اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلْخَمْسُونَ

لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا جَاءَ إِلَيْهِ نَاثَانُ ٱلنَّبِيُّ بَعْدَ مَا دَخَلَ إِلَى بَثْشَبَعَ


«١ اِرْحَمْنِي يَا اَللّٰهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ ٱمْحُ مَعَاصِيَّ. ٢ ٱغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. ٣ لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِماً. ٤ إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ، لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ».
هذا المزمور هو الأول من مزامير داود التي يذكر فيها «إلوهيم» وهو بمعناه يتمم ما ورد في المزمور الخمسين من جهة عدم الاهتمام كثيراً بتقديم الذبائح الطقسية بل يلفت النظر إلى ذبائح الروح المطيعة والإخلاص الكامل لله. ونلاحظ من العنوان فهو قد كتب لداعٍ خاص وبعد ظرف خاص جعل داود يندم على خطيئته الفظيعة ويطلب رحمة الله ورضاه (راجع ٢صموئيل ١٢: ١ - ٦) لقد مر معنا من قبل في المزمورين ٦ و٣٨ كيف كان داود نادماً على خطاياه وتائباً لله.
يذهب هتزج إلى القول أن كاتب هذا المزمور ليس داود بل هو إشعياء الثاني (إشعياء ٤٠ - ٩٦) وهو الذي كتب المزمور الأول أيضاً. ولكن هذا الرأي لا يمكن الركون إليه سوى أن إشعياء الثاني كان مطلعاً على كلا المزمورين. وهذا المزمور ينقسم إلى أربعة أقسام يتناقص واحدها عن الآخر. أما القسم الأول فهو طلب غفران المعاصي. وهو من العدد (١ - ٩) والقسم الثاني وهو من (١٠ - ١٣) يحوي صلاة التجديد. والقسم الثالث من العدد (١٤ - ١٧) يبحث عهد الذبائح الروحية. والقسم الأخير أي العددان (١٨ و١٧) فهو صلاة شفاعية من أجل أورشليم وتجديد أسوارها لكي تقام فيها الذبائح مرة أخرى.
مع أن داود قد ارتكب خطيئة واحدة وهي الزنا ولكنه في صلاته يطلب غفران معاصيه كلها. ذلك لأنه عرف أنه قد قتل إنساناً بريئاً بتعريضه أوريا للموت من أجل بثشبع زوجته. وحقيقة الأمر أن المعاصي تأتي بمجموعها ولا يمكن أن تفصل واحدة عن الأخرى لا سيما إذا كان الإنسان قد أخذ ينزل في دركات الإثم والشرور. وهو يلتمس أن تمحى لأنها أشبه بديون ثقيلة لا يستطيع إيفاءها بنفسه (انظر إرميا ١٧: ١).
(٢) هنا يشعر المرنم بخطإه العظيم وإثمه الجسيم ويطلب أن يغسل كثيراً. لأن الغسل الاعتيادي لا يكفي لتطهيره. والإثم هنا محسوب أنه وسخ وقذارة عالقة لا يذهب بسهولة. بل حسبه كمرض نجس مثل البرص فقال «ومن خطيئتي طهرني» (راجع لاويين ٣: ٦ و١٣) وفي هذا تعبير جلي عن الشعور العميق بالخطية لذلك فالمرنم يطلب غسلاً كلياً وتطهيراً كاملاً من حالته السيئة التي وصل إليها.
(٣) وهنا يدعم كلامه السابق بأنه يعرف ما هو فيه من سوء حال. بل يجد خطيئته واقفة أمامه دائماً. لذلك فهو لا يمكن أن يكون في راحة واطمئنان بل بالعكس إن هذا هو مدعاة انشغال باله وعدم استقراره وسلامه (راجع إشعياء ٥٩: ١٢).
والحق يقال أن هذا الشعور بالخطيئة هو أول درجات الاستغفار. على الخاطئ أن يحس في أعماق نفسه بحاجته الشديدة للرجوع إلى الله.
(٤) وهنا ينتقل إلى حقيقة أخرى وهي أن هذه الخطيئة إنما ضد الله تعالى رأساً ولذلك فهي ليست أمام الخاطئ فقط كما هي أمام الله الذي أخطأنا إليه. وهذه الخطيئة التي نعترف بها هي التي تبرر الله لأنه قدوس هو ويقع الذنب كله علينا بل وتجعل أحكامه علينا عادلة مهما كانت ولا شيء من الإجحاف فيها.
«٥ هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي. ٦ هَا قَدْ سُرِرْتَ بِٱلْحَقِّ فِي ٱلْبَاطِنِ، فَفِي ٱلسَّرِيرَةِ تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً. ٧ طَهِّرْنِي بِٱلزُّوفَا فَأَطْهُرَ. ٱغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلثَّلْجِ. ٨ أَسْمِعْنِي سُرُوراً وَفَرَحاً فَتَبْتَهِجَ عِظَامٌ سَحَقْتَهَا. ٩ ٱسْتُرْ وَجْهَكَ عَنْ خَطَايَايَ وَٱمْحُ كُلَّ آثَامِي».
(٥) يبين المرنم أن خطيئة قديمة فيه تعود إلى منشإه الأصلي فقد صوّر بالإثم وحبل به بالخطيئة ولا يقصد بذلك أن يبرر نفسه كإنما يقول لأني قد ولدت هكذا فلا ذنب عليّ إذاً بل بالعكس فإنه يتهم نفسه بأن هذه الخطايا هي قديمة تعود إلى طبيعته الفاسدة حتى منذ الولادة (راجع تكوين ٨: ٢١ وأيوب ١٤: ٤). والحق يقال أن التعليم عن الخطيئة الموروثة واضح جداً في هذه الآية أكثر من أي محل في العهد القديم. وهذا يبحث في أصل الخطيئة ومبعثها أكثر من المظاهر الخارجية التي تتناول الخطايا كما ترى.
(٦) إن الله يسر أن يكون باطن الإنسان مملوءاً بالحق والاستقامة لأن الدين الحق يتناول الباطن لا الظاهر. وإن الله أيضاً يريدنا أن نعرف الحكمة في سريرتنا. أما الحق في الباطن فهو أن يكون الإنسان شريفاً صادقاً كريماً في داخله في ما يخص العقل والضمير أيضاً.
(٧) إن أعظم ما يخالج قلب الإنسان هو فرحه بأن خطاياه قد محيت وإن ذنوبه قد سترت كلها. إن التطهير بالزوفا هو لأجل البرص فيتطهر الإنسان منه أو إذا لمس جثة ميت. ثم إن الغسل هو علامة التطهير على أي وجه كان. وبالطبع هنا لا يوجد أي ذكر عن الكفارة بالدم (انظر إشعياء ١: ١٨).
(٨) يريد المرنم أن يطمئن بالله فهو بعد اعترافه بخطاياه ويطلب من الله أن يمحوها له. يتمنى أن يرى الله قد تحول عن غضبه عنه إلى السرور والفرح به. وهو الذي بسبب خطاياه قد سحقت عظامه سحقاً وأما الآن فهو يرجو الابتهاج لأنه قد انتصر على ما مرّ عليه من حالات محزنة. إن الحاضر يمكن أن يحتمل إذا عرفنا تأكيدات رحمة الله لنا يوماً بعد يوم.
(٩) يعود فيكرر الطلب أن يشفق الله عليه ويستر وجهه عن خطاياه لأن هذه الخطايا إذا بقيت ماثلة أمام عينيه تقض مضجعه وتحرمه لذيذ العيش - وعندئذ فهذه الخطايا لا تقف عائقاً في وجه سعادته وهنائه. لقد ذكر المرنم في العدد الثامن ما هو الباعث الأول للسرور والفرح في إتمامه المعنى في هذا العدد وهو أن الخاطئ الأثيم لا يمكن أن يكون سعيداً بالحق بل عليه أن يتوب ويرجع إلى الله أولاً وهكذا فإنه تعالى يستر وجهه عن إثمه ويمحو ذنوبه ويجعله أهلاً لذلك السلام الذي يمكن أن يملأ قلبه بعدئذ.
«١٠ قَلْباً نَقِيّاً ٱخْلُقْ فِيَّ يَا اَللّٰهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي. ١١ لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي. ١٢ رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ، وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ ٱعْضُدْنِي. ١٣ فَأُعَلِّمَ ٱلأَثَمَةَ طُرُقَكَ، وَٱلْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ. ١٤ نَجِّنِي مِنَ ٱلدِّمَاءِ يَا اَللّٰهُ إِلٰهَ خَلاَصِي فَيُسَبِّحَ لِسَانِي بِرَّكَ».
(١٠) بهذا العدد يبدأ طلبه للتجديد فهو لا يكتفي أن تمحى خطاياه ويعفى عن ذنوبه بل يلتمس تجديد القلب. أي ذلك القلب النقي الذي لم يتلوث بالإثم والشر وهكذا تزول جميع تذكارات الماضي المؤلمة. والقلب هنا كما في الأصل العبراني يتناول الضمير أيضاً. أي امنحني ضميراً نقياً حساساً مرهفاً يستطيع أن يميز بين الخير والشر. ثم في قوله «وروحاً مستقيماً» قد عنى أن يكون هذا الضمير دليله للخير دائماً (انظر إرميا ٢٤: ٧ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٦).
(١١) إذا حسبنا أن الناظم هو داود فإنه بصفته ملك وإسرائيلي ومستكمل صفات الرجولة فهو يريد أن يقف مرة أخرى بعد هذا السقوط والانخذال الوقتيين (انظر إشعياء ٦٣: ١٦). وطلبه هنا هو للنعمة أكثر من طلبه للوظيفة الملكية. نعم لا يزال بباله أنه قد أخذ محل شاول لأن الله رفضه (انظر ٢ملوك ٢٤: ٢٠). أما الروح القدوس الذي يذكره فهو الذي ناله بعد أن مسح ملكاً وهو عكس الروح الشرير الذي كان في شاول والذي كان سبباً في سقوطه وانتزاع الملك من يده بعد موته.
(١٢) يهمه في هذا العدد أن يعود إليه السرور القديم المؤسس على خلاص الرب وعلى عضده وسنده له. وأما الروح المنتدبة أي ذات المكانة السامية المملوءة بالعزم والإرادة. و «الندب» في العربية هو السريع للفضائل الذي يخف للملمات ويقضيها. فهو هنا يتمنى أن يعود إلى سابق عزه وكرامته وأن يمتلئ بتلك الروح التي تجعله معيناً من الله ملكاً على شعبه وهكذا يطلب العضد منه تعالى لكي يهديه دائماً في طريق الحق والواجب ولا يتخلى عند أبداً.
(١٣) إن أعظم عمل يتممه التائب الحقيقي هو أن يهدي الضالين الذين كان هو منهم بالأمس وأما بالروح الإلهي فقد نجا من الحالة السيئة التي وصل إليها. فهو بعد أن تأكد تبريره مما كان فيه ورضا الله عنه ورجوعه بالتوبة وطلب الغفران يود من كل قلبه أن يكون قدوة للآخرين ذلك أن العار الحقيقي على الساقط هو أن يظل في سقوطه ولكنه إذا قام ورجع إلى الله فهو يغفر له إثمه ويسامحه تمام المسامحة وإذا دلّ بعد ذلك رفاقه الآخرين الأشرار يتكلم لهم عن اختبار ليرجعوا تائبين.
(١٤) هنا يبدأ بالقسم الأخير من المزمور فيطلب أن ينجو من الدماء التي سفكها ظلماً وعدواناً. وقوله «دماء» دليل كثرتها وعظمتها فهو لم يكن زانياً فقط بل قاتلاً أيضاً. ولذلك فإن ضميره يؤنبه بشدة ويطالبه بما اقترفت يداه. والتفاته هنا إلى إله خلاصه الذي ارتكب هذا الإثم الفظيع ضده وحده لكي يستطيع بعد ذلك أن يسبح ببر الله وخلاصه.
«١٥ يَا رَبُّ ٱفْتَحْ شَفَتَيَّ فَيُخْبِرَ فَمِي بِتَسْبِيحِكَ. ١٦ لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلَّا فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى. ١٧ ذَبَائِحُ ٱللّٰهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ وَٱلْمُنْسَحِقُ يَا اَللّٰهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ. ١٨ أَحْسِنْ بِرِضَاكَ إِلَى صِهْيَوْنَ. ٱبْنِ أَسْوَارَ أُورُشَلِيمَ. ١٩ حِينَئِذٍ تُسَرُّ بِذَبَائِحِ ٱلْبِرِّ، مُحْرَقَةٍ وَتَقْدِمَةٍ تَامَّةٍ. حِينَئِذٍ يُصْعِدُونَ عَلَى مَذْبَحِكَ عُجُولاً».
(١٥) وبعد أن ينال هذا الخلاص إذا بشفتيه تبدآن بالحمد والتسبيح. لأن تسبيح الله يأتي على أتمه حينما نتكلم عن اختبار شخصي بمراحمه العظيمة وإحساناته الشاملة ويكون أن «من فضلة القلب يتكلم اللسان».
(١٦) إن سرور الله الذي هو مطلب جليل للمؤمن ليس بتقديم الذباح الطقسية (انظر مزمور ٤٠: ٧ وإشعياء ١: ١١) وهنا سمو عظيم في التفكير الروحي. إن عدم تقديم الذبيحة راجع لعدم رضا الله عنها وليس لأن المرنم غير مستعد لتقديمها. حتى أنه لا يرضى بالمحرقة التي يرتفع دخانها كالبخور العطر أمام عرش الله.
(١٧) ولكن هنا يلفت النظر إلى الشيء الأهم وهو أن الذبائح التي يقبلها الله ويرضى عنها إنما هي الروح المنكسرة والقلب المنسحق بالتوبة أمام الله. إن الخاطئ التائب هو كذلك حينما يشعر أن طبيعته الشريرة تتبدل في داخله إلى شيء أسمى وأعظم. أي حينما يصبح هو لا شيء ولكن يصبح الله له كل شيء. بروح كهذه وبقلب تائب متواضع يطلب رضا الله ونعمته يرى حينئذ أنه في طريق الحق والكمال ونجد (إشعياء ٥٧: ١٥) يقول إن روحاً كهذه يسكنها الله القدوس.
(١٨ و١٩) الأرجح أن هذين العددين هما إضافة زادهما أحد النساخ بعد الرجوع من السبي أو أثناء السبي. ويلتمس بهما أن يعود الله برضاه ويلتفت إلى ذل أورشليم ويرمم أسوارها المتهدمة ومبانيها الخربة ويرجعها إلى سابق مجدها وكرامتها. والحق يقال لا أرى أية علاقة بين طلب داود الرحمة لنفسه تائباً وبين ترميم أسوار أورشليم التي لم تكن بعد قد بنيت كلها في أيامه بعد أن استخلصها من أيدي اليبوسيين. إنما إذا أخذنا المزمور بمعنى روحي فيكون أن المرنم يطلب الرجوع لله كما رجع داود قديماً عن خطاياه.

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلْخَمْسُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا جَاءَ دُوَاغُ اَلأَدُومِيُّ وَأَخْبَرَ شَاوُلَ وَقَالَ لَهُ: «جَاءَ دَاوُدُ إِلَى بَيْتِ أَخِيمَالِكَ».


«١ لِمَاذَا تَفْتَخِرُ بِٱلشَّرِّ أَيُّهَا ٱلْجَبَّارُ؟ رَحْمَةُ ٱللّٰهِ هِيَ كُلَّ يَوْمٍ! ٢ لِسَانُكَ يَخْتَرِعُ مَفَاسِدَ. كَمُوسَى مَسْنُونَةٍ يَعْمَلُ بِٱلْغِشِّ».
في هذا المزمور كما في المزمور سابقه يرينا المرنم الفرق بين نوعي اللسان من جهة الصدق والكذب ومقدار الفرق بينهما. وهو من مزامير «إلوهيم» والتي تذكر عن ملاحقة شاول له ومطاردته إياه. وقد سمى القديس أوغسطينوس هذه المزامير «مزامير الطريد» وهي السابع والرابع والثلاثون والتاسع والأربعون والثاني والخمسون والرابع والخمسون والسادس والخمسون والسابع والخمسون والمئة والثاني والأربعون. ومن العنوان نلاحظ الظرف الذي نظم فيه وإن كنا لا نعرف التاريخ بالتدقيق. فإن داود بعد أن مكث مع صموئيل أياماً ذهب إلى نوب ومكث مع أخيمالك الكاهن. وقد قدم له بصفته صهر الملك خبز الوجوه الذي طلبه كما أعطاه سيف جليات الجبار الذي كان معلقاً في الخيمة مع الأفود. وقد كان دواغ هذا معايناً وشاهداً لما حدث وأبلغ الخبر لشاول وهذا بدوره انتقم من الكهنة انتقاماً فظيعاً حتى سقط خمسة وثمانون منهم بحد السيف ونجا أبيثار إبن أخيمالك وجاء إلى داود (راجع ١صموئيل ٢٢: ٦ - ١٠).
(١) يقول المرنم إنه لمن العار على الإنسان أن يرتكب الشر وعار أكبر جداً إذا افتخر به وتمادى في غيه ووقاحته. إذ أن الشرير الذي يفعل هكذا يبرهن عن فساد في الخلق ودناءة وحماقة ما بعدها حماقة. إن دواغ هذا قد سبب مذبحة فظيعة بسبب وشايته بلسانه الذي لم يستطع ضبطه فهو شرير ليس بالنسبة لاقتدار يده وما تستطيع أن تمتد إليه من بغي وعدوان بل لأنه كان ذا لسان قلما ينجو من شره أي إنسان. ولكن مقابل هذا اللسان الشرير يوجد رحمة الله التي لا تنسى أحداً. لذلك مهما فسد الإنسان وعظم شره فإن الله لا يتخلى عنّا قط.
(٢) يمكن ترجمة «يخترع» يصنع أيضاً. أي أن هذا اللسان يستطيع بمهارته في الأذية والضرر أن يسبب مفاسد عظيمة. فكما أن النجار يصنع أثاثاً كثيراً من الخشب وكما يصنع الحداد أدوات جمة من الحديد كذلك فإن المفاسد لا تأتي عفو الخاطر بل تحتاج إلى من يحولها ويدبرها ويخترعها وحينئذ يصبح اللسان ضاراً جداً كأي عضوٍ من أعضاء الإنسان الأخرى. هو كالموسى الحادة القاطعة وما أشبه هذا القول بقول الشاعر:
جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان



«٣ أَحْبَبْتَ ٱلشَّرَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْخَيْرِ، ٱلْكَذِبَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلتَّكَلُّمِ بِٱلصِّدْقِ. سِلاَهْ. ٤ أَحْبَبْتَ كُلَّ كَلاَمٍ مُهْلِكٍ وَلِسَانِ غِشٍّ. ٥ أَيْضاً يَهْدِمُكَ ٱللّٰهُ إِلَى ٱلأَبَدِ. يَخْطُفُكَ وَيَقْلَعُكَ مِنْ مَسْكَنِكَ، وَيَسْتَأْصِلُكَ مِنْ أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ. سِلاَهْ. ٦ فَيَرَى ٱلصِّدِّيقُونَ وَيَخَافُونَ، وَعَلَيْهِ يَضْحَكُونَ».
(٣) بالطبع لا يقصد هنا التفضيل في محبة هذا المؤذي وهكذا أنه أحب الشر أكثر من الخير وأنه انحرف للكذب أكثر من الصدق. بل إن الكلام هنا هو للتوكيد والمبالغة فهو لا يحب الخير قط بل كل حبه للشر ولعمله وكل ميله وانحرافه للكذب والاحتيال. فهو إذاً لا يحب الخير ولا الصدق قط ويسعى للضرر في كل الظروف والأحوال (انظر مزمور ١١٨: ٨ وما يليه وأيضاً حبقوق ٢: ١٦) وينهي العدد بارتفاع سلاه في الموسيقى على نسبة انخفاض حالة هذه الشرير المؤذي.
(٤) ويلخص وصفه بقوله أنه لا يحب سوى كلام الهلاك والغش. فإذا عرض له أن يتكلم صدقاً فلا يستطيعه وإذا لم يكن له سبيل لهلاك الغير فهو يسعى لأجله سعياً حثيثاً ولا يرتاح حتى يفعل ذلك.
(٥) ولكن المرنم يطلب له ما طلبه هو للآخرين. يطلب له الهدم والخطف والقلع فيستأصل بتاتاً من أرض الأحياء. ولكن شتان بين الطلبين فإن الأول كان بالمكر والغش والاعتداء ومن جهة أخرى فإن القصاص ينزله الملك شاول بمن حسبهم أعداءه ولكن هذا يطلب من الله أن يجازيه مقابل ما اقترفه من خطايا وذنوب. لقد اعتدى من قبل وعليه أن يتحمل جزاء اعتدائه ليس إلا. ذلك لأنه قصد الحقد لجاره وأضمره له وطلب حياته وشرفه وكل أملاكه فلا عجب أن يجزى على الأقل بالمثل. ويشير في هذا العدد إلى وشاية «دواغ» التي كانت عن خيمة الاجتماع أن الله ينزل به العقاب الشديد ويقتله ويستأصله كما تقتلع الخيمة. لقد زعم أن الخيمة هي للمكيدة ضد الملك (راجع ١صموئيل ٢١: ٧ و٨) ويختم بكلمة «سلاه» دليل الاكتفاء بهذا الجزء وتأخذ الموسيقى مداها.
(٦) وكان طلب الجزاء لهذا النمام لأنه قد وشى بداود المستجير ببيت الله فبدلاً من أن يشارك الكاهن في عمل الخير وعلى الأقل بمدح ما أقدم عليه إذا به يحوّل الفضيلة إلى عمل شنيع ذهب ضحاياه كثيرون من الأبرياء. عند ذلك يرى الصديقون هذا الجزاء العادل ويخافون الله ولا يقدمون على أي عمل مشين لا يرضيه تعالى. وفي الوقت ذاته يكون ذلك النمام موضع الهزء والسخرية فبدلاً من أن يعتز يتذلل وبدلاً من أن ينال أي جزاء حسن على فعلته يكون جزاؤه الطرد والانخذال.
إن الله يجازي بعدل (راجع مزمور ٦٤: ١٠) وإن يكن الشماتة بالأعداء والضحك منهم غير ممدوحة (انظر أمثال ٢٤: ١٧).
«٧ هُوَذَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي لَمْ يَجْعَلِ ٱللّٰهَ حِصْنَهُ، بَلِ ٱتَّكَلَ عَلَى كَثْرَةِ غِنَاهُ وَٱعْتَزَّ بِفَسَادِهِ. ٨ أَمَّا أَنَا فَمِثْلُ زَيْتُونَةٍ خَضْرَاءَ فِي بَيْتِ ٱللّٰهِ. تَوَكَّلْتُ عَلَى رَحْمَةِ ٱللّٰهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٩ أَحْمَدُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ لأَنَّكَ فَعَلْتَ، وَأَنْتَظِرُ ٱسْمَكَ فَإِنَّهُ صَالِحٌ قُدَّامَ أَتْقِيَائِكَ».
(٧) هذا جزاء الذي اتكل على ما لديه من عز هذه الدنيا وجاهها بل أنه اعتز بشروره ومفاسده فهو بدلاً من أن يخجل من نفسه قد تمادى في حماقته ووقاحته حتى أنه لم يلتفت إلى الله ولم يتخذه حصناً له بل تحصن بنفسه وإذا به يضمحل وينهار كالبيت الذي لم يؤسس على الصخر بل على الرمال (راجع متّى ٧: ٢٧). لم يجعل الله معاذه أي مكان اختبائه من وجه العدو (راجع ٢صموئيل ٢٢: ٣٣).
(٨) في هذا العدد بيدأ المرنم بناحية جديدة مفرحة فبعد أن ينزل العقاب الشديد بإنسان الفساد ذي اللسان الغاش الكذوب الذي يعتز بالشر ويفاخر به ويشي بأشرف الناس وإن كانوا يحمون غريباً طريداً ملهوفاً يستنجد بأهل النخوة والمروءة فينجده أخيمالك الكاهن. ثم يلتفت إلى المؤمن ذاته ويقول عنه أنه أشبه بشجرة الزيتون الخضراء مغروسة في باحة بيت الله. الشرير يقتلع كما تقتلع الخيمة وأما المؤمن فهو يغرس ويتشدد وينمو كشجرة خضراء باسقة وارفة الظلال. ذلك لأنه يرجو رحمة الله ويعيش بنعمته. فإن كان الشرير يعتز بما لديه من غنى زائل ومجد باطل فإن المؤمن يعتز بقلبه المملوء بالنعمة والإيمان الحقيقيين.
(٩) إنه سينال هذا الخير ولا شك فإذا ناله لذلك يقدم الحمد والشكر للذي أعطى. إن انتظاره كان في محله لأن الله يفي بما يعد ويفعل بكل ما يقوله. وحينئذ يفرح المؤمن بأن يشترك مع جمهور المؤمنين الذين يتقون اسم الله مثله ويفرحون فرحه ويمكنهم أن يشاركوه هذه الحاسات الشريفة المقدسة. لا شك يفرح قلب المؤمن الحقيقي مثل الشهود الذين يرون مثله ويذيعون آيات الشكر والحمد لما يظهره الله تعالى من آيات فضله وإحسانه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلْخَمْسُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ٱلْعُودِ. قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ


«١ قَالَ ٱلْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلٰهٌ. فَسَدُوا وَرَجِسُوا رَجَاسَةً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً. ٢ اَللّٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي ٱلْبَشَرِ لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ ٱللّٰهِ؟ ٣ كُلُّهُمْ قَدِ ٱرْتَدُّوا مَعاً، فَسَدُوا، لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ».
يظهر هذا المزمور فاصلاً بين المزمورين الثاني والخمسين والرابع والخمسين إن من جهة الموضوع أو المتضمنات أو التعبير ولكن من جهة أخرى نجده ذا علاقة بالمزمور الثاني والخمسين من حيث تنديده بحالة الفساد والانحطاط العامة التي يراها. وهو يشبه المزمور الثامن والثمانين من حيث نظره الأسود للحياة مع أنه يحوي شيئاً من الحواشي اللامعة. وقوله في العنوان «على العود» تأتي الكلمة العبرانية من معنى حلا العربية. أي ذات لحن حلو حنون والأرجح أن الآلة الموسيقية التي تعطي لحناً كهذا هي أشبه شيء بالعود. ويرى البعض علاقة شديدة بين هذا المزمور وبين المزمور الرابع عشر حتى حسبوه أنه ذاته مع بعض تحويرات. ويرون أن الدلالات الداخلية في المزمور تدل على أنه من عصر يهوشافاط أو حزقيا. ولنا من هذا أن كثيراً من المزامير التي نظمت على غرار مزامير داود كتب عليها بلا تردد إنها لداود ولم يحسب الأقدمون أية أهمية لهذا الأمر كما نحسب نحن المتأخرين. ويبقى في هذا المزمور ذكر «المحاصر» والسبي. وإن الله يرد سبي شعبه مما يسمح مجالاً للتفكير أنه يخص الزمان بعد السبي أو على الأقل أن هذه الإضافات والتحويرات على المزمور الرابع عشر قد جرت في ذلك العهد على الأرجح.
(١) يرى الجاهل أن لا إله لأنه يريد أن يعيش بدونه لئلا يحاسبه على هفواته وشروره الكثيرة. ولكن المرنم يرى أن هذا النكران هو سبب الفساد والرجاسة والشرور المنتشرة. ولأن الناس كذلك فقد بعدوا عن الصلاح ولم يستطيعوا أن يعملوه قط لأنه ليس من طبيعتهم ولا برغبتهم.
(٢) إن قول الجاهل شيء والحقيقة شيء آخر والمرنم يرى حالاً أن الإله الحي موجود وهو الذي يراقب أعمال البشر وجميع تصرفاتهم. وهذا الإله يود فقط أن يفحص مرة آخرى هل قد فسد الناس جميعاً. أم هناك بعض الجهلة الذين لا يفهمون.
في هذا المزمور نجد اسم الله مذكوراً سبع مرات. بينما في المزمور الرابع عشر يذكر اسم الله ثلاث مرات وأربع مرات اسم الرب. وهنا دليل آخر أن هذا المزمور لم يكتبه داود على هذه الصورة. لأن كلمة الله في أيامه لم تكن تميزت بدلالتها على «الرب» ولم تأخذ بعد تبلورها في الاستعمال.
(٣) وفي هذا العدد يوجد شيء من التنقيح أيضاً فيذكر «كلهم» أي كل واحد منهم بمفرده بدلاً من الإجمال وعدم مسؤولية الفرد. إذ أنّ كل إنسان يعد مسؤولاً عن نفسه ويصيبه العقاب ليس بجريرة الجماعة ولا من باب «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون» بل على الشرير أن يصلح ذاته ولا يرتد ولا يفسد لأنه مسؤول أمام الله. ويستعمل كلمة ارتد بدل زاغ. والأولى تفيد معنى أنه كان على صواب ولم يستمر به بينما الزيغان (راجع المزمور ١٤: ٣) هو الحيدان فقط.
«٤ أَلَمْ يَعْلَمْ فَاعِلُو ٱلإِثْمِ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ شَعْبِي كَمَا يَأْكُلُونَ ٱلْخُبْزَ، وَٱللّٰهَ لَمْ يَدْعُوا؟ ٥ هُنَاكَ خَافُوا خَوْفاً وَلَمْ يَكُنْ خَوْفٌ، لأَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ بَدَّدَ عِظَامَ مُحَاصِرِكَ. أَخْزَيْتَهُمْ لأَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ رَفَضَهُمْ. ٦ لَيْتَ مِنْ صِهْيَوْنَ خَلاَصَ إِسْرَائِيلَ. عِنْدَ رَدِّ ٱللّٰهِ سَبْيَ شَعْبِهِ يَهْتِفُ يَعْقُوبُ وَيَفْرَحُ إِسْرَائِيلُ».
(٤) لا يوجد فرق بين ما ورد هنا وما ورد في المزمور ١٤ سوى كلمة الله بدل الرب. ويوجد قوة في التعبير بقوله «يأكلون شعبي» فإن هذه الاستعارة تفيد الظلم والاغتصاب والغش والاستغلال. وإن مثل هذه المعاملة هي لأنهم لم يضعوا الله أمامهم ولم يمشوا حسب أوامره.
(٥ و٦) في هذين العددين يظهر تحوير بيّن عن المزمور ١٤ فإن الناظم (أو المحرر بعد إضافات للمزمور ١٤) قد طبق ما ورد على حادثة جرت في أيامه. لقد رأى محاصراً لمدينة يهرب بعد أن خاف خوفاً شديداً ولا داعي لمثل هذا الخوف (انظر ١صموئيل ١٤: ١٥) ولكنه خوف الرب وقع عليهم (انظر ٢أخبار ٢٠: ٢٢ - ٢٤ أو إشعياء ٣٧: ٣٢). وفي العدد ٦ يوجد قوة في الأصل العبراني بكلمة «خلاص» أكثر كثيراً مما ورد في ما يقابلها في المزمور الرابع عشر. فهو خلاص كامل متمم ونهائي لا يشوبه أية شائبة البتة ولا يعتروه أي تبدل البتة.


اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلْخَمْسُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ. قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا أَتَى ٱلزِّيفِيُّونَ وَقَالُوا لِشَاوُلَ: «أَلَيْسَ دَاوُدُ مُخْتَبِئاً عِنْدَنَا؟»


«١ اَللّٰهُمَّ بِٱسْمِكَ خَلِّصْنِي وَبِقُوَّتِكَ ٱحْكُمْ لِي. ٢ ٱسْمَعْ يَا اَللّٰهُ صَلاَتِي. اِصْغَ إِلَى كَلاَمِ فَمِي».
في هذا المزمور نجد ذكراً لاضطهاد شاول لداود وهو أحد المزامير الثمانية التي تتناول هذا الموضوع. وهذا المزمور موضوع ليرتل على ذوات الأوتار ويذكر حادثة كانت السبب لكتابته حينما وشى الزيفيون به وتآمروا ضده فكان المجال أمام الناظم رحباً لكي يرى عناية الله ويسمع صوته في وسط هذه الظروف القاسية. ولولا اشتغال شاول بغزوة الفلسطينيين لبلاده لما كان قد نجا داود من يده قط (راجع ١صموئيل ٢٣: ١٩ وما يليه).
تنقسم هذه الأنشودة إلى قسمين وفي آخر كل قسم نجد كلمة سلاه كخاتمة للفكرة الروحية الواردة هناك.
(١) بقوله «باسمك» أي بقدرتك ولا يخفى ما كان للاسم من أهمية للإنسان القديم فقد سمت راحيل ولدها البكر يوسف أي يزيد الله عليها البنين كذلك فإن إبراهيم وبقية البطاركة الأولين قد سموا أمكنة عديدة على نسبة حوادث جرت معهم وكانت لها علاقة وطيدة بحياتهم وذات تأثير عليها. وحينما أرسل الله موسى لتنجية شعبه طلب الكليم من الرب ما اسمك؟ لأن موسى شعر أنه يستعين باسم الله حينما يعرف الشعب أنه مرسل لخلاصهم من قبله. وحتى اليوم نجد خرافة عربية أنه إذا قصد أحدهم الضرر بآخر يكتب اسمه على ورقة وما أشبه ويرميها بالنار ويعتقدون أن صاحب الاسم لا شك يتأثر من ذلك.
يلتمس المرنم أن ينال عوناً باسم الله وإن قدرته تعالى تبقى بجانبه لكي تكون من حزبه وعلى أعدائه فيستطيع عندئذ أن يتغلب عليهم ولا ينالون مأرباً منه.
(٢) يلتمس بإلحاح أن يصغي الله إليه ويسمعه. إن الله يسمعنا ولكن هل نؤمن بذلك حقيقة؟ وهل نتيقن أنه حاضر معنا في كل حين؟ يشعر قارئ هذه الآية أن الناظم داود كان في مرارة نفس وهو يستنجد بإلحاح ويكاد يرى كل السبل قد سدت في وجهه. بل يكاد يتحقق أن الله قد نسيه بتاتاً وإن عدوه يحاول أن يصل إليه ويفتك به وينتهي الأمر. وهو هنا يصلي ملتمساً أن يعينه الله بعد ويسمع صلاته ويصغي إلى كل أقواله ويكون هو وحده ديّانه وعاضده ومسدد سبيله إلى تمام الخلاص والخير.
«٣ لأَنَّ غُرَبَاءَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ وَعُتَاةً طَلَبُوا نَفْسِي. لَمْ يَجْعَلُوا ٱللّٰهَ أَمَامَهُمْ. سِلاَهْ. ٤ هُوَذَا ٱللّٰهُ مُعِينٌ لِي. ٱلرَّبُّ بَيْنَ عَاضِدِي نَفْسِي. ٥ يَرْجِعُ ٱلشَّرُّ عَلَى أَعْدَائِي. بِحَقِّكَ أَفْنِهِمْ. ٦ أَذْبَحُ لَكَ مُنْتَدِباً. أَحْمَدُ ٱسْمَكَ يَا رَبُّ لأَنَّهُ صَالِحٌ. ٧ لأَنَّهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ نَجَّانِي، وَبِأَعْدَائِي رَأَتْ عَيْنِي».
(٣) مع أن الزيفيين كانوا من اليهودية مع ذلك يذكرهم كأنهم غرباء لا يمتون لداود بأية صلة. لأنهم أرادوا قتله وساعدوا عدوه عليه. وكلمة الغرباء (العبرانية) تدل على أعداء أجانب من خارج البلاد (راجع إشعياء ٢٥: ٢ وما يليه وأيضاً ٢٩: ٥ كذلك حزقيال ٣١: ١٢). وقد يكون قوله غرباء من باب وصفه لهم أنهم لا علاقة تربطهم به لذلك هم عتاة ظالمون أيضاً لأنهم تعهدوا أن يساعدوا بإلقاء القبض عليه وتسليمه لعدوه اللدود الذي أراد الاقتصاص منه وقتله. وهم لم يجعلوا الله أمامهم أي في نيتهم هذه كانوا تابعين لمشيئة الشيطان لا مشيئة الله. قد يكون للزيفيين عذرهم أنهم يفعلون ذلك لأنهم خاضعون لشاول أو اتهموا أنهم يساعدون عدوه لكي يرموا المسؤولية عنهم حاولوا المساعدة على هذه الصورة.
(٤) في هذا العدد يبدأ القسم الثاني من المزمور ونجد الناظم متأكداً أن الله قد سمعه وأصغى إليه ويفرح بالمساعدة التي ينالها والعون والعضد اللذين يسندان نفسه في مثل هذا الضيق العظيم. وبقوله «الرب بين عاضدي نفسي» لا يقصد بذلك أنه تعالى أحد العاضدين بل أن العضد الكامل هو منه وحده.
(٥) ويطلب أن يجازي الأشرار على نسبة مقاصدهم الشريرة ليس إلا. وقوله «بحقك أفنهم» فيقصد أن يبين أن حق الله يردع الناس ويوقفهم عند حدهم. والأرجح أنه قصد أن يفني شرهم وعداوتهم بالأحرى.
(٦) وهو يذبح لله ذبيحة عن طيب خاطر أي منتدباً نفسه بنفسه فهو لا يجبر على ذلك ولا يقاد إليه أو يرشد بل يرى أن الضرورة موضوعة عليه أن يرفع الحمد والثناء لمن أعانه في الضيق وهداه في وسط المخاطر ونجاه من هؤلاء الأعداء الألداء الذين أرادوا أذيته وسعوا في سبيلها بكل ما في إمكانهم. وحق لله على المرنم أن ينال هذا الإكرام لأنه صالح كريم قدوس يلتفت للداعين إليه وينجيهم.
(٧) وهكذا يتحقق المرنم أنه ينجو وينال الخلاص. وأما قوله «وبأعدائي رأت عيني» أي ترى عيني قصاصهم الأكيد. وفي الأصل العبراني قد تكون الترجمة «عيني رائية خيبتهم». فقد قصدوا شراً ولكن قد حوله الله إلى خير. ولم يخب المرنم بل خابوا هم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلْخَمْسُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ. قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ


«١ اِصْغَ يَا اَللّٰهُ إِلَى صَلاَتِي وَلاَ تَتَغَاضَ عَنْ تَضَرُّعِي. ٢ ٱسْتَمِعْ لِي وَٱسْتَجِبْ لِي. أَتَحَيَّرُ فِي كُرْبَتِي وَأَضْطَرِبُ ٣ مِنْ صَوْتِ ٱلْعَدُوِّ، مِنْ قِبَلِ ظُلْمِ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ عَلَيَّ إِثْماً، وَبِغَضَبٍ يَضْطَهِدُونَنِي».
يحوي هذا المزمور العنوان نفسه الذي يحويه المزمور سابقه (أي لإمام المغنين على ذوات الأوتار الخ). في هذا المزمور شكوى مرة من رجل ادعى الصداقة ثم خان عهودها ونكث وعودها فهو إذاً اسخريوطي العهد القديم. وعلينا أن نراجع تاريخ داود - إذا حسبنا أن هذا المزمور يخصه - لكي نرى على من ينطبق هذا الوصف. وقد نصل أخيراً إلى أخيتوفل الذي كان اليد اليمنى لأبشالوم في ثورته ضد أبيه. ويرجح أن هذا المزمور مع الحادي والأربعين يخصان ذلك الزمان الذي جرت فيه الصورة ومدتها أربع سنوات. ويعجب الإنسان كيف سمح داود لابنه أن تستفحل ثورته على هذه الصورة ولم ينهض لمناوئيها بسوى الصلاة والابتهال إلى الله (راجع مزمور ٤١).
يذهب هتزج للقول بأن هذا المزمور هو لإرمياء ويبني رأيه على ما ورد في (إرميا ٩: ١) وعلى مقدار العذاب والاضطهاد الذي احتمله ذلك النبي مما ينطبق على سيرة حياته أكثر ما على حياة داود. وعلى كل فنحن نتخذ الرأي السابق كما هو العنوان المتوج به هذا المزمور وهو قوله «قصيدة لداود».
(١) يرى المطالع بين السطور حزناً شديداً وكآبة عميقة فإن داود يبسط شكواه أمام الله بالتضرع والابتهال ويتمنى لنفسه البعد عن الناس لكي يتخلص من التفكر بأولئك الأشرار الذين عملوا على الثورة ونقض ملكه. يطلب أولاً إصغاء الله إليه ويترجى أن لا يتغاضى عنه. والأصل العبراني يستعمل كلمة قريبة للقول «ولا تشح بوجهك عني». إذاً هو يلتمس أن يسمع الله صوته وأن يرى حالته ويرثي لها وهو أشبه بطفل ضعيف يلتمس معونة كبير قوي.
(٢) ولا يكتفي بأن يعرض حالته بل يلتمس أن يسمع الله صوته ويستجيب إذ أن الصلاة تتناول هذين العاملين فهي تقرب من الإنسان وتنازل من الله. وقوله أتحير وأضطرب يصوّر حالته السيئة كيف أنه يهرب ويركض إلى هنا وهناك ولا يستقر على حال. وهو كذلك لأنه مشكك في كل شيء لا يستطيع أن يسلم ذاته لأي إنسان ولا يتكل على أحد. وهو مضطرب لأن لا رأي له في هذه الحالة فهو ضائع تائه وتكاد تنسد في وجهه السبل ولا يدري كيف يذهب. وهكذا فهو بصلاته يصرخ متألماً مستجيراً طالباً الرحمة والرضا بعد.
(٣) في هذا العدد يقدم السبب لماذا هو في هذه الأحزان وما عذره في حالته المضطربة. فهو مطرود من قبل عدو قوي ظالم. إنهم يضعون في طريقه العراقيل والأحابيل وينفثون غضباً في وجهه ويتهمونه بالإثم ويلبسونه إياه جلباباً. إن الخوف والاضطراب يملآن قلبه وداخله لذلك لا يدري ماذا يفعل. إن هؤلاء الأعداء جسورون وقحون واضطهادهم له بشدة وغضب.
«٤ يَمْخَضُ قَلْبِي فِي دَاخِلِي، وَأَهْوَالُ ٱلْمَوْتِ سَقَطَتْ عَلَيَّ ٥ خَوْفٌ وَرَعْدَةٌ أَتَيَا عَلَيَّ، وَغَشِيَنِي رُعْبٌ. ٦ فَقُلْتُ: لَيْتَ لِي جَنَاحاً كَٱلْحَمَامَةِ فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ! ٧ هَئَنَذَا كُنْتُ أَبْعُدُ هَارِباً وَأَبِيتُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ. سِلاَهْ. ٨ كُنْتُ أُسْرِعُ فِي نَجَاتِي مِنَ ٱلرِّيحِ ٱلْعَاصِفَةِ وَمِنَ ٱلنَّوْءِ».
(٤) إن قلبه يشعر بالألم كألم المخاض للوالدة ذلك لأن شعوره هو شعور الإنسان الذي يقترب للموت وهو يعرف ذلك وهنا منتهى الرعب. نعم يقال أن في آخر دقائق الحياة يصبح الإنسان المقترب للموت فاقد الحس والشعور لذلك يموت وهو في سلام غير دار بحالته ولكن الهول الأعظم والرعب الأشد هو في تلك الدقائق التي تسبق هذه الحالة حينما يعرف الإنسان أنه يقترب للموت ولا يستطيع أن يرده لا سيما إذا كان ذلك الإنسان في حالة نفسية مرة وشديدة كالتي نجد داود فيها.
(٥) إن هذه المترادفات «خوف ورعدة ورعب» هي أشبه بدرجات سلم وصل فيها المرنم إلى أعظم الآلام. فالخوف هو ذلك الشعور الذي يجعلنا غير مطمئنين وأما الرعدة فهو خوف أشد حينما نرتجف مما نحن فيه ولا نستطيع أن نضبط أنفسنا تجاه خوف كهذا وأما الرعب فهو حالة الاضطراب الدائم والهول الشديد. وقوله غشيني أي التف عليه من كل جانب حتى لم يعد له محيص ولا مناص.
(٦) وهنا يبدأ بالتمني وإن يكن شيئاً بعيداً عنه لا يستطيع أن يترجاه كثيراً فيطلب جناجين ليطير ويتخلص مما هو فيه من ألم وشقاء. ذلك لأن شعوره هو شعور الضيق الشديد وليس له انفراج بسوى الطيران والبعد عن هؤلاء الأعداء الألداء. يريد أن يستريح والكلمة العبرانية تفيد معنى السكون والاطمئنان (راجع ٢صموئيل ٧: ١٠ وأيضاً حزقيال ٣١: ١٣). قال أحدهم إن الحمامة حينما تطير هاربة تنشر جناحاً واحداً فقط.
(٧) ويتابع كلامه بأنه يريد أن يهرب بعيداً عن الناس وأغلبهم أشرار فاسدون يضمرون الكيد والعداوة. يريد أن يستعجل قبل أن يلحقه أحد من طالبي نفسه (انظر إشعياء ٥: ١٩ و٦٠: ١٢) فهو يسعى ليجد لنفسه مكان أمان ولو كان في قلب البرية على حد قول الشاعر العربي:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير



لأنه يرى في الناس أعداءه الألداء الذين لم يستطيعوا أن يخلصوا له ولا أن يخلص إليهم. لذلك رأى أن البعد عنهم أولى فيهرب ناجياً بنفسه مما ألم به من ضيق وآلام.
(٨) وهنا لأنه حسب نفسه طائراً مبتعداً عن العمران فإن أهم ما يخافه الطائر هو الريح العاصفة والأنواء الجوية التي تطرد هذه الطيور لكي تختبئ في شقوق الصخور وتأمن في مآويها البعيدة. وهو يريد أن يفعل ذلك بدون ضجة أو ما يثير الشبهات حوله فهو يطير بعيداً هارباً من العمران وملتجئاً إلى الطبيعة وما تحويه من مخابئ هي مراكز الأمن والسلام لمن كان في حالة مضطربة كحالته.
«٩ أَهْلِكْ يَا رَبُّ، فَرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ، لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ظُلْماً وَخِصَاماً فِي ٱلْمَدِينَةِ. ١٠ نَهَاراً وَلَيْلاً يُحِيطُونَ بِهَا عَلَى أَسْوَارِهَا، وَإِثْمٌ وَمَشَقَّةٌ فِي وَسَطِهَا. ١١ مَفَاسِدُ فِي وَسَطِهَا، وَلاَ يَبْرَحُ مِنْ سَاحَتِهَا ظُلْمٌ وَغِشٌّ. ١٢ لأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ. ١٣ بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي».
(٩) هنا مقابلة لطيفة جميلة بين البرية والمدينة فبعد أن قال أنه يتمنى جناح حمامة يطير بها للبرية البعيدة الآمنة المطمئنة إذا به يقابلها مع ما في المدينة من ظلم وخصام وعداوة وبغضاء. فكما أن البرية هي ملجأه الوحيد الآن فإن المدينة هي الداعي الأول لهربه وبعده عن مواطن العمران. ذلك لما في المدينة من دواعي العداء والخصام حتى أن صديقه الحميم الذي اعتمد عليه في الشدائد إذا به يتركه. وليس من باب الصدف أن يهوذا الاسخريوطي مثلاً كان من سكان المدينة أورشليم وهو الذي خان سيده وباعه بثلاثين من الفضة كما هو معروف. وقوله فرّق ألسنتهم إشارة لما حدث في برج بابل لأن التعارف باللغة هو أهم تعارف (راجع تكوين ١١: ١ - ٩).
(١٠) يظهر أن الذين كانوا يحيطون بها على الأسوار هم الجواسيس الذين كان يرسلهم أبشالوم لتقصي الأخبار والاطلاع على الحالة عن كثب. في القصة الواردة (٢صموئيل ص ١٥) نجد أن داود لم يهتم بالأمر أولاً ولم يحتط له كما يجب حتى اضطر أخيراً أن يترك قصره ويهرب مع الهاربين. والإثم والمشقة في وسط المدينة أي أصبحت في غليان وعدم استقرار لأن دلائل التمرد والعصيان أصبحت في كل مكان. ويظهر أن هذا جرى كله سراً ولم ينهض الشعب للمناوئة إلا بعد أن كان أبشالوم قد استعد لكل الطوارئ.
(١١) ولكن هذه المدينة أصبحت الآن مملوءة بالمفاسد والظلم والغش في أهم ساحاتها حيثما يجب أن تمتلئ بجمهور الباعة والذاهبين والقادمين. إذاً فهي ليست مكان الأمان والسلام بل بالعكس يجب أن يهرب منها كل إنسان.
(١٢) والشيء الذي يحزن المرنم أكثر الكل هو أنه لم يكن منتظراً ما هو فيه فقد تحوّل الصاحب إلى عدو وانقلب الرفيق إلى مناوئ شرير. والعبارة تفيد العتاب الشديد فكإنما يقول كيف تتحول عني أيها الصديق وكيف تخون العهود على هذه الصورة. لا شك أن أشد الأعداء مضاء وقوة هم الذين يتظاهرون بالمودة ويكتمون البغضاء ولذلك فلا يكون الإنسان مستعداً لمواجهتهم في شرورهم هذه فيضربون على حين غفلة وتكون الضربة أليمة وقاضية في كثير الأحيان.
(١٣) إن الناظم هنا يضع هذا العدو بمرتبة نفسه فلا يذكره بعلاقته معه كعلاقة ملك مع أحد عبيده بل علاقة صديق مؤتمن على أثمن شيء في الدنيا وهي المحبة الأخوية. لذلك يذكره أنه عديل وأليف وصديق لعله يرجع إلى رشده ولا يخون صديقه على هذه الصورة.
«١٤ ٱلَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا ٱلْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ ٱللّٰهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي ٱلْجُمْهُورِ. ١٥ لِيَبْغَتْهُمُ ٱلْمَوْتُ. لِيَنْحَدِرُوا إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ أَحْيَاءً، لأَنَّ فِي مَسَاكِنِهِمْ، فِي وَسَطِهِمْ شُرُوراً. ١٦ أَمَّا أَنَا فَإِلَى ٱللّٰهِ أَصْرُخُ وَٱلرَّبُّ يُخَلِّصُنِي. ١٧ مَسَاءً وَصَبَاحاً وَظُهْراً أَشْكُو وَأَنُوحُ فَيَسْمَعُ صَوْتِي. ١٨ فَدَى بِسَلاَمٍ نَفْسِي مِنْ قِتَالٍ عَلَيَّ، لأَنَّهُمْ بِكَثْرَةٍ كَانُوا حَوْلِي».
(١٤) يتابع المرنم وصفه لهذا الصديق الذي خان العهود ونسي ما يتوجب عليه نحو صديقه فكان منه ما كان. فهو صديق حلو الحديث لذيذ العشرة وإن كان من باب:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب



ويظهر أنه علاوة على ذلك كان من المتظاهرين في الدين المتممين المراسيم والفروض لا سيما أوقات المواسم والأعياد فهو أول المتظاهرين الذين يحكم عليهم الإنسان حالاً إنهم من أهل التقى والفضيلة والصلاح. وهو من الذين استخلصهم وأعطاهم سره وكشف لهم خبايا القلب والضمير على نسبة ذلك كانت حياته أعظم.
(١٥) وهنا يصرخ المرنم باللعنات الشديدة على صديق كهذا (أو أصدقاء في الجمع ربما) فهو يطلب لهم أولاً أن يقعوا في إشراك الموت بغتة وعلى غير يقظة منهم وهكذا وهم أحياء تفغر الأرض فاها وتبتلعهم كما حدث لقورح ورفاقه. والصورة مرعبة للغاية لأن المرنم يتمنى لهم موتاً فظيعاً على نسبة فظاعة شرورهم لأنه يتبع كلامه بقوله إنهم يستحقون هذا الويل القادم عليهم لأنهم أشرار.
(١٦) في هذه العبارة يوجد ذكر لله وللرب وهنا إشارة هامة. فإن المرنم يذكر المبدع الخالق العظيم لهذه الكائنات جميعها ثم للرب يهوه إله شعبه الخاص الذي سار معهم وخلصهم ولا يزال يفعل هكذا إلى الأبد. وهو يلتجئ إلى هذا الإله العظيم لكي ينجيه من هذه الحالة والورطة الصعبة التي هو فيها. إن أولئك الأشرار يستعملون شرهم لنيل مآربهم الشخصية ويتكلون على ما لديهم من حيل ومكايد حتى يتوصلوا للأذى الذي ينوونه أما متقو الرب فلا سلاح لهم سوى التضرع والرجوع إلى الله لطلب السند والخلاص.
(١٧) هنا ينتقل إلى القسم الثالث والأخير من هذا المزمور. فهو واثق من حسن النتيجة فهو يصلي شاكياً أمره لله صباحاً ومساءً ولا يتوانى عن ذلك قط. هو بحاجة أن يرفع شكواه لمن يسمع الشكوى ويستجيب. ففي قرارة نفسه الهادئة وفي إيمانه الوطيد بالله هو لا يعدم وسيلة يتوسل بها لكي يتصل بمصدر القوة والعون. الله يسمع صوته لذلك فإن حالته مملوءة بالنور والرجاء ولا حاجة أن يتراجع قط إلى الوراء.
(١٨) هذا الإله القدير المحب قد دفع فدية عن نفس المرنم لذلك فهو الآن بأمنٍ وسلام. فهذا المزمور يتكلم عن أمور ماضية وعن اختبارات مرة ولكنها كانت ذات دروس عالية عميقة الأثر. وهو يعترف أنه لم يكن له قبل على أعدائه الكثيرين المحيطين به القاصدين ضرره ولولا معونة الله لم يكن له أدنى خلاص.
«١٩ يَسْمَعُ ٱللّٰهُ فَيُذِلُّهُمْ وَٱلْجَالِسُ مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. سِلاَهْ. ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ تَغَيُّرٌ وَلاَ يَخَافُونَ ٱللّٰهَ. ٢٠ أَلْقَى يَدَيْهِ عَلَى مُسَالِمِيهِ. نَقَضَ عَهْدَهُ. ٢١ أَنْعَمُ مِنَ ٱلزُّبْدَةِ فَمُهُ وَقَلْبُهُ قِتَالٌ. أَلْيَنُ مِنَ ٱلزَّيْتِ كَلِمَاتُهُ وَهِيَ سُيُوفٌ مَسْلُولَةٌ. ٢٢ أَلْقِ عَلَى ٱلرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ. لاَ يَدَعُ ٱلصِّدِّيقَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٢٣ وَأَنْتَ يَا اَللّٰهُ تُحَدِّرُهُمْ إِلَى جُبِّ ٱلْهَلاَكِ. رِجَالُ ٱلدِّمَاءِ وَٱلْغِشِّ لاَ يَنْصُفُونَ أَيَّامَهُمْ. أَمَّا أَنَا فَأَتَّكِلُ عَلَيْكَ».
(١٩) يسمع الله ضجيج الأعداء ويكون إصغاؤه لهم بصورة النفي فهو بدلاً من أن يعينهم يرفضهم ويذلهم. ذلك لأنه ليس معهم بل عليهم. أما قوله «الجالس منذ القدم» أي هو الجالس منذ القدم. ليدين الناس ويحكم عليهم أو تكون القراءة الأصلية «فيذلهم الجالس منذ القدم». هو الله الجالس على العرش كما في (مزمور ٧٤: ١٢ وحبقوق ١: ١٢ وقابل ذلك مع تثنية ٣٣: ٢٧) فهو منذ البدء جالس على عرش العالمين ملكاً ودياناً عادلاً ولذلك فهو أيضاً يحكم ويدين في الحاضر كما في الماضي والمستقبل وقوله واصفاً الأشرار إنهم لا يتغيرون عن شرهم أي قساة القلب متحجرو الضمير ولذلك فهم في أبعد مراحل الكفر والإلحاد.
(٢٠) يعود المرنم إلى وصف هذا العدو الشرير ولا يستطيع أن يغفر له خيانته فهو قد قابل المسالم بالقتال ونقض العهد ونسي الصداقة الأولى. فبعد أن ذكر جمهور الأعداء الذين قاموا ضده فهم جميعاً لا يقاسون بشيء بالنسبة لهذا الخائن اليوم الصديق بالأمس.
(٢١) وهنا يصفه بالنعومة فهو كالزبدة لا يظهر فيه شيء من الخشونة أو القسوة بل يتظاهر بكل ما توجبه الصداقة ولكن شتان بين هذا وما يضمره من نية سيئة وقصد رديء. وكلماته لينة فهو يجاريك على كل ما تقول ولا يعصى لك أمراً وإنما حقيقة حاله إن كل كلمة منه هي سيف مسلول. لذلك فهو عنوان الخبث والرياء فإن كلماته التي كان يجب أن تكون غذاء النفس وتسلية الروح إنما في الحقيقة هي سبب الآلام والجروح.
(٢٢) حينما يقارب ختام المزمور يرى المرنم أن ينهيه بهذه النصيحة الغالية ولا شك هو بذلك يخاطب نفسه أولاً ويقول لها أن تلقى همومها على الله. إن الهم هو حمل ثقيل إن لم يكن أثقل الأحمال ولا يستطيع الإنسان أن يحمله وحده لذلك فعلى المؤمن أن يدعو الله للعون والمساعدة. والسبب هو أنه لا يريد الصديق أن يكون ريشة في مهب الريح متقلقلاً متزعزعاً.
(٢٣) وهنا يتراجع للانتقام ويطلب من الله أن يجازي هؤلاء الأشرار وينزلهم إلى دركات الهلاك والدمار. وهؤلاء لا يعيشون نصف أيامهم لأنهم يقصفون في شرخ العمر ولا يصلون للشيخوخة. ذلك لأنه قد سفكوا دماء أبرياء كثيرين والعدل يطولهم عاجلاً أو آجلاً. ولكن المرنم يتكل على الرب إلهه الذي لم ينسه في الماضي ولا يمكن أن ينساه الآن.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلْخَمْسُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ٱلْحَمَامَةِ ٱلْبَكْمَاءِ بَيْنَ ٱلْغُرَبَاءِ». مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا أَخَذَهُ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ فِي جَتَّ.


«١ اِرْحَمْنِي يَا اَللّٰهُ لأَنَّ ٱلإِنْسَانَ يَتَهَمَّمُنِي، وَٱلْيَوْمَ كُلَّهُ مُحَارِباً يُضَايِقُنِي. ٢ تَهَمَّمَنِي أَعْدَائِي ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ، لأَنَّ كَثِيرِينَ يُقَاوِمُونَنِي بِكِبْرِيَاءٍ. ٣ فِي يَوْمِ خَوْفِي أَنَا عَلَيْكَ أَتَّكِلُ».
لقد اختلف علماء التفسير فيما يقصد بهذا العنوان تماماً. قال هتزج «هي حمامة الشعب في الأمكنة البعيدة». وقال السهوسن «حمامة أشجار التربنت البعيدة». ويظهر أن اللحن كان على آلة تعطي صوتاً حنوناً لكي تشابه الحالة المحزنة التي كان المرنم فيها. وذكر المرنم أنه يود أن يضع دموعه في زق الله لكي تحفظ تذكاراً لآلامه عندئذ كما حفظت جرة المن وغيرها من آثار التيه البرية.
يرجح أن هذا المزمور قد كتب في أيام شاول فإن كتابة العنوان «عندما أخذه الفلسطينيون في جت» ترجع للحادثة المذكورة في (١صموئيل ٢١: ١٤) وهو أحد المزامير المذهبات من المزمور (٥٦ - ٦٠). ومما هو حري بالذكر أن داود لم يكن يبطل الترنم بمزاميره إذا جابهته العقبات واشتدت عليه الصعاب بل كان يستمر على حمد الله وشكره. كان في خطر مداهم حينما كتب هذا المزمور ومع ذلك نجد تأملاته لطيفة وأفكاره سامية وكريمة.
(١) هنا صورة واضحة عن إنسان طريد من أعدائه الذين يحاولون أن يحاربوه ويتغلبوا عليه بكل وسيلة ممكنة. فهم يتهمّمونه أي يطلبونه من مكان لآخر بكل ملاحقة وإلحاح. وهنا أيضاً يضع الإنسان بجانب والله بجانب آخر وشتان بين الاثنين ومع ذلك فإن هذا الإنسان يظهر العتو والكبرياء ضد الله رغماً عن صغره وحقارته مع ذلك يتصرف بصلف ويضايق بحربه هذه المرنم حتى يستجير بإلهه.
(٢) ولكن ما أقل جدوى ما يفعلون فإن مؤامرتهم ضد الله لا تنفعهم شيئاً ولو تظاهروا كأنهم جبابرة فما هم بالحقيقة سوى صعاليك. والسبب الجوهري في ثقته هذه هو أنه يتكل على الله (راجع إرميا ١: ١٩ وأيضاً يشوع ٩: ٢٧ وأيضاً أمثال ٣: ٥) ومتى اعتصم بالله واتكل عليه فلا شيء من قوات الدنيا تستطيع أن تناله بسوء. ذلك لأن له المواعيد الإلهية الكريمة وبواسطة هذا الإيمان يرتمي المرنم في أحضان الله وقد يكون هنا إشارة توبيخ ذاتي أنه من قبل بسبب حماقته وتسرعه قد ارتمى في أحضان الفلسطينيين لكي ينجو من عدوه شاول وأما الآن فيعود إلى الصواب ويرى أن هؤلاء الأعداء المتكبرين لا يستطيعون شيئاً في جنب الله العلي الجبار.
(٣) ويحقق رجوعه للصواب في هذا العدد «في يوم خوفي أنا عليك أتكل». لا شيء يسر الله مثل رجوع الخاطئ إليه وقد أبان لنا السيد المسيح هذا الأمر الجليل في مثل الابن الضال. فقد صور لنا الله الآب ينتظر رجوع ابنه الخاطئ الضال بين وقت وآخر لأنه لم يقطع منه الرجاء. ولا شك سوف يأتي يوم يعود فيه الإنسان إلى نفسه فإذا كان حكيماً فعل ذلك وهو لا يزال في قيد الحياة في هذه الدنيا وليس في الحياة الآخرة لئلا يكون له البكاء وصرير الأسنان.
«٤ اَللّٰهُ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. عَلَى ٱللّٰهِ تَوَكَّلْتُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي ٱلْبَشَرُ! ٥ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يُحَرِّفُونَ كَلاَمِي. عَلَيَّ كُلُّ أَفْكَارِهِمْ بِٱلشَّرِّ. ٦ يَجْتَمِعُونَ يَخْتَفُونَ يُلاَحِظُونَ خُطُوَاتِي عِنْدَمَا تَرَصَّدُوا نَفْسِي. ٧ عَلَى إِثْمِهِمْ جَازِهِمْ. بِغَضَبٍ أَخْضِعِ ٱلشُّعُوبَ يَا اَللّٰهُ. ٨ تَيَهَانِي رَاقَبْتَ. ٱجْعَلْ أَنْتَ دُمُوعِي فِي زِقِّكَ. أَمَا هِيَ فِي سِفْرِكَ؟».
(٤) ويمكن وضع الترجمة حسب النص العبراني هكذا:
بالله أسبح كلامه. أي أسبح بكلام الله.
وفي الترجمة اليسوعية نجد «احمد الله على كلامه. على الله توكلت...». وأعتقد أن في هذا توسعاً في المعنى غير موجود تماماً حسب النص. وبدلاً من قولنا «على الله توكلت» الأفضل أن نقول «بالله استندت فلا...» لأن تكرار حرف الجر الواحد يؤكد المعنى ويعطيه جمالاً أكثر. ثم قوله شيئاً فهو للاستفهام الإنكاري. وهنا تثبيت لعدم خوفه لأنه لا داعي لذلك قط طالما الله سنده.
(٥) وهنا إشارة إلى أمرين يستخدمهما هؤلاء الأعداء للنيل منه والإضرار به وهما أولاً تحريف كلامه أي تفسيره أو تغييره بما لا ينطبق على الواقع. وثانياً أنهم يفكرون بالشر ضده وهكذا فهو في فكرهم على الدوام يفعلون الضرر عن سابق تصور وتصميم. ولا نستخف قط بأهمية تحريف الكلام والتلاعب به وتفسيره بما هو ليس من مقاصد قائله وهنا منتهى الكذب والرياء لأنه كم من شرور تنجم وكم من ويلات تحدث من جراء ذلك.
(٦) يجتمع هؤلاء الأعداء للكيد له ثم يختفون متوارين إذ لا يستطيعون الظهور وهم يضعون خططهم الأثيمة. ولكنهم وإن كانوا لا يظهرون علناً فهم مع ذلك ينتبهون لكل شيء حولهم ولا يفوتهم كبيرة أو صغيرة. وهنا صورة مأخوذة من الغاب كيف أن الوحوش الضواري يكمنون مختفين لكي يصطادوا فريستهم وحينما يتظاهرون بأقل انتباه يكونون على أشده عندئذ.
(٧) يضع ديليتش القسم الأول من هذه العبارة بصورة الاستفهام فيقول هل بأفعالهم الرديئة هذه ينجون؟ وحينئذ تختلف الترجمة عما هي واردة معنا الآن. ويمكن الترجمة حينئذ أبالاثم ينجون؟ إنما هوبفيلد يرى بدلاً من كلمة ينجو العبرانية كلمة أخرى تعني الجزاء ويكون حينئذ مجال لتصحيح النص نفسه. ولكن في الحالة الأولى تكون العبارة:
أبالإثم ينجون؟ ألا بغضب أخضع الشعوب يا الله.
(٨) بينما أولئك الأعداء يراقبونه للفتك به إذا الله يراقبه ليحرسه ويحميه. وحينئذ هذه الدموع التي يذرفها تحفظ وديعة مع الله لتذكار آلامه وأحزانه. يعتبر بواسطتها مخاطره ومخاوفه. بل هي مكتوبة في سفر لا تصل إليه الأيدي البشرية ولا يتغير ولا يزول.
«٩ حِينَئِذٍ تَرْتَدُّ أَعْدَائِي إِلَى ٱلْوَرَاءِ فِي يَوْمٍ أَدْعُوكَ فِيهِ. هٰذَا قَدْ عَلِمْتُهُ لأَنَّ ٱللّٰهَ لِي. ١٠ اَللّٰهُ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. ٱلرَّبُّ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. ١١ عَلَى ٱللّٰهِ تَوَكَّلْتُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي ٱلإِنْسَانُ؟ ١٢ اَللّٰهُمَّ عَلَيَّ نُذُورُكَ. أُوفِي ذَبَائِحَ شُكْرٍ لَكَ. ١٣ لأَنَّكَ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ ٱلْمَوْتِ. نَعَمْ، وَرِجْلَيَّ مِنَ ٱلزَّلَقِ، لِكَيْ أَسِيرَ قُدَّامَ ٱللّٰهِ فِي نُورِ ٱلأَحْيَاءِ».
(٩) بهذا العدد يرى الانتصار يلوح أمامه. فإن الأعداء لا يستطيعون أن يثبتوا في وجهه بل يرجعون للوراء ويندحرون. ذلك لأن اسم الله قد أظهر صولته وجبروته. وقوله حينئذ أي نتيجة عما تقدم وبناء عليه فإن حالته غير مستقرة إذ هو هارب من مكان لآخر لا يدري أين هو وطنه الحقيقي فإن الملك يطلب نفسه فيترك بلاده هارباً ويلتجئ للأعداء وإذا به يجدهم متغيرين عليه يريدون الإيقاع به والنيل منه في أول فرصة ممكنة. ولكن في وسط هذه المخاطر الشديدة إذا بجميع أعدائه يرتدون إلى الوراء ويندحرون.
(١٠) وهنا أيضاً تصبح الترجمة كما ورد في العدد (٤) هكذا:
بالله أسبح كلاماً بالرب أسبح كلاماً
(١١) وكذلك في هذا العدد تكون الترجمة:
بالله استندت فلا أخاف. ماذا يصنع بنو آدم لي؟
والحق يقال إن هذين العددين هما ليسا سوى تكرار العدد الرابع كما مر معنا سابقاً بشيء من الزيادة ليس إلا. لقد علم المرنم متأكداً أن الله له لذلك فهو لله أيضاً وهكذا لا يخاف البشر ولا يهابهم مهما هاجمته المصائب. ونلاحظ أن هذا التكرار هو من قبيل القرار في المزمور وكما كانت العادة عند العبران أنهم لم يكرروا الكلام ذاته بل بشيء قليل من التغيير منعاً للملل.
(١٢) يعد الله الآن مواعيد ويعطي نذوراً سلفاً لأمور سوف تحدث له بلا شك. بل يذهب إلى أكثر من ذلك فهو يعد بأن يقدم ذبائح شكر على نجاته وسلامته وهنا منتهى مظاهر الإيمان. والكلام أشد جداً مما قاله يعقوب في طريقه إلى خاله لابان معاهداً الله (راجع تكوين ٢٨: ٢٠ - ٢٢) فإن الشروط التي قدمها يعقوب لنذوره لم يقدمها داود قط.
(١٣) لقد نجى الله نفسه وحفظه وأنقذه من أن ينزلق متمرغاً على الثرى موضوع سخرية واحتقار كأنما الله قد تركه ولم يهتم به. ولكنه لا يزال رجلاً قوياً يستطيع أن ينهض على رجليه ويسر في نور الأحياء. وهذا إشارة معاكسة لظلمة الهاوية أي الذين يموتون ويتركون هذا العالم ليعيشوا في عالم النسيان حيثما تنسج العناكب خيوطها في أرض ظلال الموت. ونجد ذكراً لنور الأحياء في كلام أليهو (راجع أيوب ٣٣: ٣٠) وقد استعمل السيد المسيح هذا التعبير بقوله في (يوحنا ٨: ١٢) «مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ».


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلْخَمْسُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «لاَ تُهْلِكْ». مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا هَرَبَ مِنْ قُدَّامِ شَاوُلَ فِي ٱلْمَغَارَةِ.


«١ اِرْحَمْنِي يَا اَللّٰهُ ٱرْحَمْنِي، لأَنَّهُ بِكَ ٱحْتَمَتْ نَفْسِي، وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَحْتَمِي إِلَى أَنْ تَعْبُرَ ٱلْمَصَائِبُ. ٢ أَصْرُخُ إِلَى ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ، إِلَى ٱللّٰهِ ٱلْمُحَامِي عَنِّي. ٣ يُرْسِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَيُخَلِّصُنِي. عَيَّرَ ٱلَّذِي يَتَهَمَّمُنِي. سِلاَهْ. يُرْسِلُ ٱللّٰهُ رَحْمَتَهُ وَحَقَّهُ».
هو أحد المزامير الثلاثة التي ترنم على لحن «لا تهلك» وهو هذا المزمور والمزموران اللذان يليانه. وهنا مجال للسؤال هل هذا هو نفسه اللحن للصلاة المذكورة في (تثنية ٩: ٢٦ أو ١صموئيل ٢٦: ٩ أو إشعياء ٦٥: ٨). وقوله مشيراً إلى هرب داود من وجه شاول في المغارة لا نعلم منه هل تلك مغارة عدلام المذكورة (١صموئيل ٢٢) أو هي المغارة عند عين جدي (١صموئيل ٢٦). وهذا المزمور مع أنه يشترك مع مزامير كثيرة في كثير من المعاني بقوله ارحمني يا الله. وتشبيهه الأعداء بالأشبال والأسود والحماية بظل الجناحين ونصب الشبكة لخطواته وإن رحمة الله تعظم فوق السماوات ومع ذلك فله طابع خاص يتميز به عن غيره وذلك ثقته التامة بخلاص الرب وكثير من معانيه واردة بعد ذلك في (المزمور ١٠٨ فليراجع).
(١) يطلب الرحمة والحماية ويجدهما في ظل الجناحين فهو لا يستطيع مواجهة المصائب بنفسه لذلك يحتمي إلى أن تعبر عنه. وحالته حالة سابح طغى عليه الموج لذلك يلتمس صخرة مرتفعة يحتمي بها إلى أن يعبر الخطر عنه (قابل هذا بما ورد في إشعياء ٢٦: ٢) وهو شبيه بالمزمور سابقه إن كان من جهة الخطر المداهم أو من جهة تجربة الخطيئة. وهو يبدأ بالصلاة والشكوى ويختم بالحمد والشكران.
(٢) إن اتجاهه في حالة كهذه هو نحو الله الذي ينقذه وينجيه من كل المخاطر. يحتمي بالجناحين كما تفعل الفراخ الصغيرة تحت جناحي أمها فتدفأ وتأمن. ولذلك فصراخه لله هو عن تأكيد الاستجابة لأنه سيحامي عنه (راجع لوقا ٢٢: ٣٧). والجناح أيضاً دليل السرعة فإن الله لا يبطئ قدومه ولا يترك الصارخين إليه دون استجابة لطلباتهم.
(٣) هوذا الله العلي غير بعيد عن أولاده فهو يرسل وينجيهم. وخدامه هم الملائكة الذين يصدعون بأمره ويقومون بأعماله. وأما الذين طلبوا نفسه فقد انخذلوا نهائياً وارتدوا إلى الوراء متراجعين ولا يستطيعون شيئاً الآن. بل كان نصيب هؤلاء العار والمذلة ويختم بسلاه بارتفاع نغم الموسيقى. وقوله يرسل رحمته وحقه فهما العون اللازم للمرنم وقد طلب الرحمة أولاً لأن الحق وحده لا يكفي بل إذا كان له الحق فقط فهو هالك لا محالة.
«٤ نَفْسِي بَيْنَ ٱلأَشْبَالِ. أَضْطَجِعُ بَيْنَ ٱلْمُتَّقِدِينَ بَنِي آدَمَ. أَسْنَانُهُمْ أَسِنَّةٌ وَسِهَامٌ، وَلِسَانُهُمْ سَيْفٌ مَاضٍ. ٥ ٱرْتَفِعِ ٱللّٰهُمَّ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. لِيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ مَجْدُكَ. ٦ هَيَّأُوا شَبَكَةً لِخَطَوَاتِي. ٱنْحَنَتْ نَفْسِي. حَفَرُوا قُدَّامِي حُفْرَةً. سَقَطُوا فِي وَسَطِهَا. سِلاَهْ. ٧ ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اَللّٰهُ ثَابِتٌ قَلْبِي. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ».
(٤) نفسه بين الأشبال دليل الخطر المداهم فهو في خطر الموت في كل برهة من حياته لا يدري كيف ينجي نفسه. وإنه يضطجع بين المتقدين الذين يحمى غضبهم لدى كل سانحة ولا يمكن أن يؤمن شرهم لأن طبعهم غضوب ويدهم سريعة بالأذية والضرر. ويظهر أن اختباره بالناس حواليه كان صعباً مراً لأنه يذكر عن بني آدم هؤلاء أنهم سلاح ماضٍ ولكنه بيد العدو اللئيم الشديد المراس. وهم الوحوش الضارية لذلك فإن أسنانهم كأسنان أولئك ولكنهم يزيدون عليهم أن لسانهم الذي يجب أن يستعمل لحمد الله وشكره إذا به يستعمل للتقتيل والتنكيل.
(٥) ولكنه يعود فيقابل مرة أخرى بالعون الذي له من السماء. وفي هذا صورة لطيفة لإظهار الفرق بين هؤلاء الناس الأشرار وبين الله الذي يرتفع بمجده وجلاله وهو بدلاً من أن يخيف يحمي وبدلاً من أن يلتهم الذين أمامه كنار محرقة فهو يسمو عليهم جميعاً ليتمجد بسلطانه على كل الكائنات.
(٦) هؤلاء الأعداء الكائدون قد وضعوا شبكة أمامي ليوقعوني بها. وهوذا نفسي قد انحنت من الهموم والأحزان ولا أستطيع أن أنجو مما نصبوه لي. والانحناء دليل على أنه مثقل الأحمال فلا يستطيع أن يمشي رافع الرأس عالي الجبين (انظر مزمور ١٠٩: ٢٢). ولم يكتف هؤلاء الأعداء بنصب الشبكة فوق الأرض لكي يوقعوا المرنم فيها. بل حفروا حفرة في الأرض لكي يخفوا ما فعلوه ولا يتظاهرون بشيء ويخفون شيئاً آخر. ولكن النتيجة كانت عليهم بالوبال. وقد سقطوا في الحفرة التي حفروها لغيرهم. ثم ينهي كلامه بارتفاع الموسيقى دليل الانتهاء الحسن.
(٧) ولكن المرنم لم يتزعزع إيمانه ولم يتغير قط وأعظم دليل على ذلك هو أنه لا يزال يغني ويرنم لأن الإنسان عادة لا يفعل ذلك إلا بحالة الارتياح والسرور. إن مثل هذا الإيمان هو مدعاة الراحة والسلام وهو لا يظهر حقيقة إلا في أوقات المصاعب والضيقات حينئذ نعرف من نحن وما هو مقدار إيماننا (انظر رومية ٥: ٣ وأفسس ٥: ٢٠).
«٨ ٱسْتَيْقِظْ يَا مَجْدِي. ٱسْتَيْقِظِي يَا رَبَابُ وَيَا عُودُ. أَنَا أَسْتَيْقِظُ سَحَراً. ٩ أَحْمَدُكَ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ يَا رَبُّ. أُرَنِّمُ لَكَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ. ١٠ لأَنَّ رَحْمَتَكَ قَدْ عَظُمَتْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ، وَإِلَى ٱلْغَمَامِ حَقُّكَ. ١١ ٱرْتَفِعِ ٱللّٰهُمَّ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. لِيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ مَجْدُكَ».
(٨) جاء في التلمود تفسير خاص لهذا العدد وهو أن من عادة داود كان أن يعلق عوداً فوق رأسه فحينما ينتصف الليل ويقبل على آخره كانت ريح الشمال تهب وتضرب على الأوتار مما جعلها تخرج أنغاماً بنفسها دون أن يكون هناك يد تضرب عليها. فكان ينهض على صوتها ويسرع في قراءة الشريعة المقدسة إلى أن يتكامل وجه السحر. وقال راشي إن داود كان يفاخر الناس قائلاً «إن الفجر كان يوقظ الملوك الآخرين أما أنا فأوقظ الفجر». أما مجده هنا فهي نفسه بالذات التي يريدها أن تستيقظ وتنهض باكراً وعند ذلك تستيقظ أيضاً آلات الموسيقى وتشاركه في إنشاده وتسبيحه لله وهذا شبه قول الشاعر:
قم في الدجى أيها المتعبد حتى متى فوق الأسرة ترقد



(٩) إن حمد هذا المرنم شامل يسمعه كل إنسان وهو يفتخر بما يذيعه من آيات الحمد والثناء. وربما رأى بعين النبوءة أن مزاميره هذه ليست له ولا للعصر الذي يعيش فيه ولا للناس الذين يسكن بينهم بل هي لكل زمان وسيخلد ذكرها ما بقي الإنسان. وتكون مدعاة للابتهاج والترنم وخدمة الكنائس حتى أن بعضها لا تستعمل سوى مزامير داود ويترك كل الأناشيد العصرية وما أشبه ولا يستعملون للترنم بالكنائس إلا ما هو مكتوب في الكتاب المقدس.
(١٠) يعود فيكرر هاتين الكلمتين الرحمة والحق الأولى عظمت إلى السموات فهي رفيعة وسامية جداً ولا شيء يضاهيها في الجلال. وكذلك الحق فهو إن احتجب بالغمام أحياناً فإنما ذلك إلى حين. لأن الحق هو أشبه بالشمس المشرقة التي قد تحجبها الغيوم وتقلل من نورها وحرارتها ولكن لا يطول الوقت حتى تعود فتشرق مرة ثانية وتكون سبب الخير والقوة والحياة على وجه هذه الأرض. إن الله الكلي القدرة سيظل مرتفعاً فوق إفهام بني البشر وأعلى من جميع مداركهم وما على الإنسان المؤمن إلا أن يسبح بحمد ربه ويذيع شكره وجلاله إلى أبد الآبدين.
(١١) وأخيراً يأتي لهذا القرار الجميل البارع. وقد أدرك الرسول بولس شيئاً من عظمة الله وجلاله بقوله «حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ ٱلْعَرْضُ وَٱلطُّولُ وَٱلْعُمْقُ وَٱلْعُلْوُ...» (أفسس ٣: ١٨) وهذا هو العدد الخامس ذاته ولا يختلف عنه إلا بما لا يؤبه له. إن السماء والأرض تشتركان في هذا التمجيد وهما متعلقتان واحدتهما بالأخرى بتاريخ طويل قديم وإنما جلال الله القديم الأيام ومجده وعظمته فهي تعم العالمين وتكسو كل الكائنات بما توشيه فيها من آيات الجمال والثناء والتكريم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلْخَمْسُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «لاَ تُهْلِكْ». لِدَاوُدَ. مُذَهَّبَةٌ


«١ أَحَقّاً بِٱلْحَقِّ ٱلأَخْرَسِ تَتَكَلَّمُونَ، بِٱلْمُسْتَقِيمَاتِ تَقْضُونَ يَا بَنِي آدَمَ؟ ٢ بَلْ بِٱلْقَلْبِ تَعْمَلُونَ شُرُوراً فِي ٱلأَرْضِ. ظُلْمَ أَيْدِيكُمْ تَزِنُونَ. ٣ زَاغَ ٱلأَشْرَارُ مِنَ ٱلرَّحِمِ. ضَلُّوا مِنَ ٱلْبَطْنِ، مُتَكَلِّمِينَ كَذِباً».
هذا المزمور هو صرخة الانتقام فبينما يقول المزمور السابق «أسنانهم أسنة ولسانهم سيف ماضٍ» إذا بهذا المزمور يقول «اللهم كسّر أسنانهم في أفواههم». ومما لا شك فيه أنه مزمور شديد اللهجة قاس لا يرحم ولا يشفق وهو يطلب لأعدائه العدل والانتقام. وكلماته هي أشبه بالرعد القاصف لا شيء من الهوادة فيها ولا اللين. وإن داود هذا الذي استطاع أن يكتب مزامير الحنان وطلب الرحمة يمكنه الآن أن يجازي أفكار عصره ويظهر الشدة والقوة ولا يتراجع أمام أعدائه مهما كلفه الأمر.
(١) ويترجم ديلتش هذا العدد بقوله:
هل أنتم بالحق يا أيها الآلهة تتكلمون بالبر؟
وهل أنتم بالعدل تدينون بني البشر؟
ويقول أيضاً إن الأوفق أن نترجمه «هل أنتم بالحق تملون علينا صمت البر؟». وقد يكون المعنى أنه يخاطب الناس ذوي المراتب السامية الذين لهم كالآلهة أن يقضوا بين الناس بالعدل والحق. وعلينا أن نراجع القرينة التاريخية فنرى أن أبشالوم وأتباعه قد استخدموا ادعاءهم إجراء العدل والإنصاف بين الناس لكي يربحوا إليهم قلوب الشعب. زاعمين أن سيدهم أبشالوم هو قسطاس العدل للجميع. لذلك فداود يخاطب هؤلاء المدعين كأنهم عادلون فوق عدل البشر هل هم بالحق يفعلون ذلك؟ وهل عدلهم بين الناس هو لأجل العدل ذاته وحسن القضاء ولوجه الله الكريم؟
(٢) ولكنه لا يطيل التساؤل ولا يترك أدنى شك في ذهن السامع بل حالاً يؤكد عكس ذلك فيظهرهم للملاء أنهم يتظاهرون بغير ما يضمرون. وهكذا فإن إتيانهم الفضل كان لغاية في نفس يعقوب! ومن قديم الزمان كان الميزان إشارة لإجراء العدل والإنصاف ولذلك قال عنهم «تزنون ظلم أيديكم». وما كان يحسبه الناس عدلاً لم يكن في الحقيقة سوى الظلم عينه.
(٣) إن هؤلاء الأشرار قد زاغوا منذ نشأتهم الأولى ولم ينفعهم التأديب شيئاً. وكان سبب ضلالهم الأعظم لما يطلبه الحق والواجب لأنه أي عقوق أعظم من أن يعق الابن أباه؟ وأي عذر أكبر من أن يغدر الإنسان بوالده ويتكلم عن صيته زوراً وبهتاناً.
«٤ لَهُمْ حُمَةٌ مِثْلُ حُمَةِ ٱلْحَيَّةِ. مِثْلُ ٱلصِّلِّ ٱلأَصَمِّ يَسُدُّ أُذُنَهُ، ٥ ٱلَّذِي لاَ يَسْتَمِعُ إِلَى صَوْتِ ٱلْحُواةِ ٱلرَّاقِينَ رُقَى حَكِيمٍ. ٦ اَللّٰهُمَّ كَسِّرْ أَسْنَانَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمِ. ٱهْشِمْ أَضْرَاسَ ٱلأَشْبَالِ يَا رَبُّ. ٧ لِيَذُوبُوا كَٱلْمَاءِ، لِيَذْهَبُوا. إِذَا فَوَّقَ سِهَامَهُ فَلْتَنْبُ».
(٤) مشهور عن الحية أنها عدو قديم للإنسان (راجع تكوين ٣: ١٥) ولذلك فالمرنم يشبه عداوة هؤلاء بالحية وبحمتها السامة القتالة. فبعد أن يلخص شر هؤلاء الأشرار بأنه كذب متأصل في القلب ولا شيء يذبله أو يخففه يعود إلى هذه العبارات الشديدة التي تتعاقب الواحدة بعد الأخرى كأنه النبال الشديدة ترمي هؤلاء الأعداء. وهم ليسوا في عداوة بسيطة إذ ليس كل الحيات سامة بل هم مثل أنحس أنواعها مثل الصل الذي لا يسمع ولأنهم هم لا يسمعون ولا يرعوون عن غيهم لذلك فقد هووا إلى دركات الشر والرذيلة. ويظهر أن المرنم يعتقد بأنه يوجد أناس أشرار بالطبع ولا شيء من القوى البشرية تردعهم عن غيهم بل كلما حاول المصلحون إصلاحهم ازدادوا شراً فهم مجرمون جناة لا قبل للناس باحتمالهم.
(٥) فهم لا يستمعون حتى إلى الحواة الراقين الذين لهم «النفثات» السحرية والذين يعرفون أصول الفن والحكمة وهذا دليل أنهم لا يقبلون أية نصيحة. أما الحواة حسب رأي الأقدمين فهم الذين يضعون العقد على ألسنة الحيّات فلا تعض وفي الوقت ذاته يفكونها متى شاءوا. وهكذا فلا المحبة العميقة ولا الحكمة البشرية يمكنهما أن تغيرا شيئاً من النوايا السيئة المتأصلة في القلوب الخبيثة. ولأنهم كذلك فلم يبق أمام داود إلا أن يتمنى زوالهم من الوجود ويصلي لله من أجل أن يفعل ذلك معهم.
(٦) لا شك أن هذا العدد شديد جداً ولا سيما أن يقوله والد على ولده! وهذا منتهى الشقاء والمرارة القلبية التي ما بعدها مرارة! ويظهر أنه لقد كان حدود للمحبة الأبوية في قلب داود تنتهي عندها فيتمنى لهؤلاء الأعداء وإن يكن أبشالوم بينهم أن يهلكوا جميعاً متحطمين. ولكننا نرى من التاريخ المقدس أن داود حنق على يوآب بن صروية لأنه قتل أبشالوم يطلب أن تتهشم أسنانهم لكي لا ينهشوا بها وأن تذهب أضراسهم لكي لا يفترسوا بها الصالحين.
(٧) لا شيء يذهب سريعاً مثل الماء فهو لا يقوم بنفسه بل يحتاج لوعاء ويوضع فيه. ويطلب المرنم إذا كانوا جامدين في أماكنهم ربما كالجليد أو الثلج فليذوبوا وحينئذ فليسيلوا ويجروا حتى لا يستطيعوا أن يبقوا في مكان معين. كذلك هؤلاء الأعداء إذا استطاعوا أن يعدّوا أنفسهم ويحضروا سهامهم ويفوقوها على الآمنين فلا تسمح يا رب إن هذه السهام تصيب أحداً بل لتنبُ بعيداً.
«٨ كَمَا يَذُوبُ ٱلْحَلَزُونُ مَاشِياً. مِثْلَ سِقْطِ ٱلْمَرْأَةِ لاَ يُعَايِنُوا ٱلشَّمْسَ. ٩ قَبْلَ أَنْ تَشْعُرَ قُدُورُكُمْ بِٱلشَّوْكِ، نِيئاً أَوْ مَحْرُوقاً، يَجْرُفُهُمْ. ١٠ يَفْرَحُ ٱلصِّدِّيقُ إِذَا رَأَى ٱلنَّقْمَةَ. يَغْسِلُ خُطُوَاتِهِ بِدَمِ ٱلشِّرِّيرِ. ١١ وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ: إِنَّ لِلصِّدِّيقِ ثَمَراً. إِنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ قَاضٍ فِي ٱلأَرْضِ».
(٨) ما معنى في ذوبان الحلزون وهل هذا حقيقة أم هو من قبيل المجاز؟ وما علاقته مع سقط المرأة بقوله «مثل سقط المرأة لا يعاينوا الشمس!». يقول التلمود «إن الله لم يخلق شيئاً عبثاً فقد خلق الحلزون (البزاقة) لتشفي الجروح بأن توضع عليها». وهو الأرجح الحلزون العريان بدون بيته المعروف. وهنا يصف كيفية سيره البطيء كيف أنه يذوب ويتقلص في موضع لكي يمتد إلى الآخر وليس إذا ذوباناً بالفعل بل وصف سيره البطيء. هكذا هؤلاء الأعداء العاملون سراً سيكون نتيجتهم الاضمحلال وعدم الحياة كما هي الحالة مع السقط الذي لا يعيش.
(٩) لا فرق إذا كان لا يزال اللحم نيئاً أو بحالة الغليان وقبل أن يحترق الشوك تحت القدور. ولا يزال حتى اليوم أغلب النار التي تستعمل هي مثل هذا النوع في أغلب الأمكنة القروية ولا سيما في الشرق. إذاً فالطبخة التي حاول أبشالوم طبخها لم تنطبخ قط. إذ أن الله قد كشف عن مؤامرتهم وأفسد خططهم الشيطانية. وهذا دليل على أن الله لا يتخلى عن مراقبة الناس جميعاً فيعامل الصديقين بما يستحقونه من الخير كما أنه يعاقب الأشرار.
(١٠) وهنا ينتهي إلى الدينونة التي يدين الله بها الناس فإن النتائج ظاهرة للعيان. والفكرة الواضحة هنا هي من العهد القديم بالكلية. إن الصديق يشمت بأعدائه ويسر بأن يرى النقمة والجزاء العادل الصارم يصيبانهم. بل أنه يغسل أرجله بدماء هؤلاء الأشرار الذين يذبحون جزاء تمردهم وعصيانهم. ولا شك أن الصورة رهيبة ولا شيء من الحنو والرحمة فيها ولكن لا يغرب عن بالنا العصر الذي نحن بصدده كما لا ننسى أية إساءة قد سببها أبشالوم لوالده.
(١١) يفرح الصديق بالنتيجة التي يحصل عليها أخيراً فإن انخذاله إلى حين وكذلك فإن نجاح الأشرار إلى وقت محدود ليس إلا. وهكذا فكما أن الشجرة تثمر بعد مرور عواصف الشتاء هكذا فإن البار ببره يحيا ويتقدم. وحينئذ يتحقق الجميع بأن العدالة تعم الناس ويرون أن القضاء صارم وأنه يوجد إله يجريه ولا يبطئ قط (انظر الجامعة ٥: ٧ و٨). ولأنه ابتدأ بمخاطبة هؤلاء الحكام العتاة الظالمين الأشرار إذا به يتلفت إليهم أخيراً ويريهم أن القضاء الحق الدائم هو لله وحده.


