المقدمة وفيها سبعة فصول

الفصل الأول: في مدينة أفسس


كانت أفسس مدينة مشهورة في أيونيا قرب بحر الروم تجاه جزيرة ساموس في غربي البلاد الواسعة المعروفة اليوم بأسيا الصغرى وهي قصبة جزء منها كان يسميه الرومانيون «اِسيا بروكنسلار» وموقعها على شاطئ نهر كيستر على أمد ميل من مصبه في البحر وأربعين ميلاً من أزمير. وهي في سهل مخصب جميل طولها خمسة أميال وعرضها ثلاثة أميال وتحيط بها الربى من ثلاث جهات. وكان لها تجارة واسعة في أسيا والمدن اليونانية المقابلة لها. واشتهرت كثيراً بسعتها وعظمتها وغناها وعلمها وترفهها وجودة مرفإها قبل أن رُدم نهرها بالتراب والحجارة. ومما زادها شهرة هيكل أرطاميس الذي عد من عجائب العالم السبع وقد احترق في الليلة التي وُلد فيها اسكندر الكبير سنة ٢٥٦ قبل الميلاد أحرقه أرسترانس بغية أن يشتهر. ثم بُني بنفقة كل بلاد أسيا واليونان وشغل بناؤه نحو مئتي سنة وقدمت النساء جواهرها مساعدة على بنائه فكان أعظم من الأول طوله ٤٢٥ قدماً وعرضه ٢٢٥ قدماً وحجارته من الرخام الأبيض وزُين بأحسن النقوش والصور وكان فيه ١٢٧ عموداً من المرمر علو كل منها ٦٠ قدماً. وحلي بهدايا نفيسة جداً من الحجارة الكريمة والتماثيل الفاخرة. وصُرب في جماله المثل في كل العالم المعروف يومئذ. وكان في باحته تمثال أرطاميس وهو قبيح الهيئة كالمحنطات المصرية كثير الثدي إشارة إلى أنها إلاهة الطبيعة المثمرة وفي إحدى يديه صولجان تعلوه ثلاثة أسنة وفي الأخرى نبوت وكانوا يعتقدون أنه هبط من السماء من زفس وهو المشتري إله الألهة في زعمهم. وافتخرت تلك المدينة بأنها وقف لعبادة تلك الإلاهة وكان ينقش على النقود المضروبة في أفسس «نيئوكورس» (νεωκορος) إشارة إلى أن تلك المدينة خادمة لهيكلها. ومن نفائس بضائعها تماثيل صغيرة على هيئة ذلك الهيكل (كان الزوار الآتون من جميع الأقطار يشترونها) ومشهد يسع ثلاثين ألف نفس. وكان لوعظ بولس فيها فعل عظيم نقّص تلك التجارة الوثنية فهاج صناعها عليه هياجاً عظيماً. ومما اشتهرت به تلك المدينة السحر والكتب التي عُرفت بالكتب الأفسسية وقد ذُكرت في تفسير (أعمال ١٩: ١٣) فارجع إليه. وكان من تأثير مناداة بولس فيها أن كثيرين من السحرة أتوا بكتب السحر وأحرقوها واعترفوا بخداعهم. وكان أكثر سكانها وثنيين وسكنها بعض اليهود رغبة في المتجر. وكثيراً ما ذُكرت في تواريخ الرومانيين وأنباء حروبهم وشاع بأن يوحنا الرسول سكنها في أواخر حياته ودُفن بها. وهُدمت في سنة ٢٦٢ للميلاد ولم تزل في موقعها تلال كثيرة واسعة وقرية صغيرة اسمها اليوم أيا سلوك.

الفصل الثاني: في كنيسة أفسس


نادى بولس الرسول في أفسس نحو ثلاث سنين وأسس فيها كنيسة مسيحية. ولما رجع إلى أورشليم من كورنثوس في سفره الثاني للتبشير زار أفسس وكان ذلك سنة ٥٤ للميلاد ورافقه أكيلا وبرسكلا إليها وهو تركهما هناك ووعد اليهود أن يعود إليهم بأقرب وقت (أعمال ١٨: ١٩ - ٢١). وفي غيبته أتى أبلوس من اسكندرية وكان تلميذ يوحنا المعمدان وجاهر بما عرفه من نبإ المسيح في المجمع فأخذه أكيلا وبرسكلا وعلماه طريق الرب بأكثر تدقيق (أعمال ١٨: ٢٤ - ٢٦). ورجع بولس حسب وعده في خريف سنة ٥٤ على المرجح ووجد هنالك بعض التلاميذ الذين لم يقبلوا سوى معمودية يوحنا فبشرهم بالمسيح الذي أتى وعمدهم باسمه فحل عليهم الروح القدس فطفقوا يتكلمون بلغات ويتنبأون (أعمال ١٩: ٣ - ٩).
ووعظ بولس بعد ذلك في مجمع اليهود نحو ثلاثة أشهر ولما قاومه اليهود غير المؤمنين اعتزلهم وأخذ يعظ في مدرسة تيرانس ظل يأتي ذلك نحو سنتين «حَتَّى سَمِعَ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أَسِيَّا، مِنْ يَهُودٍ وَيُونَانِيِّينَ» (أعمال ١٩: ٨ - ١٢). وكانت نتائج التي ظهرت من تبشيره على ما أبان لوقا في سفر الأعمال خمساً:

  • الأولى: تنصر كثيرين من اليهود والأمم.
  • الثانية: توزيع معرفة الإنجيل في كل أسيا.
  • الثالثة: عظيم التأثير في قلوب الناس حتى أن بعض السحرة شرعوا يصنعون معجزات باسم يسوع الذي يكرز به بولس واقتنع بعضهم بوعظه أنهم خطأة وجهلاء وأحرقوا كتب سحرهم.
  • الرابعة: قلة اعتبار الوثنيين لأرطاميس وعدد عبادتها فخاف أهلها أن يهان هيكلها.
  • الخامسة: إنه تأسست هنالك كنيسة كبيرة ناجحة كما يظهر من الأصحاح العشرين من سفر الأعمال لأن بولس وهو راجع من الجولان في مكدونية وأخائية للتبشير وصل إلى ميليتس قرب أفسس واستدعى قسوس كنيسة أفسس وخاطبهم بما دل على أنهم موكلون على عمل عظيم ذي شأن. وأنبأهم بذلك الخطاب بدخول المعلمين الكاذبين بينهم وبُيّن تمام ذلك النبإ مما كتبه إلى كنيستهم يوحنا الرسول في سفر الرؤيا باعتبار كونها واحدة من كنائس أسيا (رؤيا ٢: ١ - ٧). وبعدما ترك بولس كنيسة أفسس أتى إليها تيموثاوس وخدمها زماناً لم نعرف مقداره (١تيموثاوس ١: ٣). وكل الذين درسوا تاريخ الكنيسة الأولى يعتقدون أن يوحنا الرسول شغل آخر سني حياته بخدمة كنيسة أفسس ومات فيها وهو في نحو سن الرابعة والتسعين. واشتهرت تلك الكنيسة بكونها المركز الثالث للدين المسيحي وكانت كنيسة أورشليم المركز الأول وكنيسة أنطاكية المركز الثاني. ولا نعلم من أمرها بعد ذلك إلا أن المسيح شهد عليها بعد نحو ثلاثين سنة من كتابة هذه الرسالة بأنها «تركت محبتها الأولى» (رؤيا ٢: ٤) ثم بقيت مركزاً لذلك الدين قروناً وخدمها كثيرون من معتبري القسوس وفيها كان المجمع الثالث العام المعروف بالأفسسي الذي التأم سنة ٤٣١ وحكم بالابتداع على نسطوروس بطريريك الاسكندرية وبلاجيوس. وتمّت عليها نبوءة المسيح منذ قرون كثيرة «فزُحزحت منارتها من مكانها» حتى لا تجد نصرانياً في أيّاسلوك القرية الحقيرة التي أُقيمت على آثارها.



الفصل الثالث: في كاتب هذه الرسالة


لا داعي إلى الشك في أن كاتب هذه الرسالة بولس الرسول كما قيل في (ص ١: ١ و٢: ٢) وكما اتفق عليه كل مؤرخي عصره وما بعده ويؤدي ذلك أسلوب كتابتها لفظاً ومعنىً.

الفصل الرابع: في زمان كتابة هذه الرسالة ومكانها


لم يبين الرسول في هذه الرسالة متى كتبها ولا أين كتبها لكنه أبان أنه كان يوم كتبها أسيراً بدليل قوله «أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَجْلِكُمْ» (ص ٣: ١) وقوله «أطلب أن لا تكلوا في شدائدي لأجلكم» (ص ١: ١٣) وقوله «أنا الأسير في الرب» (ص ٤: ١) وقوله «أنا سفير في سلاسل» (ص ١٦: ٢٠). والأرجح أنه كتبها في أول سجنه في رومية سنة ٦٢ ب. م حين أُذن له أن يسكن بيتاً استأجره لنفسه مدة سنتين وقبل جميع الذين أتوا إليه كارزاً بملكوت الله ومعلماً أمور الرب يسوع المسيح «بكل مجاهرة بلا مانع» (أعمال ٢٨: ٣٠). والأرجح أنه كتب في تينك السنتين أربع رسائل وهي رسائل كولوسي وأفسس وفيلبي وفيليمون.

الفصل الخامس: في نسبة هذه الرسالة إلى رسالة كولوسي


يتبين أنهما كتبتا في وقتين متواليين وأرسلتا على يد مرسل واحد وأن بينهما مشابهة قوية ففيهما نحو ثلاثين عبارة مترادفة أو متماثلة. وتمتاز رسالة أفسس بأنها تعليمية عامة يعلن بها الحكمة السماوية ورسالة كولوسي جدلية تقاوم فيها الفلسفة الباطلة. وليس في الأولى شيء من التحذير من المعلمين الكاذبين وفي الثانية تحذير منهم. وفي رسالة أفسس يوصف المسيح بكونه رئيس الكنيسة وفي كولوسي بكونه رأس كل شيء. وعبر في الأولى عن نفسه «بالباني المسيحي» وفي الثانية بأنه «جندي مسيحي» والكلام في الأولى مطول وفي الثانية مختصر وفي الأولى سبع إشارات اقتباسية من العهد القديم وفي الثانية إشارة واحدة (كولوسي ٢: ٢١).

الفصل السادس: في من كتبت الرسالة إليهم


أجمع علماء الدين على أن هذه الرسالة كتبت إلى مؤمني أفسس عل ما نص في الآية الأولى وذهب أكثرهم إلى أن بولس قصد بها أيضاً إفادة الكنائس المجاورة لها ويؤيده أنه لم يسلم الرسول فيها على أحد في أفسس باسمه مع أنه كان له أصحاب كثيرون هناك لأنه كان قد أقام بها زماناً طويلاً يبشر بنجاح عظيم فلو كانت إلى مؤمني أفسس خاصة ما حسن إلا أن يسلم عليهم وأنه لا أدنى إشارة في الرسالة إلى أحوال كنيسة أفسس خاصة وأنه اقتصر فيها على مخاطبة متنصري الأمم دون متنصري اليهود. فالمرجح على ما في الآية الأولى أن الرسول قصد أولاً الأفسسيين ولا سيما متنصري الأمم بينهم وأنه كتبها على أسلوب يوافق سائر الكنائس المجاورة لهم وأراد أن تُرسل إليها ولذلك لم يكتب فيها تحية لأحد واستغنى عن ذلك بأن وكل إلى تيخيكس حامل هذه الرسالة أن يسلم عليهم شفاهاً.

الفصل السابع: في موضوع هذه الرسالة ومضمونها


موضوع هذه الرسالة الكنيسة المسيحية باعتبار كونها جسد المسيح وواسطة إظهار نعمة الله وأمجاد عمل الفداء لكل الخليقة. وكلام الرسول على ذلك الموضوع قسمان الأول تعليمي أعلن فيه أن الكنيسة مختارة في المسيح ومفدية بدمه ومتحدة به ومكملة منه (ص ١: ٣ - ص ٣: ٢١) والثاني عملي أُعلن فيه ما يجب على أعضاء الكنيسة وهو أن يكونوا مقدسين متحداً بعضهم ببعض سالكين كما يليق بأعضاء كنيسة المسيح الذي أُنقذوا من حال الوثنية الدنسة وارتقوا إلى مقام بنوة الله السامية (ص ٤ و٥ و٦).
ومضمونها بعد العنوان والتحية العامة ثمانية أمور:

  • الأول: تقديم الشكر لله الآب على أنه قد اختار الكنيسة بمقتضى القصد الأزلي أن تكون مقدسة محبوبة ومفدية بابنه يسوع المسيح ومتحدة به باعتبار كونه رأسها الحي ومشتملة على اليهود والأمم معاً كجسد واحد في المسيح. وفي ذلك الاختيار وهذا الاتحاد سر مجيد أُخفي عن الأجيال الغابرة وأُعلن الآن وأن لكل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس يداً في إنجاز ذلك القصد (أي أن الله الآب اختار الكنيسة والابن أجرى قضاءه بعمل الفداء والروح القدس جعله مؤثراً في المؤمنين) وإن كل ذلك صدر عن نعمته العظيمة (ص ١: ٣ - ١٤).
  • الثاني: صلاة من أجل زيادة معرفتهم باتحادهم بالمسيح والبركات المتوقفة على موته وقيامته وتمجيده (ص ١: ١٥ - ٢٣).
  • الثالث: دعوة الأمم لكي يشتركوا بواسطة الإيمان بالمسيح في الفداء الذي اشتراه بنفسه. ووصف ذلك الفداء بكونه نجاة من الموت بالخطيئة وسلطة الشيطان وأنه منح لهم حياة جديدة في المسيح وقوة لكي يمارسوا أعمالاً صالحة (ص ٢: ١ - ١٠) وإنه بواسطته اتحد الأمم بشعب الله المختار قديماً إذ نقض سياج الحائط المتوسط لكي يكون لكليهما حق الاقتراب إلى الله ويكون هيكلاً حياً مبنياً على أساس واحد (ص ٢: ١١ - ٢٢). وإن بولس وُكل إليه خصوصاً إعلان هذا السر (سر اتحاد الأمم باليهود في كنيسة الله) الذي لم يعرف قبلاً سوى معرفة جزئية ولكن روح الله أعلنه كل الإعلان بواسطة رسله وأنبيائه «لِكَيْ يُعَرَّفَ ٱلآنَ عِنْدَ ٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ» (ص ٣: ١ - ١٣).
  • الرابع: الصلاة من أجل الكنيسة لكي تدرك ذلك السر تمام الإدراك وأن تقبله بالإيمان متأصلة ومتأسسة في المحبة وتمتلئ بكل ملء الله (ص ٣: ١٤ - ١٩) وختم القسم التعليمي بالتسبيح لله والشكر له على نعمته بيسوع المسيح (ص ٣: ٢٠ و٢١).
  • الخامس: (وهو بداءة القسم العملي أي الثاني من قسمي الرسالة) حث المؤمنين على أن يسلكوا كما يليق بأعضاء كنيسة المسيح متذكرين أن الكنيسة مع أنها مؤلفة من اليهود والأمم جسد واحد مملوء بروح واحد وخاضعة لرب واحد ولها إيمان واحد ومعمودية واحدة وإله وأب واحد للكل وعلى الكل وبالكل وفي الكل (ص ٤: ١ - ٦). ولا منافاة بين كون الكنيسة واحدة وكون إعطاء بعضها مواهب وأعمالاً مختلفة ضرورية لبنيان جسد المسيح الواحد وتكميله (ص ٤: ٧ - ١٦).
  • السادس: حثهم على القيام بالواجبات المختصة بالذين يسلكون حسب الروح وأن يعتزلوا الخطايا التي اعتادوها يوم كانوا وثنيين ولا سيما شهوات الجسد والكذب والغضب والانتقام والخداع والنجاسة قولاً وفعلاً وأن يسلكوا كأولاد نور ويجتهدوا في أن يعملوا صلاحاً شاكرين الله مسبحين لاسمه بأغانٍ روحية (ص ٥: ١ - ٢١).
  • السابع: تعيين واجبات مسيحية خاصة منها واجبات النساء لرجالهن وواجبات الرجال لنسائهم باعتبار نسبة الرجل إلى امرأته كنسبة المسيح إلى كنيسته (ص ٥: ٢٢ - ٣٣). وواجبات الأولاد والآباء (ص ٦: ١ - ٤) وواجبات العبيد والسادة (ص ٦: ٥ - ٩).
  • الثامن: الخاتمة وفيها نصيحته الاخيرة وهي أن يتقووا في الرب لكي يجاهدوا شديد جهادهم ويحاربوا قوات الظلمة وجنود الشر لابسين أسلحة البر (ص ٦: ١٠ - ١٧). وطلب أن يصلوا من أجله (ص ٦: ٢١ و٢٢) والوداع والبركة (ص ٦: ٢٣ و٢٤).



اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ


سلام الرسول على كنيسة أفسس ع ١ و٢ والشكر لله على بركاته الروحية في المسيح وهي اختيار الآب وفداء الابن والاتحاد به وختم الروح القدس الذي هو عربون الميراث التام (ع ٣ - ١٤) وصلاة من أجل الأفسسيين لكي ينموا في معرفة عظمة هذه البركات واختبراها (ع ١٥ - ٢٣).
سلام الرسول ع ١ و٢


١، ٢ «١ بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ، إِلَى ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلَّذِينَ فِي أَفَسُسَ، وَٱلْمُؤْمِنِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. ٢ نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
٢كورنثوس ١: ١ رومية ١: ٧ و١كورنثوس ٤: ١٧ وص ٦: ٢١ وكولوسي ١: ٢ غلاطية ١: ٣ وتيطس ١: ٤
بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ جاءت لفظة رسول في الإنجيل لثلاثة معان:

  • الأول: مرسل مطلق كما في قوله تعالى «ليس رسول أعظم من مرسله» (يوحنا ١٣: ١٦). وكقول الرسول في تيطس والأخ الذي معه إنهما «رسولا الكنائس» (٢كورنثوس ٨: ٢٣). وقوله في أبفروديتس إنه «رسولكم والخادم لحاجتي» (فيلبي ٢: ٢٥).
  • الثاني: مرسل للتبشير من قبل الكنيسة وبهذا المعنى سمي بولس وبرنابا «رسولين» في سفر الأعمال (أعمال ١٤: ٤ و١٤) وكذا أندرونيكوس ويونياس (رومية ١٦: ١٧).
  • الثالث: مرسل خاص مختار لكي يكون شاهد عين للمسيح بعد قيامته وعرف الإنجيل من المسيح نفسه ومثل ذلك كان الاثنا عشر رسولاً وبولس أيضاً (يوحنا ١٥: ٢٦ وأعمال ١: ٢٢ و٢: ٣٢ و٣: ١٥ و١٣: ٢١ و٢٦: ١٦ و١كورنثوس ٩: ١ وغلاطية ١: ١٢). ولم يكن الرسل معينين لسياسة وتعليم كنيسة واحدة بل شملت سلطتهم كل الكنائس. وألهمهم الله بروحه حتى عصمهم في تبليغ الحق وتنظيم الكنيسة وسياستها وثبت سلطتها بمعجزات ومواهب خارقة العادة. وقال إنه «رسول يسوع المسيح» لأن المسيح أرسله ووهب له السلطان الرسولي ولأن موضوع مناداته يسوع المسيح.


بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ أي إنه بنعمة الله دُعي رسولاً وإنه أخذ سلطته الرسولية منه تعالى رأساً على وفق قوله «بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ» (غلاطية ١: ١).
إِلَى ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلَّذِينَ فِي أَفَسُسَ وصف الإسرائيليون في العهد القديم «بالقديسين» لأنهم انفصلوا عن سائر الأمم وكانوا وقفاً لله. وسمي المؤمنون في العهد الجديد «قديسين» لأنهم بواسطة إيمانهم بالمسيح «تصالحوا مع الله» وتقدسوا باطناً بالروح القدس فوق كونهم وقفاً له تعالى. فيحق أن يوصف بالقديسين المؤمنون الذين تطهروا بدم المسيح وتجددوا بالروح القدس واعتزلوا العالم ووقفوا أنفسهم لله (رومية ١: ٧ و١كورنثوس ١: ٢ وكولوسي ١: ٢). وقصد بولس بالقديسين هنا أعضاء كنيسة أفسس بناء على تسليم أنهم قاموا بكل ما يجب عليهم باعتبار كونهم أعضاء كنيسة. والكلام على أفسس جاء في الفصل الأول من مقدمة هذه الرسالة.
وَٱلْمُؤْمِنِينَ هذا وصف ثان لأعضاء كنيسة أفسس فكل المؤمنين الحقيقيين قديسون وكل القديسين مؤمنون.
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ هذا متعلق بالمؤمنين والقديسين لأن المسيح موضوع إيمانهم وواسطة تقديسهم.
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ هذه البركة التي اعتادها بولس الرسول في كل رسائله وجاءت أيضاً في رسالتي بطرس وفي رسالة يوحنا الثانية وفي سفر الرؤيا. و «النعمة» هي رضى الله على من لا يستحقه وهي مصدر كل خير. و «السلام» يشتمل على كل البركات التي تنشأ عن جودة الله.
مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا إن الله أبونا لثلاثة أسباب الأول كونه علة وجودنا والثاني كونه خلقنا على صورته إذ نحن أرواح وهو «أبو الأرواح». والثالث كونه ولدنا ثانية بروحه وجعلنا بالتبني من أهل بيته.
وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ إن المسيح هو الرب المطلق فإنه «يهوه» العهد القديم ذو الملكوت الذي لا حد له وذو الكمال وينبوع كل خير للبرايا ولذلك «لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (١كورنثوس ١٢: ٣) لأنه لا يستطيع أحد ممن لم يعلمهم الروح القدس أن يرى في ناسوته ملء اللاهوت ويعترف بذلك بإخلاص.

الشكر لله على البركات الروحية وهي ثلاث ع ٣ إلى ١٤



  • الأولى: «الاختيار» وهو أن الله اختارهم في المسيح منذ الأزل للقداسة والتبني وكل ذلك الاختيار مبني على مجرد مشيئته وغايته إظهار مجده ونعمته على خلائقه (ع ٤ - ٦).
  • الثاني: «الفداء بدم المسيح» (ع ٧ و٨).
  • الثالثة: «إظهار القصد الإلهي من عمل الفداء» وهي أن يجمع كل شيء في المسيح (ع ٩ و١٠) وبموجب هذا القصد صار متنصرو اليهود ورثة الله (ع ١١ و١٢) وبموجبه صار متنصرو الأمم كذلك وتحقق خلاصهم بقبولهم الروح القدس الذي هو عربون الميراث الآتي (ع ١٣ و١٤).


٣ «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١٥: ٦ و١كورنثوس ١٥: ٢٤ و٢كورثنوس ١: ٣ و١١: ٣١ و١بطرس ١: ٣ ص ٦: ١٢
مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ نبارك الله حين نحمده ونبارك الناس حين نلتمس البركات لهم فيباركنا الله حين يهب لنا البركات. فالمباركة هنا الشكر والحمد لله على البركات التي نلناها منه بواسطة المسيح.
أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا كقول المسيح لتلاميذه «إني أصعد إلى أبي وأبيكم» (يوحنا ٢٠: ١٧). وهذا وصف لله لبيان النسبة الخاصة التي بها نقترب منه لا باعتبار كونه باري البرايا ولا باعتبار اختياره اليهود شعباً له وإدخاله إياهم في عهده بل باعتبار كونه الإله الذي أعلنه المسيح وأبان إنه مصدر الفداء الذي لم يشفق على ابنه بل أرسله إلى العالم ليموت عنا ويصالحنا معه ونقترب منه بكل ثقة. وذلك الإله الذي تصالحنا معه وأعطانا عهد النعمة هو الذي باركنا بكل بركة روحية.
ٱلَّذِي بَارَكَنَا جاء بصيغة الماضي لأنه اعتبر قراء رسالته مفديين وحصلوا على البركات التي اشتراها المسيح لنا.
رُوحِيَّةٍ وصفها بكونه روحية لا لمجرد كونها تختص بالروح البشرية دون الجسد بل لكونها قُبلت من الروح القدس الذي حضوره وتأثيره من أعظم البركات التي وهبها المسيح ومنها المغفرة والسلام والتبني وعربون الروح.
فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ أي أمور ملكوت السماء المختص بالمؤمن أو أماكنه وهي سماوية في نوعها كالبركات التي يتمتع بها أهل السماء تمام التمتع وسنتمتع بها نحن أيضاً. فالمؤمنون يتمتعون بها هنا بعض التمتع باختبارهم وبعضه برجائهم. ونُسبت إلى السماء لأنها تؤهلنا لدخولها «لأن سيرتا في السموات» (فيلبي ٣: ٢٠) ولأن هنالك حبرنا الأعظم الذي دخل الأقداس السماوية ليشفع فينا ويمنحنا البركات (عبرانيين ٦: ٢٠) وهنالك كنوزنا (متّى ٦: ٢٠ و٢١) واهتمامنا (كولوسي ٣: ١ و٢) ورجاؤنا والميراث المحفوظ لأجلنا (١بطرس ١: ٤) ويسوع نفسه الذي مع كونه ارتفع إلى السماء يأتي إلينا بروحه الحال فينا حتى أننا كأننا معه في السماء ونحن على الأرض.
فِي ٱلْمَسِيحِ لكون المؤمنين متحدين بالمسيح يشتركون في تلك البركات. ولا يخفى على القارئ ما في هذه الآية من الإشارة إلى أقانيم اللاهوت الثلاثة إذ قيل فيها أن البركة من الله الآب في المسيح وبالروح.
٤ «كَمَا ٱخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ».
رومية ٨: ٢٨ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ و٢تيموثاوس ١: ٩ ويعقوب ٢: ٥ و١بطرس ١: ٢ و٢: ٩ و١بطرس ١: ٢ و٢٠ لوقا ١: ٧٥ وص ٢: ١٠ و٥: ٢٧ وكولوسي ١: ٢٢ و١تسالونيكي ٤: ٧ وتيطس ٢: ١٢
جمع الرسول في الآية الثالثة كل البركات الروحية التي نلناها من الأقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس. وأخذ هنا يبين عمل كل أقنوم على حدته.
كَمَا ٱخْتَارَنَا أي وهب لنا البركات السابقة بمقتضى اختياره الأزلي أو باركنا لأنه اختارنا. ومعنى «اختار» خصص البعض دون الآخر بأن يكون موضوع محبته ورحمته وأن يمتاز على غيره بقبول البركات التي قصد أن يمنحها. فالمفديون لم يُختاروا اتفاقاً أو بناء على استحقاقهم بل لمقتضى قصد الله الأزلي وهذا يزيد الاختيار قيمة ويستلزم ثبات القديسين ويوجب عليهم التواضع. و «نا» في قوله «اختارنا» هم المؤمنون يومئذ ومن جملتهم الرسول وأفراد المتنصرين من اليهود والأمم وإذا تصورناهم جملة عبرنا عنهم بكنيسة المسيح غير المنظورة وهي جسده (ع ٢٢ و٢٣).
فِيهِ أي في المسيح باعتبار كونه آدم الثاني النائب الجديد البار عن النسل البشري فاختار الله أن يخلص الناس به لا بغيره. تكلم بولس سابقاً في الاختيار فأبان أنه نشأ عن مجرد مشيئة الله وقصده (رومية ٩: ١١ - ١٨ و١١: ٥ - ١٠). وأعلن هنا كيف قصد الله أن يجري الاختيار وهو أنه لا يكون بدون المسيح ولذلك قصد أن يأخذ طبيعتهم من لحم ودم ويفديهم بذبيحته الكفارية ويقدمها أمام أبيه. ولم يقصد باختياره مجرد الأشخاص المختارة بل الوسائط التي يجري بها الاختيار أيضاً بدليل قوله «حَسَبَ قَصْدِ ٱلدُّهُورِ ٱلَّذِي صَنَعَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (ص ٣: ١١). والأمور التي اختارهم لها هي القداسة والتبني والحياة الأبدية. وكوننا مختارين للخلاص بالمسيح يستلزم أنه لا خلاص إلا به.
قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ أي منذ الأزل. وكون ذلك بهذا المعنى يتبين مما يرادفه في الكلام على الاختيار في أماكن أُخر كقوله «منذ تأسيس العالم» (عبرانيين ٤: ٣ وكولوسي ١: ٢٦) و «قبل الأزمنة الأزلية» (٢تيموثاوس ١: ٩ ) و «في الأزمنة الأزلية» (رومية ١٦: ٢٥) و «منذ البدء» (٢تسالونيكي ٢: ١٣). ومن قول المسيح «أحببتني قبل إنشاء العام» (يوحنا ١٧: ٢٤) وقول بطرس الرسول في المسيح «مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (١بطرس ١: ٢٠). ومفاد الآية أن الله قصد أن يخلص الناس حين قصد خلقهم قبل أن يخلق أحداً. وهذا يستلزم عدم تغيير قضائه وتحقيق إجرائه ويبين استقلال الله باختياره المطلق إذ لم يختر المفديين لصلاحهم لأنه اختارهم قبل خلقهم وهذا يعلمنا التواضع أمامه تعالى كما يعلمنا الثقة به. وما في هذه الآية أفضل موضح لحقيقة القضاء الإلهي فقد أبان أن كل ما فعله الله وكل ما يفعله وكل ما سيفعله قصده منذ الأزل فإذا حق لله أن يفعل حق له أن يقصد.
لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ أي إنا لله قصد أن تكون قداسة شعبه نتيجة اختياره إياه ويلزم من ذلك ثلاثة أحكام:

  • الأول: إن المختارين أفراد لا جماعات لأنه إن لم تكن الأفراد مقدسة انتفت قداسة الجماعة.
  • الثاني: إن قداسة مختاريه لم تكن علة اختيارهم لأنه لم يخترهم لأنهم قديسون يل ليكونوا قديسين.
  • الثالث: إن القداسة دليل على الاختيار فالذين لا يقدسون ليسوا بمختارين. والآية موافقة لقوله «ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ» (رومية ٨: ٢٩). وقوله في المسيح أنه «قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ» (عبرانيين ٩: ١٤). وقوله فيه أيضاً «كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ» (١بطرس ١: ١٩). وهذا القول لا يصدق تماماً إلا على المسيح ويصدق على المؤمن على قدر مماثلته لصورة المسيح. وكون المختار بلا عيب ولا دنس هو ما قصد الله حصولهم عليه حين بلوغهم غاية اختيارهم في السماء وهو عين القصد الذي مات المسيح من أجله بدليل قوله «لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (ص ٥: ٢٧). وهذا ينافي زعم بعضهم أنه إن كان الله قد اختارهم فقد خلصوا بلا التفات إلى سيرتهم أو اجتهادهم لأن الله لم يختر أحداً ليعيش في الخطيئة. ولم يقصد الرسول هنا القداسة التي هي نتيجة التبرير بالإيمان التي بها قبلنا الله بناء على بر المسيح بل القداسة التي هي فعل الروح القدس ونتيجة التبرير الأخيرة في الباطن بدليل قوله «إِنَّ ٱللّٰهَ لَمْ يَدْعُنَا لِلنَّجَاسَةِ بَلْ فِي ٱلْقَدَاسَةِ» (١تسالونيكي ٤: ٧). وقوله «هٰذِهِ هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ: قَدَاسَتُكُمْ» (١تسالونيكي ٤: ٣).


قُدَّامَهُ أي أمام الله فاحص القلوب والكلى أعني خفايا النفس الذي يدين بالعدل بلا محاباة خلافاً لحكم الناس علينا وحكمنا على أنفسنا (١كورنثوس ٤: ٣ و٤ و١يوحنا ٣: ٢٠ و٢١).
فِي ٱلْمَحَبَّةِ يجوز أن يتعلق هذا بقوله «اختارنا» في أول هذه الآية فيكون المعنى أن محبة الله علة الاختيار وهي نفس علة بذله ابنه من أجلنا بدليل قوله «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ» (يوحنا ٣: ١٦). وكون علة اختياره المحبة يمنع أن يكون فيه شيء من الظلم أو المحاباة. ويجوز أن يتعلق «بقديسين بلا لوم» إشارة إلى كمال القداسة في الذين اختارهم الله بناء على أن المحبة تشمل كل الفضائل في القديسين كما في الله لأنه «محبة» وهذا كقوله «وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ» (ص ٣: ١٨). وقوله «َٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ» (ص ٥: ٢) ولعل الأول هو المراد.
٥ «إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ».
رومية ٨: ٢٩ و٣٠ وع ١١ يوحنا ١: ١٢ ورومية ٨: ١٥ و٢كورنثوس ٦: ١٨ وغلاطية ٤: ٥ و١يوحنا ٣: ١ متّى ١١: ٢٦ ولوقا ١٢: ٣٢ و١كورنثوس ١: ٢١ وع ٩
إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا إن التعيين أول ما عمله الله ليجري اختياره (انظر تفسير رومية ٨: ٢٩). فقد تبين لنا سابقاً أن علة التعيين كعلة الاختيار أي محبة الله. وظهر لنا من هذه الآية إن وساطة المسيح علة إجرائه فعلاً وأن نتيجته التبني فيكون يسوع بكراً بين إخوة كثيرين مشابهين صورته ومفتدين من العبودية (رومية ٨: ٢٩ وغلاطية ٤: ٥) والخلاصة أن الله اختارنا للقداسة لأنه عيننا للتبني. ونستنتج من علاقة التعيين بالتبني أن القداسة شرط ضروري للتبني ويستحيل بدونه.
ويعسر علينا التمييز بين الاختيار والتعيين السابق ولكن ظن بعضهم أنه يُلاحظ في الأول الذين اختير منهم أي جملة الخطأة وفي الثاني الذي اختير له وهو على ما ظهر هنا التبني فالفرق باعتبار متعلق كل منهما.
لِلتَّبَنِّي أي اتخاذ الله المؤمنين أبناء وهو يتضمن ثلاثة أمور:

  • الأول: مشابهة المتبنين لصورته تعالى.
  • الثاني: أن يكونوا موضوع حبه الخاص.
  • الثالث: أن يكونوا ورثة مجده وسعادته فالتبني أعظم شرف يمكن الإنسان نيله وبدون القداسة يستحيل الحصول عليه والتمتع به إن حصل بدونها.


بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا على وفق قوله «أَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا ١: ١٢). وقوله «لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية ٣: ٢٦). إن المسيح هو الوسيط الذي به يصير المؤمنون أبناء فإنه اشترى لهم ذلك الشرف العظيم بموته على الصليب وبذلك صاروا أهل بيت الله السماوي واشتركوا في فوائد تلك النسبة المباركة.
لِنَفْسِهِ أي لله عينه وهذا تفسير التبني وبيان أبناء من يصير المختارون.
حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ هذا أصل الاختيار والتعيين السابق. وهذا مطابق لقول المسيح «نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ» (متّى ١١: ٢٦). فاختار الذين اختارهم لأنه شاء اختيارهم واستحسنه وكذلك عينهم ليكونوا أبناء له. ولم ينبئنا الله لماذا اختار بعض الخطأة دون غيرهم وعينهم أولاداً له ولا ريب في أنه فعل ذلك لأسباب كافية بمقتضى حكمته على أنه لم يجب عليه أن يختار أحداً إذ لم يستحق أحد أن يكون مختاراً فالاختيار كله من النعمة.
٦ «لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ ٱلَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي ٱلْمَحْبُوبِ».
رومية ٣: ٢٤ و ٥: ١٥ متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥ ويوحنا ٣: ٣٥ و١٠: ١٧
لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ هذا بيان غاية الاختيار الأخيرة العظمى وهي مجده تعالى فإنه عيّن المختارين للتبني ليجدوا في شرفهم وسعادتهم سبباً كافياً «لمدح نعمة الله». وهو عيّن السبب الذي أعلنه ليحيا «الذين كانوا أمواتاً بالذنوب والخطايا» (ص ٢: ٢ و٥) كما قيل سابقاً في الدعوة والاختيار (١كورنثوس ١: ٢٧ - ٢٩). والذي يستحق الاعتبار هنا هو أن ما تبين من كون مجد الله غاية الاختيار لا يقتصر أن يكون مسرة لله وحده بل لإظهار الناس والملائكة أيضاً إذ يجدون فيه علة التسبيح والحمد. وما قيل هنا في شأن الاختيار من أنه وسيلة «لمدح مجد نعمته» يمنع من أنه متوقف شيئاً على استحقاق المختارين. ولم يعن الرسول بقوله «لمدح مجد نعمته» مدحه المجيد أو نعمته المجيدة بل عني أن الاختيار يُظهر عظمة النعمة باعتبار كونها صفة إلهية تملأ قلوب جميع الذين يشاهدونها من الملائكة والقديسين عجباً وتشغل ألسنتهم بالحمد لما فيها من البهاء والسمو والجمال واللطف غير المحدود.
والأسباب الحاملة الملائكة والناس على مدح الاختيار كثيرة نقتصر على ذكر أربعة منها:

  • الأول: إنه موضوع رجاء الساقط الوحيد فإن لم يختره الله بل تركه لنفسه هلك لا محالة.
  • الثاني: إنه أصل كل البركات التي يتمتع بها أبناء البشر وسيتمتعون بها أبداً ولا نعلم ولا نقدر أن نتصور علة أخرى لذلك.
  • الثالث: إن غايات الاختيار كلها تحمل على المدح والأمور التي اختار الله الناس لها هي الحياة والمغفرة والقداسة والسعادة والسماء فإن لم يختر سوى واحد من كل البشر فذلك يحمله على المدح ويشاركه فيه الملائكة والقديسون فكم يستحق المدح والمختارون جماهير كثيرة لا يستطيع أحد أن يعدها (رؤيا ٧: ٩).
  • الرابع: إنه ليس لأحد حق أن يختاره الله للخلاص ولا لأحد حق أن يتذمر على الله إن لم يختره فإن الاختيار لم يضر أحداً من بني البشر لكنه أسعد ربوات كثيرة لولاه كانوا أشقياء إلى الأبد. فلا يتذمروا منه لأنه ليس بعلة هلاكهم إنما علته خطاياهم التي ارتكبوها بإرادتهم ورفضهم المخلص الذي دعاهم إلى الخلاص. والمفديون لا يمدحون مجد الله لمجرد انتفاعهم باختياره إياهم بل لما ظهر بذلك الاختيار من صفاته المجيدة.


ٱلَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا بعمل الفداء وهذا موافق لقوله «اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا» (ص ٢: ٤). وغرض الرسول بيان أن عمل الفداء من بداءته إلى نهايته بُني على أساس النعمة فإنه كان الاختيار والتعيين للتبني من النعمة وكذلك إظهاره فعلاً بمغفرة الخطايا.
فِي ٱلْمَحْبُوبِ أي في المسيح ابنه الحبيب إكراماً له لأن الله لا يُظهر رحمته للناس إلا لأجل المسيح وبواسطته لأننا بالنظر إلى أنفسنا لا نستحق إلا الغضب فالمتبنون صاروا محبوبين به لكنه هو الابن المحبوب بمعنى خاص (متّى ٣: ١٧ ويوحنا ١: ١٨ و٣: ١٦) لأنه «اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ» (يوحنا ١: ١٨). فالله لم يكن مفتقراً إلى موضوع محبة فاختار المفديين لأنه أحب الابن قبل إنشاء العالم (يوحنا ١٧: ٢٤) وكان هو المحبوب لأنه استحق محبة الآب. وكان المفديون محبوبين بمجرد النعمة وبأن أخذ المسيح طبيعتنا وفدانا فيها وباتحادنا به بالإيمان.
٧ «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ».
أعمال ٢: ٢٨ ورومية ٣: ٢٤ وكولوسي ١: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٢ و١بطرس ١: ١٨ و٢٩ ورؤيا ٥: ٩ رومية ٢: ٤ و٣: ٢٤ و٩: ٢٣ وص ٢: ٧ و٣: ٨ و١٦ وفيلبي ٤: ١٩
أبان الرسول في ما تقدم ما فعله الله الآب لأجل الكنيسة (ع ٣ - ٦) مما أوجب عليهم الشكر له وأخذ يبين في هذه الآية إلى العاشرة نسبة المسيح إلى الكنيسة وما فعله في إجراء القضاء الأزلي مما هو سبب ثان للحمد.
ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ إننا لم نفد أنفسنا فالمسيح هو الذي فدانا. والفداء هو الإنقاذ بلا نظر إلى الواسطة فيمكن أن يكون بالقوة أو الاستحقاق أو الدم والمسيح أنقذنا من غضب الله بل من الخطيئة التي هيجت علينا غضب الله وجرمها وسلطتها وعقابها بدليل قول متّى الإنجيلي «تَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متّى ١: ٢١). والإنجيل كلما ذكر أن النجاة بالمسيح أشار إلى أن علة ذلك الفداء.
بِدَمِهِ هذا هو الفداء واشارت إليه الذبائح التي قُدمت في النظام الموسوي فإن المسيح هو حمل الله الذي رفع خطيئة العالم بسفك دمه باعتبار كونه ذبيحة كفارية (يوحنا ١: ٢٩ وأعمال ٢٠: ٢٥ و١كورنثوس ٦: ٢٠ ورومية ٣: ٢٥ وكولوسي ١: ٢٠) وهذا إيضاح لقول المسيح «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متّى ٢٠: ٢٨).
غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا هذا إحدى نتائج الفداء وهي النتيجة الأولى الجوهرية لا كل نتائجه وإلى هذا أشار المسيح بقوله «هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا» (متّى ٢٦: ٢٨) وإليه أشار بولس بقوله «إِنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً ٱلْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا» (١كورنثوس ٥: ٧). فباعتبار كون المسيح رأسنا ونائبنا قدم لله ذبيحة طاهرة كاملة كافية عن الخطيئة.
حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ الفداء مجاني لكل الذين يقبلونه وفيه إظهار غنى نعمة الله. إن نعمته تعالى أُظهرت بطرق كثيرة ولكنها لم تظهر بطريق من تلك الطرق كما ظهرت بطريق الفداء. وأُضيف الغنى إلى النعمة بياناً لوفرة محبة الله لغير مستحقيها الصادرة عن كنوزه التي لا تحصى ووُهبت لنا بالمسيح.
إنه لا منافاة بين كون كل الفداء بالنعمة وكونه إيفاء تاماً لعدل الله وحقه وقداسته وكل مطاليب الناموس لأن إعداد الكفارة وقبول الله إياها عمل النعمة وكل الذي يقبلون الكفارة لا يستحقون الخلاص بقبولهم إياها فيمنح الله الفداء وفوائده بلا نظر إلى استحقاق الإنسان فالذين اختارهم الله لميراث الفداء هم الضعفاء الجهلاء الأدنياء والمزدرى بهم (١كورنثوس ١: ١٧ و٢٨).
٨ «ٱلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ».
ٱلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا لم يقتصر الله على أن يمنحنا بالفداء غنى نعمته بل زاد على ذلك فضيلتين وهما الحكمة والفطنة.
حِكْمَةٍ الحكمة هي قوة إدراك حقيقة قصد الله الذي أعلنه في الإنجيل والفوائد الناتجة عنه وهذا نظير قوله للكولوسيين «لَمْ نَزَلْ مُصَلِّينَ وَطَالِبِينَ لأَجْلِكُمْ أَنْ تَمْتَلِئُوا مِنْ مَعْرِفَةِ مَشِيئَتِهِ، فِي كُلِّ حِكْمَةٍ» (كولوسي ١: ٩). وهذه الحكمة أسمى أنواع الحكمة وإليها أشار الرسول بكلامه في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس (١كورنثوس ١: ١٧ - ٢٥). وسأل الله أن يهبها للأفسسيين في الآية السابعة عشرة. وبهذه الحكمة السماوية يقدر المؤمنون أن يدركوا سر الفداء «ٱلَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو ٱلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ ٱلآنَ لِرُسُلِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِٱلرُّوحِ» (٣: ٥).
فِطْنَةٍ الفطنة هي ما يتمكن صاحبها بها من الشعور باطناً بما يدركه بالحكمة ويفعل ما تقتضيه. والخلاصة أن الله فضلاً عن إظهار نعمته بعمل الفداء يهب لمختاريه القوة على إدراك قصده الحبي والشعور بتأثيره والفرح به والرغبة في الانتفاع به. وهذا ثالث الأسباب للمدح المذكور في هذا الأصحاح وأولها الاختيار والثاني الفداء فالأول عمل الآب والثاني عمل الابن والثالث عمل الروح القدس الذي يخصص بالمؤمنين الفداء الذي صنعه المسيح.
٩ «إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ ٱلَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ».
رومية ١٦: ٢٥ وص ٣: ٤ و٩ وكولوسي ١: ٢٦ ص ٣: ١١ و٢تيموثاوس ١: ٩
هذه الأية بيان لعلة أن الله أجزل لنا الحكمة والفطنة على ما بُين في الآية الثامنة وهي أن ندرك ما يتكلم عليه في هذه الآية.
عَرَّفَنَا بواسطة إنجيله.
بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ المراد «بالسر» هنا ما يعجز العقل البشري عن الوصول إليه من تلقاء نفسه ويقدر أن يصل إليه بإعلان الله بدليل قوله «نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ ٱلدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ... فَأَعْلَنَهُ ٱللّٰهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ» (١كورنثوس ٢: ٧ - ١٠). وقوله «بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ. ٱلَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو ٱلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ ٱلآنَ لِرُسُلِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِٱلرُّوحِ» (ص ٣: ٤ و٥). وقوله «ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ وَمُنْذُ ٱلأَجْيَالِ، لٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ» (كولوسي ١: ٢٦). والمراد «بسر مشيئته» قصد الله أن يفدي شعبه بهذا القصد أخفاه في العصور الماضية ولكنه أعلنه الآن بنعمته.
ٱلَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ أي بدون مشورة أحد و «التي» الخ نعت «مسرته» ونعتها بذلك بياناً لغاية مشيئته وهي قصد الفداء.
١٠ «لِتَدْبِيرِ مِلْءِ ٱلأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ، مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، فِي ذَاكَ».
غلاطية ٤: ٤ وعبرانيين ١: ٢ و٩: ١٠ و١بطرس ١: ٢٠ و١كورنثوس ٣: ٢٢ و٢٣ و١١: ٣ وص ٢: ١٥ و٣: ١٥ وفيلبي ٢: ٩ و١٠ وكولوسي ١: ٢٠
عرفنا من الآية التاسعة أن سر المشيئة الإلهية هو قصد الله فداء الخطاة الذي كتمه قبلاً ولكنه أعلنه الآن وفي هذه الآية تفصيل ما تضمنه ذلك القصد وهو أن يجمع كل المفديين جسداً واحداً بالمسيح.
لِتَدْبِيرِ مِلْءِ ٱلأَزْمِنَةِ اللام للتعليل وهي متعلقة بقصد والتدبير جزء من المقصود وفي هذا بيان أن الله رتب «الأزمنة والأوقات الت يجعلها في سلطانه» إجراء لمقصوده الآتي. فالمدبر الأصلي هو الله ثم الابن والروح القدس. والفرق بين قوله هنا «ملء الأمنة» وقوله في الرسالة إلى غلاطية ٤: ٤) «ملء الزمان» إن ملء الزمان واحد معيّن عينه الله لمجيء المسيح إلى العالم وأن ملء الأزمنة أوقات كثيرة متوالية تحدث فيها حوادث تؤول إلى إتمام القصد وبعض هذه الحوادث أتى وبعضها سيأتي. وأول تلك الأزمنة التي أُعلن فيها سر الفداء الغاية المقصودة هو زمان مجيء المسيح متجسداً بدليل قوله «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦). والثاني هو الذي أبان المسيح فيه انه اتحد بالمؤمنين اتحاداً كاملاً حصلوا به على المغفرة والتبرير والتقديس والفداء بدليل قوله «إِنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ... هٰذَا ٱلسِّرُّ عَظِيمٌ، وَلٰكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ ٱلْمَسِيحِ وَٱلْكَنِيسَةِ» (ص ٥: ٣٠ و٣٢) وقوله «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا» (ع ٧). والزمان الثالث هو وقت دعوة الأمم وهذه الدعوة سميت سراً أيضاً بدليل قوله «سِرِّ ٱلْمَسِيحِ... أَنَّ ٱلأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي ٱلْمِيرَاثِ وَٱلْجَسَدِ الخ» (ص ٣: ٤ و٦). وقوله في تفسير «سر التقوى» «كرز به بين الأمم» (١تيموثاوس ٣: ١٦). وآخر هذه الآزمنة وأعظمها وقت القيامة العامة التي أشار إليها بولس بقوله «هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ ٱلْبُوقِ ٱلأََخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ ٱلأََمْوَاتُ» (١كورنثوس ١٥: ٥١ و٥٢). وقوله «ٱلرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ ٱللّٰهِ، وَٱلأََمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ ٱلأََحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي ٱلسُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْهَوَاءِ، وَهٰكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ ٱلرَّبِّ» (١تسالونيكي ٤: ١٦ و١٧). فإذاً عظيم سر الفداء وإعلانه بكل متعلقات مجراه وإتمامه بمقتضى «تدبير ملء الأزمنة».
لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ الخ لعل أعظم غايات بولس في هذه الرسالة الكلام على جمع كل الأشياء في المسيح الذي صرّح هنا بأنه أحد مقاصد الله وإعلانه بعد أن كتم عليهم عصوراً. ولا نعلم معنى كل شيء في السموات والأرض الذي قصد الله جمعه في المسيح إلا بمراعات القرينة وحقيقة الجمع المقصود.
والقرينة تدل على أن الجميع هنا نتيجة الفداء لأن الرسول شكر الله أولاً على اختياره شعبه ثم على فدائهم الذي يستلزم جمع المفديين وهذا الجمع هو ما قصد الله أن يكون في المسيح بدليل قوله «ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وعلى الأرض». وهذا لا يصدق إلا على المؤمنين من الناس وهم أعضاء جسده ولا يصدق على الملائكة أبراراً أو أشراراً. والجمع يتم باعتبار كون المسيح رأس المجموع ونعلم أنه رأس الكنيسة التي هي جسده وهو ليس رأس الخليقة المنظورة ولا رأس الملائكة بالمعنى المقصود هنا فالفداء في الآية فداء الكنيسة. ويتضح أن هذا هو معنى الآية بمقابلتها بما قيل في الموضوع نفسه بموضع آخر وهو ما نصه «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى ٱلأََرْضِ أَمْ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (كولوسي ١: ١٩ و٢٠). ويظهر من هذا أن الجمع هنا سبقه الانفصال وأن واسطة المصالحة دم الصليب فإذاً المجموعون هم شعب الله المفديون من الناس وهم جسد واحد المسيح رأسه وبعضهم الآن في السماء وبعضهم على الأرض وسوف يجمعون في واحد ويكونون رعية واحدة لراع واحد. وهذا على سنن قوله «مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَعَلَى ٱلأََرْضِ» (أفسس ٣: ١٥ قابل هذا بما في كولوسي ١: ١٦ - ٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٢٤ و٢٨ ورومية ٦: ٣ - ١٠ وكولوسي ٣: ١ - ٣).
كون الجمع هنا مقصوراً على المؤمنين لا ينافي ما قيل في أماكن أُخر أن كل الخليقة المادية تشترك في فوائد الفداء ومن ذلك قوله «ٱلْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ ٱللّٰهِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ٱلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى ٱلآنَ» (رومية ٨: ٢١ - ٢٣). وقول بطرس «لٰكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا ٱلْبِرُّ» (٢بطرس ٣: ١٣) لا ينافي كون الملائكة يشاركون المفديين في تقديم الحمد للمسيح باعتبار كونه ملك الفريقين (رؤيا ٥: ٩ - ١٢). و «ذاك» في الآية إشارة إلى المسيح جيء به للتوكيد وزيادة الإيضاح.
١١ « ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ».
أعمال ٢٠: ٣٢ و٢٦: ١٨ ورومية ٨: ١٧ وكولوسي ١: ١٢ و٣: ٢٤ وتيطس ٣: ٧ ويعقوب ٢: ٥ و١بطرس ١: ٤ ع ٥ إشعياء ٤٦: ١٠ و١١
هذه الآية أيضاً تفصيل إجراؤء المذكور في الآية التاسعة.
ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً «أيضاً» يتعلق «بنلنا» ويبين أنه فضلاً عما حصلنا عليه من الاختيار والتبني ومعرفة الفداء والشركة في فوائده وبركاته حصلنا على الميراث العظيم. و «نا» في «نلنا» ضمير المؤمنين من اليهود والأمم والنصيب المذكور هنا هو ما وصفه الرسول بقوله «مِيرَاثِ ٱلْقِدِّيسِينَ فِي ٱلنُّورِ» (كولوسي ١: ١٢). فكما أن الإسرائيليين قديماً نالوا نصيباً في أرض الميعاد كذلك المؤمنون بالمسيح ينالون نصيباً في الملكوت السماوي الذي اشتراه المسيح لهم ويُسمى «بعربون الميراث المقتنى» (ع ١٤). وهذا موافق لقوله «فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٧). وهو ما أشار إليه بطرس بقوله «وَلَدَنَا ثَانِيَةً... لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (١بطرس ١: ٣ و٤). وبناء على نيل الأفسسيين هذا الميراث صلى بولس من أجلهم ليعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين (ع ١٨). وقال «نلنا» بدلاً من قوله سننال لتيقنه وقوع النيل ولكون الميراث محفوظاً لهم في السماء كما جاء في ما نقلناه عن بطرس (١بطرس ١: ٤).
مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي كأن الرسول بعدما ذكر النصيب المجيد الذي ناله المؤمنون سئل بمَ نالوا ذلك فكان جوابه أنهم نالوه بقصد الله وعمله لا بالاتفاق ولا بمقتضى استحقاقهم واجتهادهم لأن كل ما حدث قصد الله أنه يحدث وكل واقع نتيجة مجرد عمله. قال سابقاً أن علة تعيين الله إياهم للتبني مشيئته تعالى وزاد على ذلك هنا أن ذلك يصدق على تعيينهم لنيل النصيب المذكور.
يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ أبان بذلك أن ما يصدق على المؤمنين من جهة تعيينهم سابقاً وإجرائه فعلاً يصدق على كل الحوادث المتعلقة بخلاص شعبه أي أن قصده تعالى يشمل كل الأمور ويده تعتني بكل شيء وتجربه. والمراد من ذلك أن الله يسوس كل شيء بمقتضى طبيعته حتى لا يخالف سنن الطبيعة التي هو رتبها ولا ينزع حرية خلائقه العاقلة ولا مسؤوليتهم. ومعنى «رأي مشيئته» الرأي الذي يكون بمجرد مشيئته بلا أدنى تأثير خارجي. وفي هذا بيان أن ما يشاؤه الله إنما يشاؤه بحكمته ويؤيده قوله «بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ» (أعمال ٢: ٢٣).
١٢ «لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ ٱلَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي ٱلْمَسِيحِ».
ع ٦ و١٤ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ يعقوب ١: ١٨
في هذه الآية والتي تليها أبان الرسول من هم مختارو الله المعينون سابقاً للتبني ولنيل الميراث فصرّح أنهم مؤمنو اليهود أولاً ثم مؤمنو الأمم.
لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ أي لنكون واسطة لحمد جلاله وصرّح هنا كما صرّح في الآية السادسة بأن غاية الفداء وكل متعلقاته مجده تعالى.
نَحْنُ ٱلَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي ٱلْمَسِيحِ منذ القدَم أو قبل مجيئه إلى العالم أو قبل إيمان المذكورين في الآية الثالثة عشرة. والذين سبق رجاءهم هم اليهود الذين آمنوا بالمسيح الموعود به قبل الأمم. ولم يقصدهم هنا باعتبار كونهم أمة بل باعتبارهم أفراداً مؤمنين فهم تعلموا من رموز العهد القديم ونبوءاته أن يتوقعوا مجيء «رجاء إسرائيل» (أعمال ٢٨: ٢٠) و «تعزية إسرائيل» (لوقا ٢: ٢٥) ولذلك كانوا يوم الخمسين باكورة المخلّصين.
١٣ «ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ ٱلْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ ٱلْمَوْعِدِ ٱلْقُدُّوسِ».
يوحنا ١: ١٧ و٢كورنثوس ٦: ٧ و٢كورنثوس ١: ٢٢ وص ٤: ٣٠
أَنْتُمْ أيها المؤمنون من الأمم نلتم نصيباً فضلاً عن اليهود الذين سبقوكم إلى الإيمان بالمسيح (ع ١١). ولم يرد متنصري أفسس فقط بل متنصري الأمم في كل موضع.
إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ ٱلْحَقِّ هذا بيان الواسطة التي بها حصل الأمم على مشاركة اليهود في هذا الميراث. إنهم لم يتعلموا أمور المسيح بالرموز والنبوءات كاليهود بل تعلموا ذلك ممن بشروهم بالإنجيل. وسمي الإنجيل «كلمة الحق» لأن كل ما يتضمنه من التعليم حق مساوي وليس فيه شيء من التقاليد اليهودية أو الفلسفة اليونانية. وقد أبان يعقوب أنه «آلة الولادة الجديدة» (يعقوب ١: ١٨). وعبر بولس عنه «بكلمة حق الإنجيل» (كولوسي ١: ٥) وشهد له المسيح بقوله «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا ١٧: ١٧).
إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ هذا بيان لنوع الحق الذي بشر به لا الحق العام فهو الحق الخلاصي الذي أتاهم بالخلاص وهو ما دعاه في موضع آخر «قوة الله للخلاص» (رومية ١: ١٦). وسمي أيضاً «بشارة نعمة الله» و «إنجيل السلام» (ص ٦: ١٥) و «بشارة الملكوت» (متّى ٩: ٣٥) و «إنجيل يسوع المسيح» (مرقس ١: ١). وكلمة الحق هذه التي أتت بنبإ الخلاص العظيم سامعيها في عصر بولس وجعلتهم شركاء الميراث السماوي لا تزال واسطة خلاص النفوس إلى اليوم.
فِيهِ أَيْضاً أي في المسيح فإنهم باتحادهم به نالوا النصيب وبذلك خُتموا أيضاً.
إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ أي حين إيمانكم أو على أثر إيمانكم. وهذا يفيد أن مجرد سمعهم كلمة الحق ليس بعلة ختمهم بل علته الإيمان الناتج عن السمع. وهنا ثلاثة أمور يتعلق كل منها بالآخر وهي السمع والإيمان والختم. ويستعمل الختم لثلاث غايات الأولى إثبات صحة الأمر والثانية بيان أن المختوم لمن اسمه على الختم والثالثة حفظ الشيء على ما هو عليه. ويغلب وضع الختم على الصكوك والأبواب ولكنه وُضع هنا على الأنفس. والمؤمنون خُتموا لكل من الغايات الثلاث فتحققوا به أنهم أولاد الله إذ «عندهم الشهادة في أنفسهم» (١يوحنا ٥: ١٠ انظر أيضاً رومية ٨: ١٦ و٥: ٥). وأن الله وسمهم بأنهم له (رؤيا ٧: ٣) وأكد وقايتهم من الخطر ونيلهم الخلاص بدليل قوله «ٱلَّذِي بِهِ (أي بالروح القدس) خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ» (ص ٤: ٣٠). وقوله «الذي ختمنا أيضاً» (٢كورنثوس ١: ٢٢). وأخص ما قصد «بالختم» هنا الغاية الأولى أي تحقق المؤمن خلاصه على وفق قوله «بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ» (غلاطية ٤: ٦).
بِرُوحِ ٱلْمَوْعِدِ ٱلْقُدُّوسِ أي الروح القدس. وهذا مثل قوله «وأعطى عربون الروح في قلوبنا» (٢كورنثوس ١: ٢٢). وقول يوحنا «بِهٰذَا نَعْرِفُ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِينَا: مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي أَعْطَانَا» (١يوحنا ٣: ٢٤). ونعت الروح بالقدوس لأن عمله الخاص إنشاء القداسة في قلوب المؤمنين. وسمي «روح الموعد» لأنه وعد به وجاء على وفق الموعد. وكثرت المواعيد في أسفار الأنبياء «إن المسيح متى جاء يسكب روحه على كل بشر» ومنها (إرميا ٣١: ٣١ - ٣٤ ويوئيل ٢: ٢٨ - ٣٠). فالمسيح حين كان على الأرض في الجسد وعد تلاميذه بأنه يرسل إليهم معزياً آخر روح الحق الذي يمكث معهم إلى الأبد (١يوحنا ١٤: ١٦ و١٧ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧ و١٣). وأمرهم بعد قيامته «أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا «مَوْعِدَ ٱلآبِ» (أعمال ١: ٤). وقال الرسول إن «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا... لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ» (غلاطية ٣: ١٣ و١٤). والمسيح حصل لشعبه هبة عظيمة هي سكنى الروح القدس فيهم بغية إنارتهم وتقديسهم وتعزيتهم وحياتهم الأبدية.
إن المؤمنين بالمسيح لا يحصلون اليوم على علامات ختم الروح الخارجية لكنهم يشعرون بتأثيره فيهم فيظهر ذلك الختم في سيرتهم المقدسة وأعمالهم النافعة (انظر تفسير ٢كورنثوس ١: ٢٢).
١٤ «ٱلَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ ٱلْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ».
٢كورنثوس ١: ٢٢ و٥: ٥ لوقا ٢١: ٢٨ وأعمال ٢٠: ٢٨ ورومية ٨: ٢٣ وص ٤: ٣٠ ع ٦ و١٢ و١بطرس ٢: ٩
عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا انظر تفسير (٢كورنثوس ١: ٢٢). العربون جزء من الثمن يُنقد سلفاً إثباتاً لتأدية ما بقي. فإننا أخذنا في هذه الحياة بعض النصيب المذكور فإن الجزء الأعظم منه محفوظ لنا في الملكوت السماوي والروح القدس عربون ذلك. وجاء مثل هذا القول في موضعين آخرين وهما (٢كورنثوس ١: ٢٢ و٥: ٥). وتأثيرات الروح التي للمؤمنين هنا تشبه التي سيتمتعون بها في السماء نوعاً ولكنها تخالفها مقداراً بأنها أقل منها جداً وهي تحقق السعادة التامة في المستقبل كما تحقق باكورة الحصاد باقيهُ. ومن تلك التأثيرات تجديد قلوبنا وتقديسها وتعزيتنا في الضيقات وانتشالنا من التجارب وتقويتنا على العمل. وواضح أن الله في هبته لنا الروح أظهر غاية النعمة والرحمة والمحبة.
لِفِدَاءِ لم يظهر أبالعربون متعلق هذا أم بالختم في الآية السابقة والأرجح الثاني ويؤيد ذلك قوله «َلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللّٰهِ ٱلْقُدُّوسَ ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ» (ص ٤: ٣٠). والفداء هنا النتيجة الأخيرة الكاملة من نتائج عمل المسيح للخلاص فيتضمن تمام نجاة المؤمن وتمام التمتع برضى الله والحياة الأبدية وبدء الحصول عليه عند مجيء المسيح ثانية كما في (لوقا ٢١: ١٨ ورومية ٨: ٢٣ وأفسس ٤: ٣٠).
ٱلْمُقْتَنَى هو شعب الله الخاص وهذا لقب إسرائيل قديماً بدليل قوله تعالى «فَٱلآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ... وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً» (خروج ١٩: ٥ و ٦). وقول موسى «أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ ٱخْتَارَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْباً أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ ٱلَّذِينَ عَلَى وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (تثنية ٧: ٦ انظر أيضاً تثنية ١٤: ٢ و٢٦: ١٨ ومزمور ١٣٤: ٤ وإشعياء ٤٣: ٢١). ومثله ثابت للمؤمنين بالمسيح الذين هم إسرائيل الحقيقي بدليل قول الرسول «أَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ» (١بطرس ٢: ٩). والنبوءة عنهم ونصها «وَيَكُونُونَ لِي قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي أَنَا صَانِعٌ خَاصَّةً» (ملاخي ٣: ١٧). وهذا على وفق قول الرسول «كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ» (أعمال ٢٠: ٢٨). وقوله «ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْباً خَاصّاً» (تيطس ٢: ١٤).
لِمَدْحِ مَجْدِهِ (كما جاء في الكلام على الاختيار ع ٦: ١٢) أي لكي يحمد مجد الآب كل خلائقه الأبرار في السماء وعلى الأرض. وأعظم مجد الله أنه فدى كنيسته تمام الفداء الذي الروح القدس عربونه.

الشكر لله على ما وهبه للكنيسة والصلاة من أجلها ع ١٥ إلى ٢٣


شكر الرسول الله على إيمان الأفسسيين ومحبتهم وهو يحقق لهم أنه لا يفتر عن الصلاة من أجلهم (ع ١٥ و١٦). وسأله تعالى أن يعلن لهم حقيقة دعوتهم وميراثهم ومجده وأن يبين لهم قدرته نحوهم (ع ١٧ - ١٩) التي أظهرها بقيامتهم الروحية كما أظهرها بقيامة المسيح الجسدية وارتفاعه وتمجيده (ع ٢٠ و٢١) وأبان أن كل ذلك يؤول إلى فداء الكنيسة التي هي جسده (ع ٢٢ و٢٣).
١٥ «لِذٰلِكَ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ».
كولوسي ١: ٤ وفليمون ٥
لِذٰلِكَ أي بناء على كل ما أظهره الله من نعمته التي أشار إليها في الفصل السابق ولا سيما المذكور في (ع ١٣) منه.
أَنَا أَيْضاً فضلاً عن غيري من المؤمنين وعنكم أنتم خاصة الذين عليكم أن تشكروا الله أكثر من سواكم لما قبلتم من تلك النعمة.
إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ أسس بولس كنيسة أفسس وخدم الإنجيل وقتاً طويلاً في تلك المدينة فعجب بعضهم من قوله «سمعت بإيمانكم» كأن لم يكن قد عرفهم معرفة شخصية وهذا حملهم على الظن أن هذه الرسالة كُتبت إلى كل كنائس آسيا المجاورة لأفسس لا إلى كنيسة أفسس وحدها. والواقع أن بولس غاب عنهم نحو خمس سنين ثم كتب هذه الرسالة فيحتمل أن إيمانهم زاد في تلك المدة أو نقص فكان يرغب كثيراً في أن يسمع ما يتعلق بذلك ومن الطبع أن يفرح بنبإ بقائهم على الإيمان. ولعله لم يتيسر له أن يعرف أحوالهم منذ اجتماعه بقسوس الكنيسة في ميليتس (أعمال ص ٢٠) إلى وقت كتابة هذه الرسالة ولو قال «سمعت نبأ اهتدائكم إلى المسيح» لكان قوله سبيلاً إلى هذا الظن.
وذكر إيمانهم ومحبتهم دون غيرهما من الفضائل المسيحية لبيان أن الإيمان بالمسيح والمحبة للإخوة من الفضائل الأولى. والمراد «بإيمانهم بالرب يسوع» اتكالهم عليه للخلاص. وإضافة لفظة «الرب» إلى «يسوع» باعتبار كونه موضوع الإيمان والمحبة من جملة الأدلة على لاهوته لأنه يستحيل أن يكون علة ثقة النفوس الخالدة ما لم يكن الإله الحق والحياة الأبدية.
نَحْوَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ هذا من متعلقات قوله «محبتكم» وأراد «بالقديسين» المؤمنين المطهرين بدم المسيح مفروزين من العالم وموقوفين لله وتلك المحبة مبنية على نسبتهم إلى الله نسبة الأولاد إلى الآب ولذلك شملتهم جميعاً بدون نظر إلى مقامهم أو غناهم ومواهبهم.
١٦ «لاَ أَزَالُ شَاكِراً لأَجْلِكُمْ، ذَاكِراً إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي».
رومية ١: ٩ وفيلبي ١: ٣ و٤ وكولوسي ١: ٣ و١تسالونيكي ١: ٢ و٢تسالونيكي ١: ٣
هذه الآية تفيد أمرين الأول الشكر لله على ما وهبهم والثاني الصلاة من أجلهم. ويجب دائماً أن تضاف إلى الشكر الطلبات ما دام الناس في هذا العالم لأننا لا ندرك الكمال هنا حتى نستغني عن الطلب.
١٧ «كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلٰهُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَبُو ٱلْمَجْدِ، رُوحَ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ».
يوحنا ٢٠: ١٧ وع ٣ كولوسي ١: ٩ و٢: ٢
إن صلاة الرسول شغلت سائر هذا الأصحاح.
كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلٰهُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ الذي خاطبه الرسول في الصلاة خاطبه بالنظر إلى أنه هو الإله الذي أتى المسيح ليعمل مشيئته وأرسل المسيح وذهب المسيح إليه. وقال المسيح في نفسه ما قيل فيه بهذه الصلاة «إِنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلٰكِنِ ٱذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَـهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلٰهِي وَإِلٰهِكُمْ» (يوحنا ٢٠: ١٧). وقال في صلاته على الصليب «إلهي إلهي لماذا تركتني» (متّى ٢٧: ٤٦) وجاء مثل هذا في الآية الثالثة من هذا الأصحاح. ولعل الرسول قال ما قاله هنا مقدمة لما في (ع ٢٠) من الكلام على أن الله رفع المسيح ليكون رأساً للكنيسة وعلى قدر مماثلتنا للمسيح يكون إلهه «ٱللّٰهَ هٰذَا هُوَ إِلٰهُنَا إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأََبَدِ» (مزمور ٤٨: ١٤).
أَبُو ٱلْمَجْدِ أي ذو المجد الحق السامي الذي لم يُعلن إلا بالمسيح الابن الوحيد من الآب (يوحنا ١: ١٤) وذلك المجد هو الذي يراه القديسون في وجه يسوع المسيح (٢كورنثوس ٤: ٦). وأخص مطاليب هذه الصلاة من أجل الأفسسيين ثلاثة:

  • الأول: أن يعرفوا الحقائق الإلهية معرفة كاملة.
  • الثاني: أن يتحققوا قيمة سعادة القديسين المستقبلة.
  • الثالث: أن يشعروا بعظمة ما حدث لهم يوم تجددوا.


