شخصيّة بلعام بن بعور:
إذ رأى بالاق بن صفور ملك موآب الخطر يحوط به عِوَض أن يستعد للحرب بخطة حربيّة، التجأ إلى بلعام لكي يلعن الشعب فينهزم أمامه.
من هو بلعام هذا؟ من أي شعب هو؟ وهل هو نبي حقيقي أم عرَّاف؟ من الذي كان يتحدث معه الله أم إلهًا وثنيًا؟
أولًا: من جهة جنسه فواضح أنه ليس من شعب الله، فقد كان مستقرًا في المنطقة، ويبدو أن له ماضي طويل في أعمال خارقة للطبيعة يعرفها الملك جيدًا، إذ يقول له: "لأني عرفت أن الذي تباركه مبارك والذي تلعنه ملعون" [6]. وكان بلعام قد مارس أعمالًا نجح فيها. وفي حديث الملك معه عن الشعب الذي يريد أن يلعنه يظهر بوضوح أن لا علاقة لبلعام به، إذ يقول له: "هوذا الشعب الخارج من مصر قد غشى الأرض" [].
يقول بلعام للملك: "هوذا أنا منطلق إلى شعبي، وهلم أنبئك بما يفعله هذا الشعب بشعبك في آخر الأيام" [. وكأنه يتحدث عن ثلاث شعوب، شعب بلعام، وشعب الملك، والشعب الذي سيتصرف بشعب الملك، فماذا يقصد بلعام بقوله "شعبي"...؟ غالبًا ما كان بلعام من الأمم المجاورة المتحالفة مع بني موآب في ذلك الحين مثل المديانيّين، وهم شعب كثير التجوال في الصحراء، وكان على علاقة طيبة مع موآب في ذلك الوقت، لهذا استعان الملك بشيوخ مديان. وربما قصد بلعام بقوله "شعبي" الجماعة التي يعيش في وسطها كشعب محلي يقيم حول هذا الرجل في خضوع له وولاء أمام شهرته وإمكانياته الفائقة.
ثانيًا: هل كان بلعام نبيًا حقيقيًا أم عرافًا؟
رأى البعض أن بلعام كان نبيًا حقيقيًا، دخل في معاملات مع الله، فكان غالبًا ما يستشيره قبل أي تصرف. ويكرر الكتاب المقدس مثل هذه العبارات: "فأتى الله إلى بلعام" (ع 9)، "فقال الله لبلعام" (ع 12)، "كشف الرب عن عيني بلعام فأبصر ملاك الرب" (ع 31)، "فوافى الرب بلعام ووضع كلامًا في فمه" (23: 16)... هذا وقد نطق بلعام بخمسة نبوات إلهيّة غاية في الروعة (ص 23-24).
عند أصحاب هذا الرأي، ليس بالأمر الغريب أن يتعبد إنسان أممي لله، ففي العصر الرسولي وُجد كرنيليوس الذي كان يعبد الله بتقوى (أع 10: 35)، إذ نعمة الله غير قاصرة على أمة معينة لكنها تعمل في النفس التي تسعى نحو الرب بقلب مملوء إخلاصًا.
ويُعلّلون صحة نبوته أنه لو كان ساحرًا أو عرافًا فلماذا اهتم الله بإصرار ألاَّ يلعن الشعب، فإن ما يخرج من فم الشيطان وأتباعه ضد أولاد الله لا قيمة له! أما كون بلعام قد أخطأ وتكرر خطأه، وانتهت حياته بجريمة كبرى ارتكبها في حق الله وأولاده، فإنهم يرون أن كلمة "نبي" لا تعني وظيفة دائمة متى أُعطيت لإنسان رافقته كل حياته، وإنما يمكن أن يوهب روح النبوة لإنسان فترة مؤقتة لتحقيق خطة إلهيّة ومقاصد سماويّة بعدها ينزع عنه هذا الروح. هذا والأنبياء أنفسهم لهم أخطاؤهم لا في حياتهم الشخصيّة فحسب، بل وأحيانًا في الخدمة إن تصرفوا من ذواتهم كما حدث مع ناثان النبي حين أخبره داود النبي أنه يبني بيتًا للرب، فأجابه من نفسه: "اذهب افعل كل ما بقلبك لأن الرب معك" (2 صم 7: 1-3). لكن ناثان صحح الموقف في اليوم التالي عندما أعلن له الرب أن داود لن يبني البيت بل ابنه (2 صم 7: 4-16).
لقد رأت الكنيسة الأولى بآبائها في بلعام رجلًا ساحرًا وعرافًا استخدمه الله لتحقيق رسالة إلهيّة ومقاصد علويّة، فإنه ليس غريبًا أن يخرج من الآكل أُكلًا ومن الجافي حلاوة. وفيما يلي موجزًا لنظرة الآباء لشخصيّة بلعام والأحداث التي دارت حوله: