المقدمة وفيها أربعة فصول

الفصل الأول: في كاتب هذه الرسالة والمدينة التي كتب إليها والكنيسة فيها


ما قيل في مقدمة الرسالة الأولى وافٍ بما يتعلق بكاتب هذه الرسالة ومدينة تسالونيكي والذين كُتبت إليهم فارجع إلى ذلك. وما بقي ينقسم إلى ثلاثة أقسام.

الفصل الثاني: في زمان كتابة هذه الرسالة ومكانها


المرجح أنها كتبت بعد كتابة الأولى بقليل وفي مكان الأولى أي كورنثوس ولكن لا دليل قاطع على ذلك. والذي يرجح ذلك ثلاثة أمور:
الأول: إن الأشخاص الثلاثة الذين ذُكر أنهم اجتمعوا معاً حين كتابة الرسالة الأولى كانوا لا يزالون مجتمعين في كتابة هذه. قابل ما في (١تسالونيكي ١: ١ بما في ٢تسالونيكي ١: ١). وهذا يحملنا على أن نحكم بأنها كُتبت في كورنثوس حيث شهد لوقا بأن سيلا وتيموثاوس اجتمعا ببولس (أعمال ١٨: ١ و٥) وبقي دلائل أنه لم يبقوا مجتمعين طويلاً.
الثاني: إن بولس كتب هذه الرسالة ليصلح خطأ كبيراً نشأ عن سوء فهم التسالونيكيين ما كتبه في الرسالة (ص ٢: ١ و٢) فنتج من ذلك نتائج مضرة (ص ٣: ١١ و١٢) وهذا مما يحمله على سرعة الكتابة لإصلاح ذلك الخطإ. وفي الرسالة أدلة على أنه كتبها في آخر مدة إقامته في كورنثوس قبل وقوع القلاقل التي حدثت يوم تولى غاليون إخائية (أعمال ١٨: ١٢ و١٦).
الثالث: ولكننا نعلم مما كتبه في هذه الرسالة أنه رأى استعداداً للهيجان إذ قال صلوا «لِكَيْ نُنْقَذَ مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلأَرْدِيَاءِ ٱلأَشْرَارِ» (ص ٣: ٢). ومما قيل في انتشار الإنجيل في تسالونيكي وجوارها حين كتبها (ص ١: ١ - ٤) وكان كل الوقت الذي تقضى عليه في كورنثوس لا يزيد على سنة ونصف سنة (أعمال ١٨: ١١). وبناء على ذلك نقول أنها كُتبت في كورنثوس في آخر سنة ٥٣ ب. م أو في أول سنة ٥٤ ب. م.

الفصل الثالث: في الغاية من كتابة هذه الرسالة


غاية بولس من كتابة هذه الرسالة إصلاح الخطإ الذي وقعوا فيه من جهة وقت مجيء المسيح ثانية وقد نشأ ذلك الغلط من سوء فهمهم ما كتبه في الرسالة الأولى وإصلاح ما نشأ منه من الخلل. لأنهم استدلوا بقوله «نحن الأحياء الباقين» إن يوم الرب على وشك المجيء وأنه لا داعي إلى السعي في أعمالهم المعتادة فتركوها وسلكوا بلا ترتيب. وبلغ نبأ ذلك إلى بولس من تيموثاوس الذي أرسله ليفتقد أحوالهم فرأى من الضرورة أن يوضح لهم كالإيضاح إن يوم الرب ليس كما توهموا من قربه مع وجوب أن ينتظروه كل حين ويستعدوا له ولكن لا بد من أن يسبق ذلك بعض الحوادث قأبانها بروح النبوة وقال إنها ابتدأت تحدث يومئذ ولكن الرب لا يأتي قبل أن تبلغ حدها.
وذكر مع طلب الإصلاح أموراً تنشئ لهم التعزية في ضيقاتهم والتثبيت لهم في الإيمان وتحثهم على الاستقامة والاجتهاد وتجنب البطالة والسلوك بلا ترتيب.

الفصل الرابع: في مضمون هذه الرسالة


مضمون الأصحاح الأول من هذه الرسالة تحية (ع ١ و٢). وشكر لله على تقدمهم في التقوى ولا سيما ثباتهم في احتمال الشدائد (ع ٣ و٤). وتيقنه من ثباتهم أنهم مسيحيون حقيقة (ع ٥). وتصريحه أن الرب يسوع يعاقب عند مجيئه مضطهديهم مع سائر الأثمة ويثيب الأبرار بالمجد والكرامة (ع ٦ - ١٠) وصلاته لكي يثبتوا في الإيمان ويكملوا (ع ١١ و١٢).
ومضمون الأصحاح الثاني التعليم المتعلق بمجيء المسيح وتحذيرهم من أن يظنوا أنه يكون في الحال (ع ١ - ٣) وتصريحه بما لا بد أن يحدث قبل مجيئه (ع ٤ - ١٠). وبيان أن الهلاك يقع على كل المرتدين عن الإيمان (ع ١١ و١٢). وسروره وشكره لله على أن نصيبهم غير نصيب الهالكين وعلى أنهم مختارون للخلاص (ع ١٣ و١٤). وحثهم على الثبات وصلاته من أجلهم (ع ١٥ و١٦).
ومضمون الأصحاح الثالث طلبه صلاتهم من أجله ومن أجل نجاحه في التبشير بالإنجيل ووقايته من جور أعدائه وحقدهم (ع ١ - ٤). وصلاته من أجلهم (ع ٥). وتوصيته إياهم بالعمل متمثلين به يوم كان بينهم واعتزال كل الذين هم بلا ترتيب (ع ٦ - ١٥) ودعاؤه لهم بالسلام العام الدائم (ع ١٦). والتسليم في الخاتمة مع توجيه نظرهم إلى التوقيع بيده والبركة الرسولية (ع ١٧ و١٨).
وأهم مواضيع هذه الرسالة هو ما في (ص ٢: ١ - ٢٢). ففيه ذُكر أنه يكون قبل مجيء المسيح ارتداد عظيم عن الإيمان وحينئذ يظهر ضد المسيح الذي هو «إنسان الخطيئة» و «ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهاً أو معبوداً حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهراً نفسه أنه إله». وسُمي أيضاً «سر الإثم» و «الأثيم» وأنه «الآن يعمل». وذُكر أيضاً «الذي يحجز» وهو الحاجز الذي يمنع إنسان الخطيئة من استعمال كل قوته وأنه يُرفع هذا الحاجز من الوسط فيما بعد وحينئذ يُظهر كل رداءته ثم يظهر المسيح ويبيد ذلك العدو بنفخة فمه ويملك بالبهاء والمجد.
واختلف المفسرون كثيراً في أنه من قصد بولس «بإنسان الخطيئة» الذي هو «سر الإثم» فذهب بعضهم إلى أن الكلام كان في من هو في عصر الرسول وهو إما الأمبراطور كاليغولا أو نيرون وتيطس القائد الروماني كلها أو الشعب اليهودي كله. وذهب آخرون إلى أن الكلام على قوة تظهر بعد عصره وهي توجد اليوم وهي الباباوية. وذهب غيرهم أنه أراد به ضد المسيح الذي لم يظهر بعد ولكنه سوف يظهر. وذهب آخرون إلى أن بولس لم يشر به إلى شخص واحد أو قوة واحدة في وقت واحد بل إلى عدة أمور متوالية مما مضى وما سيأتي وكل منها ضد المسيح على وفق قول يوحنا الرسول إن «أَضْدَادٌ لِلْمَسِيحِ كَثِيرُونَ» (١يوحنا ٢: ١٨).
وأما الحاجز فرأى الأكثرون على أنه المملكة الرومانية أو جملة قوى العالم السياسية بالنظر إلى تأثير قوة الله أو تأثير التمدن والحرية والإنجيل فيها. وغلب رأي الإنجيليين على أن ضد المسيح هو القوة الباباوية ولكنهم وجدوا أن بعض أوصافه لا تصدق عليها كما سنرى في ما يأتي من تفسير هذه الرسالة. وكثير من الرموز والإشارات التي استعملها بولس في هذه الرسالة أخذها من الأسفار النبوية ولا سيما نبوءة دانيال.

اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ


تسليم ع ١ و٢


١ و٢ «١ بُولُسُ وَسِلْوَانُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ، إِلَى كَنِيسَةِ ٱلتَّسَالُونِيكِيِّينَ، فِي ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. ٢ نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
٢كورنثوس ١: ١٩ و١تسالونيكي ١: ١ و١كورنثوس ١: ٣
الأشخاص الثلاثة المذكورون في بداءة هذه الرسالة هم الذين ذُكروا في بداءة الرسالة الأولى ويتضح من هذه أنها كتُبت قبل نهاية جولان بولس الثاني لأننا لم نسمع في أنباء هذا الجولان ما يدل على أن سلوانس كان مع بولس. والسلام في هذه الرسالة كالسلام في أول الأولى (١تسالونيكي ١: ١ و٢) فارجع إلى تفسيره هناك.

شكر الله على نموهم في الإيمان والمحبة وثباتهم في أثناء الاضطهاد ع ٣ و٤


٣ «يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ ٱللّٰهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ كَمَا يَحِقُّ، لأَنَّ إِيمَانَكُمْ يَنْمُو كَثِيراً، وَمَحَبَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ جَمِيعاً بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ تَزْدَادُ».
١تسالونيكي ١: ٢ و٣ و٣: ٦ و٩ وص ٢: ١٣
افتتح بولس هذه الرسالة كعادته في أكثر رسائله بالشكر لله على ما يتعلق بمن كتبها إليهم وأظهر به مسرته بما سمعه من نبإ ثباتهم وتقدمهم في التقوى. وأعلن أن شكره مقترن بمواظبته الصلاة من أجلهم.
يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ اعتبر تقديم الشكر إيفاء لدَين عليه يجب أن يوفيه بالنظر إلى وجدانه.
كَمَا يَحِقُّ أي كما يليق بالنظر إلى ما ظهر من أحوالهم الموجبة الشكر.
لأَنَّ إِيمَانَكُمْ يَنْمُو كَثِيراً قال في الرسالة الأولى أنه أرسل تيموثاوس حتى يثبتهم ويعظهم لأجل إيمانهم (١تسالونيكي ٣: ٢) ونستنتج من قوله هنا انه أبلغه أنهم تقدموا كثيراً في الإيمان مدة انفصاله عنهم.
مَحَبَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ... تَزْدَادُ نستنتج من هذا أنه قد زالت من كنيستهم الاختلافات التي حملته على أن يكتب ما كتبه في (١تسالونيكي ٣: ١٢ و٤: ٦ - ١٠ و٥: ١٢ - ١٤).
٤ «حَتَّى إِنَّنَا نَحْنُ أَنْفُسَنَا نَفْتَخِرُ بِكُمْ فِي كَنَائِسِ ٱللّٰهِ، مِنْ أَجْلِ صَبْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فِي جَمِيعِ ٱضْطِهَادَاتِكُمْ وَٱلضِّيقَاتِ ٱلَّتِي تَحْتَمِلُونَهَا».
٢كورنثوس ٧: ١٤ و٩: ٢ و١تسالونيكي ٢: ١٩ و٢٠ و١تسالونيكي ١: ٣ و١تسالونيكي ٢: ١٤
حَتَّى إِنَّنَا نَحْنُ أَنْفُسَنَا أي بولس ورفقاءه وفي العبارة إلماع إلى أن افتخارهم بتقدمهم غير لائق إما لكونه مثل مدح لأنفسهم لأنه افتخار بتلاميذهم وإما لكونه خلاف ما أظهروه قبلاً من عدم رضاهم بهم.
نَفْتَخِرُ بِكُمْ يظهر من هذا أن الرسول اعتاد في مكاتيبه وخطبه في كنيسة التكلم على تقدم الكنائس الأخرى إنهاضاً لغيرتها في الدين. فيجب على كل كنيسة اليوم أن تكون أمينة ذات غيرة حتى يفرح بها راعيها وتكون آية لقوة الإنجيل وقدوة لغيرها من الكنائس. ومعظم افتخار بولس مبني على ما ظهر من قوة عمل الله فيهم (١تيموثاوس ٢: ١٩ و٢كورنثوس ٩: ٢).
فِي كَنَائِسِ ٱللّٰهِ في أخائية وعاصمتها كورنثوس إذ كان بولس يومئذ يعمل بينهم.
مِنْ أَجْلِ صَبْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ هذا الإيمان هو الذي شكر الله على زيادته في (ع ٣) وقد تبينت زيادته بثمره في أثناء ضيقهم واضطهادهم. ومعنى «الإيمان» هنا الأمانة والثبات على الاعتراف بالحق الديني والثقة بالله التي هي علة ثباتهم. وقد ذُكر أيضاً اقتران الصبر بالإيمان في (رؤيا ١٣: ١٠).
ٱضْطِهَادَاتِكُمْ وَٱلضِّيقَاتِ ٱلَّتِي تَحْتَمِلُونَهَا الفرق بين «الاضطهادات» و «الضيقات» أن الأولى هي ما تنشأ عن بغض المضطهد وحقده والثانية هي المصائب بقطع النظر عن أصلها. وقال «تحتملونها» من احتملتموها إشارة إلى أن الاضطهادات المذكورة في (١تسالونيكي ٢: ١٤) لم تزل قائمة يوم كتابة هذه الرسالة.

تيقنه من ثباتهم أنهم مسيحيون حقيقة وتصريحه بأن المسيح عند مجيئه يجازي المضطهدين بالهلاك ويثيب الأبرار بالمجد وصلاته لكي يثبتوا ويكملوا ع ٥ إلى ١٢


٥ «بَيِّنَةً عَلَى قَضَاءِ ٱللّٰهِ ٱلْعَادِلِ، أَنَّكُمْ تُؤَهَّلُونَ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ تَتَأَلَّمُونَ أَيْضاً».
فيلبي ١: ٢٨ و١تسالونيكي ٢: ١٤
بَيِّنَةً أي برهاناً ظاهراً لأنفسهم ولكل من يشاهد ما احتملوه من الضيقات ولا سيما احتمالهم إياها بالصبر والإيمان.
قَضَاءِ ٱللّٰهِ ٱلْعَادِلِ أي حكمه يوم مجيء المسيح وهذا مثل قوله «غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ ٱلْمُقَاوِمِينَ، ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي هُوَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلاَكِ، وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلاَصِ» (فيلبي ١: ٢٨). وخلاصة الكلام هنا أن الأبرار يتألمون في هذا العالم ولا ينالون شيئاً من الثواب فيه وأن الأشرار يضطهدون الأخيار ولا يُعاقبون هنا. ويتضح من ذلك أن لا بد من أن يكون يوم دينونة في المستقبل يجازي فيه الله العادل العالم بكل شيء الأبرار والأشرار كما يستحقون وأن جميع الناس يقدرون أن يحكموا مما يشاهدون من آلام الأبرار وصبرهم عليها ما هي المجازاة التي الله العادل سوف يجازيها الأبرار والعقاب الذي لا بد أن يعاقبه الأشرار على مقاومتهم إياه (١تسالونيكي ٢: ١٦). ولعل الرسول اعتبر اقتدار التسالونيكيين على أن يبقوا صابرين وثابتين في وقت الاضطهاد برهاناً على قضاء الله العادل لأنه وهب لهم تلك النعمة فيجازي الله طاعتهم له بزيادة النعمة لهم حسب وعده «مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ» (متّى ١٣: ١٢).
أَنَّكُمْ تُؤَهَّلُونَ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي يحسبكم الله أهلاً حتى يصرّح المسيح لكم قوله «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (متّى ٢٥: ٣٤). ويكون تأهلكم لملكوت الله بواسطة تلك الضيقات. أو أن صبركم وإيمانكم وأنتم تحتملونها يدلان على استعدادكم لدخول ذلك الملكوت. ولا يستلزم هذا أنهم استحقوا السماء بأعمالهم بل أن صفاتهم هي صفات الذين وعدهم الله للخلاص (متّى ٥: ١٠ - ١٢) وصفات شعب الله المتبررين المقدسين المضطهدين (لوقا ١٣: ٢٨ و٢٩).
ٱلَّذِي لأَجْلِهِ تَتَأَلَّمُونَ أَيْضاً لمحبتكم إياه واعترافكم به وأمانتكم له وطلبكم امتداده في العالم وكونكم منه (أعمال ٥: ٤١ و٩: ١٦ ورومية ١: ٥ و١٥: ٨ و٢كورنثوس ١٢: ١٠ و١٣: ٨). واستعدادكم لأن تتألموا من أجله برهان على إخلاصكم وبيان لاعتباركم إياه كل الاعتبار.
٦ «إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ أَنَّ ٱلَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقاً».
رؤيا ٦: ١٠
إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ هذا دليل على صحة ما قاله في الآية الخامسة. والحاكم بذلك العقل السليم والضمير الذي هو نائب الله فيحكم بما هو حق بمقتضى المبادئ التي غرسها الله في القلب البشري. وليس ذلك الحكم هو أن كل متألم أهل للسماء بل أنه يليق أن يشترك كل من يتألم من أجل ملكوت الله هنا في أفراح ذلك الملكوت في العالم الآتي.
يُجَازِيهِمْ ضِيقاً بمقتضى المبدإ الإلهي الذي أعلنه المسيح «َبِالْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ» (متّى ٧: ٢). وعلى وفق قول يعقوب الرسول «ٱلْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً» (يعقوب ٢: ١٣). و «الضيق» هنا هو قضاء الله العادل ذكره الرسول في الآية الخامسة في شأن إثابة الأبرار وفي هذه في شأن عقاب الأشرار.
٧ «وَإِيَّاكُمُ ٱلَّذِينَ تَتَضَايَقُونَ رَاحَةً مَعَنَا عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ».
رؤيا ١٤: ١٣ ١تسالونيكي ٤: ١٦ ويهوذا ١٤
رَاحَةً هذا الجزء من ثواب الملكوت الذي يفتقر إليه المضطهدون فيستريحون من أتعابهم والمخاصمات والشتائم وشهادة الزور وبغض الأصدقاء والسجن والرجم والجلد والتعذيب. وهي راحة كاملة أبدية (رؤيا ١٤: ١٣).
مَعَنَا نحن الذين بشروكم بالإنجيل وسائر شعب الله الذين اضطهدوا أيضاً.
عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أي ظهور مجده الذي كان محتجباً. وهذا مثل قوله «حَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللّٰهِ. مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٣ و٤ انظر أيضاً لوقا ١٧: ٣٠ و١كورنثوس ١: ٧).
مِنَ ٱلسَّمَاءِ باعتبار كونها مركز سلطانه ومجده فإتيانه من السماء أول أمور استعلانه.
مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ الذين يعلنون قوته ويجرونها وهم جنود السماء (رؤيا ١٩: ١٤).
٨ «فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِياً نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ وَٱلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
عبرانيين ١٠: ٢٧ و١٢: ٢٩ و٢بطرس ٣: ٧ ورؤيا ٢١: ٨ مزمور ٧٩: ٦ و١تسالونيكي ٤: ٥ رومية ٢: ٨
فِي نَارِ لَهِيبٍ أي في نار ذات لهب وهي هنا إشارة إلى طهارته وجلاله وآلة لعقابه. وكثيراً ما أعلن الله في العهد القديم ظهوره بالنار ومن ذلك ظهوره في العليقة (خروج ٣: ٢ - ٤) وعلى طور سينا (خروج ١٩: ١٨) وفي خيمة الاشتراع والهيكل كما شهد دانيال (دانيال ٧: ٩) وملاخي (ملاخي ٤: ١). وفي العهد الجديد أعلن المسيح ظهوره بها (متّى ٢٥: ٣١ و١كورنثوس ٣: ١٣ و٢بطرس ٣: ٧ و١٠).
لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ هم الأولون الذي يذكر أنهم عرضة لنقمة الله أي الأمم (مزمور ٧٩: ٦ وغلاطية ٤: ٥). والمراد بقوله «لا يعرفون الله» لا يريدون أن يعرفوه كفرعون القائل «مَنْ هُوَ ٱلرَّبُّ حَتَّى أَسْمَعَ لِقَوْلِهِ» (خروج ٥: ٢). وقال الرسول فيهم «كَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا ٱللّٰهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ» (رومية ١: ٢٨). إن الأمم رفضوا معرفة الله التي حصلوا عليها بواسطة الضمير وبمشاهدة أعمال الله في عالم الطبيعة فعرضوا أنفسهم لنقمتهم العادلة (رومية ١: ١٩ - ٢١ و٢: ١٢ - ١٦).
وَٱلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ الخ هم اليهود بالأولى لأنهم رفضوا المسيح ولم يهتدوا بنور إنجيله وأبوا السلوك بمقتضى مطاليبه فهم «يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ، وَلٰكِنَّهُمْ بِٱلأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ» (تيطس ١: ١٦). «لأَنَّهُمْ إِذْ كَانُوا يَجْهَلُونَ بِرَّ ٱللّٰهِ، وَيَطْلُبُونَ أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ ٱللّٰهِ (المعلن في الإنجيل)» (رومية ١٠: ٣ و١٦). فمضطهدو مؤمني تسالونيكي كانوا من الفريقين وعرضوا أنفسهم لنقمة الله بإضرارهم شعبه. وما صدق عليهم يصدق على كل الذين يرفضون الإنجيل من الأمم واليهود في كل مكان وزمان أي على كل أعداء الله مضطهدي كنيسته فعلة الإثم غير التائبين وغير المؤمنين على وفق قول الرسول «شِدَّةٌ وَضِيقٌ، عَلَى كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ ٱلشَّرَّ، ٱلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ ٱلْيُونَانِيِّ» (رومية ٢: ٩).
٩ «ٱلَّذِينَ سَيُعَاقَبُونَ بِهَلاَكٍ أَبَدِيٍّ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ وَمِنْ مَجْدِ قُوَّتِهِ».
فيلبي ٣: ١٩ و٢بطرس ٣: ٧ تثنية ٢٣: ٢ وإشعياء ٢: ١٩ وص ٢: ٨
سَيُعَاقَبُونَ بِهَلاَكٍ أَبَدِيٍّ كما قيل في (متّى ٢٥: ٤١ و٤٦). ووصف ذلك الهلاك بأمرين الأول أنه سيقع على الخطأة عقاباً لهم على جهلهم الاختياري ورفضهم الإنجيل فإنهم ملأوا بذلك الرفض مكيال آثامهم والثاني أن ذلك الهلاك أبدي.
مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ أي من أمامه وهذا ما يبان مصدر هلاك الأشرار «وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَٱلصُّخُورِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ ٱلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ ٱلْحَمَلِ» (رؤيا ٦: ١٦ انظر أيضاً إشعياء ٢: ١٠ و ١٩). وأما بيان حقيقة ذلك الهلاك أي أنه يقوم بالفصل عن الله الذي حضوره منشأ كل سعادة وبالنفي من حضرته. وهذا جوهر الدينونة التي يصرّح بها المسيح للذين على يساره بقوله «ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ... فَيَمْضِي هٰؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَٱلأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (متّى ٢٥: ٤١ و٤٦). والذي يؤكد هلاك الأشرار الأبدي يؤكد أيضاً سعادة الأبرار السرمدية وقد أبان الرسول تلك السعادة بقوله «نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ ٱلرَّبِّ» (١تسالونيكي ٤: ١٧).
وَمِنْ مَجْدِ قُوَّتِهِ إن إظهار قوته هو المجد وسيعلنه بتمجيده شعبه كما جاء في الآية الآتية.
إن حماية الله لآله وملء قلوبهم رجاء وسروراً دليل على قوته غير المحدودة كما أن تخويفه لأعدائهم ونفيه إياهم من حضرته وكل الذين رفضوه وأبغضوه دليل عليها وهذا على حد قول المسيح «حِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (متّى ٢٤: ٣٠).
١٠ «مَتَى جَاءَ لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْمُؤْمِنِينَ. لأَنَّ شَهَادَتَنَا عِنْدَكُمْ صُدِّقَتْ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ».
مزمور ٨٩: ٧ مزمور ٦٨: ٣٥
هذه الآية تبين أن جزءاً من مجد المسيح في اليوم الأخير يقوم بإتيانه بجماعة من المفتدين بدمه القائمين من الموت متمجدين أرواحهم مكمّلة بالقداسة بنعمته وأجسادهم متغيرة بقوّته إلى صورة جسده الممجد.
لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ هذا فضلاً عما قيل في الآية السابعة في شأن استعلانهم مع ملائكة قوته. ويظهر تمجيد قديسيه عظيماً جداً بمقابلته بهلاك الأشرار المذكور في الآية التاسعة. و «تمجده في قديسيه» نتيجة مجيئه لا غايته. فالمعلم يُكرم بنجابة تلاميذه والقائد بشجاعة جيشه وترتيبه. وكذلك يتمجد المسيح بشعبه بدليل قوله في صلاته «وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ... وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ» (يوحنا ١٧: ٥ و١٠). وهو قد وهب لهم المجد الذي أخذه من الآب بدليل قوله «وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ ٱلْمَجْدَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي» (يوحنا ١٧: ٢٢). وإن نتيجة المؤمنين تظهر مجد منجيهم وقداستهم تظهر قوة ونعمة «الذي أحبهم وغسلهم بدمه» (رؤيا ١: ٥).
وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا مؤمنين وهم على الأرض. قال ذلك مقابلة بينهم وبين الذين لا يطيعون الإنجيل (ع ٨). و «المؤمنون» هنا هم «القديسون» في الجملة الأولى من هذه الآية. و «التعجب» هنا ناشئ عن الابتهاج وعلته وفرة عدد المخلّصين (رومية ٧: ٩) وما حصلوا عليه من الفضائل بنعمة المسيح وما أظهروه من الأمانة وقوة الإيمان مع أنهم في أنفسهم ضعفاء محاطون بالتجارب فكل ما نالوه هو عمل فاديهم فهو يتمجد به.
لأَنَّ شَهَادَتَنَا عِنْدَكُمْ صُدِّقَتْ قال الرسول هذا ليؤكد لمؤمني تسالونيكي أنهم من جملة المؤمنين المذكورين هنا وأن لهم نصيباً مع الممجدين مع المسيح عند مجيئه.
فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي يوم مجيء المسيح وهذا متعلق بقوله «يُتعجب».
١١ «ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ نُصَلِّي أَيْضاً كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ: أَنْ يُؤَهِّلَكُمْ إِلٰهُنَا لِلدَّعْوَةِ، وَيُكَمِّلَ كُلَّ مَسَرَّةِ ٱلصَّلاَحِ وَعَمَلَ ٱلإِيمَانِ بِقُوَّةٍ».
ع ٥ و١تسالونيكي ١: ٣
ٱلأَمْرُ أي تمجده في قديسيه والتعجب منه.
لأَجْلِهِ نُصَلِّي علاوة على شكره من أجلهم (١تسالونيكي ١: ٢) فاشتهى كثيراً إتمام خلاصهم فأظهر ذلك بصلاته من أجلهم.
أَنْ يُؤَهِّلَكُمْ إِلٰهُنَا لِلدَّعْوَةِ أي لكل ما يتضمن في دعوة الله لهم أن يكونوا مؤمنين. وهذا يستلزم مصيرهم أهلاً لأن يكونوا أعضاء ملكوته (ع ٥). وتلك «الدعوة» دعوة للقداسة (١كورنثوس ١: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٧) وللسلوك بمقتضى ما يحق لها. ويتضمن نتيجة الدعوة الأخيرة وهي دعوتهم للتمجد حين يسمعون صوت الرب يقول لهم «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (متّى ٢٥: ٣٤).
اعتبر بولس صلاته من جملة الوسائط التي قضى الله بها ليكون المدعوون مكمّلين بالقداسة مؤهّلين للسماء.
وَيُكَمِّلَ كُلَّ مَسَرَّةِ ٱلصَّلاَحِ لم يبيّن أمسرّة الله هي أم مسرّة مؤمني تسالونيكي لكن الذي أوفق للقرينة أنها مسرّة الله بصلاحهم التي أظهرها بدعوتهم إلى الخلاص وبما فعله لإتمام خلاصهم. ويترتب على ذلك مسرّتهم بما قصده الله وفعله لأجلهم.
وَعَمَلَ ٱلإِيمَانِ بِقُوَّةٍ المراد «بعمل الإيمان» كل ما قصد أن ينتج من غرس الإيمان في نفس الإنسان. ومن نتائجه ما ذكره يوحنا الرسول بقوله «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ، إِلَّا ٱلَّذِي يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (١يوحنا ٥: ٥). وما ذكره يعقوب الرسول في (ص ١: ٦) وبولس الرسول في (١تسالونيكي ١: ٣) وعلى الجملة نقول إن «عمل الإيمان» تبرير وتقديس ثم تمجيد. ومما لا يحتاج إلى بيان أن القوة التي لا بد منها لهذا العمل هي قوة إلهية (انظر تفسير كولوسي ١: ٢٨ و ٢٩).
١٢ «لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱسْمُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فِيكُمْ، وَأَنْتُمْ فِيهِ، بِنِعْمَةِ إِلٰهِنَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
١بطرس ١: ٧ و٤: ١٤
لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱسْمُ رَبِّنَا... فِيكُمْ هذا غاية ما طلبه بولس في صلاته لكي يكمل الله عمل الإيمان في التسالونيكيين وهو أن يسوع نفسه يتمجد بواسطتهم. فالمراد «بالاسم» هنا المسمى بدليل قوله «مَتَى جَاءَ لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ» (ع ١٠ انظر تفسير فيلبي ٢: ٩ و١٠) فإنه يتمجد بصبرهم وطاعتهم وأمانتهم وهم على الأرض ثم بكونهم مكملين بالقداسة في السماء.
ِوَأَنْتُمْ فِيه أي في المسيح باعتبار أنكم شركاؤه في آلامه ثم في أمجاده حسب قوله في خطاب أبيه «َأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ ٱلْمَجْدَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي» (يوحنا ١٧: ٢٢) ومواعيده العديدة في الإنجيل.
بِنِعْمَةِ إِلٰهِنَا الخ هذا متعلق بخبر «أنتم» في العبارة السابقة والمعنى أنتم تتمجدون فيه بنعمة إلهنا. وذلك يدل على أن تمجيدهم ليس من استحقاقهم بل من مجرد نعمة الله.


اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي


غاية هذا الأصحاح هو تعليم من جهة مجيء يوم الرب وفيه. تحذير الرسول مؤمني تسالونيكي من أن يتزعزعوا في شأن قرب ذلك اليوم (ع ١ و٢). وإنباؤه إياهم بالارتداد عن الإيمان وبظهور إنسان الخطيئة قبل مجيء الرب (ع ٣ - ١٢). وشكره لله من أجلهم (ع ١٣ و١٤). وحثه إياهم على الثبات في التعاليم التي قبلوها منها (ع ١٥ - ١٧).
تحذيره إياهم من أن يتزعزعوا من جهة قرب يوم الرب ع ١ و٢


١ «ثُمَّ نَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱجْتِمَاعِنَا إِلَيْهِ».
١تسالونيكي ٤: ١٦ ومتّى ٢٤: ٣١ ومرقس ١٣: ٢٧ و١تسالونيكي ٤: ١٧
نَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ تلطف الرسول بالسؤال ليستميلهم إلى قبول تعليمه الصحيح دفعاً لأوهامهم.
مِنْ جِهَةِ مَجِيءِ رَبِّنَا أي مجيئه الثاني ليدين ويملك. فإنهم أخطأوا فهم تعليم بولس في ذلك الموضوع المهم فإنه بأخطائهم وقع اضطراب في قلوبهم وتشوش في أعمالهم فاراد بولس أن يزيل هذه الأفكار المضطربة والأعمال المتشوشة. وفعل ذلك بإنبائه إياهم أنه لا بد من أن يحدث قبل مجيء الرب ارتداد عظيم في الكنيسة وأنه يُستعلن ابن الهلاك الذي سيبيده الرب وذلك كله يقتضي مرور مدة ليست بقصيرة.
وَٱجْتِمَاعِنَا إِلَيْهِ أي اجتماع كل المسيحيين الأموات والأحياء في وقت مجيئه ليكونوا «إلى الأبد مع الرب» وأشار إلى هذا في (١تسالونيكي ٤: ١٧).
٢ «أَنْ لاَ تَتَزَعْزَعُوا سَرِيعاً عَنْ ذِهْنِكُمْ، وَلاَ تَرْتَاعُوا، لاَ بِرُوحٍ وَلاَ بِكَلِمَةٍ وَلاَ بِرِسَالَةٍ كَأَنَّهَا مِنَّا: أَيْ أَنَّ يَوْمَ ٱلْمَسِيحِ قَدْ حَضَرَ».
متّى ٢٤: ٤ وأفسس ٥: ٦ و١يوحنا ٤: ١
أَنْ لاَ تَتَزَعْزَعُوا سَرِيعاً عَنْ ذِهْنِكُمْ بلغ الرسول (والمرجح أن المنبئ تيموثاوس) أنهم لزعمهم مجيء المسيح في أقرب وقت تزعزعوا فكانوا كمختلين في أفكارهم وأعمالهم. فنصيحة بولس للتسالونيكيين كنصيحة المسيح لتلاميذه حين أنبأهم بخراب أورشليم وما يتعلق به وهو قوله «سَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا، لاَ تَرْتَاعُوا» (متّى ٢٤: ٦).
لاَ بِرُوحٍ أشار بهذا إلى تعليم الذين ادعوا المواهب الروحية التي زعم سامعوهم أنها معلنات حقيقية من الروح القدس وهي ليست كذلك بل نتائج غير حقة مما علمه في الرسالة الأولى (١تسالونيكي ٥: ٢٠ و٢١). ومثل تحذير بولس هنا تحذير يوحنا الرسول بقوله «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ ٱمْتَحِنُوا ٱلأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ» (١يوحنا ٤: ١).
وَلاَ بِكَلِمَةٍ كأنها منا. والظاهر من هذا أن بعض الناس نقل عنه في هذا الموضوع ما لم يقله.
وَلاَ بِرِسَالَةٍ كَأَنَّهَا مِنَّا قوله «كأنها منا» يدل على أنها ليست منه ولا من غيره من الرسل. والظاهر من هذا الكلام أن بعض الناس زوروا رسائل باسمه ووزعوها وتلك الرسائل تتضمن تعاليم فاسدة في شأن أن مجيء الرب قريب ويؤيد ذلك توجيهه أفكارهم إلى توقيعه بيده في (ص ٣: ١٧). وظن بعضم أن الرسول لم يشر بذلك إلا إلى ما كتبه في الرسالة الأولى (١تسالونيكي ٤: ١٥). وعلى الحالين لم يرد أن تكون أفكارهم مضطربة بكلمة مزورة أو رسالة كذلك أو بعدم فهمهم ما قاله لهم أو كتبه إليهم.
أَنَّ يَوْمَ ٱلْمَسِيحِ قَدْ حَضَرَ سُمي يوم «المسيح» لأنه يوم مجيئه وتمجيده وذلك اليوم نهاية عصر النعمة وبداءة وقت استعلان الرب ودينونته. نسب المزورون هذا النبأ إلى بولس بكلمة أو رسالة منه. والصحيح أنه علم كسائر الرسل أن يوم الرب قريب وكونه قريباً غير كونه قد حضر. وان مثل أولئك المزورين في مجيء الرب مثل تعليم هيميناس وفيليتس اللذين قالا «إن القيامة قد صارت» (٢تيموثاوس ٢: ١٨) ولكن بولس علم خلاف ذلك وهو أنه لا يحضر ذلك اليوم ما لم تسبقه بعض العلامات الظاهرة.

إنباؤه إياهم بالارتداد عن الإيمان وبظهور إنسان الخطية قبل مجيء الرب ع ٣ إلى ١٢


٣ «لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ ٱلارْتِدَادُ أَوَّلاً، وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ ٱلْخَطِيَّةِ، ٱبْنُ ٱلْهَلاَكِ».
متّى ٢٤: ٤ وأفسس ٤: ٦ و١تيموثاوس ٤: ١ ودانيال ٧: ٢٥ و١يوحنا ٢: ١٨ ورومية ١٣: ١١ الخ ويوحنا ١٧: ١٢
لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا بنبإ غير حق أو نقل كاذب أو رسالة مزورة أو ما يشبه ذلك. ولوقايتهم من الخداع أعلن لهم بعض العلامات التي تسبق مجيء المسيح. ولم يدع أنه أنبأهم بكل سوابق ذلك المجيء فصرّح بأن منها وقوع شر عظيم لا بد منه وقيام حاجز وقتي.
ٱلارْتِدَادُ عرّفه باللام لأنه أخبرهم به سابقاً يوم كان معهم (ع ٥) ولأن المسيح أشار إليه بقوله «وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ... وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. وَلِكَثْرَةِ ٱلإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ ٱلْكَثِيرِينَ» (متّى ٢٤: ١ - ١٢). وقوله «وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ ٱلإِيمَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ» (لوقا ١٨: ٨). وعنى الرسول «بالارتداد» عدول الناس عن الله وتركهم ما كان لهم من الإيمان بالمسيح أو الاعتراف به علانية. والارتداد يستلزم أن المرتدين ممن كانوا قبله متمسكين بالمسيح لا وثنيون ولا غيرهم ممن ليسوا بمسيحيين وأنه غير مقصور على مكان أو مملكة. وأول دليل على من هم الذين تكلم فيهم الرسول هنا ما أبانه هنا وهو أنهم من المسيحيين. والدليل الثاني ما جاء من كلام المسيح في (متّى ص ٢٤ و لوقا ص ١٨) وهو أن الارتداد يكون على أثر قلاقل عظيمة بين الممالك وأرزاء شديدة.
أَوَّلاً أي أن الارتداد لا بد أن يسبق مجيء المسيح.
وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ ٱلْخَطِيَّةِ ما نُسب هنا إلى إنسان الخطية من الاستعلان نُسب أيضاً إلى المسيح نفسه (ص ١: ٧ ولوقا ٧: ٣٠ و١بطرس ١: ١٣ و٤: ١٣ و٥: ١). وهذا يدل على ظهور جلي محسوس ممن كان مستتراً. وكما أننا نعلم أن المسيح حاضر الآن بروحه في الكنيسة غير منظور وأنه سيظهر بعينه كذلك قوة ضد المسيح تعمل الآن في الكنيسة سراً لكنها ستظهر بعينها بصورة مخصوصة. وسمي يهوذا الاسخريوطي «بإنسان الخطيئة» كما سمي «ضد المسيح» هنا (يوحنا ١٧: ١٢). وهذا الاسم مناسب لرئيس المرتدين عن المسيح لأن يهوذا الاسخريوطي ارتد عن موضعه بين تابعي المسيح. و «إنسان الخطيئة» لقب لكل من اختار الخطيئة منذ سن الإدراك وكان دأبه ارتكابها.
ٱبْنُ ٱلْهَلاَكِ هذا بدل من «إنسان الخطيئة» وهو لقب لمن كان من أهل الهلاك بطبيعته الخاطئة. والاسمان يدلان على صفة ضد المسيح وعاقبته فهو خاطئ نهايته الهلاك (متّى ٢٦: ٢٤ و٢بطرس ٢: ١٢).
٤ «ٱلْمُقَاوِمُ وَٱلْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلٰهاً أَوْ مَعْبُوداً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ ٱللّٰهِ كَإِلٰهٍ مُظْهِراً نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلٰهٌ».
إشعياء ١٤: ١٣ وحزقيال ٢٨: ٢ و٦ و٩ ودانيال ٧: ٢٥ و١١: ٣٦ ورؤيا ١٣: ٦ و١كورنثوس ٨: ٥
ٱلْمُقَاوِمُ وَٱلْمُرْتَفِعُ الكلام الذي نعت به بولس هنا «إنسان الخطيئة» يشبه الكلام الذي وصف به النبي دانيال أنطيوخس أبيفانيس «ملك الشمال» وقد تم بعض التمام بما فعله (دانيال ١١: ٣٦ و٣٧). وهو يشبه ما نُسب إلى الشيطان (إشعياء ١٤: ١٢ - ١٤). فروح الكبرياء التي صيّرت من كان ملاكاً «ضد المسيح» وهو اسم ثالث لإنسان الخطيئة وابن الهلاك (١يوحنا ٢: ١٨).
عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلٰهاً أَوْ مَعْبُوداً هذا يستلزم أنه يدعي مقاماً فوق مقام الإله الحق وما يدعيه عبدة الأصنام لآلهتهم الباطلة ويدل على أعظم ما يمكن من مطاليب الكبرياء والإعجاب بالنفس.
حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ ٱللّٰهِ الجلوس هنا كناية عن استمرار «إنسان الخطيئة» على أن يطلب لنفسه الكرامة والطاعة المختصتين بالله. ومثل هذا الجلوس في محل يستلزم الاستيلاء عليه باعتبار كونه له حق الجلوس وحده.
والمراد «بهيكل الله» في الأصل هيكله اليهودي في أورشليم مع كل أدوّره وأبنيته والقدس وقدس الأقداس فيه. ولا يستلزم قول بولس هنا أنه عنى أن «ضد المسيح» سيجلس هو نفسه في ذلك الهيكل عينه لكنه قصد أن ذلك المضل سيأخذ في قلوب الأعضاء في كنيسة المسيح المقام الذي أعطاه اليهود إله هيكلهم وهو المقام المختص بالله وحده. وهذا علامة أخرى من العلامات التي يُعرف بها إنسان الخطيئة وهو ادعاؤه علانية العبادة التي لا تجوز إلا لله في أعظم هياكله على الأرض وخضوع الناس له كالخضوع لله.
٥ «أَمَا تَذْكُرُونَ أَنِّي وَأَنَا بَعْدُ عِنْدَكُمْ كُنْتُ أَقُولُ لَكُمْ هٰذَا؟».
ذكرهم في هذه الآية بأن هذا الموضوع كان موضوع تعليمه يوم كان عندهم وأبان فيها تعجبه وحزنه من أنهم لم يستفيدوا كما ينبغي بما سمعوه منه وخاطبهم به شفاهاً وذلك مما كان يوجب أن يقيهم من الاضطراب. وما ذكره هنا هو أحد الأسباب التي عسرت علينا معرفة من قصده «بإنسان الخطيئة» و «ابن الهلاك» وذلك أنه كان قد خاطبهم قبلاً بما لم يكتبه هنا. ومن تلك الأسباب أن كلامه نبوءة وكل نبوءة لا تعرف الحق المعرفة إلا بعد تمامها. والظاهر أن بولس نفسه قصد أن يكون كلامه هنا مبهماً لئلا يرى منه أحد الحكام ما يحسبه ضد الحكومة فيضر نفسه والكنيسة. وذهب بعض المفسرين أن «رجل الخطيئة» أحد الملوك الرومانيين وهو إما نيرون وإما كاليغولا وإما كلوديوس. وذهب بعضهم إلى أنه سيمون الساحر وبعضهم إلى أنه الأمة اليهودية بتصورها شخصاً واحداً يضطهد الدين المسيحي ويجتهد في إفساده. وذهب بعضهم إلى أنه فرقة الغنوسيين. وبعضهم إلى أنه أشخاص متوالية من أضداد المسيح في عصور مختلفة يزيد الخلف منهم على السلف كبرياء ومقاومة. وجمهور المفسرين مع اختلاف الآراء متفقون على أنه لم يُستعلن بعد من يصدق عليه كل ما قل في «إنسان الخطيئة» وأن الذي أقرب إليه من كل ما سواه القوة البابوية لكنهم لم يريدوا بذلك أن كل بابا هو «ضد المسيح» ولا إنه أحد البابوات الماضين. فإذاً الأمر لا يزال اليوم على ما تركه بولس منذ نحو ألف وثماني مئة سنة وهو أن «يوم الرب» لم يحضر بعد و «إنسان الخطيئة» لم يُستعلن بعد في كل صفاته وأن «سر الإثم» لا يزال يعمل في الكنيسة وزاد عمله منذ عصر بولس ولا نزال نتوقع استعلانه من الأمور التي تسبق استعلان المسيح ونهاية كل شيء.
٦ «وَٱلآنَ تَعْلَمُونَ مَا يَحْجِزُ حَتَّى يُسْتَعْلَنَ فِي وَقْتِهِ».
رومية ١: ١٨
وَٱلآنَ أي وأقول الآن.
تَعْلَمُونَ مَا يَحْجِزُ حَتَّى يُسْتَعْلَنَ مما سمعتم مني وأنا بينكم لا مما سبق في هذه الرسالة أو في التي قبلها. أراد بمن «يستعلن» «إنسان الخطيئة» المذكور في الآية الثالثة. و «ما يُحجز» هو شيء حقيقي محسوس على عظمة كافية لمنع القوة العظيمة المضادة للمسيح وقيل في هذا الحاجز أنه سوف يرفع من الوسط. ولم يستحسن بولس تعيين ذلك الحاجز إما لكونه عند التسالونيكيين أو لكون ذكره مما يعرضهم لخطر الحكومة الرومانية. وذهب بعض المفسرين أن ذلك الحاجز هو الروح القدس ولكن لو كان ذلك هو الحاجز لم يكن من داع لبولس إلى كتمه فالأرجح أن الرسول قصد به المملكة الرومانية مع رئيسها الأمبراطور ثم قوة ما خلفها من ممالك العالم السياسية على وجه العموم لما لها من مبادئ التمدن والحرية. وهذا الرأي مبني على ما كُتب في سفر دانيال في شأن المملكة الرابعة التي وُصفت بكونها «صلبة كالحديد» (دانيال ٢: ٤٠ و٧: ٢٣) وهي المملكة الرومانية. وقيل في ذلك السفر أنه «وَفِي أَيَّامِ هٰؤُلاَءِ ٱلْمُلُوكِ يُقِيمُ إِلٰهُ ٱلسَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَداً» (دانيال ٢: ٤٤). وقيل أن هذه المملكة «تُعطى لشعب قدسي العلي» (دانيال ٧: ٢٥). وقيل أنه يقوم في مدتها «إنسان الخطيئة» المشار إليه «بالقرن الآخر الصغير الذي يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ ضِدَّ ٱلْعَلِيِّ وَيُبْلِي قِدِّيسِي ٱلْعَلِيِّ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ يُغَيِّرُ ٱلأَوْقَاتَ وَٱلسُّنَّةَ» (دانيال ٧: ٨ و٢٥).
فِي وَقْتِهِ أي الوقت الذي عيّنه الله لاستعلانه فمنع «الحاجز» ظهور «إنسان الخطيئة» قبل ذلك الوقت لا بقصده بل بعناية الله.
٧ «لأَنَّ سِرَّ ٱلإِثْمِ ٱلآنَ يَعْمَلُ فَقَطْ، إِلَى أَنْ يُرْفَعَ مِنَ ٱلْوَسَطِ ٱلَّذِي يَحْجِزُ ٱلآنَ».
١يوحنا ٢: ١٨ و٤: ٣
لأَنَّ هذا تعليل لكون استعلان «إنسان الخطيئة» مستقبل.
سِرَّ ٱلإِثْمِ «الإثم» المذكور هنا في الأصل اليوناني عصيان الله مع الكبرياء وأضاف إليه «السر» لأنه لم يظهر حينئذ كما سيظهر. وقد ذكر الرسول أيضاً «سر التقوى» (١تيموثاوس ٣: ١٦) إشارة إلى أنها لم تبلغ كمالها. والمراد «بسر الإثم» «إنسان الخطيئة» المذكور سابقاً. والأرجح أنه لم يشر إلى شخص بعينه بل إلى ملكوت الشر الفاعل خفية في أجيال كثيرة. متوالية يرأسها كثيرون من «أضداد المسيح» المذكورين في رسالة يوحنا الأولى (١يوحنا ٢: ١٨).