كَيْ يُعْطِيَكُمْ هذا بداءة المطلوب الأول وهو إنارتهم الروحية بالحق الإلهي.
رُوحَ ٱلْحِكْمَةِ أي الروح القدس الساكن في قلوبهم الذي يعلمهم تلك الحكمة وفيه تمامها وهو مصدرها لطالبيها وسمي «روح الحق» (يوحنا ١٥: ٢٦). وأطال الرسول الكلام على هذه الحكمة في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وقال «إنها ليست من هذا العالم» وإنها هي الحكمة المخفاة التي يعلنها الروح ويعلمنا إياها في الإنجيل.
وَٱلإِعْلاَنِ أي الشعور باطناً بحقيقة الأمور السماوية وصلاحها وتأثيرها في القلوب فليس المراد بهذا الإعلان ما يقدرهم على كشف أمور المستقبل بل الذي يحتاج إليه كل مؤمن ويجب أن يطلبه بالصلاة. ووعد المسيح تلاميذه به بقوله «يكون الجميع متعلمين من الله» (يوحنا ٦: ٤٥).
فِي مَعْرِفَتِهِ أي معرفة الله وهذه المعرفة اختبارية كمعرفة الخطيئة بواسطة الناموس على ما في قوله «لأَنَّ بِٱلنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٣: ٢٠) وأشار المسيح إلى تلك المعرفة بقوله «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ الخ» (يوحنا ١٧: ٣) ولا يحصل الأفسسيون عليها إلا بروح الحكمة والإعلان. ولا ريب في أنهم قد نالوا بعض المعرفة بالله وحقه لكن الذي رغب الرسول فيه لهم النمو فيها إلى التمام.
١٨ «مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي ٱلْقِدِّيسِينَ».
أعمال ٢٦: ١٨ ص ٢: ١٢ و٤: ٤ ع ١١
الجزء الأول من هذه الآية تفسير للآية السادسة عشرة ونتيجة ما فيها.
مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ إن العقل يحصل على معرفة العالم المادي بعيون الأجساد فاستعيرت هنا للأذهان كأن للأذهان عيوناً ترى بها الحقائق الروحية الأدبية وأشار إليها المسيح بقوله «وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً، فَإِنْ كَانَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَٱلظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ» (متّى ٦: ٢٣).
إن جزءاً عظيماً مما نستفيده من الدين هو الإنارة الروحية لأن الخطيئة غشيت الأذهان فأظلمت والشيطان أعمى البصائر ولذلك قال المسيح لشاول حين أرسله إلى الأمم إنما أرسله «لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ» (أعمال ٢٦: ١٨).
لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، أي دعوة الله إياهم. إن الله يدعو الإنسان بإنجيله وروحه إلى العمل وحمل الصليب. ويدعوه فوق ذلك إلى الرجاء بواسطة المواعيد التي يعده بها. وكون الدعوة من الله يجعل الرجاء المتعلق بها ثابتاً. فإنه من بركات المؤمن العظيمة أن يدرك كما ينبغي الرجاء الموضوع أمامه في الإنجيل. وهذه البركة هي المطلوب الثاني مما طلبه الرسول لمؤمني أفسس بالصلاة.
وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ وهذا جزء من المطلوب الثاني. والميراث هو الحياة الأبدية ويرثها المؤمن لكونه متحداً بالمسيح وشريكاً له في الميراث الذي استحقه باعتبار كونه ابن الله الحبيب. وأشار إلى عظمة هذا الميراث ووفرته وجودته بإضافته إليه غنى المجد. فهذا لم يكن عظيماً لمجرد كونه إلهياً بل لكونه مجيداً في ذاته أيضاً ولأن مجده يفوق الوصف.
فِي ٱلْقِدِّيسِينَ أي أنه الميراث الذي يتمتع به جميع القديسين وهذا على وفق قوله «أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي لِلّٰهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، ٱلْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثاً مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال ٢٠: ٣٢ انظر أيضاً أعمال ٢٧: ١٨ وكولوسي ١: ١٢). إن الأمم كانوا أجنبيين وغرباء لكنهم صاروا بالنعمة رعية مع القديسين وأهل بيت الله. ودليل عظمة ميراثهم أنه معد للقديسين شعب الله الخاص. ويزيد سعادة المؤمنين أنهم يجتمعون مع جمهور القديسين في السماء وهنالك ينالون ميراثهم.
١٩ «وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ ٱلْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ».
ص ٣: ٧ وكولوسي ١: ٢٩ و٢: ١٢
ذكر الرسول في هذه الآية المطلوب الثالث مما رغب فيه لمؤمني أفسس وسأل الله أن يعلمهم إياه وهو الشعور بعظمة التغيير الذي أنشأه الله فيهم حين تجددوا وهو ليس بإصلاح أدبي ناتج عن صحة عقولهم واستعمالها عزموا عليه لكونه واجباً عليهم ونافعاً لهم بل هو تغيير علته قوة الله غير المتناهية.
مَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ ٱلْفَائِقَةُ نَحْوَنَا أي أن ذلك التغيير الذي سمي أحياناً «ولادة جديدة» وأحياناً «خليقة جديدة» وسمي في الآية التالية «قيامة من الموت» لا يقدر عليه إلا الله العظيم القدرة ورغب الرسول في أنهم يتحققون القوة التي استعملها الله ليغيرهم ليكونوا متواضعين بالنظر إلى حال شقائهم وعجزهم التي انتشلهم الله منها ويتحققوا أنهم غير قادرين أن يغيروا أنفسهم وأن ذلك التغيير دائم فإنه لا قوة الخطيئة التي فيهم ولا قوة الشيطان تستطيع أن تبطله ويشكروا الله على نعمته باستعمال تلك القوة لهم.
نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أشار بذلك إلى من يستعمل الله قوته نحوهم.
حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ وصف الرسول بهذه الكلمات القوة التي استعملها الله في تجديد أنفس المؤمنين تمهيداً لمقابلتها بالقوة التي استعملها الله في إقامة يسوع من الأموات. ووصف قوة الله بما ذُكر لأنها تفوق قوة كل مخلوق لأنه يستحيل أن يقيم المخلوق موتى الأجساد أو موتى الأرواح أو أن يُحيي النفوس المائتة بالآثام والخطايا. وعلق بعضهم هذه العبارة بالمؤمنين فكان المعنى أنهم مؤمنون حسب شدة قوته والمعنى على الوجهين حسن.
٢٠ «ٱلَّذِي عَمِلَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ».
أعمال ٢: ٢٤ و٢٣ مزمور ١١٠: ١ وأعمال ٧: ٥٥ و٥٦ وكولوسي ٣: ١ وعبرانيين ١: ٣ و١٠: ١٢
ٱلَّذِي عَمِلَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ في هذا أمران الأول أن القوة التي أقامت المؤمن من الموت الروحي تشبه القوة التي أقامت المسيح من الموت. والثاني أن قيامة المسيح علة قيامة شعبه الروحية فضلاً عن كونها مثلها. وقد سبق إيضاح كون ذلك شبيهاً وعلة في رسالة رومية (رومية ٦: ١ - ١٠). فارجع إلى التفسير هناك. وعلينا أن ننظر في قيامة المسيح فوق عمله الجسدي في قيامة جسده التي هي عربون قيامتنا الجسدية عملاً روحياً به أقام كل الجنس البشري المتحد به من فساد إلى مجد ومن اللعنة والانكسار إلى البركة والانتصار.
وكلما تأملنا في المسيح بالنظر إلى كونه قد قام من الأموات وجلس عن يمين الآب رأينا في ذلك مثال التغيير الذي حدث لنا في حالنا الروحية وعربون أن يتم في المجد العمل الذي ابتدأه في التجديد حين نستيقظ بشبهه (مزمور ١٧: ١٥). وقال «عمله في المسيح» لأن المسيح باكورة الراقدين ورأس الكنيسة التي قامت معه. وكما أنه مات للخطية مرة ثم حيي لله كذلك نحن باعتبار كوننا متحدين به متنا للخطيئة وسنحيا لله (رومية ٦: ١٠ و١١).
وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ يُجلس الملوك عن يمينهم من أرادوا إكرامهم وملكهم معهم فيستحيل أن يستحق أحد من المخلوقات أن يشارك الله في المجد والسلطان ولذلك لم يقل قط لأحد من الملائكة اجلس عن يميني (عبرانيين ١: ٣). ولكن المسيح نال هذا الشرف العظيم والسلطة السامية والسعادة الكاملة بدليل ما جاء في بشارة متّى (متّى ٢٨: ١٨) ورسالة بطرس الأولى (١بطرس ٣: ٢٢).
ٱلسَّمَاوِيَّاتِ مرّ تفسيرها في (ع ٣). وهي الأماكن السماوية التي يظهر الله مجده فيها. وفيه جسد المسيح الذي أقيم ومجد والملائكة وسائر القديسين. ولم يأخذ المسيح هذا الارتفاع لنفسه فقط بل للذين اتحدوا به بالإيمان أيضاً وهم أعضاء جسده أي كنيسته التي هو رأسها وإلى ذلك أشار المسيح في صلاته الوداعية بقوله «مَجِّدِ ٱبْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ٱبْنُكَ أَيْضاً، إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ» (يوحنا ١٧: ١ و٢) وقوله «أَيُّهَا ٱلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي» (يوحنا ١٧: ٢٤).
٢١ «فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ ٱسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هٰذَا ٱلدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي ٱلْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً».
فيلبي ٢: ٩ و١٠ وكولوسي ٢: ١٠ وعبرانيين ١: ٤ رومية ٨: ٣٨ وكولوسي ١: ١٦ و٢: ١٥
فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ ما قيل هنا إلى نهاية الأصحاح بيان ارتفاع المسيح وهو كلام معترض أتاه ليحقق للمؤمنين فوائد الفداء التي ينالها المؤمنون باتحادهم بالمسيح. والكلمات المذكورة في العبارة تعم كل ذوي القوة من المخلوقات وغلب استعمالها في الإنجيل كالملائكة (رومية ٨: ٣٨ وكولوسي ١: ١٦ وأفسس ٣: ١٠ و٦: ١٢). ولا نعلم علة استعمالها لها ولعلها الإشارة إلى طبيعتهم السامية ولأن الله يُجري قوّته وسلطته بواسطتهم أو لبيان نسبة بعضهم إلى بعض في الرتبة. ويحتمل أن بولس استعملها نفياً لبعض التعليم الفاسد الذي أدخله الغنوسيون آسيا الصغرى يومذ مثل قولهم «إنه صدر من الجوهر الإلهي بعض الكائنات المتفقة في الحقيقة المختلفة في مقادير اللاهوت».
وَكُلِّ ٱسْمٍ أي كل ذي اسم شريف كملك وأمير وسيّد.
لَيْسَ فِي هٰذَا ٱلدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي ٱلْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً أي في الدنيا والآخرة (متّى ١٢: ٣٢) والمراد أن لا ذا اسم في العالم الحاضر والعالم المستقبل لم يرتفع المسيح عليه. إننا نعلم أن الملك فوق كل أهل بلاطه وإن لم نعلم من هم أهل ذلك البلاط كذلك نعلم أن المسيح فوق الجميع وإن لم نستطع معرفة أسماء خدَمه.
٢٢ «وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ».
مزمور ٨: ٦ ومتّى ٢٨: ١٨ و١كورنثوس ١٥: ٢٧ وعبرانيين ٢٨ ص ٤: ١٥ و١٦ وكولوسي ١: ١٨ وعبرانيين ٢: ٧
وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أي لم يرتفع على كل شيء فقط بل تسلط عليه أيضاً. وهذا مقتبس من (مزمور ٨: ٧) واقتبسه أيضاً في كلامه على المسيح في (١كورنثوس ١٥: ٢٧ وعبرانيين ٢: ٦ - ٨). والمراد أنه أخضع كل ذي عقل قابل الخضوع. فإذاً كل من سوى الله الآب خاضع ليسوع المسيح باعتبار كونه ملك الملوك ورب الأرباب. والمزمور الثامن إنباء بسلطة الإنسان العامة على المخلوقات فيجوز أن ينسب إلى المسيح لأنه لم يتم ولا يتم إلا بالإنسان يسوع المسيح رأس البشر.
وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أي إن ذلك الكائن الرفيع الشأن الممجد ابن الله المتجسد الجالس على عرش رئاسة الكون هو الذي جعله الله رأس الكنيسة. وهو رأس الكنيسة لأنه مصدر حياتها وملكها وحاضر معها أبداً ومؤاسيها ومحبها محبة الإنسان لجسده (ص ٤: ١٥ و١٦ وص ٥: ٢٣ و٢٩ ورومية ١٢: ٥ و١كورنثوس ١٢: ٢٧).
لِلْكَنِيسَةِ أي لنفعها بكل شيء ومن ذلك خضوع القوات الطبيعية لها كالعناصر والرياح والأمواج لتسكن أو تهيج بأمره نفعاً لها. ومنه خضوع كل أمم الأرض وملوكها لها فإن تآمروا عليها ذهبت مؤامرتهم باطلاً. ومنه خدمة ملائكة السماء إياها بكل مراتبها فإنهم جميعاً طوع أمر المسيح لنفع كنيسته. ومنه خضوع الأبالسة لكي لا يضروا الكنيسة على وفق الوعد بأن «أبواب الجحيم لن تقوى عليها» (متّى ١٦: ١٨). والمراد بالكنيسة كل المؤمنين الحقيقيين في كل عصر من عصور العالم. ولا بيان في الإنجيل لما يجب أن يكون نظامها الخارجي ولا أدنى تلميح إلى أن تكون ذات سلطة سياسية. والأمر الجوهري في الكنيسة أن تكون واحدة متحدة خاضعة للمسيح رأساً وحيداً لها فإذا طلبنا برهاناً على كون المسيح رأس الكنيسة قلنا أنها حُفظت نحو تسعة عشر قرناً منذ تأسيسها.
٢٣ «ٱلَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ ٱلَّذِي يَمْلأُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ».
رومية ١٢: ٥ و١كورنثوس ١٢: ١٢ و٢٧ وص ٤: ١٢ و٥: ٢٣ و٣٠ وكولوسي ١: ١٨ و٢٤ كولوسي ٢: ٩ و١كورنثوس ١٢: ٦ وص ٤: ١٠ وكولوسي ٣: ١١
ٱلَّتِي هِيَ جَسَدُهُ أي جسده المجازي لا جسده الحقيقي الذي فيها قام وتمجد. اعتبر الرسول المسيح والمؤمنين به جسداً واحداً هو رأسه وروحه يسكن في الكنيسة فتكون بمنزلة جسده. فكون المسيح «الحياة» ومكثه فيها يستلزمان أنها ذات حياة كما أن حياة الجسد تستلزم حياة الأعضاء وأن حياة الكرمة تستلزم حياة الأغصان وكما تقتضي كون الكنيسة جسد المسيح إنها تحيا به كذلك يقتضي أنها ترتفع بارتفاعه وتتمجد وتسعد بمجده وسعادته (١كورنثوس ١١: ٣ و١٢: ٢٧ وأفسس ٤: ١٥ و١٦ وكولوسي ١: ٢٤).
مِلْءُ بدل من جسد أي أن الكنيسة ملء المسيح. والملء هنا على مصطلح الإنجيل بمعنى المملوء أو المالئ أي المكمَّل أو المكمِّل فإذا كان لأمر جزآن جاز أن يقال أن كلا منهما ملء الآخر بمعنى أنه مكمله بدون رفع شأن أحدهما على الآخر. فقال الرسول أن الكنيسة ملء المسيح ولا يظهر من كلامه أمملوءة هي أم مالئة لأن الملء يصح أن يراد به اسم المفعول واسم الفاعل.
فإن كان المراد الأول كان المعنى أن الكنيسة تمتلئ بالمسيح كما يمتلئ جسد الإنسان بروحه. والله سكن قديماً في هيكله وملأه بمجده كذلك المسيح يسكن الآن في الكنيسة ويملأها بنفسه وهذا المعنى حسن.
وإن كان الثاني وهو أقرب إلى ظاهر العبارة كان المعنى أن الكنيسة تملأ ما قصده المسيح من كمال الجسد الذي هو رأسه. إن الإنسان لا يكمل بدون الرأس والبدن فيصح أن يُقال أن البدن ملء الجسد إذ لا يكمل بدونه. فأبان بولس هنا أن نسبة الكنيسة إلى المسيح كنسبة البدن إلى الرأس فما قصده من الكمال لا يتم بدونها فإذا كانت هي وأعضاؤها متحدة بذلك الرأس وحييت بحياته وفعلت بروحه الساكن فيها تم قصده منها وواضح أن ذلك لا يصح إلا من جهة ناسوت المسيح الممجد فلا يمكن أن يقال عليه من جهة لاهوته لئلا تكون الكنيسة كما اللاهوت وهو محال.
ٱلَّذِي يَمْلأُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ وهو المسيح باعتبار أنه إله وإنسان وأضاف الرسول هذا إلى ما سبق لئلا يوهم قوله أن ناسوت المسيح الممجد لا يكمل بدون الكنيسة انحطاط شأن المسيح فاستدرك ذلك بما أبان به أن الكنيسة مفتقرة إليه إلى غير النهاية. وقوله «الكل في الكل» لم يرد به الكنيسة بكل أعضائها بل الكون بكل أجزائه كما في قوله تعالى «أَمَا أَمْلأُ أَنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ» (إرميا ٢٣: ٢٤). وقول سليمان «هَلْ يَسْكُنُ ٱللّٰهُ حَقّاً عَلَى ٱلأَرْضِ؟ هُوَذَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُكَ» (١ملوك ٨: ٢٧). وقول المرنم «أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ» (مزمور ١٣٩: ٧ - ١٠). وهذا على وفق ما قاله الإنجيل في المسيح من أنه خلق كل شيء وأنه حامل كل شيء بكلمة قدرته وأنه يملأ (كولوسي ١: ١٦ و١٧ وعبرانيين ١: ٣ وأفسس ٤: ١٠). والذي قيل في ع ٢٢ أنه «رأس الكنيسة» قيل أنه «رأس الكون لكي يعطيه كل ما يحتاج إليه من العناية والسياسة والبركات وهو حاضر في كل مكان وعلة كل المبروآت وواهب كل النعم». وقوته وعنايته تشملان الأرواح السماوية والنفوس البشرية.
وطلب بولس لكنيسة أفسس أن تدرك اتحادها بالمسيح ليس اتحادها بمجرد مخلوق محدود بل بمن هو الله ظهر في الجسد وهو في كل مكان وضابط كل شيء وينتج من ذلك أن حياتها أبدية لأن مصدرها أبدي.


اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي


مقابلة حال الأفسسيين قبل اهتدائهم بالنعمة بحالهم بعده (أعمال ١ - ١٠) ومقابلتها وهم غرباء عن شعب الله بها وهم رعية مع القديسين وأهل بيت الله (ع ١١ - ٢٢).
مقابلة حال الأفسسيين قبل الإيمان بحالهم بعده ع ١ إلى ١٠


