المقدمة في الكتاب

هذه الرسالة أول الرسائل العامة المعروفة بالجامعة تمييزاً لها عن رسائل بولس لأنه كتبها إلى كنائس أو أفراد خاصة فإن هذه كُتبت إلى كل المؤمنين. واختلف المفسرون في كاتبها أي أنه أيَّ يعقوب هو ممن ذُكروا في العهد الجديد لأنه ذُكر سبعة أشخاص بحسب الظاهر اسم كل منهم يعقوب. الأول يعقوب بن زبدي والثاني يعقوب بن حلفي (متّى ١٠: ٢ و٣). والثالث يعقوب أخو الرب (غلاطية ١: ١٩). والرابع يعقوب بن مريم (متّى ١٣: ٥٥ ولوقا ٢٤: ١٠). والخامس يعقوب الصغير (مرقس ١٥: ٤٠). والسادس يعقوب أخو يهوذا (لوقا ٦: ١٦). والسابع يعقوب خادم كنيسة أورشليم (أعمال ١٥: ١٣). وإذا قابلنا ما في (غلاطية ١: ٩) بما في (غلاطية ٢: ٩ - ١٢) نرى أن يعقوب أخا الرب ويعقوب خادم كنيسة أورشليم شخص واحد. وإذا قابلنا ما في (متّى ٢٧: ٥٦) بما في (متّى ١٣: ٥٥) رأينا أن يعقوب أخا الرب هو يعقوب بن مريم. وإذا قابلنا ما في (مرقس ٦: ٣) بما في (يهوذا ع ١) رأينا أن يعقوب أخا الرب ويعقوب أخا يهوذا شخص واحد. وإذا قابلنا ما في (متّى ٢٧: ٥٦) بما في (مرقس ١٥: ٤٠) رأينا أن يعقوب بن مريم هو يعقوب الصغير فلم يبق سوى ثلاثة أشخاص يعقوب بن زبدي ويعقوب بن حلفي ويعقوب أخي الرب. والحكم القطعي بالذي كتب هذه الرسالة منهم متعذر. والذي يمنع من الحكم بأنه ابن زبدي أخو يوحنا الرسول هو أنه قتله هيرودس أغريباس الأول السنة ٤٤ ب. م (أعمال ١٢: ١) ولم يكن قبل موته وقت كاف لتأسيس الكنائس المسيحية التي كُتبت هذه الرسائل إلى أعضائها ولا لتشتتهم على ما بُيّن في أولها ولا لأن ينشأ في الكنائس المسيحية الأضاليل التي نُفيت في هذه الرسالة. والمرجح أن كاتبها يعقوب أخو الرب (غلاطية ١: ١٩) فهو كسائر إخوة الرب لم يؤمن بأن يسوع هو المسيح مدة حياته (يوحنا ٧: ٥) لكنه آمن به يوم ظهر له على أثر قيامته (١كورنثوس ١٥: ٧). وهو الذي أرسل بطرس إليه خاصة نبأ إطلاقه من السجن (أعمال ١٢: ١٧). وما قيل في (يوحنا ٧: ٥) يمنع القول بأنه من الرسل الاثني عشر لكنه اعتُبر كواحد منهم كما اعتُبر بولس وبرنابا. وهو الذي كان رئيس المجمع الأول في أورشليم وصرّح بحكم المجمع (أعمال ١٥: ١٩) فيكون قد اعتُبر رسولاً مع أنه ليس بالرسول بالنظر إلى مقامه بين الإخوة (انظر تفسير أعمال ١٥: ١٣). والمرجّح أنه بقي في أورشليم وكان راعي كنيستها إلى أن توفي. وحين رجع بولس من سفره الأخير للتبشير إلى أورشليم آخر مرة لكي يخبر الكنيسة بنجاحه بين الأمم كان يعقوب من جملة الذين التقوا به واعتمد بولس رأيه في أمر تصرفه يومئذ (أعمال ٢١: ١٨). واعتبره بولس هو وبطرس ويوحنا عمدة الكنيسة (غلاطية ٢: ٩). قيل أنه مات شهيداً في أورشليم السنة ٦٩ ب. م. وقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي إن من أسباب خراب أورشليم غضب الله عليها لقتل هذا الشخص البار.
في من كتبت هذه الرسالة إليهم


إن هذه الرسالة كُتبت إلى المؤمنين بالمسيح من اليهود لكنهم لم يكونوا يومئذ في اليهودية بل كانوا متشتتين بين الأمم. ودليل كونهم يهوداً أصلاً دعوته إياهم «الاثني عشر سبطاً» (ص ١: ١). ودليل كونهم مؤمنين بالمسيح ما في (ص ٢: ١ و٧ و١٤ و٥: ٧). ولم يُذكر في الرسالة بواسطة من آمنوا بالمسيح والمرجّح أن اهتداءهم إلى المسيح نتيجة حلول الروح القدس ووعظ بطرس في عيد الخمسين.

في زمان كتابة هذه الرسالة ومكانها


المرجّح أن هذه الرسالة كُتبت في أورشليم وذهب بعضهم إلى أنها كُتبت قبل التئام المجمع الأول في أورشليم السنة ٥٠ ب. م. لأنه لم يذكر فيها المؤمنون من الأمم ولا إشارة فيها إلى مسئلة وجوب تمسك المؤمنين بين الأمم بالسنن الموسوية ولا إلى حكم المجمع فيها فعلى هذا تكون قد كُتبت بين السنة ٤٥ والسنة ٥٠ ب. م وذهب قوم إلى أنها كُتبت بين السنة ٦٠ و٦٢ ب. م أي قبل خراب أورشليم بنحو ثمان أو تسع سنين وبنوا ذلك على أنواع الضلالات التي وبّخ الرسول عليها وفنّدها في هذه الرسالة لأن انتشار الإنجيل إلى ذلك الحد وتأسيس الكنائس ونشوء الضلالات المذكورة في الرسالة تقتضي مثل ذلك الوقت.

في الغاية من كتابة هذه الرسالة


غاية الرسول من كتابة هذه الرسالة حث المسيحيين على الثبوت في إيمانهم بالمسيح والطاعة له في أثناء الضيقات الشديدة والتجارب المختلفة التي كانوا عرضة لها. وعلة تلك الشدائد أن أقرباءهم اليهود الساكنين في اليهودية كانوا يومئذ في قلق عظيم من ظلم الولاة الرومانيين فإن أولئك اليهود كانوا على وشك أن يعصوا الدولة الرومانية لما لقوا من الظلم ولبغضهم القديم للأمم. وابتدأ ذلك العصيان السنة ٦٧ ب. م وكان والي اليهودية وقتئذ جاسيوس فلوروس وانتهى بخراب أورشليم السنة ٧٠ ب. م فكان لا بد للمؤمنين المسيحيين من أن يشاركوا أقرباءهم اليهود في طلب النجاة من نير الرومانيين لكنهم لم يمكنهم أن يشاركوهم في أملهم أن المسيح سيأتي ويغلب الرومانيين وينشئ مملكة زمنية على الأرض ولذلك أبغضهم اليهود أنفسهم وحسبوهم كفرة ووشوا بهم إلى الحكام كأنهم عصاة للدولة فكانوا مضطهدين ومبغضين من الرومانيين أيضاً لأن الرومانيين لم يفرقوا بينهم وبين اليهود العصاة. ومن غايته من كتابة هذه الرسالة إصلاح ما وقع فيه المسيحيون من الخلل في الاعتقاد والعمل. فوبخ منهم من ضلّ عن الحق المعلن في الإنجيل وهدّدهم لأنهم سمعوا كلام الله ولم يطيعوه واتكلوا للخلاص على إيمان فارغ لم يأتِ بأثمار تليق بالتوبة وظلموا الفقراء واختلسوا أشياءهم وداسوا حقوقهم وأحبوا المقتنيات الدنيوية واللذات الجسدية أكثر مما يليق بهم. وكانوا يخاصم بعضهم بعضاً ويتذمرون على الله.

في أنه هل من منافاة بين هذه الرسالة ورسائل بولس


الذي يرجّح عدم المنافاة بين تعليم يعقوب وتعليم بولس في ما كانا عليه من الوفاق زمن المجمع الأول في أورشليم (أعمال ص ١٥). والذي يثبت عدم تلك المنافاة إنعام النظر في غاية كل من الكاتبين. فمن غايات بولس بيان أن علة تبرير الخاطئ أمام الله فاحص القلوب الإيمان الذي يسبق الأعمال الصالحة. فلا يمكن أن تكون الأعمال علة التبرير. وغاية يعقوب بيان أن برهان تبرير المؤمن لضميره ولغيره من الناس هو الأعمال الصالحة. فحين تكلم بولس في أن الإيمان علّة التبرير عنى بذلك الإيمان الحي الذي يعمل بالمحبة وينشئ الأثمار الصالحة. وحين تكلم يعقوب في الإيمان الذي لا يمكن أن يكون علة التبرير عنى به الإيمان الميت الذي ليس سوى الإقرار باللسان لا بالقلب.

الأصحاح الأول


التحية ع ١


١ «يَعْقُوبُ، عَبْدُ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، يُهْدِي ٱلسَّلاَمَ إِلَى ٱلاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطاً ٱلَّذِينَ فِي ٱلشَّتَاتِ».
أعمال ١٢: ٢ و١٧ وتيطس ١: ١ ورومية ١: ١ و٢بطرس ١: ١ ويهوذا ١ وأعمال ١٥: ٢٣ ولوقا ٢٢: ٣٠ وأعمال ٢٦: ٧ و١بطرس ١: ١ وتيطس ٣: ٢ وعبرانيين ١٣: ١٤
يَعْقُوبُ انظر «في الكاتب» من مقدمة هذه الرسالة.
عَبْدُ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بالمحبة والطاعة وكذا دعا بولس نفسه (رومية ١: ١) وبطرس (٢بطرس ١: ١) ويهوذا (يهوذا ١) ولم يدع نفسه رسولاً ولا «أخا الرب» لأنه اكتفى من الكرامة بأن يكون «عبد الله» وهذا أسمى من نسبته الجسدية إلى المسيح ومن مقامه في الكنيسة.
إِلَى ٱلاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطاً أي بقايا هذه الأسباط وهم نسل أبناء يعقوب الاثني عشر (خروج ٣: ١٦). وكان أولئك الأسباط أهل المملكة اليهودية وكانوا مملكة واحدة نحو ١٢٢ سنة ثم صاروا مملكتين جنوبية وهي مملكة يهوذا وكانت قصبتها أورشليم وشمالية وهي مملكة الأسباط العشرة وعُرفت بمملكة إسرائيل وكانت قصبتها السامرة (١ملوك ١١: ٣٥). إن يعقوب مع توجيهه رسالته إلى أولئك الأسباط لم يقصد سوى المؤمنين منهم كما يتضح من الآية الأولى من الأصحاح الثاني ودعاهم «بالاثني عشر» بالنظر إلى أصلهم (انظر أعمال ٢٦: ٨ وتفسير ذلك) وكما يتضح أيضاً من أنه لم يأتِ في هذه الرسالة بشيء من الأدلة على أن يسوع هو المسيح ووجوب الإيمان به. وكون هذه الرسالة وجهت أولاً إلى متنصري اليهود لا يمنع أن الروح القدس قصد بها أيضاً نفع مؤمني الأمم.
ٱلَّذِينَ فِي ٱلشَّتَاتِ سكنوا أولاً في اليهودية ثم تشتتوا في الجهات فبعضهم أجبروا على ذلك لأنه سباهم الذين انتصروا عليهم وبعضهم اختاروا ذلك رغبة في النجاة من الظلم أو في الربح من التجارة. وأكثر الذين رجعوا إلى اليهودية بعد سبي بابل كانوا من سبطي يهوذا وبنيامين وبقي الجزء الأكبر من الاثني عشر سبطاً في بلاد السبي. وكان أولئك الأسباط في عصر المسيح ثلاثة أقسام كبيرة في بابل وسورية ومصر. ولم يبق بعد سبي بابل التمييز بين سبط وآخر كما كان قبله. والمرجّح أنه وقت كتابة هذه الرسالة لم يعرف معظم الأسباط العشرة نسبتهم السبطية. وكان ألوف منهم قبل خراب أورشليم متشتتين في أوربا كتشتتهم في أسيا. ودعاهم «بالشتات» لأنهم تشتتوا بين الأمم على مقتضى النبوءات (تثنية ٢٨: ٢٥ وإرميا ٣٤: ١٧ وغير مواضع) وكانوا يُعرفون في عصر المسيح «بالشتات» كما يتبين من (يوحنا ٧: ٣٥) وكتب بطرس رسالتيه إلى شتات أسيا الصغرى.

وجوب الصبر ع ٢ إلى ٤


٢ «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ».
متّى ٥: ١٢ ع ١٢ وص ٥: ١١ و١بطرس ١: ٦
اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي دعاهم إخوة لإيمانهم بالمسيح كما يتضح من (ص ٢: ١). ومعنى العبارة أيها الإخوة احسبوا الوقوع في التجارب علّة للفرح ولا تحسبوه علّة للحزن والأسف ولا تدعوه لعنة لأنه بركة. وقال «كل فرح» لأنه شرع في التكلم على كل أنواع المصائب فأراد أنهم يفرحون في كل من تلك الأنواع بالنظر إلى النتائج المبهجة. واستطاعة المؤمنين على الفرح في أثناء النوازل يتضح من (أعمال ٥: ٤١ ورومية ٥: ٣).
حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ أراد بها الاضطهادات والأمراض والخسائر المادية والفقر وما شاكل ذلك. وكان المؤمنون الذين كتب إليهم يعقوب عرضة لمشاق خاصة بالنظر إلى بغض اليهود غير المؤمنين والرومانيين الوثنيين لهم واضطهاد الفريقين إياهم. ولم يرد شيئاً من جواذب الإثم التي نطلب النجاة منها بقولنا في الصلاة الربانية «لا تدخلنا في تجربة» كما يتضح من (ع ١٣ و١٤). وسُمّيت تلك النوازل «بالتجارب» هنا وفي (١بطرس ١: ٦) لأنها تمتحن إيمان الإنسان المدّعي أنه مسيحي وتبرهن ثبوته في المسيح أو ارتداده عنه. ومثلها كان امتحان الله لإبراهيم (تكوين ٢٢: ١) وشوكة الجسد التي أُصيب بها بولس (٢كورنثوس ١٢: ٧) ومنها المشقات التي طلب بولس من تيموثاوس أن يحتملها كجندي صالح ليسوع المسيح لكي يكون قوياً وشجاعاً حتى يستطيع أن يجاهد جهاد الإيمان الحسن (٢تيموثاوس ٢: ٣). وللمؤمن وعد بالمعونة الإلهية على احتمال تلك التجارب وهو قول الرسول إن «ٱللّٰهَ أَمِينٌ، ٱلَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ ٱلتَّجْرِبَةِ أَيْضاً ٱلْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا» (١كورنثوس ١٠: ١٣).
٣ «عَالِمِينَ أَنَّ ٱمْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً».
١بطرس ١: ٧ وعبرانيين ٦: ١٢ ولوقا ١٢: ١٩
عَالِمِينَ بالاختبار أو بشهادة غيركم.
ٱمْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ بتلك التجارب.
يُنْشِئُ صَبْراً أي سجيّة صبرٍ وهي إحدى الثمار المباركة من احتمال المشقات الكثيرة الطويلة المدة. واعتبر يعقوب فضيلة الصبر تساوي كل ما يُنفق على نيلها. وحث المؤمنين عليها أيضاً في (ص ٥: ٧ - ١١). وقوله هنا موافق لقول بطرس في كلامه على التجارب المتنوعة «لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ» (١بطرس ١: ٧). وقول بولس في رسالته إلى كنيسة رومية «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْراً» (رومية ٥: ٣). وليس المراد أن المشقات نفسها تنشئ الصبر بل أن روح الله يجعلها وسيلة إليه إجابة للصلاة.
٤ «وَأَمَّا ٱلصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ».
ص ٣: ٢ ومتّى ٥: ٤٨ وكولوسي ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٥: ٢٣
فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ أي يجب على المؤمن أن يسعى في تربية الفضائل المقترنة بالصبر وهي التي تكلم عليها بولس بقوله «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْراً، وَٱلصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَٱلتَّزْكِيَةُ رَجَاءً الخ» (رومية ٥: ٣ - ٥) وبطرس في (١بطرس ١: ٧). والذي يمنع الصبر من عمله التام هو التذمر على الله في التجارب وعصيان مشيئته في الامتحان. وهذا كقول المسيح «بصبركم اقتنوا أنفسكم» (لوقا ٢١: ١٩).
لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ الخ أي لتحصلوا على كل المنفعة التي قصد الله أن تكون نتائج المصائب إذا احتُملت بالصبر. وحال الكمال هذه وصفها بولس «بالحياة المستترة مع المسيح في الله» (رومية ١٢). وليست تلك الحال حال القداسة التامة في السماء حين يقف المختارون أمامه بلا عيب ولا دنس (٢بطرس ٣: ١٤ ورؤيا ١٣: ٥) لكن بعض القداسة التي قصد الله أن يحصل عليها المؤمنون في هذا العالم باحتمالهم النوازل بالصبر. وهذا ما طلبه بولس لأهل كنيسة تسالونيكي بقوله «وَإِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِٱلتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ» (١تسالونيكي ٥: ٢٣). والذي يصنع ذلك للمؤمنين هو الله على وفق قول المسيح «كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يوحنا ١٥: ٢).

الصلاة لنيل الحكمة ع ٥ إلى ٨


٥ «وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ».
ص ٣: ١٧ و١ملوك ٣: ٩ و١١ و١٢ وأمثال ٢: ٣ - ٦ ومتّى ٧: ٧
إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ في هذا إشارة إلى أن المؤمنين يجدون بالاختبار أنهم لم ينالوا ولا ينالون وهم على الأرض حال الكمال وعدم النقص في شيء. وعلاقته بما سبق أن المسيحي في أثناء الضيق يرتاب في ما يجب أن يفتكر فيه وما يجب أن يعمله. و «الحكمة» المذكورة هنا هي الحكمة السماوية التي يميّز الإنسان بها مستقبله ويكون «حكيماً في آخرته» (أمثال ١٩: ٢٠) لا معرفة أسرار الله. ووصفها يعقوب بقوله «وَأَمَّا ٱلْحِكْمَةُ ٱلَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً، عَدِيمَةُ ٱلرَّيْبِ وَٱلرِّيَاءِ» (ص ٣: ١٧).
فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ هذا شرط نيلها على العالِم والجاهل من كل مَن يشعر باحتياجه إلى حكمة أسمى من حكمته بها يعرف الله المعرفة التي هي «حياة أبدية» لصاحبها (يوحنا ١٧: ٣). وتؤهله للقيام بكل ما يجب عليه. وطلب سليمان إلى الله هذه الحكمة فنالها (٢أيام ١: ١٠). وطلبها من الله هو الشرط الوحيد لنيلها لا ذبيحة ثمينة ولا نذور خدمة. ويجب أن تُطلب بخالص النية بغية أن تُستعمل لتمجيد الله وخدمته. وفي ذلك قال يوحنا الرسول «هٰذِهِ هِيَ ٱلثِّقَةُ ٱلَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا. وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبْنَا يَسْمَعُ لَنَا، نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا ٱلطِّلْبَاتِ ٱلَّتِي طَلَبْنَاهَا مِنْهُ» (١يوحنا ٥: ١٤ و١٥). وقال المسيح «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ» (متّى ٧: ٧).
ٱلَّذِي يُعْطِي العطاء بسخاء هي صفة يمتاز بها الله عن كل خليقته وهو يُسر بالعطاء وقدرته على العطاء غير محدودة. ولم يقل الرسول ماذا يُعطي لأن عطاياه لا تُحصر وتشتمل على كل ما يفتقر الإنسان إليه وما يليق بالله أن يعطيه.
ٱلْجَمِيعَ أي كل الطالبين. والقصد من ذلك بيان أنه مستعد لأن يعطي الجميع. ولعل يعقوب قصد أن يبيّن إن عطايا الله غير مقصورة على اليهود حسب زعمهم لأنهم شعب الله المختار فإنه مستعد أن يعطي كل محتاج يطلب بركاته من كل أمة.
بِسَخَاءٍ لا بشح ولا بمحاباة.
وَلاَ يُعَيِّرُ الطالب بدعوى أنه لا يستحق عطاياه أو بتذكره خطاياه وعدم شكره له على المواهب السابقة ولا بتكرار طلبه أو عظمة المطلوب. وحكم يعقوب بنفع الصلاة مبني على ما في (متّى ٧: ٧ - ١٢).
٦ «وَلٰكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ ٱلْبَتَّةَ، لأَنَّ ٱلْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ ٱلْبَحْرِ تَخْبِطُهُ ٱلرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ».
متّى ٢١: ٢١ ومرقس ١١: ٢٣ وأعمال ١٠: ٢٠ وأفسس ٤: ١٤ ومتّى ١٤: ٢٨ و٣١
وَلٰكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ أي واثقاً بأن الله قادر أن يعطيه ما يطلبه وأنه تعالى يريد ذلك ومستعد له. وقول يعقوب بلزوم الإيمان ينافي توهم البعض أن يعقوب لم يعتبر الإيمان الاعتبار الواجب لتصريحه هنا بأن الصلاة بدون إيمان باطلة ولقوله أثر قوله ليطلب من الله الذي هو مصدر كل بركة «ليطلب بإيمان» ولبيانه في آخر هذه الرسالة قوة صلاة الإيمان (ص ٥: ١٥).
غَيْرَ مُرْتَابٍ ٱلْبَتَّةَ في أن الله يسمع صلواته. «والريب» هو التردد بين الإيجاب والنفي فيجب أن يكون متيقن الإجابة. وقوله هنا يذكرنا قول المسيح لتلاميذه وهم يعجبون من يبس التينة سريعاً «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ، فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ ٱلتِّينَةِ فَقَطْ، بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجَبَلِ: ٱنْتَقِلْ وَٱنْطَرِحْ فِي ٱلْبَحْرِ فَيَكُونُ. وَكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي ٱلصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ» (متّى ٢١: ٢١ و٢٢). فإن قيل كيف يقدر المؤمن أن يحصل على الثقة التامة قلنا ذلك عطية الله فكل من حصل على شيء من تلك الهبة فعليه أن يستعملها بالمحبة والغيرة وإلا ضعفت. ويجب على المجرب في أوقات التجربة أن يرفع «تُرْسَ ٱلإِيمَانِ، ٱلَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ ٱلشِّرِّيرِ ٱلْمُلْتَهِبَةِ» (أفسس ٦: ١٦). وأن يتأمل في صفات الله ومواعيده التي تقوي الإيمان به وبإجابته الصلاة وفي محبته تعالى وعدم تغيره وأمانته في وعده. وأن يقاوم كل المقاومة الأفكار المولدة للشك. ومثل الإيمان بلا ارتياب في (رومية ٤: ٢٠ انظر أيضاً مرقس ١١: ٢٤).
لأَنَّ ٱلْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ ٱلْبَحْرِ تَخْبِطُهُ ٱلرِّيحُ وَتَدْفَعُه هذا بيان لأضرار الشك بالنفس والقلق والخوف وهو يضعف قدرة النفس على فعل الخير ويمنع من عمل الله فيها. ومثل ذلك كانت حال التلاميذ وهم في السفينة على بحر الجليل (مرقس ٦: ٤٧ - ٥٠) وبعد موت المسيح وقبل قيامته (لوقا ٢٤: ١٧ و٢٥) ونبأ خلاصهم من حال الاضطراب ومصيرهم إلى حال الهدوء والأمن في (متّى ١٤: ٣٢ و٣٣ ويوحنا ٢٠: ٢٠) وتشبيه الكاتب هنا يبين حال المرتاب أنه يرتفع بالرجاء تارة ويغرق باليأس أخرى ويكون تارة في أوج المسرة وأخرى في حضيض الحزن.
٧ «فَلاَ يَظُنَّ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئاً مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ».
هذه الآية تحذير من الشك وبيان أنه يجب على نفس الطالب أن تكون راسخة في الإيمان وإلا فصلواته باطلة وهذا كقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين «بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي إِلَى ٱللّٰهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ» (عبرانيين ١١: ٦). والله يرى قلوبنا ونحن نصلي فإن رأى فينا عدم إيمان بوجوده وصفاته ومواعيده ومحبته واستعداده للإجابة أو الشك في ذلك لاق به أن لا يلتفت إلى صلواتنا. إن الله يمنح بعض البركات بلا طلب كالحياة والقوت والكسوة ولكنه جعل شرط نيل البركات الروحية طلبها بالإيمان. و «الرب» في هذه الآية الله المثلث الأقانيم الذي أعلن نفسه بيسوع المسيح لا الآب وحده ولا الابن وحده.
٨ «رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ».
ص ٤: ٨ و٢بطرس ٢: ١٤
رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ العلاقة بين هذه الآية والتي قبلها بيان حال قلب المرتاب التي تمنعه من الاقتراب إليه تعالى بطريق مقبولة ونيل الحكمة السماوية «وذو الرأيين» هو الذي يثق من وجه بالله وبوجوب خدمته ويشك من وجه آخر فيه ويميل أن يأخذ العالم نصيباً له فقلبه منقسم بين الله والعالم والسماء والأرض فتارة يميل إلى الثقة بالله واستفراغ المجهود في إرضائه وتفضيله على سواه وتارة يميل إلى التمسك بلذّات هذا العالم وغناه وشرفه وتفضيله رضى الإنسان على رضى الله. وهذا القول كقول المسيح «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ... لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَالَ» (متّى ٦: ٢٤).
مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ أي غير ثابت في مبادئه وغاياته وإيمانه وصلواته وهذا علّة أنه لا ينال شيئاً من عند الرب. فالمتقلقل في إيمانه لا يعتمد على سيرته والذي لا يثق بالله لا يستحق أن يثق الناس به. والذي ينقسم قلبه بين الله والعالم لا ينفع نفسه ولا إخوته البشر ولا يرضي الله.

حث على التواضع ع ٩ إلى ١١


٩ «وَلْيَفْتَخِرِ ٱلأَخُ ٱلْمُتَّضِعُ بِٱرْتِفَاعِهِ».
لوقا ١٤: ١١
العلاقة بين هذه الآية والسابقة لها غير واضحة ولعلها أنه حذّرنا في السابقة من الشك في الصلاة وانقسام القلب بين الله والعالم. والذي يجعلنا عرضة للشك في عناية الله هو التغييرات التي تطرأ علينا ونحن على الأرض فإذاً يجب على المسيحي أن يعتبر كل تغير من فقر إلى غنى أو من غنى إلى فقر ناشئ عن مشيئة الله وأن يكون مستعداً لقبول تلك التغيُّرات باعتبار أنها بقضائه ويسلم أموره إلى إرشاده تعالى واثقاً به مطيعاً له أو لعلها قصده بيان أن التغيُّرات التي تحدث هنا هي من الوسائل التي يتخذها الله امتحاناً للمؤمنين ليرى هل يثقون به ويتكلون عليه في الارتفاع والاتضاع.
وَلْيَفْتَخِرِ المراد «بالافتخار» هنا السرور كما في قول بولس «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (غلاطية ٦: ١٤).
ٱلأَخُ ٱلْمُتَّضِعُ بِٱرْتِفَاعِهِ أي المؤمن الذي كان متضيقاً بالفقر والعَوز ثم استغنى. وعلّة وجوب أن يفرح بتغيّر حاله من الفقر إلى الغنى أن الله بذلك يمتحن خلوص تقواه وإيمانه لا تخلّصه من الفاقة ولا تمكنه من الإحسان إلى غيره. وهذا التغيُّر مما يعرض الإنسان للكبرياء ومحبة أباطيل هذه الدنيا ولذّاتها ونسيان الله فيحق له أن يفرح إذا بقي متواضعاً مفضلاً كنزه في السماء على كنزه في الأرض. وإذا استمر على أن يقول الله نصيبي وعليه توكلي أبان أن إيمانه ثابت وتحقق أنه مسيحي حقاً.
١٠ «وَأَمَّا ٱلْغَنِيُّ فَبِٱتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ ٱلْعُشْبِ يَزُولُ».
١بطرس ١: ٢٤ و١كورنثوس ٧: ٣١
وَأَمَّا ٱلْغَنِيُّ فَبِٱتِّضَاعِهِ أي بانحطاطه من الغنى إلى الفقر. ففرح الغني باتضاعه عسر لا كفرح الفقير بارتفاعه فإنه من مقتضيات الطبع لكن يجب عليه أن يجد فيه علة للفرح لأنه فرصة لبيان أن قلبه غير متعلق بغناه الأرضي وأنه مستعد أن يخدم الله في أيام فقره إذا شاء كما خدمه في أيام غناه. إن بعض الفضائل لا يستطيع الغني أن يختبره ويمارسه في حال الثروة والرغد ولكنه يتمكن من ذلك في حال الفقر والضيق. وكثيراً ما شهد المسيحيون بأنهم عرفوا من نفع مواعيد الله ونعمة المسيح وهم على فراش الأمراض ما لم يعرفوه في سني الصحة الكثيرة. فإن اعتبر فقره من تأديب الله له حق له أن يتخذه علّة للسرور إذ يتحقق بذلك أنه ابن الله (عبرانيين ١٢: ٧). وإن كان فقره ناشئاً عن كونه خادماً للمسيح حق له أن يفرح به لأن المسيح قال «اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هٰكَذَا طَرَدُوا ٱلأَنْبِيَاءَ ٱلَّذِينَ قَبْلَكُمْ» (متّى ٥: ١٢).
لأَنَّهُ كَزَهْرِ ٱلْعُشْبِ يَزُولُ هذا يصدق على كل الناس لكن قليلين من يذكرونه ويجرون بمقتضاه فيجب على المؤمن أن يفرح بأن تغيّر حاله يذكره إياه وينبهه على وجوب الاستعداد للعالم الأخير الذي ليس فيه من تغير ولا من زوال. والتشبيه الذي أتاه يعقوب هنا كالتشبيه الذي أتاه المسيح في (متّى ٦: ٣٠ انظر أيضاً أيوب ١٤: ٢ ومزمور ١٠٣: ١٥).
١١ «لأَنَّ ٱلشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِٱلْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ ٱلْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هٰكَذَا يَذْبُلُ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ».
هذا يوافق قول إشعياء النبي «صَوْتُ قَائِل: نَادِ. فَقَالَ: بِمَاذَا أُنَادِي؟ كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ. يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلزَّهْرُ، لأَنَّ نَفْخَةَ ٱلرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقّاً ٱلشَّعْبُ عُشْبٌ» (إشعياء ٤٠: ٦ و٧). وهذا مما نشاهده دائماً من تأثير حرّ الشمس وقوة الريح الشرقية على تيبيس العشب وإزالة نضارته وجماله.
هٰكَذَا يَذْبُلُ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ فيزول هو وكل أعماله ومقاصده التي يسعى وراءها فإن الموت يخطف الإنسان ويجرده من كل بهائه ومجده العالمي ورجائه العظمة فيعلّم الله الغني بتغييره حاله بقصر حياته وضعف قبضه ماله وأنه وكل ماله كالزهر الوقتي في سرعة الزوال.