ٱلآنَ يَعْمَلُ رأى حينئذ الرسول بوحي الروح القدس أن «سر الإثم» ابتدأ يفعل في الكنيسة فعل الخميرة في العجين مخفياً على الأكثرين ظاهراً لله ولمن أراد أن يعلنه لهم. وهو الكبرياء الروحية التي قيل أنها تنتهي بعصيان عظيم ومقاومة كما ذُكر في الآيتين الثالثة والرابعة فشأنها شأن الزوان الذي ذكر المسيح أنه زرعه العدو في الزرع الجيد فلم يظهر في أول أمره. ورأى بولس فعل ذلك السر بما اختبره من علامات فعله في تلك الكنيسة بدليل ذكره بعض الذين «غشوا كلمة الله» (٢كورنثوس ٢: ١٧ و٤: ٢) ونشوء أحزاب وخصومات في الكنيسة (١كورنثوس ٣: ٣ و٤). وإن من أعضاء الكنيسة من اتكلوا على أعمالهم ورسومهم في أمر الخلاص (غلاطية ٤: ١٠ و١كورنثوس ٨: ٨). وإنهم اتخذوا الناس والملائكة وسطاء بدلاً من الوسيط الوحيد الإنسان يسوع المسيح (كولوسي ٢: ١٨) وأمروا بقهر الجسد وقطعوا بضروريته ووجوب حفظ التقاليد البشرية (كولوسي ٢: ٨ و٢٢) «مَانِعِينَ عَنِ ٱلزَّوَاجِ، وَآمِرِينَ أَنْ يُمْتَنَعَ عَنْ أَطْعِمَةٍ قَدْ خَلَقَهَا ٱللّٰهُ لِتُتَنَاوَلَ بِٱلشُّكْرِ» (١تيموثاوس ٤: ٣). وكما رأى بولس علامات «عمل سر الإثم» في الكنيسة رأى يوحنا كذلك (١يوحنا ٢: ١٨ و٤: ٣).
يُرْفَعَ مِنَ ٱلْوَسَطِ ٱلَّذِي يَحْجِزُ ٱلآنَ معنى ذلك أن «إنسان الخطيئة» لا يُستعلن تمام الاستعلان ما دام «الحاجز» (مهما كان من قوة المملكة الرومانية أو قوة ممالك العالم الساسية معاً) لكن تلك لا بد من أن ترفع في وقت من الأوقات ثم يُظهر «إنسان الخطية» كل قوته ويُستعلن «سر الإثم» حالاً. ويتضح من هذا الكلام أن «الحاجز» ليس من الكنيسة بل أنه أمر خارج عنها فيحتمل أن تلك النبوءة لا تنجز دفعة واحدة عظيمة بل إنه نجز بعضها وسوف ينجز باقيها تمهيداً للإتمام الأخير الكامل. ومن أمثال ذلك إن «سر الإثم» كان يفعل في الكنيسة في القرن الأول حين مال كثيرون من المسيحيين إلى مزج الرسوم اليهودية بمبادئ الإنجيل البسيطة وإن المملكة الرومانية رفعت ذلك الإثم من الوسط بهدم مدينة أورشليم وخراب الهيكل.
٨ «وَحِينَئِذٍ سَيُسْتَعْلَنُ ٱلأَثِيمُ، ٱلَّذِي ٱلرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ».
دانيال ٧: ١٠ و١١ وأيوب ٤: ٩ وإشعياء ١١: ٤ وهوشع ٦: ٥ ورؤيا ٢: ١٦ و١٩: ١٥ و٢٠ و٢١ ص ٢: ٨ و٩ وعبرانيين ١٠: ٢٧
حِينَئِذٍ أي حين يرفع الحاجز من الوسط.
سَيُسْتَعْلَنُ ما كُتم من سر الإثم.
ٱلأَثِيمُ العاصي لله وللمسيح وهو «إنسان الخطيئة المقاوم والمرتفع» (ع ٣ و٤) ورأس الارتداد والتعليم الفاسد في الكنيسة وآخر أضداد المسيح الذين «جلسوا في هيكل الله مظهرين أنفسهم أنهم آلهة».
ٱلرَّبُّ يسوع المسيح فإنه يُستعلن على أثر استعلان ذلك الاثيم.
يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ أي يلاشيه كل الملاشاة بسهولة وهذا على وفق نبوءة إشعياء بالمسيح في قوله «وَيَضْرِبُ ٱلأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ ٱلْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ» (إشعياء ١١: ٤).
وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ الثاني الموعود به ليدين ويحكم. فإبطاله لا يحتاج إلا إلى ظهور المسيح الحق لكي يبطل ذلك الأثيم كما أن شروق الشمس تنسخ الظلام.
٩ «ٱلَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ، بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ».
يوحنا ٨: ٤١ وأفسس ٢: ٢ ورؤيا ١٨: ٢٣ تثنية ١٣: ١ ومتّى ٢٤: ٢٤ ورؤيا ١٣: ١٣ و١٩: ٢
بعدما أبان الرسول إبطال «إنسان الخطيئة» أخذ يبين تفصيلاً أمور مجيئه.
ٱلَّذِي مَجِيئُهُ علناً.
بِعَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ أي بعلامات ينشئها الشيطان ويتوقعها الناس منه. وهذا يدل على أن الشيطان يبذل كل ما يستطيعه في سبيل مساعدته.
بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ تشبه القوة والآيات والمعجزات الحقيقية. ونعتها «بالكاذبة» لأن الكذب أساسها وجوهرها وغايتها فهي كعجائب سحرة مصر لخداع فرعون (خروج ٧: ١١ و٢٢ و٨: ٧). ومعجزات سيمون الساحر ليخدع السامريين (أعمال ٨: ٩ - ١١). فهو مثل من قال المسيح فيهم «سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ ٱلْمُخْتَارِينَ أَيْضاً» (متّى ٢٤: ٢٤). فشأن «إنسان الخطيئة» في معجزاته الكاذبة كشأن سحرة مصر في معجزاتهم الكاذبة فإنهم قصدوا إبطال ما لمعجزات موسى من التأثير وهو يقصد إبطال ما لمعجزات المسيح كذلك (أعمال ٢: ٢٢ و٤٣).
١٠ «وَبِكُلِّ خَدِيعَةِ ٱلإِثْمِ، فِي ٱلْهَالِكِينَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا مَحَبَّةَ ٱلْحَقِّ حَتَّى يَخْلُصُوا».
٢كورنثوس ٢: ١٥ و٤: ٣
وَبِكُلِّ خَدِيعَةِ كل ما يمكن استعماله للخداع.
ٱلإِثْمِ هو أصل الخداع وغاية الخادع ونتيجة الخداع في المخدوع.
فِي ٱلْهَالِكِينَ أي الجارين في طريق الهلاك المعرّضين له وقد أعدوا نفوسهم له بقبولهم الخداع بخلاف شعب الله الذي لا يستطيع الشيطان أن يخدعه بدليل قول المسيح «يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ ٱلْمُخْتَارِينَ» (متّى ٢٤: ٢٤).
لأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا مَحَبَّةَ ٱلْحَقِّ هذا بيان علة هلاكهم فهي ليست قضاء الله بل عمل أنفسهم فإنهم رفضوا الحق كما هو في المسيح يسوع عندما عُرض عليهم في الإنجيل وآثروا عليه كذب «إنسان الخطئية». فكانوا كاليهود الذين قال المسيح فيهم «أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِٱسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِٱسْمِ نَفْسِهِ فَذٰلِكَ تَقْبَلُونَهُ» (يوحنا ٥: ٤٣). و «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا... مَتَى تَكَلَّمَ بِٱلْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو ٱلْكَذَّابِ» (يوحنا ٨: ٤٤). قال الرسول «لم يقبلوا الحق» وهذا إثم أفظع من إثم رفض الحق لأن محبة الحق نعمة الله ومن رفضها رفض المنعم واستخف به. وفي هذا إشارة إلى أنهم لو أرادوا أن ينظروا في الإنجيل ويقبلوه بعد البراهين لكانوا أحبوه لا محالة وكانت محبتهم له وقتهم من الضلال وإن إباءهم الحق أعدهم لتصديق الكذب وأعمالهم عن التمييز بينه وبين الحق.
حَتَّى يَخْلُصُوا هذا هو الغاية التي لأجلها أعلن المسيح الحق ونتيجة قبولهم إياه لو قبلوه كما أن الهلاك نتيجة قبول الكذب.
١١ «وَلأَجْلِ هٰذَا سَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ ٱللّٰهُ عَمَلَ ٱلضَّلاَلِ، حَتَّى يُصَدِّقُوا ٱلْكَذِبَ».
١ملوك ٢٢: ٢٢ وحزقيال ١٤: ٩ ورومية ١: ٢٤ الخ متّى ٢٤: ٥ و١١ و١تيموثاوس ٤: ١
لأَجْلِ هٰذَا أي لأنهم لم يقبلوا نعمة الله محيّة الحق ولم يبالوا بالتمييز بين الهدى والضلال.
سَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ ٱللّٰهُ عَمَلَ ٱلضَّلاَلِ هذا العقاب العظيم الهائل الذي يعاقب به الله رافضي الحق فإنه ينزع منهم قوة التمييز بين النور والظلمة أي الحق والكذب فيصير «النور الذي فهم ظلاماً» (متّى ٦: ٢٣). وهذا على وفق الشريعة الطبيعية وهي أنه كلما خضع الإنسان للباطل زادت قوة التجربة عليه وقلت قوته على مقاومتها. وعلى وفق تعليم هذه الآية تعليم (خروج ٧: ١٣ و٩: ١٢ و١٠: ١٠ و٢٧ و١١: ١٠ و١٤: ٨ وتثنية ١٠: ٣٠ و١ملوك ٢٢: ٢٢ و٢٣ وإشعياء ٤٥: ٧ ورومية ١: ٢٤ فانظر تفسير يوحنا ١٢: ٤٠ ورومية ١: ٢٤ و٢٨ و٩: ١٧ و١٨).
حَتَّى يُصَدِّقُوا ٱلْكَذِبَ أي كل عقائد الضلال التي يعلّمها «إنسان الخطيئة» وهذا عقاب الله لهم على رفضهم الحق الذي عرضه عليهم ونتيجة ذلك الرفض وإيثارهم تصديق العجائب الكاذبة على تصديق حق الله. وكل ذلك نتيجة نزع الله روحه القدوس منهم وارتدادهم وأن يجربهم للضلال بل أنه يتركهم للضلالة التي اختارها ليحصدوا ما زرعوا.
١٢ «لِكَيْ يُدَانَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ لَمْ يُصَدِّقُوا ٱلْحَقَّ، بَلْ سُرُّوا بِٱلإِثْمِ».
رومية ١: ٣٢
لِكَيْ يُدَانَ حسب قصد الله النهائي وحسب ما يستحقون بأفعالهم وهو أيضاً نتيجة طبيعية لما فعلوا.
جَمِيعُ ٱلَّذِينَ لَمْ يُصَدِّقُوا ٱلْحَقَّ كرر هنا بيان علة دينونتهم وهي أنها ليست قضاء الله ولا إرساله إليهم عمل الضلال بل رفضهم الحق أيام امتحانهم على الأرض. والحق الذي رفضوه هو ضد الكذب الذي قبلوه (ع ١١). وعدم تصديقهم الحق هو العلة الأولى لهلاكهم.
بَلْ سُرُّوا بِٱلإِثْمِ هذا العلة الثانية لدينونتهم والإثم هنا هو الذي ذُكر في الآية العاشرة. ولم يكن للإثم أن يتسلط عليهم لولا حبهم إياه وكرههم الحق. وهذا على حد قول المسيح «َٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يوحنا ٣: ١٨). فالسرور بالإثم إنما هو علة عمايتهم وضلالتهم.