في هذا الفصل ثلاثة مواضيع الأول حالهم الروحية قبل تنصرهم والثاني ما حدث فيهم من التغيّر والثالث الغاية التي قصدها الله من تغيّرهم. ووصف حالهم قبل الاهتداء بثلاث صفات الأولى أنها حال الخطيئة والهلاك والثاني أنها حال الخضوع للشيطان والشهوات الجسدية والثالث أنها حال الدينونة (ع ١ - ٣).
ووصف التغيّر الذي نشأ فيهم بعد الإيمان بأنه قيامة روحية ووصف تلك القيامة بأربع صفات الأولى أن الله منشئها والثانية أنها عمل محبته ونعمته والثالثة أنه كانت بواسطة اتحادهم بالمسيح والرابعة أنها تستلزم رفع من أُقيم إلى مقام عظيم ليس دون مقام المشاركة للمسيح في مجده (ع ٤ - ٦).
وقصد الله من تغيرهم إظهار نعمته في الأجيال الآتية. وذلك التغير ووسائله تُظهر نعمة الله بثلاثة أسباب الأول أن الخلاص الذي نشأ عن التغيّر كله من النعمة والثاني أن الأفسسيين بالنعمة آمنوا بالخلاص وقبلوه والثالث أن الأعمال الصالحة التي فعلوها بعد أن تغيّروا هي من أثمار النعمة لا من الإنسان الطبيعي (ع ٧ - ١٠).
١ «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا».
ع ٥ وص ٤: ١٨ وكولوسي ٢: ١٣
وَأَنْتُمْ مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما بعده عليه وتقديره أحياكم بعد أن كنتم أمواتاً بالذنوب على ما يُفهم من الآية الخامسة.
إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بموت روحي وأنتم أحياء في الجسد لأن الموت الروحي لا ينفي الحياة الجسدية (وإن كان علة إزالتها في ما بعد) إذ ينشأ عنه العجز والفساد والشقاء. ويحق أن تسمى حال النفس قبل الإيمان والتجدد بالموت لانفصالها عن روح الله مصدر الحياة ولعجزها عن أن تفكر فكراً حسناً أو تعمل علماً صالحاً.
بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا وهي علة الموت الروحي وعلاماته. ويعسر التمييز بين الذنوب والخطايا وهما يعمان التعدي وعدم الامتثال والآثام الباطنة والظاهرة وآثام العمد وآثام السهو والأعمال الشريرة والمبادئ الفاسدة التي قادت إلى تلك الأعمال.
٢ «ٱلَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ، ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ».
١كورنثوس ٦: ١١ وص ٤: ٢٢ وكولوسي ١: ٢١ و٣: ٧ و١يوحنا ٥: ١٩ ص ٦: ١٢ ص ٥: ٦ وكولوسي ٣: ٦
في هذه الآية والتي تليها إيضاح نسبته الموت إليهم.
ٱلَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا أي بمقتضى سلوك أهل هذا العالم. فالدهر هنا العادة أو الدأب بالنظر إلى سلوك أهل العالم وتأثير مبادئ العالم فيهم ليقودهم إلى ارتكاب الخطيئة. ومراد الرسول «بهذا العالم» العالم الحاضر بالنظر إلى كونه منفصلاً عن الله وعاصياً له بخلاف العالم الآتي الخاضع له.
حَسَبَ دَهْرِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أي بمقتضى سلوك أهل هذا العام. فالدهر هنا العادة أو الدأب بالنظر إلى سلوك أهل العالم وتأثير مبادئ العالم فيهم ليقودهم إلى ارتكاب الخطيئة. ومراد الرسول «بهذا العالم» العالم الحاضر بالنظر إلى كونه منفصلاً عن الله وعاصياً له بخلاف العالم الآتي الخاضع له.
حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ أي علة وفق ما أراده الشيطان. ويتضح أن الشيطان هو المقصود برئيس سلطان الهواء من تسميته «إله هذا الدهر» (٢كورنثوس ٤: ٤) و «رئيس هذا العالم» (يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠) و «رئيس الشياطين» (متّى ٩: ٣٤). وقد نسب إليه الإنجيل ملكوتاً هو ملكوت الظلمة الذي جنوده الخاضعون أشرار والأرواح النجسة. وكان مؤمنو أفسس قبل إيمانهم من أولئك الجنود. ومعنى كونه «رئيس سلطان الهواء» إنه رئيس كل من لهم سلطان على ارتكاب الشر من سكان الهواء وهم الأرواح النجسة. ولا نعلم علة نسبته إليه سكنى الهواء ولكن ظن بعضهم أن بولس جرى على اعتقاد روماني عصره بلا تعرض لإثباته أو إبطاله فإنهم اعتقدوا أن الهواء مسكن الأرواح. وظن آخرون أنه نسبها إليهم إشارة إلى طبيعتهم لأنه ليس لهم أجساد من لحم ودم كالبشر حتى تصح نسبتهم إلى السماء فلا نقدر أن نفرض لهم مسكناً إلا الهواء. ولما أراد المسيح بيان نزعهم الحق من قلب الإنسان في مثل الزارع استعار لهم «الطيور» (متّى ١٣: ٤) وقد رأينا ذلك في محله. والذي نعرفه من الشياطين بمقتضى الكتاب والاختبار أنهم لم يقيدوا بعد في جهنم وإنهم يأتون إلى العالم ويجولون فيه ليضروا الناس جسداً ونفساً. وزعم بعضهم أن الكلمة اليونانية المترجمة «بالهواء» هنا يصح أن تترجم بالظلمة ولكن ليس له ما يكفي من الأدلة على ذلك.
ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ هذا بيان لقوله «رئيس سلطان الهواء» وفيه إشارة إلى تأثيره في الناس. ومعنى قوله «يعمل فيهم» إنه يقودهم إلى الخطيئة ويغريهم بعصيان الله ويظهر قوته بأعمال الناس الأشرار. والمراد «بأبناء المعصية» الذين يستمرون على أن يعصوا الله طوعاً واختياراً. وهذه العبارة من جملة العبارات الكتابية التي تبين أن الشيطان وجنوده المماثلة له يحملون البشر على أن يفتكروا افتكارهم ويروا رأيهم ويعملوا ما يريدون (متّى ١٣: ٣٨ ويوحنا ١٢: ٣١ و٨: ٤٤ وأعمال ٢٦: ١٨ و٢كورنثوس ٤: ٤). وهؤلاء الأعداء أرهب من الأعداء المنظورين الذين يمكنهم أن يضروا أجسادنا ولكن ليس لهم سلطان من الله على نزع حريتا أكثر مما للأعداء المنظورين فطوبى للذين يصلي المسيح من أجلهم كما صلى من أجل بطرس عندما اجتهد الشيطان في أن ينتصر عليه (لوقا ٢٢: ٣١).
٣ «ٱلَّذِينَ نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ ٱلْجَسَدِ وَٱلأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ كَٱلْبَاقِينَ أَيْضاً».
تيطس ٣: ٣ و١بطرس ٤: ٣ غلاطية ٥: ١٦ مزمور ٥١: ٥ ورومية ٥: ١٢ و١٤
ٱلَّذِينَ هذا نعت لأبناء المعصية.
نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً أي كل المؤمنين يومئذ من اليهود والأمم وحسب نفسه منهم بالنظر إلى حاله السابقة مع أنه كان من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم (فيلبي ٣: ٦) فاعتبر أن كل من لا يؤمنون بالمسيح ولا يولدون ثانية من الروح القدس خطأة أمام الله على حد سواء يهوداً كانوا أو أمماً لأنه «بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ» (عبرانيين ١١: ٦).
تَصَرَّفْنَا أي سلكنا (ع ٢).
بَيْنَهُمْ أي بين أبناء المعصية.
عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ ٱلْجَسَدِ أي ما يطلبه الجسد والأهواء الشريرة كأنها سيّدات وهم عبيد طائعون فكأن مبادئ حياتهم مبنية على الشهوات الجسدية.
وَٱلأَفْكَارِ المبنية على شهوات الجسد كالحسد والخداع والانتقام والبخل وكل الانفعالات الشريرة في نفس غير المتجدد.
بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ أي عرضة لغضب الله للخطيئة. والمراد «بالطبيعة» ولادتنا في تلك الحال لا مصيرنا بعد الولادة إليها. ولنا من هذا أن الطبيعة البشرية فاسدة من أصلها ولذلك كانت عرضة لغضب الله بمقتضى العدل. وهذا يوافق تعليم الكتاب كله إن البشر نسل ساقط مولودون في حال الخطيئة والدينونة مفتقرون إلى الفداء بالمسيح منذ ولادتهم. وما قيل هنا في حال الإنسان غير المتجدد هو كقول المرنم «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور ٥١: ٥) ومثله ما جاء في رسالة رومية (رومية ٣: ٩ و٥: ١٢ - ٢١).
كَٱلْبَاقِينَ أَيْضاً أي كسائر الجنس البشري في الطبيعة كما كانوا هم أيضاً قبل الإيمان. وذكر الرسول عموم خطيئتهم وموتهم الروحي وتعرضهم لغضب الله بياناً لعظمة النعمة التي أنقذت المؤمنين من حاله الهائلة.
٤ «اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا».
رومية ١٠: ١٢ وص ١: ٧ وع ٧
بعد ما أبان بولس حال الأفسسيين الطبيعية أخذ يبين الطريق التي بها نجا الذين كتب إليهم من حال الخطيئة والشقاء وتلك الطريق هي إقامتهم الروحية التي أنشأها الله وأقامهم لا لصلاح فيهم بل لمجرد محبته الفائقة.
اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ لم يكتف الرسول بوصف الله بالرحمة فزاد على ذلك أن وصفه بغناه فيها وكذلك وصفه «بغنى النعمة» (ص ١: ٧) و «غنى المجد» (ص ١: ١٨). ومما يثبت غنى رحمته أنه أظهرها للذين هم أموات بالذنوب والخطايا وكونه غنياً في الرحمة حمله أن يشفق عليهم في شقائهم وأن يرغب في إنقاذهم منها.
مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ الخ المحبة جوهر صفات الله (١يوحنا ٤: ١٦) وهي التي حملته على أن يعمل ما عمله بغية خلاصهم وهو أنه أحياهم مع المسيح وأجلسهم معه في السماويات.
٥ «وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ».
رومية ٥: ٦ و٨ و١٠ وع ١ يوحنا ٥: ٢٤ ورومية ٦: ٤ و٥ وكولوسي ٢: ١٢ و١٣ و٣: ١ و٣ أعمال ١٥: ١١ وع ٨ وتيطس ٣: ٥
وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا أي مع كونهم أبناء المعصية في حال الهلاك والعجز عن القيام منه. إن عظمة المحبة التي ذكرها بقوله «من أجل محبته الكثيرة» وهي التي أحبهم بها أفراداً حملته على أن يقيمهم من موتهم بالخطيئة وهذا كقوله «وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية ٥: ٨). فالناس يحبون أصدقاءهم المحسنين إليهم والله يحب أعداءه المسيئين إليه ويحسن إليهم.
أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ هذا يوافق ما جاء في (ص ١: ١٩ و٢٠) وليس المقصود مجرد أن قيامتنا الروحية تشبه قيامة المسيح من الموت بل هو مع ذلك أنه باتحادنا بالمسيح الذي هو القيامة والحياة كان موته موتنا وحياته حياتنا وارتفاعه ارتفاعنا. وهذا على وفق قول المسيح «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا ١٤: ١٩) وقوله «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأََبَدِ» (يوحنا ١١: ٢٥ و٢٦ قابل به ما في يوحنا ٥: ٢٤ و١٧: ٢ ورومية ٦: ٥) وسمي المسيح «حياتنا» (كولوسي ٣: ٤) ويوافقه ما في (٢كورنثوس ٤: ١٠ و١١ انظر ايضاً رومية ٦: ٦ و٨ وغلاطية ٢: ١٩ و٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٢٢ و٢٣ و٢كورنثوس ٥: ١٤). وجاءت الأفعال المنسوبة إلى الله وهي «أحيانا» و «أقامنا» و «أجلسنا» بصيغة الماضي إشارة إلى أنها قد حدثت لا إلى مجرد أنها تحدث في المستقبل. فحين قام يسوع من الموت وجلس عن يمين الله كان كأنه وقتئذ أقام كل شعب الله معه وما نالوه حينئذ يؤكد قيامة أجسادهم بعد. فحياة الجسد كلها بالرأس فحين قام الرأس قام الجسد معه أيضاً ولكن كل واحد في رتبته المسيح أولاً ثم الذين للمسيح في مجيئه.
بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ أي «ٱنْتَقَلتم مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا ٥: ٢٤). وقال الرسول ذلك لئلا ييأس أحد من نيل تلك البركات نظراً لعظمتها ولعدم استحقاقه وليبين أن نجاتهم من الموت وحصولهم على الحياة من نعمة الله المجانية التي لا يستحقها بشر. وأتي بالعبارة معترضة بياناً لرفعة شأنها وحذرنا من أن ينسى المؤمن لفرحه بها أن يشكر الواهب المنعم عليها.
٦ «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
ص ١: ٢٠
هذه الآية إيضاح لما قيل في الآية الخامسة بشأن كوننا شركاء حياة المسيح.
أَقَامَنَا مَعَهُ إننا بقيامة المسيح من الموت قمنا من موت الخطيئة وانتقلنا من حال الدينونة والدنس والشقاء إلى الحياة وهي تتضمن المغفرة والتبرير والتجديد والتقديس والسعادة بدليل قوله التالي.
وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ كثيراً ما يراد بالسماويات السماء عينها حيث يُعلن الله مجده ويكون جسد المسيح ممجداً وهي مسكن الملائكة والقديسين وقد جاءت هنا بمعنى الحال الذي يصير إليها المؤمنون عند تجديدهم وهم في هذا العالم وهي حال يتمتعون بها برضى الله والتبرير والانتقال «مِنْ سُلْطَانِ ٱلظُّلْمَةِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱبْنِ مَحَبَّتِهِ» (كولوسي ١: ١٣ وفيلبي ٣: ٢٠). وهم جالسون في السماء مع كونهم على الأرض لأنهم سالكون بمقتضى شرائع السماء ولهم ما لأهل السماء من البركات والنعم في النوع لا في المقدار وذلك عربون كمال السعادة السماوية. وأميالهم وأشواقهم كأميال سكان السماء وأشواقهم وقد أُنقذوا من دينونة الناموس ومن سلطة الشيطان ومن دنس الموت الروحي وقد تصالحوا مع الله وصاروا مساكن للروح القدس.
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي بناء على اتحاد المؤمنين بالمسيح وهذا الاتحاد أساس كل ما يتمتعون به في البركات وإكمالها حين يأتي المسيح ثانية فيكونون معه ومثله.
٧ «لِيُظْهِرَ فِي ٱلدُّهُورِ ٱلآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ ٱلْفَائِقَ بِٱللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
تيطس ٣: ٤
في هذه الآية بيان علة كل ما فعله المسيح مما ذُكر في اختيار شعبه ليكونوا قديسين أمامه في المحبة وفي إقامته إياهم من موت الذنوب والخطايا وإحيائه إياهم وإجلاسهم معه في السماويات.
لِيُظْهِرَ فِي ٱلدُّهُورِ ٱلآتِيَةِ أي في المستقبل إلى غير النهاية.
غِنَى نِعْمَتِهِ ٱلْفَائِقَ إن غاية الله من عمل الفداء وسائر متعلقاته إظهار محبته المجانية غير المحدودة لمن لا يستحقونها. والطرق الكثيرة المتنوعة التي أظهر الله نعمته بها في عمل الخلاص من أوله إلى آخره فُرص لإظهار غنى نعمته الفائق. فخلاص كل خاطئ آية جديدة على نعمة الله (ككل معجزة صنعها المسيح للشفاء وهو على الأرض) كما أوضح بولس بقوله في نفسه «لِهٰذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ ٱلأََبَدِيَّةِ» (١تيموثاوس ١: ١٦). فالربوات التي لا تحصى من المفديين في السماء الذين نجوا من موت الخطيئة ودنسها وخُطفوا من يد الشيطان وطُهروا وقُدسوا ومُجدوا شهود بنعمة الله العجيبة وإعلام تذكار لها إلى الأبد.
بِٱللُّطْفِ عَلَيْنَا ولطف المسيح علينا ظاهر من كوننا لا نستحق تلك النعمة ومن رغبته في قبوله إيانا ونحن راجعون إليه بالتوبة ومن أنه «مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ ٱلشَّاكِرِينَ وَٱلأََشْرَارِ» (لوقا ٦: ٣٥). واللطف هو جودة مقترنة بالإمهال وطول الأناة (رومية ٢: ٤).
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي بواسطته والإكرام له. فلا ننال شيئاً باستحقاقنا إنما نحصل على كل شيء باستحقاقه.
إن الرسول أنزل المسيح في كل هذه الرسالة منزلة الشمس بالنسبة إلى عالمنا فكل ما نحصل عليه من النور والفرح والبركة ليست إلا أشعة من ذلك المصدر الذي لا يفرغ.
٨ «لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ».
رومية ٣: ٢٤ وع ٥ و٢تيموثاوس ١: ٩ رومية ٤: ٢٦ متّى ١٦: ١٧ ويوحنا ٦: ٤٤ و٦٥ ورومية ١٠: ١٤ و١٥ و١٧ وص ١: ١٩ وفيلبي ١: ٢٩
لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ ما أتى به معترضاً في الآية الخامسة ذكره هنا أيضاً للإثبات والإيضاح وغرضه من ذلك بيان أن غاية عمل الفداء إظهار نعمة الله. وقوله «إنهم مخلصون» يدل على أنهم نالوا الخلاص وأنه استمر لهم. وهذا كقول المسيح في زكا وهو في بيته «ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ» (لوقا ١٩: ٩).
بِٱلإِيمَانِ أتى الرسول في هذه الآية ببرهانين على أن الخلاص مجاني الأول كونه بالنعمة والثاني كونه بالإيمان وهو الشعور بقيمة البركة الموهوبة لنا وقبولنا إيّاها.
وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ الخ الإشارة بذلك يصح أن تكون إلى الإيمان وأن تكون إلى الخلاص فإن كانت إلى الإيمان كان الرسول قد أتى بهذه العبارة دفعاً لتوهم أنهم استحقوا الخلاص بإيمانهم فصرّح أن الإيمان ليس عملهم ولا من إرادتهم بل هبة إلهية وهذا يمنع من أنهم استحقوا الخلاص به. وإن كانت إلى الخلاص كما ظن الأكثرون كان غرضه أن يقرر على وجه السلب ما ذكره على وجه الإيجاب وهو أنهم بالنعمة مخلصون لا باستحقاقهم فليس هو سوى عطية من الله يقبلها المؤمن كما يقبل الإنسان الهبة بمد يده إليها ولا فرق كبير بين الرأيين لأن قوله «هو عطية الله» يصدق على الخلاص والإيمان الذي به يُقبل الخلاص.
٩ «لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ».
رومية ٣: ٢٠ و٢٧ و٢٨ و٤: ٢ و٩: ١١ و١١: ٦ و١كورنثوس ١: ٢٩ إلى ٣١ و٢تيموثاوس ١: ٩ وتيطس ٣: ٥
لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ لو كان الخلاص من الأعمال كان أجرة يجب على الله أن يؤديها وللخاطئ حق أن يطلبها وقد دفع الرسول ذلك بما أتى به من الاحتجاج المفصل في الرسالة إلى أهل رومية مبتدئاً فيه بقوله «أَيْنَ ٱلافْتِخَارُ؟ قَدِ ٱنْتَفَى! بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ ٱلأََعْمَالِ؟ كَلاَّ! بَلْ بِنَامُوسِ ٱلإِيمَانِ» (رومية ٣: ٢٧) وما قيل في هذه الآية ينفي تأثير الأعمال في أمر الخلاص مطلقاً رمزية كانت أو أدبية قبل الإيمان أو بعده ويثبت أن الخلاص بالإيمان وحده وهذا كقوله «إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا» (غلاطية ٢: ١٦).
كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ لأن الله يستحيل أن يرضى أن يقف الخاطئ أمامه معجباً بنفسه ناسباً خلاصه إلى استحقاقه. ويستحيل أن يفتخر الخاطئ أمامه تعالى حيت يتأمل في قداسة الله الذي «السموات غير طاهرة بعينيه» وفي عدم إمكان الإنسان الساقط يستحق السماء بما يأتيه من قليل أعمال البر. ويتحقق حينئذ أن الخلاص المجاني الذي يستلزم كون كل المجد لله هو الخلاص الوحيد الذي يناسب البشر الساقطين.
ذكر الرسول هنا أن علة جعل الله الخلاص مجاناً منعه الإنسان من الافتخار ولكن هذا لا يستلزم أن ذلك المنع هو العلة الوحيدة ولا إنه اعظم العلل لجعل الخلاص كذلك.
١٠ «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا».
تثنية ٣٢: ٦ ومزمور ١٠٠: ٣ وإشعياء ١٩: ٢٥ و٢٩: ٢٣ و٤٤: ٢١ ويوحنا ٣: ٣ و٥ و١كورنثوس ٣: ٩ و٢كورنثوس ٥: ٥ و١٧ وص ٤: ٢٤ وتيطس ٢: ١٤ ص ١: ٤
ما في هذه الآية إثبات لقوله في التي قبلها أن لا محل للافتخار البشري واستدل على ذلك بأمرين:
الأول: كوننا عمل الله أي أننا لم نجعل أنفسنا عل ما صارت إليه بل الله الذي جددها وقدسها وانفرد بكل المجد.
الثاني: كوننا مخلوقين لأعمال صالحة لا مخلوقين ومختارين للخلاص بسبب تلك الأعمال.
نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي نحن المؤمنين خليقته الجديدة الروحية وإيماننا ليس منا بل من الله بيسوع المسيح بدليل قوله «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (٢كورنثوس ٥: ١٧). فباتحادنا بالمسيح حصلنا على حياة جديدة هي حياة القداسة. وهذا كقوله «ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْباً خَاصّاً غَيُوراً فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ» (تيطس ٢: ١٤). فالمصرون على الخطيئة لا شركة لهم في الخلاص.
قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا أي قصد الله قبل أن خلقنا أن نسلك في الأعمال الصالحة التي أعدها لكي تكون مرافقة لنا أبداً كأنها محيطة بنا ما دمنا. ونحن سائرون في وسطها كذلك كأن لا سبيل إلى مفارقتنا إياها ونحن قد تجددنا.
يصح أن يقال على الشجرة أنها مخلوقة لتحمل الأثمار التي الله أعدها لها بتعيينه لونها وهيئتها وطعمها ووقت حملها وكذلك يصح أن يقال أن الله أعد الأعمال الصالحة التي قصد أن يعملها كل مؤمن. فكل إنسان متجدد يعلم بالاختبار أن الله بعنايته قدم له فرصاً كثيرة لكي يظهر محبته لله بأعماله الصالحة. والذي جعلها صالحة أمره بها تعالى في كتابه. فلا منافاة بين الإيمان والأعمال الصالحة إنما المنافاة بينه وبين الأعمال التي يفتخر الإنسان بها ويتكل عليها بغية خلاصه. قال الناموس في الأعمال «اعملوها فتحيوا» وقال الإنجيل «أحيوا واعملوا تلك الأعمال».
وما قيل هنا يستلزم أن الأعمال الصالحة نتيجة الاختيار والتبرير لا علتهما ويستأصل من المؤمن كل افتخار بها. ولا يستلزم أن المختار للخلاص معفى من الأعمال الصالحة بل يقتضي أن يكون الذي يخلص غيوراً أمام الله مجتهداً في السلوك في طريق القداسة كما جاء في قوله «أنا أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ. أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ لأَجْلِ جِعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي ٣: ١٣ و١٤).
وعلينا أن نلاحظ أن الله أعد الأعمال الصالحة لكي نسلك فيها لا لكي نخلص بها والفرق بين الأمرين عظيم جداً.