غبطة من يثبت في التجارب والمصائب ع ١٢ إلى ١٨


١٢ «طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَحْتَمِلُ ٱلتَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ» ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ».
متّى ٢٠: ١٢ وإشعياء ٤٠: ٧ ومزمور ١٠٢: ٤ و١١
هذا يثبت ما في الآية الثانية ويزيد عليه لأنه يغبط هنالك الذين يقعون في التجربة وهنا الذي يحتمل التجربة. فالمؤمن الذي يُمتحن بالتجربة ويغلبها ينال بركة أعظم من كنوز الأغنياء وأبقى منها. فالتطويبات التي نسبها المسيح إلى المساكين بالروح والحزانى والودعاء والجياع والعطاش إلى البر والرحماء والأنقياء القلب وصانعي السلام والمطرودين من أجل البر والمضطهدين (متّى ٥: ٣ - ١١) نُسبت هنا إلى الذين يحتملون التجربة ولا سيما المطرودين والمضطهدين.
ٱلَّذِي يَحْتَمِلُ ٱلتَّجْرِبَةَ بصبر وخضوع لإرادة الله.
إِذَا تَزَكَّى إي أبان تزكيته باحتماله التجربة كما فعل الرسل والشهداء الذين بقوا أمناء للمسيح في أثناء الاضطهادات الشديدة.
يَنَالُ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ هذا يثبت غبطته. والإكليل المذكور هو علامة الانتصار والشرف وهو الحياة الأبدية المجيدة فلم يكن مثل الأكاليل التي كان يتكلل بها المنتصرون في الملاعب اليونانية فتلك لم يكن لها اعتبار عند اليهود. إن التجارب الأرضية التي يحتملها المؤمنون تصير أزهاراً لأكاليلهم السماوية.
ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلرَّبُّ (انظر ٢تيموثاوس ٤: ٨ و١بطرس ٥: ٤ ورؤيا ٢: ١٠ و٣: ١١ و٤: ٤).
لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ المحبة لله هي العلامة التي يمتاز بها الأبرار لأنه ليس كل الناس يحبونه المحبة الواجبة (رومية ١: ٣٠). ومحبة المؤمن للمسيح تقدره على احتمال الآلام من أجله بصبر وثبات.
١٣ «لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِٱلشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً».
تكوين ٢٢: ١
إِذَا جُرِّبَ على ارتكاب الخطيئة. المراد في ما ذُكر في الآية الثانية وما بعدها إلى هذه الآية من التجارب المصائب والمشقات الخارجية الحاملة على الحزن والتجارب المفهومة هنا هي الداخلية الحاملة على ارتكاب الآثام. ويمكن أن تصير التجارب الخارجية داخلية إذا جذبت المجرّب إلى التذمُّر على الله وقضائه والكفر به وبعنايته أو حملته على إتيان المحظورات.
إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ نهى يعقوب عن هذا القول لأن قائله يلوم الله على جعله إياه في أحوال تحمله على الإثم وهو عاجز عن الانتصار عليها أو على أنه خلق طبيعته مائلة إلى الخطيئة وعلى أن أخلاقه جعلته يخالف ضميره والشريعة الإلهية.
لأَنَّ ٱللّٰهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِٱلشُّرُورِ فانسب شرّك إلى غير الله لأن ليس في طبيعته تعالى ما يقبل التجربة فلا يمكنها أن تمسه ولم يُختبر بها. فليس فيه من ميل إلى الإثم كالإنسان ولا نقص في القوة أو المال أو السعادة حتى يكون عرضة للتجربة بغية الزيادة من قدرة أو ثروة أو غبطة.
وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً أي لا يضع أمام الإنسان شيئاً يحمله على ارتكاب الإثم. وهذا القول الصريح ينفي كل شكوى الناس من أن الله يجربهم بناء على أنه لم يمنع الخطيئة من أن تدخل العالم. وعلى أن قضاءه السابق بكل ما يحدث يستلزم أنه قضى بالخطيئة. وأنه هو علتها وأنه خلق الإنسان ذا طبيعة قابلة التجربة ولا قدرة لها على مقاومة ما حوله من الجواذب إلى الخطيئة. لا ريب في أن وجود الخطيئة بين خلائق الله سر عميق وأن العقل البشري عاجز عن دفع كل الاعتراضات في هذا الأمر لكن الواضح هنا أن الله نفى عن نفسه كل مسؤولية وأن ليس منه شيء من الخطيئة والحاملات عليها.
١٤ «وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا ٱنْجَذَبَ وَٱنْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ».
هذه الآية بيان أن الإنسان نفسه هو مصدر التجربة وعلّة الخطيئة. نعم إن الله يرسل النوازل أو يسمح بحلولها على شعبه لكنه يرسلها خالصة من بواعث الإثم ولا تكون علّة صدمة للناس لولا شهوات قلوبهم أو أميالهم فإنها هي التي تجعل الإنسان يتخذها وسيلة إلى الإثم مع أن الله قصد بها امتحانه وتقويته على خدمة أسمى من الخدمة الأرضية. إن اتهام الله تعالى بأنه يجرب للخطيئة كتجديف الفريسيين الذي قال المسيح أنه يستلزم أن ملكوت الله منقسم على نفسه (متّى ١٢: ٢٢ - ٣٧) إن الله لا يجرب الإنسان على ارتكابها فعلّة كل خطيئة يرتكبها هي شهواته. فإن لم يفتح الإنسان قلعة قلبه لدخول التجربة حاصره الشيطان عبثاً.
إِذَا ٱنْجَذَبَ وَٱنْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ نسب إلى الشهوة قوة الخداع علاوة على قوة الجذب لأنها تجعل الإنسان الذي يدخل فيها يعتقد أن طرقها طرق لذة وأمانة لا إنها تؤدي إلى هلاك النفس والجسد (انظر قول الحكيم في المرأة الغريبة أمثال ٥: ٣ - ٥ و٧: ١٠ - ٢٧). أو تخدعه بأن تحمله على توهم أنه يستطيع أن ينجي نفسه من سلطتها متى أراد لكنه يكون كطير في شبكة فلا يستطيع شيئاً من ذلك (جامعة ٩: ١٢).
١٥ «ثُمَّ ٱلشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَٱلْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً».
أيوب ١٥: ٢٥ ومزمور ٧: ١٤ وإشعياء ٥٩: ٤ ورومية ٥: ١٢ و٦: ١٣
في هذه الآية دركات هبوط الخاطئ إلى هلاكه.
ثُمَّ ٱلشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ القول هنا كالقول في سفر أيوب «حَبِلَ شَقَاوَةً وَوَلَدَ إِثْماً، وَبَطْنُهُ أَنْشَأَ غِشّاً» (أيوب ١٥: ٣٥). إن الشهوة الطبيعية التي تخلو من الصفات الأدبية تصير تجربة للخطيئة متى وُجهت إلى محظور كما كان من أمر حواء لأنها نظرت إلى الثمرة المنهي عنها واشتهتها ثم تناولتها. إن رغبة الإنسان في السعادة وقابليته الأكل والشرب وطلبه الكسوة ليست بإثم لكنها يمكن أن تصير إثماً إذا حملته على اتخاذ الوسائل المحرمة إلى إدراكها من تعدّي حقوق غيره من الناس ومخالفة شريعة الله. فالطبيعة التي ورثناها من الوالدين الأولين بعد سقوطهما تحملنا على أن نشتهي المحرمات وأن نعمل أعمالاً محرمة. فلا حق بعد هذا لأحد أن يتهم الله بأنه هو علّة وجود الخطيئة ونحن نرى أن في طبيعة الإنسان عللاً كافية لإنشائها.
تَلِدُ خَطِيَّةً انزل يعقوب الشهوة الرديئة منزلة الزانية وتسليم الإرادة إلى الشهوة منزلة الاقتران المحرّم ونتيجة ذلك الاقتران هي الخطيئة. ونوع الخطيئة يختلف باختلاف الشهوة.
وَٱلْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً أي إذا بلغت غايتها تُنتج الخ. فالخطيئة الواحدة وسيلة إلى ارتكاب كثير من الخطايا وفساد الإنسان كله كجرثومة الوبإ تنمو وتنتشر في كل أعضاء الجسد فتميتها فإذا الشهوة الرديئة أم الخطيئة ومولود الخطيئة الموت. والموت هنا موت زمني روحي أبدي. وكلام يعقوب هنا يشبه كلام بولس في (رومية ٦: ٢٠ - ٢٣) وهو يبين عموم نتيجة الخطيئة لولا العلاج الذي أعده الله بكفارة يسوع المسيح وتجديد الروح القدس لقلب الإنسان. وخلاصة كل ما ذُكر أن التجربة للإثم ليست من الله وإن كان الامتحان منه. وإن أصل الخطيئة الشهوة وإن الخطيئة أصل الموت بكل أنواعه ودرجاته.
١٦ «لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ».
١كورنثوس ٦: ٩ ع ١٩ وص ٢: ٥ و١: ٢ و١٤ و٤: ١ و١٠ و٥: ١٢ و١٩ وص ٤: ١١ وأعمال ١: ١٥
برهن يعقوب بطريق السلب في ما سبق أن الله لا يجرّب الإنسان وأخذ هنا يبرهن ذلك في هذه الآية والاثنتين بعدها بطريق الإيجاب وهو بيان أن الله مصدر كل صلاح فكل ما يعمله للخير.
لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي يتبين من هذا الإنذار والخطاب أن الرسول اعتبر أن ما سيكون هو أمر ذو شأن وأن الإخوة في خطر الضلال مع سائر الناس وهو أن ينسبوا إلى الله ما هو بعيد من طبيعته أي أن التجربة للإثم منه وأنه هو مصدر الخطيئة وكل شرور العالم الناشئة عنها.
١٧ «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي ٱلأَنْوَارِ، ٱلَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ».
ص ٣: ١٥ و١٧ ويوحنا ٣: ٣ ومزمور ١٣٦: ٧ و١يوحنا ١: ٥ وملاخي ٣: ٦
كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ في هذا البيان مصدر العطية وإن جوهرها كجوهر مصدرها. ويعسر علينا التمييز بين «العطية الصالحة» و «الموهبة التامة» ولعله أشار بكونها «صالحة» إلى حقيقتها ونتيجتها وبكونها «تامة» إلى مقدارها وإلى كونها بلا نقص. ومن الواضح أن كل البركات الروحية تأتي من الله وإن أعمال الناس الصالحة ناشئة عن حث الله للناس عليها وتمكينه إياهم من عملها. وهو هنا نص على أنه تعالى هو واهب كل خير أرضي من صحة وقوة ومال حتى أن مصائب الناس لم يرسلها عليهم إلا بغية نفعهم لأنهم إذا احتملوا الامتحان بها أتتهم بأثمار بر للسلام بدليل قوله «كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي ٱلْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي ٱلَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عبرانيين ١٢: ١١) إن ينبوع كل خير أرضي من السماء ولكن قنوات البركات الروحية التي فيها تصل إلينا هي الأسفار الإلهية والتأمل فيها وأسرار الكنيسة والصلوات والبركات الزمنية يهبها الله لنا إجابة للصلاة المقترنة بالاجتهاد والاقتصاد والتدبير التي هي من جملة مواهبه تعالى. وهو يهب الخلاص لجميع الذين يطلبونه بالمسيح فيهب الفرح والتعزية والسلام للذين يحبونه ويطيعونه وأما الغنى والشرف فيعطيه القليلين من بنيه ولكنه يعطي الجميع ابنه يسوع المسيح ورجاء السماء.
نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي ٱلأَنْوَارِ المراد «بالأنوار» هنا الأجرام السماوية ودُعي الله إياها لأنه خالقها. ولا شيء في المخلوقات أطهر من النور وأكثر نفعاً منه. وكون الله مصدره يمنع من أن يكون مصدر الشر بدليل قول يوحنا الرسول «إِنَّ ٱللّٰهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ ٱلْبَتَّةَ» (١يوحنا ١: ٥) إنه تعالى فوق كونه مصدر النور المادي (أي نور الشمس والقمر والنجوم التي تضيء في السماء) هو مصدر نور العقل والضمير الذي يضيء في نفس الإنسان. ويضيء من شريعته ونور النبوءة التي هي «كسراج منير في موضع مظلم» ونور الإنجيل الذي يضيء في كل العالم. والنور الذي أشرق بواسطة الرسل والشهداء والذين اعترفوا بالمسيح بين كل الأمم. ونور الروح القدس الذي أشرق في قلوبنا ونور المدينة السماوية وهو أبو يسوع المسيح الذي هو «نور العالم».
ٱلَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ إنه لا يعتري الله التغيّر الذي نشاهده في مقادير أنوار الأجرام السماوية ويظهر في شروقها وغروبها كل يوم وتغيره بتغير الفصول. فالشمس لا تشرق إلا في كل موضع من الأرض في وقت واحد ولا تكون أشعتها وحرارتها متساوية في الأماكن بل يختلفان باختلاف العروض والفصول وغير ذلك والله منزه عن أمثال ذلك. والمرجّح أنه أشار بقوله «ظل دوران» إلى ما يعتري القمر من تغير وجهه وخسوفه. فما كان عليه الله منذ ألوف وربوات لا تحصى من السنين لا يزال عليه الآن ويبقى ذلك إلى ما لا يحصى من ربوات سني الأبدية. فلن يتغير في الحكمة والمحبة والقوة. فمهما اعترانا من تغير من فقر وغنى ومرض وصحة وانتقلنا من مواضعنا إلى أقاصي الأرض لم نزل ساكنين في ستر العلي وفي ظل القدير نبيت. «تَزُولُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ ٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ ٱلأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا» (٢بطرس ٣: ١٠) و «وَتَلْتَفُّ ٱلسَّمَاوَاتُ كَدَرْجٍ» (إشعياء ٣٤: ٤) «وتُظْلِمُ ٱلشَّمْسُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَٱلنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (متّى ٢٤: ٢٩) والله لا يزال يقول «أَنَا ٱلرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ» (ملاخي ٣: ٦).
١٨ «شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ ٱلْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ».
يوحنا ١: ١٣ وع ١٥ و١بطرس ١: ٣ و٢٣ و٢كورنثوس ٦: ٧ وأفسس ١: ١٣ و٢تيموثاوس ٢: ١٥ وإرميا ٢: ٣ ورؤيا ١٤: ٤
شَاءَ فَوَلَدَنَا في هذا أقوى برهان على أن الله صالح وأنه مصدر الصلاح لأنه مصدر تجديد الإنسان. وهذا التجديد يُعرف «بالولادة الجديدة» أيضاً «والولادة من فوق» (يوحنا ٣: ٣ و٦) و «بالخليقة الجديدة» (٢كورنثوس ٥: ١٧). وقال «شاء فولدنا» لبيان أنه لا قوة خارجية أوجبت عليه ذلك بل أن الأمر كله من جودته ونعمته. والضمير البارز في «ولدنا» للمسيحيين والله ولدهم ثانية بروحه القدوس. وهذا الولادة روحية كما يتبين من قول يوحنا في المتجددين «اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (١يوحنا ١: ١٣) ومن قول بطرس «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (١بطرس ١: ٢٣).
بِكَلِمَةِ ٱلْحَقِّ أي الإنجيل الموحى به بالروح القدس فإنه هو الحق بدليل قول المسيح «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا ١٧: ١٧) وقول بطرس «مَوْلُودِينَ... بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (١بطرس ١: ٢٣). وتُسمى «كلمة الحق» أيضاً «بإنجيل الخلاص» ( أفسس ١: ١٣). ولنا أن نفهم «بكلمة الحق» يسوع المسيح نفسه لأنه كلمة الله الأزلي الذي تأنس لكي نقدر به أن نصير أبناء الله ولا يتغير المعنى لأن الإنجيل إنجيل المسيح نفسه لأنه كلمة الله الأزلي الذي تأنس لكي نقدر به أن نصير أبناء الله ولا يتغير المعنى لأن الإنجيل إنجيل المسيح وهو الذي يجعل ذلك الإنجيل واسطة الحياة الجديدة بروحه القدوس.
لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ إن باكورة الناس والبهائم والأثمار توقف لله بمقتضى شريعته ولذلك امتازت على غيرها بالقداسة والإكرام (لاويين ٢٣: ١٠ وعدد ١٨: ١٢ وتثنية ٢٦: ٢). وكانت باكورة الحصاد تُحسب عربون الحصاد كله. وعلى هذا اعتبر يعقوب الذين صاروا أبناء لله بالولادة الجديدة ممتازين على سائر خليقته بالإكرام كباكورة سائر الأشياء. واعتبر المسيحيين الأولين الذين خاطبهم عربون الكثيرين الذين سوف يؤمنون من اليهود والأمم في كل الأرض لمجده تعالى. فإن كان قد دعاهم باكورة بالنظر إلى السمو والشرف أو بأنه اعتبر فداءهم باكورة حصاد روحي عظيم في المستقبل فالنتيجة واحدة وهي أن تحديدهم دليل قاطع على إحسان الله وصلاحه. قال بولس الرسول كل الخليقة تتوقع استعلان أبناء الله (رومية ٨: ١٩ و٢١) فيكون فداء المسيحيين الأولين باكورة فداء عظيم مجيد يعم كل الخليقة.

وجوب الطاعة والحلم ومعرفة النفس والتديّن وعلامات الديانة الطاهرة ع ١٩ إلى ٢٧


١٩ «إِذاً يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي ٱلاسْتِمَاعِ، مُبْطِئاً فِي ٱلتَّكَلُّمِ، مُبْطِئاً فِي ٱلْغَضَبِ».
١يوحنا ٢: ٢١ وأمثال ١٠: ١٩ و١٧: ٢٧ و١٦: ٣٢
إِذاً أي بناء على كون الله مصدر كل صلاح وأنه لا يجرب أحداً للإثم وأنه أكرمنا بأن جعلنا بنعمته باكورة من خلائقه وجب أن نصغي إلى قوله تعالى ونُخضع شهواتنا الرديّة ونطيع الله في كل شيء.
لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي ٱلاسْتِمَاعِ أي راغباً في سمع كلمة الحق وصوت المتكلم بها وبروحه في قلوبنا وأصوات مبشريه بغية السير بمقتضى تلك الكلمة (كما يتضح من ع ٢٢) لا بغية أن يكون معلماً لها أو مجادلاً ومخاصماً كما يظهر من باقي الآية.
مُبْطِئاً فِي ٱلتَّكَلُّمِ أي غير راغب في التكلم كمعلم كما يظهر من قوله «لا تكونوا معلمين كثيرين» (ص ٣). ولعل مراده مراد سليمان بقوله «كَثْرَةُ ٱلْكَلاَمِ لاَ تَخْلُو مِنْ مَعْصِيَةٍ، أَمَّا ٱلضَّابِطُ شَفَتَيْهِ فَعَاقِلٌ» (أمثال ١٠: ١٩) وهو تحذير من الابتداء أي التكلم قبل التأمل والإكثار من الكلام الذي لا يبني وهو بمعنى قول بولس «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ» (كولوسي ٤: ٦).
مُبْطِئاً فِي ٱلْغَضَبِ كقول الحكيم «اَلْبَطِيءُ ٱلْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ ٱلْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً» (أمثال ١٦: ٣٢). وقول يعقوب نفسه «نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ» (ص ٣: ٥) فإن الغضب يتوقد كالنار. وفي هذه نهي عن الغضب على المعتدين علينا والذين لا يوافقونا في العقائد والفرائض الدينية. فإن هذا الغضب يحمل على الخصومات والتحزب والانشقاق. والقرينة تدل على أن ذلك الغضب ناشئ عن الخلاف الديني.
٢٠ «لأَنَّ غَضَبَ ٱلإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ ٱللّٰهِ».
متّى ٥: ٢٢ وأفسس ٤: ٢٦
في هذه الآية علّة أنه يجب على المسيحي أن يكون «مبطئاً في التكلم مبطئاً في الغضب» وهو غيور لله ودينه لأن الغيرة الدينية تحمل الإنسان على الجدال ومقاومة آراء غيره فلا ينتج منهما البر الذي يسر الله به وهو ثمر الروح القدس فينا. ونستنتج من هذا الإنذار أن المسيحيين الأولين مالوا إلى الخصومات العنيفة في الأمور الدينية إما بين أنفسهم وإما بين جيرانهم من اليهود والأمم وظنوا أن ذلك يبيّن غيرتهم للمسيح ويؤول إلى التقدم الحقيقي مع أن الأمر غير ذلك وأنه لا ينشأ منه سوى الغضب بلا نفع للدين الحق.
٢١ «لِذٰلِكَ ٱطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ. فَٱقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَغْرُوسَةَ ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ».
أفسس ٤: ٢٢ و١بطرس ٢: ١ و١: ٢٢ وأفسس ١: ١٣
لِذٰلِكَ لما سبق في (ع ١٩ و٢٠).
ٱطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ أي كل خطيئة ناشئة عن شهوات جسدية. ودُعيت «نجاسة» لكونها مكروهة بذاتها فيجب طرحها لأنها تمنع كل نفع من استماع الكلمة الإلهية المغروسة كالشوك الذي ذُكر في مثَل الزارع أنه خنق الكلمة وجعلها بلا ثمر (متّى ١٣: ٢٢).
وَكَثْرَةَ شَرٍّ أي الأخلاق الرديئة كالخبث والحقد والحسد وسائر ما يحمل من قامت به على بغض الناس. ولعل الرسول أشار «بالنجاسة» إلى الخطايا الناشئة عن الشهوة الجسدية وأشار «بالشر» إلى الخطايا القلبية وأضاف «الكثرة» إليها ليدل على كرهه إياها وليبيّن أن من شأنها أن تنتشر وتفيض وحذّر منها لأنها تمنع من استماع كلمة الحق.
فَٱقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَغْرُوسَةَ لأن الكبرياء والنجاسة والبغض والشر على اختلاف أنواعه تمنع من قبول الكلمة. والحلم والوداعة واللين تفتح ذهن الإنسان وقلبه للترحيب بالإنجيل والاستفادة منه (انظر متّى ١٨: ٢ و٣ وتفسير ذلك). وتعبيره عن الإنجيل «بالكلمة المغروسة» على وفق تعبير بطرس عنه بقوله «كَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (١بطرس ١: ٢٣). ومعنى ذلك أن تأثير الإنجيل في طبيعتنا الفاسدة الملتوية هو تغييره تلك الطبيعة حتى لا تأتي بأثمار البر. ولنا أن نفهم من «الكلمة المغروسة» المسيح فينا (غلاطية ٤: ١٩).
ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ أي إن الكلمة المغروسة في قلب الخاطئ قوة في يد الله أن تخلص النفس من الموت. ومن خواصها هذه النتيجة. فهذا مناسب لقول بولس في إنجيل المسيح أنه «قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ» (رومية ١: ١٦). وقوله «كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١: ١٨ انظر أيضاً ٢تيموثاوس ٣: ١٥). ونسب الى الإنجيل مثل هذه القوة في مخاطبته أساقفة أفسس بقوله «ٱلآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي لِلّٰهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، ٱلْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثاً مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال ٢٠: ٣٢). وأشار بقوله «المغروسة» إلى أنه ليس في قلب الإنسان شيء من المبادئ الطبيعية التي تُنشى من تلقاء نفسه القداسة وتؤدي إلى الخلاص. فكل ما يؤثر في القلب للخلاص إنما يأتي من خارجه وتغرسه اليد الإلهية.
٢٢ «وَلٰكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِٱلْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ».
ع ٢٢ - ٢٥ ومتّى ٧: ٢٤ - ٢٧ ولوقا ٦: ٤٦ - ٤٩ ورومية ٢: ١٣ وص ٢: ١٤ - ٢٠
هذا إيضاح لقوله «ليكن كل إنسان مسرعاً في الاستماع» وتكميل له.
عَامِلِينَ بِٱلْكَلِمَةِ على تمام معناها وكل مطاليبها بمقتضى قول المسيح «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٧: ٢١). وقوله «طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللّٰهِ وَيَحْفَظُونَهُ» (لوقا ١١: ٢٨). وقوله «إِنْ عَلِمْتُمْ هٰذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ» (يوحنا ١٣: ١٧).
لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ هذا كقول بولس «لَيْسَ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ، بَلِ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِٱلنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ» (رومية ٢: ١٣). فانظر مثِل المسيح في البيت الذي بُني على الرمل (متّى ٧: ٢٦ و٢٧). وليس المقصود هنا الاستخفاف بالسمع لكن بيان عدم نفعه إذا انفك عن العمل.
خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ بتوهمكم أن مجرد سمع الكلمة بالأذن الظاهرة ينفعكم.
٢٣ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعاً لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِراً وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ».
١كورنثوس ١٣: ١٢
شبّه هنا استماع الكلمة بياناً لعدم نفعه منفصلاً عن العمل بأمر عادي يأتيه الإنسان كل يوم وتأثيره زهيد قصير جداً.
سَامِعاً لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً هذان وصفان لإنسان واحد.
يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِراً وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ أي صورته التي وُلد عليها. كانت المرآة يوم كتبت هذه الرسالة تؤخذ من صقيل المعادن.
٢٤ «فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ».
مَضَى أي ذهب من أمام المرآة.
وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ أي نسي صورته. ذكر يعقوب ما يحدث غالباً وعلّة ذلك عدم التأمل الكامل فإنه حين ينظر في المرآة يعرف أن الصورة صورته ثم تذهب من خياله وذاكرته. ومقصوده من هذه التشبيه بيان سرعة زوال التأثير الناشئ من كلمة الله في الإنسان من جهة معرفته نفسه وواجباته فإنه حين يسمع كلمة الله يعرف أنها حق وأن شهادتها عليه صادقة فهي لنفسه بمنزلة المرآة لوجهه. فإن اكتفى بمجرد استماعها لم يكن لها من تأثير ثابت فيه من جهة معرفته نفسه وإصلاحها كما لم يكن من تأثير ثابت في خياله من نظره وجهه في المرآة الحقيقية.
٢٥ «وَلٰكِنْ مَنِ ٱطَّلَعَ عَلَى ٱلنَّامُوسِ ٱلْكَامِلِ نَامُوسِ ٱلْحُرِّيَّةِ وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعاً نَاسِياً بَلْ عَامِلاً بِٱلْكَلِمَةِ، فَهٰذَا يَكُونُ مَغْبُوطاً فِي عَمَلِهِ».
ص ٢: ١٢ ويوحنا ٣: ١٧ وغلاطية ٢: ٤ ويوحنا ٨: ٣٢ ورومية ٨: ٢ وغلاطية ٦: ٢ و١بطرس ٢: ١٦
في هذه الآية وصف لمطالع الكلمة الإلهية بالتواضع والحرص والرغبة في معرفة إرادة كاتبها والعمل بموجبها.
مَنِ ٱطَّلَعَ لم يزل يعتبر الإنجيل مثل مرآة ينعم الناظر فيها النظر خلافاً لمن ينظر وجهه لمحة ويمضي. فالاطلاع هنا كالاطلاع في قول بطرس «تَشْتَهِي ٱلْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا» (١بطرس ١: ١٢). ومثل نظر يوحنا في القبر الذي قام المسيح منه إذ قيل فيه أنه «دَخَلَ وَرَأَى فَآمَنَ» (يوحنا ٢٠: ٨).
ٱلنَّامُوسِ ٱلْكَامِلِ وصفه «بالكمال» لأنه يبيّن كمال التبيين كل ما يجب على الإنسان أن يفعله فالإنجيل للمسيحي ناموس كل حياته.
نَامُوسِ ٱلْحُرِّيَّةِ لأن المؤمن بمقتضى ولادته الجديدة يطيع الله مختاراً مسروراً لا كما يطيع العبد سيده مضطراً خائفاً. فالحرية صفة للمطلع الطائع الناموس لا للناموس نفسه.
ثَبَتَ أي في الطاعة بخلاف ما قيل آنفاً أنه «نظر ومضى ونسي» فهو يحفط ما عرفه في قلبه فيحمله على العمل.
صَارَ لَيْسَ سَامِعاً نَاسِياً كالذين «نظر وجه خلقته» (ع ٢٤).
بَلْ عَامِلاً بِٱلْكَلِمَةِ فالعمل هو الذي يمتاز به فهو ينظر في ذلك الناموس نقائصه فيصلح نفسه ويرى ما يجب عليه ويقوم به. والمراد بقوله «عاملاً بالكلمة» أنه قائم بما أوجبه الإنجيل عليه.
فَهٰذَا يَكُونُ مَغْبُوطاً فِي عَمَلِهِ أي إن الله يثيبه على مداومته الطاعة ويقول له الله كما قال الملك للذين عن يمينه «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (متّى ٢٥: ٣٤). وهو كقول المسيح «طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللّٰهِ وَيَحْفَظُونَهُ» (لوقا ١١: ٢٨) فتكون سعادته كسعادة الذي وُصف في مثل البيت المبني على الصخر (متّى ٧: ٢٤ و٢٥).
٢٦ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هٰذَا بَاطِلَةٌ».
ص ٣: ٢ - ١٢ ومزمور ٢٩: ١ و١٤١: ١
مما جاء في هذا الأصحاح من الآية التاسعة عشرة إلى هذه الآية إيضاح لقوله مسرعاً في الاستماع (ع ١٩). وما يأتي في (ع ٢٦ و٢٧) إيضاح لقوله «مبطئاً في التكلم» (ع ١٩).
إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ أي ممن يقومون بمظاهر الدين.
يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ أي يحسب أنه تقي ويعبد الله عبادة مقبولة.
وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ اعتقد يعقوب أن أول علامات تقوى الإنسان وكونه صاحب الدين الحق صون لسانه عن الشر. وهذا كقول المسيح «بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ» (متّى ١٢: ٣٧). فالذي لا يلجم لسانه يكذب به ويحلف ويجدّف ولا يمتنع عن الخصومة والغضب وهذا أكثر ما أراده هنا.
يَخْدَعُ قَلْبَهُ متوهماً أن ما يقوم به من مظاهر الدين يكفيه لكي ينال رضى الله وهذا باطل والحق خلافه.
فَدِيَانَةُ هٰذَا بَاطِلَةٌ أي عبادته الدينية باطلة لأنها لا تحتمل امتحان الديّان العظيم ولا ترضيه.
٢٧ «اَلدِّيَانَةُ ٱلطَّاهِرَةُ ٱلنَّقِيَّةُ عِنْدَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ هِيَ هٰذِهِ: ٱفْتِقَادُ ٱلْيَتَامَى وَٱلأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ ٱلإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ ٱلْعَالَمِ».
رومية ٢: ١٣ وغلاطية ٣: ١١ ومتّى ٢٥: ٣٦ وتثنية ١٤: ٢٩ وأيوب ٣١: ١٦ و١٧ و٢١ ومزمور ١٤٦: ٩ وإشعياء ١: ١٧ و٢٣ ص ٤: ٤ وتيطس ٢: ١٣ و٢بطرس ١: ٤ و٢: ٢٠ وأفسس ٢: ٢ ومتّى ١٢: ٣٢ و١يوحنا ٢: ١٥ - ١٧
إن اَلدِّيَانَةُ ٱلطَّاهِرَةُ ٱلنَّقِيَّةُ أي العبادة الدينية الحقة الخالصة من الرياء والغش.
عِنْدَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ أي في نظر الله الذي هو الآب (انظر رومية ٢: ١٣ وغلاطية ٣: ١١). وصف «الدين الحق» سلباً في (ع ٢٦) ووصفه إيجاباً في ما يأتي. وفي هذا أمران جوهريان وهما الإحسان إلى الفقراء وطهارة القلب وحكم بأنه حينما يكون ذانك الأمران فهنالك يكون الدين الحق.
ٱفْتِقَادُ ٱلْيَتَامَى وَٱلأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ عبّر بالإحسان إليهم عن كل اعتناء بالمحتاجين. والمراد «بالافتقاد» زيارتهم للاعتناء بهم والمساعدة لهم. وقدم اليتامى على الأرامل بياناً لأن اليتامى أشد حاجة من الأرامل وكون مساعدة اليتامى والأرامل مقبولة ومرضية عند الله يؤكدها قوله تعالى «أَبُو ٱلْيَتَامَى وَقَاضِي ٱلأَرَامِلِ اَللّٰهُ فِي مَسْكَنِ قُدْسِهِ» (مزمور ٦٨: ٥ انظر أيضاً تثنية ١٠: ١٨ و١٤: ٢٩ ومزمور ١: ١٤ و٨٢: ٣ وإشعياء ١: ١٧ وإرميا ٧: ٦ و٤٩: ١١). فساغ ليعقوب أن يحسب الاعتناء باليتامى والأرامل علامة التقوى الحقيقية لأن ذلك الاعتناء تكميل الناموس الملكي وهو قول المسيح «تحب قريبك كنفسك».
وَحِفْظُ ٱلإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ ٱلْعَالَمِ قصد بذلك طهارة القلب والسيرة. وأراد «بالعالم» كل ما يحمل على ارتكاب الخطيئة لأنه اعتبر العالم هنا منفصلاً عن الله وأنه «وُضع في الشرير» (١يوحنا ٥: ١٠). فالعالم على هذا علّة تدنيس المسيحي لأن المسيحي فصل نفسه عن العالم وإن بقي فيه فاحتاج إلى أن يحترس من أن يتدنس به (١تيموثاوس ٦: ١٤) وقوله هنا على وفق قول المسيح «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ» (متّى ٥: ٨). نعم إن حفظ المسيحيين من دنس العالم هو من أعمال الله (يوحنا ١٧: ١٥) لكن ذلك لا يمنع من أن يكون من أعمال الإنسان أيضاً بدليل قول الرسول لتيموثاوس «احفظ نفسك طاهراً» (١تيموثاوس ٥: ٢٢). ومعنى ما هنا كمعنى قوله «لاَ تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ» (رومية ١٢: ٢ انظر أيضاً ١صموئيل ١٥: ٢٢ و١يوحنا ٢: ١٥ - ١٧). والذين أتوا بخلاف ما ذُكر هنا هم الفريسيون فإنهم ادّعوا الطهارة الزائدة حتى أنهم أبوا أن يدخلوا دار بيلاطس وقت العيد لئلا يتدنسوا مع أنهم كانوا حيئنذ يطلبون محاكمة بريء وقتله (يوحنا ١٨: ٢٨).


اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي


في هذا الأصحاح ثلاثة أمور يتضح بها الدين الحق:
الأول: وجوب ترك المحاباة (ع ١ - ٩) مثل إكرام الأغنياء وإهانة الفقراء وإثبات ذلك بأربعة أدلة:

  • إن الله اختار الفقراء أصدقاء له خاصة.
  • إن الأغنياء يظلمونهم فلا يستحقون الإكرام الزائد الخاص.
  • إن كثيرين من الأغنياء يستهينون بالدين المسيحي.
  • إن كل من يأتي بمثل هذه المحاباة يخالف ناموس المحبة.


الثاني: إن الدين الحق يوجب حفظ الناموس كله (ع ١٠ - ١٣) لثلاثة أسباب:

  • إن الذي يطيع بعض الناموس ويترك بعضه مذنب في الكل لأن ليس له روح الطاعة الحقيقية وإلا حفظ الكل.
  • إن كل الناموس من الله فنحن مكلفون بالكل فالذي نهى عن القتل نهى عن الزنى فلا نستطيع أن نخضع لبعض أوامر الله ونعصي بعضها ما لم نعص الله.
  • إن كل الناموس وُضع قانوناً لحياتنا وندان بمقتضاه كله يوم الدين.


الثالث: أمر التبرير ووجوب الأعمال الصالحة لإثبات نيله حقيقة (ع ١٤ - ٢٦).
تحذير من المحاباة ع ١ إلى ٩


١ «يَا إِخْوَتِي، لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، رَبِّ ٱلْمَجْدِ، فِي ٱلْمُحَابَاةِ».
ص ١: ١٦ وعبرانيين ١٢: ٢ و١كورنثوس ٢: ٨ وأعمال ٧: ٢ ع ٩ وأعمال ١٠: ٣٤
يَا إِخْوَتِي دعاهم إخوة بالنظر إلى الأصل وإلى الإيمان.
لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي لا يكن لكم الدين المسيحي. وعبّر عن هذا الدين «بالإيمان» لأن الإيمان هو المبدأ الجوهري الذي يتميز به عن سائر الأديان (١تيموثاوس ٣: ٩).
فِي ٱلْمُحَابَاةِ أي يجب أن تعتزلوا المحاباة في ممارستكم دين المسيح. وفي هذا توبيخ شديد للذين أدعوا أنهم مسيحيون وهم يزيدون اعتبارهم للأغنياء ويهينون الفقراء وبذلك باين فعلهم كل المباينة ما فعله المسيح بدليل قوله «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (٢كورنثوس ٨: ٩). فإن كان رب المجد قد وضع نفسه لأجل الفقراء حتى أنه افتقر من أجلهم لم يلق باتباعه أن يستهينوا بالفقراء ويفضلوا الأغنياء عليهم (انظر أيضاً فيلبي ٢: ٤ - ٧). ولقب المسيح «برب المجد» (١كورنثوس ٢: ٨) لأنه مجيد بالذات ولأنه محاط بجنود المجد العلوية. فتفضيل بعض الأعضاء على الأخر في الكنيسة لا لزيادة تقوى المفضلين أو خدمتهم للناس بل لغناهم هو محاباة ومكرهة لله إذ قال في كتابه «مُحَابَاةُ ٱلْوُجُوهِ فِي ٱلْحُكْمِ لَيْسَتْ صَالِحَةً» (أمثال ٢٤: ٢٣) و «لاَ تَنْظُرُوا إِلَى ٱلْوُجُوهِ فِي ٱلْقَضَاءِ. لِلصَّغِيرِ كَٱلْكَبِيرِ تَسْمَعُونَ» (تثنية ١: ١٧). و «ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ هُوَ إِلٰهُ ٱلآلِهَةِ وَرَبُّ ٱلأَرْبَابِ، ٱلإِلٰهُ ٱلْعَظِيمُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمَهِيبُ ٱلَّذِي لاَ يَأْخُذُ بِٱلْوُجُوهِ» (تثنية ١٠: ١٧).
٢ «فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ إِلَى مَجْمَعِكُمْ رَجُلٌ بِخَوَاتِمِ ذَهَبٍ فِي لِبَاسٍ بَهِيٍّ، وَدَخَلَ أَيْضاً فَقِيرٌ بِلِبَاسٍ وَسِخٍ».
لوقا ٢٣: ١١ وع ٣ وزكريا ٣: ٣
أتى الرسول هنا بمثال المحاباة التي حذر منها.
إِنْ دَخَلَ إِلَى مَجْمَعِكُمْ أي إن دخل إليه أحد غريب مسيحياً كان أو وثنياً فإن هذا لا يُلتفت إليه لأن الغاية ليست سوى إيراد مثَل والمقصود أن يُقابل بين معاملة رجلين أحدهما من الأغنياء والآخر من الفقراء. وتسميته مجتمع المسيحيين للعبادة «بالمجمع» مأخوذ عن اليهود ولم يُذكر بهذا المعنى إلا هنا. وعلّة تسميته إياه بذلك كونه قد كتب إلى متنصري اليهود وكون الغاية من المجمع العبادة كغاية الكنيسة والمرجح أن الكنيسة كانت على هيئة المجمع.
بِخَوَاتِمِ ذَهَبٍ فِي لِبَاسٍ بَهِيٍّ ما ذُكر هنا من علامات الغنى وسمو المقام (تكوين ٤١: ٤٢ ولوقا ١٦: ١٩).
فَقِيرٌ بِلِبَاسٍ وَسِخٍ أي ملبوسه يدل على فقره وكونه مفتقراً إلى العمل لتحصيل أسباب المعاش.
٣ «فَنَظَرْتُمْ إِلَى ٱللاَّبِسِ ٱللِّبَاسَ ٱلْبَهِيَّ وَقُلْتُمْ لَهُ: ٱجْلِسْ أَنْتَ هُنَا حَسَناً. وَقُلْتُمْ لِلْفَقِيرِ: قِفْ أَنْتَ هُنَاكَ أَوِ: ٱجْلِسْ هُنَا تَحْتَ مَوْطِئِ قَدَمَيَّ».
لوقا ٢٣: ١١ وع ٣
فَنَظَرْتُمْ أي بعين الاحترام.
وَقُلْتُمْ لَهُ: ٱجْلِسْ أَنْتَ هُنَا حَسَناً أي قلتم للغني. كان في المجامع اليهودية «مجالس أولى» (متّى ٢٣: ٦). والمرجح أن الكنائس كانت كالمجامع في الترتيب وفيها مجالس تمتاز عن غيرها للشرف والراحة فدعوا الأغنياء إلى القعود عليها.
وَقُلْتُمْ لِلْفَقِيرِ: قِفْ أَنْتَ هُنَاكَ أشار بقوله «هناك» إلى مكان بعيد من المتكلم أو من المقاعد النفيسة كما أشار بقوله «هنا» إلى مكان قريب منه.
أَوِ تَحْتَ مَوْطِئِ قَدَمَيَّ أشار بذلك إلى أن المتكلم لا يبالي بالفقير. وهذا دليل واضح على أنه احترم الغني لبهاء لباسه لا لحسن صفاته الأدبية وأعماله الصالحة وأنه احتقر الفقير لدناءة لباسه. فالمحاباة المذكورة مما لا يليق أن يكون في بيت الله لأن كل الناس مخلوقاته وكلهم خطأة بالطبع والله يقبل كل من يأتي إليه منهم بغية العبادة بلا فرق.
٤ «فَهَلْ لاَ تَرْتَابُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَتَصِيرُونَ قُضَاةَ أَفْكَارٍ شِرِّيرَةٍ؟».
لوقا ١٨: ٦ ويوحنا ٧: ٢٤
فَهَلْ لاَ تَرْتَابُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ حين تأتون المحاباة بين الغني والفقير. أفما كنتم تترددون بين الله الذي ليس عنده محاباة وبين العالم وصرتم ذوي رأيين أوَلا تخالفون بهذا السلوك إيمانكم بالمسيح الذي نادى بعدم الفرق بين الغني والفقير والعالم والجاهل أمام الله. أوَليس منافياً لإيمان الرب يسوع المسيح رب المجد أن تأتوا المحاباة وذلك الإيمان معاً.
وَتَصِيرُونَ قُضَاةَ أَفْكَارٍ شِرِّيرَةٍ أي قضاة ذوي أفكار شريرة. فهذا التعبير كالتعبير عن القاضي الظالم «بقاضي الظلم» (لوقا ١٨: ٦). وكانت أفكارهم شريرة لأنهم بدلاً من أن يحكموا في الناس بمقتضى مبادئ العدل بناء على صفاتهم وأعمالهم حكموا باستحقاق الغني للإكرام لبهاء لباسه وإن الفقير لا يستحقه لقبح ثوبه. ومما أوجب عليهم اللوم أنهم دانوا غيرهم خلافاً لقول المسيح «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا» (متّى ٧: ١) فوبخهم لأنه حين كان عليهم أن يكونوا سامعين للناموس وعاملين بموجبه كانوا قضاة (ص ٤: ١١). وكانوا قضاة أفكار شريرة لأنهم أنكروا بأحكامهم قول المسيح في اتباعه أنهم كلهم إخوة وما علمه بمثاله وهو أنه «إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ الخ» (فيلبي ٢: ٦ - ٨).
٥ «ٱسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ، أَمَا ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ فُقَرَاءَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي ٱلإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ ٱلْمَلَكُوتِ ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟».
ص ١: ١٦ و١كورنثوس ١: ٢٧ وأيوب ٣٤: ١٩ ولوقا ١٢: ٢١ ورؤيا ٢: ٩ ومتّى ٥: ٣ و٢٥: ٣٤ وص ١: ١٢
أبان الرسول بما في هذه الآية أن الفقير يستحق الإكرام أكثر من الغني.
ٱسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ قال هذا تنبيهاً على أن ما سيقوله ذو شأن وعلى أن يلتفتوا إلى خطيئتهم بما أتوه من المحاباة.
أَمَا ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ فُقَرَاءَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أبان بهذا أن الفقير أحق بالإكرام من الغني وأن من يفضل الغني عليه يخطأ لأنه بذلك يخالف مثال الله. والمراد «بالفقراء» هنا الفقراء في الأمور الدنيوية والذين يدعوهم أهل العالم فقراء واختيار الله إياهم دليل على أنه فضّلهم على غيرهم. وعلامة أنه اختارهم تخصيصه إياهم بسمع الإنجيل بدليل قوله «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ» (لوقا ٤: ١٨). والآية التي أعلنها ليوحنا على أنه المسيح الآتي قوله «اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ... وَٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَٱلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ» (متّى ١١: ٥) وقوله «طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (لوقا ٦: ٢٠)، وقول بولس الرسول «ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ ضُعَفَاءَ ٱلْعَالَمِ لِيُخْزِيَ ٱلأَقْوِيَاءَ، وَٱخْتَارَ ٱللّٰهُ أَدْنِيَاءَ ٱلْعَالَمِ وَٱلْمُزْدَرَى الخ» (١كورنثوس ١: ٢٧ و٢٨).
أَغْنِيَاءَ فِي ٱلإِيمَانِ أي ليكونوا كذلك وليس المراد أنهم أغنياء بمقدار الإيمان حتى يكون أحدهم أغنى من الآخر في الإيمان فالإيمان بيان لنوع غناهم أي أن ذلك الغنى روحي فكل مؤمن غني بهذا الاعتبار وغناه روحي وهو كنز الخلاص الذي ينال بواسطة الإيمان وبالإيمان يتأكد الإنسان الحصول على ذلك الكنز. الذي هو أثمن من الذهب وأن له ميراثاً عظيماً بناء على كونه ابناً لله ووارث الملكوت الذي وُعد به (لوقا ١٢: ٣١ و٣٢). ولم يحتج يعقوب أن يقيم برهاناً للذين كتب إليهم هذه الرسالة على أن الذين اختارهم الله هم فقراء هذا العالم لأنهم عرفوا بالاختبار أن أكثر الذين آمنوا بالمسيح وهم في الشتات كانوا فقراء، وما صدق في عصر يعقوب يصدق في كل عصور الكنيسة فالأغنياء عرضة لتجربة ليس الفقير بعرضةٍ لها وهي الاتكال «على غير يقينية الغنى» وأنهم يختارون نصيبهم من خيرات العالم الأثيم ويغفلون عن الملكوت الذي أعده الله للذين يحبونه قال المسيح «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (مرقس ١٠: ٢٣).
٦ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَهَنْتُمُ ٱلْفَقِيرَ. أَلَيْسَ ٱلأَغْنِيَاءُ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْكُمْ وَهُمْ يَجُرُّونَكُمْ إِلَى ٱلْمَحَاكِمِ».
أعمال ٨: ٣ و١٦ و١٩
وَأَمَّا أَنْتُمْ خلافاً لما فعل الله.
فَأَهَنْتُمُ ٱلْفَقِيرَ كما أبان بالمثل الذي ذكره في (ع ٢ و٣) فأذلّوا من أعزّه الله وأعزّوا من أذّله.
أَلَيْسَ ٱلأَغْنِيَاءُ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْكُمْ هذا بيان ثان لخطيئتهم بأن فضلوا الغني على الفقير فآثروا الذين هم أعداء لله ولهم على الذين هم أصدقاء. والمرجح أن الذين تسلطوا عليهم ليسوا من أغنياء المؤمنين وأن مضطهديهم على اختلاف مللهم كانوا أغنياء متكبرين وبذلوا قوتهم وثروتهم في سبيل إضرارهم.
وَهُمْ يَجُرُّونَكُمْ إِلَى ٱلْمَحَاكِمِ أتى ذلك أغنياء اليهود بأن اتهموهم عند حكام الرومانيين بالخيانة كما فعل يهود بيسيدية (أعمال ١٣: ٤٥ ) ويهود إيقونية (أعمال ١٤: ٢) ببولس وبرنابا ويهود تسالونيكي ببولس وسيلا وبيت ياسون (أعمال ١٧: ٥ و٦). وكانت محاماة الفقير عن نفسه بواسطة وكيل تقتضي نفقة لا يستطيعها فكان يضطر أن يحتمل جور الغني ساكتاً.
٧ «أَمَا هُمْ يُجَدِّفُونَ عَلَى ٱلاسْمِ ٱلْحَسَنِ ٱلَّذِي دُعِيَ بِهِ عَلَيْكُمْ؟».
١بطرس ٤: ١٦ وأعمال ١١: ٢٦
أَمَا هُمْ يُجَدِّفُونَ عَلَى ٱلاسْمِ ٱلْحَسَنِ الخ أراد «بالاسم الحسن» اسم المسيح وكان المؤمنون يُدعون مسيحيين عند المعمودية وغلب أن يدعوا كذلك بياناً لنسبتهم إلى المسيح (١كورنثوس ٣: ٢٣) وأشار يعقوب بعبارته هنا إلى ما فعله غير المؤمنين من اليهود ليجبروا المؤمنين على أن يجدفوا على اسم المسيح كا فعل شاول الطرسوسي قبل اهتدائه (أعمال ٢٦: ١١) أو ما أتاه اليهود في مجامعهم من التجديف على اسم المسيح بياناً لبغضهم إياه كما شهد عليهم يوستينوس الشهيد أو إلى بعض الأغنياء الذين ادّعوا أنهم مسيحيون وبسيرتهم عيّروا مسيحهم وجعلوه عرضة لتجديف اليهود والوثنيين (١تيموثاوس ٦: ١) وهذا هو الأمر الثالث الذي به يخطأون بالمحاباة لأنهم يشتركون على نوع ما في التجديف على المسيح باحترامهم المجدفين عليه.
٨ «فَإِنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ ٱلنَّامُوسَ ٱلْمُلُوكِيَّ حَسَبَ ٱلْكِتَابِ «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». فَحَسَناً تَفْعَلُونَ».
لاويين ١٩: ١٨ ومتّى ٧: ١٢
في هذه الآية والتي تليها برهان على أنهم بمحاباتهم خالفوا ناموس الله.
ٱلنَّامُوسَ ٱلْمُلُوكِيَّ نعت الناموس بالملكي لفضله وسموّه واستحقاقه الإكرام العظيم ولوجوب أن يسوس أفكار الناس وسلوكهم كما يسوس الملك رعيته ولأنه ناموس ملك الملوك ولكون «المحبة تكميل الناموس» (رومية ١٣: ١٠) فيكون ناموس المحبة ملك النواميس كلها.
تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ ذُكر هذا في (لاويين ١٩: ١٨ ومتّى ١٩: ١٩) وفسر معناه المسيح في مثل السامري الصالح (لوقا ١٠: ٢٥ - ٣٧).
فَحَسَناً تَفْعَلُونَ أي أنه يجب أن تحبوا كل الناس أغنياء وفقراء فلا يجوز أن تبغضوا الغني وتطردوه بل يجب أن تحبوه فإن أحببتموه فعلتم حسناً وأطعتم الناموس الملكي.
٩ «وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً، مُوَبَّخِينَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ».
ع ٩ أعمال ١٠: ٣٤ وتثنية ١: ١٧
لٰكِنْ إِنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ وقد حذرتكم من أن تحابوا (ع ١) وأبنت أنكم خطئتم بالمحاباة (ع ٢ و٣).
تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً ظننتم أنكم أطعتم ناموس المحبة بإكرامكم الغني لكنكم تعديتموه بمحاباتكم بأن فضلتموه على الفقير «وتعدي الناموس خطيئة» (١يوحنا ٣: ٤).
مُوَبَّخِينَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ أقام الناموس هنا مقام حاكم يحكم بإثم الذي يتعدى أمره ومن الواضح أن فعلهم مضاد للناموس في أعظم مطاليبه.