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلْخَمْسُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «لاَ تُهْلِكْ». مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ لَمَّا أَرْسَلَ شَاوُلُ وَرَاقَبُوا ٱلْبَيْتَ لِيَقْتُلُوهُ.


«١ أَنْقِذْنِي مِنْ أَعْدَائِي يَا إِلٰهِي. مِنْ مُقَاوِمِيَّ ٱحْمِنِي. ٢ نَجِّنِي مِنْ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ، وَمِنْ رِجَالِ ٱلدِّمَاءِ خَلِّصْنِي، ٣ لأَنَّهُمْ يَكْمُنُونَ لِنَفْسِي. ٱلأَقْوِيَاءُ يَجْتَمِعُونَ عَلَيَّ، لاَ لإِثْمِي وَلاَ لِخَطِيَّتِي يَا رَبُّ».
هذا المزمور هو من أقدم المزامير التي كتبها داود وإذا اعتمدنا على العنوان كما هو أي حينما أرسل شاول من يترقب داود للفتك به وربما يشير هذا إلى ما ورد في (١صموئيل ١٩: ١١ وما يليه). وقد حاول شاول غير مرة وبطرق سرية مختلفة أن يتخلص من عدوه واستعان بالجواسيس من رجال القصر حتى كان الكامنون يترصدون له طول الليل أحياناً لكي يتمموا ما أُمروا به. ولا شك أنه بواسطة المزامير وكتب النبوءة يمكننا أن نخترق بأبصارنا إلى أعماق معنى الحوادث الجارية ونفهم التاريخ بواسطتها على شرط أن نستعمل قوة الاستنتاج والاستقراء. ويظهر إن هذا المزمور يناسب المساء أكثر من الصباح إذ يصف المرنم تلك الأيام الخطرة في جبعة.
(١) في الأعداء الثلاثة الأولى من هذا المزمور نرى أفكاراً متشابهة ونسمع حديثاً طالما سمعناه مكرراً من مختلف المزامير. إن داود هنا كان محاطاً بزمرة شريرة من رجال الدماء المغتالين الذين لا يخافون الله ولا يهابون أي إنسان. فداود بحالة حصار وضيق ويستنجد طالباً الخلاص. ويظهر أن إلهه في غفلة أو انشغال عنه حتى لا يُعنى به ولا يكترث بحاله على الإطلاق. هؤلاء هم أعداء وهم مقاومون لا يسمحون له أن يرتاح بالاً أو يستقر على شيء أو ينعم حالاً بأي وجه من الوجوه.
(٢) هو في خطر مداهم شديد ويكرر الطلب نفسه أنقذني احمني نجني. والتوكيد المتكرر له ما يجيزه في هذه الحالة العصيبة. إنهم فاعلو إثم أي لا ضمير عندهم يبكتهم. هم دمويون لا قيمة للحياة البشرية في نظرهم. دأبهم التفظيع والقتل ولا يرعوون عن غيهم ولا يبالون بأي نصحٍ أو إرشاد. فهم إن أضمروا السوء يسرعون في إتمامه حالاً غير هيابين.
(٣) وفوق قوتهم الظاهرة وفوق تسلحهم بالأوامر الملكية هم يكمنون لإتمام مآربهم لذلك هم لا يتورعون عن أية وسيلة يتخذونها لنيل مآربهم. ولا ينكر المرنم عليهم قوتهم وبطشهم ومع ذلك فهم عديدون يتعاونون بكثرة على البريء الذي لم يرتكب إثماً ولا حمل وزر خطيئة في كل علاقاته مع شاول ومع رجاله.
«٤ بِلاَ إِثْمٍ مِنِّي يَجْرُونَ وَيُعِدُّونَ أَنْفُسَهُمُ. ٱسْتَيْقِظْ إِلَى لِقَائِي وَٱنْظُرْ. ٥ وَأَنْتَ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ ٱنْتَبِهْ لِتُطَالِبَ كُلَّ ٱلأُمَمِ. كُلَّ غَادِرٍ أَثِيمٍ لاَ تَرْحَمْ. سِلاَهْ. ٦ يَعُودُونَ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ، يَهِرُّونَ مِثْلَ ٱلْكَلْبِ وَيَدُورُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ. ٧ هُوَذَا يُبِقُّونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. سُيُوفٌ فِي شِفَاهِهِمْ. لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ سَامِعٌ؟».
(٤) وهم سريعون جداً في إتمام مآربهم الدنيوية إذ يركضون في إتمامها ركضاً. وسرعتهم هذه يبررها استعدادهم الكافي فهم يفعلون كل أمورهم الشريرة ويقتلون ويفتكون عن سابق تصور وتصميم. وهنا يستنجد بالله مخلصه الذي حسبه متغافلاً عنه ناسياً لعهوده معه. ويريد من الله أن يلاقيه عليهم حتى لا يشعر بالوحدة بعد بل يمكنه من أن يواجههم بكل بأس ويتغلب عليهم إذا كان الله مجتمعاً معه عليهم.
(٥) ونلاحظ قوة الاستنجاد من كثرة ما يذكر اسم الله فيقول يا رب إله الجنود إله إسرائيل. وهو يفعل ذلك لكي يزيد الكلام تأثيراً في نفس السامع وحينئذ فإن الله يتحنن عليه ويرحمه. ينبه الله لكي يطالب الأمم عما يسيئون به ولا سيما عمق مطالبه وما يترجاه فينهي بارتفاع في ضربات الموسيقى (سلاه).
(٦) في هذا العدد يبدأ القسم الآخر من المزمور فيصف حركات هؤلاء الأعداء وتصرفاتهم. يبدأون حركاتهم العدائية في المساء والليل يهرون ويدورون في المدينة كالكلاب (راجع أيوب ٢٤: ١٤). ويهرّون ولا ينبحون أي بأصوات خافتة لئلا ينفضح أمرهم فهم يرتكبون إثمهم في الخفاء على كل حال. ومهما حاولوا الخفاء فإن أصواتهم مسموعة وكذلك حركاتهم في المدينة لا يمكن أن تختفي عن عين المراقب. وحتى اليوم نجد الكلاب تتجول طليقة في كثير من مدن وقرى الشرق وأصواتها وحركاتها مألوفة للكل.
(٧) وهم يتجولون في المدينة يخرج من أفواههم كلمات يرغون ويزبدون بها. وهوذا ألسنتهم تظهر كأنها سيوف مسلولة حاضرة للفتك والتفظيع. وكلامهم قاس جارح لأنهم يتفوهون به غير حاسبين لأحد حساباً. زاعمين أن لا أحد يسمعهم ماذا يقولون كما أن لا أحد يراهم فيما يتآمرون عليه ويكمنون.
«٨ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَتَضْحَكُ بِهِمْ. تَسْتَهْزِئُ بِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ. ٩ مِنْ قُوَّتِهِ إِلَيْكَ أَلْتَجِئُ، لأَنَّ ٱللّٰهَ مَلْجَإِي. ١٠ إِلٰهِي رَحْمَتُهُ تَتَقَدَّمُنِي. ٱللّٰهُ يُرِينِي بِأَعْدَائِي. ١١ لاَ تَقْتُلْهُمْ لِئَلَّا يَنْسَى شَعْبِي. تَيِّهْهُمْ بِقُوَّتِكَ وَأَهْبِطْهُمْ يَا رَبُّ تُرْسَنَا».
(٨) بينما هؤلاء الأعداء يذهبون متجولين على هذه الصورة لا يعبأون بأحد ولكن الله لا شك يضحك منهم ولا يسمح لهم أن ينالوا مرادهم. لأن أي سر يمكن أن يختفي عن الرب الإله وأي قصد سيء يمكن للإنسان أن يبقيه في قلبه حتى لا يعلم به الله العلي العليم؟ فهو يضحك من كل الأمم على السواء. وهؤلاء الأعداء لا يستحقون أن يسموا من شعب الله فهم غرباء بمبادئهم وأفعالهم إن لم يكن في نسبهم وحقيقتهم. هم يخافون النور لذلك يعملون عملهم الإجرامي في الظلام. ينوون سراً ويحاولون التنفيذ على حين غفلة من الكل ولكن هل يفعل الله فهو يضحك منهم ويستهزئ بجميع أفعالهم ولا يمكن أن يتمموها بدون أمره الإلهي.
(٩) يمكن ترجمة هذا العدد «يا قوتي إليك ألتجئ...» أما إذا بقيت العبارة كما كانت سابقاً فيكون أن داود يلتجئ للرب من قوة أعدائه. فمهما كان هؤلاء الأعداء أقوياء فإن الله أقوى منهم (انظر ١صموئيل ٢٦: ١٥ و٢صموئيل ١١: ١٦) هنا اعتراف صريح من المرنم أنه لا يستطيع أن يخلّص نفسه ولكن ماذا يهمه طالما الله ملجأه.
(١٠) في هذا العدد يخفت صوت الرعب والخوف بل تتبخر من فكره تماماً كما يزول الضباب أمام شمس الصباح. هوذا نور الرجاء يشع أمامه. لأن رحمة الله هي التي تتقدم بينما هو يمشي وراءها كإنما هي عمود السحاب الذي رافق شعب إسرائيل وهم في وسط مخاطر البحر الأحمر. وقد يكون المعنى أن الله يهرع لاستقباله كما يفعل أحدهم مع إنسانٍ لاجئ خائف من خطر مداهم. إن الله لذلك ينتظرني فأهرع إليه وأنجو من الأعداء مهما كانوا أقوياء ويكيدون عليَّ.
(١١) وهو يرجو لهم أن لا يقتلوا حالاً لئلا لا يرى بقية الشعب خلاص الله. عليهم أن يذكروا أن الله مخلّص حقيقي. وهؤلاء الأعداء وهم يكمنون طالبين أن يفتكوا بالبريء إذا بهم يتيهون عن قصدهم ويهبطون للهاوية. فبدلاً من النجاح يكون نصيبهم العار وبدلاً من الحماية يكون نصيبهم التيهان. ذلك لأن الرب هو ترس المؤمن يحفظه من كل ضرر.
«١٢ خَطِيَّةُ أَفْوَاهِهِمْ هِيَ كَلاَمُ شِفَاهِهِمْ. وَلْيُؤْخَذُوا بِكِبْرِيَائِهِمْ، وَمِنَ ٱللَّعْنَةِ وَمِنَ ٱلْكَذِبِ ٱلَّذِي يُحَدِّثُونَ بِهِ. ١٣ أَفْنِ بِحَنَقٍ أَفْنِ وَلاَ يَكُونُوا، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ ٱللّٰهَ مُتَسَلِّطٌ فِي يَعْقُوبَ إِلَى أَقَاصِي ٱلأَرْضِ. سِلاَهْ. ١٤ وَيَعُودُونَ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ. يَهِرُّونَ مِثْلَ ٱلْكَلْبِ، وَيَدُورُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ».
(١٢) من يستطيع أن ينكر خطية الأفواه والشفاه لأننا سوف ندان أيضاً على كلامنا كما على تصرفاتنا ويظهر أن المرنم مغتاظ جداً من هؤلاء الأعداء بالنسبة لمكرهم وكذبهم وريائهم. وكلامهم هو بالصلف والعجرفة لا يعتدون بأحد ولا يحسبون لأي الناس حساباً. ولكن لا شك قبل السقوط تشامخ الروح أي ليكن كلامهم وكذبهم عليهم للهلاك فبدلاً من أن يهلكوا به الآخرين إذا هم به يهلكون. ولا يكتفون بالكذب بل يستعملون اللعنة وأفظع كلام التقريع والتنديد وليكن ما يحدثون به عائداً عليهم بالهلاك.
(١٣) هنا يشتد غضب المرنم على أعدائه ويطلب إلى الله أن لا يبقي منهم أحداً. وحجته في ذلك لكي يتمجد اسم الله بواسطة هذا العمل وحينئذ يظهر للناس جميعاً أن الله هو الحاكم على العالمين بيده زمام كل شيء ونفس كل حي. وينتهي بارتفاع الموسيقى.
(١٤) ويعود إلى صورة الكلاب التي يصورها عن هؤلاء المطاردين الذين أرسلهم شاول لملاحقته والقبض عليه. ولا يمكن أن تبتعد عنه هذه الصورة المؤثرة إن هؤلاء أشبه بالكلاب لخدمة أسيادها وراء طريدة لا ينتفعون هم منها ولكنهم يفعلون ذلك مرضاة لأسيادهم الذين لهم عليهم حق التصرف كالعبيد الأذلاء (راجع أيوب ١٥: ٢٣). هؤلاء الكلاب يتجولون هكذا طلباً للطعام فهم في حالة العوز ويصرفون الليل في تفتيشهم هذا وقد يبقون هكذا جائعين كل الوقت أيضاً.
«١٥ هُمْ يَتِيهُونَ لِلأَكْلِ. إِنْ لَمْ يَشْبَعُوا وَيَبِيتُوا. ١٦ أَمَّا أَنَا فَأُغَنِّي بِقُوَّتِكَ، وَأُرَنِّمُ بِٱلْغَدَاةِ بِرَحْمَتِكَ، لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي وَمَنَاصاً فِي يَوْمِ ضِيقِي. ١٧ يَا قُوَّتِي لَكَ أُرَنِّمُ، لأَنَّ ٱللّٰهَ مَلْجَإِي إِلٰهُ رَحْمَتِي».
(١٥) فهؤلاء الناس الدمويون يظل حنينهم إلى سفك الدم. هم يجوعون إليه كما يجوع الكلب للطعام. وقلما يشبعون من ذلك لكي يرعووا عن غيهم ويبيتوا بعيدين عن داعي فتكهم بالأبرياء أمثال هذا المرنم.
(١٦) وهنا تظهر عوامل الإيمان في قلب المرنم إذ في وسط هذه الحالة الصعبة يجد أنه يستطيع الغناء. فيقوم في الغداة (أي الصباح) بعد أن قضى ليلته فزعاً أرقاً إذا به الآن مطمئن لا يخاف شراً من أي الناس. والسبب في ذلك هو أن الله كان ملجأه وعونه. فأعطاه نجاة لم يكن يحلم بها وخلاصاً أكيداً وهكذا تحوّل ضيقه إلى فرج وهمه إلى ترنم. فكان إيمانه محققاً بنتيجته التي لمسها الآن كما لمسها وتحققها من قبل مرات كثيرة.
(١٧) وما أجمل ختام هذا المزمور. فيرى في ضعفه قوة تسنده ويرى في وسط خوفه الشديد ملجأ أميناً حصيناً لا يمكن أن يتزعزع. ويكون أن الدافع لذلك لا ما يستحقه هو بحد ذاته بل إن رحمة الله شملته وإحسانه الإلهي جعله في هذا الأمان الذي لا يتمكن الأشرار معه أن ينالوه بأي سوء.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسِّتُّونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى اَلسَّوْسَنِّ. شَهَادَةٌ مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ لِلتَّعْلِيمِ. عِنْدَ مُحَارَبَتِهِ أَرَامَ ٱلنَّهْرَيْنِ وَأَرَامَ صُوبَةَ، فَرَجَعَ يُوآبُ وَضَرَبَ مِنْ أَدُومَ فِي وَادِي ٱلْمِلْحِ ٱثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً.


«١ يَا اَللّٰهُ رَفَضْتَنَا. ٱقْتَحَمْتَنَا. سَخَطْتَ. أَرْجِعْنَا. ٢ زَلْزَلْتَ ٱلأَرْضَ. فَصَمْتَهَا. ٱجْبُرْ كَسْرَهَا لأَنَّهَا مُتَزَعْزِعَةٌ. ٣ أَرَيْتَ شَعْبَكَ عُسْراً. سَقَيْتَنَا خَمْرَ ٱلتَّرَنُّحِ».
هذا المزمور هو إحدى المذهبات التابعة لما تقدم والتي نظمها داود في ظرف معين وهي آخرها في هذه السلسلة. عند محاربته أرام النهرين (أي ما بين النهرين) وأيضاً أرام صوبة والأرجح هم الذين سكنوا بين الفرات والعاصي. كما أن أيوب كان قد ضرب أدوم في وادي البحر الميت (بحيرة لوط). وعرضها نحو عشرة أميال للجنوب من هذه البحيرة. ويذكر أنه ضرب منهم اثني عشر ألفاً وإذا راجعنا النص التاريخي الوارد في (٢صموئيل ٨: ١٣ أو ١أخبار ١٨: ١٢) نجد العدد ثمانية عشر ألفاً. وقد ورد أسماء ثلاثة من القواد هم يوآب وأبيشاي وداود ذاته ولكن هذه الصعوبة تزول إذا حسبنا أن داود هو الملك وأن يوآب هو القائد وأبيشاي أخوه فتنسب المعركة للقائد العام لأجل الاختصار أو للملك أيضاً. وعنوان المزمور يعود بنا تذكاراً لأهم وأمجد حرب قامت في أيام داود حينما انتصر على العمونيين وأحلافهم واستولى على ربة (راجع مزمور ٢١). وفيما كان انتصار داود في الشمال اغتنم الأدوميون هذه الفرصة لكي يضربوا من الجنوب ولذلك كان على الجيش المنتصر أن يرتد على هؤلاء الأعداء الجدد ويسحقهم أيضاً. وهذا المزمور يشير بصورة جلية إلى هذه الحرب ضد الأدوميين الذين حاولوا استغلال الموقف وضرب بني إسرائيل من الوراء.
(١) يبدأ المزمور بالشكوى والعتاب فإن الله صديق شعبه ولا غرو إذا عاتب الصديق صديقه. فيقول أهكذا رفضتنا ساخطاً وهاجمتنا بيد هؤلاء الأعداء. ولكن لا سبيل للرجوع بعد.
(٢) هوذا الأرض كلها من هول المصائب تئن فهي تظهر مكسورة لذلك لنا رجاء أن تجبر فيها ما انكسر وتثبت ما تزعزع وانهدم. والطلب من الله هو من باب الترجي المقدم بكل دعة وانكسار وذلة نفس.
(٣) هوذا الشعب في ضيق وعسر عظيم. وأصبحوا من جراء هموهم وأحزانهم بالنسبة للخسائر في الأرواح والأموال كأنهم في سكر وترنح من حالة الشدة التي هم فيها وهم لا يدرون ماذا يفعلون. وقد أخذ الأنبياء هذه الفكرة «خمر الترنح» ووضعوها في كتاباتهم أيضاً (انظر مثلاً إشعياء ٥١: ١٧ و٢١).
«٤ أَعْطَيْتَ خَائِفِيكَ رَايَةً تُرْفَعُ لأَجْلِ ٱلْحَقِّ. سِلاَهْ. ٥ لِكَيْ يَنْجُوَ أَحِبَّاؤُكَ. خَلِّصْ بِيَمِينِكَ وَٱسْتَجِبْ لِي. ٦ اَللّٰهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِقُدْسِهِ. أَبْتَهِجُ. أَقْسِمُ شَكِيمَ وَأَقِيسُ وَادِيَ سُكُّوتَ. ٧ لِي جِلْعَادُ وَلِي مَنَسَّى، وَأَفْرَايِمُ خُوذَةُ رَأْسِي. يَهُوذَا صَوْلَجَانِي».
(٤) لقد ترجم بعضهم هذا العدد بقوله «أعطيت خائفيك راية ترفع للكسرة لا للنصرة». ولكن أغلب المترجمين قد ذهبوا عكس ذلك. ويظهر أن المعنى هو أنه بالرغم من حالة الذل والانكسار التي وصلنا إليها فهبنا يا رب راية لكي ننضوي تحتها ونجتمع معاً غير متزعزعين وذلك ليس لأي شيء فينا نتوسل به بل لأجل الحق والعهد الذي قطعته مع شعبك. فليكن لنا إذاً من هذا أمل ورجاء.
(٥) وحينما يكون لنا مثل هذا الأمل ينفتح أمامنا باب النجاة ونخلص بيمينك من كل ضيق وتستجيب لنا هذه الصلاة. وقد يكون أن هذين العددين معناهما هو أن الله يسند شعبه الساقط المندحر فينهض ويرتفع الشعب (وليس الراية ذاتها إلا من باب المجاز) أي لا ترتفع الراية إلا بارتفاع الشعب أيضاً. وهكذا يظهر الله خلاصه ويسند شعبه ويرفعهم من سقطتهم ويوقفهم مرة أخرى أشداء غير خائفين. وقوله «بيمينك» أي زيادة العناية والاهتمام حينئذ يكون هذا الخلاص كاملاً لا يشوبه شيء. وقد يكون قوله لأجل الحق في العدد الرابع أي أن حربنا مع هؤلاء الأعداء هو للدفاع عن الحق الذي اغتصب منا. فإن هؤلاء الأعداء قد ظلموا ونكثوا العهد ولم يرعوا أية حرمة.
(٦) هنا قول إلهي يخرج كإنما من فمه هذا القول يتناول الأعداد السادس والسابع والثامن. فيتكلم عن شكيم ووادي سكوت (وهي الأرض الكائنة على الجانب الغربي من الأردن جنوبي بيسان التي كانت تسمى سيتوبوليس. وقد يكون أن هنالك أرضاً أخرى سميت بهذا الاسم الجانب الآخر من الأردن انظر قضاة ٨: ٤ وما يليه أيضاً راجع يشوع ١٣: ٢٧) وجلعاد ومنسى وأفرايم ويهوذا أنها كلها خاصته. ويلتفت إلى البلدان العدوة المجاورة فيحتقرها قائلاً أن موآب مرحضة فهي آنية للاغتسال فقط وأما أدوم فهي ليست إلا للدرس وأما أرض الفلسطينيين كلها يهتف باسم رب الجنود المنتصر عليها جميعاً (راجع ٢صموئيل ٧: ٩ وما يليه). قد يكون أن الله قد تكلم بفم كاهن بواسطة الأوريم والتوميم بما فيه الثقة الكاملة أن النصر النهائي هو لشعب الله (انظر عاموس ٤: ٢).
(٧) يعدد في هذا مدى الأملاك المجتمعة التي تؤلف مملكة داود. وحينما يصل لأفرايم التي يكنى بها عن مملكة الشمال بعد ذلك يقول عنها أنها رأسه. وهوذا الصولجان أي عصا الملك وكلاهما ضروريان للمحافظة على السيادة وربط المملكة كلها في جسم قوي متماسك واحد.
«٨ مُوآبُ مِرْحَضَتِي. عَلَى أَدُومَ أَطْرَحُ نَعْلِي. يَا فِلِسْطِينُ ٱهْتِفِي عَلَيَّ. ٩ مَنْ يَقُودُنِي إِلَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُحَصَّنَةِ؟ مَنْ يَهْدِينِي إِلَى أَدُومَ؟ ١٠ أَلَيْسَ أَنْتَ يَا اَللّٰهُ ٱلَّذِي رَفَضْتَنَا وَلاَ تَخْرُجُ يَا اَللّٰهُ مَعَ جُيُوشِنَا؟ ١١ أَعْطِنَا عَوْناً فِي ٱلضِّيقِ، فَبَاطِلٌ هُوَ خَلاَصُ ٱلإِنْسَانِ. ١٢ بِٱللّٰهِ نَصْنَعُ بِبَأْسٍ، وَهُوَ يَدُوسُ أَعْدَاءَنَا».
(٨) ومن هي موآب يقول المرنم سوى وعاء للاغتسال. هي ذليلة جداً لا تستطيع أن ترفع رأسها أو تقاوم نفوذاً يبسط عليها بسهولة. بل تأتي للملك سيدها صاغرة ذليلة. وإن تكن هي نفسها تدعي العزة والامتناع. كما وأن أدوم المحتالة التي تغتنم فرصة لتضرب من وراء الظهر فهي لا تستحق إلا أن يطرح عليها النعل دليل بسط السيادة الكاملة عليها وإخضاعها. كما وأن أرض الفلسطينيين وإن يكن فيها رجال أشداء محاربون فهم أيضاً يهتفون بالنصر للملك العظيم. وقد ورد في كلام العرب «ما كنت نعلاً» أي لا يستطيع أن يدوس أذيالي ويمتهن كرامتي. وقد ورد حذاء مترادفة للزوجة (راجع قاموس لاين تحت حذاء) وحينما يخلع الرجل نعله أي يترك امرأته. وحتى الآن في بلاد الحبشة إذا رمى أحدهم نعله على شيء دليل امتلاكه.
(٩) هنا يبدأ كلام آخر وإذا بالمرنم بعد هذا التصريح الإلهي ينهض مستدلاً أين أدوم؟ أين المدينة المحصنة التي سببت للشعب هذا الويل وتستحق أن ينزل بها العقاب الشديد. وهذا العدد مع الأعداد التي تليه كلها قوة وحماسة وإن تكن ابتهالاً إلى الله لأجل الغلبة والانتصار. أما المدينة المحصنة التي يعنيها فهي «صلع» أو المعروفة بالبتراء اليوم. وقوله من يقودني هو صرخة لأجل النصرة. فقد مضى وقت السكوت والاستسلام للعدوّ.
(١٠) ولكن المرنم حالاً لا يطلب مجداً لنفسه إذ أن القائد الحقيقي هو الله ذاته. فكما أن ذلة الإنكسار كانت بسبب تخلي الله عنهم كذلك فإن النصر هو بالله يعود فقط. من قبل لم يخرج مع الجيوش وأما الآن فهو في المقدمة. فما كان من قبل انكساراً يصبح الآن انتصاراً كاملاً. إن الملك وجيشه هم في قلب المعمعة الحامية والضائقة تحيط بهم ولكن الفرج لا بد قادم محقق.
(١١) هذه صرخة الإيمان الذي لا يتغير ولا يزول. إن عون الله هو في الضيق أي في الوقت الذي نحتاجه حاجة قصوى. وإن الإنسان لا عون منه إذ هو باطل ولا يستطيع شيئاً في الشدة. فالقوة هي من العلاء. فكما أن الله من قبل قد رفض شعبه يعود الآن إليهم بالرضى.
(١٢) وحينئذ يكون ما نصنعه آيلاً للمجد والسؤدد. وإذا هؤلاء الأعداء لا يستطيعون الوقوف في وجهنا أو الثبات في مقاومتنا. ذلك لأن الله عوننا وهو يحارب ضدهم. وهؤلاء الأعداء الساكنون في الصحراء سوف يكون نصيبهم الانخذال. بالله ينتصر إسرائيل والله موجود في وسطه وهو إلههم ولذلك فإن قصده سيتمم ولا يحيد عنه أبداً.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلسِّتُّونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ. لِدَاوُدَ


«١ اِسْمَعْ يَا اَللّٰهُ صُرَاخِي وَٱصْغَ إِلَى صَلاَتِي. ٢ مِنْ أَقْصَى ٱلأَرْضِ أَدْعُوكَ إِذَا غُشِيَ عَلَى قَلْبِي. إِلَى صَخْرَةٍ أَرْفَعَ مِنِّي تَهْدِينِي. ٣ لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي، بُرْجَ قُوَّةٍ مِنْ وَجْهِ ٱلْعَدُوِّ».
نرى أن داود يبدأ مزاميره عادة بلهجة الكآبة والحزن ويستعمل التضرع والابتهال بل الصراخ وطلب النجدة ولكنه ينتهي بالفرح والحمد والثناء. ويظهر أن كتابة هذا المزمور كانت في وقت نفي فيه من وجه شاول وقد يكون في وقت هربه من وجه أبشالوم ابنه لأنه يسمى نفسه ملكاً. وهو مزمور على ذوات الأوتار بعد أن انتهى من مذهباته الأربع كما رأينا سابقاً. أي مزمور يمكن غناؤه على آلة موسيقية فيها أوتار. لأن انتهاء الكلمة العبرانية «ات» مأخوذ عن الفينيقية وتدل على التأنيب دائماً. وإن يكن قد وجد خلاف بين علماء التفسير عن زمان كتابته حتى أن بعضهم حسبه موجهاً لكورش الفارسي أو لأيام الملوك السلوقيين ولذلك لم يعيروا الكتابة لداود أقل اهتمامهم. ولكن الرأي الأوفق للصواب هو أنه كتب حينما ارتد جيش داود رابحاً المعركة ضد أبشالوم في غابة أفرايم. والمزمور يتألف من قسمين كل منهما يحوي أربعة مقاطع ذات ثمانية سطور.
(١) هذا صراخ الاستغاثة وطلب النجدة. والصلاة تكون ذات تأثير وفاعلية متى خرجت من أعماق القلب فتصعد إلى السماء. وداود لأنه خرج من قصبة ملكه ذليلاً مهاناً وقطع الأردن للناحية الثانية فهو يرى كأنه أصبح في بلاد بعيدة جداً يحسبها أقصى الأرض. والسبب في ذلك راجع إلى مقدار شعوره بالبعد النفسي إذ قلبه في غشيان ولا يجد من ينجده لذلك فهو يسكب نفسه بالصلاة والدعاء راجياً من الله أن يرحمه ويهديه.
(٢ و٣) وكلمة «غشي» العبرانية تفيد معنى التلوي والانعطاف من الألم. فقد كان المرنم في ضيق عظيم لا شيء حوله حقيقي وثابت بل كل شيء متزعزع متغير فلا عجب إذا طلب صخرة أرفع منه يتسلق إليها وينجو بنفسه فيكون على أرض تستطيع حمله ولا تترجرج تحته قط. وهذا التعبير إن الله صخرة وملجأ وحصن ويستره تحت جناحيه كله قديم (راجع أمثال ١٨: ١٠). وحسب التعبير العربي فإن الله يقبل أن يجيره من مصاب هو فيه ويرضى أن يقبله جاراً له. ولا ينسى أن هذا العون هو أعلى منه فهو ينظر إلى فوق لكي يناله وهو (أي الله) يهديه إليه بواسطة هذا الارتفاع (انظر إشعياء ٣٨: ١٠ وإرميا ٤: ٢١).
«٤ لأَسْكُنَنَّ فِي مَسْكَنِكَ إِلَى ٱلدُّهُورِ. أَحْتَمِي بِسِتْرِ جَنَاحَيْكَ. سِلاَهْ. ٥ لأَنَّكَ أَنْتَ يَا اَللّٰهُ ٱسْتَمَعْتَ نُذُورِي. أَعْطَيْتَ مِيرَاثَ خَائِفِي ٱسْمِكَ. ٦ إِلَى أَيَّامِ ٱلْمَلِكِ تُضِيفُ أَيَّاماً. سِنِينُهُ كَدَوْرٍ فَدَوْرٍ. ٧ يَجْلِسُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٱجْعَلْ رَحْمَةً وَحَقّاً يَحْفَظَانِهِ. ٨ هٰكَذَا أُرَنِّمُ لٱسْمِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ. لِوَفَاءِ نُذُورِي يَوْماً فَيَوْماً».
(٤) يطلب أن يسكن مطمئناً قرب الله. والأصل العبراني يدل على طلب الجوار أي الاحتماء بموقدة البيت. بل نجد التعبير يدل على أكثر من ذلك فهو يطلب الحماية بستر جناحي الله. إذ يشعر كما يشعر الفرخ أن لا حماية له ولا دفء إلا بعد أن تحتضنه الأم وتحميه وتقيه من المعاطب. ولا ننسَ أن في تلك الأيام كانت خيمة الاجتماع فقط ولم يكن قد بني الهيكل بعد. فكان المسكن ينتقل من مكان لآخر. فإذاً هذه الحماية التي يطلبها هي من شخص الله وليس في مكان معين.
(٥) والمرنم يرى أن الله قد استمع لصوته واستجابه. فإن حياته غالية في عينيه وكذلك فإن ملكه سيعود إليه ويبقى الميراث لمن يستحقه من أولاد غير عقوقين كما كان أبشالوم يقبل الله الصلاة ويرضى عن النذور (راجع ٢صموئيل ١٥: ٢٥ وما يليه) وسيعيد إليه كل الأرض التي اغتصبها الغاصب فهو سارق ولا يمكن أن يبقى الملك في يد أناس كهؤلاء.
(٦) ولا يكتفي الله بأن يرجع الحق إلى نصابه والملك إلى ملكه. بل يباركه شخصياً بأن يضيف على أيامه أياماً بعد ويتبعها بالسنين. وهكذا فإن الله قد تبنى قضية داود ولا يتركه جانباً بل يحفظه ويباركه. يقويه ويرعاه ويطيل حياته في خدمة الناس وعبادة ربه. وكأنما ما مضى عليه من أوقات الحسرات بسبب عقوق الابن وتمرد الشعب سيعوّض الله عليه أياماً سعيدة يفرح فيها ويملك قرير العين ناعم البال.
(٧) وهكذا يكون شأنه أنه يجلس للعبادة والورع أمام الله مترنماً بجوده وإحسانه مقدماً له آيات الاعتراف بالجميل على كل الحسنات التي صنعها معه. وقد قدم الرحمة لأنه قد احتاجه الملك أولاً في ضيقه ولولاها لما ثبت له شيء من السؤدد والملك. وهوذا بعد ذلك يملك بالحق لأنه الملك الشرعي بلا منازع.
(٨) ويختم هنا بالابتهاج المفرح والترنم لأن بعد الشدة يأتي الفرج وقد جاء هذا كاملاً أفلا يحق للمرنم أن يذيع شكر مولاه وحمده. بل سيفعل ذلك أبداً ولا ينسى قط ما قدمه من نذور في وقت ضيقه بل سيذكر الله الآن في فرجه ووقت سلامه وطمأنينته كما فعل من قبل لأن الأمانة تقضي أن يبقى الإنسان أميناً لإلهه في جميع الظروف والأحوال.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلسِّتُّونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «يَدُوثُونَ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ إِنَّمَا لِلّٰهِ ٱنْتَظَرَتْ نَفْسِي. مِنْ قِبَلِهِ خَلاَصِي. ٢ إِنَّمَا هُوَ صَخْرَتِي وَخَلاَصِي مَلْجَإِي. لاَ أَتَزَعْزَعُ كَثِيراً. ٣ إِلَى مَتَى تَهْجِمُونَ عَلَى ٱلإِنْسَانِ؟ تَهْدِمُونَهُ كُلُّكُمْ كَحَائِطٍ مُنْقَضٍّ، كَجِدَارٍ وَاقِعٍ!».
لقد وضع هذا المزمور قريباً من المزمور سابقه لوجود عددٍ من النقاط المتشابهة بينهما وهو يرجّح أنه كتب أيضاً في عهد الهرب من وجه أبشالوم. وهو معنون على يدوثون (وقد سبق الكلام عن ذلك في المزمور التاسع والثلاثين فليراجع). وهو من جهة موضوعه قرين وشبيه بالمزمور التاسع والثلاثين وكذلك من جهة تركيبه البياني والشعري.
(١) إن المرنم وإن يكن بحسب كل الظواهر قد خسر كل شيء. ومع ذلك فهو لم ييأس بل ينظر إلى الجهة المشرقة. وهكذا بينما يرى الوجوه الكالحة الكثيرة حوله والتي تناصبه العداء إذا به يلتفت إلى الله بروح التسليم والخضوع. وتسليمه ليس من قبيل الرضوخ للقضاء والقدر بل اقتناعاً منه أن الله لا يتخلى عنه قط (انظر ٢صموئيل ١٢: ٧ - ١٣).و هو يردد كلمة «إنما» ترديداً ظاهراً يلفت النظر. وما أجمل هذه البداءة! إذ ينتظر الرب بكل صبر وأمل. والانتظار معناه أنه إذا كنا قد عزمنا وصممنا نوايانا على بعض الأمور علينا أن نثبت عليها ولا نتزعزع. إن خلاصه هو من الله وليس منه شخصياً ولا من أي إنسان.
(٢) في هذا العدد يعود لتلك الفكرة الراسخة القديمة وهي أن الله صخرة وملجأ عليه الاتكال وبه المخبأ والملاذ الأمين. وحينئذ فإن تسليم الإنسان بهذه الحقيقة يجعله أيضاً راسخاً غير متزعزع مهما تقلبت الأحوال واشتدت الصعاب من كل جانب.
(٣) في قوله «تهجمون» يستعمل كلمة في العبرانية قريبة جداً لكلمة «هتّ أو هتك» العربية. أي أن هؤلاء الأعداء يحاولون أن يهتكوا الستر عني وبذلك يذلونني بكل ما لديهم من وسائل. فهم يتكلمون غيبة ويكذبون ويراؤون ويسببون كل أنواع الحط من الكرامة والشرف. وقد تكون الكلمة قرية من «هوّت». أي هوّت على فلان إذا صاح به قصد تعييره وإذلاله أمام جمهور من الناس. وأما التشبيه بأن مهاجمتهم ومحاولة هدمه بالجدار الساقط المنقض فهو من الأشياء المألوفة الوقوع في بنايات صغيرة قديمة إذا بها تنهار تحت ضرب بعض المعاول بأيدي العمال. وكإنما هم يريدون أن يهدموا ملك داود الذي أصبح متقدماً في الأيام لكي يقيموا مكانه أبشالوم وهو في ريعان الشباب عساه يكون أوفى ملكاً وأكثر إخلاصاً لشعبه.
«٤ إِنَّمَا يَتَآمَرُونَ لِيَدْفَعُوهُ عَنْ شَرَفِهِ. يَرْضَوْنَ بِٱلْكَذِبِ. بِأَفْوَاهِهِمْ يُبَارِكُونَ وَبِقُلُوبِهِمْ يَلْعَنُونَ. سِلاَهْ. ٥ إِنَّمَا لِلّٰهِ ٱنْتَظِرِي يَا نَفْسِي، لأَنَّ مِنْ قِبَلِهِ رَجَائِي. ٦ إِنَّمَا هُوَ صَخْرَتِي وَخَلاَصِي. مَلْجَإِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ. ٧ عَلَى ٱللّٰهِ خَلاَصِي وَمَجْدِي. صَخْرَةُ قُوَّتِي مُحْتَمَايَ فِي ٱللّٰهِ. ٨ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ يَا قَوْمُ. ٱسْكُبُوا قُدَّامَهُ قُلُوبَكُمْ. اَللّٰهُ مَلْجَأٌ لَنَا. سِلاَهْ».
(٤) هؤلاء القوم يتآمرون في أشياء لا يرضى عنها الشرف ولا الوجدان ولا سيما وإنهم يريدون أن يغروا ويبعدوا الآخرين عن شرفهم ويستعملون الحيل والكذب. وهم لا يجسرون أن يفعلوا ذلك جهارا بل تجدهم يباركون جهراً ويلعنون سراً. ثم ينتهي إلى ارتفاع في الموسيقى سلاه.
(٥) في هذا المقطع يعود المرنم لما بدأ كلامه به وهو الانتظار ويخاطب نفسه أن تتريث وأن تتمهل ولا تقدم على شيء تندم عليه بعد حين. ويعود الشاعر لتلك التأكيدات العاطفية وبإيمان غير متزعزع ولا منفصم يجابه أعداءه ويتغلب عليهم بقوة إلهه لا بقوته الشخصية. يريد أن يسكت نفسه ولا يسمح لها بالمورابة أو الخوف كما لا يسمح لها بالضجة وخسارة الإيمان ذلك لأن رجاءه الحق هو بالله ومن قبله كل قوة وخلاص. ولا شك أن إيماناً كهذا هو الذي يشدد العزيمة ويكوّن شخصية الإنسان ويجعله راسخاً كالجبل لا يتزعزع من صروف الزمان وتقلباته. ومما يعجبني بهذا الكلام هو خلوه من كل حقد أو حب انتقام فهو لا يتشفى بأحد ولا يطلب المجازاة.
(٦) مرة أخرى يبدأ كلامه «بإنما» وبتلك الفكرة القديمة إن الرب هو الصخرة والخلاص. يحق لمن كان مؤمناً على هذه الصورة أن يتكل على من هو حافظ للعهد جدير بمثل هذا الاتكال.
(٧) وكذلك في هذا العدد يتابع الفكرة ذاتها بأن بالله الخلاص والمجد منه الحماية والحفظ. نعم أن الإنسان في ساعة شدته وقنوطه عليه أن يلتفت إلى تلك القوة العلوية تسنده. ويرى أنه كان من حقه أن يوبخ نفسه على ساعات أخرى لم يكن له مثل هذا الإيمان. وقد حصل عليه باختباره حوادث مؤلمة مرت عليه فاتخذها لنفسه عبرة ودروساً والحكيم هو ذاك الذي يتعظ ويفهم وأما الجاهل فهو ذاك الذي لا يستطيع التمييز. فيرى المرنم أن الله يظهر مجده وقدرته بواسطة مصابه هذا وعليه الانتظار.
(٨) ثم يلتفت إلى أتباعه والذين بقوا معه رغم ظروفه الصعبة الحاضرة ويقول لهم «توكلوا عليه في كل حين يا قوم...» وما أجمله من التفات بعد أن يتأكد هذه الحقيقة يريد أن يعلمها للآخرين. وأفضل المعلمين هم ليسوا أدعياء العلم ولا المتكبرين بل هم الذين يأخذون اختباراتهم الشخصية ليضعوها أمامنا. وبعد أن استفادوا يريدوننا أن نستفيد مثلهم. وينهي كلامه بارتفاع الموسيقى مرة أخرى.
«٩ إِنَّمَا بَاطِلٌ بَنُو آدَمَ. كَذِبٌ بَنُو ٱلْبَشَرِ. فِي ٱلْمَوَازِينِ هُمْ إِلَى فَوْقُ. هُمْ مِنْ بَاطِلٍ أَجْمَعُونَ. ١٠ لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى ٱلظُّلْمِ وَلاَ تَصِيرُوا بَاطِلاً فِي ٱلْخَطْفِ. إِنْ زَادَ ٱلْغِنَى فَلاَ تَضَعُوا عَلَيْهِ قَلْباً. ١١ مَرَّةً وَاحِدَةً تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ، وَهَاتَيْنِ ٱلٱثْنَتَيْنِ سَمِعْتُ، أَنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلّٰهِ. ١٢ وَلَكَ يَا رَبُّ ٱلرَّحْمَةُ، لأَنَّكَ أَنْتَ تُجَازِي ٱلإِنْسَانَ كَعَمَلِهِ».
(٩) لقد خاطب إذاً قوماً مخصوصين وطلب منهم أن يستفيدوا من المثالة التي يلقيها عليهم. ولكنه في هذا العدد يلتفت إلى الشعب عموماً ويقول عنهم أنهم باطل وجميع أعمالهم باطلة. فإن محبتهم برياء وكذلك فصداقتهم عن مصلحة. وصحبتهم فيه كذب وبهتان لا تثبت إلا إلى حين. إذا وضعوا في الموازين فهم لا يساوون العيارات في الكفة الأخرى وهكذا فالإنسان أقل جداً مما نأمل منه. وهو باطل لأنه لا يستقر على حال. حتى الأمناء الخلص فهم قد نفقدهم بالموت أو الاغتراب ولا يكونون فيما بعد.
(١٠) يقول المرنم إن هؤلاء الناس الذين أقاموا أنفسهم عليكم قضاة وحكاماً إياكم أن تتكلوا عليهم فإن الظلم في أحكامهم محقق. ولذلك فإن هذا الملك الموقت الذي أقامه أبشالوم لنفسه بادعائه العدل والرحمة إنما هو في حقيقته ظالم. إذ أول ظلم ظهر هو ظلمه لأبيه بدلاً من إكرامه له وطاعته. ثم يحذرهم أن لا يخطفوا من يد أحدٍ شيئاً. لأن ذلك مكرهة أمام الرب. كما أنه يحذرهم من الغنى والمجد العالميين لئلا يضع الإنسان عليه قلباً ويحسب نفسه عظيماً على نسبة كثرة غناه وعظمة ماله. وفي هذا العدد نجد موعظة يريد المرنم من الناس أن يتعلموها لذلك فكلامه من قبيل الإجمال الذي يصدق على الجميع.
(١١) يقول إن الرب قد تكلم مرة وقد فاه أمام الناس بحقيقة مزدوجة وهي: أولاً أن الله هو مالك هذا الوجود كله يتصرف به كما يشاء ويحكم على كل ما هو أرضي ولذلك فلا شيء يحدث خارج إرادته أو بعيداً عن سلطانه وهكذا فكل مخالفة لمشيئته تعالى سوف تقف من ذاتها عاجلاً أم آجلاً. وثانياً أن من هذا الإله لنا الرحمة والرضوان. فهذا الإله القدير الخالق لكل شيء والحاكم بما يشاء هو رحيم غفور على قدر ذلك. يضع المرنم أمام عيوننا هاتين الحقيقتين اللتين اختبرهما بما مر عليه من حوادث الزمان وعبره ويريد اتباعه بالأخص وجميع الناس أن يفهموهما ويعترفوا بهما قبل فوات الآوان.
(١٢) وهذا الإله القدير الرحيم في الوقت ذاته هو ديّان العالمين يجازي كل إنسان عما فعله. لذلك فعلى الإنسان أن يصلح سلوكه وينقي أفكاره ولتكن علاقته بالله قوية متينة لا يزعزعها كرور الأيام بل يزيدها توثقاً وشدة (انظر رومية ٢: ٦). وأما الذين يجسرون على عصيان أمره تعالى والسير ضد مشيئته فسوف ينالهم العقاب الشديد ويندمون حين لا ينفع الندم أحداً شيئاً. وأما بانتظار المؤمن لإلهه فهذا الإله القدير الرحيم لا يتخلى ولا ينسى بل يعطيه قوة في حينها وجزاء موعوداً.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلسِّتُّونَ


مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ لَمَّا كَانَ فِي بَرِّيَّةِ يَهُوذَا


«١ يَا اَللّٰهُ إِلٰهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ، ٢ لِكَيْ أُبْصِرَ قُوَّتَكَ وَمَجْدَكَ كَمَا قَدْ رَأَيْتُكَ فِي قُدْسِكَ. ٣ لأَنَّ رَحْمَتَكَ أَفْضَلُ مِنَ ٱلْحَيَاةِ. شَفَتَايَ تُسَبِّحَانِكَ».
يختلف المفسرون في زمان كتابة هذا المزمور وماذا يعني ببرية يهوذا هذه. وقد ذهب بعضهم أنه كتب في أيام أبشالوم أيضاً كما كتب المزموران السابقان أي الحادي والستون والثاني والستون. ولكن بسبب شدة الكلام الأخير أي في العددين التاسع والعاشر ما يبعد هذا الاحتمال ويستبعد أن يتفوه أب على ابنه بمثل هذا الغضب واللعنة وداود كما هو معروف عنه قد حقد على يوآب لأنه قتل أبشالوم ابنه. كما أنه قد رثا ولده هذا بأعمق حاسات والدٍ محب حنون. وأرى أن التشبث في مثل هذه النسبة لا مبرر له قط. وقد يكون أن البرية التي يذكرها من قبيل المجاز البياني لكي يصور حالة من حالاته النفسية حينما كان شريداً بعيداً فقد كان في برية من نفسه أكثر من أية برية أخرى. وهذا المزمور يستعمل للصباح بقوله «إليك أبكر». ومن أوجه كثيرة يشبه المزمورين ٤٢ و٤٣ وإن تكن التسمية لبني قورح في أحدهما وهو المزمور الثاني والأربعون.
(١) ما أعمق هذا الكلام وما أجمله لافتتاح مثل هذا المزمور. فهو كلام محب بل متيم بالله. يستيقظ في السحر الباكر فيجد نفسه بعيداً عن الوطن والعمران وإذا به في برية قاحلة ناشفة بلا ماء ولكن الله هو ارتواؤه الحقيقي. وشوقه لله يشبهه بعطشه للماء لا سيما وهو في أرض معطشة (راجع مزمور ٤٢: ١).
(٢) الأفضل ترجمته هكذا: لأني في القدس أبصرتك فرأيت قوتك ومجدك. يعود المرنم بالذاكرة إلى الوطن وقد هاجر عنه الآن موقتاً فيرى مكاناً طالما صبا إليه وحنا قلبه عليه ألا وهو مكان العبادة (خيمة الاجتماع في ذاك الحين إذ لم يكن قد بني الهيكل بعد). والقدس هنا لا تعني بالطبع مدينة القدس بل المكان المقدس في نظره حيثما يجتمع بإلهه للعبادة والورع. لقد كان في البرية وما أقوى حنينه هناك لمكان الري والخصب لأن بضدها تتبين الأشياء.
(٣) لأول وهلة لا تظهر علاقة قوية بين قوله «لأن رحمتك أفضل من الحياة» وبين شفتاي تسبحانك. ولكن هذا العدد متصل بمعناه بالعدد الثاني. فإن المرنم بعد أن يتحقق من صدق ما يراه في الله يعطي حكماً بل يسدي نصحاً لكل إنسان بقوله إن رحمة الله هي الحياة ذاتها لأن بدونها لا حياة بل موت محقق. وبالتالي فلأن الله هو المحيي إذاً يستحق التسبيح من كل شفة. ولا شيء يوازي هذه الرحمة سوى قدرة الله ومجده.
«٤ هٰكَذَا أُبَارِكُكَ فِي حَيَاتِي. بِٱسْمِكَ أَرْفَعُ يَدَيَّ. ٥ كَمَا مِنْ شَحْمٍ وَدَسَمٍ تَشْبَعُ نَفْسِي، وَبِشَفَتَيْ ٱلٱبْتِهَاجِ يُسَبِّحُكَ فَمِي. ٦ إِذَا ذَكَرْتُكَ عَلَى فِرَاشِي، فِي ٱلسُّهْدِ أَلْهَجُ بِكَ، ٧ لأَنَّكَ كُنْتَ عَوْناً لِي، وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَبْتَهِجُ».
(٤) ولو كان الأن في حالة المتاعب بعيداً عن الأهل والعمران فهو مع ذلك متحقق من أن الله لن يتركه بل سيسد كل احتياجه وينجيه من كل ضيقاته ولذلك يصرخ من أعماق قلبه «هكذا أباركك» وثم رفع اليدين باسم الله معناه تقديم الدعاء ورفع الصلاة إليه تعالى لأن برفع اليدين رمزاً للسجود وتقديم العبادة منذ قديم الزمان إلى الآن.
(٥) قوله شحم هنا ليس معناه المادة المعروفة بل الأرجح يقصد كل ما هو مغذٍ من لب الأشياء كشحم الحنطة مثلاً أي قلبها الداخلي المملوء بالغذاء. مع أنه من المستطاع أكل الشحم إذ لم يمنع منعاً باتاً وإن يكن أنه كان يحرق وقت تقديم المحرقات (راجع تثنية ٣٢: ١٤ وقابله مع إرميا ٣١: ١٤). ويقصد المرنم أن الله يعطيه غذاء جيداً بواسطة حيوانات سمينة مملوءة بالبركة والدسم وليس بواسطة عجاف الحيوان وضعافه. كما أنه يعطيه غذاء من أفضل أنواع المأكولات من حبوب وخضر حتى الشبع التام. وحينئذ فهذه الشفاه التي أكلت وشبعت تذيع حمد الله وتسبيحه وشكره. وهذا الفم المغتذي بالطعام يقدم آيات الثناء المستطاب.
(٦) هنا إذا ليست للشرطية بل بالأكثر للظرفية. أي إن المرنم يذكر الله على فراشه أي قبل أن يستيقظ في الصباح الباكر كما ابتدأ المزمور يكون قد قضى وقتاً طويلاً بالتأملات الروحية العميقة. ويكون أنه لا يعود قادراً على النوم بل يسهد جفنه من عظمة ما يتذكره عن الله. فيلهج بحمده تعالى وشكره ربما بصوت غير مسموع وبعده بصوت مسموع يفهمه كل الناس. فليس ذكره لله كشيء سريع عابر يمر به وانتهى الأمر بل هو لذته وحنينه ولذلك يصرف أغلب ليله في مثل هذه الأفكار التي ترفع النفس للعلى (انظر أيوب ٩: ١٦).
(٧) وكيف يقدر أن ينسى هذه المراحم وقد كان الله عونه وسنده في الوقت الشديد الذي مرّ عليه. وفي وسط تلك المخاطر إذا به يحتمي بظل جناحي العلي القدير (راجع مزمور ١٧: ٨ و٣٦: ٨ و٥٧: ٢). ومن حر الهجير في تلك الصحراء القاحلة الحارة له برد وسلام بظلال من العلي وارفة تحميه حر الهاجرة ولا تتركه في متاعبه وآلامه.
«٨ اِلْتَصَقَتْ نَفْسِي بِكَ. يَمِينُكَ تَعْضُدُنِي. ٩ أَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ لِلتَّهْلُكَةِ يَطْلُبُونَ نَفْسِي فَيَدْخُلُونَ فِي أَسَافِلِ ٱلأَرْضِ. ١٠ يُدْفَعُونَ إِلَى يَدَيِ ٱلسَّيْفِ. يَكُونُونَ نَصِيباً لِبَنَاتِ آوَى. ١١ أَمَّا ٱلْمَلِكُ فَيَفْرَحُ بِٱللّٰهِ. يَفْتَخِرُ كُلُّ مَنْ يَحْلِفُ بِهِ. لأَنَّ أَفْوَاهَ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بِٱلْكَذِبِ تُسَدُّ».
(٨) ولا يكتفي بأن يكون مظللاً محمياً من الخطر بل يجد نفسه ملتصقاً بالله. يرافقه الله عن يمينه وشماله ربما يمشي معه ويسند ضعفه ويشدد عضده ولا يتخلى عنه أبداً. وهذا الإله المحب يمد له اليمين. أي اليد القوية العاضدة. فالمرنم إذاً لا يستطيع أن يتخلى عن الله كما أن الله لا يتخلى عنه ولا يتركه في أي هاجس من الهواجس الممضة المزعجة.
(٩) هنا يعود للأعداء ويصور لنا ما هو نصيبهم المحتوم الذي لا محيد عنه. ولا شك أن هذا الجزء من المزمور هو نزول عظيم من المستوى الذي كان فيه قبلاً. فقد حلّق المرنم عالياً وامتد بصره واسعاً إلى الله ومحبته وعنايته. وأما الآن فهو ينزل للانتقام وإظهار روح البغض والعداء نحو الآخرين الذين أساءوا إليه وعاملوه تلك المعاملة الجافية الشريرة. هم للهلاك بنواياهم الشريرة فما قصدوه من ضرر وقعوا هم فيه على حد القول «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها». إذاً هؤلاء الأعداء قد سعوا إلى حتفهم بظلفهم ولا يلومون أحداً لأن اللوم على أنفسهم فقط.
(١٠) هنا يتحقق قول السيد المسيح «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ» لأنهم قد جردوا سيوفهم للفتك إذا بهذا السيف يرتد عليهم ليقتلهم وترمى جثثهم في الخلاء البعيد لكي تنهشهم حيوانات البرية حتى بنات آوى وهذا منتهى التحقير. إذ لو افترستهم الأسود لكان ذلك أهون ولكنهم لا يستحقون ميتة كهذه. فهم قتلى سيف هم جردوه كما حدث لجليات الجبار الفلسيطيني فقد قتل بسيفه أخيراً وإن يكن قد سقط أولاً بحجر المقلاع (راجع إرميا ١٨: ٢١ وحزقيال ٣٥: ٥).
(١١) هوذا الملك الذي كان مبعداً عن وطنه يعود ليفرح بمقادس الله بينما أعداؤه يسقطون بحد السيف الذي جردوه ضده. لقد كان الملك في البرية مع الوحوش والحيوانات ولكن أعداءه الآن ترمى جثثهم إلى هذه الحيوانات ذاتها إذ لا يستحقون أن يقابلوها وهم أحياء بل وهم أموات لأنهم ماتوا قتلاً بالعدوان الذي قصدوه لغيرهم فكان على أنفسهم فقط. فاليد التي امتدت بالعدوان قد تحطمت واللسان الذي فاه من قبل بالافتراء والأكاذيب قد سد إلى الأبد.


اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلسِّتُّونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ اِسْتَمِعْ يَا اَللّٰهُ صَوْتِي فِي شَكْوَايَ. مِنْ خَوْفِ ٱلْعَدُوِّ ٱحْفَظْ حَيَاتِي. ٢ ٱسْتُرْنِي مِنْ مُؤَامَرَةِ ٱلأَشْرَارِ، مِنْ جُمْهُورِ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ ٣ ٱلَّذِينَ صَقَلُوا أَلْسِنَتَهُمْ كَٱلسَّيْفِ. فَوَّقُوا سَهْمَهُمْ كَلاَماً مُرّاً».
هذا المزمور لا يعرف زمان كتابته إذ ليس فيه شيء من الأدلة التاريخية ترينا زمان أو مكان كتابته. وتقول «المدراش» إنه يناسب دانيال الذي طُرح في جب الأسود بواسطة مكيدة أحكم المتآمرون وضعها. وإذا كان هذا الوصف في المزمور ينطبق على حالة دانيال فليس من المؤكد متى كتب في العصر الذي عاش فيه داود واحتمل التعذيب والشدائد إن كان في أيام اضطهاد شاول له أو في أيام حكم أبشالوم وثورته على أبيه. وأما العنوان لإمام المغنين فهو الذي وضع اللحن الموافق وينسب النظم إلى داود ذاته.
(١) يبدأ المزمور بالشكوى والالتجاء إلى الله. وأما الشكوى فهي بواسطة الكلمات وليس بواسطة أنات الآلام المعتادة. والتعبير بالكلام هنا لأنه يفهم الآخرين سبب الشكوى وموضوعها لا سيما والمرنم يريد رفعها إلى الله. وأما قوله خوف العدو أي ما يسببه من ويلات. والعدو هنا كناية عن جماعة متأمرين بالشر على الصديق. إذاً فالعدو عديد وليس مفرداً. ويطلب أن تحفظ حياته منهم لأنهم قوم لا ينفكون وراء نفسه حتى يهلكوها.
(٢) في هذا العدد يتبين لنا جلياً أن الأعداء كثيرون عليه فهم جمهور فاعلي الإثم وليسوا في حالة البساطة والسذاجة ليهون أمرهم ولكنهم أشداء حكماء لهم موآمراتهم الخفية وتدابيرهم التي يصنعونها في الخفاء للإيقاع بالمستقيمي القلوب. وهو يطلب الستر والحماية إذ لا يستطيع الاعتداء على أحد وفي الوقت ذاته لا يريد أحداً يعتدي عليه.
(٣) إن السيف يصقل لكي يصبح أمضى من ذي قبل. وحينئذ إذا استعملته يد قوية يكون فتاكاً ومهلكاً. وكذلك هم أعدّوا سهامهم لكي يرموها لدى أول سانحة وكان إعدادهم لها بواسطة الكلام المر. نعم إن اليد الشريرة لا تمتد للفعلة الشنعاء إلا بإرشاد اللسان الشرير الذي يخرج عن دائرة السكوت إلى أن يسلق الآخرين ويهشمهم بلواذعه تهشيماً. وقد قال الشاعر:
جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان



إلا فليتق الله كل ذي لسان ذرب يستعمله صاحبه للشر والوقيعة بدل الخير والسلام.
« ٤ لِيَرْمُوا ٱلْكَامِلَ فِي ٱلْمُخْتَفَى بَغْتَةً. يَرْمُونَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ. ٥ يُشَدِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ لأَمْرٍ رَدِيءٍ. يَتَحَادَثُونَ بِطَمْرِ فِخَاخٍ. قَالُوا: مَنْ يَرَاهُمْ؟ ٦ يَخْتَرِعُونَ إِثْماً، تَمَّمُوا ٱخْتِرَاعاً مُحْكَماً. وَدَاخِلُ ٱلإِنْسَانِ وَقَلْبُهُ عَمِيقٌ».
(٤) هؤلاء الأشرار الذين أعدوا عدتهم إنما فعلوا ذلك في خفية عن الأعين إذ لا يريدون أن يكتشفهم أحد. فهم وإن لم يخجلوا من أنفسهم قد يخجلون من الناس حولهم. لذلك لا يجرأون على التظاهر بالبغض والشر. ولكنهم كالوحوش المفترسة التي تكمن لطريدتها هكذا يفعلون بالمساكين الذين وهم في غفلة من أمرهم إذا بهم يقعون في الشرك الذي نصبوه لهم. وهم لا يخشون الله ولا يخافون اسم العلي. لأن قلوبهم قاسية متمرغة في الإثم والخطيئة وضمائرهم متحجرة لا يميزون الخير من الشر.
(٥) ما أشدهم وما أقواهم على إتيان الأمور الرديئة. فكما هم متقاعسون متكاسلون عن فعل الخير هم في الوقت ذاته أشداء ماهرون في ارتكاب المعاصي والآثام. يعرفون أنه لأمر رديء هم قادمون ولكنهم لا يتأخرون عن ذلك وحديثهم هو في طمر فخاخ ونصب أشراك وأحابيل زاعمين أن لا أحد يراهم حتى ولا الله فكم بالأحرى أي الناس. هم يستخفون بكل الناس وبكل الوصايا الإلهية ويحسبون أن ترتيباتهم لا تعيقها الوصايا ولا يستطيع أي إنسان أن يؤثر عليهم للخير والإصلاح إذ هم قد رفضوا كل خير وتوغلوا في المعاصي إلى الدرجات البعيدة. وقوله من يراهم؟ ليس للاستفهام (راجع إرميا ٤٤: ٢٨ وأيوب ٢٢: ١٧ و١ملوك ٦: ٢٠).
(٦) إنهم حاذقون ماهرون ومتمرنون على عمل الشر والفساد وقد وصلوا إلى درجة الاختراع. ولذلك قد حولوا مقدرتهم للشر بدل الخير. هم قوم ذوو عقول ثاقبة ربما ومعارف واسعة ولكن! لا ضمير عندهم يبكتهم على أي شيء. إذاً فالمعرفة وحدها لا تكفي ولا العلم وحده في المدارس والمنتديات يدفع مكروهاً بل قد يسببه لأنه «علّم ابنك العلم بلا دين تجده من أمهر الشياطين». واختراع هؤلاء الأشرار للإثم كان بطريقة بارعة محكمة. فقد تظاهروا مدة طويلة بغير ما يضمرون ولذلك قال عنهم «داخل الإنسان وقلبه عميق». لأنه لنا الظاهر ونحكم على اللسان وعلى الأعمال الخارجية. ولذلك فقد خدعوا وواربوا وكذبوا وادعوا وكانوا في ترتيباتهم الخفية غير ما أظهروه للآخرين. نعم إن داخل الإنسان وقلبه عميق ولكنه ليس أعمق من أن يعرفه الله ويفحصه دائماً.
«٧ فَيَرْمِيهِمِ ٱللّٰهُ بِسَهْمٍ. بَغْتَةً كَانَتْ ضَرْبَتُهُمْ. ٨ وَيُوقِعُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. يُنْغِضُ ٱلرَّأْسَ كُلُّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ. ٩ وَيَخْشَى كُلُّ إِنْسَانٍ وَيُخْبِرُ بِفِعْلِ ٱللّٰهِ، وَبِعَمَلِهِ يَفْطَنُونَ. ١٠ يَفْرَحُ ٱلصِّدِّيقُ بِٱلرَّبِّ وَيَحْتَمِي بِهِ، وَيَبْتَهِجُ كُلُّ ٱلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ».
(٧) لذلك هوذا الله يرميهم ويبغتهم. فلم يكونوا السابقين في المباغتة إذ لا يستطيعون ذلك مع الله وإن كان البشر يستطيعون ذلك بعضهم مع بعض وأما مع الله فلا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً. نعم إن قلب الإنسان عميق ومغلق عن الإفهام ولكنه ليس كذلك مع الله (انظر إرميا ١٧: ٩ وما يليه) ويمكن ترجمة القسم الأخير «بغتة» كانت جراحهم (راجع ميخا ٧: ٤).
(٨) عندما نراجع (العدد ٣) نفهم أن هؤلاء الأشرار الذي صقلوا ألسنتهم من قبل واستعملوها كسيوف حادة قاطعة إذا بها الآن تعود ضدهم وهذه الألسنة ترتد عليهم. لقد قصدوا الضرر فيقع الضرر عليهم أولاً. وتكون النتيجة أن كل إنسان ينظر إليهم يهز رأسه ويقول إن على الباغي تدور الدوائر. نعم أن الناس الكرام لا يشمتون بهؤلاء الأعداء ولا يفرحون بما يصيبهم من بلية وأذى ولكن في الوقت ذاته لا يسعهم إلا أن يعتبروا إن ما لحق بهم كان قصاصاً عادلاً يحتاجون إليه لعلهم يرجعون عن غيهم وعن إثمهم ولكنهم لا يعتبرون.
(٩) وهنا عود أيضاً (للعدد ٤) فقد قال عنهم أنهم لا يخشون. وهنا يقول إن كل إنسان يخشى بما أصاب هؤلاء الأشرار من عقاب صارم يستحقونه. نعم على الإنسان العاقل الحكيم أن يخشى بعض الأمور. لنأخذ مثلاً عن خشيتنا من النار فلولا أنها تلذعنا بحرارتها المحرقة لكانت تحترق يدنا كلها ونحن لا ندري ولكن حينما نشعر بالسخونة نرفعها حالاً لئلا نتأذى كثيراً. هكذا في كل الأمور الضارة إننا نتعلم أن لا نعملها لئلا نتأذى كثيراً ونحن لا نحس موقتاً. وعلينا أن نتعلم من اختبارات غيرنا وبالعكس فإن الجاهل لا يتعلم حتى ولا من اختبارات نفسه. ولكن حينما نرى هذه الدروس نخبر بفعل الله وقصده ونتورع حتى لا نرتكب أي إثم لأن ذلك يعود بالضرر والأذية علينا أكثر من كل الناس.
(١٠) وتكون النتيجة أخيراً أن هذا الصديق المضطهد ينال الفرح والفرج من يد الله لأنه وحده يحميه من كل ضيم وشر وإذا بأولئك المستقيمين في قلوبهم يتهللون ويترنمون لله المخلص. إن الله بواسطة حكمه العادل على الأشرار يردعهم عن التمادي في أذيتهم وهكذا ينال المستقيمون سبباً للفرح والابتهاج. حينما يعرف الناس جميعاً أن هذه الدنيا يحكمها إله عادل قدوس لا يرضى أن تداس حقوق الأتقياء ولا أن تمتهن كرامتهم فلينعموا إذاً هانئين لأن الله يكفيهم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلسِّتُّونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ. تَسْبِيحَةٌ


«١ لَكَ يَنْبَغِي ٱلتَّسْبِيحُ يَا اَللّٰهُ فِي صِهْيَوْنَ، وَلَكَ يُوفَى ٱلنَّذْرُ. ٢ يَا سَامِعَ ٱلصَّلاَةِ، إِلَيْكَ يَأْتِي كُلُّ بَشَرٍ. ٣ آثَامٌ قَدْ قَوِيَتْ عَلَيَّ. مَعَاصِينَا أَنْتَ تُكَفِّرُ عَنْهَا. ٤ طُوبَى لِلَّذِي تَخْتَارُهُ وَتُقَرِّبُهُ لِيَسْكُنَ فِي دِيَارِكَ. لَنَشْبَعَنَّ مِنْ خَيْرِ بَيْتِكَ، قُدْسِ هَيْكَلِكَ».
يظهر أن الغاية من كتابة هذا المزمور هو من أجل البهجة بالخيرات التي يسبغها الله على شعبه. وهو للحمد والتسبيح والشكر فقد اجتمع شعب كثير أمام الخيمة في صهيون لكي يقدموا سجودهم للرب الذي نجاهم من الأمم أعدائهم حولهم والآن هم في سلام وبحبوحة وتحيط بهم الحقول المخضرة التي تبشرهم بموسم جزيل مبارك وحينئذ يفون بالنذور التي قدموها من قبل. وقد يكون لهذا المزمور علاقة بما ذكره (إشعياء ٣٧: ٣٠) عن الربيع الثالث حينما كانت أشور قد انهارت وأصبح الناس في أمنٍ وسلام. وأما وضع العنوان مزمور لداود فلا يجوز أن نحسب كل ما وضع بهذا العنوان هو لداود حقيقة بل تبركاً باسمه على الأرجح.
(١ و٢) قد يترجم هذا العدد الأول «بتسليمنا يقدم التسبيح لك يا الله في صهيون». والتسليم هنا أي الخضوع لمشيئة الرب والإذعان بل والصمت في حضرته (راجع خروج ١٤: ١٤). وهو في صهيون أي مكان قدسه. هناك تقدم العبادة والسجود ولأنه يسمع الصلاة ويستجيب الدعاء تقدم له النذور في أوقاتها. ونرى في العدد الثاني أن الله يخاطبه المتعبّد بقوله «يا سامع الصلاة» (راجع إشعياء ٤٥: ٢٤). إن البشر بجملتهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً فهم لا عون منهم ولا نجدة يستطيعون تقديمها وإذا اعتمد المؤمن عليهم فلا نصيب له سوى اليأس والقنوط. وهذا المعنى الأخير وارد في أمكنة متعددة من المزامير. والله وحده هو الذي يستجيب الدعاء والصلاة.
(٣) في القسم الأول يوجد فعل ماضٍ. وأما القسم الثاني فيصير مضارعاً. يصيح المرنم أولاً أن آثامه أقوى منه ولا يستطيع احتمالها (تكوين ٤: ١٣) فهي حمل ثقيل يرزح تحته ولا يستطيع النهوض فهو يقر بعجزه وضعفه. ولكنه حالاً يلتفت إلى الله ويجد فيه كفارة وفداء دائمين. إن الله يريد لنا تمام الخير وهو قادر وحده على إتمامه ولا أحد غيره يفعل ذلك.
(٤) ثم يطوب ذلك الشخص الذي يقربه الله إليه ويرضى عنه بل يدخله إلى بيته المقدس لكي يسكن هناك (راجع أيوب ٣٠: ٢٨). وحينئذ هذا المؤمن يحسب هيكل الله بيته الشخصي حيثما يأكل ويشرب كما يفعل كل منا في بيته. وهنا يظهر شوقه العظيم وتعلقه بالمكان المقدس الذي يسكن الله بنعمته وحينئذ نشبع من خيره بعد جوع ونرتوي بعد عطش. وقد صرّح لنا السيد المسيح بقوله «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ» (متّى ٥: ٦).
«٥ بِمَخَاوِفَ فِي ٱلْعَدْلِ تَسْتَجِيبُنَا يَا إِلٰهَ خَلاَصِنَا، يَا مُتَّكَلَ جَمِيعِ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ وَٱلْبَحْرِ ٱلْبَعِيدَةِ. ٦ ٱلْمُثْبِتُ ٱلْجِبَالِ بِقُوَّتِهِ، ٱلْمُتَنَطِّقُ بِٱلْقُدْرَةِ، ٧ ٱلْمُهَدِّئُ عَجِيجَ ٱلْبِحَارِ عَجِيجَ أَمْوَاجِهَا وَضَجِيجَ ٱلأُمَمِ. ٨ وَتَخَافُ سُكَّانُ ٱلأَقَاصِي مِنْ آيَاتِكَ. تَجْعَلُ مَطَالِعَ ٱلصَّبَاحِ وَٱلْمَسَاءِ تَبْتَهِجُ».
(٥) إن الله العادل هو مخوف في عدله يجريه على الجميع دون استثناء. وحينئذ فإن كل ظالم سيأتيه القصاص في حينه لأن الله إله الخلاص يستجيب الدعاء ولا يترك الذين يتكلون عليه بدون عون وإسعاف. واستجابة الله قد تكون بعض الأحيان بأمور مفزعة مخيفة ولكنها لا تخرج عن نطاق العدل فهو إله بار عادل قدوس (انظر إرميا ٤٢: ٦). ولأنه عادل ويجزي شعبه عن أعمالهم فهو يخلصهم لأنه متكل جميع الأراضي والشعوب. وقوله «والبحر البعيدة» أي جزر البحار أو البلدان الواقعة فيما وراء البحار. إذ الله هو الحاكم على كل شيء (راجع إشعياء ٣٣: ١٣ و٢أخبار ٣٢: ٢٢ وما يليه).
(٦) إن الله العلي هو الذي يثبت الجبال وهو اللابس القدرة كمنطقة يسد بها وسطه. إذاً فهو في عالم الطبيعة مصدر القوة والمجد لأعظم الأشياء وهي الجبال الشامخة في علوها المرتفعة في ذراها لتشرف على أبعد الأمكنة. وهو بين البشر شديد مقتدر (انظر إرميا ١٠: ١٢) وقد يكون في ذكره للجبال إشارة للأمم المتعالية كالجبال (انظر إشعياء ٤١: ١٥).
(٧) فكما أنه يثبت الجبال ويرسخها في قلب الأرض كذلك هو الذي يعطي سلاماً وطمأنينة في البحار أيضاً. وحينئذ إذا حسبنا أن الجبال هي إشارة للأمم المتعالية فيكون أن الله يهدئ صولتها وسيطرتها ويخفض من نفوذها وحينئذ لا يكون العجيج ولا الضجيج مما يؤبه به. إن كل اضطراب وحرب وكل بغض وحقد وكل عداوة يجب أن يخضع لمالك الكائنات والشعوب جميعها ولتهب الله بكل احترام وورع (إشعياء ١٧: ١٢ - ١٤).
(٨) وحينما يتسلط الله بمجده على جميع الكائنات ويرى البشر جميع الآيات التي صنعها قديماً ويصنعها على الدوام إذا بهم يخافون ويرتعبون. وهكذا يعم خوف الرب حتى أقاصي الأرض كلها. فالله هو الذي يسيّر مجرى التاريخ حسب مشيئته السرمدية ولا يسمح للحوادث أن تجري كما اتفق بل يوجد وراء هذه المظاهر الطبيعية والبشرية جميعاً قدرة لا تدركها الأفهام وهي حقيقة وعاملة في هذا الكون العظيم ولا تفتر كذلك إلى الأبد. ولأن منه البداءة فإليه النهاية أيضاً وهكذا يجعل الصباح والمساء يبتهجان معاً فكما للصباح بهجته لكونه بدء النهار والقيام بالأعمال والواجبات كذلك فإن المساء وختامه وابتداء وقت الراحة والسكون. وما أجمل وما أبهج ذلك اليوم الذي نفتتحه بطلب رضا الرب علينا ونختمه كذلك فهو لا شك مملوء بالبهجة والحبور. وقد يكون المعنى أيضاً أن سكان المشارق والمغارب جميعاً يعرفون الله ويبتهجون بعظمته وجلاله.
«٩ تَعَهَّدْتَ ٱلأَرْضَ وَجَعَلْتَهَا تَفِيضُ. تُغْنِيهَا جِدّاً. سَوَاقِي ٱللّٰهِ مَلآنَةٌ مَاءً. تُهَيِّئُ طَعَامَهُمْ لأَنَّكَ هٰكَذَا تُعِدُّهَا. ١٠ أَرْوِ أَتْلاَمَهَا. مَهِّدْ أَخَادِيدَهَا. بِٱلْغُيُوثِ تُحَلِّلُهَا. تُبَارِكُ غَلَّتَهَا. ١١ كَلَّلْتَ ٱلسَّنَةَ بِجُودِكَ، وَآثَارُكَ تَقْطُرُ دَسَماً. ١٢ تَقْطُرُ مَرَاعِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَتَتَنَطَّقُ ٱلآكَامُ بِٱلْبَهْجَةِ. ١٣ ٱكْتَسَتِ ٱلْمُرُوجُ غَنَماً، وَٱلأَوْدِيَةُ تَتَعَطَّفُ بُرّاً. تَهْتِفُ وَأَيْضاً تُغَنِّي».
(٩) يبدأ هنا بالشكر لله لأجل خير السنة وفيض نعمة الله فيها ذلك لأنه يتعهدها دائماً بعنايته الإلهية ولا سيما على الأرض التي يقطنها شعبه. فهي أرض مملوءة بالبر والبركات غنية بالخيرات. هوذا السواقي ملآنه بالمياه المتدفقة دليل كثرة الأمطار لا سيما في بلاد مثل فلسطين جافة قليلة المياه. ولأن الماء هو سبب الخصب والبركات إذن بنعمة الله وحنوه ورحمته تجعل طعام البشر والحيوانات موجودة بكثرة (انظر تثنية ٣٣: ٢٦ وأيوب ٣٨: ٢٦ وما يليه).
(١٠) فقد روت الأمطار الغزيرة الأتلام وكستها بطبقة من الطمي جعلتها تظهر كلها كأنها سهل واحد وإذا هذه الأمطار تحلل التربة وتجعلها صالحة للزراعة وهي بعد ذلك بحالة جيدة لتعطي غلالاً كثيرة تفرح قلوب الفلاحين بما ينتظرونه من خيرات لا شك مقبلة. إن ذكر الغيوث على هذه الصورة يرينا أنها كانت سنة ممتازة غير شكل عن بقية السنين. إذ أن الأمطار هي مصدر الخيرات وأعظم نعم الله على الإنسان فيمنحه رياً كافياً للأراضي وهكذا سميت أراضي البعل إلى هذا اليوم إشارة إلى ما اعتقده الكنعانيون والفينيقيون من أن الإله هو الذي يرسل لها الأمطار ويعتني بها.
(١١) لذلك فهي سنة خير وبركات ولا عجب أن تكون كذلك طالما جاءتها الأمطار في حينها فلم تتأخر ولم تأت دفعة واحدة بل جاءت في فترات متناسقة مناسبة للزروع النامية وهكذا كانت تسقيها كلما احتاجت للري. فكأنما الله قد وضع إكليلاً على رأسها وجعلها زينة السنين. هوذا آثار الله ظاهرة في الربيع المزدهر الذي تمرح فيه الأنعام والماشية وتشبع وتكبر حتى تسمن وتكون ذات دسم خاص حينما تعطي لبنها للآكلين أو لحم خرافها الطريئة اللذيذة.
(١٢ و١٣) هوذا المراعي الخضراء تدعو الإنسان والحيوان ليشبع من دسم الأرض والخيرات الحاصلة منها. وهوذا الآكام بما فيها من زهور البرية تتموج بجمالها فتجعل النزهة فيها من أجمل الأمور. وهذه البهجة هي بالنسبة لما تتمتع به الحواس من جمال وعبير وكذلك بالنسبة لأن الخيرات المنتظرة أصبحت قريبة التحقيق لا شك فيها. وإذاً فإن الغنم قد كست المروج لأنها ترعى فيها بكثرة حتى تجعل ألوانها مع اخضرار العشب من أجمل ما تقع عليه العيون. والأودية تتموج وتتعطف بالقمح الذي هو غذاء الإنسان وقوته الأهم. لذلك فإن الخيرات تعم الجميع على السواء ومن حقهم أن يفرحوا ويبتهجوا وأن يهتفوا ويترنموا لأن بركات الله قد ملأت القلوب جميعها بالفرح والاطمئنان.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلسِّتُّونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ


«١ اِهْتِفِي لِلّٰهِ يَا كُلَّ ٱلأَرْضِ. ٢ رَنِّمُوا بِمَجْدِ ٱسْمِهِ. ٱجْعَلُوا تَسْبِيحَهُ مُمَجَّداً. ٣ قُولُوا لِلّٰهِ: «مَا أَهْيَبَ أَعْمَالَكَ. مِنْ عِظَمِ قُوَّتِكَ تَتَمَلَّقُ لَكَ أَعْدَاؤُكَ. ٤ كُلُّ ٱلأَرْضِ تَسْجُدُ لَكَ وَتُرَنِّمُ لَكَ. تُرَنِّمُ لٱسْمِكَ». سِلاَهْ» .
نلاحظ أنه في هذا المزمور والذي قبله وكذلك في بعض المزامير التالية يوجد العنوان «تسبيحة مزمور أو مزمور تسبيحة». وفي ذلك دلالة خاصة علينا أن نعيرها اهتمامنا. نقرأ في المزمور ٦٥: ١ «لَكَ يَنْبَغِي ٱلتَّسْبِيحُ يَا اَللّٰهُ فِي صِهْيَوْنَ، وَلَكَ يُوفَى ٱلنَّذْرُ». وفي هذا المزمور عدد ١٣ «أَدْخُلُ إِلَى بَيْتِكَ بِمُحْرَقَاتٍ، أُوفِيكَ نُذُورِي». ثم يوجد كلمة البركة وطلب بركة الله. وهو من المزامير التي تذكر كلمة الله لا الرب ما عدا العدد الثامن عشر حيث يذكر هذه الكلمة وهو على الأرجح قبل السبي لا بعده.
وعقب تحرير من عبودية بعض الأمم إذا بالمرنم يدعو كل سكان الأرض لكي يهتفوا. ويصور لنا أموراً شخصية أتمها المرنم في الأعداد (١٣ و١٤ و١٥ على التوالي). التي يذكرها بكل دقة وتفاخر. وقد يكون زمان كتابته موافقاً لأيام حزقيا حينما سقطت قوة أشور وانهارت عظمتها. وإنما لا يوجد أمامنا أي دليل يدعونا أن ننسب نظمه لإشعياء أو لحزقيا.
(١) وترجمته «اهتفي» هي بالأحرى «قدموا لله مجداً». وهي شبيهة بما ورد في (يشوع ٧: ١٩ وإشعياء ٤٢: ١٢) وهكذا فهذا الهتاف هو دليل التعبد والاحترام لله عز وجل. ويتمنى على جميع الأمم أن تفعل ذلك لأنه من الواجب عليها ومن مصلحتها الخاصة أيضاً.
(٢) هنا تكريم للاسم «يهوه» والاسم هو كناية عن الشخص ذاته فقوله رنموا بمجد اسمه أي مجدوا ذات الله وشخصه وليكن التسبيح بصورة كريمة مجيدة تستلفت أنظار جميع الذين يسمعون. وهذه الترنيمة المجيدة تشبه كثيراً ما ورد في (رؤيا ١٥: ٣ وما يليه). ذلك لأن أعظم مظاهر الفرح تتكون ونحن نرنم وننشد أعظم أغانينا لأن الموسيقى وحدها تجعل مثل هذا الترنيم مجيداً للغاية.
(٣) وموضوع هذا الترنيم أو الداعي هو تمجيد أعمال الله ذاتها. هي أعمال ذات هيبة ووقار لا يستطيع الإنسان العاقل أن يمر بها دون تمعن وتفكير. ولأن أعماله عظيمة بهذا المقدار فهي التي تجعل حتى الأعداء يتهيبون ويطلبون رضا الله عليهم وإن كانوا لا يؤمنون باسمه إيماناً قلبياً حقيقياً.
(٤) ذلك لأن الأرض كلها أصبحت تعترف بهذا الإله الواحد الأحد خالق جميع الكائنات ومدبرها بحكمته السرمدية التي لا تستقصى. فلا عجب إذا كانت ترنم له وتعرف اسمه وتسبحه أيضاً بكل ما أوتيت من عذوبة اللحن وجمال العبادة والوقار. وينهي العدد بارتفاع الموسيقى دليل أهمية الموضوع وتكميلاً لهذا التمجيد الذي يدعو إليه.
«٥ هَلُمَّ ٱنْظُرُوا أَعْمَالَ ٱللّٰهِ. فِعْلَهُ ٱلْمُرْهِبَ نَحْوَ بَنِي آدَمَ. ٦ حَوَّلَ ٱلْبَحْرَ إِلَى يَبَسٍ، وَفِي ٱلنَّهْرِ عَبَرُوا بِٱلرِّجْلِ. هُنَاكَ فَرِحْنَا بِهِ. ٧ مُتَسَلِّطٌ بِقُوَّتِهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ. عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ ٱلأُمَمَ. ٱلْمُتَمَرِّدُونَ لاَ يَرْفَعُنَّ أَنْفُسَهُمْ. سِلاَهْ. ٨ بَارِكُوا إِلٰهَنَا يَا أَيُّهَا ٱلشُّعُوبُ، وَسَمِّعُوا صَوْتَ تَسْبِيحِهِ. ٩ ٱلْجَاعِلَ أَنْفُسَنَا فِي ٱلْحَيَاةِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ أَرْجُلَنَا إِلَى ٱلزَّلَلِ».
(٥) والمرنم هنا بعد أن يدعو لتقديم التمجيد والتسبيح فهو يفعل ذلك بناء على البرهان الحسي فيطلب من الناس جميعاً بقوله «هلم انظروا...» أي يتحققون بعيونهم بالخُبر ما سمعوه بالخبر. ونجده بعد ذلك في العدد ١٦ من هذا المزمور يدعوهم أيضاً لكي يسمعوا فيحدثهم عن اختباره هو لكي يعينهم على فهم ما لم يفهموه بعد من عظمة هذا الإله وأعماله المرهبة التي تجبر الناس جميعاً على أن يكونوا متعبدين له ومعظمين لاسمه. ودعوته كما رأينا عامة شاملة تتناول جميع بني البشر.
(٦) يذكر هنا بأمور تاريخية عن عبور البحر الأحمر الذي تحوّل إلى يبس وقتي وكذلك قد عبروا في نهر الأردن وهكذا نجوا من يد الأعداء اللاحقين بهم القاصدين ضررهم والإيقاع بهم بكل ما يستطيعون من وسائل. وقوله «هناك فرحنا به». قد تترجم بشكل الاستفهام «أما حينئذ فرحنا به؟» أي أن الفرح الذي تمتعوا به كان مبنياً على حقائق لمسوها في الحياة اليومية.
(٧) على الكنيسة واجب إظهار قدرة الله للناس جميعاً. فهو المتسلط وحده وإلى الدهر. ذلك لأنه بقدرته الكاملة يراقب الأمم ويلاحظ تاريخهم وأعمالهم وحينئذ فإن المتكبرين المتعظمين الذين يريدون استعباد الآخرين لا يمكنهم أن يظلوا كذلك إلى الأبد. وهنا ينهي بارتفاع الموسيقى أيضاً.
(٨) ذلك أن الله وحده هو ذو السلطان والعظمة والجلال فكل تعظم وتكبر من البشر لا يجديهم نفعاً بل تكون عاقبته في جهة معاكسة أي الفشل والخذلان. لذلك يعود المرنم إلى النصيحة ويقول بأن الواجب يدعو الشعوب كلهم لتقديم البركة للرب وعليهم أن يسبحوا اسمه مكرمين ممجدين.
(٩) بعد أن كان شعبه في خطر الاضمحلال والموت إذا بهم الآن في الحياة أي قد نالوا النجاة وأنقذوا من كل الضيقات فهم يتمتعون بجميع بركات الحياة بسلام واطمئنان. وهكذا فهو لا يسمح لتلك الأرجل الضعيفة أن تستسلم للزلل والسقوط والهوان بل يسندهم ويقويهم لكي يمشوا رافعي الرأس عالي الجبين. وهذا السند الذي نالوه جعلهم أن يعترفوا بالجميل الإلهي فهم وحدهم لم يستطيعوا أن ينجوا أنفسهم إذ أن النجاة الحقة هي من فوق من السماء.
«١٠ لأَنَّكَ جَرَّبْتَنَا يَا اَللّٰهُ. مَحَصْتَنَا كَمَحْصِ ٱلْفِضَّةِ. ١١ أَدْخَلْتَنَا إِلَى ٱلشَّبَكَةِ. جَعَلْتَ ضَغْطاً عَلَى مُتُونِنَا. ١٢ رَكَّبْتَ أُنَاساً عَلَى رُؤُوسِنَا. دَخَلْنَا فِي ٱلنَّارِ وَٱلْمَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجْتَنَا إِلَى ٱلْخِصْبِ. ١٣ أَدْخُلُ إِلَى بَيْتِكَ بِمُحْرَقَاتٍ، أُوفِيكَ نُذُورِي ١٤ ٱلَّتِي نَطَقَتْ بِهَا شَفَتَايَ وَتَكَلَّمَ بِهَا فَمِي فِي ضِيقِي».
(١٠) يعود المرنم إلى الاختبارات التي مرت فهي أشبه بالتنقية والتمحيص للفضة ولولا ذلك لبقيت في فساد وزغل. إن الله يجرب الإنسان لكي يمتحنه ويعرف من أي معدن هو وهذه المعرفة هي لفائدة الإنسان ذاته بالأولى. إذ الله عالم بكل شيء ويعرف خفيات القلوب وعلى الإنسان أن يعرف ذاته ولا يتكبر في أي الأمور لئلا تفوته كلمات النصيحة والإرشاد ويبقى في الجهل والغباوة ومخلف أنواع الشرور. ولولا أن التمحيص ضروري لما كانت الفضة بيضاء ونقية.
(١١ و١٢) وهنا يفصّل المرنم ما احتمله الشعب من اضطهاد فكانوا في شبكة وكانوا تحت حمل ثقيل بل كأنما أناس على الرؤوس لا يستطيعون رفعها. وهكذا دخلوا النار بشدائد مرعبة ولكنها مطهرة ودخلوا الماء بشدائد غير ثابتة بل متقلقلة صخابة ذات أمواج مختلفة وإنما ذلك كله إذا باليد الحنونة تخرج الشعب إلى الحياة المريحة الخصيبة. والصورة عن تمحيص الفضة مذكورة كثيراً (راجع زكريا ١٣: ٩ وملاخي ٣: ٣ وحزقيال ١٩: ٩). ومخاطر النار والماء هي من أعظم المخاطر التي قد يتعرض لها الإنسان في حياته اليومية (راجع إشعياء ٤٣: ٢). فقد تعرض الشعب للغرق وللاحتراق. ولكن قد تحولت قوة النار للخير كما تحولت هذه المياه الصخابة لكي تروي الزروع وتجعلهم في خصب وبحبوحة في عيشهم آمنين.
(١٣) من هذا العدد وما بعده يبدأ المرنم كلامه كما رأينا عن اختباراته وأعماله الشخصية. فهو يدخل إلى بيت الله ليقدم المحرقات عنوان التعبد وتقديم الخشوع بل عليه أن يوفي نذوره كلها إذ قد كان في ضيقة عظيمة من قبل وأما الآن ففي خير عظيم وعليه أن لا ينسى رحمة الله بل يذكره وهكذا يقدم النذور المستحقة عليه عربون الشكر والاعتراف بالجميل إذ لا يكفي الاعتراف باللسان وحمد الله بالفم بل ليرافق ذلك أشياء تكلفنا من جيوبنا لأن الديانة التي لا تكلف لا تنفع كثيراً.
(١٤) وتقديمه هذه النذور هو بموجب ما وعد به من قبل وعداً شفهياً حينما كان في ذلك الضيق الذي لا يستطيع أن يتناساه. فإذا أوفى نذوره فهو بذلك أولاً يتذكر ما مر عليه من قبل وفي الذكرى عبرة وتعقل. وثم هذه الذكريات تجعله رقيق القلب بعيداً عن الصلف والتكبر اللذين يجعلان الحياة جافة جامدة ولا يرضى عنها الله. وهذا النذر لتحقيق السلامة.
«١٥ أُصْعِدُ لَكَ مُحْرَقَاتٍ سَمِينَةً مَعَ بَخُورِ كِبَاشٍ. أُقَدِّمُ بَقَراً مَعَ تُيُوسٍ. سِلاَهْ ١٦ هَلُمَّ ٱسْمَعُوا فَأُخْبِرَكُمْ يَا كُلَّ ٱلْخَائِفِينَ ٱللّٰهَ بِمَا صَنَعَ لِنَفْسِي. ١٧ صَرَخْتُ إِلَيْهِ بِفَمِي وَتَبْجِيلٌ عَلَى لِسَانِي. ١٨ إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ. ١٩ لٰكِنْ قَدْ سَمِعَ ٱللّٰهُ. أَصْغَى إِلَى صَوْتِ صَلاَتِي. ٢٠ مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي لَمْ يُبْعِدْ صَلاَتِي وَلاَ رَحْمَتَهُ عَنِّي».
(١٥) يعدّد هنا المحرقات التي ينوي تقديمها فهي من المحرقات السمينة ذات القيمة والثمن لأن الله يرضى عن مثل هذه الذبائح التي تكلفنا من مالنا ونفعلها عن قصد كريم وليس بالاستهتار إذ نقدم كيفما اتفق وأبخس ما لدينا. وكانت الحملان والثيران المسمنة هي أفضل أنواع التقدمات ويليها الماعز الذي يأتي في مرتبة ثانية. وكان يقدم البخور العطر لكي يجعل رائحة النار وقت الاحتراق خصوصاً لدى حرق الشحوم ذات رائحة طيبة ترفع بالنفوس للأعالي كارتفاعها هي وقت المحرقة.
(١٦) لقد رأينا من قبل عدد ٥ كيف أنه يلفت النظر والسمع معاً لهذه الاختبارات الروحية العميقة المطهرة للنفوس. والشيء الذي يسترعي انتباهنا هو قوله «بما صنع لنفسي». نعم لا يمكن أن تكون هذه التقدمات من المرنم كفرد بل يشعر شعور الجماعة ويرى نفسه معهم يقدمها لله. ولكن هذا الاختبار العميق المرافق للتقدمة هو شيء شخصي يجدر بنا أن نعيره اهتمامنا ونصغي للدرس الذي يلقيه.
(١٧) لم تكن صلاته سرية أي في داخل قلبه بل كانت مسموعة يلفظها الفم أيضاً. والكلمة العبرانية المترجمة «تبجيل» تفيد معنى الارتفاع والتعظيم. وفيه تعاكس بياني لأنه يقول في العبرانية تحت لساني. أي هذا الحمد يجعل لساني أن يرتفع ويتعظم بتعظيمه لاسم الله القدوس. إن الله يريدنا أن نجاهر ولا نستحي باسمه قط. والمؤمن يلتذ بالصلاة ويفخر بأن يذيعها علناً غير متفاخر.
(١٨) ولكنه هذا المجاهرة اللسانية غير كافية قط فنرى المرنم بسرعة وبكل حكمة يخبرنا أن هذه العبادة بواسطة الطقوس وتقديم الذبائح والمحرقات لا تفيد شيئاً إن لم تقترن بالقلب الطاهر. لأنه إن تركنا فيه شيئاً نجساً نبقى منجسين بلا ريب. وهنا خطوة نحو العبادة الروحية بل هنا الجسر يقطع عليه العابد من الطقوس إلى أن يصل إلى قول السيد له المجد «الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا».
(١٩) وهنا تأكيد جميل يعود على المرنم بالاطمئنان والثقة التي لا تثمن. فقد تأكد أن الله قد سمع وليس ذلك فقط بل قد أصغى ولا شك سوف يستجيب أيضاً. وما أحسن أن يكون لنا اليقين الثابت كهذا بأن الله حري بأن يسمع أصواتنا فلنتكل عليه ونحمد اسمه القدوس كل حين.
(٢٠) ولأن المرنم قد تأكد موقناً بإصغاء الله لصوته إذا به يتحول للحمد والتسبيح. لقد ابتدأ بدعوة الناس جميعاً لمشاركته فقد خاطب الأمم كلهم لكي يروا عظمة الله ولكنه لا يكتفي بذلك بل نراه يختم بذلك الاختبار الشخصي الضروري لكل ديانة حقة. فكما أن الله هو إله الأمم هو بالأولى إلهي.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلسِّتُّونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ. مَزْمُورٌ. تَسْبِيحَةٌ


«١ لِيَتَحَنَّنِ ٱللّٰهُ عَلَيْنَا وَلْيُبَارِكْنَا. لِيُنِرْ بِوَجْهِهِ عَلَيْنَا. سِلاَهْ. ٢ لِكَيْ يُعْرَفَ فِي ٱلأَرْضِ طَرِيقُكَ وَفِي كُلِّ ٱلأُمَمِ خَلاَصُكَ. ٣ يَحْمَدُكَ ٱلشُّعُوبُ يَا اَللّٰهُ. يَحْمَدُكَ ٱلشُّعُوبُ كُلُّهُمْ».
يرجح أن هذا المزمور هو للشكر في وقت الحصاد. وهو كسابقه معنون باسم إمام المغنين. وهو مزمور تسبيحة. وكما أن المزمور ٦٥ هو للمزروعات التي لا تزال في حالة الاخضرار فإن هذا المزمور هو حينما تجمع الغلال ويقدم الفلاح الشكر لله على إحساناته العميمة. ويرى كل إسرائيلي مؤمن بالله أن كل حصاد هو بالحقيقة ميعاد متوجب على المؤمن أن يقدم الشكر لله (راجع لاويين ٢٦: ٤) بل أنه تعاهد وتعاقد مع الله حتى يستمر في جوده الذي لا حياة للإنسان بدونه. ويحوي هذا المزمور سبعة أعداد ليس إلاّ. فينقسم إلى قسمين كل منهما ثلاثة أعداد والعدد الرابع في الوسط مؤلف من ثلاثة مقاطع. وهكذا فإن بعض الشراح القدماء قد أطلقوا على هذا المزمور اسم «أبانا الذي» في العهد القديم. وكلمة يباركنا مكررة ثلاث مرات وهي تحمل طابع بركة الكاهن التي كان بقولها مخاطباً الشعب ثلاث مرات بالبركة.
(١) يطلب الحنان من الله أولاً ثم البركة. لأن الرحمة يجب أن تأتي أولاً حينما يظهر الله رحمته إذا به يبارك المؤمن الذي يدعوه بالصلاة والابتهال. وحينئذ حينما ينال الرحمة والبركة إذا به يصبح في نور يستطيع أن يسلك سبيله آمناً من السقوط والعثار. وينتهي بارتفاع الموسيقى (راجع عدد ٦: ٢٤ - ٢٦).
(٢) حينما يشرق الله بنوره على الناس إذا بهم يعرفون السبيل ولا يضلونه قط. إذاً فإن ضياء وجه الله هو الكفيل الوحيد للسير في سنن الحياة مطمئنين لا نخاف شراً ولا نعثر قط. وبالعكس فإن الإنسان الذي لا يضع الله أمامه فهو في ظلام وسقوطه محتم لأنه لا ينال الإرشاد الكافي. إن محبة الله وحدها كفيلة بأن تشع نوراً إلى كل الجهات. والمعرفة لا تكون بدون نور الله.
(٣) وحينما يعرف الشعوب طريق الرب أي يسلكون في فرائضه ويسمعون وصاياه. حينئذ يتحقق لهم معنى الخلاص الذي يهبه لجميع الداعين باسمه. وهكذا يكون على الشعوب أن يحمدوا هذا الإله العظيم الجواد. عليهم أن يحمدوه كلهم بدون استثناء. ذلك لأنهم قد اختبروا المحبة الإلهية وعليهم أن يميزوا الأشياء غثها وسمينها وهم يمارسون أعمالهم اليومية.
«٤ تَفْرَحُ وَتَبْتَهِجُ ٱلأُمَمُ لأَنَّكَ تَدِينُ ٱلشُّعُوبَ بِٱلٱسْتِقَامَةِ، وَأُمَمَ ٱلأَرْضِ تَهْدِيهِمْ. سِلاَهْ. ٥ يَحْمَدُكَ ٱلشُّعُوبُ يَا اَللّٰهُ. يَحْمَدُكَ ٱلشُّعُوبُ كُلُّهُمُ. ٦ ٱلأَرْضُ أَعْطَتْ غَلَّتَهَا. يُبَارِكُنَا ٱللّٰهُ إِلٰهُنَا. ٧ يُبَارِكُنَا ٱللّٰهُ، وَتَخْشَاهُ كُلُّ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ».
(٤) على الأمم جميعها أن تفرح وتبتهج لأن ذلك يأتيهم عن تحقق ما جرى عليهم في الماضي. وقوله «تدين» ليس معناه الحكم والدينونة بل بالأحرى أن طريقة تسلط الله على الشعوب هي بالاستقامة والبر. لأن الله قدوس وبار في كل أعماله. ولأنه كذلك يصلح دائماً أن يهدي الشعوب وأمم الأرض إلى الواجبات المفروضة عليهم ولذلك يطالبهم بأن يتمموها حالاً ولا عذر لهم مقبول. فكما أن النور لا يمازجه شيء من الشوائب كذلك يستطيع أن يهدي ويسدد الخطى لأن طبيعته الاستقامة. وينهي هذا العدد الذي قلنا عنه إنه يقسم المزمور إلى قسمين بارتفاع الموسيقى.
(٥) هنا تكرار لما ورد سابقاً في العدد الثالث لأن المزمور يقصد به زيادة التوكيد والمبالغة في حمد الله وتعظيمه ودعوة الناس جميعاً شعوبها وأممها لكي تشاطر في هذا الأمر الجليل الذي هو مسلك النفوس الحكيمة المتطلعة نحو النور والحق والحياة التي في الله وحده.
(٦) وأما سبب هذا الفرح المباشر فيعطيه المرنم بقوله إن الأرض قد أعطت غلتها وجاء وقت الحصاد وقت الفرح والسرور حينما تجمع الحبوب إلى مخازنها الخاصة وينال الفلاحون جزاء ما تعبته أيديهم. فقد زرعوا من قبل وهم يحصدون الآن نراهم يحصدون وبركة الله عليهم أي بغلال جيدة كثيرة لأنه بعض الأحيان قد تكون الغلال ضئيلة ولا تسبب فرحاً لقلوب الفلاحين وأما الآن فهم فرحون سعداء بما نالته أيديهم من بركات وإحسانات هي دليل المحبة والرحمة لا ما يستحقون.
(٧) وهذه هي أعظم مظاهر البركات في أرض زراعية كفلسطين قديماً وحتى الآن (انظر إرميا ٣٣: ٩ وإشعياء ٦٠: ٣ وقابل ذلك مع يوئيل ٢: ١٧) إن بركة الله الظاهرة لشعبه والتي سببت هذا الفرح الشامل هي نفسها التي جعلت كل الأرض أن تخشى اسمه وتقدسه. لأن الذي يخاف الله ويؤمن به ويتمم وصاياه لا شك يصل أخيراً لملء النعمة والبركة. وبالعكس فمن لا يفعل ذلك يكون نصيبه الفشل والخذلان. وعلى العالم أجمع أن يأخذ هذه المثالة لنفسه مما يلقيه أمام شعبه من دروس هي لمنفعة البشرية كلها ولتقدمها وخلاصها.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلسِّتُّونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ. تَسْبِيحَةٌ


«١ يَقُومُ ٱللّٰهُ. يَتَبَدَّدُ أَعْدَاؤُهُ وَيَهْرُبُ مُبْغِضُوهُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِهِ. ٢ كَمَا يُذْرَى ٱلدُّخَانُ تُذْرِيهِمْ. كَمَا يَذُوبُ ٱلشَّمْعُ قُدَّامَ ٱلنَّارِ يَبِيدُ ٱلأَشْرَارُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ. ٣ وَٱلصِّدِّيقُونَ يَفْرَحُونَ. يَبْتَهِجُونَ أَمَامَ ٱللّٰهِ وَيَطْفِرُونَ فَرَحاً».
إنه والحق يقال لمزمور عظيم ليس بالنسبة لطوله ونفسه الشعري العالي بل لما يتضمنه من أمور خاصة به يمتاز على غيره من المزامير بما يضعه موسى عن فم هارون وأبنائه ويطلب من الله لدى تقويض خيمة الاجتماع أن يسير الرب أمامهم (عدد ١٠: ٣٥) وقال هتزج إنه ليس من السهل فهم هذا المزمور فهماً تاماً فهو على نمط ترنيمة دبورة يسمو بما فيه من الشعور والخيال الروحي بل هو يحوي أمجد ما في الآداب العبرانية القديمة بصورة مختصرة ولكنها جلية. فيه بركة موسى لإسرائيل ونبؤة بلعام وأفكار سفر التثنية وترنيمة حنة. ولكن اللغة واضحة وجريئة مما يجعلها أن تكون قائمة بذاتها. ولنا فيه نحو ثلاث عشرة كلمة لا نجدها في غيره. ومما يكرره الناظم كثيراً هو ذكر اسم الله أو الرب بصورة تستلفت الأنظار. وقد اختلف المفسرون كثيراً في موعد نظم هذا المزمور ولا مجال لبحث هذه الاختلافات الآن والأرجح أنه كتب أثناء حرب داود ضد سوريا وبني عمون (راجع ٢صموئيل ١٠: ٦). وقد استمرت الحرب عندئذ سنتين. والمزمور ينبض كله بالإيمان وإن الله يولي النصر لشعبه وهذا برهان كاف أنه سينتصر على جميع الشعوب. وهو ينقسم إلى قسمين فالأول يتناول (١ - ١٨) والثاني (١٩ - ٣٥). وهنا نسأل هل داود هو بالحقيقة ناظم هذا المزمور؟ ولهجة المزمور أن بني آساف هم الناظمون لا داود. ويذهب البعض أن نسقه يخص المملكة الشمالية (أفرايم) أكثر جداً من اليهودية. وإذا كان العدد ٢٨ يدل على مخاطبة الملك فمن المستبعد جداً أن يكون داود نفسه هو الناظم إذ من هو هذا الملك الذي يخاطبه. ثم أليس أن العدد ٢٧ يجعلنا نفتكر بموعد انقسام المملكة إلى شطريها الرئيسيين. والأرجح أن المزمور يدل دلالة واضحة على الحملة التي شنها يهورام ويهوشافاط ضد موآب ولكن الاعتراض على هذا هو أن هذه الحملة ليس بتذكارها ما يستحق أن ينظم الشاعر مزمور عليها.
(١) يبدأ المرنم كلامه بأمنية طالما رددها الشعراء الذين انتظروا خلاص الرب وصلوا من أجل قدومه. إذا قام الرب ناهضاً لعون شعبه فحينئذ جميع الأعداء يتبددون وهكذا فإن البار يفرح ويتعظم على نسبة معاكسة ما يفشل الشرير وينخذل. وإذا راجعنا (عدد ١٠: ٣٥) نجد أن هذا الكلام هو صلاة فيلتمس من الله أن يبدد الأعداء والمبغضين.
(٢) إن انخذال هؤلاء الأشرار أمر محقق وحالتهم عندئذ مثل الدخان الذي تذهب به الريح كل مذهب تقطعه إلى كل جهة وتحمله باتجاه سيرها. بل هم كالشمع الذي يذوب ويضمحل محترقاً أمام وجه النار. إن ذهاب الدخان هو دليل ضعف البشري وعدم الاستقرار فبينما نجد الدخان أسود كثيفاً متصاعداً إذا به بعد وقت قليل لا يبقى منه شيء. وكذلك الشمع الذي يظهر الشدة والقسوة طالما هو في حالة البرودة ولكن حينما يقابل النار لا يقوى على الصمود قط.
(٣) ولكن الصديقين الذين كانوا تحت نير الاستعباد إذا بهم يتهللون ويطفرون فرحين بعدما أصاب أعداءهم الأشرار هذه المصائب بواسطة الرب القدير. إن مواجهة الرب الذي نهض لنجدة شعبه كإنما نار خرجت من لدنه وطردت هؤلاء الأشرار وبددت شملهم وجعلت الخلاص حقيقياً أفلا يفرح الشعب عندئذ ويتهلل؟ بل ليكن فرحه كاملاً لا يشوبه شائبة.
«٤ غَنُّوا لِلّٰهِ. رَنِّمُوا لٱسْمِهِ. أَعِدُّوا طَرِيقاً لِلرَّاكِبِ فِي ٱلْقِفَارِ بِٱسْمِهِ يَاهْ، وَٱهْتِفُوا أَمَامَهُ. ٥ أَبُو ٱلْيَتَامَى وَقَاضِي ٱلأَرَامِلِ اَللّٰهُ فِي مَسْكَنِ قُدْسِهِ. ٦ اَللّٰهُ مُسْكِنُ ٱلْمُتَوَحِّدِينَ فِي بَيْتٍ. مُخْرِجُ ٱلأَسْرَى إِلَى فَلاَحٍ. إِنَّمَا ٱلْمُتَمَرِّدُونَ يَسْكُنُونَ ٱلرَّمْضَاءَ. ٧ اَللّٰهُمَّ عِنْدَ خُرُوجِكَ أَمَامَ شَعْبِكَ، عِنْدَ صُعُودِكَ فِي ٱلْقَفْرِ سِلاَهْ».
(٤) هوذا الله نفسه يتقدم سائراً أمام شعبه لذلك يطلب المرنم أن يحمده الشعب ويرنموا لاسمه وأن يستعملوا آلات الطرب في سبيل ذلك وأن يمهدوا له طريقاً ليركب في وسطهم. نجد في (إشعياء ٤٠: ٣٠) أن الرب يطلب مساعدة شعبه. بينما هنا يتقدم أمام شعبه الذين يسيرون وراءه ويغلبون بقدرته فقط. وهو يركب في القفار لكي يصل إلى الأعداء في أول بادرة ممكنة وهي القفار الموصلة إلى بلاد موآب وإلى ربة عمون (انظر ٢صموئيل ١٠: ٧ وما يليه) وقابل (إشعياء ٥٧: ١٤ و٦٢: ١٠). واسمه ياه أي الموجود. واهتفوا أمامه هتاف الظفر.
(٥) هذا الإله الكائن منذ الدهور جالس في مسكن قدسه. في سماء الجلال والعظمة ليحكم على التاريخ ويسير كل شيء حسب مشيئته. ولكنه أبو الأيتام لذلك لا عز لهم ولا رحمة تطالهم إلا بواسطته وكذلك هو قاضي الأرامل أي ينصفهم ولا يسمح لأي كان أن يعتدي على حقوقهم ويمتهنهم. فإذا كان الناس ظالمين غير رحومين بالأيتام والأرامل فإن الله لا يتخلى عنهم ولا يتركهم.
(٦) بل هو الذي لا يترك المنفردين والموحشين في وحدتهم بعيدين عن الأنس والتسلية كما وإنه يصل للأسرى ويخرجهم للراحة والبحبوحة ويرجعهم للأوطان سالمين. ولكنه حالاً يقول عن المتمردين إنهم يسكنون الرمضاء فيعيشون في أعظم مشقات الحياة ويدوسون على حجارة حارة لاذعة من شدة حرارة الشمس لأن هؤلاء المتمردين بعيدون عن رضا الله عليهم لذلك يتيهون في مثل هذه البراري الجرداء المهلكة. إن الله قد سار ويسير أمام شعبه ويقودهم إلى مراتع الأمن والسلام مخلصاً نفوس أتقيائه الصارخين إليه. وهنا يذكرهم على الأرجح ببرية سيناء وما احتملوه من مشقات ومخاطر ولكن الله كان معهم ولم يتركهم قط وهكذا فهو لا يتركهم الآن.
(٧) في هذا العدد يعيد الناظم ما ورد في ترنيمة دبورة (انظر قضاة ٥: ٤ وما يليه) وكلام دبورة ذاته يعود إلى ما ورد في (تثنية ٣٣: ٢ وخروج ١٩: ١٥ وما يليه) وعلى الأرجح إن مصدر ما ورد في (حبقوق ص ٣) هو من هنا. خروج الرب كما في (إشعياء ٢٦: ٢١) فهو في مقدمة إسرائيل يقودهم كما يفعل الرئيس الواثق بالغلبة والانتصار.
«٨ ٱلأَرْضُ ٱرْتَعَدَتِ. ٱلسَّمَاوَاتُ أَيْضاً قَطَرَتْ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ. سِينَاءُ نَفْسُهُ مِنْ وَجْهِ ٱللّٰهِ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ. ٩ مَطَراً غَزِيراً نَضَحْتَ يَا اَللّٰهُ. مِيرَاثُكَ وَهُوَ مُعْيٍ أَنْتَ أَصْلَحْتَهُ. ١٠ قَطِيعُكَ سَكَنَ فِيهِ. هَيَّأْتَ بِجُودِكَ لِلْمَسَاكِينِ يَا اَللّٰهُ. ١١ ٱلرَّبُّ يُعْطِي كَلِمَةً. ٱلْمُبَشِّرَاتُ بِهَا جُنْدٌ كَثِيرٌ: ١٢ مُلُوكُ جُيُوشٍ يَهْرُبُونَ يَهْرُبُونَ. ٱلْمُلاَزِمَةُ ٱلْبَيْتَ تَقْسِمُ ٱلْغَنَائِمَ».
(٨) هنا إشارة لما ورد عن جبل سيناء حينما نزلت الشريعة (راجع خروج ١٩) هناك يلتقي الرب مع شعبه. فقد جاء إليهم من الشرق وهم جاءوه من الغرب وقد انشقت السموات وبرهن عن قدرته بأن الجبل كان كأنه مضطرم بالنار ويهتز كله حتى خاف الشعب ولم يستطيعوا الدنو من ذلك المكان. وقد تكاثرت عليه البروق والرعود وأظهر لهم مجده وأثبت قدرته التي منذ ذاك الحين إلى الآن تحميهم وترعاهم. وللناظم قصد خاص بأن يدعو الله إله إسرائيل فيذكر بالعهد المقطوع والعلاقة المتينة الكائنة بين الشعب وإلهه وبواسطة الشريعة المنزلة أصبح ملكهم (تثنية ٣٣: ٥).
(٩) الأرجح أنه يشير هنا إلى أمور تاريخية حدثت في الماضي. والمطر المذكور هنا قد يكون أنه قد أمطر عليهم المن من السماء وأعطاهم معه السلوى غذاء في البرية القاحلة. وحينما أعطي إسرائيل الشريعة من جبل سيناء كان الشعب في حالة استقرار أفضل كثيراً من السابق ولكن تمّ استقرارهم تماماً حينما دخلوا الأرض الموعود بها وامتلكوها. وهكذا فيكون هذا العدد والعدد الذي يليه يشيران إلى البركات التي أسبغها الله على شعبه فيشير أولاً إلى الأمطار الضرورية للزورع. وكيف أن هذا الميراث (شعب إسرائيل) بعد أن نال منه الإعياء قد أراحه الله وأسكنه في أمن وبحبوحة.
(١٠) والشعب هنا يشبه بالقطيع الساكن في أرض خصبة مملوءة بالزروع والخيرات وهكذا حتى أن الفقراء والمساكين قد نالوا الكفاية في عيشهم ولا يعوزهم شيء (انظر إرميا ٣١: ٢١).
(١١) يستعمل هنا كلمة الرب بدلاً من الله وهو يعطي كلمته أي كلمة القدرة (حبقوق ٣: ٩) أو كلمة الوعد (مزمور ٧٧: ٩). وهذه الكلمة قد تأتي بقصف الرعد (مزمور ٦٨: ٣٤ وإشعياء ٣٠: ٣٠) أو إنه صوت البوق (زكريا ٩: ١٤). والأرجح هنا هي كلمة القدرة حيث يظهر الله عنايته التامة بشعبه فينتشلهم مما هم فيه إلى عيش البحبوحة والرخاء. ويذكر المبشرات لأن النساء أقدر على بث البشرى بين الناس. هكذا غنت مريم بعد الخلاص من جيش فرعون وهكذا غنت دبورة بعد الخلاص من يابين وسيسرا رئيس جيشه. وحينما انتصر يفتاح على العمونيين وحينما استقبلت المغنيات داود بعد قتله جليات الجبار.
(١٢) في العدد هذا يرينا الناظم لماذا يجب البشرى لأن الملوك يهربون ويعطي الله نصراً حاسماً مبيناً. وحينئذ فحتى المرأة التي لازمت بيتها ولم تخرج منه إذا بها تنال قسطاً وافراً من الغنائم والأسلاب.
«١٣ إِذَا ٱضْطَجَعْتُمْ بَيْنَ ٱلْحَظَائِرِ فَأَجْنِحَةُ حَمَامَةٍ مُغَشَّاةٌ بِفِضَّةٍ وَرِيشُهَا بِصُفْرَةِ ٱلذَّهَبِ. ١٤ عِنْدَمَا شَتَّتَ ٱلْقَدِيرُ مُلُوكاً فِيهَا أَثْلَجَتْ فِي صَلْمُونَ. ١٥ جَبَلُ ٱللّٰهِ جَبَلُ بَاشَانَ. جَبَلُ أَسْنِمَةٍ جَبَلُ بَاشَانَ. ١٦ لِمَاذَا أَيَّتُهَا ٱلْجِبَالُ ٱلْمُسَنَّمَةُ تَرْصُدْنَ ٱلْجَبَلَ ٱلَّذِي ٱشْتَهَاهُ ٱللّٰهُ لِسَكَنِهِ؟ بَلِ ٱلرَّبُّ يَسْكُنُ فِيهِ إِلَى ٱلأَبَدِ. ١٧ مَرْكَبَاتُ ٱللّٰهِ رَبَوَاتٌ، أُلُوفٌ مُكَرَّرَةٌ. ٱلرَّبُّ فِيهَا. سِينَا فِي ٱلْقُدْسِ».
(١٣) إشارة هنا إلى اطمئنان هؤلاء الراجعين من الحرب فبعد أن نالوا الظفر واقتمسوا الغنائم وتركوا أيضاً للنساء أن يقتسموا ما فضل إذا بهم يضطجعون مرتاحين غير عابثين بأي شيء (انظر أيوب ١٤: ١٤). ويكون حينئذ سلام في الأرض إلى سنين كثيرة (راجع قضاة ٥: ١٦ وقابله مع تكوين ٤٩: ١٤). كل شيء عندئذ سيكون موشى بالفضة ويلمع بلمعان الذهب. إن إسرائيل هو الحمامة (انظر مزمور ٧٤: ١٩ وقابله مزمور ٥٦: ١ وهوشع ٧: ١١ و١١: ١١).
(١٤) هوذا المرنم يذكر تلك الحادثة يوم الظفر العظيم على الأعداء فيصفه بأنه عندئذ أثلجت في صلمون. وقد يكون هذا الثلج كناية عن الأسلاب الكثيرة التي ملأت وجه الأرض بالخيرات وكان لمعانها يعطي بريقاً بسبب ما فيها من فضة وذهب. أو قد تكون إشارة إلى أن و جه الأرض قد اكتسى بالجثث من القتلى وهذا الرأي الأخير مستبعد. أو قد يكون بالفعل أن الدنيا قد أثلجت عندئذ وكثيراً ما يحدث أن تقع ثلوج في بعض السنين في أمكنة لم يقع فيها من قبل. أو أنه يشير إلى ثلوج متساقطة على قمة جبل صلمون وهو جبل الدرو في حوران يراه الناظرون من بعيد.
(١٥) هو جبل حوران وهو ذو أسنمة أي كثير القمم وأغلب حجره من البركاني الأسود بالعكس عن الصخور الكلسية والطباشيرية التي تؤلف جبل صهيون وما حوله.
(١٦) لا يستطيع المرنم أن ينسى جبل صهيون هو يذكر هذه الجبال الأخرى ويعني بذلك أيتها الشعوب القاطنة في الأرض والمحيطة بشعب الله من كل جهة. لماذا تترصدن شعب الله للإيقاع به. ألا تعلمن أيتها الجبال أن الله قد اختار جبلاً واحداً لنفسه هو جبل صهيون هناك هيكله ومسكنه إلى الأبد. ألا فليعلم العالم أن النعمة أعظم من الطبيعة ولذلك فهو يحكم العالمين بقدرته السرمدية ونعمته الإلهية.
(١٧) مركبات الله هي المركبات المؤلفة من الأجناد السماوية (٢ملوك ٦: ١٧) ومركبات الله هي مركبات نارية (٢ملوك ٢: ١١ و٦: ١٧). هي قوات ملائكية من أرواح وليست من هذا العالم (انظر دانيال ٧: ١٠). ويذكر سينا لأنه هناك أعطيت الشريعة الإلهية التي رافقها حضور الأجناد السماوية (تثنية ٣٣: ٢ وما بعده).
«١٨ صَعِدْتَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْياً. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ، وَأَيْضاً ٱلْمُتَمَرِّدِينَ لِلسَّكَنِ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ. ١٩ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ يَوْماً فَيَوْماً. يُحَمِّلُنَا إِلٰهُ خَلاَصِنَا. سِلاَهْ. ٢٠ اَللّٰهُ لَنَا إِلٰهُ خَلاَصٍ، وَعِنْدَ ٱلرَّبِّ ٱلسَّيِّدِ لِلْمَوْتِ مَخَارِجُ. ٢١ وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ يَسْحَقُ رُؤُوسَ أَعْدَائِهِ، ٱلْهَامَةَ ٱلشَّعْرَاءَ لِلسَّالِكِ فِي ذُنُوبِهِ. ٢٢ قَالَ ٱلرَّبُّ: مِنْ بَاشَانَ أُرْجِعُ. أُرْجِعُ مِنْ أَعْمَاقِ ٱلْبَحْرِ».
(١٨) إن الله بعد أن أصبح مركزه عالياً في صهيون ونال الانتصار على جميع أعدائه لذلك هو يصعد عالياً فوق الجميع ويأخذ عطايا من الناس دليل خضوعهم واستسلامهم له دون قيد ولا شرط. وحتى المتمردون أنفسهم الذين يعودون بالتوبة وطلب الغفران يشرق عليهم مجد الرب. وقد يكون المعنى أن المتمردين أنفسهم رغم حالتهم السيئة وعصيانهم قد قبلت شارة خضوعهم وقدموا عطاياهم لذلك سمحت لهم بالسكن في الأرض التي هي ملك الله وملك شعبه. وقد أخذ الرسول بولس هذا العدد (انظر أفسس ٤: ٨) وحينئذ هذا المسيح الغالب يعطي الناس عطايا الخلاص المجاني حتى للذين كانوا متمردين وقبلوه. فالظفر ليس للعظمة الخارجية (راجع كولوسي ٢: ١٥). وبهذا العدد ينتهي القسم الأول من المزمور.
(١٩) بهذا العدد يبدأ القسم الآخر من المزمور فيبارك اسم الرب الذي يحمّل عن شعبه أثقالهم ويعينهم لدى أحمالهم لأنه إله شفوق رحيم لا يترك شعبه رازحين غير مبال بمصيرهم. وفي الوقت ذاته نجد «يحمّل» تعني التعدية أي أنه يسمح لشعبه أن يحملوا ولكنه يعينهم في حملهم لئلا يسترسلوا في اليأس والقنوط.
(٢٠) الله هو الخلاص أي هو مصدر الخلاص وبدونه فالهلاك المحتوم. وخلاصه هو بأن لا يدع الموت يباغت أحباءه بل يخرجهم منه كلما لجت بهم المصائب. أي يخرجهم ويفلتهم مما هم واقعون فيه (راجع ١صموئيل ١٤: ٤١ و٢ملوك ١٣: ٥ والجامعة ٧: ١٨). فمن كان نصيبهم الموت قد نجوا بقدرة الله.
(٢١) وطريقة النجاة التي يذكرها هو أن الله غالب أعداءه فهو شديد بهذا المقدار حتى يسحق رؤوسهم ولا يسمح لهم أن يشمخوا عليه أو على من يلوذ به من شعبه المؤمنين. والهامة الشعراء أي الرأس المكسو بالشعر العالي دليل صلف القوة والتجبر (انظر تثنية ٣٢: ٤٣ وكذلك عدد ٢٤: ١٧).
(٢٢) يسمع الناظم هنا قولاً إلهياً بأنه سيُرجع من باشان بل سيرجع من لجج البحار وأعماقها ونتساءل ماذا أو من سيرجع؟ معروف من جهة تاريخية أنه حينما سقطت أورشليم أخذ بعض الأسرى من علية القوم ووضعوا في سفينة لكي تمخر بهم إلى روما لدى موكب تيطس في عاصمة الرومانيين سنة ٧١ م. ولكنهم رموا أنفسهم في البحر متخذين هذا العدد... ارجع من أعماق البحر. وهلكوا كلهم.
«٢٣ لِكَيْ تَصْبِغَ رِجْلَكَ بِٱلدَّمِ. أَلْسُنُ كِلاَبِكَ مِنَ ٱلأَعْدَاءِ نَصِيبُهُمْ. ٢٤ رَأَوْا طُرُقَكَ يَا اَللّٰهُ طُرُقَ إِلٰهِي مَلِكِي فِي ٱلْقُدْسِ. ٢٥ مِنْ قُدَّامٍ ٱلْمُغَنُّونَ. مِنْ وَرَاءٍ ضَارِبُو ٱلأَوْتَارِ. فِي ٱلْوَسَطِ فَتَيَاتٌ ضَارِبَاتُ ٱلدُّفُوفِ. ٢٦ فِي ٱلْجَمَاعَاتِ بَارِكُوا ٱللّٰهَ ٱلرَّبَّ أَيُّهَا ٱلْخَارِجُونَ مِنْ عَيْنِ إِسْرَائِيلَ. ٢٧ هُنَاكَ بِنْيَامِينُ ٱلصَّغِيرُ مُتَسَلِّطُهُمْ، رُؤَسَاءُ يَهُوذَا جُلُّهُمْ، رُؤَسَاءُ زَبُولُونَ، رُؤَسَاءُ نَفْتَالِي».
(٢٣) من مضمون هذا العدد يتبين أن العودة هي لله لأجل الانتقام من الأعداء وليس كما فهم أولئك اليهود قديماً (انظر العدد ٢٢) أي أن هؤلاء الأعداء ولو بعدوا واختبئوا في أقاصي الأرض وأعماق البحار فلن يستطيعوا النجاة من يد الله العادلة. بل هنا صورة هائلة كيف أن الأرجل ستصبغ بالدم من قتلى الأعداء وهكذا فحتى الكلاب سيكون لها نصيب من أجسام الأعداء ودمائهم.
(٢٤) يظهر هذا العدد مظهراً مجيداً لموكب ملوكي بعد أن ينتصر الإله على أعدائه ويخضعون له فهو الذي يحكم بالقداسة والعدل والإنصاف. وإذاً فمعنى «في القدس» هنا ليس من المرجح المكان المقدس بل الحالة المقدسة (راجع خروج ١٥: ١١ ومزمور ٧٧: ١٤) وقوله رأوا أي جميع البشر لأن الخطاب موجه للناس عموماً دون استثناء حتى يشهدوا بما يفعله الله نحوهم. ولا سيما أولئك الذين نجوا من الهلاك وكان نصيبهم أن يعاينوا موكب النصرة هذا.
(٢٥) هوذا المغنون في المقدمة يترنمون بأعذب الأناشيد ويأتي بعدهم الضاربون على الأعواد وذوات الأوتار من كمان وبزق وما أشبه وعلى الجانبين كانت فتيات يضربن الدفوف ويرقصن متهللات فرحات بهذا العيد الجليل. وهكذا فإن الشعب كله يشترك بجنسيه من رجال ونساء. وهذا الخلاص المذكور هنا مشابه فما ترنمت به مريم لدى الخلاص من عبودية مصر.
(٢٦) وأي موقف يا ترى ادعى للبركة من الجماعات الكثيرة التي يلذها جداً أن تسمع أخبار الله وتقدم السجود لجلاله الأقدس. وثم هم خارجون من عين إسرائيل أو نبع إسرائيل أي الآب الأول لبني إسرائيل جميعاً. أي أنه يدعو فقط شعب الله ويطلب إليهم أن يعترفوا بحمد الله وشكره علانية (انظر إشعياء ٤٨: ١ و٥١: ١ وقابل ذلك مع إشعياء ٥٨: ١٢).
(٢٧) وفي هذا المجتمع لأجل العيد يعدّد المرنم الأسباط المتسلطة على الشعب. فيذكر أولاً بنيامين لأن من هذا السبط خرج شاول الملك الأول لإسرائيل. وحالاً يعود فيرضي الجنوب فيذكر رؤساء يهوذا أيضاً ومنهم خرج داود. وزبولون ونفتالي هما السبطان أيضاً اللذان نالا أعظم المديح في ترنيمة دبورة (قضاة ٥: ١٨ وقابله مع ٤: ٦). فقد كانوا أشداء شجعاناً فقد أبلوا بلاء حسناً لنيل الانتصار.
«٢٨ قَدْ أَمَرَ إِلٰهُكَ بِعِزِّكَ. أَيِّدْ يَا اَللّٰهُ هٰذَا ٱلَّذِي فَعَلْتَهُ لَنَا. ٢٩ مِنْ هَيْكَلِكَ فَوْقَ أُورُشَلِيمَ لَكَ تُقَدِّمُ مُلُوكٌ هَدَايَا. ٣٠ ٱنْتَهِرْ وَحْشَ ٱلْقَصَبِ، صِوَارَ ٱلثِّيرَانِ مَعَ عُجُولِ ٱلشُّعُوبِ ٱلْمُتَرَامِينَ بِقِطَعِ فِضَّةٍ. شَتِّتِ ٱلشُّعُوبَ ٱلَّذِينَ يُسَرُّونَ بِٱلْقِتَالِ. ٣١ يَأْتِي شُرَفَاءُ مِنْ مِصْرَ. كُوشُ تُسْرِعُ بِيَدَيْهَا إِلَى ٱللّٰهِ».
(٢٨) ولا يكتفي المرنم أن يشترك في هذا الاحتفال العالم اليهودي فقط بل نجده كإنما يدعو جميع أمم الأرض وملوكها لتحية هذا الظفر وللفرح ولتقديم العزة والكرامة لله الذي هو مصدر هذا الانتصار العظيم. وقوله «بعزك» الضمير هنا يعود على الأرجح إلى ملك أرضي لا نعرف اسمه معرفة اليقين (راجع مزمور ٨٦: ١٦ و١١٠: ٢). والقسم الآخر من العدد «أيد يا الله...» إنما هو صلاة ابتهال لكي يكون هذا النصر بمشيئة الله وتأييده.
(٢٩) وقد اضطر ملوك على ما يظهر أن يأتوا إلى أورشليم ليقدموا خضوعهم وهداياهم للملك الجالش على العرش. ولكن المرنم ببراعته المملوءة بروح التقوى والخشوع يجعل هؤلاء الملوك أن يقدموا الهدايا لله. وقوله «من هيكلك» يقصد به فقط أن يجعل أورشليم مركز العالم وأن يكون الهيكل قلب أورشليم النابض. فيكون المعنى أنه بسبب هيكلك الكائن في أورشليم هوذا ملوك الأرض تقدم الهدايا اعترافاً بسيادة الله عليها وسلطانه الشامل.
(٣٠) وحش القصب المذكور هنا هو إشارة على الأرجح «لمصر» لأن مصر هي بلاد القصب والبردي (راجع حزقيال ٢٩: ٣ وقابله مزمور ٧٤: ١٣ وما يليه) وقد يكون هذا الوحش هو فرس النهر (انظر إشعياء ٣٠: ٦ وأيوب ٤٠: ٢١) أو إنه التمساح السابح في المياه. صوار الثيران أي بقية الملوك الصغار وهكذا جمع بين القوة والضعة وقابل بينهما. هوذا الشعب الذين يترامون بالفضة أي يتنازعون عليها ثم يتقاتلون في سبيلها جميع هؤلاء قد تشتتوا من وجه الرب ولم يعد لهم أي شأن.
(٣١) وهوذا النتيجة المحتومة لهؤلاء أن أعاظم الناس من مصر يأتون لكي يقدموا خضوعهم ويعترفوا بعظمة الله إله إسرائيل وكذلك كوش تأتي سريعاً رافعة يديها دليل التسليم والإذعان. أو قد يكون المعنى أن كوش تأتي بيدين مملوءتين بالهدايا والتقدمات الكفارية إلى الله لكي يرضى عنها (انظر ١صمئويل ١٧: ١٧ و٢أخبار ٣٥: ١٣).
«٣٢ يَا مَمَالِكَ ٱلأَرْضِ غَنُّوا لِلّٰهِ. رَنِّمُوا لِلسَّيِّدِ. سِلاَهْ. ٣٣ لِلرَّاكِبِ عَلَى سَمَاءِ ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْقَدِيمَةِ. هُوَذَا يُعْطِي صَوْتَهُ صَوْتَ قُوَّةٍ. ٣٤ أَعْطُوا عِزّاً لِلّٰهِ. عَلَى إِسْرَائِيلَ جَلاَلُهُ وَقُوَّتُهُ فِي ٱلْغَمَامِ. ٣٥ مَخُوفٌ أَنْتَ يَا اَللّٰهُ مِنْ مَقَادِسِكَ. إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ هُوَ ٱلْمُعْطِي قُوَّةً وَشِدَّةً لِلشَّعْبِ. مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ!».
(٣٢) وهنا يعمم المرنم دعوته ولا يكتفي أن يخصص مصر وكوش بل يطلب من جميع أمم الأرض أن تغني لله وتحمد اسمه العظيم. أي تعترف بعظمته وقدرته. وليس من الضروري أن تؤمن به تماماً إنه إلهها أيضاً. وعليها أن تشيد ترنماً وتعظيماً وهكذا ينتهي العدد بتعظيم الموسيقى لأجل حمد الله ومجده.
(٣٣) أي السائر في موكب مجده ليس على الأرض بل في أعلى السموات وهو لا يحتاج للعالم أن يقدم له الحمد والتسبيح إذ لديه الأجواق الملائكية منذ قديم الأزمنة إلى الآن وهم له يهتفون ويسبحون. وهو يبرهن للناس عند قدرته هذه فيكفي أن يعطي صوته حتى يخشع الناس ويتعبدوا له صاغرين عائدين إلى طلب رحمته ملتمسين ضياء وجهه.
(٣٤) فيا أيها الأمم والشعوب أعطوا العز لله. وهو الإله الذي يظهر جلاله بنوع خاص على شعبه الذي أظهر له عجائبه ورحمته منذ القديم. فكان في السحابة أمامهم وسط البحر الأحمر وكان في الغمامة التي حجبته عن عيونهم وهو يكلم موسى عبده في الجبل ويعطيه الشريعة الإلهية.
(٣٥) أنت يا الله سبب هيبة عظيمة لذلك يخافك الشعوب كلهم. لا سيما أولئك الذين يأتون إلى مقادسك ويشاهدون عظمتك وجلالك. وحينئذ يتحققون أنك تعطي قوة لأنك مصدرها وتشدد الشعب لمتابعة تقدمهم ومعرفتهم لك. ويختم كما في العدد ١٩ بقوله مبارك الله. ولكن هذه البركة يقدمها الآن جميع الشعوب فيشتركون في التسبيح والتمجيد. وهذه البركة هي التي ذكرها كاتب سفر الرؤيا. وهكذا يختم القسم الثاني من المزمور بما كان من نتائج انتصاره وغلبته التي تضم العالم وجميع شعوبه على السواء.


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلسِّتُّونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى اَلسَّوْسَنِّ. لِدَاوُدَ


«١ خَلِّصْنِي يَا اَللّٰهُ لأَنَّ ٱلْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي. ٢ غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ وَلَيْسَ مَقَرٌّ. دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ ٱلْمِيَاهِ وَٱلسَّيْلُ غَمَرَنِي. ٣ تَعِبْتُ مِنْ صُرَاخِي. يَبِسَ حَلْقِي. كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنِ ٱنْتِظَارِ إِلٰهِي».
يرجح أن الداعي لكتابة هذا المزمور هو صرخة الاستنجاد من أعماق الحزن والشقاء بل في سبيل ما تحمله المرنم من اضطهاد لأجل الحق الذي اعتنقه وحاول السير بموجبه. وهو يختلف عن المزمور سابقه اختلافاً تاماً فإن المتكلم هنا هو فرد من الناس وليس مجموعة المؤمنين وهو الأرجح داود في وقت اضطهاد شاول له ذلك الاضطهاد الشديد فيصرخ من أعماق قلبه. وهو في كثير من النقاط يشبه ما ورد في حياة داود عندئذ فهناك ترك الاتباع (مزمور ٥٩: ٩ و٣١: ١٢ و٢٧: ١٠). بل هناك الصوم المضني (مزمور ٥٩: ١١ و١٠٩: ٢٤) وهناك ذكر الأعداء (راجع مزمور ٣٥ و٥٩ و١٠٩) ثم يدعو رفاقه الذين جاهدوا واحتملوا الاضطهاد معه (مزمور ٥٩: ٣٠ و٢٢: ٢٧ و٣١: ٢٥). ولكن الشبه الأعظم هو بينه وبين (المزمور ٥٩).
ولكن فريقاً كبيراً من المفسرين يعزو كتابته لإرميا وليس لداود بالنسبة لوصف الاضطهاد العظيم الذي احتمله هذا النبي من أهل عناثوت (قريته) وبالنسبة لانطباقه على أخلاق إرمياء وعلى نسق الكتابة التي يتميز بها إرمياء. وكذلك فهذا المزمور هو من مزامير الآلام أي التي اقتبس منها السيد المسيح وقت الصلب وهو يشبه المزمور الثاني والعشرين من هذا القبيل.
(١) يطلب الخلاص من الله والصورة هنا أن المرنم في حالة الغرق أي أن الويلات حوله تطغى حتى تشبه الطوفان الذي تطغى مياهه على كل شيء حولها. وقوله «دخلت إلى نفسي». أي لم تعد هذه الويلات خارجية بل قد أصابت المؤمن إذ لا يهم إذا طغت ولم تصل إلينا بل كنا نحن في مأمن منها. وإنما الخطر الآن قد أصبح داخلياً.
(٢) والشيء المؤسف هو أن المرنم أصبح مدعاة الهزء والسخرية. فقد غرق في حمأة مملوءة بالأوحال (انظر يونان ٢: ٦ وإرميا ٤: ١٠) وهذه الحمأة لا مقر لها أي من كثرة عمقها فهي تبتلع كل من ينزل فيها ولا يعود يظهر. وقد تبين له أنه قد رسب في العمق لأن كثرة المياه كانت شديدة وغامرة.
(٣) وقد أصبح في حالة اليأس لأنه كلَّ من الصراخ بدون جدوى وقد نشف حلقه ويبس (انظر إرميا ٤٥: ٣). وأيضاً فإن عينيه قد كلتا من التطلع إلى هنا وهناك ليرى هل أرسل الله خلاصه وجعله في مأمن وسلام.
«٤ أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي ٱلَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. ٱعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْماً. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ ٱلَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ. ٥ يَا اَللّٰهُ أَنْتَ عَرَفْتَ حَمَاقَتِي، وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ. ٦ لاَ يَخْزَ بِي مُنْتَظِرُوكَ يَا سَيِّدُ رَبَّ ٱلْجُنُودِ. لاَ يَخْجَلْ بِي مُلْتَمِسُوكَ يَا إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ. ٧ لأَنِّي مِنْ أَجْلِكَ ٱحْتَمَلْتُ ٱلْعَارَ. غَطَّى ٱلْخَجَلُ وَجْهِي. ٨ صِرْتُ أَجْنَبِيّاً عِنْدَ إِخْوَتِي وَغَرِيباً عِنْدَ بَنِي أُمِّي».
(٤) وما أشد هؤلاء الأعداء وما أكثر عددهم. هم أكثر من شعر الرأس وبغضهم لي بلا سبب أي أنهم متحاملون ينساقون مع الهوى فلا تعرف صداقتهم يوماً ولا تميز عداوتهم فيمكن تجنبهم في الوقت المناسب (انظر مزمور ٤٠: ١٣ و٣٨: ٢٠ و٣٥: ١٩ وقابله مع مزمور ١٠٩: ٣ إن كان من جهة الموضوع أو اللغة). وهؤلاء الأعداء يطلبون هلاكي أي أنهم أعداء ألداء لا يرضيهم شيء سوى موت خصومهم تماماً. ويظهر قوله «رددت الذي لم أخطفه» أنه مثل دارج عندئد (راجع إرميا ١٥: ١٠) فهؤلاء الأعداء معتادون على الظلم والاعتصاب.
(٥) يلتفت المرنم هنا إلى نفسه ويرى بكل تواضع حماقته وذنوبه التي لا يمكن أن تخفى على الله الذي خلقه. ولا شك أن اعتراف المرنم بحماقته هو أول خطوة في سبيل الفهم وبالعكس فإن الذي يدعي المعرفة فإنها أول خطوة نحو الحماقة الحقيقية. كما أن الاعتراف بالذنوب هو أول خطوة في سبيل التخلص منها. ولا يمكننا أن نصل للكمال بمجرد ادعائنا له بل أن نسعى بتواضع للوصول إليه بكل حكمة وتؤدة.
(٦) أي إذا رأى الناس ما يعيبني أنا المتكل عليك فإنهم يخزون ويندحرون إذ يشعرون أن انتظاري للرب لم يكن في محله. ويكرر هنا اسم الرب فتارة يسميه رب الجنود وطوراً إله إسرائيل وذلك زيادة في التقرب والتكريم لاسمه تعالى «لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره». إن الذي يصلي هنا هو الإنسان الخاطئ بكل ما فيه من شرور وآثام يرتجي رحمة العلي.
(٧) وهنا سبب صلاته فقد احتمل العار والمذلة بسبب تمسكه بإلهه (انظر مزمور ٤٦: ٢٣ وإرميا ١٥: ١٥). فقد امتلأ الوجه بالخجل حتى لم يعد يعرف بين الناس (انظر أيضاً مزمور ٤٤: ١٦ وقابله مع مزمور ٨٣: ١٧) لقد تغيرت ملامحه من الضعف والهزال حتى أن الذين كانوا يعرفونه جيداً لم يعرفوه (مزمور ٣٨: ١٢ ومزمور ٨٨: ٩ وأيوب ١٩: ١٣ - ١٥ وإرميا ١٢: ٦).
(٨) وهكذا فحتى إخوته وهم أعرف الناس به وأقربهم إليه أصبح أجنبياً بينهم وقد كرر المعنى بقوله أنه أصبح غريباً بين بني أمه أي إخوته الأقرب إليه. لأنه عادة بنو الأم الواحدة هم بنو الأب والأم معاً. إذ أن تعدد الزوجات كان شيئاً مألوفاً عندئذ وليس الأمر كذلك في تعدد الأزواج (راجع تكوين ٤٩: ٨).
«٩ لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي، وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ. ١٠ وَأَبْكَيْتُ بِصَوْمٍ نَفْسِي، فَصَارَ ذٰلِكَ عَاراً عَلَيَّ. ١١ جَعَلْتُ لِبَاسِي مِسْحاً، وَصِرْتُ لَهُمْ مَثَلاً. ١٢ يَتَكَلَّمُ فِيَّ ٱلْجَالِسُونَ فِي ٱلْبَابِ، وَأَغَانِيُّ شَرَّابِي ٱلْمُسْكِرِ. ١٣ أَمَّا أَنَا فَلَكَ صَلاَتِي يَا رَبُّ فِي وَقْتِ رِضًى. يَا اَللّٰهُ بِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ ٱسْتَجِبْ لِي، بِحَقِّ خَلاَصِكَ».
(٩) هنا يصف المرنم حزنه الشديد من أجل حالة بيت الرب المؤسفة ولا ندري تماماً ما هي هذه الحالة هل المعنى في ذلك هو حالة جمهور العابدين وعدم ذهابهم لبيت الله وقيامهم بفروض العبادة الواجبة. أم أنهم لهم مظاهر التقوى الخارجية ولكنهم منكرون قوتها فيعيشون في السطحيات فقط ولذلك حينما يأتيهم نذير يردهم إلى طريق الهدى والصواب يعيّرونه ويشتمونه ولا يقبلون نصحه ولا بوجه من الوجوه.
(١٠) هذا البكاء المصحوب بالصوم هو دليل الاعتراف العلني وطلب الصفح من الله لأجل ذنوب أمته وشعبه وبدلاً من أن يرتدع الناس عن غيهم وخطيئتهم إذا بهم يعيرونه ويحسبون ذلك عاراً عليه ليس إلا (انظر مراثي ٣: ١٤ وقابله مع ٥: ١٤ وأيوب ٣٠: ٩). وقوله أبكيت بصوم نفسي أي قد رافق صومي هذا الحزن الشديد من الحالة السيئة التي أصبح الشعب فيها ولكن بدلاً من أن يكون ذلك مدعاة لرجوعهم عن إثمهم إذا بهم يعيروني هازئين ضاحكين.
(١١) وكان أن لبس المسح علامة الحزن والحداد على هذه الحالة المحزنة وقلت علّهم يرجعون عن غيهم ويستفيدون ولكن هوذا قد أصبحت لهم مثلاً في السخرية والعار. فبدلاً من أن يستفيدوا تمادوا وبدلاً من أن يتعظوا ويفهموا إذا بهم يصلون إلى أعمق دركات الشر والفساد.
(١٢) أي الجالسون في باب المدينة قرب ساحتها العامة ولا تزال العادة حتى اليوم يجلس أهل القرى في ساحة قريتهم لقص الأحاديث وتداول النوادر والأخبار. ولكن مما يأسف له المرنم حقاً أن هذا التداول كان يحمل طابعاً فاسداً رديئاً إذ قد لاكته الألسنة وأصبح علكة في الأفواه. ومن هم هؤلاء الناس سوى أحط الطبقات. وقد تمادوا في هزئهم حتى أصبح هذا المرنم بمواضيع الأغاني التي ينشدها السكيرون أثناء سكرهم وعربدتهم.
(١٣) ولكن هنا التفات جميل. إذ أنه يتخلص من الناس حواليه ليلتفت إلى الله. فما قام به من صوم وذرفه من دموع ولبسه من مسوح كل ذلك جعله أن لا يعتمد على أي الناس بل أن يركن إلى من هو مصدر كل عون ورشاد. والله يرضى عن صلاة كهذه ويقبلها (إشعياء ٤٩: ٨) ويستعمل كلمة الرب والله في وقت واحد. وهو يستنجد برحمة الله الواسعة لأنه يستجيب الدعاء ولا يغفل لحظة عن الصارخين إليه ليلاً ونهاراً.
«١٤ نَجِّنِي مِنَ ٱلطِّينِ فَلاَ أَغْرَقَ. نَجِّنِي مِنْ مُبْغِضِيَّ وَمِنْ أَعْمَاقِ ٱلْمِيَاهِ. ١٥ لاَ يَغْمُرَنِّي سَيْلُ ٱلْمِيَاهِ، وَلاَ يَبْتَلِعَنِّي ٱلْعُمْقُ، وَلاَ تُطْبِقِ ٱلْهَاوِيَةُ عَلَيَّ فَاهَا. ١٦ ٱسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ لأَنَّ رَحْمَتَكَ صَالِحَةٌ. كَكَثْرَةِ مَرَاحِمِكَ ٱلْتَفِتْ إِلَيَّ. ١٧ وَلاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنْ عَبْدِكَ، لأَنَّ لِي ضِيقاً. ٱسْتَجِبْ لِي سَرِيعاً. ١٨ ٱقْتَرِبْ إِلَى نَفْسِي. فُكَّهَا. بِسَبَبِ أَعْدَائِي ٱفْدِنِي».
(١٤) هنا يبدأ قسم آخر من هذا المزمور هوذا الخطر الذي كان فيه من قبل يزداد شدة وهوذا المتاعب تزداد تضييقاً عليه. ولا ندري تماماً هل هذا الطين من باب الحقيقة أو المجاز وهنا مجال للحسبان أن إرمياء نفسه قد يكون هو الناظم لأن أعداءه قد أنزلوه في بئر لولا رحمة الله لهلك فيها. ولا شك أن الغرق في الطين والأوحال هو من أفظع أنواع الغرق. وهكذا هو بعض هؤلاء الأعداء الذين جعلوني في أعماق المياه ولا أكاد أطفو لحظة حتى أنزل لحظات.
(١٥) كإنما سيل من المياه يتقدم نحوه ولا يرى منفذاً لينجو به من الخطر المحدق. وهو يرى أن الغرق لا شك آت عليه وحينئذ يبتلع ولا منقذ. وتطبق عليه الهاوية أي تتقوض أركانها وتنزل عليه وهكذا لا يعود يرى فيما بعد. هنا يكرر المرنم هذه الصورة عن العمق والهاوية مما يجعل الكلام من باب الحقيقة لا من أساليب البيان فقط.
(١٦) يطلب استجابة الرب له لأن رحمته صالحة أي لا تتركه وإن يكن كما في العدد ٢ قد سقط في الحفرة فهو يرجو أن لا يقضى عليه ولا يكون سقوطه كاملاً للفناء. إن الرب صالح وكل تدابيره إذا صالحة (انظر مزمور ١٠٩: ٢١) وهذا الصلاح هو وسيلة النجاة من كل شر (مزمور ٦٣: ٤ انظر أيضاً مزمور ٥١: ٣ والمراثي ٣: ٣٢). وقوله التفت إليَّ في آخر العدد ليس من قبيل الأمر بل الاستعطاف المبني على رحمة الرب وليس على ما يستحقه هذا الطالب.
(١٧) ويتابع صلاته فيطلب أن لا يحجب وجه الرب عن عبده لا سيما وهو في الضيق وكيف يكون له الفرج؟ وإنما قد طال انتظاره ويطلب جواباً سريعاً وحاسماً من إلهه. لا شيء يؤثر في النفس المؤمنة مثل الاطمئنان بالله والثقة بأنه يسمع ويستجيب.
(١٨) والسبب الذي يجعله يطلب مثل هذا الطلب هو لكي ينجو من الأعداء. وطلبه أن يفك الله نفسه فهي إذاً في أغلال ترسف مقيدة ولا يستطيع التحرر من ذاته. بل يطلب أن يعطى فدية عنه فهو أسير موحش بعيد الأهل والدار ولا يمكنه من ذاته أن يعطي فدية إذ ليس لديه الموارد الكافية ولكن الله يستطيع كل شيء فهو يطلب الفكاك والفدية ليعود إلى سابق حياته السعيدة الحرة.
«١٩ أَنْتَ عَرَفْتَ عَارِي وَخِزْيِي وَخَجَلِي. قُدَّامَكَ جَمِيعُ مُضَايِقِيَّ. ٢٠ ٱلْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ. ٱنْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ. ٢١ وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَماً، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلًّا. ٢٢ لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ قُدَّامَهُمْ فَخّاً وَلِلآمِنِينَ شَرَكاً. ٢٣ لِتُظْلِمْ عُيُونُهُمْ عَنِ ٱلْبَصَرِ وَقَلْقِلْ مُتُونَهُمْ دَائِماً».
(١٩) في هذا العدد أيضاً نجد من آثار إرمياء بوضعه مثل هذه الكلمات المترادفة «عاري وخزيي وخجلي» (راجع إرميا ١٣: ١٤ و٢١: ٥ و٧ و٣٢: ٣٧) كما أنها موجودة في (مزمور ٣١: ١٠ و٤٤: ٤ و١٧: ٢٥). وكذلك ذكره العلقم في الطعام والخل في الشراب فهذا شيء مألوف في إرمياء (راجع إرميا ١٥: ٥ و٨: ١٤ و٩) وهذا إشارة إلى منتهى المصائب والآلام بينما الأعداء يهزأون ويحتقرون.
(٢٠) إن هذا العار قد جعل له هماً كبيراً لم يستطع حمله فكانت النتيجة المرض. شعر أولاً بانكسار في قلبه وخاطره والسبب في شدة حزنه بالأحرى هو أنه قد انتظر من بعض أصدقائه أن يحتاطوه بشيء من اللطف والرقة فلم يبادلوه شيئاً من ذلك. وأية خيبة يا ترى هي أعظم من خيبة الصداقة الزائفة الكاذبة. وكان بحاجة للتعزية ولكن قد خاب فأله من أي المعزين.
(٢١) لقد تقدم ذكر العلقم في الطعام والخل في الشراب (في العدد ١٩). والعلقم علاوة على مرارته الشديدة فهو من النباتات السامة أيضاً وقديماً كانوا يخلطون بين الأمرين في بلاد الشرق فما كان مراً كان ساماً أيضاً. وقوله «يجعلون في طعامي» أي يخلطون ويمزجون بقصد الإيقاع به لكي يودوا بحياته. وقديماً كانت هذه الوسيلة تستعمل للاغتيال بواسطة طعام أو شراب.
(٢٢) ولكنه يطلب أن ما يضعونه من طعام أمام الآخرين يكون لهم أولاً حتى إذا كان من ضرر يقع عليهم ويصابون به قبل أي إنسان. وهم الذين يحسبون أنفسهم آمنين يقعون هم أولاً في الشرك الذي جعلوه لغيرهم. يقولون سلام وطمأنينة لهم ولكن لا شيء من ذلك لهم (إشعياء ٥: ٣).
(٢٣) وإذا عيونهم المتعطشة لمرأى الدماء ستظلم ولن ترى بعد الآن. لقد قصدوا الغدر والاعتداء ولكنهم لن يروا نتائجهما كما رتبوا. وهوذا متونهم التي يحسبونها شديدة ومتينة لكي تلحق الأذى بالآخرين إذا بها تصبح ضعيفة متلقلقة لأن قوة الله ضدهم وهكذا فهم لن ينالوا مأرباً مما قصدوه بل سيخيبون خيبة كاملة (انظر أيوب ١٣: ٢١ ومزمور ٢٩: ٧).
«٢٤ صُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطَكَ، وَلْيُدْرِكْهُمْ حُمُوُّ غَضَبِكَ. ٢٥ لِتَصِرْ دَارُهُمْ خَرَاباً وَفِي خِيَامِهِمْ لاَ يَكُنْ سَاكِنٌ. ٢٦ لأَنَّ ٱلَّذِي ضَرَبْتَهُ أَنْتَ هُمْ طَرَدُوهُ، وَبِوَجَعِ ٱلَّذِينَ جَرَحْتَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ. ٢٧ اِجْعَلْ إِثْماً عَلَى إِثْمِهِمْ وَلاَ يَدْخُلُوا فِي بِرِّكَ. ٢٨ لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ ٱلأَحْيَاءِ، وَمَعَ ٱلصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا».
(٢٤) يطلب إلى الله أن يصب عليهم غضباً وسخطاً مقابل ما يريدون أن يعطوا المرنم من شراب الخل وما يريدون أن يلحقوه به من شر وأذية. وهو لا يريد أن ينتقم لنفسه منهم بل يستنجد بإلهه القادر أن يقابل إساءتهم بما يستحقون (راجع مزمور ٧٩: ٦ وهوشع ٥: ١٠ وإرميا ١٠: ٢٥). ولأنه يطلب من الله أن يعاملهم بسخطه وغضبه فهو يريد الاقتصاص منهم بمنتهى الشدة والعنف ولا يريد أية مساهلة معهم أبداً فيقابل سخطهم عليه وغضبهم بسخط الله وغضبه عليهم.
(٢٥) ويشتد بالغضب عليهم بأن يطلب هدم بيوتهم حتى تصبح بلا ساكن. ولا شك أن تمنياً كهذا عند الساميين القدماء هو من أفظع الأشياء (راجع تكوين ٢٥: ١٦) وكذلك أيوب الأصحاح الأول. وهو يطلب لأعدائه هذا الويل العظيم لسبب اضطهادهم له وإساءتهم معاملته على تلك الصورة الوحشية الفظيعة.
(٢٦) يظهر أنه كان للمرنم شركاء في احتمال هذا الاضطهاد فبعد أن يذكر نفسه في القسم الأول من هذا العدد «الذي ضربته أنت هم طردوه» يعود فيقول «وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون» أولئك الذين قد دعاهم الله لكي يحملوا العبء مع المرنم ويشاطروه كل الآلام والمتاعب التي يتحملها في سبيل الله ونشر كلمته المقدسة بين الناس (راجع مزمور ١٠٩: ٢٢ وإرميا ٨: ١٨).
(٢٧) وهكذا فإنه يتمنى لهم أن ينحدروا من خطيئة إلى خطيئة ومن إثم إلى إثم لأن نعمة الله ورضاه قد رفعتا عنهم ولذلك فهم ينحدرون إلى الغضب السحيق. وهكذا فإن تراكم الآثام عليهم يشبه تراكم القصاص الذي لا شك سيكون نصيبهم العادل لأن الله لن يتركهم في غيهم وضلالهم دون أن ينالوا العقاب الأخير حتى يعودوا إلى الحق والصواب (راجع إرميا ١٦: ١٨). ولذلك فهم لن يتوبوا ولن يرجعوا إلى البر بل سيبقى غضب الله عليهم إلى الأبد.
(٢٨) وهو يتمنى أن يمحقهم محقاً ولا يبقى لهم ذكر في أرض الأحياء (راجع خروج ٣٢: ٣٢ وقابله مع إشعياء ٤: ٣ ودانيال ١٢: ١). والمرنم يتكلم فقط عن هذه الدنيا إذ لم تكن الآخرة واضحة أمامه. ولا نجد ذكراً صريحاً للخلود إلا في العهد الجديد وبواسطة المخلص يسوع المسيح الذي أنار الحياة والخلود وصار باكورة الراقدين. وقوله «الصديقون» فهم الصالحون وورثة الملكوت الإلهي وهكذا يتمنى فصلهم بتاتاً والقضاء عليهم قضاء مبرماً أبدياً.
«٢٩ أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَكَئِيبٌ. خَلاَصُكَ يَا اَللّٰهُ فَلْيُرَفِّعْنِي. ٣٠ أُسَبِّحُ ٱسْمَ ٱللّٰهِ بِتَسْبِيحٍ، وَأُعَظِّمُهُ بِحَمْدٍ. ٣١ فَيُسْتَطَابُ عِنْدَ ٱلرَّبِّ أَكْثَرَ مِنْ ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلاَفٍ. ٣٢ يَرَى ذٰلِكَ ٱلْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ، وَتَحْيَا قُلُوبُكُمْ يَا طَالِبِي ٱللّٰهِ. ٣٣ لأَنَّ ٱلرَّبَّ سَامِعٌ لِلْمَسَاكِينِ وَلاَ يَحْتَقِرُ أَسْرَاهُ».
(٢٩) يعود إلى نفسه ويرى حالته الشديدة وكآبته ولكنه بلغة (حبقوق ٢: ٤) يعيش بالإيمان بأن خلاص الرب وحده يرفعه. بل هو محفوظ به محاط بالعناية الحنونة. وهنا مقابلة بين نفسه وبين أولئك الذين ذكرهم من قبل. وهي مقابلة ذات مغزى مؤثر بعيد كما (مزمور ٤٠: ١٨) لقد كانوا من قبل في ارتفاع ولكنهم سيهبطون الآن بينما المرنم الذي كان في انخفاض وكآبة فهو سيرتفع ويصل إلى علو لن ينزل منه بعد ذلك.
(٣٠) وعليه فهو لن يفتر عن الحمد والتسبيح قط. وقوله «أسبّح اسم الله بتسبيح» فذلك من قبيل التوكيد واللغة العبرانية من هذا القبيل تشبه اللغة العربية باشتقاقها السامي القديم. ولا يكتفي بالغناء والتسبيح بل يعظم اسم الرب بالحمد وتقديم أسمى شعائر القلب أمام الله عربون الشكر الدائم والاحترام لجلاله الأقدس.
(٣١) وهذا الحمد هو أثمن في عيني الله وأطيب من تقديم الذبائح. وأما ثور البقر ذو القرون والأظلاف فهو ثور فتي ابن سنة تقريباً أو أنه لا يتجاوز سنه الثلاث سنوات وهكذا يكون حائزاً الشروط القانونية لتقديمه ذبيحة لله (راجع ١صموئيل ١: ٢٤). وهو من الحيوانات الطاهرة ذوات الأظلاف والمجترة كما ورد في (سفر اللاويين الأصحاح ١١). فيقول المرنم إن هذا الحيوان الحائز كل الصفات والشروط الممتازة للذبيحة لا يقاس بشيء بالنسبة لما يرفعه الإنسان المؤمن من تسبيح وحمد.
(٣٢) وهكذا فإن المؤمنين الذين نالوا الاضطهاد واحتملوه صابرين ودعاء سوف يكون لهم الآن الفرح الكامل ولا يشعرون بالهزيمة والانخذال. بل هوذا قلوبهم تمتلئ سلاماً وقوة وشجاعة والسر في ذلك كله هو لأنهم طلبوا الله فوجدوه فهو ليس عن أحد منا بعيداً. وقد رأى الودعاء هذا لأنهم كانوا ينتظرونه لذلك فإن سكوتهم السابق بل وانخذاله كان وقتياً سيعقبه هذا الانتصار الظاهر (راجع أيوب ٢٢: ١٩).
(٣٣) لقد احتمل أولئك الودعاء مع المرنم ونالوا الشقاء والآلام كما نال هو ولذلك فهم الآن يتمتعون بالسعادة والهناء كما هو أيضاً يتمتع. ويرى الودعاء ذلك فيفرحون كما رأينا في العدد السابق ذلك لأن الله يسمع أصواتهم ولا يتغاضى عن متاعبهم وصراخهم. وهكذا فإن الله لا يحتقر «أسراه» أي الذين يلجأون إليه ويسلمون لمقاصد قدرته ومحبته. فهم أسرى بمعنى أنه لا يجوز أن يأتوا أمام إلههم بأية حركة أو يبدوا أي اعتراض بل يخضعون له خضوعاً حقيقياً كاملاً.
«٣٤ تُسَبِّحُهُ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ، ٱلْبِحَارُ وَكُلُّ مَا يَدِبُّ فِيهَا. ٣٥ لأَنَّ ٱللّٰهَ يُخَلِّصُ صِهْيَوْنَ وَيَبْنِي مُدُنَ يَهُوذَا، فَيَسْكُنُونَ هُنَاكَ وَيَرِثُونَهَا. ٣٦ وَنَسْلُ عَبِيدِهِ يَمْلِكُونَهَا، وَمُحِبُّو ٱسْمِهِ يَسْكُنُونَ فِيهَا».
(٣٤) وهل عجيب أن يسلّم المؤمن نفسه لله ويظهر خضوعه كما يقدم حمده وتسبيحه. أليس أن السموات جميعها بكل جنودها تفعل ذلك. أليس أن الأرض كلها بكل مخلوقاتها من نبات وحيوان وإنسان. من كل ما في هذا الوجود من جلائل وعظائم إن كان على الأرض اليابسة أو وسط البحار وكل الحيوانات السابحة فيه. فإن هذه جميعها لا بد لها أن تظهر سجودها وتسبيحها للقادر على كل شيء لأن كل أحكامه عادلة ولا يترك خائفيه الودعاء بل يسندهم وينجيهم.
(٣٥) قد يكون هذا العدد والعدد الذي يليه مزيدين على هذا المزمور في أصل وضعه لأنه يذكر خلاص صهيون ورجوع السبي. بل يذكر بناء المدن المتهدمة ولا تعود خراباً والذين كانوا بعيدين مغتربين سيعودون للأوطان وتكون عامرة وآهلة فيهم. سوف لا يرثها أحد من الأمم العدوة المجاورة ولا ينقطع ذكر اسم الله عليها فهي بالأصل تخصه وقد أعطاها لشعبه ولا يمكن أن يتخلى عنهم للأبد (راجع إشعياء ٤٤: ٢٣). والمرنم يرى متنبئاً أن نسل هؤلاء المستضعفين سيكونون أقوياء. ووارثين ويحولون خراب مدينتهم إلى عمران ويظهر خلاص الرب أكيداً أمام عيون الجميع.
(٣٦) وهذا العدد أيضاً كما رأينا متصل اتصالاً وثيقاً بسابقه ويصعب علينا أن نحسب أن كتابته كانت في عصر داود ولكن يزول الكثير من الصعوبة إذا حسبنا أن إرمياء قد كتبه أو أحد تلاميذه المعاصرين أو الذين عاشوا بعيد عصره بقليل وحينئذ يصبح هذان العددان لهما معنى واضح. لقد عاش إرمياء حتى رأى ما تنبأ عنه بأم عينه ولذلك كانت آلامه من هذا القبيل مضاعفة. وقد ميّز إرمياء بين أورشليم ومدن يهوذا (راجع إرميا ٣٤: ٧). وإن يكن أن النبي قد رأى سقوط المدينة المقدسة فهو لم يعدم أملاً يلوح أمامه في الأفق البعيد أن العناية الإلهية لا تترك إلى النهاية بل سيكون خلاصاً عظيماً بعد الضيق العظيم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّبْعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ لِلتَّذْكِيرِ


«١ اَللّٰهُمَّ إِلَى تَنْجِيَتِي، يَا رَبُّ إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ. ٢ لِيَخْزَ وَيَخْجَلْ طَالِبُو نَفْسِي. لِيَرْتَدَّ إِلَى خَلْفٍ وَيَخْجَلِ ٱلْمُشْتَهُونَ لِي شَرّاً».
هو صراخ الاستنجاد يرفعه المرنم إلى الله لكي يعينه وينجيه من مضايقة الأعداء. وهذا المزمور لولا قليل من التحوير لقلنا أنه إعادة لما ورد في (مزمور ٤٠: ١٤ وما يليها) وقد يكون أن هذا المزمور مأخوذ من هناك وموضوع على نسق «إلوهيم» بدلاً «من يهوه» ولا يظن أن داود هو الناظم لهذا المزمور على هذ الصورة المقتضبة بل قد يكون أنه أخذ هذا القسم وحوّره على هذه الصورة لأجل أغراض العبادة في الهيكل وهكذا يكون هذا المزمور قد أخذ من مزمور سابق قد كتبه داود ولذلك احتفظ بالاسم على الأقل. ولا شك أن الاصل الذي في المزمور الأربعين هو أسمى من هذا معنى ومبنى فهو يحلق بعيداً ويستلهم من جمهور العابدين الخشوع والاحترام. ولكن ربما كان القصد من وضعه على هذه الصورة هو إلباسه قالباً شعرياً يتناسب مع لحن خاص بقصد الترنيم ليس إلا.
(١) قابل هذا العدد مع (مزمور ٤٠: ١٣) فنجد أنه يبدأ بخطاب لله بدلاً من قوله «ارتض يا رب بأن تنجيني». ولا فرق آخر سوى أنه غيّر الفعل إلى مصدر فقال إلى تنجيتي بدلاً من «بأن تنجيني». على كل فإن هذا المزمور بالنسبة لموضوعه مناسب جداً فهو يطلب النجدة السريعة.
(٢) ولأن المرنم يطلب النجدة السريعة فهو يلتمس من الله أن يجعل أعداءه في خزي وخجل. في رجوع للوراء واندحار لا سيما أولئك الذين يشتهون الشر له شهوة ولا يلتذون إلا بإيقاع الضرر والأذى. أما إذا نال هؤلاء أن يرجعوا للوراء ويخجلوا فإن محبي الله عندئذ يمكنهم السير للأمام والتقدم نحو إتمام مقاصد العلي المقدسة.
«٣ لِيَرْجِعْ مِنْ أَجْلِ خِزْيِهِمُ ٱلْقَائِلُونَ: هَهْ هَهْ! ٤ وَلْيَبْتَهِجْ وَيَفْرَحْ بِكَ كُلُّ طَالِبِيكَ، وَلْيَقُلْ دَائِماً مُحِبُّو خَلاَصِكَ: لِيَتَعَظَّمِ ٱلرَّبُّ! ٥ أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَفَقِيرٌ. اَللّٰهُمَّ أَسْرِعْ إِلَيَّ. مُعِينِي وَمُنْقِذِي أَنْتَ. يَا رَبُّ لاَ تَبْطُؤْ».
(٣) في الأصل العبراني «ليرجع على أعقابهم» وأرى أنه يناسب أن تكون الترجمة هكذا أفضل من قوله ليرجع فقط. أما القائلون هه هه! فهم الهازئون الساخرون بكل شيء. والسخرية هذه يظهرونها بالأخص بهذا المرنم المتكلم بلسان أتقياء الله فبدلاً من أن يرعووا ويرجعوا للصواب إذا بهم يتمادون في غيهم وجهالتهم ويتكلمون بالعظائم على أقدس الأشياء وأشرفها.
(٤) ولكن هزءهم هذا يقابل من المؤمنين بعدم الاكتراث لأن الله ينجي عبيده الضارعين إليه ويعطيهم بهجة وسروراً مقابل هزء أولئك وسخريتهم. فإن فرح المؤمن الحقيقي لأنه يعتمد على خلاص الرب وهو الترس الذي به يتقي سهام الأعداء التي تصوب ضده ولا يهاب بعد ذلك شيئاً. إن أولئك الهازئين يطلبون العظمة لأنفسهم ولكن المؤمنين الحقيقيين فيقولون ليتعظم الرب. لأنهم يعلمون أن لا عظمة حقة لهم إلا على نسبة ما يتورعونه أمام الله.
(٥) وهنا يعترف جهاراً بحقارته فيقول إن هؤلاء الهازئين قد يكون لهم شيء من الصواب في موضوع هزئهم به وتحقيرهم له لأنه مسكين وفقير ولكن هو ليس وحده ولا متروك من العناية الحنونة لذلك يطلب السرعة بالنجدة وعدم الإبطاء في العون والإنقاذ. لا سيما إن الله القدير هو الملجأ الذي لا يخيب وعندئذ فلا شك هؤلاء الأعداء سينخذلون ولا يكون نصيبهم سوى الدمار والاضمحلال.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلسَّبْعُونَ


«١ بِكَ يَا رَبُّ ٱحْتَمَيْتُ فَلاَ أَخْزَى إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٢ بِعَدْلِكَ نَجِّنِي وَأَنْقِذْنِي. أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ وَخَلِّصْنِي. ٣ كُنْ لِي صَخْرَةَ مَلْجَإٍ أَدْخُلُهُ دَائِماً. أَمَرْتَ بِخَلاَصِي لأَنَّكَ صَخْرَتِي وَحِصْنِي».
هنا مزمور يبدأ مثل المزمور الحادي والثلاثين وينتهي مثل المزمور الخامس والثلاثين. وهو صدى لما ورد في مزامير قديمة سابقة رسخت في ذهن الناظم حتى قلدها في هذا المزمور والتي رأى حقائقها في اختباراته الروحية المتنوعة. ومع ذلك فإن للمزمور صفته الخاصة التي تتبع في شكل تعبيرها بما نسميه النسق الأرميائي (نسبة للنبي إرمياء). وهاك بعض البراهين التي تجعلنا نعتقد أنه مكتوب بقلم إرمياء: أولاً أنه يري علاقة بين المزامير القديمة وما جاء من حوادث حتى قبيل السبي. ثانياً يوجد فيه نسق خاص به يحيك الحوادث السابقة بتفسيرات خاصة امتاز إرمياء بمثل الأسلوب. ثالثاً ذكره الأوصاف التي تنطبق على حياة الاضطهاد التي قاساها إرمياء. كانت خدمة إرمياء مدة ثلاثين سنة أيام ملك صدقيا. ويظهر أنه كان للمرنم عظمة ونفوذ عندئذ (راجع عدد ٢١).
(١) يطلب لنفسه أول كل شيء حماية ولا يجدها إلا في الله الذي لا يتغير ولا يزول بينما جميع البشر يزولون. وما أجمل افتتاح الكلام على هذه الصورة لا سيما إذا صح نسبة كتابة هذا المزمور لما بعد السبي قليلاً وكانت أورشليم قد سقطت في أيدي الأعداء. فكما يظن أن كتابة المزمور ٦٩ كانت حينما سقطت بعض يهوذا وأحرقت بالنار وهكذا يتبعه هذا المزمور بصورة تاريخية.
(٢) فهو يطلب الإنقاذ بيد الله القديرة التي تعمل كل شيء بعدل وإنصاف. وهذا العدل هو بالنسبة لما يظهره الأعداء من قسوة وظلم وتعسف ففي حالة كهذه يهرع المرنم لكي يستنجد بقوة علوية تخلص شعب الله من فساد المفسدين. وهكذا فإن المرنم يطلب من الرب أن يصغي إليه كإنما لا أحد يعير كلامه أي إصغاء وحينئذ يزداد الألم الذي يخز في نفسه من جراء هذه الأفكار القاسية والويلات المتوالية حتى يشعر أن لا شيء من التعزية والسلام يصل إليه قط.
(٣) وإذا به هنا مرة أخرى يعود لفكرة الحماية كما في العدد الأول ويؤكد لنفسه أن الله وحده هو الملجأ والملاذ وفي قوله «ادخله» قد صور لنا ليس فقط مجرد صخرة يستظل بها ويحتمي بل مسكن له باب يدخل فيه ويحتمي. ودخوله دائم أي في أي وقت من أوقات الشدائد والمصائب وهناك يجد لنفسه خلاصاً أكيداً من جميع طالبي نفسه ليهلكوها. بل أن الله قد أمر بخلاصه ومن يستطيع أن يخالف أمر ملك الملوك ويعصاه.
«٤ يَا إِلٰهِي نَجِّنِي مِنْ يَدِ ٱلشِّرِّيرِ، مِنْ كَفِّ فَاعِلِ ٱلشَّرِّ وَٱلظَّالِمِ. ٥ لأَنَّكَ أَنْتَ رَجَائِي يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ. مُتَّكَلِي مُنْذُ صِبَايَ. ٦ عَلَيْكَ ٱسْتَنَدْتُ مِنَ ٱلْبَطْنِ، وَأَنْتَ مُخْرِجِي مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي. بِكَ تَسْبِيحِي دَائِماً. ٧ صِرْتُ كَآيَةٍ لِكَثِيرِينَ. أَمَّا أَنْتَ فَمَلْجَإِي ٱلْقَوِيُّ».
(٤) يطلب النجاة هذه المرة من الأشرار وليس من الأعداء وذلك لأن هؤلاء الكلدانيين المحتلين لم يكونوا أعداء لإرمياء بل يطلب الحماية من بني جنسه الإسرائيليين الذين عاملوه أسوأ معاملة واحتمل منهم الاضطهاد الشديد بدل الإكرام لأنه كان سبب نجاة البقية الباقية منهم بل لو أنهم انتصحوا بنصائحه وتبعوا إرشاداته لم يكن وقع المصيبة عليهم شديداً مذكوراً. والمرنم يلجأ محتمياً من كف فاعل الشر أي الذي يقدم على الشر غير حاسب لما تأتي به العواقب. فهو شرير قاس متحجر القلب والضمير لا يخاف الله ولا يهاب إنساناً لذلك فهو مقضي عليه بالهلاك الأكيد.
(٥) ولكن هنا يظهر الإيمان العامل الذي يعطي رجاء وطيداً بالله الذي هو سيده أيضاً. لذلك فهو ليس فقط ملجأ أو باباً يدخله إلى حصن حصين بل هو شخص قوي له على المؤمن السيطرة التامة كما على ذاك الطاعة والخضوع. والشيء الجميل هنا هو أن هذه العلاقة ليست ابنة ساعتها ولا لأنه بسبب الضغط والاضطهاد فنلجأ لله عند ذلك ونتركه في الأوقات الأخرى بل هي علاقة وطيدة الأركان قديمة الأيام منذ وعيه الأول عرف الرب وتمسك به ولا يزال.
(٦) يل يذهب المرنم في ذلك بعيداً حتى يصل إلى منشأه الأول حينما كان في بطن أمه. هناك كان سنده فهو الذي أخرجه من الأحشاء وأعانه حتى أصبح ذا نفس حية فان رفيقه إذاً منذ البدء وإلى الآن. وإذا كان الأمر كذلك فمن الواجب أن يديم تسبيحه وتعظيمه بل يثبت تلك العلاقة القديمة ويستمر عليها فلا تزيدها الأيام والسنون سوى التوطد والتوثق.
(٧) إن كانت تلك هي علاقته الوطيدة مع الله فهي ليست كذلك مع الناس الآخرين الذين يرون فيه آية لسخريتهم يلوكونه بألسنتهم ويهزأون بأقواله ولا يصغون إليه ولا يستمعون إلى نصائحه. فإن الأكثرية من اليهود وقد ضلت السبيل وابتعدت عن الحق فبدلاً من أن يكون المرنم سبب خلاص وهداية لهم كان سبب دينونة لأنهم لم يرتدعوا ولم يطيعوه. ولكن ماذا يهمه؟ وهل يخاف منهم و يرجع؟ لا بل يستمر على ما هو فيه وليستمروا على ما هم فيه من ضلال وغواية. لأن ملجأه شديد قوي ويستطيع أن يحميه من مكايدهم دائماً (راجع ٢صموئيل ٢٢: ٣٣).
«٨ يَمْتَلِئُ فَمِي مِنْ تَسْبِيحِكَ، ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ مِنْ مَجْدِكَ. ٩ لاَ تَرْفُضْنِي فِي زَمَنِ ٱلشَّيْخُوخَةِ. لاَ تَتْرُكْنِي عِنْدَ فَنَاءِ قُوَّتِي. ١٠ لأَنَّ أَعْدَائِي تَقَاوَلُوا عَلَيَّ، وَٱلَّذِينَ يَرْصُدُونَ نَفْسِي تَآمَرُوا مَعاً ١١ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ تَرَكَهُ. اِلْحَقُوهُ وَأَمْسِكُوهُ لأَنَّهُ لاَ مُنْقِذَ لَهُ. ١٢ يَا اَللّٰهُ لاَ تَبْعُدْ عَنِّي. يَا إِلٰهِي إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ».
(٨) هنا مظهر جميل من مظاهر الإيمان الحي. وإذا بفم المرنم يمتلئ حمداً وتسبيحاً بينما أولئك المضطهدون مملؤون بالخبث والمكر والأذية ويتكلمون بأقبح الكلام. وما أجمل هذا الالتفات من هؤلاء الأشرار إلى الله مما يسببونه من آلام ومتاعب إلى منابع سلامنا وطمأنينتنا وراحتنا وهكذا لا نخاف شراً وإن كنا نسير في وادي ظل الموت. وقد أشغل وقته بمجد الله لا بمجد ذاته أو الناس حوله لذلك فهو لا يخاف أحداً ولا يتملقه بل يخاف الله ويذيع مجده في كل وقت ومكان.
(٩) ولأنه كان لله تلك العلاقة المتينة به منذ الصبا لذلك فهو يلتمس العون بعد في زمن الضعف والشيخوخة وذهاب القوة واضمحلال النشاط. هنا صلاة شيخ تدخل إلى أعماق القلوب إذ أن صلاته ليست طلباً لعون الله على احتمال متاعب الشيخوخة وآلامها بل أن يبقى الله معه كما كان في زمن الصبا والشباب. فيقول لا ترفضني ولا تتركني الآن (راجع مزمور ٥١: ١٣ وإرميا ٧: ١٥). وهو على عتبة الشيخوخة كما يصلي أن لا يتركه متى أصبح قريباً من الموت ويستولي عليه تمام الضعف والفناء.
(١٠) يذكر نفسه بحوادث مرت عليه وكان له نجاة منها ويقول إن هؤلاء الأعداء الذين حقهم أن يكونوا أحسن الأصدقاء هؤلاء لا عمل لهم سوى التقاول والتآمر. فهم كالوحوش الكاسرة التي تترصد فريستها لتقع بها. فلا رحمة في قلوبهم ولا محبة ولا حنان. إذاً فالإساءة التي تأتي منهم هي عن سابق قصد وتصميم فهم يفعلون الشر ويأتون المنكر لأنهم قد نووا عليه من قبل ولا يرعوون. وهم عصبة من أشرار بتكتل ومقاصد سيئة يعملون معاً وليسوا أفراداً مستقلين وهكذا فبليته بهم أعظم جداً.
(١١) يدعون لأنفسهم أن الله لم يعد يرعاه ويهتم به قد تركه فعليه لا بأس إذا هرب منا فعلينا أن نلحق به ولا نرتد عنه حتى يقع بين أيدينا نفعل به كما نشاء حاسبين أن الله لا ينقذه فيما بعد.
(١٢) في هذا العدد يقتبس المرنم صلاة قديمة لداود يظهر أنها قد أصبحت على كل شفة ولسان (راجع مزمور ٢٢: ١٢ و٢٠ ومزمور ٤٠: ١٤ وقابلها مع مزمور ٧٠: ٢ ومزمور ٣٥: ٢٢ ومزمور ٣٨: ٢٢ وما يليه).
«١٣ لِيَخْزَ وَيَفْنَ مُخَاصِمُو نَفْسِي. لِيَلْبِسِ ٱلْعَارَ وَٱلْخَجَلَ ٱلْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرّاً. ١٤ أَمَّا أَنَا فَأَرْجُو دَائِماً وَأَزِيدُ عَلَى كُلِّ تَسْبِيحِكَ. ١٥ فَمِي يُحَدِّثُ بِعَدْلِكَ، ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ بِخَلاَصِكَ، لأَنِّي لاَ أَعْرِفُ لَهَا أَعْدَاداً. ١٦ آتِي بِجَبَرُوتِ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ. أَذْكُرُ بِرَّكَ وَحْدَكَ».
(١٣) يطلب هؤلاء الأعداء أن يفشلوا فيما يضعونه من خطط بل ليكن نصيبهم الفناء والاضمحلال لأنهم ينوون الشرّ ولا يتراجعون عن إتمامه مهما كلفهم الأمر. بل أيضاً يطلب من الله أن يلبسهم العار فلا ينالون مقاصدهم السيئة بل ينفضح أمرهم ويعرفون بإثمهم فيهرب منهم الناس وينفرون لا لخوفهم منهم بل لاحتقارهم لهم وازدرائهم لأعمالهم الممقوتة. والفكر هنا يصل للأوج فبعد أن يقابل بين نفسه وبينهم ويظهر شدة الفرق يطلب الحماية بالنسبة لنواياه الطيبة كما يطلب الفضيحة والعار للأشرار.
(١٤) مرة أخرى يعود للرجاء ولا ينفك عنه أبداً وهذا الرجاء يزداد في قلبه شدة وقوة ويعبر عنه بالحمد والتسبيح لأنه لا يتذمر أبداً ولا يشكو سوى الله الذي لا يتخلى عن مراحمه له وإحسانه. ويظهر أن المرنم كان له مثل هذا الاختبار المرير من قبل. وكذلك قد قابل هذا الاختبار بعدم التذمر الكلي بل بروح التسليم والإذعان فكان له السلام الحقيقي الثابت.
(١٥) إن المرنم تجاه ما اختبره في الماضي من عظائم هوذا يحدث بعدل الله ومراحمه فهو لا يفتأ يفعل ذلك لا يكل ولا يني ولا يتراجع بل يصرف النهار كله بل النهار والليل أيضاً طالما هو في يقظة لكي يخبر الآخرين عن هذا الخلاص المتكرر الذي لا يعرف أعداد المرات التي ناله فيها (راجع مزمور ١٣٩: ١٧ و ما يليه). إن هذه البراهين الإلهية بمراحم الرب عديدة وثابتة (انظر مزمور ٤٠: ٦) ولأن هذه المراحم لا تعد بالنسبة لكثرتها كذلك فإن حمد الرب من أجلها يجب أن يكون مكرراً لا يحصى.
(١٦) ذلك لأنه يعتمد على جبروت الرب وقدرته غير المتناهية وهي في العبرانية بصورة الجمع أي مظاهر جبروته المتكررة فهي كسلسلة متصلة الحلقات (راجع مزمور ٢٠: ٧). وقوله آتي بِ أي أقدمها مثل براهين متتابعة وشواهد ناطقة بما صادفه في حياته من اختبارات روحية عميقة تثبت قدرة الله نحوه وعطفه عليه وعنايته التامة به. لأن هذه القدرة هي مملوءة بالبر والعدل أيضاً. وحينما يذكر الله يذكره وحده لأن لا شيء في الدنيا ولا أحد من الناس يستحق أن يذكر جنبه لأنه هو سبحانه مصدر النعم كلها فهو جواد على قدر ما هو جبار في إجراء ما يشاءه لهذه الكائنات جميعها.
«١٧ اَللّٰهُمَّ قَدْ عَلَّمْتَنِي مُنْذُ صِبَايَ، وَإِلَى ٱلآنَ أُخْبِرُ بِعَجَائِبِكَ. ١٨ وَأَيْضاً إِلَى ٱلشَّيْخُوخَةِ وَٱلشَّيْبِ يَا اَللّٰهُ لاَ تَتْرُكْنِي، حَتَّى أُخْبِرَ بِذِرَاعِكَ ٱلْجِيلَ ٱلْمُقْبِلَ، وَبِقُوَّتِكَ كُلَّ آتٍ. ١٩ وَبِرُّكَ إِلَى ٱلْعَلْيَاءِ يَا اَللّٰهُ ٱلَّذِي صَنَعْتَ ٱلْعَظَائِمَ. يَا اَللّٰهُ مَنْ مِثْلُكَ! ٢٠ أَنْتَ ٱلَّذِي أَرَيْتَنَا ضِيقَاتٍ كَثِيرَةً وَرَدِيئَةً، تَعُودُ فَتُحْيِينَا، وَمِنْ أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ تَعُودُ فَتُصْعِدُنَا».
(١٧) يعترف بأنه تلميذ عند قدمي الرب ويبدأ علمه منذ الصبا ويستمر كل الزمان. أي أنه منذ وعيه ومعرفته مميزاً بين الخير والشر قد أخذ يتعلم المثائل التي تلقى عليه فهي بعضها قد كان صعباً ثقيلاً وبعضها شاقاً عسر الفهم لأنه لم يكن ربما يفهم كل شيء ولكن مع مرور الزمان وتكرار الدروس قد رسخت حقائق في عقله حتى لا ينساها قط بل يخبر عنها حتى الآن. وهي عجائب أي أمور غير عادية قد اختبرها ويكنزها على الأيام والسنين (انظر مزمور ٢٥: ٤). وليس من الضروري أن تكون عجائب خارقة الطبيعة بل هي آيات ودلائل تشير إليه بدروس قيمة قد تعلمها ولا يريد أن ينساها أبداً.
(١٨) ومرة أخرى يطلب من الله أن لا يتركه في زمن الشيب والشيخوخة طالما له هذه الاختبارات القيمة على عقول الجيل الجديد ويلقيها دروساً تعلمها هو لكي يعلمها للآخرين أيضاً. لذلك فإن إطالة عمره ليس لمجرد أن يتمتع بلذة الحياة الدنيا بل ليخدم بها الآخرين ويقتادهم إلى أمور أعظم وأسمى. فهو يرى الجيل الجديد بدون حنكة واختبار وعليه أن يصغي إلى هذه النصائح الثمينة واختبارات الحياة التي مرت على هذه الشيخ الجليل فكما تعلم يريد أن يعلم ويفيد حتى يقبل الكثيرون لمعرفة الرب.
(١٩) كيف لا يفعل ذلك وموضوع كلامه هو الله ذاته بقدرته العجيبة وذراعه الممدودة للخلاص ومحبته الشاملة. إن بلاغة كلامنا وكثرته ووقعه يكون على نسبة الموضوع الذي نتكلم فيه والأشخاص الذين نعرفهم ونكرمهم ونريدهم أن يتعلموا. وهكذا فإن المرنم لديه بر الرب الواصل إلى السماء العلى ويملأ كل شيء بعظمته ومجده ومن مثله في الأرض أو في السماء؟ هو الذي صنع الأشياء الخطيرة وسيّر الحادثات بمقتضى حكمته غير المتناهية. لذلك فما على المرنم سوى أن يذيع هذا ويخبر به كل من يشاء.
(٢٠) نعم لقد سمح بخلال الأوقات الماضية بضيقات شديدة متنوعة. فإن قصده ليس التعذيب بل التهذيب فهو لا يسر بموت الخاطئ بل يريد له الحياة والنهضة على شرط أن ينهض أولاً لنفسه ويصلحها. لذلك فإن الله وإن سمح بسقوطنا ووصولنا إلى حافة الهلاك والموت حتى نكاد ندخل في جوف الهاوية إذا به يعود إلينا فيصعدنا مما نحن فيه وينتشلنا ويمنحنا حياة حقيقية كاملة. والمرنم لا يتكلم فقط عن اختباراته الشخصية بل هنا إشارة إلى ما أصاب الأمة كلها التي يتكلم بلسانها أيضاً فإن الله لن يتركنا قط بل يعود فيرحم بعد.
«٢١ تَزِيدُ عَظَمَتِي وَتَرْجِعُ فَتُعَزِّينِي. ٢٢ فَأَنَا أَيْضاً أَحْمَدُكَ بِرَبَابٍ، حَقَّكَ يَا إِلٰهِي. أُرَنِّمُ لَكَ بِٱلْعُودِ يَا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ. ٢٣ تَبْتَهِجُ شَفَتَايَ إِذْ أُرَنِّمُ لَكَ، وَنَفْسِي ٱلَّتِي فَدَيْتَهَا ٢٤ وَلِسَانِي أَيْضاً ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُ بِبِرِّكَ. لأَنَّهُ قَدْ خَزِيَ، لأَنَّهُ قَدْ خَجِلَ ٱلْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرّاً».
(٢١) إنك يا الله سبب عظمتي الحقيقية وأنت وحدك تزيدها وترجع إليّ بالرجاء والتعزية وهنا أيضاً قد يفهم منه أن الله يعود فيرجع عظمة الأمة ويعطيها التعزية الكاملة الشاملة فلا تعود إلى أحزانها ومتاعبها فيما بعد. هنا يقرن الماضي بالحاضر بالمستقبل فكما كان لهم من قبل متاعب وضيقات إذا الحاضر يبسم لهم ويلوح المستقبل لامعاً زاهراً لأن الله حي ولا يتخلى عنهم إلى التمام.
(٢٢) والمرنم يستيقظ لواجبه تجاه حالة كهذه ولا يسكت عن الحمد والثناء فيأخذ ربابه بيده لينشد أناشيده العذبة الحلوة (قابل مع أيوب ٤٠: ١٤). ولا يغرب عن باله قط أن يذكر حق الله لأن ذلك هو موضوعه الأهم. بل ويستعمل العود أيضاً لكي يكمل التوازي في هذا البيت والقصد أنه يستعمل الآلات الموسيقية الدارجة المعروفة عنده أما حقيقة أو مجازاً والمهم أنه يحمد الرب قدوس إسرائيل إله الآباء والجدود الحي الموجود منذ الأزل وإلى الأبد لا يعتريه أي تغيير.
(٢٣) هذا العدد مأخوذ من (مزمور ٧٨: ٤١ ومزمور ٨٩: ١٩) وكلا المزمورين أقدم عهداً بلا شك من هذا المزمور الذي بين أيدينا بل وهو أقدم من سفر إشعياء الذي يستعمل هذا التعبير أي قدوس إسرائيل نحو ثلاثين مرة وأقدم من حبقوق الذي يستعمله مرة واحدة. أما إرمياء فيستعمله مرتين (انظر إرميا ١: ٢٩ و٤٠: ٥). وهنا يقول إن الشفتين واللسان كما القلب والضمير والنفس الداخلية جميعها تشترك بالحمد والثناء. لأن الفداء الذي قدمه الرب كان عظيماً بهذا المقدار حتى لا يسعه أن يسكت أو أن يمر بهذه الحوادث بعدم تمعن أو اكتراث.
(٢٤) وهذا اللسان الذي يشارك بالترنيم إنما يفعل شيئاً آخر إذ هو يلهج ببر الله بالكلام وليس بالغناء فقط. وهو منشغل بذلك اليوم كله على شكل دائم مستمر. لأن عظمة الله وقدرته وجبروته قد ظهرت مؤيدة بالبراهين القاطعة الواضحة التي لا تدع سبيلاً للشك والتخمين. وأما البشر هؤلاء الأعداء الذين أرادوا الحط من كرامته والاستخفاف بنصائحه وعدم الإصغاء بل أرادوا له الضرر والاذية إذا بهم الآن قد فشلوا فيما ذهبوا إليه وتراجعوا عن إتمام مقاصدهم الشريرة لأن الله معه وهو سيده الوحيد فماذا يفعل به البشر؟ أو ليس هذا من ثمار الإيمان المتطلع لله فقط؟

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلسَّبْعُونَ


لِسُلَيْمَانَ


«١ اَللّٰهُمَّ أَعْطِ أَحْكَامَكَ لِلْمَلِكِ وَبِرَّكَ لٱبْنِ ٱلْمَلِكِ. ٢ يَدِينُ شَعْبَكَ بِٱلْعَدْلِ وَمَسَاكِينَكَ بِٱلْحَقِّ. ٣ تَحْمِلُ ٱلْجِبَالُ سَلاَماً لِلشَّعْبِ وَٱلآكَامُ بِٱلْبِرِّ. ٤ يَقْضِي لِمَسَاكِينِ ٱلشَّعْبِ. يُخَلِّصُ بَنِي ٱلْبَائِسِينَ وَيَسْحَقُ ٱلظَّالِمَ».
ليس من الضروري أن يكون العنوان «لسليمان» معناه أن سليمان قد كتبه بل أنه كتب في وصف سليمان ومدح ملكه بالأكثر لا سيما وهو العصر الذهبي الممتاز في مملكة إسرائيل الموحدة إذ لم تكن المملكتان قد انقسمتا بعد. فالناظم يذكر أمجاد عصر قديم يجعله مثالاً عالياً للعصر الذي عاش فيه هو كما نفعل نحن اليوم وكثيرون من الناس حينا نقول «سقى الله أياماً مضت...» ولكن الصعوبة هنا أن المزامير كلها يوضع عليها عادة اسم ناظميها فكيف نستطيع تغيير هذا الترتيب؟ ولا شك أن نسق الكتابة يبعد كثيراً عن نسق داود وهو أقرب لضرب الأمثال بتصوير المعاني واختصارها. والناظم قد اطلع على سفر أيوب الذي يظن أنه كتب في عصر سليمان. وربما كان هذا المزمور لتحية ملك ممسوح جديداً وكان يغني الشعب ابتهاجاً بذلك ولذلك فإن الكنيسة المسيحية قد استعملت هذا المزمور لعيد دخول المسيح إلى الهيكل.
(١) يذكر المزمور اسم «إلوهيم» في الافتتاح بقوله اللهم فهو إذاً من مزامير «إلوهيم» والصلاة موجهة إليه لكي يعطي أحكامه للملك الذي هو ابن ملك أيضاً أي من سلالة ملوكية عريقة أي أن يعطي الحكمة حتى تكون أراؤه مصيبة وقضاؤه عادلاً. ولا يكفي أن يطلب له الأحكام بل البر أيضاً. أي أن يتوجه بقلبه وأفكاره لله وهكذا تكون حكومته قد نالت موافقة السماء ورضاها أيضاً.
(٢) ذلك لأن الغرض من هذا الطلب هو العدل فلا يجري إلا الأحكام المنصفة العادلة لا سيما لديه مساكين كثيرون إذا لم يأخذ بناصرهم ولم ينتشلهم قد تدوسهم الفئة الظالمة تحت أقدامها. وهكذا فعلى الملك أن يحمل قسطاس العدل بين يديه لئلا يحيد الناس عن جادة الصواب وتكون العواقب وخيمة.
(٣) حينئذ هوذا الجبال يرتفع عليها راية السلام والوئام بل هوذا التلال العالية يسودها البر والعدل فلا يكون أحد من الناس مظلوماً أو غير نائل نصيبه من البحبوحة والخير. وقوله الجبال والآكام فالمعنى أن كل أنحاء البلاد لأنه لا يرى عن بعد سواها فهي الدليل على وجود بقية الأراضي وإن لم نرها بعيوننا. وحينما يكون سلام في البلاد حينئذ يزدهر العمران وترى آثار الخصب والبحبوحة في كل مكان.
(٤) هنا يعود لزيادة المعنى على العدد الثاني ويرينا أن حكم هذا الملك هو للإنصاف والعدالة فلا يكون إعوجاج في القضاء ولا ظلم على الرعية لا سيما الطبقة الفقيرة منها لأن في أيامه لا يكون ظلم ولا اغتصاب وإذا استمر الظالم على غيه ولم يرعو عن إثمه فما نصيبه سوى السحق التام.
«٥ يَخْشَوْنَكَ مَا دَامَتِ ٱلشَّمْسُ وَقُدَّامَ ٱلْقَمَرِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ٦ يَنْزِلُ مِثْلَ ٱلْمَطَرِ عَلَى ٱلْجُزَازِ، وَمِثْلَ ٱلْغُيُوثِ ٱلذَّارِفَةِ عَلَى ٱلأَرْضِ. ٧ يُشْرِقُ فِي أَيَّامِهِ ٱلصِّدِّيقُ وَكَثْرَةُ ٱلسَّلاَمِ، إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ ٱلْقَمَرُ. ٨ وَيَمْلِكُ مِنَ ٱلْبَحْرِ إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَمِنَ ٱلنَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي ٱلأَرْضِ. ٩ أَمَامَهُ تَجْثُو أَهْلُ ٱلْبَرِّيَّةِ، وَأَعْدَاؤُهُ يَلْحَسُونَ ٱلتُّرَابَ».
(٥) يعود هنا للعدد الأول ويخاطب الله ويقول إن الشعب يخشونه ويهابون اسمه على الدوام اي ما دامت الشمس والقمر (راجع دانيال ٣: ٣٣ وقابله أيوب ٨: ١٦) فيكون ذلك إلى الدهر والأبد وهكذا فإن حكم الملك العادل يجعل الشعب أن يخشى الله ويمجد اسمه إلى الأبد. وبالعكس فإن الملك الظالم وحكومته المعوجة تجعل الناس بعيدين عن الله إذ كما قيل «الناس على دين ملوكهم».
(٦) ليس من الضروري هنا «الجزاز» جمع جزة الخروف بل قد تكون تلك المروج المعشبة التي تقطع من أجل العشب الذي فيها فقط وليس من أجل ثمرها في المستقبل. فإن الحيوانات زمن الربيع تطعم بالأحرى هذه الأعشاب الخضراء بدلاً من الحبوب التي تكون قد أقتاتت عليها أثناء الشتاء. وقد يكون مخلوطاً بالتبن وأما الآن فهي تمرح في المروج الخضراء «ترتع فيها». وخوف الله ينزل منعشاً للأراضي مثلما ينزل المطر. وكم مرات حدث أن اصفر وجه الأرض في الربيع بسبب الجفاف والشمس المحرقة وبعد وقت نزلت الأمطار فتجدد وجه الأرض وعادت الخضرة بدل الاصفرار. وهكذا رحمة الله تصل للذين يخافونه ويعبدونه بالحق فهم لا يصيبهم الجوع بل دائماً في نضارة واخضرار.
(٧) هنا يعود للملك الذي بسبب عدله وإنصافه وبفضل ما يبذله من جهود مثمرة جبارة لأجل إحقاق الحق بين الناس وتسيير العدالة والإنصاف فيكون أن الصديق ينال في أيامه الفخار والمجد. فلأنه يحب البر هو نفسه لذلك يحب الأبرار والصالحين الذين ينالون أسمى المناصب وهم أعوانه لتسيير أمور الدولة على الأحكام العادلة وهكذا فتكون النتيجة بسيادة السلام في أنحاء المملكة ولا يكون أدنى داع للتذمر والشكوى طالما الملك يحب العدل والاستقامة وجميع الشعب ينالون حقوقهم ويعيشون سعداء في بحبوحة إلى الأبد.
(٨) هذا هو الملك العظيم الذي يباركه الرب ويمنحه سلطاناً واسعاً يصل من البحر إلى البحر أي من البحر الأحمر للمتوسط ومن الفرات إلى أبعد الأمكنة. هذا ما يتمناه له شعبه إذ يرون في مليكهم مثالاً حياً للعدالة فيدعون له بالملك الواسع الشامل الذي يمتد إلى أقصى الأمكنة المجاورة. والمعروف تاريخياً أن سليمان قد كان له هذا الملك الضخم بعد أن استراحت الأرض من الحروب التي عاناها والده الملك داود.
(٩) وهنا ينتقل من الأمور الداخلية في المملكة ذاتها إلى العلاقات الخارجية مع بقية الشعوب والممالك فيقول إن أهل البرية أي البدو الساكنون في أطراف المملكة يرعون الأغنام والمواشي فهؤلاء لا يستطيعون أن يقفوا في وجه الملك بل يطلبون رضاه خاضعين بل وجميع الأعداء لا يجسرون على رفع الرأس بل يتذللون أمامه إلى أقصى حدود المسكنة والذل مرتجين العفو والرضا منه لئلا تحل عليهم الويلات ولا يكونون.
«١٠ مُلُوكُ تَرْشِيشَ وَٱلْجَزَائِرِ يُرْسِلُونَ تَقْدِمَةً. مُلُوكُ شَبَا وَسَبَإٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّةً، ١١ وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ ٱلْمُلُوكِ. كُلُّ ٱلأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ ١٢ لأَنَّهُ يُنَجِّي ٱلْفَقِيرَ ٱلْمُسْتَغِيثَ وَٱلْمِسْكِينَ إِذْ لاَ مُعِينَ لَهُ. ١٣ يُشْفِقُ عَلَى ٱلْمِسْكِينِ وَٱلْبَائِسِ وَيُخَلِّصُ أَنْفُسَ ٱلْفُقَرَاءِ. ١٤ مِنَ ٱلظُّلْمِ وَٱلْخَطْفِ يَفْدِي أَنْفُسَهُمْ، وَيُكْرَمُ دَمُهُمْ فِي عَيْنَيْهِ».
(١٠) وهذا الملك ذو السطوة والسلطان العظيمين يكون له هيبة ووقار في قلوب الناس في أبعد الأمكنة حتى إلى ترشيش (ربما أسبانيا) وجزائر البحر حتى كريت وما جاورها ربما. كذلك فلا يبقى اسمه ممتداً للغرب بل وللجنوب أيضاً حتى يصل إلى ملوك شبا وسبا في أقصى البلاد العربية (راجع ١ملوك ص ١٠). هؤلاء جميعاً يقدمون تقدمات وهدايا فيها علامات الخضوع لسيادة هذا الملك عليهم لأنهم يسعون لاسترضائه بشتى الطرق فيقدمون له هذه الأشياء كضريبة خفية.
(١١) بل أن الملوك كلهم يفعلون كذلك دليلاً على كمال سلطانه عليهم جميعاً ويخدمونه كالعبيد لأن لا سيادة لهم على رعيتهم إلا برضاه وتحت مطلق سلطانه.
(١٢) أما السبب الذي يعزو إليه الفضل في قيام مثل هذا الملك الضخم وامتداده ومدى سيطرته على الناس فهو أن هذا الملك يحب العدل والإنصاف ولا يهمه سوى إجراء الرحمة والخير للجميع ولا سيما للفقير الذي يستغيث به وينجد البائس الذي لا يهتم به أحد ولا يلتفت إليه. وهنا منتهى العدالة الملكية إذ حينما لا يعود لهذا المسكين المظلوم من يمد له يد الإسعاف يعود للملك ذاته ويطلب منه المساعدة وإذا به يلبي نداء الواجب حالاً وينجيه مما هو فيه ولا يتخلى عنه أبداً.
(١٣) يزيد في إشفاقه فلا يكتفي بالنجاة بل يتحنن بعد ويمد يده بالإحسان فلا يبقى في الأرض أي أثر من آثار المسكنة والهوان. بل لا يبقى شيء من الفقر إذ أن مساعدته السخية لا تبقي أحداً في أي ضيق أو عجز من أي نوع من الأنواع (راجع أيوب ٢٩: ١٢). فهو عطوف حنون كريم يشفق ويتحنن على كل أنواع البلايا والنكبات ويأخذ على عاتقه أن يفعل شيئاً لإزالتها والتخفيف عن عواتق المتألمين منها لأنه يرى أن لا ثبات لملكه ولا قيام لسلطانه إلا بتثبيت دعائم الإنصاف والرحمة للجميع.
(١٤) فلا يرضى بظلم عليهم ولا يمكن أن تمتد يد بالخطف أو النهب أو أي نوع من أنواع التعدي ذلك لأنه هو نفسه يتداخل في الأمر ويفدي أنفسهم أما بدفع ما يتوجب مقابل فكاكهم أو بواسطة أوامر صريحة يجعل كل شيء يعود إلى سابق مجراه الطبيعي من النظام الشامل. فهو يرى أن دم المساكين بدلاً من أن يفك جزافاً يصبح عزيزاً مكرماً في عينيه وبدلاً من الموت يكون لهم الحياة وبدلاً من المذلة والعار يكون المجد والعزة والكرامة.
«١٥ وَيَعِيشُ وَيُعْطِيهِ مِنْ ذَهَبِ شَبَا. وَيُصَلِّي لأَجْلِهِ دَائِماً. ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يُبَارِكُهُ. ١٦ تَكُونُ حُفْنَةُ بُرٍّ فِي ٱلأَرْضِ فِي رُؤُوسِ ٱلْجِبَالِ. تَتَمَايَلُ مِثْلَ لُبْنَانَ ثَمَرَتُهَا، وَيُزْهِرُونَ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ مِثْلَ عُشْبِ ٱلأَرْضِ. ١٧ يَكُونُ ٱسْمُهُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. قُدَّامَ ٱلشَّمْسِ يَمْتَدُّ ٱسْمُهُ. وَيَتَبَارَكُونَ بِهِ. كُلُّ أُمَمِ ٱلأَرْضِ يُطَوِّبُونَهُ. ١٨ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ ٱللّٰهُ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ، ٱلصَّانِعُ ٱلْعَجَائِبَ وَحْدَهُ. ١٩ وَمُبَارَكٌ ٱسْمُ مَجْدِهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ، وَلْتَمْتَلِئِ ٱلأَرْضُ كُلُّهَا مِنْ مَجْدِهِ. آمِينَ ثُمَّ آمِينَ. تَمَّتْ صَلَوَاتُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى».
(١٥) وهكذا من كان مهدداً بالموت يعود للعيش الحر والإنتاج المثمر إذ أن هذا المظلوم المسكين بالأمس يصبح قادراً أن ينال ذهباً من ملكه وعزاً ومجداً بسبب حياة الرخاء والغنى التي يعيشها الآن بعد أن زال عنه الخطر وأصبح في أمن وسلام. وهكذا فإن هذا الفقير بالأمس الذي اغتنى بفضل الملك ونال العز والكرامة يصلي للملك داعياً بدوام ملكه ويطلب له البركة والكرامة كل الأيام. هذه هي المكافأة التقوية التي يستطيع تقديمها فيقدمها بكل محبة قلبية وسخاء.
(١٦) وحيئنذ هذا الشعب الآمن الذي يبارك ملكه العادل المنصف ويتمنى له تمام الخير وبالتالي فإن ملكه يجري العدل والرحمة نحو الجميع إذا به يتكاثر ويثمر فيكون مثل تلك الزروع المتمايلة والمتموجة في رؤوس الجبال. أي أن الرخاء والبحبوحة يعمان الجميع. وهكذا فإن تمايلها يشبه تمايل تلك الغابات الكثيفة التي تكسو لبنان وتجعله رائعاً باخضراره وليس بثلوجه فقط. بل أن العشب يصبح في بهجة وحبور كما هي حالة الأرض في الربيع حينما تكسوها الزهور المختلفة الأشكال والألوان. فيكون التمني أن يزداد الشعب عدداً ويزداد غنىً وبهجة وكرامة.
(١٧) يعود للملك فيقول إن اسمه خالد لا يمحوه كرور الأيام والسنين. وكما يمتد نور الشمس لكي يصل إلى كل مكان وينعشه ويحييه هكذا فإن هذا الملك الجليل العادل يكون صيته مالئاً كل البقاع والأمكنة. حتى أن جميع الناس يتباركون به ويقدمون له المديح والثناء. ذلك لأن الله سيباركه ويغنيه ويتمم له كل خير على تعداد الحسنات التي قدمها وعلى نسبة جلائل الأعمال التي قام بها.
(١٨ و١٩) في هذين العددين يوجد البركة الختامية للقسم الثاني من المزامير التي تنتهي هنا. فإذاً يكون أصل ختام المزمور في العدد السابع عشر. والله إله إسرائيل صانع العجائب هي تعابير قديمة مألوفة (راجع مزمور ٨٦: ١٠ و١٣٦: ٤ وقابلهما مع أيوب ٩: ٨). ويتمنى المرنم أن تمتلئ الأرض من معرفة الرب ومن مجده الذي يعرف باسم خاص بإسرائيل فيكون معروفاً لدى الأمم جميعاً أيضاً. ويطلب الاستجابة على هذا الدعاء مكرراً بلفظة آمين ثم آمين.
مع أن الختام «تمت مزامير داود» إذا ببعض المزامير التابعة تحمل اسم داود أيضاً فكيف نفسر ذلك؟ والجواب أنه لم يكن من أهمية لمثل هذه الأسماء فإن داود هو مبدع هذا النوع من الشعر الديني الغنائي فليس كل ما يحمل اسمه هو من الضروري بقلمه بل هو بروحه وأسلوبه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلسَّبْعُونَ


مَزْمُورٌ. لآسَافَ


«١ إِنَّمَا صَالِحٌ ٱللّٰهُ لإِسْرَائِيلَ، لأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ. ٢ أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خُطُوَاتِي، ٣ لأَنِّي غِرْتُ مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ ٱلأَشْرَارِ».
يذكر المرنم في هذا المزمور كيف أنه تغلب على تجربة ارتدادٍ عن الإيمان وهكذا استطاع أن يتمسك بإلهه مرة أخرى بصورة أرسخ وأثبت. لقد كان من قبل متردداً ضعيف العزم والإرادة يذهب مع كل ريح لأن إيمانه كان اسمياً ظاهرياً وأما الآن فقد أصبح اختبارياً حقيقياً. نعم لقد ولد في دين آبائه وجدوده ولكنه لم يكن له أية صلة به سوى مظاهر العبادة الخارجية لذلك حينما جاءته التجربة بأن رأى سلامة الأشرار والخير الذي يتمتعون به صدمته التجربة صدمة شديدة ولكنه لم يعتم أن تغلب عليها وعاد إلى الإيمان بصورة أثبت وأقوى. ومن الشر كان له خير عظيم. وهذا المزمور ينقسم إلى قسمين الأول حتى العدد ١٤ والثاني من العدد ١٥ إلى الآخر. ولا يوجد أي داع للشك أن الناظم هو آساف كما هو العنوان. والموضوع الذي يبحثه المزمور لا يتناول البحث عن عدل الله الكلي وإن الأشرار لا بد أن ينالوا جزاءهم إن عاجلاً أو آجلاً وهكذا فهو لا ينظر إلى المستقبل البعيد حينما يدان الناس جميعاً بل نظره إلى هذا العالم وهذا الزمان فقط.
(١) يفتتح كلامه «إنما» ومعناها هنا هكذا أو لذلك حسب الأصل العبراني ويقصد الاستنتاج من أمور سابقة. وهو يؤكد أن الله صالح بار في كل طرقه وأعماله وهو كذلك للأنقياء القلب خصوصاً (راجع مزمور ٢٤: ٤ ومتّى ٥: ٨). ولا يقصد هنا بإسرائيل الذين هم من نسل يعقوب بل كل المؤمنين الحقيقيين الذين يعيشون عيشة التقوى والفضيلة والصلاح.
(٢) الأرجح أن المرنم هنا يتكلم عن اختبار شخصي فيذكر أنه كان على شفير السقوط ولولا قليل لكان قد سقط وانتهى أمره (راجع مزمور ١٨: ٣٥ وقابله مع تثنية ٢١: ٧ وأيوب ١٦: ١٦). لقد كان هنا صريحاً يتكلم عن نفسه بكل تواضع وخجل ولا يخفي أنه كان في خطر الخطيئة والاضمحلال من جراء آثامه وبعده عن الله.
(٣) وسبب التجربة هو أنه رأى بعض المتكبرين الأشرار في خير وبحبوحة وربما كان هو عكس ذلك فلم يتمالك أن يغار منهم بعد أن قاس نفسه عليهم وكانوا له قدوة شريرة وسبب عثرة وهكذا زلت قدمه ولولا قليل لزلق ساقطاً إلى الحضيض. والغيرة هي تلك العاطفة المشتعلة بنار الحسد في كثير الأحيان فنحسد الناس حتى الأشرار منهم على أمور لا يجوز أن نحسدهم عليها.
«٤ لأَنَّهُ لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ، وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ. ٥ لَيْسُوا فِي تَعَبِ ٱلنَّاسِ، وَمَعَ ٱلْبَشَرِ لاَ يُصَابُونَ. ٦ لِذٰلِكَ تَقَلَّدُوا ٱلْكِبْرِيَاءَ. لَبِسُوا كَثَوْبٍ ظُلْمَهُمْ. ٧ جَحَظَتْ عُيُونُهُمْ مِنَ ٱلشَّحْمِ. جَاوَزُوا تَصَوُّرَاتِ ٱلْقَلْبِ. ٨ يَسْتَهْزِئُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ بِٱلشَّرِّ ظُلْماً. مِنَ ٱلْعَلاَءِ يَتَكَلَّمُونَ».
(٤) هؤلاء الأشرار لهم عيش مريح ولهم موت مريح أيضاً. فالراحة تكتنفهم من أول العمر إلى آخره وحينما يأتيهم الموت لا يتلوون معه من الآلام المضنية ولا يشعرون بأي نوع من الشدائد لأنهم أقوياء وجسمهم نشيط سمين فلا يستسلمون حسب الظاهر لضعف الجسد فإذا ماتوا يكون موتهم بهدوء تام مطمئنين. ولكن يذهب بعض المفسرين أن لا علاقة للموت هنا بل قد تكون الكلمة محرفة فيكون المعنى هكذا ليس عليهم شدائد وجسمهم سمين. أي هم لأنفسهم ولا يبالون بأي إنسان.
(٥) وفي هذا العدد نجد توضيحاً لهذا المعنى الأخير. أي أن هؤلاء الأشرار لا يهمهم مصائب الناس إذ يتعامون عن مرأى المصائب ويصمون آذانهم عن صراخ المساكين والمحتاجين. هم محبو الذات ويعيشون في دوائرهم الضيقة الصغيرة. ويظهر أنه لن تصيبهم المصائب. وهنا لا يريد المرنم مدحهم قط بل يصور قساوة قلوبهم وعماوة أذهانهم إذ هم بعيدون عن الناس ولا يهمهم أمرهم إلا على نسبة مصالحهم الشخصية.
(٦) لقد وضعوا الكبرياء قلادة على أعناقهم متفاخرين بما كان يجب أن يخجلوا به. وهم يلبسون الظلم كثوب فلا يفارقهم بل هو كجزء من حياتهم الخاصة. هم قساة عنيفون لا يرحمون ولا يشفقون (راجع إشعياء ٥٩: ١٧) ولذلك يتظاهرون بكبريائهم بكل وقاحة ويظلمون الناس ولا يرعون عن غيهم ولا ينتصحون من أحد فهم بالإضافة إلى شرهم يجدفون على أقدس الأشياء.
(٧) هذا شحم الاستهتار إذ يسمنون من عدم اكتراثهم بالناس. وقد تكون الترجمة أن قلوبهم غليظة إلى درجة أنها جاوزت الداخل إلى الخارج. فهم لا يستحون من شرٍ هم فيه. والقلب في نظره هو مركز كل العواطف (راجع متى ١٥: ١٨ وما بعده).
(٨) يتابع المعنى ذاته وهو أن هؤلاء الأشرار يستهزئون غير مهتمين بشيء. كلامه شرير كما أن نواياهم شريرة أيضاً. وهم يتكلمون من العلاء بالنسبة إلى كبريائهم إذ يحسبون أنهم من طينة غير طينة البشر (راجع إرميا ٥: ٢٨). وقد ذهب لوثيروس في ترجمته أنهم يهدمون كل شيء ويحوّلون كل مظاهر العمران قفراً يباباً. دأبهم الأذى بلسانهم ولا يتورعون عن أن يصرحوا بذلك أمام الجميع حاسبين أن ما يفعلونه كأنه ضمن سلطانهم لأنهم في مقام أعلى من الآخرين.
«٩ جَعَلُوا أَفْوَاهَهُمْ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ تَتَمَشَّى فِي ٱلأَرْضِ. ١٠ لِذٰلِكَ يَرْجِعُ شَعْبُهُ إِلَى هُنَا، وَكَمِيَاهٍ مُرْوِيَةٍ يُمْتَصُّونَ مِنْهُمْ. ١١ وَقَالُوا: كَيْفَ يَعْلَمُ ٱللّٰهُ، وَهَلْ عِنْدَ ٱلْعَلِيِّ مَعْرِفَةٌ؟ ١٢ هُوَذَا هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلأَشْرَارُ، وَمُسْتَرِيحِينَ إِلَى ٱلدَّهْرِ يُكْثِرُونَ ثَرْوَةً. ١٣ حَقّاً قَدْ زَكَّيْتُ قَلْبِي بَاطِلاً وَغَسَلْتُ بِٱلنَّقَاوَةِ يَدَيَّ».
(٩) هم يصرّحون أمام الجميع بما ينوونه من أمور شريرة خبيثة. لذلك فهم لا يكتفون بأن يضمروا الشر في قلوبهم ولا أن يتحينوا الفرص السانحة لكي يضربوا ضربتهم بل هم لا يبالون بأحد إذ يصيحون صاخبين بأصوات مرتفعة كأنها تبلغ عنان السماء ولكنها في الوقت ذاته تعم سكان الأرض. فهي إذاً مرتفعة فقط من جهة كبريائها وصنعها ولكنها ليست بعيدة بأذاها وضررها عن أي الناس (انظر حزقيال ٢٢: ١٢). فظلمهم ليس شيئاً يندمون عليه أو يخجلون منه أو من ذكره بل يتباهون به كأنهم يلعبون في حياة الناس كما يشاؤون وتشاء أهواؤهم وشرورهم.
(١٠) ولهؤلاء الأشرار جماعة من الناس يقتفون آثارهم ويلوذون بهم. وكان المرنم نفسه في خطر عظيم أن يكون أحدهم لو زلت به القدم وسقط. هم أتباع أشرار مثل سادتهم يخضعون للأوامر الصادرة إليهم ويعيشون لأجل إنالتهم مآربهم الخاصة. وهؤلاء الأتباع كانوا من قبل اتباعاً لله وقد تركوه راجعين للإثم والفساد. وهم مثل المياه التي لا تنضب إذ يستمر أولئك السادة على تغذيتهم بما يريدون فهم كالأرض فقط التي تمتص المياه. وهذه المياه هي ما يخضعون له من أوامر.
(١١) وهؤلاء الأتباع يتوغلون في حمأة الإثم والتجديف ويقولون في أنفسهم على الأقل وهل يعلم الله؟ إذ يحسبون أن الله الذي تركوه قد تغاضى عن سيئاتهم ويكرر السؤال مرة أخرى وهل عند العلي معرفة؟ (راجع أمثال ٣: ٢٨ وملاخي ١: ١٤ وقضاة ٦: ١٣).
(١٢) هم أشرار أقوياء أغنياء لهم سطوتهم ونفوذهم ولا يحتاجون أن يتستروا في الآثام التي يرتكبونها ولا يهابون الله ولا الناس إذ هم يحسبون أنفسهم أرفع من أن يحاسبهم أحد. يتظاهرون بتمام الراحة فيما يقترفونه فلا ضمير يبكتهم ولا قوة مادية تستطيع أن تقف في وجوههم (انظر إرميا ١٢: ١). إذاً فهؤلاء الأشرار يتمتعون حسب الظاهر بكل خير وتوفيق بينما هوذا الصالحون الأبرار ليس لهم ذلك.
(١٣) ويرى المرنم أنه قد زكى وطهر قلبه باطلاً بدون نفع يرتجى. لقد انتظر من الله خلاصاً فلم يجد لقد غسل بالنقاوة يديه ولكن على غير طائل. فإلى متى يستمر الأشرار في غيهم ولا يحاسبهم أحد وحتى متى يبطرون على هذه الصورة وفي بطرهم يدوسون الضعيف والبريء بل يسوقون معهم أتباعاً مثلهم يستخدمونهم في اقتراف المحرمات وعمل الشر والفساد. لقد سعى للطهارة (راجع أمثال ٢٠: ٩) وحاول أن لا يتدنس ولا يقترف أي الشرور (راجع أمثال ٢٦: ٦) ولكن عبثاً كان ذلك كله.
«١٤ وَكُنْتُ مُصَاباً ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ وَتَأَدَّبْتُ كُلَّ صَبَاحٍ. ١٥ لَوْ قُلْتُ أُحَدِّثُ هٰكَذَا لَغَدَرْتُ بِجِيلِ بَنِيكَ. ١٦ فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هٰذَا إِذَا هُوَ تَعَبٌ فِي عَيْنَيَّ. ١٧ حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ ٱللّٰهِ وَٱنْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ. ١٨ حَقّاً فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ. أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى ٱلْبَوَارِ.
(١٤) ولم يكن تزكيته أو امتناعه هذا بدون آلام نفسية تحملها على صورة مستديمة. فقد كان مصاباً كإنما بكارثة شديدة تحرمه لذة العيش إلى درجة بعيدة ولكن لم يذهب ذلك فيه عبثاً بل وصل إلى الضالة المنشودة وهو أنه أدب نفسه (راجع مزمور ١٠١: ٨ وقابله أيوب ٧: ١٨) وإذا راجعنا العدد العاشر وقارناه مع هذا العدد لوجدناه اعترافاً من المرنم بما فعله سابقاً من اشتراكه مع هؤلاء الأشرار ولكن تاب وندم وأصبح مؤدباً بالحق الذي من عند الله.
(١٥) ويقول أنه لو استمر على غيه السابق ولم يرجع إلى الله بالتوبة لكان قد خسر إيمانه بالله وصحبته لأولاده معاً على الذين هم جيل الرب بل كان غادراً بأقدس الأشياء بدلاً من أن يكون وفياً أميناً إلى المنتهى. وبالتالي يخسر البركات التي يسكبها الله على المؤمنين به. وعلينا أن لا ننسى أن العلاقة هي بين الله وشعب إسرائيل وليس بينه وبين الأفراد فقط إذ لم يتجرأوا أن يدعوا أنفسهم أولاداً لله فهم بنو جيل الله أو شعب الله ليس إلا.
(١٦) لقد قصد من قبل أن يستسلم للأوهام التي ذهب إليها أولئك الأشرار ولكنه عاد إلى نفسه وقصد أن يعرف الحقيقة ولا يتمادى في غواية الغاوين أولئك. وقد أتعبه تفكيره في الأمر تعباً كثيراً ولم يستطع حل المعضلة (جامعة ٨: ١٧). لم يصل إلى النتيجة التي وصل إليها بالاتفاق بدون تقدير للأمور وعواقبها بل قد أجهد نفسه وتأمل تأملات بعيدة المعنى والغور حتى انتهى إلى شيء.
(١٧) هذا الشيء الذي انتهى إليه لم يقده العقل فيه بل روح الدين القويم. فقد دخل مقادس الله بالورع والتقوى يطلب الإرشاد بالصلاة. وهو في تعبده هذا أخذ يقيس ما يحدث لهؤلاء الأشرار أخيراً وماذا تكون نتيجة حياتهم. لأن المهم في نظره ليس ما هم فيه الآن بل ما هم قادمون عليه بعد حين. وهنا انكشفت له الحقيقة كما هي. لقد كان في ظلمة وحيرة لا يدري ماذا يجيب نفسه أو بماذا يقنع هؤلاء الأشرار المستهزئين وإذا بالنور يشع عليه ويرى معاني جديدة للحياة الحقة.
(١٨) هنا يجد كما الحقيقة بأن هؤلاء إنما قد زلقوا إلى الأعماق ولا نجاة لهم إلا بالنهضة من سقطتهم والرجوع بالتوبة كما فعل هو. وإذا لم يفعلوا ذلك فهم إلى البوار والاضمحلال. وليس في نظر المرنم أي دينونة للحياة بعد الموت إذا لم يكن هذا الأمر قد وضح بعد وما يعنيه إنما هو هذا فإن الأشرار لا شك هالكون في هذه الحياة ولا يستطيعون أن يستمروا على زهوهم وعزهم طالما في شرور كهذه.
«١٩ كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً! ٱضْمَحَلُّوا، فَنُوا مِنَ ٱلدَّوَاهِي. ٢٠ كَحُلْمٍ عِنْدَ ٱلتَّيَقُّظِ يَا رَبُّ، عِنْدَ ٱلتَّيَقُّظِ تَحْتَقِرُ خَيَالَهُمْ. ٢١ لأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي وَٱنْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ. ٢٢ وَأَنَا بَلِيدٌ وَلاَ أَعْرِفُ. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ. ٢٣ وَلٰكِنِّي دَائِماً مَعَكَ. أَمْسَكْتَ بِيَدِي ٱلْيُمْنَى».
(١٩) وهوذا هم قد لحقهم الخراب منذ الآن فلا يستطيعون أن يستمروا على ارتفاعهم دون حساب قريب. وهنا يؤكد لنفسه ولا يسمح لأحد أن يغشه فيما بعد إذ أن الخراب سيصيبهم بغتة ولن يكونوا. وخرابهم هذا سيأتي عليهم في وقت لا يعرفونه وبشكل لم يتحققه أحد قبلهم على مثل هذه الصورة الفظيعة (راجع مزمور ١٨: ٤ و٣٠: ٤ و٢صموئيل ٢٢: ١٤).
(٢٠) وهكذا يضمحلون كما تضمحل الأحلام. إذاً هم أضغاث أحلام لا يوجدون إلا في خيال النائم. فهؤلاء الأتباع كانوا متوهمين ليس إلا ولم يقدروا نهاية الأشرار. ولكن بعد النوم لا بد أن تأتي اليقظة وحينئذ يذهب الخيال ويضمحل تجاه شمس الحقيقة المشرقة. فالشرير خيال فقط لا أهمية له إذ هو محتقر ومرذول من جميع الناس لأن الله قد رذله وحقره في الوقت المناسب. إذاً فإن كل من هو في غفلة عن هذه الحقيقة هو يحلم أحلاماً لا شيء من الصحة فيها قط.
(٢١) هنا يلتفت المرنم مسبقاً لتجربة أخرى قد تأتيه فإنه ربما يسقط فيها وحينئذ يتمرمر قلبه وينتخس في داخله. ذلك لأن فكرة الرجوع إلى تلك الحالة السيئة يقض عليه مضجعه منذ الآن ويحرمه لذة العيش ولا يطمئن باله قط. عليه أن يتعلم درساً قاسياً مما مضى وأن يتعظ بحالة الأشرار السيئة التي قد يصلون إليها فهم يزهرون كالعشب ثم يضمحلون.
(٢٢) وحينئذ فإنه إذ لم يتعلم فهو بليد قليل الفهم والإدراك. بل هو بهيم لا يستطيذع أن يعقل هذا الشيء البسيط. إن قيمة الدرس في الحياة لا تقوم فائدته على نسبة البيان الذي فيه ولا على البلاغة التي يعبر بها بل هو بالنسبة للوعي والإدراك. فمن فهم واتعظ كان أهلاً للحياة الإنسانية العالية ومن لا يفهم بعد كل الدروس التي تلقى عليه فهو أقل من بهيم (أيوب ٩: ٢).
(٢٣) ولكنه يعود إلى نفسه لينهض بها مرة آخرى فهو لا يرضى أن ينزل هذه المنزلة الدنيئة ولا أن يحسب مع تلك الجماعة التي توغلت في شرها واستهترت في إثمها. بل كان له أن درس الحياة وتأمل معانيها السامية وإذا به يتوب ويرجع إلى الله. وهوذا شعوره الآن إنه مع الله رفيقه الدائم وإذا بالتنازل الإلهي يشجعه ويقويه إذ أن الله قد أمسك يده وشد بها مقوياً ومطمئناً كما يفعل الأب مع ولده الصغير. واليد اليمنى أي اليد القوية التي تمسك أفضل من الأخرى.
«٢٤ بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي. ٢٥ مَنْ لِي فِي ٱلسَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي ٱلأَرْضِ. ٢٦ قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي ٱللّٰهُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٢٧ لأَنَّهُ هُوَذَا ٱلْبُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ. تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَزْنِي عَنْكَ. ٢٨ أَمَّا أَنَا فَٱلٱقْتِرَابُ إِلَى ٱللّٰهِ حَسَنٌ لِي. جَعَلْتُ بِٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ مَلْجَإِي لِأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ».
(٢٤) والرأي الآن ليس منه بل من الله ذاته. فقد دخل مقادس الله مصلياً مسترشداً فلم يُترك وحده. ولأنه برأي الله وإرشاده فهو سينال الكرامة والمجد. وبالعكس عن أولئك الأشرار الذين كانت نهايتهم الخراب والبوار مع أنهم بدأوا في كرامة وعزة حتى استهانوا بكل الناس حولهم ولم يعتبروا حتى أحكام القدير. وما أجمل هذه المقابلة المقنعة بين بدائتين ونهايتين مما يجعل كل إنسان يسمع بها أن يقتنع ويعود إلى الصواب والهداية.
(٢٥) يتطلع نحو السماء فلا يرى سوى مجد الله. وأي إنسان يصل للسماء بدونه تعالى. إذاً فمطلبه السماء لكي يكون مع الله. وأما هذه الأرض التي حسبها قبلاً ملكاً للأشرار والظالمين يعود مقتنعاً بفساد هذا الحسبان ويؤكد أن «للرب الأرض وملؤها» ولذلك فهو يمشي مع الله في الأرض وليس في السماء فقط. وحينئذ فلا شيء في السماء أو في الأرض يجديه نفعاً بدون الله الذي به وحده ملء الكفاية لجميع المؤمنين باسمه.
(٢٦) قد يفنى الإنسان ويتحطم إلى قطع كثيرة ولكن الله هو صخرة الخلاص إلى الدهر. إذاً فقد يفنى الإنسان داخلاً وخارجاً أي قد يضيع عقله وقد تفنى قوته كلها ولكن الله يظل السند الدائم إلى المنتهى. فمن يبدأ حياته الحقة بالله فهو يستمر به يحيا كل حين بل تكون حياته مقدسة جديدة تترك الإنسان العتيق مع أعماله وتلبس الجديد الذي يتجدد - بقول العهد الجديد - بفعل الروح القدس.
(٢٧) يكرر مرة أخرى أهمية الاقتراب لله والالتصاق به. هو الغذاء للنفس أفلا يقع اللوم على تلك النفس إذا لم تتغذّ. وهو ماء الحياة وعلينا أن نشرب ونروي نفوسنا. لئلا نبيد ومن لم يرحم نفسه فلا ينتظر من الناس أن يرحموه. إيانا إذاً أن نبتعد مغتربين عن الوطن الحقيقي ذلك لأن الهلاك ينتظرنا ولا من يشفق.
(٢٨) وأخيراً يشدد نفسه ويصمم على الاقتراب. فقد اختبر صواب ذلك وتحققه بنفسه ويرى أن الواجب يدعوه أن يفعل ذلك لكي يخبر بعظائم الله ويحدث الآخرين بكم قد صنع لنفسه. فما استفاده لا يريد أن يحصره بذاته بل يوزعه على الناس الآخرين. وهنا مقابلة جميلة بين هدايته هو وبين إفساد أولئك الأشرار لاتباعهم فبدلاً من أن يظلم ويسبب تعاسة يريد الهداية والنور لنفسه وللناس.


اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلسَّبْعُونَ


قَصِيدَةٌ لآسَافَ


«١ لِمَاذَا رَفَضْتَنَا يَا اَللّٰهُ إِلَى ٱلأَبَدِ؟ لِمَاذَا يُدَخِّنُ غَضَبُكَ عَلَى غَنَمِ مَرْعَاكَ؟ ٢ ٱذْكُرْ جَمَاعَتَكَ ٱلَّتِي ٱقْتَنَيْتَهَا مُنْذُ ٱلْقِدَمِ وَفَدَيْتَهَا، سِبْطَ مِيرَاثِكَ، جَبَلَ صِهْيَوْنَ هٰذَا ٱلَّذِي سَكَنْتَ فِيهِ. ٣ ٱرْفَعْ خَطَوَاتِكَ إِلَى ٱلْخِرَبِ ٱلأَبَدِيَّةِ. ٱلْكُلَّ قَدْ حَطَّمَ ٱلْعَدُوُّ فِي ٱلْمَقْدِسِ».
هذا المزمور يعبر عن زمان اضطهاد ويستنجد بالله أن ينهض لمعاقبة العدو الذي دنّس مقادس الله وهدم معاهده وكإنما لم يبقَ نبي لله في الأرض بعد وتكاد عبادة الإله الحقيقي تضمحل لشدة الاضطهاد ولعدم المكترثين. ونلاحظ هنا التعبير أن شعب الله هو غنم المرعى. وكذلك نلاحظ تذكارات تاريخية (راجع مزمور ٧٩). ومما هو جدير بالذكر أن بعض ما ورد في هذا المزمور هو وارد في المراثي (ص ٢: ٢). وإذا حسبنا أن هذا المزمور قد كتب أولاً فيكون ما ورد في المراثي من باب المقتبسات وهي كثيرة في الكتب المقدسة. وقد ذهب البعض أن كثيراً مما ورد في هذا المزمور ينطبق على الاضطهادات التي أثارها أنطيوخس أبيفانيس سنة ١٧٠ و١٦٧ ق. م. وهكذا حسبنا أن بعض الصلوات أو الابتهالات التي تناقلتها الألسنة عندئذ قد دونت فلا أنسب من أن تكون هنا أو بعضها على الأقل. ولكن الصعوبة هي حينما يذكر الخرب الأبدية وهذه تنطبق على عصر نبوخذناصر أكثر من كل شيء. وحينئذ قد يكون هذا الخراب إما إشارة لأورشليم ذاتها فيكون التاريخ ٥٨٨ ق. م. أو لخراب الهيكل وإحراقه سنة ١٦٧ ق. م. ولكن إذا غربلنا كل الأدلة التي نعرفها نجد أن هذا المزمور ينطبق بالأحرى على عهد أنطيوخس أكثر ويتناسب مع صلاة يهوذا المكابي (راجع المكابيين الثاني ٨: ١ - ٤).
(١) هو رفض مستمر كإنما لا نهاية له ولا رجوع للرضا. والدخان هنا يرافق النار أي أن الله قد سمح أن غنم مرعاها نالها السوء كاملاً فأحرقت المساكن بالنار وذل الشعب كثيراً بسبب ما يقاسونه من متاعب وويلات (راجع إرميا ٢٣: ١).
(٢) يعود إلى الذكريات القديمة حينما اقتنى الله شعبه خاصة لنفسه (خروج ١٥: ١٧) أي قد اشتراه بمال وفكه من عتق لذلك هو يخص سيده الرب. وقوله «سبط» هو من باب تسمية الكل باسم البعض. والمرنم وهو يراجع التاريخ يذكر شعب إسرائيل بكامله. ثم يأتي لسبط ميراثه وهو الأرجح الذي منه خرج الملوك في أورشليم. ويعود فيزيد إيضاحاً حينما يخصص جبل صهيون حيثما قام الهيكل. وهو الموضع المقدس الذي خصص للعبادة وسكن الله فيه للأبد.
(٣) يرجو من الله أن يرفع خطواته صاعداً إلى جبل الموريا حيثما يقوم الهيكل الخرب لكي يرى بأم عينه ما تركه العدو من خراب وما حطّمه من أقدس الأشياء وأغلاها. فقد تمادى هذا المخرب في غيه وعدوانه. فقد امتهن كل شيء ولم يحرّم شيئاً صادفه في طريقه (راجع صفنيا ١: ٢). وهنا يتساءل المرنم كيف يجوز أن يذهب هذا الجاني الأثيم بدون أي عقاب.
ويا ليت تبدل الترجمة في القسم الأخير هكذا:
كل شيء قد حطمه العدو في المقدس.
«٤ قَدْ زَمْجَرَ مُقَاوِمُوكَ فِي وَسَطِ مَعْهَدِكَ، جَعَلُوا آيَاتِهِمْ آيَاتٍ. ٥ يَبَانُ كَأَنَّهُ رَافِعُ فُؤُوسٍ عَلَى ٱلأَشْجَارِ ٱلْمُشْتَبِكَةِ. ٦ وَٱلآنَ مَنْقُوشَاتِهِ مَعاً بِٱلْفُؤُوسِ وَٱلْمَعَاوِلِ يَكْسِرُونَ. ٧ أَطْلَقُوا ٱلنَّارَ فِي مَقْدِسِكَ. دَنَّسُوا لِلأَرْضِ مَسْكَنَ ٱسْمِكَ. ٨ قَالُوا فِي قُلُوبِهِمْ: لِنُفْنِينَّهُمْ مَعاً. أَحْرَقُوا كُلَّ مَعَاهِدِ ٱللّٰهِ فِي ٱلأَرْضِ».
(٤) يشرع هنا في وصف دقيق لما فعله هذا العدو كيف دخل إلى أقدس الأمكنة. فإن قوله «معهدك» يجب أن تفيد الهيكل وكل ما يحتويه من مختلف الردهات والقاعات والأروقة. فقد دخل العدوّ إلى كل مكان وأقام علامات دينه بدلاً من الأشياء التي تذكر بالدين اليهودي. وإذا فسرنا الكلمة العبرانية ميعاد بدلاً من معهد تكون إشارة للمكان المقدس الذي فيه يجتمع الرب مع شعبه. فبدلاً من أن يجتمع الشعب للورع والعبادة إذا بالعدو قد دخل بدون أي وقار يزمجر كإنما يريد الافتراس وإهلاك كل إنسان. وما هي هذه الآيات التي وضعها هذا العدو. الأرجح أنها ليست أعلام الظفر (راجع ١مكابيين ١: ٤٥ - ٤٩) بل هي رجسة الخراب (رجع دانيال ١١: ٣١).
(٥) يظهر هذا العدوّ المسلّح بمختلف أنواع الأسلحة القديمة وهو يدخل إلى الهيكل إنه يرفع فؤوساً كما يفعل الحطابون في تقطيع الأشجار ويكمل الاستعارة بقوله الأشجار المشتبكة إذ إن أمام هؤلاء كان شيء كثير للتخريب والهلاك لذلك احتاجوا لأسلحتهم حتى يتمموا مقاصده.
(٦) وإذا بهم يشرعون في التخريب حتى تختفي تلك المنقوشات الجميلة التي تزين واجهات الهيكل. وماذا يهمهم طالما بأيديهم هذه المعاول والفؤوس يريدون أن يكسروا ويحطموا ويا له من منظر مؤلم أن يرى المتعبد هؤلاء الجنود الأجلاف يدخلون إلى أقدس الأمكنة ويشوهونها على هذه الصورة المخزية حتى لا يتركوا شيئاً جميلاً قائماً أو شيئاً ذا قيمة لا ينهبونه.
(٧) وبعد هذا التخريب إذا بهم قد أشعلوا النيران حتى لا يبقوا على شيء. وهدموا وأحرقوا حتى وصلوا للأرض ذاتها التي أقيم عليها مقادس الله. فكان دنسهم أن لحق كل شيء حتى الأسس التي قام عليها البناء المقدس في أورشليم.
(٨) ولكن هذا العدو الظالم لم يكتف بما فعله الهيكل بل هوذا قد مدّ يده أيضاً إلى الأمكنة الأخرى حينما يجتمع الناس للعبادة. ولم يكن له أي قصد سوى الإفناء الكامل فهو لا يرضى أن يفعل شيئاً للانتقام فقط ثم يكف يده. بل هو لا يرعوي ولا يرجع حتى يكون قد تمم إلى الفناء الكامل وهنا منتهى الفظاعة. «فمعاهد الله» إذاً على الأرجح هي المجامع التي كان المتعبدون يجتمعون فيها للصلاة بعيداً عن أروشليم كما في أيام المسيح. مع أن مركز العبادة الرئيسي هو الهيكل نفسه. ولكن هذا لا ينفي وجود مثل هذه الأمكنة للذين لا يستطيعون الحضور للهيكل كل مرة. وهنا إشارة قوية إلى أن هذا المزمور قد كتب في أيام المكابيين.
«٩ آيَاتِنَا لاَ نَرَى. لاَ نَبِيَّ بَعْدُ. وَلاَ بَيْنَنَا مَنْ يَعْرِفُ حَتَّى مَتَى. ١٠ حَتَّى مَتَى يَا اَللّٰهُ يُعَيِّرُ ٱلْمُقَاوِمُ، وَيُهِينُ ٱلْعَدُوُّ ٱسْمَكَ إِلَى ٱلْغَايَةِ؟ ١١ لِمَاذَا تَرُدُّ يَدَكَ وَيَمِينَكَ؟ أَخْرِجْهَا مِنْ وَسَطِ حِضْنِكَ. أَفْنِ. ١٢ وَٱللّٰهُ مَلِكِي مُنْذُ ٱلْقِدَمِ، فَاعِلُ ٱلْخَلاَصِ فِي وَسَطِ ٱلأَرْضِ. ١٣ أَنْتَ شَقَقْتَ ٱلْبَحْرَ بِقُوَّتِكَ. كَسَرْتَ رُؤُوسَ ٱلتَّنَانِينِ عَلَى ٱلْمِيَاهِ».
(٩) بعد أن ذكر المرنم أن هؤلاء المخربين قد وضعوا إشاراتهم وآياتهم على الهيكل يلتفت ليقول أما آيات الله فلا نراها. ترى هل نسي الله شعبه؟ وهل هو لا يبالي بما يقاسونه من آلام وعذابات مريرة. وقوله «آياتنا» ليس معناها إذاً العجائب بل مجرد تلك المظاهر التي بها يتميز الهيكل أنه لعبادة الرب وليس لأية عبادة وثنية تفرض عليهم بالقوة. وأين الأنبياء لكي يخبرونا متى ينتهي هذا العذاب؟ وأين الزعماء والحكماء لكي يسيروا بالشعب نحو الحرية والفرح والسلام؟
(١٠) يعود فيتساءل حتى متى؟ ويا لها من صرخة الأمل العظيم والعتاب أن الله قد ترك شعبه ولم يرحم ميراثه. هنا يخاطب الله ذاته بعد أن خاطب نفسه والناس من قبل. فقد عيّر المقاوم واستهان باسم الله إلى أبعد درجة ولم يقف عند حدّ. وهل سيستمر هذا وإلى متى؟
(١١) قوله تردّ يدك ثم يتبعها بقوله يمينك قد تكون من باب عطف البيان. أي أن المرنم يريد أن يصوّر لنا أن الله قد رفع يده ولم يهتم بشعبه مع أنه قد أمسك بيمينه ولم يترك أحداً منهم. واليد اليمنى هي إشارة لقدرة الله فهي وإن تكن غير ظاهرة فذلك أن الله قد حجبها بعيداً وكإنما وضعها في حضنه. ويطلب المرنم مترجياً أن ينجدهم ويفني هؤلاء الأشرار على نسبة ما يفعلونه من خراب و فناء. وهنا ينتهي القسم الأول من هذا المزمور.
(١٢) يبدأ القسم الثاني فيذكر أن الله وحده هو الملك وهو كذلك منذ القديم وإلى الآن. هو الذي يخلص في وسط الأرض أي أرض إسرائيل التي قد نالها الذل والاضطهاد ولكن إلى حين. يصادف المرنم صعوبة لا يستطيع تفسيرها إذ كيف أن الله إلههم يرضى أن يحدث لهم هذا الاضطهاد وهو ساكت لا يساعدهم. أليس هو الذي خلّصهم في القديم؟ ثم ألا يريد أن يخلّصهم الآن؟
(١٣) أليس هو الإله العظيم الذي باسمه رفع موسى يده على البحر الأحمر فانشق إلى شطرين حتى عبروا بالرجل. أين قدرته الآن وأين جبروته؟ أيرضى أن يسحق شعبه إلى هذه الدرجة المخزية؟ أليس هو الإله القدير الذي حطّم رؤوس التنانين والأرجح هنا إشارة إلى قدرة فرعون وقواته التي حاولت أن ترجعهم لمصر وإلى أرض العبودية. فتكون التنانين معنوية أكثر مما طبيعية.
«١٤ أَنْتَ رَضَضْتَ رُؤُوسَ لَوِيَاثَانَ. جَعَلْتَهُ طَعَاماً لِلشَّعْبِ، لأَهْلِ ٱلْبَرِّيَّةِ. ١٥ أَنْتَ فَجَّرْتَ عَيْناً وَسَيْلاً. أَنْتَ يَبَّسْتَ أَنْهَاراً دَائِمَةَ ٱلْجَرَيَانِ. ١٦ لَكَ ٱلنَّهَارُ وَلَكَ أَيْضاً ٱللَّيْلُ. أَنْتَ هَيَّأْتَ ٱلنُّورَ وَٱلشَّمْسَ. ١٧ أَنْتَ نَصَبْتَ كُلَّ تُخُومِ ٱلأَرْضِ. ٱلصَّيْفَ وَٱلشِّتَاءَ أَنْتَ خَلَقْتَهُمَا. ١٨ اُذْكُرْ هٰذَا: أَنَّ ٱلْعَدُوَّ قَدْ عَيَّرَ ٱلرَّبَّ، وَشَعْباً جَاهِلاً قَدْ أَهَانَ ٱسْمَكَ».
(١٤) قد يكون لوياثان هو التمساح الموجود بكثرة على شواطئ النيل في مصر. فيكون أن يد الله قد سحقت قدرة مصر ولم يستطع اللحاق بهم للاستعباد بعد. وكما يضرب التمساح على رأسه الذي يرفعه فوق الماء حتى يموت هكذا فعل الله مع فرعون وجنده فقط ضربهم تلك الضربات القاسية التي ختمت بموت الأبكار وكانت النتيجة أن هذا الحيوان المفترس يصبح أكلاً لغيره. إذ يصادفه أهل البرية أي وحوش البرية ويجعلونه طعاماً لهم. فبدلاً من أن يكون آكلاً أصبح مأكولاً لا أحد يعتد به.
(١٥) يكمّل المرنم إشارته للتاريخ المقدس كيف أن الله أعطى عيوناً وفجر ينابيع في أحرّ الأمكنة. كما وأنه قد يبس ممراً في الأردن حتى استطاعوا أن يعبروا من الضفة الواحدة إلى الأخرى (راجع يشوع ٢: ١٠ و٤: ٢٣ و٥: ١). وفي قوله «أنهار» إشارة للمجاري العديدة التي تكوّن نهر الأردن. فهي لدى اجتماعها كلها قد يبسها الله لخلاص شعبه.
(١٦) هذا الإله العظيم هو نفسه الذي أوجد الكائنات كلها وجعل النهار والليل. وخلق الشمس التي منها تنبعث الأنوار لتحيي وجه الأرض. وفي الليل قد أوجد القمر والنجوم حتى تكون أنوار كافية لخدمة الإنسان. فإن الله جعل اليوم كاملاً بقسميه النهار والليل. كما أنه جعل للحياة قسميها العمل والراحة. أو النهوض والنوم. وبذلك تكمل الحياة وتسعد.
(١٧) قد يقصد هنا «تخوم الأرض» أي حسب قسمتها المعروفة قديماً ما هي متاخمة للبحر وما وراء البحر الكبير (راجع إرميا ٥: ٢٢ وتثنية ٣٢: ٨ وأعمال ١٧: ٢٦). فكما أن الله قد جعل للأرض تخوماً كذلك فقد جعل السنة بقسميها الكبيرين الصيف والشتاء. وحينئذ فيكون الربيع مع الشتاء ويكون الخريف مع الصيف. وقد جعل من هذه أشخاصاً بدلاً من أن تكون فصولاً فقط.
(١٨) بعد أن يذكر المرنم هذا التاريخ المفعم بجلائل الأعمال يقابل الحاضر وبه يرى عجباً كيف أنه يتجاسر العدو على التعيير وكيف أن شعباً جاهلاً يستطيع أن يهين شعب إسرائيل العريق في المدينة وله النبوآت وجميع أسرار المعرفة والدين. كيف يعيّر هذا الخالق شعب جاهل متصلف يظهر مثل هذه المظالم ولا يوجد من يجازيه على مثل أعماله الشريرة (راجع تثنية ٣٢: ٢١).
«١٩ لاَ تُسَلِّمْ لِلْوَحْشِ نَفْسَ يَمَامَتِكَ. قَطِيعَ بَائِسِيكَ لاَ تَنْسَ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٢٠ ٱنْظُرْ إِلَى ٱلْعَهْدِ. لأَنَّ مُظْلِمَاتِ ٱلأَرْضِ ٱمْتَلأَتْ مِنْ مَسَاكِنِ ٱلظُّلْمِ. ٢١ لاَ يَرْجِعَنَّ ٱلْمُنْسَحِقُ خَازِياً. ٱلْفَقِيرُ وَٱلْبَائِسُ لِيُسَبِّحَا ٱسْمَكَ. ٢٢ قُمْ يَا اَللّٰهُ. أَقِمْ دَعْوَاكَ. ٱذْكُرْ تَعْيِيرَ ٱلْجَاهِلِ إِيَّاكَ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. ٢٣ لاَ تَنْسَ صَوْتَ أَضْدَادِكَ، ضَجِيجَ مُقَاوِمِيكَ ٱلصَّاعِدَ دَائِماً».
(١٩) وقد يترجم هذا العدد أيضاً «لا تسلم للوحش المفترس يمامتك» ولكن الأفضل أن تبقى الترجمة كما هي لأن استعمال «نفس» هنا مضافة إلى اسم بعدها وارد بصورة كثيرة في الكتاب المقدس. وأما تشبيه إسرائيل باليمامة والحمامة فقد ورد من قبل (انظر مزمور ٦٨: ١١ وقابله مع مزمور ٦٩: ٣٧) ويقصد تلك الجماعة المضطهدة الذليلة كما هي اليمامة وقد طاردها الصيادون. ويزيد على ذلك قوله «قطيع بائسيك» فهم كالقطيع الذي يساق إلى الذبح بكل سكون واستسلام. وقد اشتهرت مزامير آساف بمثل هذه الاستعارات والتشابيه عن شعب الله لكي يصوّر مقدار ضيقهم وذلهم.
(٢٠) هذا هو العهد المقطوع بين شعب إسرائيل وإلهه (راجع تكوين ١٧) وهو الأرجح عهد الختان الذي أصبح الآن علامة فارقة حتى يفتك بهم الأعداء قاتلين منكلين. وهكذا فقد اضطر الشعب للهرب والالتجاء للمغاور وشقوق الجبال (راجع ١ملوك ٢: ٢٦ وما يليه وكذلك ٢ملوك ٦: ١١). ولكن قد لحقهم الأعداء ولم تغنهم مخابئهم شيئاً بل نالوا الظلم والهلاك إلى أبعد حد ممكن.
(٢١) ولكن لن يترك الله المنسحقين على هذه الصورة إلى وقت طويل. لأن الله سيرحم أتقياءه ولا يتخلى عنهم إلى الدهر. وهكذا فإن الفقير والبائس سوف يسبحان اسم الرب لأنه قد نجاهما من يد العدو الظالم الشرير.
(٢٢ و٢٣) يأتي المرنم لختام هذا المزمور على شكل مؤثر فهو يطلب من الله أن يقيم دعوى البائس المسكين لأنه لا يستطيع أن يقيمها عن نفسه (راجع ١صموئيل ٥: ١٢ وكذلك ١ملوك ٢٢: ٣٥) وموضوع الدعوى التي يقيمها هو أن هذا الظالم قد عيّر اسم الله العلي لذلك يستحق العقاب الشديد. إذاً فإن المظالم تهون بالنسبة لهذا التجديف القبيح. وإن يكن هذا التجديف خارجاً من فم جاهل فهو ملوم عليه كل اللوم ويجب أن يحاسب تماماً. وهكذا فإن تلك الأصوات التي ارتفعت مزمجرة تريد الفتك والتفظيع يجب أن تسكت الآن. وهذه الضجة يجب أن يعقبها سكون القصاص فإن الجاني يجب أن ينال ما تستحق يداه. وأما لهجة هذه الصلاة الأخيرة فهي حكيمة ومعتدلة للغاية وروح الانتقام فيها لا يدل على منتهى الحقد والضغينة لأن المرنم يطلب مجد الله وعزه لا مجد أي الناس مهما عظم شأنهم وزاد اضطهادهم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلسَّبْعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «لاَ تُهْلِكْ». مَزْمُورٌ لآسَافَ. تَسْبِيحَةٌ


«١ نَحْمَدُكَ يَا اَللّٰهُ. نَحْمَدُكَ وَٱسْمُكَ قَرِيبٌ. يُحَدِّثُونَ بِعَجَائِبِكَ. ٢ لأَنِّي أُعَيِّنُ مِيعَاداً. أَنَا بِٱلْمُسْتَقِيمَاتِ أَقْضِي. ٣ ذَابَتِ ٱلأَرْضُ وَكُلُّ سُكَّانِهَا. أَنَا وَزَنْتُ أَعْمِدَتَهَا. سِلاَهْ».
في هذا المزمور يرى المرنم أن الله هو الحاكم العادل على كل البشر ويظهر قدرته وسلطانه في ماجريات الأحوال العادية لذلك فإن المؤمن يعتز بذلك ويفتخر لأن إلهه لم يتركه في الماضي ولا يتركه الآن. وقد اختلف المفسرون في تعيين الزمان الذي كتب فيه. فبعضهم يحسبون أنه كتب على أثر خراب أمبراطورية أشور بينما آخرون يضعونه في زمان المكابيين أيضاً ولذلك قد وضع مرافقاً للمزمور سابقه فيكون هذان المزموران متممين واحدهما الآخر من جهة المعنى وبالتالي فقد نظما في الوقت ذاته تقريباً. هو مزمور لآساف أو على نسقه وقد وضع له لحن خاص «على لا تهلك». ويمتاز بعمق الأفكار الروحية وهكذا يرنم مصحوباً بالآلات الموسيقية.
(١) إن المؤمنين وهم يتوقعون خلاص الرب يقدمون الحمد والشكران له تعالى. واسم الله قريب بالنسبة لهذا الحمد الذي نصعده الآن. فهو إله قريب من الإنسان العابد الذي يأتيه بروح الخشوع والوقار (راجع مزمور ٥٠: ٢٣ وإرميا ١٢: ٢ وقابل مع تثنية ٣٠: ١٤) حينما يذكر اسم الله بالشفاه حينئذ يحدثون بعجائبه أيضاً فهو إله يستحق كل حمد وعبادة ولأنه قريب لذلك يشعر المتعبد بتلك اللذة الخشوعية التي تأتي لدى أمثال هذا الاجتماع المملوء بالوقار.
(٢) إن الله يعيّن ميعاداً لكل شيء لذلك فعلى الأمم الطاغية أن لا تتمادى كثيراً في ظلمها لأنه سيأتي وقت حينما يقضي الله بعدله على كل الناس وعلى كل الأمم أيضاً (راجع حبقوق ٢: ٣) ليس البشر هم الذين يعينون مثل هذا الميعاد بل الله ذاته بمطلق حكمته غير المتناهية سوف يتداخل في أمور الناس ويسيرّها كما يشاء هو ولا يترك لهم الأمور حبلها على الغارب. لذلك فعلى الإنسان كما على الأمة أن تنتبه وتتيقظ قبل فوات الأوان لئلا يقضي الله عليهم بالدمار والاضمحلال.
(٣) حينئذ تذوب الأرض مع سكانها من هول ما يقاسون (إشعياء ١٤: ٣١ وخروج ١٥: ١٥ ويشوع ٢: ٩). ذلك لأن الحكم الصارم سوف يصدر عليهم ولا مهرب منه ولا منجاة أبداً. وقوله تذوب أي يخونها العزم وتفقد شجاعتها وتتبعثر إلى كل جهة. وهذا الإله العادل بيده الميزان لكي يزن كل الاشياء والأعمال. لذلك فهو قد وضع الأنظمة والنواميس لكي يطبقها أيضاً على الجميع بالسواء.
«٤ قُلْتُ لِلْمُفْتَخِرِينَ: لاَ تَفْتَخِرُوا. وَلِلأَشْرَارِ: لاَ تَرْفَعُوا قَرْناً. ٥ لاَ تَرْفَعُوا إِلَى ٱلْعُلَى قَرْنَكُمْ. لاَ تَتَكَلَّمُوا بِعُنُقٍ مُتَصَلِّبٍ. ٦ لأَنَّهُ لاَ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ وَلاَ مِنَ ٱلْمَغْرِبِ وَلاَ مِنْ بَرِّيَّةِ ٱلْجِبَالِ. ٧ وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْقَاضِي. هٰذَا يَضَعُهُ وَهٰذَا يَرْفَعُهُ».
(٤) يتابع الله كلامه في هذا العدد الذي ابتدأه في العدد السابق ويخاطب به المفتخرين أي الذين يعتزون بأمجاد هذه الدنيا الفانية وأوهامها الخلابة. إنهم إذا افتخروا فقد سكروا موقتاً بخمرة القوة والجبروت ومتى صحوا من سكرهم يعودون إلى أسوأ مما كانوا فيه. إذا حسبنا هذا المزمور يتناول الكلام عن افتخار أشور فيكون ربشاقي وأصحابه هم الذين يعنيهم بقوله هذا (راجع إشعياء ٣٧: ٢٣ وزكريا ٢: ٤).
(٥) يزيد شرحه عن المعنى نفسه فهو ينصح هؤلاء المتكبرين المتصلفين أن لا يرفعوا قرونهم عالية ولا يصلبوا أعناقهم دليل التمرد والعصيان لأن الله أعلى من كل البشر وهو كما شاء صنع ولا مرد لأحكامه وتصلب الرقبة دليل الجبروت (راجع مزمور ٣١: ١٩ و٩٤: ٤). ورفع القرن هو استعارة من الحيوان الذي يهم بالقتال فهو على أهبة لكي يتصادم مع غيره (راجع ١صموئيل ٥: ٣).
(٦) هنا يعطي تنبيهاً عاماً لجميع الأمم القاطنة في الشرق أو الغرب أو التي في البرية الجنوبية. ولم يذكر الشمال لأن الخطر المداهم هو قادم من هناك على جميع تلك المقاطعات الإسرائيلية التي يجتاحها العدو المغتصب واحدة بعد الأخرى (انظر إشعياء ٣٦: ٦) وبرية الجبال هي البطراء وما جاورها من دولة الأنباط كما عرفت بعدئذ. هوذا الله حاكم على العالمين كلهم (إشعياء ٣٣: ٢٢).
(٧) ولا يطول بالمرنم الوقت حتى يترك الكلام بالنفي ويأتي للإيجاب ويذكرنا أن الله هو الذي يقضي بالعدل والإنصاف. ولأنه كذلك فهو الذي يضع البعض ويرفع الآخرين. هكذا يفعل القاضي فإنه يكتشف المذنب ويقاصه كما أنه يبرر البريء ولا يبقيه في ضيقه وانخذاله. هذا بالعكس عما يفعله البشر الظالمون فإنهم يذنبون البريء ويبرئون المذنب وكلاهما مكرهة عند الرب. إن الله لكي يرى سلطانه الكامل لا يرضى إلا بأن يرى الحق يسود كل إنسان وينقي الباطل ويدوس أصحابه حتى يعودوا إلى الحكمة والرشاد.
«٨ لأَنَّ فِي يَدِ ٱلرَّبِّ كَأْساً وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنَةٌ شَرَاباً مَمْزُوجاً. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لٰكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ ٱلأَرْضِ. ٩ أَمَّا أَنَا فَأُخْبِرُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. أُرَنِّمُ لإِلٰهِ يَعْقُوبَ. ١٠ وَكُلَّ قُرُونِ ٱلأَشْرَارِ أَعْضِبُ. قُرُونُ ٱلصِّدِّيقِ تَنْتَصِبُ».
(٨) هوذا الله ذاته يحمل بيده كأساً وهي معدة لتكون شراباً يسقيه لكل من يشاء. وهي ممزوجة بالماء ليس لتخفيفها فقط بل لجعلها أكثر قبولاً لشاربيها (انظر إشعياء ٥١: ١٧) وعلى هؤلاء الشاربين أن يشربوا حتى الثمالة. وأما الأشرار فلهم حثالة الكأس وعكرها لأن الله لا يرضى عنهم (حزقيال ٢٣: ٣٤). وهذه الصورة عن الكأس المترعة خمراً والتي ذكرت من قبل (مزمور ٦٠: ٥) يأخذها الأنبياء ويزيدون عليها معاني وأفكاراً كثيرة وقد ذكرها إشعياء وحبقوق وحزقيال وأما إرمياء فقد أطال كلامه عنها (راجع حزقيال ٢٥: ٢٧ وما بعده و٤٨: ٢٦ و٤٩: ١٢) بينما في (إرميا ٢٥: ١٥) وما بعده يحوك منها قصة رمزية وإذا بها كأس لتسكر الشاربين. وهكذا فإن الأشرار سينالهم القصاص العادل في حينه ولن ينجو من يد الله العادل القاضي والديان لكل إنسان.
(٩) هنا يعود المرنم فليتفت إلى ذاته ويرى حاضره ومستقبله أيضاً. هنا يظهر الاطمئنان والهدوء وبالتالي يبدأ بالترنم فرحاً مسروراً. قد يكون أنه قد لحقه شيء من الاضطهاد والعذاب ولكن ذلك في الماضي وقد نال الأشرار جزاء ما صنعته أيديهم وأما هو الآن فينعم بالراحة والسلام. نعم لقد كان من قبل من تلك الجماعة المضطهدة أما الآن فهو من تلك الجماعة الظافرة المنتصرة (انظر ٢تيموثاوس ٢: ١٢).
(١٠) والسبب في فرحه راجع لأن قوة الأشرار تتحطم لا تستطيع الوقوف في وجه قدرة الله وترتيبه. إن الأشرار هم إلى حين. قد يعتزون ويفتخرون ولكنهم سيضمحلون ويذهبون كالسحاب الذي يطارده الريح. ومن جهة أخرى فإن الأبرار سيكون لهم الراحة والعزة ولا يمكن أن يظلوا في شقائهم واندحارهم لأن هذا أيضاً إلى حين وإذا بالديان الذي بيده ميزان الأرض كلها سوف يعيد الأشياء إلى نصابها المعتاد. وأما الكلام عن القرون فهو كثير (راجع تثنية ٣٣: ١٧ ومراثي ٢: ٣ وخصوصاً الأربعة قرون في زكريا ٢: ١ وما بعده).