شكره لله من أجلهم وحثه إياهم على الثبات في التعاليم التي قبلوها منه ع ١٣ إلى ١٧


١٣ «وَأَمَّا نَحْنُ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ ٱللّٰهَ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلْمَحْبُوبُونَ مِنَ ٱلرَّبِّ، أَنَّ ٱللّٰهَ ٱخْتَارَكُمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ وَتَصْدِيقِ ٱلْحَقِّ».
ص ١: ٣ وأفسس ١: ٤ و١تسالونيكي ١: ٤ ولوقا ١: ٧٥ و١بطرس ١: ٢
يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ ٱللّٰهَ... لأَجْلِكُمْ هذا متصل بما في (ص ١: ٣) وتوكيد له. والذي حمله على هذا الشكر عظمة محبته للتسالونيكيين ومواساته لهم. فإنه اعتبر نعمة الله عليهم باختياره إياهم وحفظه لهم من الضلال والإثم نعمة عليه أوجبت أن يشكر المنعم (راجع تفسير ص ١: ٣).
أَنَّ ٱللّٰهَ ٱخْتَارَكُمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ أي منذ الأزل (تكوين ١: ١ ويوحنا ١: ١ و١يوحنا ١: ١ و١كورنثوس ٢: ٧ وأفسس ١: ٤ و٢تيموثاوس ١: ٩). قال هذا مقابلة للهلاك الذي وقع على غيرهم (ص ١: ٩ و٢: ٣ و١٠). واختيار الله هنا مبني على نعمته المجانية.
بِتَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ إن التقديس ينطوي تحت الاختيار ويبين الواسطة التي قصد الله بها أن ينجز قضاءه فهو تطهيره قلوبهم بفعل روحه القدوس. فاختيار الله الناس للخلاص يستلزم اختياره إياهم للقداسة. وليس لأحد أن يدعي أنه مختار للخلاص ما لم يأت بعلامات تقديسه بدليل قول الرسول «كَمَا ٱخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ» (أفسس ١: ٤).
وَتَصْدِيقِ ٱلْحَقِّ إن الله حين اختار الإنسان للخلاص عيّن الآلة التي يخلص بها وهي الحق وتصديقه مقابلة لتصديق الكذب للهلاك (ع ١١).
إن الروح القدس يقدس قلوب الناس بقبولهم كتاب الله بدليل قول المسيح «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا ١٧: ١٧). وكما رفض الحق على هلاك البعض كذلك قبول الحق وسيلة إلى خلاص البغض وشرط له.
١٤ «ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ إِلَيْهِ بِإِنْجِيلِنَا، لاقْتِنَاءِ مَجْدِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
يوحنا ١٧: ٢٢ و١تسالونيكي ٢: ١٢ و١بطرس ٥: ١٠
ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ إِلَيْهِ أي الخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق.
بِإِنْجِيلِنَا إن الله اختارهم للخلاص منذ الأزل لكنه دعاهم إلى قبوله حين أرسل بولس إليهم ليبشرهم بالإنجيل فكان لهم مع دعوة بولس الظاهرة دعوة باطنة من الروح القدس حملتهم على قبول الإنجيل.
لاقْتِنَاءِ مَجْدِ رَبِّنَا الخ أي لاقتناء مثل المجد الذي للمسيح في السماء (متّى ٢٥: ٢٣ ويوحنا ١٧: ٢٢ و٢٤ ورومية ٨: ١٧ و٢٩ و١تسالونيكي ٥: ٩).
إن في الآيتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة خلاصة تعليم الإنجيل في شأن خلاص الخاطئ لأن فيه بيان اختياره منذ الأزل ودعوة الله إياه بالمناداة بالإنجيل وتصديقه الحق وتقديسه بالروح القدس ثم نيله الخلاص الذي جوهره الاشتراك في مجد المسيح.
١٥ «فَٱثْبُتُوا إِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ وَتَمَسَّكُوا بِٱلتَّعَالِيمِ ٱلَّتِي تَعَلَّمْتُمُوهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِٱلْكَلاَمِ أَمْ بِرِسَالَتِنَا».
١كورنثوس ١٦: ١٣ وفيلبي ٤: ١ و١كورنثوس ١١: ٢ وص ٣: ٦
فَٱثْبُتُوا إِذاً أي بناء على التعليم الحقيقي في شأن مجيء المسيح ثانية وقصد الله خلاصهم وتمسكهم بتعاليم الإنجيل وثقتهم به وهم مائلون إلى التزعزع (ع ٢ و٣).
تَمَسَّكُوا بِٱلتَّعَالِيمِ ٱلَّتِي تَعَلَّمْتُمُوهَا غير زائدين عليها ولا حاذفين منها. قال هذا إشارة إلى ما قاله في الآية الثانية تحذيراً ما نُسب إليه زوراً. وترجم بعضهم بالتقليدات ما تُرجم هنا «بالتعاليم» وكذا في هامش عهد الجديد ذي الشواهد. والقرينة تدل على أن مراد الرسول ما علمهم إياه وهو بينهم (ع ٥ و٦) شفاهاً وكتابة في رسالته الأولى في شأن مجيء المسيح. وقال هذا احتراساً من أن يُخدعوا بنبوات كاذبة ورسائل مزورة ولكي يذكروا كلماته عينها أو يتمسكوا بها.
ولا شيء في ما ذُكر يوجب التمسك بتقاليد الناس فإن المسيح حذرنا من ذلك بقوله للفريسيين «فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ!... وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ» (متّى ١٥: ٦ و٩). ومثله قول الرسول «اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِٱلْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِلٍ، حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ» (كولوسي ٢: ٨). ولنا قياس نقيس به كل تعليم ديني وهو كتاب الله بدليل قوله تعالى «إِلَى ٱلشَّرِيعَةِ وَإِلَى ٱلشَّهَادَةِ. إِنْ لَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هٰذَا ٱلْقَوْلِ فَلَيْسَ لَهُمْ فَجْرٌ» (إشعياء ٨: ٢٠).
بِٱلْكَلاَمِ وأنا بينكم.
بِرِسَالَتِنَا أي رسالته الأولى إليهم.
١٦ «وَرَبُّنَا نَفْسُهُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، وَٱللّٰهُ أَبُونَا ٱلَّذِي أَحَبَّنَا وَأَعْطَانَا عَزَاءً أَبَدِيّاً وَرَجَاءً صَالِحاً بِٱلنِّعْمَةِ».
ص ١: ١ و٢ و١يوحنا ٤: ١٠ ورؤيا ١: ٥ و١بطرس ١: ٣
لم يتكل الرسول عل مجرد نصحه لهم ولا على إصغائهم إليه لكي يطمئن على ثباتهم فأضاف إليهما الصلاة بغية أن يهب الله لهم نعمته لتكون تلك الوسائط مؤثرة أحسن تأثير.
رَبُّنَا نَفْسُهُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ذكره الرسول قبل الآب لأنه الوسيط بين الله والناس وأكده «بالنفس» بياناً إن كلام الرسول غير كاف لتثبيتهم.
ٱللّٰهُ أَبُونَا أبان بهذا أن الآب معتن بخلاص البشر كالابن. ولا ريب في أن الرسول ما أمكنه أن يقرن الابن بالآب في الصلاة على هذه الصورة لولا اعتقاده أنهما في جوهر واحد متساويان في المجد.
ٱلَّذِي أَحَبَّنَا قيل كذلك في الآب في بشارة يوحنا (يوحنا ٣: ١٦ و١٧: ٢٣) وفي الرسالة إلى أهل كورنثوس (٢كورنثوس ١٣: ٣) وفي رسالة أفسس (أفسس ٢: ٤) ورسالة يوحنا الأولى (١يوحنا ٤: ١٠) وغيرها. وأعظم برهان على محبته إيانا أنه بذل ابنه عنا. وقال «أبونا» و «أحبنا» إشارة إلى أن الرسول واحد منهم في كونهم موضوع محبة الآب وهذا علة ثقته بأن الله يستجيب دعاءه لهم.
وَأَعْطَانَا عَزَاءً أَبَدِيّاً في أثناء الرزايا المختلفة وإن ذلك بواسطة مواعيد إنجيله كما يشهد كل مؤمن اختباره. و «العزاء» الذي يهبه الله أبدي بخلاف العزاء من غيره. وهذا برهان محبته (رومية ٨: ٣٨ و٣٩).
وَرَجَاءً صَالِحاً أن ينالوا القوة الروحية ليثبتوا في أثناء التجارب وينالوا كمال السعادة في المستقبل وهذا زيادة على التعزية في الرزايا. ونُعت «الرجاء» «بالصلاح» لصلاح أصله وموضوعه وتأثيره لكي يطهر النفس والسيرة (١يوحنا ٣: ٣).
بِٱلنِّعْمَةِ لأن ذلك الرجاء من مجرد كرم الله ولطفه من استحقاقنا.
١٧ «يُعَزِّي قُلُوبَكُمْ وَيُثَبِّتُكُمْ فِي كُلِّ كَلاَمٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ».
١كورنثوس ١: ٨ و١تسالونيكي ٣: ١٣ و١بطرس ٥: ١
يُعَزِّي قُلُوبَكُمْ بمقتضى اقتداره على أن يعطي عزاءً أبدياً.
يُثَبِّتُكُمْ فِي كُلِّ كَلاَمٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ بتمسككم بالتعليم الصحيح بدلاً من تعليم الكذب وما يؤدي إلى الارتداد. وقال «عمل صالح» حذراً من سلوك بعض أعضاء الكنيسة «بلا ترتيب» (ص ٣: ٦).
والذي يوافق تعليم وحدانية الله في هذه الآية استعمال ضمير الواحد للآب والابن معاً بقوله «يثبتكم» ولو كانا اثنين في الجوهر لقال يثبتانكم.


اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ


طلب الرسول أن يصلوا من أجله وأجل رفقائه (ع ١ و٢). وبيان ثقته بأن الله يثبتهم في إيمانهم وطاعتهم وصلاته من أجل ذلك (ع ٣ - ٥) وأمره إيّاهم أن يعتزلوا كل من يسلك بلا ترتيب وبكسل وأن يدأبوا ولا يكلوا في عمل الخير (ع ٦ - ١٣). وكلامه في معاملة الأخ الذي لا يطيع رسالته (ع ١٤ و١٥). وخاتمة الرسالة (ع ١٦ - ١٨).
طلب الرسول صلاتهم من أجله وأجل رفقائه ع ١ و٢


١ «أَخِيراً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ صَلُّوا لأَجْلِنَا، لِكَيْ تَجْرِيَ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ وَتَتَمَجَّدَ، كَمَا عِنْدَكُمْ أَيْضاً».
أفسس ٦: ١٨ و١٩ وكولوسي ٤: ٣ و١تسالونيكي ٥: ٢٥.
أَخِيراً هذا إشارة إلى كونه قد فرغ من القسم التعليمي من هذه الرسالة وابتدأ في القسم العملي.
صَلُّوا لأَجْلِنَا أي لأجله ولأجل سلوانس وتيموثاوس لكي ينالوا البركة والمعونة في مشقاتهم بالتبشير في كورنثوس. واعتاد الرسول أن يطلب مثل ذلك (١تسالونيكي ٥: ٢٥ ورومية ١٥: ٣٠ و٢كورنثوس ١: ١١ وأفسس ٦: ١٨ و١٩ وكولوسي ٤: ٣ وعبرانيين ١٣: ١٨). ولا ريب في أن صلوات المؤمنين الكثيرة التي قدمت إجابة لطلبه كانت من علل نجاحه العظيم في عمل الرب. والذي يستحق الاعتبار أنه لم يطلب صلواتهم من أجل وقايته من خطر جسدي بل طلبها لأجل المساعدة على عمله الروحي.
لِكَيْ تَجْرِيَ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ أي لكي ينتشر إنجيله وينجح سريعاً في الطريق التي عينها الله على رغم مقاومة الشيطان وأشرار الناس. وكتب مثل هذا إلى تيموثاوس أي سأله أن يصلي لكي تجري كلمة الله في رومية وهو مسجون فيها (٢تيموثاوس ٢: ٩).
وَتَتَمَجَّدَ أي يعرف الناس قيمتها معتبرين إياها قوة الله للخلاص (رومية ١: ١٦ وأعمال ١٣: ٤٨).
كَمَا عِنْدَكُمْ أَيْضاً لأن التسالونيكيين «قبلوا كلمة الله فِي ضِيقٍ كَثِيرٍ، بِفَرَحِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (١تسالونيكي ١: ٦).
٢ «وَلِكَيْ نُنْقَذَ مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلأَرْدِيَاءِ ٱلأَشْرَارِ. لأَنَّ ٱلإِيمَانَ لَيْسَ لِلْجَمِيعِ».
رومية ١٥: ٣١ أعمال ٢٨: ٢٤ ورومية ١٠: ١٦
لِكَيْ نُنْقَذَ مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلأَرْدِيَاءِ ٱلأَشْرَارِ فتجري بواسطتنا كلمة الله وتتمجد إذ يكون لنا حرية المناداة بالإنجيل. ولا ريب في أنه أشار بذلك إلى مقاومة اليهود إياه في كورنثوس (أعمال ١٨: ٥ و٦ و١٢) فإن غيرتهم لشريعة موسى حملتهم على بغض إنجيل المسيح ومقاومته.
لأَنَّ ٱلإِيمَانَ لَيْسَ لِلْجَمِيعِ أي ليس لهم استعداد لقبول الإنجيل الذي خلاصته الإيمان بالمسيح لنيل الخلاص فلا عجب من أنهم قاوموا تعليمه حتى طلب صلاة التسالونيكيين للنجاة منهم. والمرجّح أنه إجابة لصلواتهم التي طلبها حصل على رؤيا واطمئنان من المسيح وأن غاليون والي كورنثوس أبى أن يسمع شكوى اليهود عليه (أعمال ١٨: ٩ و١٢ - ١٦).

ثقته بحفظ الله إياهم وصلاته من أجل ذلك ع ٣ إلى ٥


٣ «أَمِينٌ هُوَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي سَيُثَبِّتُكُمْ وَيَحْفَظُكُمْ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ».
١كورنثوس ١: ٩ و١تسالونيكي ٥: ٢٤ يوحنا ١٧: ١٥ و٢بطرس ٢: ٩
أَمِينٌ هُوَ ٱلرَّبُّ خلافاً للناس الأشرار. في هذا القول تعزية عظيمة للمؤمنين المتضايقين.
ٱلَّذِي سَيُثَبِّتُكُمْ أي الذي يُظهر أمانته بوقايتكم من السقوط كما طلب لهم في صلاته (ص ٢: ١٧).
وَيَحْفَظُكُمْ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ أي مما قصده المضطهدون من الأضرار بمالهم وحياتهم ومما قصده الشيطان من الأضرار بأنفسهم أيضاً (متّى ١٣: ١٩ وأفسس ٦: ١٦). وهذا كالطلبة السادسة في الصلاة الربانية وهي «نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ» (متّى ٦: ١٣).
٤ «وَنَثِقُ بِٱلرَّبِّ مِنْ جِهَتِكُمْ أَنَّكُمْ تَفْعَلُونَ مَا نُوصِيكُمْ بِهِ وَسَتَفْعَلُونَ أَيْضاً».
٢كورنثوس ٧: ١٦ وغلاطية ٥: ١٠
نَثِقُ بِٱلرَّبِّ مِنْ جِهَتِكُمْ وثق الرسول بأن يكونوا محفوظين بنعمة الله لكونهم متحدين بالمسيح بالإيمان. فإنه كان يعرف الضعف البشري وقوة التجربة ولذلك لم يتكل على عزمهم ولا على شجاعتهم وعهودهم بل اتكل على القوة الإلهية التي عضدتهم (فيلبي ١: ٦ و٤: ٧ و٢تيموثاوس ١: ١٢ ويهوذا ٢٤ ورومية ٣: ١٠).
أَنَّكُمْ تَفْعَلُونَ مَا نُوصِيكُمْ بِهِ الخ الآن وفي ما بعد. في كلامه مع إظهار ثقته بهم شيء من الحث على الاجتهاد في الطاعة له والاستمرار وإعداد لقلوبهم لقبول الوصايا المزمع أن يوصيهم إياها.
٥ «وَٱلرَّبُّ يَهْدِي قُلُوبَكُمْ إِلَى مَحَبَّةِ ٱللّٰهِ وَإِلَى صَبْرِ ٱلْمَسِيحِ».
١أيام ٢٩: ١٨ ١تسالونيكي ١: ٣
في هذه الآية طلب إلى الله أن يُجري ما وثق الرسول به.
ٱلرَّبُّ يَهْدِي قُلُوبَكُمْ غلب أن ينسب هذا إلى الروح القدس ولهذا وعد المسيح بإرساله إلى تلاميذه (يوحنا ١٦: ١٣).
ِإِلَى مَحَبَّةِ ٱللّٰه محبة الله في القلب أساس الأمانة والدأب والمواظبة وسائر الفضائل. وهذه الطلبة لزيادة المحبة لا للإشارة إلى خلوهم منها. ولعله طلب بها أن يظهروا محبتهم لله بحفظهم الوصايا التي نطق بها نائباً عنه (يوحنا ١٤: ٢١).
إِلَى صَبْرِ ٱلْمَسِيحِ أي إلى صبر كالصبر الذي أظهره المسيح. فأراد أنهم يحتملون الاضطهادات المحدقة بهم كما احتمل المسيح آلام الصليب وأن يواظبوا على فعل الخير مثله.

أمره إياهم باعتزال الأخ السالك بلا ترتيب والكسلان وبالدأب والمواظبة على عمل الخير ع ٦ إلى ١٣


٦ «ثُمَّ نُوصِيكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، بِٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنْ تَتَجَنَّبُوا كُلَّ أَخٍ يَسْلُكُ بِلاَ تَرْتِيبٍ، وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلتَّعْلِيمِ ٱلَّذِي أَخَذَهُ مِنَّا».
رومية ١٦: ١٧ وع ١٤ و١تيموثاوس ٦: ٥ و٢يوحنا ١٠ و١كورنثوس ٥: ١١ و١٢ و١تسالونيكي ٤: ١١ و٥: ١٤ وع ١١ و١٢ و١٤ ص ٢: ١٥
ثُمَّ نُوصِيكُمْ هذا بيان معنى قوله في الآية السابقة «إنكم تفعلون ما نوصيكم به» وتقرير لما قاله في الرسالة الأولى (١تسالونيكي ٤: ١١ و١٢ و٥: ١٤) والداعي إلى هذا الإيصاء أن بعضهم توقع مجيء المسيح في الحال ولذلك تركوا أعمالهم اليومية ونزعوا سلام غيرهم ونجاحهم لأنهم ألقوا أحمال حاجاتهم على إخوتهم.
بِٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بسلطانه كأنه يخاطبكم بشفاهنا. وعلى هذا يكون عدم امتثالهم أمره عصيان للمسيح لا للإنسان (يعقوب ٥: ١٠).
أَنْ تَتَجَنَّبُوا كُلَّ أَخٍ يَسْلُكُ بِلاَ تَرْتِيبٍ المراد «بالأخ» هنا كل مسيحي من أعضاء الكنيسة. والمراد «بتجنبه» عدم المخالطة له باعتبار كونه من أهل بيت الإيمان ولعل ذلك يشمل توقيفه عن مشاركتهم إياه في العشاء الرباني. قال الرسول سابقاً «أَنْذِرُوا ٱلَّذِينَ بِلاَ تَرْتِيبٍ» (١تسالونيكي ٥: ١٤). وزاد هنا على ذلك قوله «تجنبوا» الخ وهو أشد من الأول لأن ذلك الأخ زاد سلوكه بلا ترتيب عصياناً. وقصر تلك الوصية على الأخ دون غيره لأن عضو الكنيسة يعير الكنيسة بسوء سلوكه فتجنب الإخوة إياه يدل على أنهم لم يستحسنوا عمله ولم يشتركوا فيه (١كورنثوس ٥: ١٠ - ١٣). وربما كان تجنبهم إياه وسيلة إلى توبته وإصلاح سيرته.
يتضح من هذه الآية أنه لم يُخدع بالتعليم الباطل المؤدي إلى السلوك بلا ترتيب سوى بعض الكنيسة وأن الأكثرين بقوا أصحاء في الإيمان والأعمال. والمقصود من قوله «بلا ترتيب» يتبين مما قيل في الآية الحادية عشرة وهو أنهم تركوا الأعمال اليومية الضرورية فتعرضوا ببطالتهم لأمور غيرهم. إنه يسهل على من يميلون إلى الكسل أن يتخذوا مجيء المسيح حجة على ترك الحرث والزرع والبناء والتجارة وسائر الأعمال الموصلة إلى أسباب المعاش بناء على أن المسيح سيأتي قبل أن يجنوا نتائج أتعابهم وعلى أنهم أظهروا عظمة إيمانهم ومحبتهم في أنتظار سيدهم بلا عمل.
لَيْسَ حَسَبَ ٱلتَّعْلِيمِ ٱلَّذِي أَخَذَهُ مِنَّا في الرسالة الأولى (١تسالونيكي ٤: ١١). وما علّمهم إياه بكلامه علّمهم إياه بسيرته كما يظهر من الآية الآتية.
٧ «إِذْ أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يُتَمَثَّلَ بِنَا، لأَنَّنَا لَمْ نَسْلُكْ بِلاَ تَرْتِيبٍ بَيْنَكُمْ».
١كورنثوس ٤: ١٦ و١١: ١ و١تسالونيكي ١: ٦ و٧ و١تسالونيكي ٢: ١٠
إِذْ أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ كَيْفَ يَجِبُ أن تسلكوا لأن لكم تعليماً كافياً منا (١تسالونيكي ٢: ١ و٤: ٩ و٥: ٢).
يُتَمَثَّلَ بِنَا فلكم فوق تعليمنا سيرتنا مفسرة لمعناه.
لأَنَّنَا هذا تعليل لقوله «تعرفون».
لَمْ نَسْلُكْ بِلاَ تَرْتِيبٍ بترك العمل والعيش بمال غيرنا. لم يرد الرسول أن يكلفهم ما لم يكلف نفسه إياه.
٨ «وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزاً مَجَّاناً مِنْ أَحَدٍ، بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلاً وَنَهَاراً، لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ».
أعمال ١٨: ٣ و٢٠: ٣٤ و٢كورنثوس ١١: ٩ و١تسالونيكي ٢: ٩
وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزاً مَجَّاناً مِنْ أَحَدٍ كنى «بالخبز» عن كل أسباب المعاش والمعنى أننا لم نحصل على أسباب المعاش من إحسان الكنيسة. وهذا على سنن النظام الذي عيّنه الله للإنسان بقوله «بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً» (تكوين ٣: ١٩).
بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ بدلاً من أن نحصل على أسباب المعاش مجاناً كما ذُكر في (١تسالونيكي ٢: ٩).
لَيْلاً وَنَهَاراً شغل الرسول وقته بالوعظ والعمل حتى اضطر أن يحرم نفسه بعض أوقات الراحة. وإذا قابلنا ما قيل هنا بما كُتب في (١كورنثوس ٩: ٤ - ٦ وغلاطية ٦: ٦) رأينا أن بولس كان يومئذ يعمل مع إكيلا في صناعة الخيام.
لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ بتكليفنا إياه أن يعمل وينفق علينا.
٩ «لَيْسَ أَنْ لاَ سُلْطَانَ لَنَا، بَلْ لِكَيْ نُعْطِيَكُمْ أَنْفُسَنَا قُدْوَةً حَتَّى تَتَمَثَّلُوا بِنَا».
١كورنثوس ٩: ٦ و١تسالونيكي ٢: ٦ ع ٧
لَيْسَ أَنْ لاَ سُلْطَانَ لَنَا باعتبار الرسولية أن نطلب من الكنيسة القيام بحاجاتنا الجسدية ونحن نخدمها في الأمور الروحية (انظر تفسير ١كورنثوس ٩: ٤ - ١٤) وقول المسيح «ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ» (لوقا ١٠: ٧).
بَلْ لِكَيْ نُعْطِيَكُمْ أَنْفُسَنَا الخ هذا كقوله لشيوخ كنيسة أفسس «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ» (أعمال ٢٠: ٣٤ و٣٥). فتصرفه على هذا السنن لم يخلُ من قصد لكنه رغب في أن يعلّم بأعماله الكنائس التي خدمها الاجتهاد في العمل فضلاً عن تعليمه إيّاها بأقواله.
١٠ «فَإِنَّنَا أَيْضاً حِينَ كُنَّا عِنْدَكُمْ أَوْصَيْنَاكُمْ بِهٰذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً».
تكوين ٣: ١٩ و١تسالونيكي ٤: ١١
فَإِنَّنَا أَيْضاً حِينَ كُنَّا عِنْدَكُمْ أَوْصَيْنَاكُمْ هذا متعلق بقوله «نوصيكم» في الآية السادسة. ويتبين أن وصيته فيها ليست بوصية جديدة بل هي الوصية التي أوصاهم إياها وهو عندهم.
إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ من القادرين على العمل.
فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً أي لا يستحق أن يُعطى طعاماً من نفقة إخوته في الكنيسة. وكلامه هنا جرى مجرى المثل ولعله مثل معروف استحسنه العقل البشري فصدقه الوحي لأنه على وفق ما رسم الله (تكوين ٣: ١٩) فأعطاه الكسلان البطال القادر على العمل ليس بفضيلة مسيحية بل عثرة له وظلم للعاملين وتفريط في ما يجب أن يُنفق على العاجزين.
١١ «لأَنَّنَا نَسْمَعُ أَنَّ قَوْماً يَسْلُكُونَ بَيْنَكُمْ بِلاَ تَرْتِيبٍ، لاَ يَشْتَغِلُونَ شَيْئاً بَلْ هُمْ فُضُولِيُّونَ».
ع ٦ و١تسالونيكي ٤: ١١ و١تيموثاوس ٥: ١٣ و١بطرس ٤: ١٥
لأَنَّنَا نَسْمَعُ هذا تعليل لما ذُكر وهو ما بلغه من تيموثاوس أو ممن حملوا الرسالة الأولى أو من غيرهم.
أَنَّ قَوْماً يَسْلُكُونَ بَيْنَكُمْ بِلاَ تَرْتِيبٍ كما ذُكر في الآية السادسة. وما يأتي بيان للسلوك بلا ترتيب حتى لا يكون التباس في من يتكلم فيهم.
لاَ يَشْتَغِلُونَ شَيْئاً أي لا يعملون عملاً مفيداً يحصلون به على أسباب المعاش وما يستطيعون أن يساعدوا به الفقراء.
هُمْ فُضُولِيُّونَ كما في (١تيموثاوس ٥: ١٣ و١بطرس ٤: ١٥). فإنهم كانوا يجولون من بيت إلى بيت ومن معمل إلى معمل ليشغلوا أوقاتهم بالأباطيل فيعيقون غيرهم عن أعماله. ولعله رأى وهو بينهم أناساً كهؤلاء بدليل ما كتبه في الرسالة الأولى وهو قوله «أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ... أَنْ َتُمَارِسُوا أُمُورَكُمُ ٱلْخَاصَّةَ» (١تسالونيكي ٤: ١٠ و١١).
١٢ «فَمِثْلُ هٰؤُلاَءِ نُوصِيهِمْ وَنَعِظُهُمْ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهُدُوءٍ، وَيَأْكُلُوا خُبْزَ أَنْفُسِهِمْ».
١تسالونيكي ٤: ١١ أفسس ٤: ٢٨
فَمِثْلُ هٰؤُلاَءِ نُوصِيهِمْ في الآية السادسة أوصى الإخوة الذين كانوا يسلكون بترتيب وهنا أوصى الفضوليين الذين بلا ترتيب. وهذا المرة الرابعة لاستعماله تلك الكلمة القاطعة وهي قوله «نوصي» وفيها دلالة على أهمية الموصى به وغيرته عليه.
وَنَعِظُهُمْ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بناء على اتحادهم بالمسيح ووجوب المحبة والطاعة له. والوعظ ألطف من الإيصاء أضافه إلى الإيصاء حذراً من أن ينفروا منه.
أَنْ يَشْتَغِلُوا أي يعملوا عملاً شريفاً جائزاً نافعاً كما ذُكر في (أفسس ٤: ٢٨).
بِهُدُوءٍ خلافاً لعمل الفضوليين المتعرضين لأمور غيرهم.
وَيَأْكُلُوا خُبْزَ أَنْفُسِهِمْ أي الخبز الذي حصلوه بعمل أيديهم وبركة الله عليه لا بالتسول ممن حصلوه بأتعابهم.
١٣ «أَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ فَلاَ تَفْشَلُوا فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ».
غلاطية ٦: ٩
أَمَّا أَنْتُمْ رجع في هذه الآية إلى خطاب الذين بلا لوم في ما ذُكر.
فَلاَ تَفْشَلُوا فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ أي لا تضعفوا أو تيأسوا حتى تعدلوا عن عمل الخير. فإنهم كانوا يعملون الخير لكنهم في خطر أن يجبنوا عنه.
والنهي في العبارة يستلزم الأمر بالمداومة على «صبر المسيح» (ع ٥) وعلى العمل «بهدوء» وأكل «خبز أنفسهم» (ع ١٢). وخلاصة الآية الإيصاء بأن يستمروا على السلوك الواجب على تباع المسيح وأن يقوموا بما يجب عليهم لله وللناس غير متلفتين إلى التعليم الفاسد والسلوك الرديء. وجاء مثل هذا في (غلاطية ٦: ٩). لكن الرسول أضاف إليه هنالك ما رغبهم في عمل الخير وهو قوله «لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكلّ».
ظن بعضهم أن قصد الرسول أن يداوموا مساعدة المحتاجين وإن كان كثيرون منهم يطلبونها وهم لا يستحقونها.

معاملة الذين لا يطيعون هذه الرسالة ع ١٤ و١٥


١٤ «وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُطِيعُ كَلاَمَنَا بِٱلرِّسَالَةِ، فَسِمُوا هٰذَا وَلاَ تُخَالِطُوهُ لِكَيْ يَخْجَلَ».
متّى ١٨: ١٧ و١كورنثوس ٥: ٩ و١١ وع ٦
كَلاَمَنَا بِٱلرِّسَالَةِ أي إن عصى أحد من أعضاء الكنيسة إيصاءنا ولم يلتفت إلى طلبنا في هذه الرسالة بعدما تُليت عليه.
فَسِمُوا هٰذَا أي ميّزوا عقلاً بينه وبين غيره في الاعتبار والمعاملة.
وَلاَ تُخَالِطُوهُ هذا كقوله «تجنبوا» في الآية السادسة إلا أنه تكلم هنالك في واجبات الأفراد وهنا تكلم في ما يجب على كل أعضاء الكنيسة أن يتفقوا عليه وهو أن يظهروا أنهم لا يعتبرونه مستحقاً أن يُعامل كعضو من أعضاء الكنيسة.
لِكَيْ يَخْجَلَ فيتوب ويصلح سيرته (١كورنثوس ٦: ٥ و١٥: ٣٤ وتيطس ٢: ٨).
١٥ «وَلٰكِنْ لاَ تَحْسَبُوهُ كَعَدُوٍّ، بَلْ أَنْذِرُوهُ كَأَخٍ».
لاويين ١٩: ١٧ و١تسالونيكي ٥: ١٤ تيطس ٣: ١٠
لاَ تَحْسَبُوهُ كَعَدُوٍّ لله ولا للكنيسة وترفضوه كل الرفض لأن غاية اعتزاله إصلاحه لا عقابه.
بَلْ أَنْذِرُوهُ كَأَخٍ أي وبخوا المذنب على ذنبه. بكل حنّو وصلوا معه ومن أجله وبيّنوا له أنكم مهتمون بنفعه وأنكم آسفون على إضراره الكنيسة واسم المسيح وبيّنوا له أن الكنيسة مستعدة لقبوله متى أظهر علامات التوبة (متّى ١٨: ١٥ و١تسالونيكي ٥: ١٤).

خاتمة الرسالة ع ١٦ إلى ١٨


١٦ «وَرَبُّ ٱلسَّلاَمِ نَفْسُهُ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّلاَمَ دَائِماً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. ٱلرَّبُّ مَعَ جَمِيعِكُمْ».
رومية ١٥: ٣٣ و١٦: ٢٠ و١كورنثوس ١٤: ٣٣ و٢كورنثوس ١٣: ١١ و١تسالونيكي ٥: ٢٣
رَبُّ ٱلسَّلاَمِ نَفْسُهُ كما قيل في (١تسالونيكي ٥: ٢٣) فارجع إلى التفسير هناك. هذه الآية هي الصلاة الرابعة من أجلهم في هذه الرسالة.
يُعْطِيكُمُ ٱلسَّلاَمَ دَائِماً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قصد خاصة أن الله يهب لهم السلام في شأن المواضيع المذكورة في هذه الرسالة مما ينزع السلام كالاضطهادات التي كانوا عرضة لها وتزعزع قلوبهم من التعليم الفاسد وسوء الفهم في أمر مجيء المسيح بسرعة وهمومهم في أمر إنسان الخطية وقلق الكنيسة ممن سلكوا بلا ترتيب وما يترتب على ذلك من نتائج التأديب للمذنبين. والخلاصة أنه طلب السلام في الكنيسة وفي ضمائرهم وبينهم وبين الله (انظر تفسير يوحنا ١٤: ٢٧ ورومية ١٥: ١٣ و١كورنثوس ١٤: ٣٣ وانظر أيضاً عبرانيين ١٣: ٢٠).
ٱلرَّبُّ مَعَ جَمِيعِكُمْ هذا طريق آخر لطلب السلام لأن حيث يدخل المسيح يقول «سلام لكم». افتتح بولس هذه الرسالة بتقديم الشكر من أجل جميع التسالونيكيين (ص ١: ٣) وختمها بطلب البركة للجميع.
١٧ «اَلسَّلاَمُ بِيَدِي أَنَا بُولُسَ، ٱلَّذِي هُوَ عَلاَمَةٌ فِي كُلِّ رِسَالَةٍ. هٰكَذَا أَنَا أَكْتُبُ».
١كورنثوس ١٦: ٢١ وكولوسي ٤: ١٨
لما بلغ الرسول أول هذه الآية أخذ القلم من يد الكاتب وأضافها إلى الرسالة هي وما بعدها لينتبهوا لخطّه.
ٱلَّذِي هُوَ أي الخط لا الكلمات المكتوبة.
عَلاَمَةٌ بها تعرفون الرسالة الصحيحة من المزورة كالرسالة التي أقلقتهم (ص ٢: ١٢).
فِي كُلِّ رِسَالَةٍ نفهم من هذا أن بولس اعتاد أن يختم كل رسالة من رسائله مهما كان موضوعها بخط يده. ولعل رسائل بولس كانت كثيرة ولكن الروح القدس لم يستحسن أن تكون كلها محفوظة لتعليم الكنيسة. والأرجح أن ما قاله يوحنا في كثرة أقوال المسيح وأعماله غير المكتوبة يصح على أقوال بولس ومكتوباته (يوحنا ٢١: ٢٥).
هٰكَذَا أَنَا أَكْتُبُ قال هذا تنبيهاً على أحرف خطه الذي يمتاز بها عن غيره كقوله للغلاطيين «اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ ٱلأَحْرُفَ ٱلَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي» (غلاطية ٦: ١١).
١٨ «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ».
رومية ١٦: ٢٤
مَعَ جَمِيعِكُمْ أيها المخاطبون. ارجع إلى تفسير (رومية ١٦: ٢٠).

Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D - 70007
Stuttgart
Germany