وجوب حفظ كل الناموس ع ١٠ إلى ١٣


١٠ «لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ».
ص ٣: ٢ و٢بطرس ١: ١٠ ويهوذا ٢٤ وغلاطية ٥: ٣ ومتّى ٥: ١٩
اعتبر يعقوب الناموس كسلسلة ذات حلقات كثيرة تربط نفس الإنسان بعرش الله بالبر والأمانة فإذا خالف الإنسان وصية من الناموس فكأنه كسر حلقة من تلك السلسلة فقطعت الصلة بين الله والنفس والطاعة الكاملة للناموس شرط ضروري على من يطلبون التبرير به فإذا خالفوا وصية واحدة تعدوا الشرط ولهذا استحال التبرير بالناموس.
فِي وَاحِدَةٍ أي بوصية واحدة من وصايا الناموس.
مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ أي مديناً من الناموس متعدياً إياه عاجزاً عن أن يتبرر به.
١١ «لأَنَّ ٱلَّذِي قَالَ: «لاَ تَزْنِ» قَالَ أَيْضاً: «لاَ تَقْتُلْ». فَإِنْ لَمْ تَزْنِ وَلٰكِنْ قَتَلْتَ، فَقَدْ صِرْتَ مُتَعَدِّياً ٱلنَّامُوسَ».
خروج ٢٠: ١٣ وتثنية ٥: ١٧
في هذه الآية بيان ما قيل في (ع ١٠) وهو أن الله الواحد هو الذي وضع الناموس كله فالناموس بجملته مظهر لمشيئة الله فمخالفة وصية منه مخالفة لمشيئته. ومن شأن الإنسان الميل أن يحسب ما يرتكبه من الخطايا زهيداً وأن يحسب ما يرتكبه غيره منها كبيراً وينسى أن المشترع واحد وهو الديّان.
ٱلَّذِي قَالَ: لاَ تَزْنِ قَالَ أَيْضاً: لاَ تَقْتُلْ إذا قيل لماذا اختار يعقوب هاتين الوصيتين دون ما بقي من الوصايا قلنا أنه جرى بهذا مجرى المسيح في بيان أن البر الذي يطلبه الإنجيل أعظم من البر الذي يطلبه الكتبة والفريسيون (متّى ٥: ٢١ و٢٧) واعتبر اليهود هاتين الوصيتين بداءة الوصايا التي تختص بواجبات الإنسان للإنسان. وإن قيل لماذا ذكر الوصية السابعة قبل السادسة خلافاً لترتيبها في الأصل العبراني قلنا أنه جرى مجرى الترجمة السبعينية فإنها ذكرت السابعة في (خروج ٢٠: ١٣) و السادسة في (خروج ٢٠: ١٥) ومثل هذا كان في (مزمور ١٠: ١٩ ولوقا ١٨: ٢٠ ورومية ١٣: ٩). ولكن المسيح جرى على الترتيب العبراني (متّى ٥: ٢١ و٢٧ و١٩: ١٨). ومعنى الآية كلها أن تينك الوصيتين جزآن من ناموس الله وأن هذا الناموس واحد كما أن الله واحد فالذي يتعدى إحداهما يتعدى ناموس الله الواحد بجملته ويعرّض المتعدي للعقاب الذي يستحقه متعدّي الناموس كله والعاصي سلطان الله تعالى.
١٢ «هٰكَذَا تَكَلَّمُوا وَهٰكَذَا ٱفْعَلُوا كَعَتِيدِينَ أَنْ تُحَاكَمُوا بِنَامُوسِ ٱلْحُرِّيَّةِ».
ص ١: ٢٥
ختم كلامه بتفسير قوله «مبطئاً في التكلم» (ص ١: ١٩) بما في هذه الآية والتي بعدها.
هٰكَذَا تَكَلَّمُوا وَهٰكَذَا ٱفْعَلُوا أي ليكن هذا دأبكم في الكلام والعمل وخصوصاً في أمر المحاباة.
كَعَتِيدِينَ أَنْ تُحَاكَمُوا بِنَامُوسِ ٱلْحُرِّيَّةِ خاطب بهذا المؤمنين فإن الناموس الأدبي لهم ناموس الحرية لأن المسيح بموته على الصليب احتمل العقاب الذي توجب عليهم بالناموس وتحرروا من سلطة الخطيئة لأنهم بولادتهم الجديدة صاروا راغبين في أن يطيعوا أوامر الله (رومية ٦: ١٧ و١٨) فهم يطيعون الله إطاعة الولد لوالده حباً له بدلاً من طاعة العبودية (رومية ٨: ١٥). فالناموس الذي يدانون به هو الناموس الروحي ناموس الإنجيل. ودُعي «بناموس الحرية» (ص ١: ٢٥) و «النعمة» (رومية ٦: ١٤ و١٥). وليس من إباحة لعمل الخطيئة في ناموس الحرية لأن المسيح ليس بخادم للخطيئة (غلاطية ٢: ١٧). والموجب للطاعة على الذين هم تحت ناموس الحرية أعظم من الموجب لها على الذين هم تحت ناموس العبودية لأن الشريعة مكتوبة على قلوبهم فيطيعونها طاعة المحبة والشكر وهذه أكمل وأكثر مقبولية من الطاعة خوفاً من العقاب. وخلاصة هذه الآية أنه يجب على المؤمنين أن يذكروا أنهم سوف يدانون على كل ما يتكلمون ويعملون وأن الناموس الذي يُدانون به هو ناموس الإنجيل الذي غايته أن يحررهم من سلطان الخطيئة فيجب أن يطيعوا الله اختياراً.
١٣ «لأَنَّ ٱلْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً، وَٱلرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى ٱلْحُكْمِ».
متّى ٥: ٧ و١٨: ٢٢ - ٣٥ ولوقا ٦: ٣٧ وأمثال ٢١: ١٣
في هذه الآية علّة أن نهتم بما نتكلم ونعمل وإلا خرجنا من دائرة الرحمة والنعمة وصرنا في دائرة الغضب والنقمة على وفق قول المسيح «طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ» وقوله «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِٱلدَّيْنُونَةِ ٱلَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ» (متّى ٥: ٧ و٧: ١ و٢) وكلامه في مثَل العبد الذي لم يرحم رفيقه (متّى ١٨: ٢١ - ٣٥).
ٱلْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً هذا يوافق ما كُتب في (أمثال ٢١: ١٣ و٢صموئيل ٢٢: ٢٦ و٢٧). وقول المرنم في الله «مَعَ ٱلرَّحِيمِ تَكُونُ رَحِيماً. مَعَ ٱلرَّجُلِ ٱلْكَامِلِ تَكُونُ كَامِلاً. مَعَ ٱلطَّاهِرِ تَكُونُ طَاهِراً. وَمَعَ ٱلأَعْوَجِ تَكُونُ مُلْتَوِياً» (مزمور ١٨: ٢٥ و٢٦). وقول المسيح «إِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ» (متّى ٦: ١٥).
وَٱلرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى ٱلْحُكْمِ أي في عمل الفداء. لأن العدل يطلب دينونة الخاطئ على خطاياه ولكن الرحمة تطلب المغفرة للمؤمن بالنظر إلى كفارة المسيح فتغلب. صرّح يعقوب هنا بالمبادئ التي بمقتضاها يجري الله الدينونة في اليوم الأخير وأبان ماذا يكون الحكم على الأشرار. وعلامة كونهم خطأة أنهم لا يرحمون غيرهم وهذا دليل على أنهم بلا تقوى وبلا إيمان وبلا محبة. فالحكم على هؤلاء بلا رحمة بمقتضى العدل الذي قانونه «اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٤). وأما المؤمنون بالمسيح فمطاليب الرحمة في شأنهم تغلب مطاليب العدل فيُعفى عنهم. والنتيجة أنه يجب علينا أن نكون رحماء كإلهنا وأنه يجب علينا أن نظهر الرحمة لإخوتنا البشر إذ توقعنا رحمة أبينا الله. قال يوحنا فم الذهب في شأن الرحمة ما ترجمته إنها كريمة إلى الله. وتشفع في الخاطئ. وتقطع قيوده. وتكشف ظلمته. وتطفئ نار جهنم. وتقتل الدود الذي لا يموت وتنقذ من صرير الأسنان. وتفتح أبواب السماء. وهي ملكة الفضائل وتجعل الناس مشابهين لله لأنه مكتوب «كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ» (لوقا ٦: ٣٦). ولها أجنحة من فضة كالحمامة وريش من الذهب تطير في العلى. وهي مكتسية مجداً إلهياً وتقف عند عرش الله. وحين نكون في خطر الدينونة تقف أمام الله وتتضرع من أجلنا وتسترنا حامية لنا وتجمعنا تحت جناحيها. إن الله أحب الرحمة أكثر من الذبيحة (متّى ٩: ١٣).

نسبة الإيمان إلى الأعمال ع ١٤ إلى ٢٦


١٤ «مَا ٱلْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَاناً وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ؟ هَلْ يَقْدِرُ ٱلإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟».
ص ١: ٢٢
العلاقة بين هذا الفصل وما قبله ما يأتي. إن يعقوب أبان إن الديانة الحق لا تقوم بمجرد ممارسة الفرائض بل بالإحسان إلى الفقراء والمساكين كالأرامل واليتامى وإنها تنافي المحاباة بإكرام الأغنياء وإهانة الفقراء وزاد هنا على ذلك البيان أن الديانة الحق لا تقوم بمجرد الإقرار بالإيمان بالمسيح بدون أعمال تلائم ذلك الإقرار. وإن تسليم العقل بحقائق الإنجيل دون إثمار فارغ وباطل. وكما إن الإحسان إلى الفقراء إذا حصر في مجرد الكلام اللطيف ميت كذلك الإيمان بلا أعمال ميت وعاجز عن أن يبرر الخاطئ ويخلص نفسه.
مَا ٱلْمَنْفَعَةُ... لَهُ إِيمَاناً الاستفهام هنا إنكاري فائدته نفي نفع الخاطئ في شأن خلاصه يوم الدين. فيجب أن نميز مقصود يعقوب بالإيمان ونقابله بمقصود بولس به لكي لا نتوهم التناقض بين المقصدين فإن يعقوب أراد بالإيمان مجرد تسليم العقل بأن يسوع هو المسيح وأن دينه حق وأن هذا لا ينفع شيئاً في تغيير القلب والسيرة ولا في خلاص الخاطئ وإن هذا مثل إيمان الشياطين. وكلام يعقوب هنا في الإيمان الذي يدّعيه الإنسان بعد تجدده وهو الذي ينظر فيه صاحبه ويحكم هو وغيره بصحته وأما بولس فتكلم في الإيمان قبل التجدد وهو الذي ينظر الله فيه ويحكم به وهو الإيمان أمام الله باعتبار أنه شرط التبرير. فقول بولس «تحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس» مقصور على الخاطئ الذي يشعر بخطيئته وعجزه عن أن يخلص نفسه فيلقي ذاته على رحمة الله المعلنة بالمسيح (رومية ٣: ١٥ و٥: ٨). وهذا الإيمان يعمل بالمحبة (غلاطية ٥: ٦) ويطهر القلب. إن تنوّع الأمراض يقتضي تنوّع الأدوية كذلك تنوّع الظلال يقتضي تنوّع التعليم المنافي له. فيعقوب خاطب الذين وثقوا بأن يخلصوا بمجرد إقرار الشفتين بحقائق الإنجيل وغفلوا عن حاجتهم إلى الأعمال الأدبية. وبولس كتب إلى الذين وثقوا بأنهم يخلصون بحفظ شريعة موسى وسننها الخارجية.
وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ تكون نتائج إيمانه وأثماره كالمحبة والوداعة والحكمة (ص ٣: ١٣) وهي الأعمال التي يعملها المؤمن بروح الطاعة والمحبة. ولكن الأعمال التي تكلم عليها بولس في (رومية ٣: ٢٧ و٢٨) هي الأعمال الرمزية التي يعملها الإنسان غير المتجدد بكبرياء ويتكل عليها للقبول أمام الله. فأغلاط الذين كتب إليهم يعقوب غير أغلاط الذين كتب إليهم بولس لذلك ألهم الروح القدس يعقوب لينفي ضلال الذين كتب إليهم هذه الرسالة على هذا الأسلوب.
هَلْ يَقْدِرُ ٱلإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ أي لا يقدر أن يخلّصه الإيمان القائم بمجرد تسليم العقل وإقرار اللسان لأن كونه بلا أعمال دليل على أنه ليس بإيمان صحيح وغير مبني على المحبة. وبهذا أبطل أمل اليهود بالخلاص وهم يكررون كل يوم منذ الطفولية إلى ساعة الوفاة قول الكتاب «إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية ٦: ٤) وأبطل أمل الذين ادّعوا أنهم مسيحيون وتوقعوا الخلاص بمجرد اعترافهم أن يسوع هو المسيح وأن دينه حق.
١٥ - ١٧ «١٥ إِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ ٱلْيَوْمِيِّ، ١٦ فَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ: «ٱمْضِيَا بِسَلاَمٍ، ٱسْتَدْفِئَا وَٱشْبَعَا» وَلٰكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ ٱلْجَسَدِ، فَمَا ٱلْمَنْفَعَةُ؟ ١٧ هٰكَذَا ٱلإِيمَانُ أَيْضاً، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ».
متّى ٢٥: ٣٥ ولوقا ٣: ١١ و١يوحنا ٣: ١٧ وغلاطية ٥: ٦ وع ٢٠ و٢٦
أخذ يعقوب يبيّن بطلان الإيمان بلا أعمال في مثل الإحسان غير الفعلي الذي يسلّم به كل عاقل وهو تمثيل في محله لأن الصفة التي نقصها الأمران صفة المحبة التي لا بد منها في الإيمان كما لا بد منها في الإحسان.
إِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ من المسيحيين الذين توجب علينا محبتنا للمسيح أن نعينهم.
عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ ٱلْيَوْمِيّ أي في غاية الاحتياج إلى الكسوة والطعام في الحال.
ٱمْضِيَا بِسَلاَمٍ (ع ١٦) يُقال هذا بعد إعطاء ما يحتاج إليه. وبهذه العبارة كان يسوع يصرف الذين يشفيهم (لوقا ٧: ٥٠) ولكن الذين قالوها هنا لم يفعلوا قبلها شيئاً من الإحسان.
ٱسْتَدْفِئَا لأنهما كانا عريانين.
ٱشْبَعَا لأنه لم يكن لهما القوت اليومي. فهذه الكلمات حسنة في نفسها لكنها ليست حسنة إذا كانت عوضاً عن الحسنات.
فَمَا ٱلْمَنْفَعَةُ لك وللمحتاجين بمجرد مخاطبتك إياهما بذلك.
مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ (ع ١٧) لكونه منفصلاً من الأعمال التي تليق به. فكما أن كلمات اللطف لا تنفع المحتاجين شيئاً كذلك إيمان المدعي أنه مؤمن لا ينفع شيئاً بلا عمل ما يوجبه عليه إيمانه إن علامة خلوص محبة الإنسان للفقير وهو يستطيع أن يساعده هو إحسانه إليه فبرهان صحة المحبة للمسيح هو عمل ما يطلبه المسيح. والخلاصة أن الإيمان الحق يحمل على الأعمال الصالحة والسيرة المقدسة والخدمة للمسيح فعلاً. فإن لم توجد تلك الأعمال دل عدمها على أن الإيمان ميّت أي بلا أصل حي ينشأ هو منه ويثمر ويظهر للمشاهدين على أنه عجز أن يبرر صاحبه ويخلصه.
١٨ «لٰكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ! أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي».
رومية ٩: ١٩ و٣: ٢٨ و٤: ٦ عبرانيين ١١: ٣٣ متّى ٧: ١٦ وغلاطية ٥: ٦ ص ٣: ١٣
لٰكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ هذا كلام من رافق يعقوب على رأيه فلا يصدق صحة إيمان الإنسان الذي يصرف الفقير بمجرد الكلام اللطيف فيذهب بلا كسوة ولا طعام. وذكر يعقوب هذا القول لزيادة الإيضاح.
أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ أي كذا تدّعي لكن لم تأتِ بما يثبت ادّعاءك.
وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ وهي تشهد لي.
أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ بلا الأعمال التي يجب أن تقترن بالإيمان إن استطعت. ولكن ذلك محال فإذاً الإيمان الذي تدّعيه فارغ ميت لا يستحق أن يسمى إيماناً.
وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي هذا دليل القائل على صحة إيمانه وهو الذي طلبه يعقوب في كل رسالته وهو الذي أورده يسوع لليهود على صحة دعواه (يوحنا ١٠: ٣٧ و٣٨) وهو العلامة التي قال المسيح أن تلاميذه يميزون بها المعلمين الكاذبين من المعلمين الصادقين (متّى ٧: ٢٠) وبمقتضى ذلك نُدان في اليوم الأخير (١بطرس ١: ١٧). والذين يثيبهم الديّان في الآخرة بقوله لهم «تعالوا يا مباركي أبي الخ» هم الذين أظهروا خلوص إيمانهم ومحبتهم بإطعام الجياع وإضافة الغرباء وكسو العراة وافتقاد المرضى والمسجونين (متّى ٢٥: ٣٤ - ٣٦).
١٩ «أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ. وَٱلشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!».
تثنية ٦: ٤ ومرقس ١٢: ٢٩ ومتّى ٨: ٢٩ ومرقس ١: ٢٤ و٥: ٧ ولوقا ٤: ٣٤
هذا خطاب يعقوب نفسه لمن يعتقد كفاية الإيمان بلا أعمال.
أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ ذكر هذه العقيدة لاتفاق اليهود والنصارى عليها ولأن اليهود امتازوا بها على سائر أمم الأرض ولم يزالوا يفتخرون بها.
حَسَناً تَفْعَلُ للاعتقاد بأن الله واحد صالح بالذات بخلاف اعتقاد الأمم لأنهم آمنوا بآلهة كثيرة وأرباب كثيرة.
وَٱلشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ بأن الله واحد ولا يطيعونه ولا يعملون صلاحاً فإذاً إيمانهم مثل إيمانك.
وَيَقْشَعِرُّونَ خيفة من الدينونة التي يستلزمها وجود الله. فإذاً تأثير إيمان الشياطين فيهم أكثر من تأثير إيمانك فيك. ومن الواضح أن الإيمان الذي لا يزيد على إيمان الشياطين باطل وعاجز عن أن يخلص الإنسان الخاطئ فإن الشياطين يؤمنون بالله وبالمسيح وبأنه ابن الله وبأنه مات من أجل الخطأة ولكن لا أحد يظن أن الشياطين يتبررون بإيمانهم فليس للناس أن يتوقعوا الخلاص بمثل إيمانهم.
٢٠ «وَلٰكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلْبَاطِلُ أَنَّ ٱلإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ».
رومية ٩: ٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٣٦
هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أي إن كنت تريد أن تقف على البراهين المبطلة الإيمان بلا أعمال فهي معدة. فإن لم تقنع بها فسبب ذلك عدم إرادتك الوقوف على الحق. قال ذلك تمهيداً لإقامة البرهان القاطع من كلام الله مما يتعلق بأبي المؤمنين.
أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلْبَاطِلُ لاستنادك على وهم باطل أو لكون إيمانك بلا أعمال فهو باطل.
أَنَّ ٱلإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ الأعمال هنا هي التي تختص بالإيمان ويجب أن تقترن به. وهذه العبارة صرّح بها قبلاً (ع ١٧) وشرع هنا في إثباتها بما يأتي. وما يصدق على الشجرة يصدق على الإيمان فإن حياة الشجرة وجودتها تُعرف بأثمارها وجودتها وكذلك الإيمان. فأعمال الإيمان الصالحة أو عدمها دليل على صفات الإيمان صالحاً أو شريراً حياً أو ميتاً. إن الأثمار لا تعطي الشجرة حياة بل تظهر حياتها فالأعمال الصالحة لا تعطي الإيمان حياة بل تظهر حياته.
٢١ «أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إِبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِٱلأَعْمَالِ، إِذْ قَدَّمَ إِسْحَاقَ ٱبْنَهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ؟».
تكوين ٢٢: ٩ و١٠ و١٢ و١٦ - ١٨
في هذه الآية بطلان الإيمان بلا أعمال من مثال إبراهيم وأشار بولس إلى هذا المثال في (رومية ٤: ١ - ٥) ولكن لا دليل على أن أحدهما ذكره اقتداء بالآخر بل لأن مثال إبراهيم اعتبره اليهود والمسيحيون كثيراً واستندوا عليه.
أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إِبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِٱلأَعْمَالِ قال «أبونا» لأنه كان هو وكيل الذين خاطبهم من نسله كسائر اليهود. وأراد «بتبرره» أنه تبرر أمام كل المشاهدين. وقال أنه «تبرر بالأعمال» لأن الأعمال بيّنت صحة إيمانه وكانت برهاناً محسوساً على كونه قد تبرر. وقال «الأعمال» بصيغة الجمع مع أنه لم يشر بها إلا إلى عمل واحد وهو تقديم إسحاق الذي به أظهر عظمة إيمانه. ولم يقل يعقوب أن إبراهيم حفظ الناموس فتبرر به ولم يقل إن أعماله الصالحة كانت كفارة لخطاياه ولم يدّع أن أعماله علة تبريره. فمفاد قوله أن أعماله الصالحة أعلنت أنه تبرر وأن إيمانه ليس بباطل أو ميت.
قَدَّمَ إِسْحَاقَ ٱبْنَهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ لم يقل ذبحه بل وضعه على المذبح بغية أن يذبحه (تكوين ٢٢: ١٠).
٢٢ «فَتَرَى أَنَّ ٱلإِيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَبِٱلأَعْمَالِ أُكْمِلَ ٱلإِيمَانُ».
عبرانيين ١١: ١٧ ويوحنا ٦: ٢٩ و١تسالونيكي ١: ٣
فَتَرَى هذا يدل أن التبرير المذكور هو الذي شاهد الناس علاماته كما سبق. والمعنى أن الأمر واضح مما ذُكر في التاريخ.
أَنَّ ٱلإِيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ لتظهر صحة إيمان إبراهيم وقبوله أمام الله. فأبان أن دينه لم يكن بالإيمان الذي هو دون أعمال ولا بأعمال دون الإيمان بل باقتران كل منهما بالآخر. فالإيمان والطاعة عملا معاً وتم التبرير باتحادهما. احتمل إبراهيم الامتحان وأرضى الله ونال ختم رضاه بالوعد الذي وعده الله إياه. فإيمانه قدّره على العمل وعمله أثبت خلوص إيمانه وصحته.
وَبِٱلأَعْمَالِ أُكْمِلَ ٱلإِيمَانُ أي أُكملت غايته ونتجت أثماره التي لا تظهر حقيقته بدونها. فكما أن المحبة تظهرها أعمالها التي هي تحث عليها كذلك الإيمان يكون بالأعمال. وأُكمل الإيمان بالأعمال كما تُكمل الحنطة حين يظهر «القمح ملآن في السنبل» وهذا مثل قول الرسالة إلى العبرانيين «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ قَدَّمَ ٱلَّذِي قَبِلَ ٱلْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. إِذْ حَسِبَ أَنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ عَلَى ٱلإِقَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (عبرانيين ١١: ١٧ - ١٩). فكانت طاعة إبراهيم من أعظم الأدلة على أن إيمانه كان إيماناً حياً وأنه كان قد تبرر. إن الإيمان ينشئ الأعمال وإن الأعمال تكلل الإيمان.
٢٣ «وَتَمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللّٰهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً وَدُعِيَ خَلِيلَ ٱللّٰهِ».
تكوين ١٥: ٦ ورومية ٤: ٣ وإشعياء ٤١: ٨ و٢أيام ٢٠: ٧
وَتَمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللّٰهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً هذا مقتبس من (تكوين ١٥: ١٦). واقتبسه بولس مرتين (رومية ٤: ٣ وغلاطية ٣: ٦) وتم الكتاب مرتين الأولى بإيمان إبراهيم بوعد الله بإسحاق فإن إبراهيم حين لم يكن له ولد سوى ابن الجارية (وقد طعن هو في السن) آمن بوعد الله بأن يكون من ابنه إسحاق (الذي لم يكن قد وُلد) نسل كنجوم السماء في الكثرة. والثانية بطاعته وتقديم ابنه إسحاق طوعاً لأمر الله وبذلك أظهر حقيقة إيمانه إذ عزم على أن يسلّم إلى الموت الذي كان وارث كل المواعيد. فالكلام المقتبس هنا يشير إلى ما حدث منذ عدة سنين قبل تقديمه إسحاق بل قبل ولادته وهو يبرهن أن الله حسبه باراً يومئذ. فإذاً الطاعة التي أشار إليها يعقوب بتقديمه إسحاق لا يمكن أن تكون علة بتبريره بل هي برهان على أن إيمانه حي حقيقي.
وَدُعِيَ خَلِيلَ ٱللّٰهِ ذكر يعقوب هذا ليبيّن أن الله سر به لا ليبيّن أن الكتاب تم بذلك. ولم يقل موسى في التوراة أن الله دعا إبراهيم خليله لأنه قدم ابنه لكن ينتج من مواعيد الله له أنه كان حبيب الله. وقد سمي في العهد القديم «خليل الله» مرتين (٢أيام ٢٠: ٧ وإشعياء ٤١: ٨).
٢٤ «تَرَوْنَ إِذاً أَنَّهُ بِٱلأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ ٱلإِنْسَانُ، لاَ بِٱلإِيمَانِ وَحْدَهُ».
تَرَوْنَ إِذاً أَنَّهُ بِٱلأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ ٱلإِنْسَانُ لأن الأعمال هي الأثمار التي يعرف بها الإيمان الحيّ.
لاَ بِٱلإِيمَانِ وَحْدَهُ ذو الشأن في هذه العبارة لفظة «وحده» ومعناها أن التسليم العقلي دون أعمال لا يبرر وأنه لا يمكن الأعمال الصالحة أن تنفك عن الإيمان الصحيح.
٢٥ «كَذٰلِكَ رَاحَابُ ٱلزَّانِيَةُ أَيْضاً، أَمَا تَبَرَّرَتْ بِٱلأَعْمَالِ، إِذْ قَبِلَتِ ٱلرُّسُلَ وَأَخْرَجَتْهُمْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ؟».
يشوع ٢: ٤ و٦ و١٥ وعبرانيين ١١: ٣١
إن المثال الثاني الذي أتى به يعقوب هو مثال راحاب وقد أُتي به في (عبرانيين ١١: ٣١). فإنها أظهرت إيمانها بقبولها الجاسوسين وحمايتها إياهما حين أُرسلا من معسكر إسرائيل (يشوع ص ٢). كان المثال الأول الذي أتى به مثال رجل مشهور بالتقوى. والثاني مثال امرأة عُرفت بأنها زانية. وكان ذلك الرجل نائب كل من تبرروا من اليهود. وكانت تلك نائبة كل من تبرروا من الأمم لأنها كانت وثنية الأصل.
تَبَرَّرَتْ بِٱلأَعْمَالِ أظهرت بأعمالها أن إيمانها بإله إسرائيل كان حياً حقيقياً وبأنه يدفع إريحا إلى أيدي بني إسرائيل كما يظهر من قوله «عَلِمْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ أَعْطَاكُمُ ٱلأَرْضَ، وَأَنَّ رُعْبَكُمْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا، وَأَنَّ جَمِيعَ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ ذَابُوا مِنْ أَجْلِكُمْ، لأَنَّنَا قَدْ سَمِعْنَا كَيْفَ يَبَّسَ ٱلرَّبُّ مِيَاهَ بَحْرِ سُوفَ قُدَّامَكُمْ عِنْدَ خُرُوجِكُمْ مِنْ مِصْرَ... لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ هُوَ ٱللّٰهُ فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ تَحْتُ» (يشوع ٢: ٩ - ١١).
إِذْ قَبِلَتِ ٱلرُّسُلَ وَأَخْرَجَتْهُمْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ (يشوع ٢: ١ و١٦). كانت نتيجة إيمانها أنها أنقذت من الموت بهدم أريحا وصارت بتزوجها سلمون الإسرائيلي واحدة من أسلاف المسيح. وتسطير اسمها بإلهام الروح القدس بين الممتازين بعظمة إيمانهم يحملنا على أن نحكم بأنها نالت خلاص نفسها من الهلاك الأبدي ونالت حياة أبدية في السماء.
٢٦ «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلْجَسَدَ بِدُونِ رُوحٍ مَيِّتٌ، هٰكَذَا ٱلإِيمَانُ أَيْضاً بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ».
غلاطية ٥: ٢٦ ع ٢٠ و٢٦
التشبيه في هذه الآية خلاف ما يتوقعه أكثر الناس لأنهم اعتادوا أن يحسبوا الإيمان بمنزلة الروح لأنه روحي غير منظور والأعمال بمنزلة الجسد لأنها ظاهرة محسوسة. لكن يعقوب أنزل الإيمان منزلة الجسد في الحياة المسيحية والأعمال أي الطاعة منزلة الروح التي بها الحياة والحركة. وعلة صورة هذا التشبيه هي غايته أن يبيّن موت الإيمان بلا أعمال لا موت الأعمال بلا إيمان والنتيجة واحدة كيف كانت صورة التشبيه وهي قول الآية.
ٱلْجَسَدَ بِدُونِ رُوحٍ مَيِّتٌ أي الجسد متى انفصلت الروح عنه مات كما نعلم بالاختبار إذ يفقد بذلك كل علامات الحياة.
هٰكَذَا ٱلإِيمَانُ أَيْضاً بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ لأن الأعمال هي العلامات الضرورية للحياة فإذا انتفت الأعمال انتفت حياة الإيمان بالضرورة. والخلاصة أن التسليم العقلي بمبادئ الدين يحسن صورة ونظاماً كالجسد على أثر مفارقته الروح لكنه لا يكون سوى جثة فقط إذا كان بلا محبة ولا طاعة ولا خدمة لله وللناس مما يظهر حرارته وحياته.
إنه لا يلزم مما ذُكر أن الإيمان الحي يتخذ الحياة من الأعمال إنما يُظهر بها علامات الحياة.


اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ


حذّر يعقوب في هذا الأصحاح المؤمنين من الرغبة في أن يكونوا معلمين جمهوريين إذا لم يكونوا أهلاً لذلك. وفي هذا الأصحاح تحذير عام لهم من طلب أن يكونوا معلمين في الدين بالنظر إلى عظمة المسؤولية على المعلمين وتعرضهم للدينونة (ع ١). وبيان الشرور الناشئة من سوء استعمال اللسان (ع ٢ - ١٢). وتفصيل ذلك أننا جميعاً عرضة للعثرة باللسان (ع ٢). وإن ضبط الإنسان لسانه كضبط الفرس باللجام والسفينة بالسكَّان (الدفة) (ع ٣ و٤). وإن اللسان مع كونه عضواً صغيراً قادرٌ على أن يفعل فعلاً كبيراً وأنه إذا لم يُضبط أتى بشرور كثيرة (ع ٥ و٦). وأن الناس مع استطاعتهم إذلال كل أنواع الوحوش لم يستطيعوا إذلال اللسان فإنه يأتي بأمور متضادة ومتناقضة (ع ٧ - ٩). وهذا ما يخالف أحكام العقل كأن عيناً واحدة تخرج ماء عذباً وماء أُجاجاً (ع ١٠ - ١٢). وتكلم على أثر هذا في ما يجب على المعلم الجمهوري من الصفات (ع ١٣ - ١٨). فقال فيه أنه يجب ان يكون حكيماً (ع ١٣) حليماً مسالماً (ع ١٤ - ١٦). وبيان صفات الحكمة الحق وأثمارها (ع ١٧ و١٨).
تحذير من الرغبة في أن يكونوا معلمين ع ١


١ «لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!».
متّى ٢٣: ٨ ورومية ٢: ٢٠ و١تيموثاوس ١: ٧ وص ١: ١٦ ع ١٠
لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ أي لا يرغب كل منكم في أن يكون معلماً عاماً حتى تنشأ عن ذلك كثرة المعلمين في كنائسكم كان كل من الفريسيين يرغب في أن يدعوه الناس «سيدي سيدي» (متىّ ٢٣: ٧). وقال بولس في اليهود أنهم كانوا يثقون بأنهم قادة للعميان وأنوار للذين في الظلمة ومهذبين للأنبياء ومعلمين للأطفال وإن لهم صورة العلم (رومية ٢: ١٩ و٢٠) وخطأ الذين أرادوا أن يكونوا معلمي الناموس وهم لا يفهمون ما يقولون ولا ما يقررونه (١تيموثاوس ١: ٧). فيتضح من تحذير يعقوب أنه كان لمتنصري اليهود الرغبة التي كانت لليهود كلهم عينها فاضطر أن يحذرهم منها كما حذّر بولس كنيسة كورنثوس منها بقوله «فَمَا هُوَ إِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ؟ مَتَى ٱجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ، لَهُ تَعْلِيمٌ، لَهُ لِسَانٌ، لَهُ إِعْلاَنٌ، لَهُ تَرْجَمَةٌ» (١كورنثوس ١٤: ٢٦). وقال المسيح لتلاميذه «وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ ٱلْمَسِيحُ» (متّى ٢٣: ١٠). ولم يرد يعقوب أن يمنع الذين هم أهل للتعليم والتبشير من ذلك العمل السامي والذين دعاهم الله إليها إنما أراد منع الذين طلبوا ذلك والله لم يدعوهم إليه وليسوا أهلاً له.
عَالِمِينَ أي قادرين أن تعلموا.
أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ عبّر بضمير المتكلمين عن الذين هم معلمو الشعب وجعل نفسه مثل واحد منهم تواضعاً ودفعاً لأن ينفروا من تحذيره. وأراد بقوله «نأخذ دينونة أعظم» إن المسؤولية التي على المعلمين أعظم من المسؤولية التي على الذين ليسوا كذلك والخطر عليهم بأنهم لا يقومون بما يجب عليهم حسب مطلوب الكنيسة أعظم من الخطر على غيرهم. وإنهم يقعون تحت الدينونة لقصورهم. قال بولس بعد ذكر المسؤولية التي على المبشرين «مَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ» (٢كورنثوس ٢: ١٦). وقال في المعلمين والمبشرين «عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِراً لأَنَّ ٱلْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ، وَسَتَمْتَحِنُ ٱلنَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ. إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً. إِنِ ٱحْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ، وَلٰكِنْ كَمَا بِنَارٍ» (١كورنثوس ٣: ١٣ - ١٥).

الخطر من سوء استعمال اللسان ع ٢ إلى ١٢


٢ «لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي ٱلْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ ٱلْجَسَدِ أَيْضاً».
ص ٢: ١٠ وع ٢ - ١٢ ومتّى ١٢: ٣٤ - ٣٧ وص ١: ٤ و٢٦
لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا أي أننا نخطئ بطرق كثيرة بما نعمله من المحظورات وبما نهمله من الواجبات حتى أننا لا نخلو من الزلات في كل سيرتنا كما تحققنا بالاختبار حتى ضُرب المثل في من يدين غيره بلا شفقة وهو قول المسيح «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ» (يوحنا ٨: ٧). فأظهر يعقوب تواضعه بإدخال نفسه بين العاثرين وكذا فعل يوحنا بقوله «إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِينَا» (١يوحنا ١: ٨).
إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي ٱلْكَلاَمِ في هذا إيماء إلى كون الناس عرضة لخطإ اللسان أكثر من سواه. وهذا علة نهيه لهم عن أن يرغبوا في أن يكونوا معلمين لئلا تكثر زلاتهم بذلك. ويسهل على الناس أن يعثروا بألسنتهم لأن قلوبهم فاسدة ومن «فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ ٱلْفَمُ» (متّى ١٢: ٣٤). ومن طبع الإنسان أن يلذ بأن يتكلم بما تهيج به الشهوات وأن يسمع الكلمات المهيجة لها.
فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ بالنسبة إلى غيره من الناس. والقرينة تدل على أن المراد «بالكامل» هنا الإنسان الذي كل قواه خاضعة لعقله وضميره.
قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ ٱلْجَسَدِ أَيْضاً ضبط اللسان أعسر الأمور فمن أظهر أنه قادر على ذلك أظهر أنه قادر على ضبط كل أعضائه بالنظر إلى كونها «آلات إثم» (رومية ٦: ١٣). امتاز موسى عن سائر الناس بالحلم ولكنه مع حلمه «فرّط بشفتيه» (مزمور ١٠٦: ٣٣).
٣ «هُوَذَا ٱلْخَيْلُ، نَضَعُ ٱللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا، فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ».
مزمور ٣٢: ٩
أتى يعقوب في هذه الآية وما بعدها إلى السادسة بثلاثة تشابيه للسان أبان في اثنين منها أهمية اللسان بين سائر الأعضاء وفي الثالثة الأضرار الناشئة من سوء استعماله.
هُوَذَا ٱلْخَيْلُ، نَضَعُ ٱللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا أتى بهذا التشبيه بياناً لصحة قوله إن الذي لا يعثر في الكلام «قادر أن يلجم كل الجسد» (ع ٢).
لِكَيْ تُطَاوِعَنَا، فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ أي أننا نُخضع الخيل مع شدة قوتها باللجام الذي هو آلة صغيرة كذلك الذي يضبط لسانه الذي به يُظهر أفكاره وانفعالاته له سلطة على كل قواه.
٤ «هُوَذَا ٱلسُّفُنُ أَيْضاً، وَهِيَ عَظِيمَةٌ بِهٰذَا ٱلْمِقْدَارِ، وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، تُدِيرُهَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدّاً إِلَى حَيْثُمَا شَاءَ قَصْدُ ٱلْمُدِيرِ».
هُوَذَا ٱلسُّفُنُ أَيْضاً هذا تشبيه ثان أتى به بياناً لأهمية اللسان.
وَهِيَ عَظِيمَةٌ بِهٰذَا ٱلْمِقْدَارِ، وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ فيظهر من هذا أنه يعسر أن تُدار وتوجه إلى حيث المراد حتى لا تدفعها الرياح إلى الخطر على رغم الملاح. وأشار «بالرياح العاصفة» إلى الأهواء والانفعالات الشديدة في قلوب الناس التي تسوقهم إلى الجور والفجور.
تُدِيرُهَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدّاً الخ أراد المترجم «بالدفة» ما يعرف بالسُكّان وبالخيزرانة. قال النابغة الذبياني:
يظل من خوفه الملاّح معتصماً
بالخيزرانة بعد الأين والنجد
والدفة اسمها الشائع على ألسنة العامة. وهي صغيرة جداً بالنسبة إلى السفينة ولكنها مع صغرها تمكن الربان من أن يوجه السفينة في وقت أشد اضطراب البحر إلى حيث شاء من الجهات ويبلغ بها ما قصد من المرافئ.
٥ «هٰكَذَا ٱللِّسَانُ أَيْضاً، هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّماً. هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ؟».
أمثال ٢٦: ٢٠ ومزمور ١٢: ٣ و٧٣: ٨
هٰكَذَا ٱللِّسَانُ أَيْضاً أي أنه صغير بالنسبة إلى الجسم البشري فنسبته إليه كنسبة اللجام إلى جسم الفرس والخيزارنة إلى جرم السفينة.
يَفْتَخِرُ مُتَعَظِّماً بأنه قادر على عظائم الأمور وأن له الحق في ذلك بالنظر إلى قوته على الخير وعلى الشر بدليل قول الحكيم «اَلْمَوْتُ وَٱلْحَيَاةُ فِي يَدِ ٱللِّسَانِ» (أمثال ١٨: ٢١) وذهب بعضهم أن معنى العبارة أنه ينتج من افتخار اللسان أضرار جسيمة.
هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ قال هذا تمهيداً لتشبيهه اللسان بالنار بياناً لقدرته على شدة الإضرار فإن النار إذا وقعت جذوة صغيرة منها في أجمة كبيرة أو في بيوت مدينة أمكنها أن تحرقها كلها.
٦ «فَٱللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ ٱلإِثْمِ. هٰكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا ٱللِّسَانُ، ٱلَّذِي يُدَنِّسُ ٱلْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ ٱلْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ».
مزمور ١٢٠: ٣ و٤ وأمثال ١٦: ٢٧ ومتّى ١٥: ١١ و١٨ و٢: ٣٦ ومتّى ٥: ٢٢
فَٱللِّسَانُ نَارٌ أي قادر على إنشاء أشد الأضرار فكثيراً ما كان سبب الهياج والفتنة والبغض والحرب ونزع كل أثمار السلام البهجة وإن مثل ذلك كله نتيجة كلمة واحدة سمعها أرباب التعصب على أثر استعدادهم للهياج للاختلاف في الدين والأصل وما سبق من علل الحقد والانتقام. ومن تلك الأسباب النميمة والافتراء والبدَع. ومن الكلمات الصغيرة الشديدة الإضرار قول الشيطان للوالدين الأولين «لن تموتا» (تكوين ٣: ٤). ومنها قول ديمتريوس في أفسس: «عظيمة هي أرطاميس» (أعمال ١٩: ٢٨). وقول اليهود في استفانوس «إنه جدّف على موسى والهيكل» (أعمال ٦: ١٣) وقول اليهود لبيلاطس «إِنْ أَطْلَقْتَ هٰذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرَ» (يوحنا ١٩: ١٢ و١٣).
عَالَمُ ٱلإِثْمِ العالم يشمل كل الأنواع من الناس والبهائم والأبنية وسائر أعمال العقلاء وشبّه اللسان به في كثرة شروره المتنوعة التي يمكن أن تنشأ عن اللسان. وهذا يشبه قول بولس في حب المال أنه «أصل كل الشرور» (١تيموثاوس ٦: ١٠).
يُدَنِّسُ ٱلْجِسْمَ كُلَّهُ أي الإنسان كله. وهذا واضح مما إذا كان المتكلم مجدفاً نماماً ماجناً وشاهد زور وهو مثل قول المسيح «لَيْسَ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ، بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ ٱلْفَمِ هٰذَا يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ» (متّى ١٥: ١١). فما يجسر اللسان أن يتكلم به يجسر سائر الجسد أن يفعله.
يُضْرِمُ دَائِرَةَ ٱلْكَوْنِ معنى «دائرة الكون» بحسب الظاهر الخليقة كلها لكننا لا نعرف مراده تمام المعرفة ولعله أراد بها حياة الإنسان وحده من أولها إلى آخرها أو لعله أراد أمور الناس بجملتها منذ ولادتهم إلى موتهم أو أراد بها القرون على توالي العصور باعتبار كونها دولاباً يرتفع من جهة ويهبط من جهة أخرى واعتبرها قابلة للقلق والانقلاب والتشويش والاختلال والهدم فإن كل هذه تنشأ من أضرار اللسان. وقوله في اللسان «يضرم دائرة الكون» عنى به أن اللسان يهيّج انفعالات الإنسان بعينه أو انفعالات أهل العالم في عصر معيّن أو في عصور متوالية حتى يكون تأثيره كدولاب يدور بسرعة حتى أنه يشتعل بشدة حرارته لفرط سرعته. وهذا على وفق قول المرنم «يَا رَبُّ نَجِّ نَفْسِي مِنْ شِفَاهِ ٱلْكَذِبِ، مِنْ لِسَانِ غِشٍّ. مَاذَا يُعْطِيكَ وَمَاذَا يَزِيدُ لَكَ لِسَانُ ٱلْغِشِّ؟ سِهَامَ جَبَّارٍ مَسْنُونَةً مَعَ جَمْرِ ٱلرَّتَمِ» (مزمور ١٢٠: ٢ - ٤).
وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ أبان بهذا أن أصل ما يتكلم به الإنسان من الكذب والتجديف على الروح القدس (مرقس ٣: ٢٨) وعلى الله (رؤيا ١٦: ٩ و١١ و٢١). والكلام الناشئ عن الحقد هو من الشيطان الساكن جهنم لأنه هو الذي يجرّب الإنسان ويحثه على ارتكاب كل خطايا اللسان.
٧ «لأَنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَٱلطُّيُورِ وَٱلزَّحَّافَاتِ وَٱلْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ ٱلْبَشَرِيِّ».
في هذه الآية وما يليها وصف لعصيان اللسان وعدم تذلُلـه وهي تثبت أنه ضار كما قال آنفاً.
لأَنَّ كُلَّ طَبْعٍ أي كل جنس جعل البهائم أربعة أقسام وأراد «بالوحوش» ذوات الأربع التي تسكن البرية. وأراد «بالطيور» سكان الهواء وهي في الدرجة الأولى في سلّم الحيوانات غير الناطقة وأراد «بالزحافات» الحيّات وأمثالها وهي أدنى أنواع الحيوان. وأراد «بالبحريات» حيوانات البحر على اختلاف أنواعها. وهذا التقسيم على وفق التقسيم في (تكوين ٩: ٢). ويختلف قليلاً عن التقسيم في (أعمال ١٠: ١٢).
يُذَلَّلُ في الحال كما يُشاهد.
وَقَدْ تَذَلَّلَ في الماضي بشهادة التاريخ والمعنى أن كل تلك المخلوقات يقدر الإنسان أن يخضعها إذا شاء وقد أخضعها.
لِلطَّبْعِ ٱلْبَشَرِيِّ أي للبشر على توالي العصور بمقتضى قضاء الله عند الخلق (تكوين ١: ٢٦ - ٢٨ ومزمور ٨: ٧ و٨). وطريق إخضاع الإنسان البهائم لإرادته معامتله إياها باللطف والرأفة حتى تثق به وتنقاد له. وذكر يعقوب خضوع أنواع البهائم للإنسان بياناً للفرق بين كل أنواع البهائم واللسان الذي لا يمكن إخضاعه وإثباتاً أن قوته على الشر مستمدة من جهنم كما ذُكر آنفاً.
٨ «وَأَمَّا ٱللِّسَانُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَـهُ. هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ، مَمْلُوٌّ سُمّاً مُمِيتاً».
مزمور ١٤٠: ٣ ورومية ٣: ١٣
أَمَّا ٱللِّسَانُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَـهُ الإنسان لا يريد أن يضبط لسانه ولا يستطيع أن يضبط لسان غيره من الناس ليمنعه من الكذب والنميمة وغيرها فلا يستطيع ذلك إلا نعمة الله.
هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ فهو هائل جداً فلا يمكن ضبطه بالترهيب ولا بالترغيب.
مَمْلُوٌّ سُمّاً مُمِيتاً هذا مثل قول بولس المقتبس من سفر المزامير «حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سُمُّ ٱلأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً» (رومية ٣: ١٣ و١٤ ومزمور ١٤٠: ٣). ومن سموم اللسان التشكيك في الله وعدله ومحبته وفي حق الإنجيل وإلقاء الريب بين الزوجين وبين الأصدقاء وزرع الغيرة والحسد والعداوة والدعارة والغش والكفر والتجديف. فبناء على ذلك يجب أن نسأل الله النعمة لكي نتحفظ من الخطإ بألسنتنا «ولنحفظ لأفواهنا كمامة» (مزمور ٣٩: ١). وأن يرشدنا إلى أن نعتصم بخيزرانة جسدنا كما ينبغي لكي لا تُكسر سفينة رجائنا. وأن نحترس من أن تقع جذوة نار من ألسنتنا فتضرم دائرة حياتنا الزمنية والأبدية وتفنيها.
٩ «بِهِ نُبَارِكُ ٱللّٰهَ ٱلآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ ٱلنَّاسَ ٱلَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ ٱللّٰهِ».
ص ١: ٢٧ و١كورنثوس ١١: ٧
هذه الآية برهان على أن اللسان لا يُذلل لأنه لا يُركن إليه لكونه يتكلم مرّة بالخير ومرّة بالشر.
بِهِ نُبَارِكُ ٱللّٰهَ ٱلآبَ أي نحن البشر نفعل ذلك بألسنتنا فتكلم يعقوب بالنيابة عن إخوته المعترفين بخطاياهم ومعنى «نبارك» هنا نسبّح.
وَبِهِ نَلْعَنُ ٱلنَّاسَ أي نفعل ذلك باللسان الذي به باركنا الله.
ٱلَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ ٱللّٰهِ كقول الكتاب «قَالَ ٱللّٰهُ: نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ» (تكوين ١: ٢٦ و٢٧). فكان يجب علينا كما نبارك الله باللسان أن نبارك به الذين خلقوا على صورته. فمن يلعن الإنسان الذي هو صورة الله يهين خالقه الذي هو أصل صورته. ولكن المتعصبون من اليهود لا ينفكون يلعنون المسيحيين ولا سيما المتنصرين منهم ولعل يعقوب أشار هنا إلى ذلك.
١٠ «مِنَ ٱلْفَمِ ٱلْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ! لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلأُمُورُ هٰكَذَا!».
مِنَ ٱلْفَمِ ٱلْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ أي الإنسان الذي يستخدم لسانه في العبادة وبيان محبته وطاعته لله هو نفسه ينتقل من تقديم التسبيح والشكر إلى التفوه بكلمات الحقد والنميمة والمقت وبغض الناس.
لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي لم يرضَه الله وتشهد ضمائركم أنه مما لا يليق للمنافاة بين الأمرين. ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يسكن الله هو والشيطان في قلب واحد ولا يليق طبعاً أن يستخدم كل منهما لسانه.
١١ «أَلَعَلَّ يَنْبُوعاً يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ ٱلْعَذْبَ وَٱلْمُرَّ؟».
الاستفهام هنا إنكاري فالمعنى أن الأمر يستحيل أن يكون كذلك. فإن مثل ذلك تشويش ليس من أعمال الله فلا يليق أن يكون من أعمال الإنسان. فإذا اعتبرنا قلب الإنسان ينبوعاً رأينا أنه يستحيل أن يكون منه مجاري الحياة والموت.
١٢ «هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُوناً، أَوْ كَرْمَةٌ تِيناً؟ وَلاَ كَذٰلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحاً وَعَذْباً!».
متّى ٧: ١٦
هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُوناً، أَوْ كَرْمَةٌ تِيناً؟ هذا يستحيل في الطبيعيات فيجب أن لا يكون في الأدبيات لأن كل نبتة تأتي بثمرها الخاص كذلك لسان المؤمن يجب أن لا يتكلم إلا بما يشهد بالإيمان والقداسة والمحبة لله وللناس.
وَلاَ كَذٰلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحاً وَعَذْباً أي ليس في ينابيع الأرض التي لا تُحصى مثل هذا الينبوع فيجب أن لا يكون مثله في ألسنة الناس فيتكلم تارة بما مصدره السماء كترانيم الملائكة وتارة بما مصدره جهنم كتجاديف الشياطين. ومقصود الكاتب من كل ما ذُكر منع غير المستحقين من أن يطلبوا أن يكونوا معلمين جمهوريين وبيان الخطر الناشئ عن سوء استعمال اللسان وأنه من الضروري أن يكون المعلمون والمبشرون (للذين مقامهم جعل ألسنتهم ذوات سلطان) رجال حكمة وتعقل واختبار وتُقى حتى يستعملوا ذلك السلطان على سنن الصواب.

ما يجب على المعلم الجمهوري من الصفات ع ١٣ إلى ١٨


١٣ «مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِٱلتَّصَرُّفِ ٱلْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ ٱلْحِكْمَةِ».
ص ٢: ١٨ و١بطرس ٢: ١٢
مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ أي مَن منكم ذو حكمة ومعرفة تؤهلانه لأن يكون معلماً ومبشراً لشعب الله. والحكمة هنا سماوية لا مجرد حكمة دنيوية عقلية.
فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِٱلتَّصَرُّفِ ٱلْحَسَنِ أي فلير بسيرته التقويّة وأفعاله الممجدة لله النافعة للإنسان أن له ما ادعاه من الحكمة والمعرفة فلا يغنيه الادعاء بلا بيان الأعمال.
فِي وَدَاعَةِ ٱلْحِكْمَةِ أي الحكمة المقترنة بالوداعة بدل الحكمة المقترنة بالافتخار التي فيها قال الرسول «لأَنَّ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ هِيَ جَهَالَةٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ٣: ١٩). فيجب أن يكون المعلمون عقلاء حلماء لا متكبرين مشاغبين متمثلين بمعلمهم الذي هو «وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ» (متّى ١١: ٢٩) ممتثلين لقوله «كُونُوا حُكَمَاءَ كَٱلْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَٱلْحَمَامِ» (متّى ١٠: ١٦).
١٤ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى ٱلْحَقِّ».
ع ١٦ رومية ٢: ٨ و٢كورنثوس ١٢: ٢٠ وص ٥: ١٩ و١تيموثاوس ٢: ٤
لٰكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ أشار هنا إلى ما يمنع الإنسان من أن يكون معلماً ومبشراً وهو حب الرئاسة والميل إلى الخصومة والغيرة للفروض العرضية ومضادة آراء الآخرين وأعمالهم ومثل هذا كانت غيرة الغيارى ( Zealots) وهم جماعة من اليهود كانوا شديدي الغيرة للسنن الموسوية ومنهم الأربعون الذي اتفقوا وتحالفوا على أنهم «لاَ يَأْكُلُونَ وَلاَ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَقْتُلُوا بُولُسَ» (أعمال ٢٣: ١٢) قال بولس في اليهود جميعاً «أَشْهَدُ لَـهُمْ أَنَّ لَـهُمْ غَيْرَةً لِلّٰهِ، وَلٰكِنْ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَعْرِفَةِ» (رومية ١٠: ٢). وسُميت هذه الغيرة «مرّة» تمييزاً لها عن الغيرة الصالحة لحقوق الله ودينه.
فَلاَ تَفْتَخِرُوا أي لا تدّعوا أنكم أهل لأن تكونوا معلمين لهذه الغيرة. فالواقع أنكم لستم لذلك لأن تلك الغيرة تنشئ في الكنيسة انشقاقاً وبغضاً واضطهاداً.
وَتَكْذِبُوا عَلَى ٱلْحَقِّ بتعرّضكم للتعليم والتبشير مع أن تعليمكم ناشئ عن الميل إلى «التحزب والغيرة المرة» فإنه ما دام ذلك في قلوبكم فكلامكم وأعمالكم يشهدان على الحق لا له فتكونون شهود زور للمسيح نفسه لأنه هو «الحق» فيُجرح في بيت أحبائه (زكريا ١٣: ٦).
١٥ «لَيْسَتْ هٰذِهِ ٱلْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ».
١كورنثوس ٢: ٦ و٣: ١٩ و٢كورنثوس ١: ١٢ ويهوذا ١٩ و٢تسالونيكي ٢: ٩ و١تيموثاوس ٤: ١ ورؤيا ٢: ٢٤
لَيْسَتْ هٰذِهِ ٱلْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ أي هي الحكمة الخالية من الوداعة المقترنة بالغيرة المرة والتحزب فهي ليست من السماء إذ ليس هناك سوى الحب والسلام. وأشار المسيح إلى تلك الحكمة الكاذبة بقوله «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ» (متّى ١١: ٢٥). وأشار إليها بولس بقوله «لٰكِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ بَيْنَ ٱلْكَامِلِينَ، وَلٰكِنْ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ» (١كورنثوس ٢: ٦).
بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ هذا يبين أصلها وحقيقتها. فأبان بقوله «أرضية» أن أصلها من هذا العالم وبقوله «نفسانية» أنها تصدر من قلب الإنسان الطبيعي غير المتجدد بروح الله (١كورنثوس ٢: ١٤ و٣: ٣). قال يهوذا في أصحاب هذه الحكمة «هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلْمُعْتَزِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، نَفْسَانِيُّونَ لاَ رُوحَ لَـهُمْ» (يهوذا ١٩).
شَيْطَانِيَّةٌ أي كحكمة الشيطان التي ليست سوى احتيال لأنه لا يستعملها إلا بغية أن يؤذي الناس ويخدعهم ويقودهم إلى الضلال. فإذا اعتبرنا وصف يعقوب لهذه الحكمة بكونها «أرضية نفسانية» يشير إلى كونها خالية من الصلاح فوصفه إياها بكونها «شيطانية» يشير إلى كونها مملوءة سماً.
١٦ «لأَنَّهُ حَيْثُ ٱلْغَيْرَةُ وَٱلتَّحَزُّبُ هُنَاكَ ٱلتَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ».
اختبار كل الناس يشهد بصحة هذه الآية فهو يصدق في أمور البيت والجيرة والكنيسة. فحيث تكون تلك الغيرة تنتفي ثقة بعض الناس ببعض ولا يمكن الاتحاد في العمل بغية الصلاح العام ولا الثبات في المقاصد الخيرية. ومثال ما قيل في هذه الآية فتنة قورح في معسكر إسرائيل فإنها ابتدأت بالحسد والغيرة وانتهت بالعصيان والموت.
١٧ «وَأَمَّا ٱلْحِكْمَةُ ٱلَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً، عَدِيمَةُ ٱلرَّيْبِ وَٱلرِّيَاءِ».
ص ٤: ٨ و٢كورنثوس ٧: ١١ ومتّى ٥: ٩ وعبرانيين ١٢: ١١ وتيطس ٣: ٢ وفيلبي ٤: ٥ ولوقا ٦: ٣٦ وص ٢: ٤ و١٣ ورومية ١٢: ٩ و٢كورنثوس ٦: ٦
أَمَّا ٱلْحِكْمَةُ ٱلَّتِي مِنْ فَوْقُ هذا بيان أن مصدرها الله وما يأتي بيان لصفاتها وهو موافق لبيان بولس «أثمار الروح» (غلاطية ٥: ٢٢) ويشبه وصف المحبة في (١كورنثوس ص ١٣).
طَاهِرَةٌ (متّى ٥: ٩ و١تيموثاوس ٣: ٣).
مُسَالِمَةٌ بلا خشونة فلا تطلب حب الذات وتسامح المذنبين.
مُتَرَفِّقَةٌ أي ليست بعنيفة تحمل أربابها على الإصغاء إلى آراء غيرهم وحججهم قبل أن يدينوهم.
مُذْعِنَةٌ في الأمور المباحة غير الضارة للحق (١كورنثوس ٩: ٢٠ - ٢٢).
مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً مثل الله الذي هو «أبو الرحمة» (متّى ٥: ٧) فتحمل صاحبها على الشفقة على المصابين والمحتاجين.
وَأَثْمَاراً صَالِحَةً كالعدل والجودة والإحسان (ص ٢: ١٤ - ٢٦ وفيلبي ١: ١١ و٢كورنثوس ٩: ١٠).
عَدِيمَةُ ٱلرَّيْبِ فهي خالية من الريب من جهة أصلها وحقيقتها. ويحتمل الأصل اليوناني معنى آخر وهو أنها بلا محاباة بالنظر إلى المقام أو الأمة أو الديانة.
وَٱلرِّيَاءِ أي خالصة من الرياء (رومية ١٢: ٩ و٢كورنثوس ٦: ٦). ووصف الحكمة هنا يوافق وصفها في (أيوب ٢٨: ١٤ - ١٩ وفي أمثال ٣: ١٣ - ١٨) فحق أنها «لاَ يُعْطَى ذَهَبٌ خَالِصٌ بَدَلَهَا، وَلاَ تُوزَنُ فِضَّةٌ ثَمَنًا لَهَا» و «طوبى لمن يجدها».
١٨ «وَثَمَرُ ٱلْبِرِّ يُزْرَعُ فِي ٱلسَّلاَمِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ ٱلسَّلاَمَ».
أمثال ١١: ١٨ وهوشع ١٠: ١٢ وإشعياء ٣٢: ١٧ وعاموس ٦: ١٢ وغلاطية ٦: ٨
وَثَمَرُ ٱلْبِرِّ يُزْرَعُ فِي ٱلسَّلاَمِ أي ما يثمر ثمر البر الخ. أبان بعد ما وصف الحكمة ما ينتج عنها. والمراد «بالبر» هنا الدين الحق والعبارة على وفق ما في (عبرانيين ١٢: ١١ وإشعياء ٣٢: ١٧) وقول المسيح «طُوبَى لِصَانِعِي ٱلسَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ يُدْعَوْنَ» (متّى ٥: ٩). وزرع البر يكون على الأرض ولكن حصاده يكون في السماء على وفق قول الرسول «ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً» (غلاطية ٦: ٧) وقول المرنم «ٱلَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِٱلدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِٱلابْتِهَاجِ» (مزمور ١٢٦: ٥).


اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ


قابل يعقوب في الأصحاح الثالث الحكمة التي هي من فوق بالحكمة الكاذبة التي قال إنها «أرضية نفسانية شيطانية» (ص ٣: ١٣ - ١٨). وأبان في هذا الأصحاح نتائج الحكمة السماوية إثباتاً لأفضلية الحكمة الحقيقية التي هي الديانة القلبية. وفيه نصائح وإنذارات ليكف من كُتبت إليهم عن الحروب والخصومات ويهربوا من الشهوات العالمية والأهواء الجسدية المؤدية إلى ذلك. وتلك الخصومات تنشأ عن ترك الصلاة إذ يحدث من تركها أنهم لا يحصلون على ما يبتغون (ع ١ و٢). وإنهم إن صلوا لا ينالون ما يطلبون لأن غاياتهم نفسية (ع ٣). وإن محبة العالم من نتائج الحكمة الدنيوية وكذا الحسد (ع ٤ و٥). والتصريح بأن الله يقاوم المتكبرين وينعم على المتواضعين (ع ٦). وإنه يجب عليهم أن يقاوموا إبليس (ع ٧). وإن يقتربوا إلى الله وأن ينقوا قلوبهم وأيديهم (ع ٨) وأن ينوحوا على خطاياهم ويتقوا الله (ع ٩). وأن يتضعوا أمامه تعالى لكي يرفعهم (ع ١٠). وأن لا يذموا أحداً لئلا يدينوا الناس وهم يذمون إخوتهم (ع ١١ و١٢). وتوبيخه إياهم على زيادة أمانيهم في المستقبل وإنباؤه إياهم بأن حياة الإنسان قصيرة غير محققة البقاء وإنه يجب عليهم أن يقروا أنهم مفتقرون إلى الله للنجاح في العالم والبناء في الحياة (ع ١٣ - ١٦). وختام كلامه بقوله «مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلاَ يَعْمَلُ، فَذٰلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» (ع ١٧).
تحذير من الحروب والخصومات والشهوات الجسدية التي تنشئها ع ١ إلى ٣


١ «مِنْ أَيْنَ ٱلْحُرُوبُ وَٱلْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ ٱلْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ؟».
تيطس ٣: ٩ ورومية ٧: ٢٣
مِنْ أَيْنَ ٱلْحُرُوبُ وَٱلْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ تكلم في ما مرّ على السلام التام الذي هو ثمر الحكمة السماوية (ص ٣: ١٨). وقابل ذلك بما هو جار بينهم من منافيات السلام. ولنا من هذا السؤال أنه كان بينهم خصومات شديدة وأحزاب مختلفة في الكنيسة كما كان في خارجها بين اليهود الذين هم أصلهم. فإن يهود ذلك العصر اشتهروا بالمشاجرات حتى بلغوا بها إن عصوا الدولة الرومانية فهدمت مدينتهم.
أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ ٱلْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ في هذا السؤال تصريح بأن تلك الخصومات لم تنشأ من محبتهم الحق وغيرتهم على المحاماة عنه بل من الحسد وحب الرياسة والنفس والطمع في الربح الدنيوي واشتهاء اللذات الجسدية. وكل تلك الحروب والخصومات ناشئة عن تلك الأهواء. فالينبوع رديء فما يجري منه كذلك. إن الحروب العظيمة التي حدثت في العالم كحروب اسكندر المقدوني ويوليوس قيصر الروماني وغيره من القدماء وحروب نابوليون الأول في القرن الماضي والحرب العمومية الأخيرة لم تنتج إلا من الطمع في السيادة والاستيلاء والانتقام وربح الأموال والأملاك. والانشقاق في المدن والقرى والكنيسة لم ينشأ إلا عن مثل ذلك. ولكن تأثير الدين المسيحي الآمر بالعدل والصدق ومراعات حقوق الناس ينفي الحروب من الأرض على أن كثيراً من الممالك المسماة مسيحية لا تجري في أمورها السياسية على سنن الإنجيل.
٢ «تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ».
١يوحنا ٣: ١٥ وص ٥: ٦
تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ هذا تفسير لقوله إن لذاتهم علة الحروب أي رغبتهم في الحصول على ما ليس لهم وزعمهم أنهم ينالون ما يطلبون بلا مراعاة حقوق غيرهم. إن الناس يبتغون الوسائل إلى الترفه والمنافسات والمباهاة والمجد العالمي فإن لم يمكنهم الحصول عليها بوسائل جائزة عزموا على اتخاذها على رغم أربابها. ويغلب أن لا تختلف الحرب عن السرقة إلا بأنها أعظم منها وتقتضي أكثر مما تقتضيه من القوة والدراية. وشهوة الامتلاك تزيد على قدر زيادة الحصول على المطلوب ولا تشبع أبداً بدليل قول بعضهم في اسكندر الكبير أنه بعد أن استولى على كل الممالك المعروفة أسف وبكى على أنه لم يبق ما يفتتحه بسيفه.
تَقْتُلُونَ قد تحمل الرغبة في امتلاك ما للآخرين على القتل حقيقة كما يشهد تاريخ الممالك والأفراد وقصائد الشعراء المنبئة بأعمال الأبطال. فإن أولئك الشعراء افتخروا بكثرة من قتل أولئك الأبطال من الناس. وكثيراً ما قاد الطمع صاحبه إلى تأصيل حب القتل في قلبه لأنه يشتهي موت صاحب المال لكي يغنم ماله ويسره نبأ موته وهذا الاشتهاء لا يفرق عند الله عن القتل إلا قليلاً.
وَتَحْسِدُونَ الأغنياء لأن لهم ما ليس لكم.
وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا بوسائل جائزة. فعدّ أن شهوة الامتلاك مع الحسد تحملهم أن يعتدوا على غيرهم ويهضموا حقوقهم ويختلسوا أموالهم وعلى قتل من يدافع عن حقوقه منهم. ومن أمثلة ذلك ما فعله آخاب وإيزابل ليمتلكا كرم نابوت (١ملوك ٢١: ١ - ١٦). وما فعله داود وهو أنه قتل أوريّا ليأخذ امرأته (٢صموئيل ١٢: ٩ و١٠).
تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ كذا فعل فرَق اليهود في أورشليم قبل خرابها بقليل كما يُعلم من تاريخ يوسيفوس. وقيل إن يعقوب نفسه كاتب هذه الرسالة قُتل بعد حين بإحدى خصوماتهم. ويهود أورشليم كانوا قد قتلوا المسيح واستفانوس حسداً وطلبوا أن يقتلوا بولس. وقول يعقوب هنا يصدق عليهم وعلى من شاركهم في الانفعالات من المتنصرين منهم.
وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ أي لا تطلبون ذلك في الصلاة كما يُفهم من القرينة. قال المسيح «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ» (متّى ٧: ٧ و٨). فمن يسأل الله ما يحتاج إليه حقيقة لنفسه وجسده فله أن يناله بمقتضى هذا الوعد ولكن إذا ترك طلبه بالصلاة ورغب في نيله بقوته من سواه بغير الحق والعدل لم ينله.
٣ «تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ، لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيّاً لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ».
١يوحنا ٣: ٢٣ و٥: ١٤
تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ هذا يبين جهل الذين يحرصون على الشهوات الرديئة أو التوغل فيها لأنها تفسد صلواتهم وتجعلها فارغة. فكثيراً ما تذهب صلوات الناس باطلاً لأنها لغايات نفسية ولا سيما إذا اقترنت بطلب اللعنات لغيرهم وابتغاء مساعدة الله على السعي وراء مقاصد شريرة فإنه تعالى قد يستجيب لهم بغيظ على مقتضى إرادتهم كما فعل لببي إسرائيل في قبروت هتأوة (عدد ١١: ٤ و٣١ و٣٣ ومزمور ١٠٦: ١٥). فالمؤمن حقيقة لا يفتأ يقرن صلواته بما طلبه المسيح فيقول معه «لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لوقا ٢٢: ٤٢). وينزع من قلبه كل انفعالات الخصومات والغضب لكي لا تُعاق صلواته (١تيموثاوس ٢: ٨ و١بطرس ٣: ٩).
لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيّاً من شروط إجابة الله صلواتنا أن تقدم بالإيمان لغاية موافقة لمشيئته وآيلة إلى مجده وإلا فلا حق لنا أن نتوقع أن تُستجاب.
لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ هذا تفسير لقوله «تطلبون ردياً» فإنهم كانوا يصلّون لنيل غايات نفسية وما يرضي أهواء الجسد. فلو طلبوا الضروري من القوت والكسوة لكانوا قد طلبوا حسناً لا ردياً لكنهم طلبوا فوق ذلك وسائل عيش الترفع والتمتع باللذات البدنية.

محبة العالم والحسد من نتائج الحكمة البشرية ع ٤ و٥


٤ «أَيُّهَا ٱلزُّنَاةُ وَٱلزَّوَانِي، أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبّاً لِلْعَالَمِ فَقَدْ صَارَ عَدُوّاً لِلّٰهِ».
إشعياء ٥٤: ٥ وإرميا ٢: ٢ وحزقيال ١٦: ٣٢ ومتّى ١٢: ٣٩ وص ١: ٢٧ ورومية ٨: ٧ و١يوحنا ٢: ١٥ ويوحنا ١٥: ١٩ ومتّى ٦: ٢٤
أَيُّهَا ٱلزُّنَاةُ وَٱلزَّوَانِي أتى هنا يعقوب بالعبارات المجازية التي اعتادها كتبة العهد القديم لبيان إثم الذين تركوا عبادة الله الإله الحق وعبدوا الأوثان فعبّر عن خيانة عبيد الله بخيانة المرأة لزوجها (مزمور ٧٣: ٢٧ وإشعياء ٥٤: ٥ وإرميا ٢٢ وحزقيال ص ١٦ و٢٣: ٣٧ - ٤٣ وهوشع ٢: ٢). ويكثر هذا المجاز في العهد الجديد (متّى ١٢: ٣٩ و١٦: ٤ ومرقس ٨: ٣٨ ورؤيا ٢: ٢٠ - ٢٢ و١٧: ١ و٥ و١٥) وشبّه بولس الكنيسة «بعذراء عفيفة مخطوبة للمسيح» (٢كورنثوس ١١: ٢).
إن الله هو رب وبعل لكل نفس متحدة به بالإيمان وبعهد الشفتين وكذلك لكل كنيسة تسمّى باسمه. فله حق أن يغتاظ من كل نفس أو كنيسة تفتر في حبه وتعدل عنه إلى العالم فيحسب ذلك إثماً فظيعاً كالزناء.
أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ؟ أراد «بالعالم» أهله باعتبار كونهم منفصلين عن الله عاصين لمشيئته. وهو على وفق قول المسيح «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ» (متّى ١٢: ٣٠) و المراد «بمحبة العالم» هنا فرط الرغبة في الدنيويات وشهوة الغنى الأرضي والمجد العالمي وتفضيل هذه الأمور على إرضاء الله ونيل بركاته الروحية. فالمسيحي الحقيقي حين يؤمن بالمسيح يتحد به حتى لا يكون من هذا العالم كما أن مسيحه ليس من العالم (يوحنا ١٧: ١٤ أنظر أيضاً ص ١: ٢٧ و١يوحنا ٢: ١٥). فإذاً يستحيل أن يكون المسيحي بعد ذلك صديق العالميين وشريكهم في مقاصدهم الدنيوية دون أن يغيظ الله الذي هو «إله غيور» (خروج ٢٠: ٥). هذا وإن الله والعالم على غاية المضادة حتى من التصق بأحدهما انفصل عن الآخر.
فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبّاً لِلْعَالَمِ أي من عزم على مصادقة العالم فكراً وإراداة. والفرق بين هذا وما قبله إن هذا بيان أن الميل إلى محبة العالم عداوة لله أيضاً. وهو تصريح بأن الذي يريد محبة العالم يُحسب عدواً لله بالضرورة فإن من يريد محبة العالم هو الذي يتمثل بأهله ويشاركهم في لذاتهم وينال مدحهم فلا بد أن يكون عدواً لله. وكون الإنسان عدواً لله مخيف جداً ويستلزم أنه لا تُجاب صلواته وأن ييأس من نيل السماء. فكثيرون يتوهمون إمكان أن يكونوا أصدقاء الله وأصدقاء العالم معاً وهذه الآية تبين محاليّة ذلك.
٥ «أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ ٱلْكِتَابَ يَقُولُ بَاطِلاً: ٱلرُّوحُ ٱلَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى ٱلْحَسَدِ؟».
عدد ٢٣: ١٩ و١كورنثوس ٦: ١٩ و٢كورنثوس ٦: ١٦
أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ ٱلْكِتَابَ يَقُولُ بَاطِلاً هذا استفهام إنكاري مفاده أن الكتاب لا يقول إلا الحق والواقع. والاقتباس هنا ضمني لا حرفي لأن ليس في الكتاب آية خاصة تشتمل على كلمات المقول نفسها. فيعقوب قصد الإشارة إلى تعليم الكتاب كله في هذا الموضوع.
ٱلرُّوحُ ٱلَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى ٱلْحَسَدِ اختلف المفسرون في معنى هذه العبارة فذهب بعضهم إلى أن الروح المذكور هنا هو الروح الإنساني وإن قصد يعقوب أن يبين أن طبيعة الإنسان مائلة إلى الحسد طبعاً. ومن تعليم الكتاب أن الإنسان الساقط مائل إلى الحسد ما في (أيوب ٥: ٢ وأمثال ١٤: ٣٠ و٢٧: ٤ وجامعة ٤: ٤). وقال آخرون لا يمكن أن يكون المقصود «بالروح» هنا روح الإنسان لقوله الروح الذي «حل فينا» وهو ظاهر أنه غير روح الإنسان عينه. ونسبة يعقوب هنا الحسد إلى طبيعة الإنسان ليست من مقصوده في ما تكلم عليه هنا وهو أن محبة المؤمنين للعالم تُعد كالزناء وعلى هذا ذهبوا أن الروح هنا هو الروح القدس الذي أرسله الله ليحل في قلوب المؤمنين بدليل ما في (١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩). وإن معنى العبارة أن الروح القدس يوجب على المؤمنين أن يحبوا الله وحده ويشتاق إلى ذلك شوقاً شديداً حتى أنه يغار عليهم غيرة مقدسة حين يراهم يصادقون العالم. ونسبته «الغيرة» إلى «الروح القدس» على وفق قوله تعالى «لأَنِّي أَنَا ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ إِلٰهٌ غَيُورٌ» (خروج ٢٠: ٥). ونُسبت هذه الغيرة المقدسة إلى الله في (خروج ٣٤: ١٤ وتثنية ٤: ٢٤ و٥: ٩ و٦: ١٥ ويشوع ٢٤: ١٩ وحزقيال ٣٩: ٢٥ وناحوم ١: ٢ وزكريا ٨: ٢). وأشار بهذه الكتابة إلى فرط محبة الله لشعبه وشوقه الشديد إلى أن يكونوا أمناء في حبهم له وانفصالهم عن العالم واتقائهم غضبه عليهم إذا أحبوا العالم الحب الذي يجب أن يقصر عليه وأنه يحسب ذلك مثل الزناء. ومثل قول يعقوب هنا قول بولس لأهل كنيسة كورنثوس «إِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ ٱللّٰهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ١١: ٢) وهذا التفسير هو الصحيح بالنظر إلى القرينة إلا أن الموافق هنا أن يبدل «الحسد» بالغيرة لأن الأصل يحتمل المعنيين. وقد تُرجم «بالغيرة» في (أيوب ٥: ٢ وإشعياء ٢٦: ١١ وأعمال ١٣: ٤٥).

وجوب الخضوع لله ومقاومة إبليس ع ٦ و٧


٦ «وَلٰكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذٰلِكَ يَقُولُ: يُقَاوِمُ ٱللّٰهُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً».
إشعياء ٥٤: ٧ ومتّى ١٣: ١٢ وأمثال ٣: ٣٤ و١بطرس ٥: ٥ ومزمور ١٣٨: ٦ ومتّى ٢٣: ١٢
لٰكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ أي الله يعطي المؤمنين ذلك لغيرة الروح القدس عليهم بإرساله إياه ليحل في قلوبهم. فالروح القدس هو الذي يهب للمؤمنين المواهب الروحية وهو يقوي ضعفاءهم على مقاومة الخطيئة (أمثال ١٦: ١٨). ويرفع المتواضعين «لِئَلاَّ يَكِلُّوا وَيَخُورُوا فِي نُفُوسِهمْ» (عبرانيين ١٢: ٣).
لِذٰلِكَ يَقُولُ أي الله أو الروح القدس. والمقول مقتبس من (أمثال ٣: ٣٤) على ما في الترجمة السبعينية.
يُقَاوِمُ ٱللّٰهُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ هؤلاء هم الذين وصفهم بأنهم ذوو خصومات ولذّات جسدية (ع ١) ومحبون للعالم (ع ٤). وقوله هنا دليل قاطع على أن الله يحسب مثل هؤلاء أعداء له وأنه يقاومهم.
وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً المتواضعون هنا هم «الْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، والْحَزَانَى والْوُدَعَاءِ والرُّحَمَاءِ» (متّى ٥: ٣ - ٧). فهؤلاء يعتبرهم الله أحباء له ويسرّ بأن يعطيهم نعمته وهي تعم كل البركات السماوية.
٧ «فَٱخْضَعُوا لِلّٰهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ».
أفسس ٤: ٢٧ و٦: ١١ و١بطرس ٥: ٦ و٨
فَٱخْضَعُوا لِلّٰهِ أيها المستكبرون لأنه يقاوم المستكبرين وسلّموا بما يريد لأنه رتب بعنايته ونعمته كل ما يؤول إلى نفعكم وتقديسكم في هذا العالم وخلاصكم في العالم الآتي. إن الله قد قضى بما هو خير لكم فعليكم أن تخضعوا لقضائه بكل تواضع. إن الخضوع رفيق الصبر والقناعة وهو ينشئ الثقة والرجاء وغيرهما من الفضائل ولكن العصيان ينشئ التذمر والحسد والبغض وكل الانفعالات الشريرة.
قَاوِمُوا إِبْلِيسَ رئيس هذا العالم (يوحنا ١٢: ٣١) فإن الخضوع لله يستلزم هذه المقاومة لأن إبليس عدو لله وعدونا ومقاومة الشر تستلزم مقاومته لأنه ينشئ الكبرياء والخصام وسائر الرذائل. فيجب علينا أن نخضع لله في كل شيء وأن لا نخضع للشيطان في شيء. والأسلحة التي تقاومه بها روحية ذُكرت في (أفسس ٦: ١١ - ١٨). ومعظم تلك المقاومة يكون بالسهر والصلاة وعلى هذا قال بطرس الرسول «اُصْحُوا وَٱسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ. فَقَاوِمُوهُ رَاسِخِينَ فِي ٱلإِيمَانِ» (١بطرس ٥: ٨ و٩).
فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ لا يهرب من «رسم الصليب» ولا برش الماء المقدس بل بالاستناد على الله وتقوية القلب بأقواله تعالى كما دفع المسيح تجارب الشيطان في البرية (متّى ٤: ٤ و٧ و١٠) وبعدم الالتفات إلى تجاريبه. إن الشيطان يعجز عن إضرار الذي يقاومه بمعونة المسيح فلم يهلك إلا الذين أهلكوا أنفسهم بالإصاخة إليه. وهذه الآية دليل على أن الشيطان شخص حقيقي لا شر ممثل كما توهم بعض الناس.

وجوب الاقتراب إلى الله وتنقية اليدين والقلب ع ٨ و٩


٨ «اِقْتَرِبُوا إِلَى ٱللّٰهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا ٱلْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي ٱلرَّأْيَيْنِ».
٢أيام ١٥: ٢ وزكريا ١: ٣ وملاخي ٣: ٧ وعبرانيين ٧: ١٩ وإشعياء ١: ١٦ وأيوب ١٧: ٩ و١تيموثاوس ٢: ٨ وإرميا ٤: ١٤ و١بطرس ١: ٢٢ و١يوحنا ٣: ٣ وص ١: ٨ و٣: ١٧
اِقْتَرِبُوا إِلَى ٱللّٰهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ لأنه «ينظر الرب ليترأف» (إشعياء ٣: ١٨). فهو كأبي الابن الضال الذي رأى من بعيد ابنه راجعاً إليه «فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ» (لوقا ١٥: ٢٠). وهذا مثل قول المسيح «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ ٱلآبِ بِٱسْمِي يُعْطِيكُمْ» (يوحنا ١٦: ٢٣). ونقترب إلى الله متى اعترفنا بخطايانا وقدمنا له صلاة الإيمان ووثقنا بمواعيده (عبرانيين ٧: ١٩). وهذا يوافق قول النبي عزريا بن عوديد «ٱلرَّبُّ مَعَكُمْ مَا كُنْتُمْ مَعَهُ، وَإِنْ طَلَبْتُمُوهُ يُوجَدْ لَكُمْ» (٢أيام ١٥: ٢). و قوله تعالى «ٱرْجِعُوا إِلَيَّ يَقُولُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ» (زكريا ١: ٣). وقول المسيح «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا ٣: ٢٠).
نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا ٱلْخُطَاةُ إن أيدي الناس هي آلات عمل فتتنجس بنجاسة العمل كما تتدنس يدا القاتل بدم القتيل. تنقية الأيدي علامة ظاهرة من علامات التوبة ومعناها ترك الخطيئة والتخلص من دنسها. ومثله قول داود «مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ اَلطَّاهِرُ ٱلْيَدَيْنِ» (مزمور ٢٤: ٣ و٤). وقوله تعالى لنبي إسرائيل «إِنْ كَثَّرْتُمُ ٱلصَّلاَةَ لاَ أَسْمَعُ. أَيْدِيكُمْ مَلآنَةٌ دَماً. اِغْتَسِلُوا. تَنَقَّوْا. ٱعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ» (إشعياء ١: ١٥ و١٦).
طَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي ٱلرَّأْيَيْنِ هؤلاء هم الذين دعاهم آنفاً «بالخطأة» وأمره «بتنقية أيديهم» لأنه دعاهم قبلاً «بالزناة والزواني» (ع ٤). ودعاهم هنا «بذوي الرأيين» المحتاجين إلى تطهير قلوبهم لأنه قال سابقاً ما يفيد أن قلوبهم منقسمة بين حب العالم وحب الله فأبان أنه يجب عليهم أن لا يكتفوا بعلامة التطهير الخارجية كما فعل بيلاطس حين غسل يديه إيماء إلى تطهيرها من دم المسيح ومع ذلك سلّمه إلى الصالبين (متّى ٢٧: ٣٤) بل أن يطلبوا تنقية قلوبهم وتقديس انفعالاتهم الباطنة. من الواضح أن الرسول ما عنى أنه يجب أن يتكلوا على أنفسهم في تطهير قلوبهم بل أن يطلبوا تطهير الروح القدس إياهم كما طلبه داود بقوله «طَهِّرْنِي بِٱلزُّوفَا فَأَطْهُرَ. ٱغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلثَّلْجِ... قَلْباً نَقِيّاً ٱخْلُقْ فِيَّ يَا اَللّٰهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي» (مزمور ٥١: ٧ و١٠).
٩ «ٱكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَٱبْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضِحْكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ».
لوقا ٦: ٢٥ وأمثال ١٤: ١٣ ونحميا ٨: ٩
ٱكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَٱبْكُوا لخطاياكم المذكورة آنفاً. إن ارتكابهم تلك الخطايا أوجب عليهم شديد الحزن. ومرّ البكاء المقترن بالتوبة النصوح الخالصة جداً «لأَنَّ ٱلْحُزْنَ ٱلَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ» (٢كورنثوس ٧: ١٠). فيجب أن «يحزنوا حزن بطرس يوم انكر المسيح» (متّى ٢٦: ٧٥).
لِيَتَحَوَّلْ ضِحْكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ الخ إن الضحك والفرح يليقان بالأبرار الذين تيقنوا أن الله راضٍ عنهم لا بالمجرمين قبل أن يتوبوا ويصالحوا الله الذي أغاظوه بآثامهم. فكان عليهم أن يتوبوا قبل أن يفرحوا. وكانت حالهم كحال بني إسرائيل يوم قال النبي «دَعَا ٱلسَّيِّدُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ إِلَى ٱلْبُكَاءِ وَٱلنَّوْحِ وَٱلْقَرْعَةِ وَٱلتَّنَطُّقِ بِٱلْمِسْحِ، فَهُوَذَا بَهْجَةٌ وَفَرَحٌ، ذَبْحُ بَقَرٍ وَنَحْرُ غَنَمٍ، أَكْلُ لَحْمٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ» (إشعياء ٢٢: ١٢ و١٣).

وجوب الاتضاع أمام الله ع ١٠


١٠ «ٱتَّضِعُوا قُدَّامَ ٱلرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ».
ع ٦ وأيوب ٥: ١١ ومزمور ٢١: ٢٦ ولوقا ١: ٢٥
ٱتَّضِعُوا قُدَّامَ ٱلرَّبِّ هذا طريق الاقتراب إلى الله (ع ٨) والخضوع له (ع ٧) وهو ما يجب على المستكبرين (ع ٦). وهذا على وفق قوله تعالى «هٰكَذَا قَالَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ ٱلأَبَدِ، ٱلْقُدُّوسُ ٱسْمُهُ: فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلْمُرْتَفِعِ ٱلْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ ٱلْمُنْسَحِقِ وَٱلْمُتَوَاضِعِ ٱلرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ ٱلْمُتَوَاضِعِينَ وَلأُحْيِيَ قَلْبَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ» (إشعياء ٥٧: ١٥). ويقرب من هذا قول بطرس «فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ ٱللّٰهِ ٱلْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ» (١بطرس ٥: ٦). وقول المسيح «فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ» (متّى ٢٣: ١٢). والمسيح علّم تلاميذه التواضع باتضاعه فإنه «إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبي ٢: ٦ - ٨). إن التواضع من أجمل الفضائل المسيحية وأندرها وضده الميل إلى الخصومات والحسد والكبرياء التي حذّرهم يعقوب منها.
فَيَرْفَعَكُمْ في هذا العالم بنعمته وإرشاده وفي العالم الآتي بإدخاله إيّاكم حضرة مجده.

تحذير المؤمنين من الذمّ ع ١١ و١٢


١١ «لاَ يَذُمَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ. ٱلَّذِي يَذُمُّ أَخَاهُ وَيَدِينُ أَخَاهُ يَذُمُّ ٱلنَّامُوسَ وَيَدِينُ ٱلنَّامُوسَ. وَإِنْ كُنْتَ تَدِينُ ٱلنَّامُوسَ فَلَسْتَ عَامِلاً بِٱلنَّامُوسِ، بَلْ دَيَّاناً لَهُ».
٢كورنثوس ١٢: ٢٠ و١بطرس ٢: ١ وص ٥: ٧ و٩ و١٠ وص ١: ١٦ و٢٢ ومتّى ٧: ١ ورومية ١٤: ٣ وص ٢: ٨
تكلم الرسول كثيراً في هذه الرسالة على خطايا اللسان وأبان أنها كانت علّة الخصام والانقسام فرجع هنا إلى ذلك ليزيد على ما قاله في (ص ١: ١٩ و٢٦ وص ٣ كله).
لاَ يَذُمَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً تدل القرينة إن الذم المذكور هنا مبني على دينونة أحدهم للآخر بعنف وظنه السوء فيه ونسبته إليه سجايا رديئة وغايات قبيحة وسيرة ملتوية.
أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ دعاهم «إخوة» بياناً لعدم لياقة أن يذم الأخ أخاه. و «الذم» من الخطايا التي خاف بولس من أن تكون بين أعضاء كنيسة كورنثوس عند مجيئه (٢كورنثوس ١٢: ٢٠) وهو ما أمر بطرس كنائس أسيا بطرحه بقوله «ٱطْرَحُوا كُلَّ خُبْثٍ وَكُلَّ مَكْرٍ وَٱلرِّيَاءَ وَٱلْحَسَدَ وَكُلَّ مَذَمَّةٍ» (١بطرس ٢: ١). ولعله قليل من كنائس العالم لا يفتقر إلى هذا النصح.
ٱلَّذِي يَذُمُّ أَخَاهُ وَيَدِينُ أَخَاهُ في إغراضه وغاياته وسيرته خلاف ما يجب على الأخ لأخيه. وهذا لا يمنع الأخ من أن يوبخ أخاه على ما يخالف به شريعة الله الأدبية كما وبخ يوحنا المعمدان هيرودس والنبي ناثان داود بل يمنع أن ينسب إليه غايات رديئة وأغراضاً شخصية إذ لا يعرف خفايا القلوب إلا الله.
يَذُمُّ ٱلنَّامُوسَ وَيَدِينُ ٱلنَّامُوسَ أي ناموس المسيح ناموس الحرية (ص ١: ٢٥) الذي به حُرر المؤمنون من العبودية للفروض اليهودية والذين آمنوا بالمسيح من اليهود اختلفوا في ما بينهم كثيراً في شأن حفظ السنن الموسوية من الأعياد والسبوت والختان والتمييز بين الأطعمة. فالذين ذهبوا إلى تكليف المؤمنين بحفظ تلك الفرائض مالوا إلى ذم الذين لم يقولوا بتكليفهم بها ونشأ عن هذا الاختلاف خصومات وأحزاب في الكنيسة (١كورنثوس ١٠: ١٩ - ٣٢ وكولوسي ٢: ١٦ - ١٨). وبذلك الذمّ يذمّون المسيح الذي رفع عن أعناق المسيحيين نير العبودية للسنن الموسوية ويدينون الناموس الجديد الذي هو روحي سنّه المسيح بدل الناموس الرمزي. وإذ ليس من أمر إلهي بصورة العبادة لا حق لنا أن نذم الذين لا يعبدون الله في الطريق التي نعبده فيها ويسوسون الكنيسة السياسة التي لا نستحسنها ويصلون صلوات مكتوبة ونحن نستحسن الارتجالية ويستحسن الارتجالية ونحن نستحسن المكتوبة. والخلاصة أنه لا يجوز لأحد أن يجعل ضميره قياساً للحكم على أعمال غيره في السنن الدينية فعلينا أن نطيع ضمائرنا ونترك لغيرنا أن يسلك بمقتضى ضميره.
وَإِنْ كُنْتَ تَدِينُ ٱلنَّامُوسَ فَلَسْتَ عَامِلاً بِٱلنَّامُوسِ الخ في هذا تصريح بأنه علينا أن نطيع ناموس الله وأن لا نحكم في شأنه.
١٢ «وَاحِدٌ هُوَ وَاضِعُ ٱلنَّامُوسِ، ٱلْقَادِرُ أَنْ يُخَلِّصَ وَيُهْلِكَ. فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَكَ؟».
إشعياء ٣٣: ٢٢ ص ٥: ٩ متّى ١٠: ٢٨ رومية ١٤: ٤
وَاحِدٌ هُوَ وَاضِعُ ٱلنَّامُوسِ أي الله فالذي يتعدّى حقوق الله بحكمه على ناموسه يغيظه.
ٱلْقَادِرُ أَنْ يُخَلِّصَ وَيُهْلِكَ أي أنه قادر على أن يجري حكمه في إثابة المطيعين وعقاب العصاة. وهذا مثل قول المسيح «خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متّى ١٠: ٢٨). ولو لم تكن له تلك القدرة لم تكن شريعته سوى نُصح وهذه القدرة ترغب الناس في إطاعته وترهبهم من عصيانه.
فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَكَ في الأمور العرضية أو الشخصية أو في ما بينه وبين الله. ليس لك سلطان على ذلك لأنك لا تعلم قلوب الناس لكي تحكم بالصواب على غاياتهم أو أغراضهم من أعمالهم ولا سلطان لك على أن تجازي في العالم الآتي الذين تدينهم فكيف تجسر على أن تدين إخوتك أو الناموس الذي سيدينهم المسيح به. فقوله هنا يشبه قول بولس «مَنْ أَنْتَ ٱلَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ» (رومية ١٤: ٤). والخلاصة قول المسيح «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا» (متّى ٧: ١).

تحذير من فرط الاهتمام بالعالميات ومن الطمع في المستقبل ووجوب الإقرار بأن دوام حياتنا وكل نجاحنا في يدي الله ع ١٣ إلى ١٦


١٣ «هَلُمَّ ٱلآنَ أَيُّهَا ٱلْقَائِلُونَ: نَذْهَبُ ٱلْيَوْمَ أَوْ غَداً إِلَى هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ».
ص ٥: ١ وأمثال ٢٧: ١ ولوقا ١٢: ١٨ - ٢٠
المرجّح أن كلام يعقوب في هذه الآية إلى (ص ٥: ٦) موجه إلى الأغنياء الذين هم خارج الكنيسة وإلى من فيها ممن يشبهونهم في حب الغنى وإهمال ما يجب عليهم لله.
هَلُمَّ ٱلآنَ هذا تنبيه للقراء ليلتفتوا إلى الموضوع لأنه ذو شأن.
أَيُّهَا ٱلْقَائِلُونَ أي الذين اعتادوا أن يتكلموا في ما يدل على الطمع وحب العالم.
نَذْهَبُ ٱلْيَوْمَ أَوْ غَداً إِلَى هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ هذا كقول التجار الذين يجولون بغية الربح الدنيوي ولا يهتمون بغيره فهم شديدو الثقة بدوام حياتهم وسلطتهم واقتدارهم على إجراء كل مقاصدهم. وكانوا يقصدون السفر في يومهم أو في غدهم غير ملتفتين إلى قول الحكيم «لاَ تَفْتَخِرْ بِٱلْغَدِ لأَنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مَاذَا يَلِدُهُ يَوْمٌ» (أمثال ٢٧: ١). ويعيّنون المحل الذي يقصدون الذهاب إليه وينسون أنه «قَلْبُ ٱلإِنْسَانِ يُفَكِّرُ فِي طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ يَهْدِي خَطْوَتَهُ» (أمثال ١٦: ٩). وأنه «لَيْسَ لإِنْسَانٍ يَمْشِي أَنْ يَهْدِيَ خَطَوَاتِهِ» (إرميا ١٠: ٢٣).
وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً يعتمدون هذا كأن تدبير حياتهم كل السنة في سلطانهم وكأنهم عرفوا كل ما يحدث فيها.
وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ هذا دليل على أنه لم يكن لهم سوى المقصد الدنيوي. ويعقوب لم ينسب إليهم إثماً لاتجارهم بل لعدم التفاتهم إلى الله في مقصدهم وفرط ثقتهم بأنفسهم في دوام حياتهم واقتدراهم على العمل.
١٤ «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ ٱلْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ».
مزمور ١٠٢: ٣ وأيوب ٧: ٧ ومزمور ٣٩: ٥ و١٤٤: ٤
أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ ٱلْغَدِ أي أنتم من الجنس البشري الذي ليس له في طاقته أن يعرف أمور المستقبل فأنتم تجهلون حوادثه ومنها بقاؤكم أصحاء عقلاء أحياء فأنتم تجهلون كل ذلك. وهذا يذكرنا قول المسيح في العبد الخائن الذي «قَالَ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ. فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ ٱلْعَبِيدَ رُفَقَاءَهُ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ ٱلسُّكَارَى. يَأْتِي سَيِّدُ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا، فَيُقَطِّعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ ٱلْمُرَائِينَ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ» (متّى ٢٤: ٤٨ - ٥١).
لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ هذا الاستفهام للاستخفاف بالحياة لعدم ثبوتها وعدم الإركان إليها.
إِنَّهَا بُخَارٌ أو وأنتم بخار كما في حاشية الإنجيل ذي الشواهد. والبخار من أخف المواد وأسرعها زوالاً ويختلف قليلاً عن الخيال الذي ليس بمادة وهذا مثل قول أيوب «حَيَاتِي إِنَّمَا هِيَ رِيحٌ» (أيوب ٧: ٧). وقول بلدد الشوحي «أَنَّنَا نَحْنُ مِنْ أَمْسٍ وَلاَ نَعْلَمُ، لأَنَّ أَيَّامَنَا عَلَى ٱلأَرْضِ ظِلٌّ» (أيوب ٨: ٩). وقول داود «أَيَّامِي كَظِلٍّ مَائِلٍ» وقوله «ٱلإِنْسَانُ أَشْبَهَ نَفْخَةً. أَيَّامُهُ مِثْلُ ظِلٍّ عَابِرٍ» وقوله في الناس «أَنَّهُمْ بَشَرٌ. رِيحٌ تَذْهَبُ وَلاَ تَعُودُ» (مزمور ١٠٢: ١١ و٧٨: ٣٩ و١٤٤: ٤). ويقتضي كون حياة الإنسان زائلة غير محققة البقاء لينال كل ما يقصده في المستقبل لأنها كلها تتوقف على بقائه حياً. فليس أحد يتوقع بقاء البخار الذي يظهر على جبل قبل شروق الشمس ويضمحل بعد قليل فيجب كذلك أن لا يتوقع أحد البقاء طويلاً.
١٥ «عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: إِنْ شَاءَ ٱلرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هٰذَا أَوْ ذَاكَ».
أعمال ١٨: ٢١
عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا هذا متعلق بالآية الثالثة عشرة والآية الرابعة عشرة معترضة لبيان جهلهم والمعنى أنكم تقولون نذهب الخ عوض ما يجب أن تقولوا الخ.
إِنْ شَاءَ ٱلرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ الخ في هذا إقرار بأن الله ملك وأن كل الأمور متوقفة على مشيئته وقضائه في بقاء حياتنا واقتدرانا على العمل. ومن أمثال استعمال هذا القول في محله قول بولس لأهل أفسس «سَأَرْجِعُ إِلَيْكُمْ أَيْضاً إِنْ شَاءَ ٱللّٰهُ» (أعمال ١٨: ٢١). وقوله لكنيسة كورنثوس «سَآتِي إِلَيْكُمْ سَرِيعاً إِنْ شَاءَ ٱلرَّبُّ» وقوله «أَرْجُو أَنْ أَمْكُثَ عِنْدَكُمْ زَمَاناً إِنْ أَذِنَ ٱلرَّبُّ» (١كورنثوس ٤: ١٩ و١٦: ٧). ولا يجوز أن نكتفي بلفظ تلك العبارة كما اعتاد الكثيرون لفظها بلا فكر بل يجب أن نشعر حقيقة بافتقارنا إلى الله وتوقف أمورنا على مشيئته.
١٦ «وَأَمَّا ٱلآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ. كُلُّ ٱفْتِخَارٍ مِثْلُ هٰذَا رَدِيءٌ».
١كورنثوس ٥: ٦
وَأَمَّا ٱلآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ بدلاً مما يجب أن تشعروا به وتقولوه من افتخاركم بالرب وعنايته بكم فإنكم تفتخرون بما تفعلونه وبمهارتكم وحكمتكم والنجاح الذي تحصلون عليه غير ملتفتين إلى الله والإقرار بأنه سيدكم وحافظكم.
كُلُّ ٱفْتِخَارٍ مِثْلُ هٰذَا رَدِيءٌ لأنه ناشئ عن الكبرياء والاتكال على أنفسكم فهو كفر بالله وبنعمته وإنكار حقوقه ولأنه يمنعكم من نيل بركة الله التي يتوقف عليها كل النجاح ويجعلكم عرضة لسخطه ونقمته.

خطيئة من يعلم ولا يعمل ع ١٧


١٧ «فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلاَ يَعْمَلُ، فَذٰلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ».
لوقا ١٢: ٤٧ و٢بطرس ٢: ٢١ ويوحنا ٩: ٤١
هذه الآية نتيجة كل ما سبق والعمل الحسن فيها هو ما يأمر الله به وما يحث الضمير عليه وهو خلاف الرديء المذكور في (ع ١٦) وفيها إنذار لمن يكتفون بمجرد معرفة الواجبات فتذكرنا بقول بطرس «قَدِّمُوا فِي ٱلْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفاً، وَفِي ٱلتَّعَفُّفِ صَبْراً، وَفِي ٱلصَّبْرِ تَقْوَى الخ» (٢بطرس ١: ٦ و٧). ولمن لا يظنون أنهم يخطأون إلا حين يخالفون وصايا صريحة مشهورة. وتبين أنه يجب على كل إنسان أن يفعل كل ما يستطيعه من الخير لكل الذين يحتاجون إليه على قدر إمكانه ما دام حياً. وتوضح خاصة فظاعة خطيئة من يخطأ على رغم ما له من النور والمعرفة وتنبيهات الضمير. فحين يرتكب الإثم وهو يعرف أن يعمل حسناً يأتي أعظم الشرور.


اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ


توبيح الأغنياء وإنذارهم على ظلمهم (ع ١ - ٦) وجوب أن يصبر المؤمنون على المظالم ومثل الفلاح الذي يتوقع الغلة ومثل الأنبياء ولا سيما أيوب والرب يسوع نفسه (ع ٧ - ١١). ووجوب الامتناع عن القسم (ع ١٢). كيف يجب التصرف في الحزن والأفراح والمرض ووجوب أن يعترف بعضنا لبعض بالزلات وبيان قوة الصلاة من نبإ إيليا (ع ١٣ - ١٨). وجوب رد الضال عن ضلاله (ع ١٩ و٢٠).
توبيح الأغنياء وإنذارهم ع ١ إلى ٦


١ «هَلُمَّ ٱلآنَ أَيُّهَا ٱلأَغْنِيَاءُ، ٱبْكُوا مُوَلْوِلِينَ عَلَى شَقَاوَتِكُمُ ٱلْقَادِمَةِ».
ص ٤: ١٣ ولوقا ٦: ٢٤ و١تيموثاوس ٦: ٩ وإشعياء ١٣: ٦ و١٥: ٣ وحزقيال ٣٠: ٢
كان يجب أن يكون الفصل الذي أوله هذه الآية جزءاً من الأصحاح الرابع لأنه متعلق به.
هَلُمَّ (انظر تفسير ص ٤: ١٣).
أَيُّهَا ٱلأَغْنِيَاءُ الذين منهم محبو الغنى والظالمون والبخلاء. إن الكتاب المقدس لا يحرّم اقتناء الثروة بل يحرّم فرط الرغبة في تحصيلها وتفضيل الغنى العالمي على الغنى الروحي واتخاذ ما حُرم من الوسائل لتحصيله وخزنه للافتخار وحب الذات وإنفاقه على الغايات النفسية بدلاً من إنفاقه على الفقراء والمحتاجين وبذله في سبيل المسيح وإنجيله.
ٱبْكُوا مُوَلْوِلِينَ عَلَى شَقَاوَتِكُمُ ٱلْقَادِمَةِ وفي هذا نبوءة تحقق قرب نزول النوازل بهم على خطاياهم في طريق تحصيلهم الغنى وسوء الإنفاق وضيق القلوب وحزنها الشديد من ذلك وهذا كقول إشعياء النبي «وَلْوِلُوا لأَنَّ يَوْمَ ٱلرَّبِّ قَرِيبٌ، قَادِمٌ كَخَرَابٍ مِنَ ٱلْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. لِذٰلِكَ تَرْتَخِي كُلُّ ٱلأَيَادِي، وَيَذُوبُ كُلُّ قَلْبِ إِنْسَانٍ» (إشعياء ١٣: ٦ و٧). ذهب بعض المفسرين إلى أن يعقوب أشار هنا إلى الضيقات التي ستأتي عليهم في وقت خراب أورشليم ولكن تلك الضيقات كانت تقع على الفقراء والأغنياء سواء. والمرجّح أنه أشار إلى انتقام الله منهم يوم مجيء المسيح ثانية ليدين العالمين. وليس في هذا الكلام من دعوة للخطأة إلى التوبة ولا وعد بالمغفرة للتائبين لكننا نرى في كل الكتاب المقدس أن غاية الله من الإنذار بالسخط والنقمة رد الخطأة إلى الله بالتوبة وطلب نعمته وغفرانه.
٢ «غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ، وَثِيَابُكُمْ قَدْ أَكَلَهَا ٱلْعُثُّ».
أيوب ١٣: ٢٨ ومتّى ٦: ١٩ وإشعياء ٥٠: ٩
غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ أي ما جمعتم من مواد الثروة بلا حق وخزنتموه أفسده الصدأ وغيره وعبّر عن المستقبل بالماضي لتحقيق وقوعه.
وَثِيَابُكُمْ قَدْ أَكَلَهَا ٱلْعُثُّ لم يكن في ذلك الزمان مصارف كما في عصرنا يوضع فيها المال فيُحفظ لكنهم كانوا يخبأون النقود في المخابئ فتصدأ أو تُسرق (إشعياء ٤٥: ٣) والثياب الفاخرة في الصناديق وما أشبهها فيأكلها العث (أيوب ١٣: ٢٨ وإشعياء ٥١: ٨ ومتّى ٦: ١٩ و٢٠).
٣ «ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا، وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ، وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ! قَدْ كَنَزْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ».
ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا يمكن أن يفقد كل من الذهب والفضة لونه ولمعانه في الكنز مدة طويلة لكنهما كانا مخلوطين بما يصدأ كالنحاس كما يحدث كثيراً. ولعل يعقوب نسب إليهما ما هو من خواص غيرهما من المتطرّقات إيماء إلى عدم بقائهما لأربابهما.
وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ إن الله أعطى الناس الذهب والفضة لكي ينفقوهما في سبيل الخير كما أمر فوجود علامات الفساد عليهما دليل على عدم استعمالهما الغاية التي قصدها الله فيشهد صدأهما عليهم بالكسل والخيانة كما حكم المسيح على «ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ وَٱلْكَسْلاَنُ» الذي «حَفَرَ فِي ٱلأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ» (متّى ٢٥: ١٨ و٢٦).
وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ أي يكون رمزاً إلى نار دينونة الله لهم. وفي هذا تصريح أن المال الذي هو أجرة شهادة الزور والرشوة التي يأخذها القضاة الظالمون وما يربحه الناس بالكذب والغش والمقامرة وبيع المسكرات والسرقة والظلم والفجور يحرق أيدي الناس ويعذب نفوسهم.
قَدْ كَنَزْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ أي الأيام التي قبل مجيء الرب للدينونة (٢تيموثاوس ٣: ١) وهي الأيام التي منحها الله للتوبة وخلاص النفس فقال إنهم شغلوها بجمع المال الفاني الذي لم ينتفعوا به. اعتبر يعقوب هذه الأيام كالزمان الذي فيه «كَانَتْ أَنَاةُ ٱللّٰهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ» (١بطرس ٣: ٢٠ وتكوين ٦: ٣). وكالأيام التي توقع الله فيها أن يكون «ذَنْبَ ٱلأَمُورِيِّينَ قد كمل» ليهلكهم (تكوين ١٥: ١٦). وكان يعقوب يعتقد أن مجيء الرب قريب كما أراد المسيح أن يعتقده تلاميذه في كل عصر لكي يكونوا مستعدين ومتوقعين مجيئه ومصابيحهم موقدة (لوقا ١٢: ٣٥).
٤ «هُوَذَا أُجْرَةُ ٱلْفَعَلَةِ ٱلَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ ٱلْمَبْخُوسَةُ مِنْكُمْ تَصْرُخُ، وَصِيَاحُ ٱلْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ إِلَى أُذُنَيْ رَبِّ ٱلْجُنُودِ».
لاويين ١٩: ١٣ وأيوب ٢٤: ١٠ وإرميا ٢٢: ١٣ وملاخي ٣: ٥ وتثنية ٢٤: ١٥ وأيوب ٣١: ٣٨ وخروج ٢: ٢٣ ورومية ٩: ٢٩
هُوَذَا أُجْرَةُ ٱلْفَعَلَةِ ٱلَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ ٱلْمَبْخُوسَةُ مِنْكُمْ وصف في هذه الآية أحد أنواع الظلم الذي ارتكبه الأغنياء لتحصيل الغنى وهو بخس أجرة الفاعل خلافاً لما أمر به الله في شريعة موسى بدليل قوله «لاَ تَبِتْ أُجْرَةُ أَجِيرٍ عِنْدَكَ إِلَى ٱلْغَدِ» (لاويين ١٩: ١٣). وقوله «لاَ تَظْلِمْ أَجِيراً مِسْكِيناً وَفَقِيراً مِنْ إِخْوَتِكَ أَوْ مِنَ ٱلْغُرَبَاءِ ٱلَّذِينَ فِي أَرْضِكَ فِي أَبْوَابِكَ. فِي يَوْمِهِ تُعْطِيهِ أُجْرَتَهُ، وَلاَ تَغْرُبْ عَلَيْهَا ٱلشَّمْسُ، لأَنَّهُ فَقِيرٌ وَإِلَيْهَا حَامِلٌ نَفْسَهُ، لِئَلاَّ يَصْرُخَ عَلَيْكَ إِلَى ٱلرَّبِّ فَتَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيَّةٌ» (تثنية ٢٤: ١٤ و١٥ أنظر أيضاً إرميا ٢٢: ١٣ وملاخي ٣: ٥).
تَصْرُخُ تصوّر يعقوب أجرة الفعلة المبخوسة المخزونة في خزائنهم تصرخ كدم هابيل يصرخ إلى الله للانتقام من قاتله (تكوين ٤: ١٠) وكالحجر الصارخ من الحائط المذكور في نبوءة حبقوق (حبقوق ٢: ١١).
وَصِيَاحُ ٱلْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ إِلَى أُذُنَيْ رَبِّ ٱلْجُنُودِ حسب صياح المظلومين مقترناً بصياح الفعلة المبخوسي الأجرة بغية العدل وتحصيل الحقوق وإجابة طلباتهم. ودعا الله هنا «رب الجنود» اقتداء بالنبي ملاخي فإنه دعاه كذلك ثلاثاً وعشرين مرة ووصفه بأنه جالس على كرسي الدينونة ليسمع دعوات الأبرار المظلومين ويعاقب الظالمين (ملاخي ٣: ٥). وذهب بعضهم إلى أن أيوب دعا الله «رب الجنود» تعزية للفقراء الذين خافوا من أنه لا معين لهم (مزمور ٧٢: ١٢).
٥ «قَدْ تَرَفَّهْتُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَتَنَعَّمْتُمْ وَرَبَّيْتُمْ قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي يَوْمِ ٱلذَّبْحِ».
لوقا ١٦: ١٩ و٢بطرس ٢: ١٢ وخروج ١٦: ٤٩ و١تيموثاوس ٥: ٦ وإرميا ١٢: ٣ و٢٥: ٣٤
في هذه الآية والتي تليها وبّخ يعقوب الأغنياء الأشرار على خطيئتين فوق بخس الأجرة وهما الترفه وقتل الأبرار.
تَرَفَّهْتُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ تصوّر يعقوب إن رب الجنود يدين الأغنياء أمام عرشه على الخطايا التي يرتكبونها على الأرض ويخطئهم على رفاهة عيشهم عليها وفرط إسرافهم فكانوا كالمذكورين في سفر نحميا (نحميا ٩: ٢٥) ونبوءة حزقيال (حزقيال ١٦: ٤٩) ونبوءة عاموس (عاموس ٦: ٤ - ٦) والمذكور في بشارة لوقا (لوقا ١٦: ١٠) وكان ترفههم أعظم شر بالنظر إلى مشقات الفعلة الذين تعبوا في تحصيل ذلك المال الذي أُمسك عنهم وأُنفق على الفجور.
وَرَبَّيْتُمْ قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي يَوْمِ ٱلذَّبْحِ أي سمّنتم أبدانكم كما تُسمن الثيران والخراف ليوم الوليمة فإنهم كذلك أعدوا نفوسهم ليوم الدينونة اختياراً بانهماكهم في اللذات وهذا مثل ما في (إرميا ٢٤: ٣٤ ورؤيا ١٩: ١٧ و١٨).
٦ «حَكَمْتُمْ عَلَى ٱلْبَارِّ. قَتَلْتُمُوهُ. لاَ يُقَاوِمُكُمْ!».
عبرانيين ١٠: ٣٨ و١بطرس ٤: ١٨ وص ٤: ٢
حَكَمْتُمْ عَلَى ٱلْبَارِّ. قَتَلْتُمُوهُ هذه الخطيئة الثالثة من الخطايا التي وبخ يعقوب هؤلاء الأغنياء عليها. وذهب بعضهم أن المراد «بالبار» هنا يسوع المسيح الذي أنكره اليهود وقتلوه كما جاء في (أعمال ٣: ١٤ و٧: ٥٢) وإن معنى يعقوب هنا أن جرم قتل المسيح عليهم لأنهم من أمة اليهود الذين قالوا «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا» (متّى ٢٧: ٢٥). وقد ملأوا مكيال آبائهم بأعمال كأعمالهم (متّى ٢٣: ٣٢). لكن لا قرينة هنا تدل على هذا المعنى وينفيه قوله «لا يقاومكم» فإن هذا يصدق على ما في الحال لا على ما في الماضي فالأرجح أن المراد «بالبار» جنس الأبرار الذين أماتوهم بظلمهم وخداعهم وتهمهم الباطلة وإن معاملتهم لشعب المسيح كانت كمعاملة اليهود للمسيح.
لاَ يُقَاوِمُكُمْ أشار بهذا إلى صبر الأتقياء الأبرار وحلمهم بأنهم لم يقاوموا مضطهديهم بل تركوا أمورهم لله.

