- دخل شاب متخرج حديثاً من الجامعة . إلى شركة كبيرة يطمح بالحصول فيها على وظيفة . وكانت دقات قلبه تتسارع . لأن هذه الشركة تعد من أكبر شركات في البلد . وصاحبها من أغنى الأغنياء . والكل يتهافت للحصول على عمل فيها . وبينهم أبناء مسؤولين وأصحاب الواسطة .

- لذلك كان الشاب متحمس من ناحية ومن الناحية الثانية مهموم . ويتسائل بينه وبين نفسه . كيف له أن ينافس كل هؤلاء ؟ وهو الشاب الفقير أبن الموظف البسيط الذي توفي ولم يترك له من مال الدنيا شيئاً . ولكنه تذكر قول والده :

- يا إبني لا تخف . دائماً توكل على الله في كل شيء . توكل عليه في حياتك مهما كان . ولاتحزن على أي شيء لم تحصل عليه . فربما كان لك الخير في ذلك دون أن تدري .

- دخل الشاب إلى مكتب مدير شؤون الموظفين وقدم أوراقه . طلب منه الموظف أن ينتظر إتصالاً كي يتم إعلامه بالنتيجة .

- خرج الشاب وهو شبه متيقن من أن النتيجة ستكون سلبية . هذا إذا إتصل به آحد أصلاً ولم يرموا طلبه في أقرب سلة مهملات .

- مضت عدة أيام على المقابلة . والشاب لم يتأمل كثيراً من هذه الوظيفة الصعبة المنال . فجأة جاءه أتصال طلب منه المتحدث أن يأتي إلى الشركة عند الخامسة مساءً لإجراء مقابلة . فرح الشاب بالإتصال وأرتدى أحسن ثياب لديه وذهب حسب الموعد . وأبلغ موظف الإستعلامات بأسمه فقال له الأخير وهو ينهض إحتراماً :

- أهلا وسهلاً يا أستاذ تشرفت بمعرفتك نورت الشركة . تفضل لأوصلك إلى غرفة رئيس مجلس الإدارة .

- إندهش الشاب وتبسم وقال للموظف :

- أكيد هناك سوء تفاهم . الهيئة قد خلطت بيني وبين شخص آخر ؟ انا مجرد إنسان بسيط طالب وظيفة سأله الرجل بإستغراب :

- الست أنت الأستاذ فلان والدك فلان من بيت فلان ؟ وعندك موعد الآن الساعة الخامسة ؟ أجاب الشاب نعم أنا هو .

- قال الرجل وهو يبتسم : إذاً أنا لست مخطئاً يا أستاذ . وموعدك مع السيد رئيس مجلس الإدارة الذي هو صاحب الشركة . وهو نفسه الذي أوصانا بأستقبالك بحفاوة تليق بمقامك أستاذنا العزيز .

- من هول المفاجأة اصبحت عيون الشاب أكبر من المعتاد . لم يصدق أذنيه أكيد هناك شيء يتحضر له أو أنهم سيهزئون منه . طلب منه الموظف أن يتبعه . تبعه لكن بخوف وبدهشة كبيرة . وكانت الدهشة أكبر وهو يدخل إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة الفخم . وما أن عرّف موظف الأستعلامات عنه حتى نهض جميع من في المكتب إحتراماً له .

- لم يصدق مايراه ولم يفهم ما الذي يحدث . وكان متيقناً أن هناك لبساً قد حصل . وسرعان ماسيدرك الجميع هذا اللبس وسيطرد شر طردة . فلو كان أبن وزير لما أستقبل بهذه الحفاوة .

- إنتظر عدة دقائق ثم طلبت منه السكرتيرة الدخول فدخل إلى المكتب الفخم . ورأى رئيس مجلس الادارة جالساً . وما أن رآه الأخير حتى نهض عن كرسيه وجاء إلى الشاب وأخذه بالأحضان وقبله على جبينه وهو يقول :

- أهلاً بك . أهلاً بالعزيز الغالي أهلاً بالحبيب .

- تلعثم الشاب وقال مندهشاً :

- أشكرك ياسيدي على هذه الحفاوة . ولكن أغلب الظن أنك تحسبني شخصاً آخر . فأنا لم أتشرف بلقائك من قبل . ولم أرك سوى في التلفزيون وبالجرائد والمجلات .

- إبتسم صاحب الشركة وذهب إلى درج مكتبه . وأخرج صورة تذكرة قديمة صغيرة . وأراها للشاب الذي بهت لرؤيتها . أنتفض كأن قد ضربته صاعقة فقال وهو يكاد يصرخ :

- هذه صورة قديمة للمرحوم أبي من أين لك بها . هل كنت تعرفه ؟

- قال صاحب الشركة :

- المرحوم ؟ هل مات هذا الرجل الطيب ؟؟؟

- قال الشاب : ولكني لم أفهم ؟ فمن أين لأحد كبار الأثرياء في البلد أن يعرف أبي . وهو رجل متواضع جداً . موظف بسيط في سكة الحديد . عاش مستوراً حتى آخر يوم في حياته ؟؟؟

- قال صاحب الشركة والدموع في عينيه :

- دعني أخبرك بالحكاية منذ البداية .

- فمنذ سنوات عديدة كنت مازلت شاباً في مقتبل العمر وأحلامي كبيرة . عزمت على السفر لأنني لم أتوفق بوظيفة في وطني . أقترب يوم سفري جمعت أغراضي في الحقيبة . وودعت أبي المريض . وقلت له عندما أستقر سأخذك لعندي . ركبت القطار وجلست قرب النافذة ودموعي تنزل لوحدها . وكان يجلس إلى جانبي شاب أعزب بعمري سألني عن سبب حزني . فأخبرته بما حدث معي . وكيف تركت أبي المريض وقد أعطاني كل النقود التي يملكها لأدبر مستقبلي . وهذه النقود الزهيدة لن تساعدني لأستقر في الغربة . فمد يده إلى جيبه وأخرج محفظته وأخرج منها كل ما فيها من أوراق وترك النقود وأعطاني المحفظة مع النقود . وقال أنه حلمي كذلك لكن فشلت في تحقيقه . وقال لي أرجوك حقق أحلامنا .

- إستغربت وأخبرته إني لا أستطيع القبول . ولكن بعد إصراره الشديد أخذتها وسألته كيف أردها له ؟

- تبسم وأخبرني أنه قبض معاشه للتو . وإنه سيدبر نفسه . المهم أنا أنجح وأستقر وأحقق آحد أحلامه . وطلب مني إسمي وعنوان منزلي . وقال لي :

- لا تهتم لأمور والدك صدقني سيكون بألف خير .

- قلت له والدمعة في عيني . أخبرني عن إسمك على الأقل . قال لي عن إسمه وقال يلقبونه أصدقائه بالشاب الطيب .

- وعندما وصلت إلى بلد الإغتراب . فتحت المحفظة . وبين النقود وجدت هذه الصورة ومكتوب خلفها إسمه الثلاثي . فإحتفظت بها ذكرى لهذا الرجل الكريم والطيب القلب .

- في بلاد الغربة توظفت وترقيت وأسست شركتي الخاصة بعد عدة سنوات إزدهرت أعمالي . والفضل كله يرجع لوالدك . الذي لم يترك أبي حتى وفاته . وكنا أنا ووالدك دوماً نتواصل بالمراسلات . وفجأة وقعت الحرب وأنقطع التواصل مع الوطن ومع والدك . وعندما رجعت بحثت عن والدك في كل مكان فلم أجده . وأقسمت أن أحفظ أمانته ماحييت ومن يومها وأنا أساعد كل يوم شخص لا أعرفه . فتارة أجلس في محطات الباص . وتارة في السوق . وتارة في المستشفيات . ويشهد الله إنه لم يمض يوم واحد إلا وقد ساعدت محتاجاً . وكلما شكرني قلت له :

- عليك أن تشكر صديقي الرجل الطيب القلب . فلولاه لما كنت قادراً على مساعدتك . فإعلم ياولدي أن المرحوم والدك شريك لي . في كل خير عملته وكل صدقة أعطيتها .

- دمعت عيني الشاب وقال :

- رحم الله والدي كان دوماً يحضني على مساعدة الآخرين . ويقول لي يا ولدي ساعد الله يجازيك عنهم خير جزاء . في حياتك أو مماتك أو أولادك من بعدك . ولا تستخف بأي عمل خير مهما صغر . فقد يغير حياة إنسان دون أن تدري .

- نهض الثري وعيناه تدمع هو الآخر وقال :

- أنا لم أفحص طلب توظيف لأي آحد بنفسي منذ عشرين سنة ولديّ موظفين معنيين بذلك . إلا أن هاتفاً داخلياً دفعني أن أطلب من المدير كل ملفات التوظيف الجديدة وأنا نفسي لا أدري لماذا ؟ وأخذت أتفحصها واحداً واحداً . وما أن وقعت عيني على صورتك . حتى عرفتك فوراً . فأنت صورة طبق الأصل عن المرحوم والدك . والحمد لله اني سأستطيع أن أرد جميله وفضله . وإعلم أنك قد تعينت عندي وفي مكتبي الخاص . وسأحرص على أن أجعل منك إنسانا ناجحاً يفخر بك المرحوم والدك .

- العبرة من قصتي أحبائي :

- أفعل الخير وثق أن جزائك عند الله لا يضيع .

- الكاتبة أختكم المحبة سارة .