ١٨: ١٤ و١ملوك ١٠: ٩ وإشعياء ١٦: ٥). لذلك فلنرفع اسم الرب عالياً ولنسجد له مكرمين لأنه قدوس هو. والسجود عند موطئ قدميه أي في الهيكل لأنه هو الذي يسمى هكذا (راجع ١أخبار ١٨: ٢ وقابله مع مراثي ٢: ١ وإشعياء ٦٠: ١٣).
«٥ عَلُّوا ٱلرَّبَّ إِلٰهَنَا وَٱسْجُدُوا عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ. قُدُّوسٌ هُوَ. ٦ مُوسَى وَهَارُونُ بَيْنَ كَهَنَتِهِ، وَصَمُوئِيلُ بَيْنَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ بِٱسْمِهِ. دَعُوا ٱلرَّبَّ وَهُوَ ٱسْتَجَابَ لَهُمْ. ٧ بِعَمُودِ ٱلسَّحَابِ كَلَّمَهُمْ. حَفِظُوا شَهَادَاتِهِ وَٱلْفَرِيضَةَ ٱلَّتِي أَعْطَاهُمْ. ٨ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا، أَنْتَ ٱسْتَجَبْتَ لَهُمْ. إِلٰهاً غَفُوراً كُنْتَ لَهُمْ وَمُنْتَقِماً عَلَى أَفْعَالِهِمْ. ٩ عَلُّوا ٱلرَّبَّ إِلٰهَنَا، وَٱسْجُدُوا فِي جَبَلِ قُدْسِهِ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَنَا قُدُّوسٌ».
(٦ - ٩) لا يكتفي المرنم بذكر الملوك بل يعود بالذاكرة إلى الأيام القديمة المفعمة بالجلال والمجد. فيذكر موسى وهارون وصموئيل الذين يعتبرون بمنزلة الشفعاء لشعب الله. فموسى هو الذي أوجد الأمة الإسرائيلية وأخرجها من مصر بيد قديرة. وهارون هو أول الكهنة وصموئيل هو أول الأنبياء الذين مسحوا الملوك. فهؤلاء جميعاً كانوا رجال الله الذين قادوا شعبه في مختلف الظروف وفي أشد الضيقات وهكذا يذكرنا بعمود السحاب لدى عبور البحر الأحمر. كما يذكرنا في برية سيناء حينما أعطيت الشريعة الإلهية وأمرهم أن يحفظوها ويتمموا فرائضها. ولكن هذا الشعب كان في حماية الله حيناً بعد حين فغفر لهم كثيراً وانتقم كثيراً أيضاً أي أنه أدبهم لكي يرعووا عن ضلالهم ويعودوا إليه بالتوبة وطلب الغفران.
ويختم المرنم بإعادة العدد الخامس لولا قليل حرفياً فيستعمل «اسجدوا في جبل قدسه» بدلاً من اسجدوا عند موطئ قدميه فهو الإله الذي يستحق التكريم كل حين.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ


مَزْمُورُ حَمْدٍ


«١ اِهْتِفِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ ٱلأَرْضِ. ٢ ٱعْبُدُوا ٱلرَّبَّ بِفَرَحٍ. ٱدْخُلُوا إِلَى حَضْرَتِهِ بِتَرَنُّمٍ. ٣ ٱعْلَمُوا أَنَّ ٱلرَّبَّ هُوَ ٱللّٰهُ. هُوَ صَنَعَنَا، وَلَهُ نَحْنُ شَعْبُهُ وَغَنَمُ مَرْعَاهُ. ٤ ٱدْخُلُوا أَبْوَابَهُ بِحَمْدٍ، دِيَارَهُ بِٱلتَّسْبِيحِ. ٱحْمَدُوهُ بَارِكُوا ٱسْمَهُ، ٥ لأَنَّ ٱلرَّبَّ صَالِحٌ. إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتُهُ، وَإِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ أَمَانَتُهُ».
هذه دعوة موجهة للعالم أجمع ليعبدوا ويخدموا الإله الحقيقي. ومن العنوان نجد أنه مخصص للحمد أي بالنسبة لإحسانات خاصة وإنعامات يجد المرنم نفسه لساناً متكلماً بإذاعة مجد الله ورحمته ويطلب من كافة الأمم أن تفعل ذلك وتشارك في هذا الفرح العام.
(١ - ٣) يدعو كل الأرض للهتاف لأنه يرى «بنسلك أي إبراهيم تتبارك جميع قبائل الأرض». وليكن هذا بقصد العبادة الحقة حينما يدخل جمهور العابدين إلى حضرة الله والترنم على شفاههم والحمد القلبي يملأ كل مكان. وليكن وراء ذلك العلم الحقيقي واليقين الثابت بالله ذلك الإله الذي خلق البشر جميعاً وإنما يخصص شعبه ويعتبره أنه هو غنمه المعتنى به. لذلك فالرب نفسه هو الراعي الذي لا يغفل عن خرافه في مختلف الأحوال. ويذكر ديلتش أن ملانكثون رجل الإصلاح العظيم قد وجد تعزية عظمى في العدد الثالث حينما فقد ابنه في درسدن (ألمانيا) في ١٢ تموز سنة ١٥٥٩. إن الخالق الذي صنعنا هو الذي يملكنا أيضاً فنحن لنسا لأنفسنا (راجع إشعياء ٢٩: ٢٣ و٦٠: ٢١ وقابله مع تثنية ٣٢: ٦ و١٥).
(٤ - ٥) لأن الله هكذا أي صانع وراعٍ أيضاً لذلك يتوجب علينا كما وعلى جميع الشعوب أن يحمدوه ويسبحوا لاسمه ويشكروه على إنعاماته كلها وأفضل مكان للعبادة هو في الأمكنة المخصصة لها أي في الهيكل. وقوله ادخلوا أبوابه أي أبواب بيت الرب. وهذه الأبواب مفتوحة على الدوام لاستقبال جمهور العابدين. هذا الإله الصالح وحده. إذ أن رحمته تنتقل من دور إلى دور وكذلك أمانته نحو الأبناء كما كانت نحو الآباء على شرط أن يطلبوا وجهه. ورحمته دليل كرمه الإلهي لأننا لا نستحق. وأمانته هي دليل محبته الأبدية التي لا تتغير ولا تزول.