وجوب الصبر على المؤمنين ع ٧ إلى ١١


٧ «فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّ. هُوَذَا ٱلْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ ٱلأَرْضِ ٱلثَّمِينَ مُتَأَنِّياً عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ ٱلْمَطَرَ ٱلْمُبَكِّرَ وَٱلْمُتَأَخِّرَ».
ص ٤: ١١ وع ٩ و١٠ ويوحنا ٢١: ٢٢ و١تسالونيكي ٢: ١٩ وغلاطية ٦: ٩ وتثنية ١١: ١٤ وإرميا ٥: ٢٤ ويوئيل ٢: ٢٣
عدل الرسول هنا عن توبيخ اليهود الأغنياء الظالمين وأخذ يخاطب إخوته المظلومين ويحثّهم على احتمال الجور بلا تذمّر.
فَتَأَنَّوْا... إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّيحتمل «مجيء الرب» هنا ثلاثة معان الأول إتيانه إليهم عند الموت ليأخذ نفوسهم. الثاني إتيانه ليهدم أورشليم ويبطل كون اليهود أمة. الثالث إتيانه ليدين العالم ويدخل شعبه دار المجد. والمعاني الثلاثة حسنة هنا ولا نعلم الذي قصده الرسول منها ولكن الأخير هو المرجح لأن يوم انتقام الله من الظالم هو يوم راحة وسلام للمظلومين. وأراد يعقوب في هذا الموضع بعض أمثلة الصبر ليرغبهم في أن يحتملوا امتحانهم إلى نهايته وإلى بداءة إثابة الله لهم.
هُوَذَا ٱلْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ ٱلأَرْضِ ٱلثَّمِينَ إذ ليس في طاقته بعد إلقاء البذار أن يعجّل وقت الحصاد فلم يبق له إذ ذاك إلا أن ينتظر أن الله يرسل المطر وينشر حرارة الشمس لينبت الزرع ويُدرك.
مُتَأَنِّياً معتصماً بالصبر مدة كل الأشهر بين البذر والحصاد فلا ينفذ صبره.
ٱلْمَطَرَ ٱلْمُبَكِّرَ وَٱلْمُتَأَخِّرَ كما ذكر في (تثنية ١١: ١٦ وأيوب ٢٩: ٢٣ وإرميا ٥: ٢٤). فوقف المطر المبكر ما بين منتصف تشرين الأول ونهاية تشرين الثاني وذلك وقت الفلاحة والبذر. والمتأخر ما بين أول آذار ومنتصف نيسان وأوله المعروف بالوسمي وهو وقت امتلاء السنابل ونضجها.
٨ «فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ».
لوقا ٢١: ١٩ و١تسالونيكي ١٣: ٣ ورومية ١٣: ١١ و١٢ و١بطرس ٤: ٧
فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ أي تمثلوا بالفلاّح في الصبر والانتظار فتوقعوا النجاة من المشقات في وقتها كما يتوقع الفلاّح الحصاد في وقته.
وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ أي ليكن إيمانكم قوياً ورجاؤكم وطيداً فلا تكلوا ولا تضجروا.
لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ ذكر قرب مجيء الرب علّة ثانية للصبر والرجاء. ونقول هنا كما قلنا في الآية السابعة إننا لا نقدر أن نحكم بما قصده من هذا المجيء أليَدين هو أم ليقبل نفس المؤمن عند موته أم ليهدم المملكة اليهودية ومدينة أورشليم. إن يعقوب كتب هذه الرسالة قبل خراب أورشليم بنحو عشر سنين وأنباء المسيح بذلك الخراب (متّى ص ٢٤) جعل كل المسيحيين ينتظرونه. ويحتمل أنه ظهرت يومئذ بعض علامات قربه. وأراد المسيح أن يكون شعبه كله متوقعاً مجيئه بالمجد ويستعدوا له. والموت قريب من كل إنسان فيصح قول الرسول بكل معانيه. وهذا موافق لقول بولس «الرب قريب» (فيلبي ٤: ٥) وقول بطرس «إِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ» (١بطرس ٤: ٧).
٩ «لاَ يَئِنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ لِئَلاَّ تُدَانُوا. هُوَذَا ٱلدَّيَّانُ وَاقِفٌ قُدَّامَ ٱلْبَابِ».
ص ٤: ١١ و١٢ و١كورنثوس ٤: ٥ وعبرانيين ١٠: ٢٥ و١بطرس ٤: ٥ ومتّى ٢٤: ٣٣ ومرقس ١٩: ٢٣
لاَ يَئِنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ الأنين ينتج من مرض وألم وضجر وجزع فالذين احتملوا المشقات زمناً طويلاً عرضة لأن يكونوا سريعي الغضب ولأن يتذمروا من أنفسهم ومن أصدقائهم فيخطئوهم ويحسدوا المستريحين منهم. فأنذرهم من أن يسلموا للتجربة فيسأموا من أهل مودتهم.
لِئَلاَّ تُدَانُوا من المسيح الذي هو يحامي عن كل من عيب بلا حق وشُكيَ ظلماً. وهذا مثل قول المسيح «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا» (متّى ٧: ١).
هُوَذَا ٱلدَّيَّانُ وَاقِفٌ قُدَّامَ ٱلْبَابِ الديّان هو المسيح ومعنى العبارة كمعنى قوله «لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ» (ع ٨). وهو مثل قول المسيح «أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى ٱلأَبْوَابِ» (متّى ٢٤: ٣٣). وعلة احتمال شكايات الإخوة بالصبر والكف عن دينونتهم علة احتمال اضطهادات الأشرار وهي قرب مجي الديّان العادل الذي سمع ويسمع كل ما قيل عليهم باطلاً ويرى كل ما أُسيء به إليهم وينصفهم.
١٠ «خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالاً لاحْتِمَالِ ٱلْمَشَقَّاتِ وَٱلأَنَاةِ: ٱلأَنْبِيَاءَ ٱلَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
متّى ٥: ١٢
خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالاً... ٱلأَنْبِيَاءَ إن علة الصبر على احتمال الضيقات مثل الذين سبقوا إلى السماء محتملين مشاق الطرق فكون أولئك الأنبياء قد اضطّهدوا علّة توقع أن يُضطهد غيرهم من الأبرار وعلّة أن يصبروا على النوازل. إن رجال الله الملهمين قد أصيبوا بمصائب عظيمة فوجب أن لا يتعجب غيرهم من الأتقياء في كل عصر إذا دعاهم الله إلى احتمال المشقات وإن الله قد عضدهم وعزاهم حتى استطاعوا الثبات فعلى غيرهم أن يتوقعوا منه المساعدة والتعزية لكي يثبتوا. إن مُثُل القديسين في عهد الإنجيل كمُثُل أنبياء العهد القديم فإن المحدثين أظهروا ما أظهره القدماء من الإيمان والثبات وهم مُثل لكل من بعدهم.
١١ «هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ ٱلصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ ٱلرَّبِّ. لأَنَّ ٱلرَّبَّ كَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ».
متّى ٥: ١٠ و١بطرس ٣: ١٤ وأيوب ١: ٢١ و٢: ١٠ و٤٢: ١٠ و١٢ وخروج ٣٤: ٦ ومزمور ١٠٣: ٨
هَا نَحْنُ المؤمنين المتعلمين بروح الله. أشار بهذا إلى نفسه وكل من يحكم بالصواب.
نُطَوِّبُ ٱلصَّابِرِينَ أي الذين يحتملون الامتحان إلى النهاية بإيمان وصبر. وهذا موافق لقول المسيح «طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ الخ» (متّى ٥: ١٠ - ١٢).
قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ ونبأه مفصّل في السفر المنسوب إليه ومثل به لامتيازه بالمصائب والصبر (أيوب ١: ٢١).
وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ ٱلرَّبِّ أي ما قصده الرب من ابتلاء أيوب وحسن العاقبة التي هي مدح الله إياه على صبره وإثابته في هذا العالم بضعفي ما خسره. فالمقصود من سفر أيوب بيان أن الله رفيق المصابين وصديقهم ومثيب الصبور لا مجرد تقديم أيوب مثالاً لأهل البلاء.
لأَنَّ ٱلرَّبَّ كَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ لأنه شفق على أيوب يوم البلّية وسرّ بإثابته في نهاية امتحانه. وقصد الله أن شعبه يتعزى في ضيقاته بمثال ما كان لأيوب من رحمته ورأفته وأن ينتظر مثله «عاقبة الرب».

وجوب اجتناب القسَم ع ١٢


١٢ «وَلٰكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ يَا إِخْوَتِي لاَ تَحْلِفُوا لاَ بِٱلسَّمَاءِ وَلاَ بِٱلأَرْضِ وَلاَ بِقَسَمٍ آخَرَ. بَلْ لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ وَلاَكُمْ لاَ، لِئَلاَّ تَقَعُوا تَحْتَ دَيْنُونَةٍ».
متّى ٥: ٣٤ الخ وص ١: ١٦
قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ... لاَ تَحْلِفُوا نظر يعقوب في أحوال الذين كتب إليهم علّة خاصة لهذا النهي. اعتاد يهود ذلك العصر الإكثار من الحلف في الأمور الزهيدة وكانوا يحلفون بالمخلوقات ويستخفون بالحنث مع أنهم لم يحلفوا باسم الله الأعظم وهو «يهوه» والمرجّح أن يعقوب رأى المتنصرين منهم لم يقلعوا عن تلك العادة لتعودهم إياها منذ الصغر وكانوا يضجرون من المشقات فكانوا عرضة لأن يشفوا غيظهم بالحلف فنهاهم الرسول عنه لأنه مناف لخُلق الحلم الذي كان عليهم أن يتخلقوا به.
لاَ بِٱلسَّمَاءِ وَلاَ بِٱلأَرْضِ وَلاَ بِقَسَمٍ آخَرَ هذا كقول المسيح «لاَ تَحْلِفُوا ٱلْبَتَّةَ، لاَ بِٱلسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ ٱللّٰهِ، وَلاَ بِٱلأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ... وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ» (متّى ٥: ٣٤ - ٣٦). فيظهر إن كلام يعقوب مانع من كل قسم لكن يجب أن نذكر أنه لم ينه عن الحلف باسم الله عند الاقتضاء فإن الله أمر به في كتابه بدليل قوله «ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ تَتَّقِي، وَإِيَّاهُ تَعْبُدُ، وَبِٱسْمِهِ تَحْلِفُ» (تثنية ٦: ١٣). وقول الرسول «فَإِنَّ ٱلنَّاسَ يُقْسِمُونَ بِٱلأَعْظَمِ، وَنِهَايَةُ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ عِنْدَهُمْ لأَجْلِ ٱلتَّثْبِيتِ هِيَ ٱلْقَسَمُ. فَلِذٰلِكَ إِذْ أَرَادَ ٱللّٰهُ أَنْ يُظْهِرَ أَكْثَرَ كَثِيراً لِوَرَثَةِ ٱلْمَوْعِدِ عَدَمَ تَغَيُّرِ قَضَائِهِ، تَوَسَّطَ بِقَسَمٍ» (عبرانيين ٦: ١٦ و١٧). ويسوع نفسه حين استحلفوه لكي يشهد بأنه هو المسيح أجابهم إلى ذلك (متّى ٢٦: ٦٣ و٦٤). وبولس حلف إثباتاً لما قاله (٢كورنثوس ١: ٣٣). فإذاً يجوز للمسيحي أن يحلف بالله في الأمور ذات الشأن مع كل وقار قدام القضاة. فما نُهي عنه هنا هو الحَلف لغير داع وبلا وقار في الأمور الزهيدة والمحادثات العادية (انظر تفسير متّى ٥: ٣٣ و٣٤).
لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ وَلاَكُمْ لاَ هذا كقول المسيح في (متّى ٥: ٣٧) والمعنى وجوب الاكتفاء بقولنا نعم أو لا حسب مقتضى الحال بدون قسم بالله أو بشيء من مخلوقاته.
لِئَلاَّ تَقَعُوا تَحْتَ دَيْنُونَةٍ كالدينونة المذكورة في الوصية الثالثة وهو قوله تعالى «لاَ تَنْطِقْ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ ٱلرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِٱسْمِهِ بَاطِلاً» (خروج ٢٠: ٧).

كيف يجب التصرف في الحزن وفي الفرح وفي المرض ع ١٣ إلى ١٦


١٣ «أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ. أَمَسْرُورٌ أَحَدٌ؟ فَلْيُرَتِّلْ».
ع ١٠ ومزمور ٥٠: ١٥ وكولوسي ٣: ١٦ و١كورنثوس ١٤: ١٥
أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ كالاضطهاد وخسارة العافية والمال والأصدقاء والألم والخيبة وأمثال ذلك.
فَلْيُصَلِّ إن الصلاة في مثل تلك الأحوال غريزية وذلك دليل على أنها مرضية لله. فيجب أن نصلي لأن الله قادر أن يزيل كل أسباب الكدر ويجعلها وسائل بركة (انظر ٢أيام ٢٣: ١٢ ومزمور ٣٤: ٤ و١٠٧: ٦ و١٣ و٢٨).
أَمَسْرُورٌ أَحَدٌ أي أسعيد أو خال من المحزنات.
فَلْيُرَتِّلْ أي فليظهر سروره بالترنّم لله وحده أو مع الجمهور (١كورنثوس ١٤: ١٥ وأفسس ٥: ١٩ و٢٠). على المسيحيين أن لا يبتعدوا عن عرش الله في شدة أو رخاء وأن يحدقوا به بالصلوات في الضرّاء وبترانيم الحمد في السرّاء.
١٤ «أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ ٱلْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
أعمال ١١: ٣٠ ومرقس ٦: ٣ و١٦: ١٨
أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ ذكر البلايا على وجه العموم في (ع ١٣) وذكر هنا واحدة منها وبيّن كيف يجب أن يُتصرف في أثنائها.
فَلْيَدْعُ شُيُوخَ ٱلْكَنِيسَةِ أي الكنيسة التي هو عضو منها وأراد «بشيوخ الكنيسة» رؤساءها الدينيين لا المتقدمين في السن.
فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ ملتمسين شفاء جسده كما تدل القرينة.
وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ اعتاد أهل الشرق أن يعالجوا المرض بزيت الزيتون كما صنع السامري الصالح فإنه سكب الزيت على جراح الإنسان الذي نزل من أورشليم إلى إريحا ووقع بين اللصوص فجرحوه (لوقا ١٠: ٣٤) وكان يُستعمل قديماً إشارة إلى فعل الروح القدس فإنهم كانوا يمسحون به الكهنة والملوك يوم رسمهم (لاويين ٨: ١٢ و١صموئيل ١٠: ١ ومزمور ٨٩: ٢٠ وزكريا ٤: ١٤).
بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أي بسلطان الرب. واستعمل تلاميذ المسيح ذلك في المعمودية وصنع المعجزات (أعمال ٢: ٣٨ و٣: ٦ و٤: ١٠ و١٠: ٤٨ و١٦: ١٨ و١٩: ٥ و١٣). و «الدهن بالزيت» هنا كان بأيدي «شيوخ الكنيسة وباسم الرب» فوجب أن نفهم من ذلك أن الزيت اتُخذ يومئذ إشارة إلى فعل الروح القدس ونعمته في شفاء المريض كما فعل الاثنا عشر بدليل قول البشير «وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ» (مرقس ٦: ١٣). ولعلهم استعملوا الزيت كما استعمل المسيح الطين بأن طلى به عيني الأعمى يوم أبرأه دلالة على أنه هو الذي أنشأ البرء (يوحنا ٩: ٦) لكنهم قصدوا الإشارة إلى فعل الروح الشافي فإذاً كان ذلك الدهن رمزاً لأنه كان مقترناً بصلاة الإيمان. وكانت موهبة شفاء الأمراض إحدى مواهب الروح الخارقة العادة التي أُعطيتها الكنيسة في عصر الرسل بدليل قول الرسول «فَإِنَّهُ لِوَاحِدٍ يُعْطَى بِٱلرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ... وَلآخَرَ إِيمَانٌ بِٱلرُّوحِ ٱلْوَاحِدِ. وَلآخَرَ مَوَاهِبُ شِفَاءٍ بِٱلرُّوحِ ٱلْوَاحِدِ» (١كورنثوس ١٢: ٨ و٩). والمرجّح أن الروح القدس كان يعطي علامات يُعرف بها الرسل وغيرهم ممن كانوا يصنعون المعجزات متى يريد أن يصنع المعجزة ومن هو الذي يريد أن يشفيه لأنه لم يُشف كل المرضى الذين صلوا عليهم وإلا لم يمت بالمرض أحد من المؤمنين وما ترك بولس تروفيموس مريضاً في ميليتس (٢تيموثاوس ٤: ٢٠) بل دهنه بزيت وشفاه.
إن موهبة الشفاء ارتفعت من الكنيسة حين رُفعت سائر المواهب الخارقة العادة بعد إتمام غايتها في تأسيس الكنيسة فلم يبق من داع للدهن بالزيت على الوجه المذكور. ولا حاجة إلى أن نبين هنا المباينة العظمى بين ما ذُكر هنا «وسر المسحة» المعروف عند بعض الفرق المسيحية ومن ذلك أنهم لا يدهنون المريض إلّا وهو على وشك الموت واليأس من الشفاء فإنهم بعد أن يعترف بخطاياه ويتناول العشاء الربي يدهنون بعض أجزاء بدنه لكي يحصل بذلك على المغفرة والخلاص. ولكن الدهن الذي ذكره يعقوب كان يستعمل للشفاء من المرض لا إعداداً للموت وكان لنفع الجسد لا لنفع الروح. وكان علامة معجزة منتظر أن تنشأ بقوة الروح القدس خاصة ولم يكن لتحصيل المغفرة التي يجب أن تُطلب لكل نفس تحضر أمام الديان. نعم إن أيام المعجزات مضت ولا دليل اليوم على أن الأمراض العادية نتائج خطايا خاصة ولكن يليق أنه إن مرض أحد أن يسأل الله الشفاء وإن سأل القسوس والإخوة أن يشاركوه في الصلاة لله لكي يبارك الوسائل المستعملة لعلاجه ويشفيه ويجعل مرض جسده وسيلة إلى نفع نفسه كما نفع الملك حزقيال ونال الشفاء من يد الرب (٢ملوك ٢٠: ١ - ٦).
١٥ «وَصَلاَةُ ٱلإِيمَانِ تَشْفِي ٱلْمَرِيضَ وَٱلرَّبُّ يُقِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ خَطِيَّةً تُغْفَرُ لَهُ».
ص ١: ٦ و١كورنثوس ١: ٢١ ويوحنا ٥: ٣٩ و٢كورنثوس ٤: ١٤
وَصَلاَةُ ٱلإِيمَانِ تَشْفِي ٱلْمَرِيضَ من مرضه الجسدي. أي الصلاة التي تُقدم بالإيمان من الذين يثقون بقوة الله ومحبته. والمرجح أن الإيمان المذكور هنا هو الذي منحه الروح القدس للرسل وغيرهم من المؤمنين ليقدرهم على عمل المعجزات في تأسيس الكنيسة. وهذا الإيمان هو الإيمان الذي قال المسيح فيه لتلاميذه «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ، فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ ٱلتِّينَةِ فَقَطْ، بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجَبَلِ: ٱنْتَقِلْ وَٱنْطَرِحْ فِي ٱلْبَحْرِ فَيَكُونُ» (متّى ٢١: ٢١). والظاهر أنه يجب أن يكون ذلك الإيمان في المصلِّي والمصلَّى عليه معاً بدليل قول لوقا في المقعد الذي كان في لسترة «فَشَخَصَ إِلَيْهِ، (بولس) وَإِذْ رَأَى أَنَّ لَهُ إِيمَاناً لِيُشْفَى قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: قُمْ... فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي» (أعمال ١٤: ٩ و١٠). فيجب أن نذكر أن يعقوب نسب الشفاء إلى صلاة الإيمان لا إلى الدهن بالزيت.
وَٱلرَّبُّ يُقِيمُهُ أي إن الرب يسوع المسيح يقيمه من حال المرض كما اعتاد أن يقيم المرضى يوم كان منظوراً على الأرض (مرقس ٥: ٤٢ و٩: ٢٧ ولوقا ٤: ٣٩).
وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ خَطِيَّةً تُغْفَرُ لَهُ أي ارتكب خطيئة كانت علّة مرضه. ويظهر من الإنجيل إن الله كان يرسل في ذلك العصر أمراضاً دلالة على غضبه وعقاباً على بعض الخطايا ودليل ذلك ما كتبه بولس في شأن أعضاء كنيسة كورنثوس الذين أهانوا العشاء الربي بسوء تصرفهم ومنه قوله «مِنْ أَجْلِ هٰذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ» (١كورنثوس ١١: ٣٠ انظر يوحنا ٥: ١٤). وشفاء المريض الذي مرضه نشأ عن خطيئته دليل على أن الله قد غفر له كما يظهر من (متّى ٩: ٢).
١٦ «اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِٱلزَّلاَّتِ، وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ لِكَيْ تُشْفَوْا. طِلْبَةُ ٱلْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا».
متّى ٣: ٦ ومرقس ١: ٥ وعبرانيين ١٢: ١٣ و١بطرس ٢: ٢٤ وتكوين ١٨: ٢٣ - ٣٢ يوحنا ٩: ٣١
اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِٱلزَّلاَّتِ لم يأمر يعقوب بالاعتراف لرؤساء الدين وطلب الغفران منهم بل أمر المؤمنين جميعاً قسوساً وغيرهم بأن يعترف كل لصاحبه بزلاته. وصرّح بقصده ذلك الاعتراف بقوله «لكي تشفوا» من الأمراض الناشئة عن تلك الزلات. والمرجّح أن ما قصده يعقوب بالاعتراف هو الإقرار جهاراً أمام أعضاء الكنيسة بالخطايا الخاصة التي جلبت عليه المرض (انظر تفسير ١كورنثوس ١١: ٣٠).
وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ لِكَيْ تُشْفَوْا أي ليطلب الإخوة جميعاً مغفرة الله للخطيئة التي كانت علّة المرض. وجوب الاعتراف بالخطيئة جهاراً لنيل مغفرة الله بُيّن في (لاويين ٥: ٥ و١٦: ٢١ و١ملوك ٨: ٣٣ ونحميا ١: ٦ و٩: ٢ و٣ ودانيال ٩: ٢٠ ومتّى ٣: ٦ ويوحنا ١: ٩).
إن الاعتراف بالخطيئة للمخطإ إليه وطلب المغفرة منه واجب أبداً وهو أجدر بالمريض فإن راحة باله التي تنشأ من المصالحة للمعتدى عليه من وسائل الشفاء علاوة على كونه مرضياً لله. ولا يليق بالمسيحي أن يفارق هذا العالم وضميره يبكته على أنه تعدّى حقوق أخيه ولم يتخذ كل الوسائل إلى المصالحة له. ولا قانون لإزالة الأحقاد والخلاف بين الإخوة مثل قول الرسول «لاَ تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ» (أفسس ٤: ٢٦).
إنه كثيراً ما كانت إصابة الإنسان بالمرض وسيلة إلى نفع نفسه بأن حملته على أن يتضع أمام الله ويعترف بخطاياه وعدم وفائه بعهوده لله وبفرط محبته للعالم. وعلى هذا قول داود «قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا ٱلآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ» وقوله أيضاً «خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ» (مزمور ١١٩: ٦٧ و٧١).
وغني عن البيان كون المباينة عظيمة بين تعليم يعقوب هنا وتعليم الكنائس التقليدية وهو وجوب الاعتراف السري بكل الخطايا الفكرية والقولية والفعلية لإنسان وطلب المغفرة منه وإن ذلك ضروري لنيله المغفرة من الله وإن لذلك الإنسان سلطاناً على مغفرة الخطايا التي يُعترف له بها. أُمر المسيحي آنفاً أن يصلي من أجل نفسه (ع ١٣) وأن يطلب صلاة عمدة الكنيسة (ع ١٤) وفي هذه الآية بأن يطلب صلوات الإخوة عامة. ووجوب صلاة الإخوة الخاصة ونفعها ظاهران من هذه الآية وهي بركة عظيمة لمن يحصلون عليها وخسارة عظيمة للذين يهملونها وفي طاقتهم أن يفوزوا بها.
طِلْبَةُ ٱلْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا المراد «بالبار» هنا المسيحي المُخلِص وعبّر عنه قبلاً بالذين «يري إيمانه بأعماله» (ص ٢: ٢٤). والمراد «بالطلبة» الصلاة بحرارة وشوق واستمرار. ومعنى قوله «تقتدر كثيراً في فعلها» إنها تأتي بالبركة المطلوبة من الله لا محالة كما كانت في أمر يعقوب وهو يطلب النجاة من أخيه عيسو (تكوين ٣٢: ٢٨) فهذه الآية تثبت قول بعضهم «الصلاة تحرّك اليد التي تحرك العالمين» على أن الصلاة ليس لها قوة في نفسها إنما الله قضى بنعمته أن تكون قناة لبركاته. وتاريخ الكنيسة والعالم واختبار الأفراد يثبت أن الله يسمع الدعاء. وكما أن الإيمان أول الفضائل كذلك الصلاة أول الواجبات. وقال إنها «تقتدر كثيراً في فعلها» ولم يضع حداً لهذا الفعل فعلينا أن نتعلم مقدار فعلها باختيارنا فمتى شعر المؤمن باحتياجه إلى بركة وطلبها من الله فالله الذي أنشأ الشعور بالاحتياج وحثّ على الصلاة هو يُعد الوسائل التي كلها في يده إلى إصابة المطلوب.

قوة الصلاة وفعلها ع ١٧ و١٨


١٧ «كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَاناً تَحْتَ ٱلآلاَمِ مِثْلَنَا، وَصَلَّى صَلاَةً أَنْ لاَ تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى ٱلأَرْضِ ثَلاَثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ».
أعمال ١٤: ١٥ و١ملوك ١٧: ١ و١٨: ١ ولوقا ٤: ٢٥
أثبت يعقوب ما قاله في فاعلية الصلاة بمثال إيليا الذي كان من أنبياء إسرائيل قبل مجيء المسيح بنحو ٩١٠ سنين في أيام آخاب الملك.
كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَاناً تَحْتَ ٱلآلاَمِ مِثْلَنَا وصف إيليا بذلك دفعاً للظن أن فاعلية صلاته نتجت عن كونه نبياً ممتازاً على سائر الناس بسمو مقامه وفرط قداسته ولهذا ذكر أنه عرضة للتجارب والانفعالات كسائر الناس فيحق لغيره أن يتوقع أن الله يجيب طلبته وإن كان جاهلاً ضعيفاً مذنباً.
صَلَّى صَلاَةً أَنْ لاَ تُمْطِرَ أي كانت غاية صلاته هذه إمساك الله المطر (١ملوك ١٧: ١). ولم يطلب ذلك انتقاماً لنفسه بل عقاباً للشعب على خطاياه بتركه عبادة الله وتمسكه بعبادة البعل إله الصيدونيين وكان من ذلك جوع شديد في فلسطين أو مملكة آخاب.
ثَلاَثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ كما قال المسيح في (لوقا ٤: ٢٥). وجاء في سفر الملوك ما نصه «كَانَ كَلاَمُ ٱلرَّبِّ إِلَى إِيلِيَّا فِي ٱلسَّنَةِ ٱلثَّالِثَةِ... فَأُعْطِيَ مَطَراً عَلَى وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (١ملوك ١٨: ١). وعلّة هذا الاختلاف بحسب الظاهر إما التقريب بذكر ثلاث سنين بقطع النظر عن الكسر وإما كون الكلام في مدة الجوع لأنه أقل من أيام الجدب بالطبع لبقية غلة السنة الماضية (انظر تفسير لوقا ٤: ٢٥) أو إن مدة ثلاث سنين تعني ثلاثة أشتية بلا مطر. ومدة ثلاث سنين وستة أشهر تعني ثلاثة أشتية مع الصيف الذي ليس فيه مطر طبعاً.
١٨ «ثُمَّ صَلَّى أَيْضاً فَأَعْطَتِ ٱلسَّمَاءُ مَطَراً وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ ثَمَرَهَا».
١ملوك ١٨: ٤٢ و٤٥
ثُمَّ صَلَّى أَيْضاً لم تذكر هذه الصلاة صراحة في سفر الملوك لكن فيه تلميحاً إليها (١ملوك ١٨: ٤٢).
فَأَعْطَتِ ٱلسَّمَاءُ مَطَراً (١ملوك ١٨: ٤٥).
وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ ثَمَرَهَا على سنن العادة وناموس الطبيعة (تكوين ٨: ٢٢).

رد الضال عن ضلاله والبركة الناشئة عن ذلك ع ١٩ و٢٠


١٩ «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ عَنِ ٱلْحَقِّ فَرَدَّهُ أَحَدٌ».
متّى ١٨: ١٥ وغلاطية ٦: ١ وص ٣: ١٤
سبق الكلام على وجوب اعتراف كل من المؤمنين لغيره وصلاة كل من الإخوة من أجل الآخر وزاد هنا وجوب أن ينصح الأخ أخاه ويجتهد في إرشاده إذا ضلّ ونصحه ليهتدي وإصلاح نفسه إذا خطئ.
إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ عَنِ ٱلْحَقِّ أشار المسيح إلى خطر الضلال الذي يعرّض المسيحيون له بقوله «ٱنْظُرُوا، لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ» (متّى ٢٤: ٤). وقصد بمن ضلّ الذي اعترف بإيمانه بالمسيح وإنجيله ثم أطغاه الشيطان أو بعض المعلمين المفسدين أو فساد قلبه حتى عدل عن مسالك الحق كما هي معلنة في الإنجيل قولاً أو فعلاً.
فَرَدَّهُ أَحَدٌ إلى سبيل الحق والبرّ بنصحه وإنذاره وصلواته.
٢٠ «فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئاً عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ يُخَلِّصُ نَفْساً مِنَ ٱلْمَوْتِ، وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا».
رومية ١١: ١٤ و١كورنثوس ١: ٢١ وص ١: ٢١ و١بطرس ٤: ٨
فَلْيَعْلَمْ أي يتيقن قال هذا يعقوب تعزية للمرشد على عمله الصالح وتنشيطاً له.
أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئاً عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ أي من كان وسيلة في يد الله إلى ذلك.
يُخَلِّصُ نَفْساً مِنَ ٱلْمَوْتِ أي نفس الخاطئ. وهذا الكلام يستلزم أن كل خاطئ يستمر على الخطاء يهلك لا محالة أي يموت موتاً أبدياً لأن النفس لا تموت إلا هذا الموت إذ لا تقبل سواه وأن نعمة الله تجعل أتعاب المجتهد في رد الخاطئ وسيلة إلى توبة الخطأة وخلاصهم وإن تلك الخدمة تسر الله كثيراً لأن الإنسان يكون بها عاملاً مع الله في أعظم أعماله (٢كورنثوس ٦: ١).
وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا عُبّر عن مغفرة الخطايا بسترها في (نحميا ٤: ٥ ومزمور ٣٢: ١ وأمثال ١٠: ١٢ و١بطرس ٤: ٨). والخطايا التي يسترها هي خطايا ذلك الضال الذي يرجع إلى الله وإلى حظيرة الخلاص بالتوبة والإيمان. نعم إن الرسول لم يقل خطايا مَن تُستر ولكن لو حسبنا أنه أراد أن خطايا المجتهد في رد الضلال تُستر باجتهاده كان ذلك مخالفاً لتعليم الإنجيل إن الإنسان يتبرّر بكفّارة المسيح وتُغفر كل خطاياه بإيمانه به. وكون تلك الخطايا التي سُترت خطايا المرتشد لا يمنع من أن يكون ارتشاده علّة أعظم فرح لمرشده وعلة ثواب عظيم من الله بدليل قوله تعالى «ٱلْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ ٱلْجَلَدِ، وَٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال ١٢: ٣).

Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D - 70007
Stuttgart
Germany