رحمة الله الخاصة لمؤمني أمم أفسس إذ قبلهم في كنيسته ع ١١ إلى ٢٢


في هذا الفصل ثلاثة مواضيع:

  • الأول: حالهم الأولى بالنظر إلى كنيسة المسيح أي كونهم غرباء عنها وبالنظر إلى الله أي كونهم لا يعرفونه معرفة تؤدي إلى الخلاص (ع ١١ و١٢).
  • الثاني: الواسطة التي بها قربوا إلى الله وكنيسته وتلك الواسطة هي دم المسيح فبه تصالحوا مع الله لأنه أوفى كل ما عليهم للناموس وأنه أبطل الرسوم الموسوية ورفع الحاجز بين اليهود والأمم وصاروا به جسداً واحداً مصالحاً لله (ع ١٣ - ١٨).
  • الثالث: وصف اتحاد الأفسسيين بالله وبشعبه وترتب على ذلك ثلاثة أمور:


الأول: إنهم صاروا رعية مملكة واحدة مع القديسين.
الثاني: إنهم صاروا من أهل بيت الله.
الثالث: إنهم صاروا أجزاء من الهيكل الذي يسكن الله فيه بروحه (ع ١٩ - ٢٢).
١١ «لِذٰلِكَ ٱذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلأُمَمُ قَبْلاً فِي ٱلْجَسَدِ، ٱلْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ ٱلْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِٱلْيَدِ فِي ٱلْجَسَدِ».
١كورنثوس ١٢: ٢ وص ٥: ٨ وكولوسي ١: ٢١ و٢: ١٣ ورومية ٢: ٢٨ و٢٩ وكولوسي ٢: ١١
لِذٰلِكَ أي لحصولكم على البركات العظيمة المذكورة آنفاً بانضمامكم إلى شعب الله.
ٱذْكُرُوا الذي قصد أنهم يذكرونه هو حالهم قبل التجديد وأمرهم بذكرها لكي يكونوا متواضعين وشاكرين.
أَنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلأُمَمُ قَبْلاً فِي ٱلْجَسَدِ أي أنكم كنتم وثنين غير مختونين. كان الختان رسماً عيّنه الله ختماً لعهده مع شعبه فكونهم غلفاً كان آية أنهم خارجون عن عهد الله وأهله.
ٱلْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ ٱلْمَدْعُوِّ خِتَاناً دعا اليهود الأمم غرلة إيماء إلى أنهم ليسوا مرتبطين بعهد مع الله وأنهم نجسون. وحسبوا ان الختان جعلهم أطهر منهم وأنهم نالوا بمجرد ذلك الرسم الخارجي القداسة ورضى الله. وفي العبارة إشارة إلى أن الرسول اعتبر احتقار اليهود للأمم في غير محله وأنه لم يشاركهم في ذلك.
مَصْنُوعاً بِٱلْيَدِ فِي ٱلْجَسَدِ أشار بذلك إلى أن ختان اليهود لم يكن سوى رسم خارجي لا ختان القلب بالروح الذي هو الختان الحق بدليل قوله «لأَنَّ ٱلْيَهُودِيَّ فِي ٱلظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً، وَلاَ ٱلْخِتَانُ ٱلَّذِي فِي ٱلظَّاهِرِ فِي ٱللَّحْمِ خِتَاناً، بَلِ ٱلْيَهُودِيُّ فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ ٱلْيَهُودِيُّ، وَخِتَانُ ٱلْقَلْبِ بِٱلرُّوحِ لاَ بِٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْخِتَانُ» (رومية ٢: ٢٨ و٢٩). وقوله «وَبِهِ أَيْضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ» (كولوسي ٢: ١١).
إن اتكال اليهود على الختان وغيره من الرسوم الخارجية ليكونوا مرضين لله قادهم إلى الكبرياء والبر الذاتي والاستخفاف بغيرهم وترك قداسة القلب والسيرة الطاهرة ولذلك عندما أراد بولس أن يرى الأفسسيين منفعة الاتحاد بالله وشعبه الذي كان الختان علامته وختمه احترص على أن يبيّن أن ليس الختان باليد هو الذي يؤكد نيل البركات التي تكلم عليها.
١٢ « أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلٰهٍ فِي ٱلْعَالَمِ».
ص ٤: ١٨ وكولوسي ١: ٢١ حزقيال ١٣: ٩ ويوحنا ١٠: ١٦ أعمال ٢٢: ٢٨ رومية ٩: ٤ و٥ و١تسالونيكي ٤: ١٣ غلاطية ٤: ٨ و١تسالونيكي ٤: ٥
هذه الآية بيان لأحوال الأفسسيين المظلمة الرهيبة وهم وثنيون.
أَنَّكُمْ أي اذكروا أنكم.
بِدُونِ مَسِيحٍ الكون بلا مسيح يستلزم كل شر كما أن الاتحاد بالمسيح يستلزم كل خير. إن المسيح هو الفادي الوحيد والوسيط الفريد بين الله والناس فإذا كان الإنسان بدونه كان بدون الفداء وبدون واسطة التقرب إلى الله وفي الكلام الآتي يبيّن ما يثبت كونهم بلا مسيح.
أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ هذا بيان حالهم الخارجية. كان إسرائيل شعب الله المختار وميّزه الله بحقوق خاصة. ففي الممالك أن لرعية المملكة حقوقاً لا تشاركها فيها رعية مملكة أخرى. كذا كان شأن الرومانيين فكان للروماني حقوق ليست لغيره ما لم يؤد ثمناً وافراً (أعمال ٢٢: ٢٨). وعلى هذا حُسب اليهود أنهم أفضل من كل أمم الأرض لأن الله كان ربهم وحدهم دون غيرهم كما أبان ذلك بإنقاذه إياهم من عبودية فرعون وقيادته لهم في البرية وإظهاره لهم الآيات والمعجزات وطرده أمماً كثيرة أمامهم وتوليته إياهم أرض الميعاد. وأشار بولس إلى تلك الحقوق بقوله «هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَـهُمُ ٱلتَّبَنِّي وَٱلْمَجْدُ وَٱلْعُهُودُ وَٱلاشْتِرَاعُ وَٱلْعِبَادَةُ وَٱلْمَوَاعِيدُ... وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ» (رومية ٩: ٤ و٥).
وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ هذا أيضاً بيان لأحوالهم الخارجية وجمع العهد وهو واحد لتكرره للآباء. وجوهر الموعد المسيح الفادي كما يتبين من قوله «وَنَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِٱلْمَوْعِدِ ٱلَّذِي صَارَ لِآبَائِنَا إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَكْمَلَ هٰذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ، إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ الخ» (أعمال ١٣: ٣٢ و٣٣ انظر أيضاً رومية ٤: ١٤ - ١٦ وغلاطية ٣: ١٦).
لاَ رَجَاءَ لَكُمْ هذا بيان حالتهم الباطنة فإنهم كانوا «بدون مسيح» وبلا رجاء الفداء الذي هو أعظم البركات. وذلك لأنه لم يكن لهم عهد ولا شركة في عهود شعب الله. وليس لهم ما يبنون عليه رجاء بخلاف شعبه تعالى فإنهم كان لهم رجاء مبني على موعد كُرر في عهود كثيرة. وكونهم بلا مسيح استلزم كونهم بلا رجاء الحياة والخلود الذي أتى به المسيح فإنه أعلن الله للناس فلزم من كونهم بدون المسيح أنهم بدون إله.
بِلاَ إِلٰهٍ أي بلا معرفة له (غلاطية ٤: ٨) أو بلا علاقة به لتركه إياهم على تركهم إياه وعدم اكتراثهم به وهو الأرجح فهم فصلوا أنفسهم عنه فانفصل عنهم. فكانوا في ما حذر الله شعبه إسرائيل منه بقوله «وَيْلٌ لَهُمْ أَيْضاً مَتَى ٱنْصَرَفْتُ عَنْهُمْ» (هوشع ٩: ١٢). وقوله «ٱدْعُ ٱسْمَهُ لُوعَمِّي، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ شَعْبِي وَأَنَا لاَ أَكُونُ لَكُمْ» (هوشع ١: ٩).
فِي ٱلْعَالَمِ أي تُركوا في العالم لأنفسهم منفصلين عن الشعب الذي عرف الله وعبده وحصل على موعده وسكن الله في وسطه وكونهم خارج كنيسته استلزم أن يكونوا أجنبيين عنه وعن عهده فكانوا يتامى وبلا وطن وذلك شر الأحوال كما يعلم من حال ممن لا قريب ولا صديق له على الأرض على أن حالهم كانت شراً من حال هذا لأن من لا صديق له على الأرض استغنى بصداقة الله ومن ليس الله بصديق له لا تغنيه صداقة الناس شيئاً.
وما قيل هنا على حال الأفسسيين وهم وثنيون يصدق اليوم على كل أهل العالم في الحال الطبيعية فإنهم لا يعرفون الله حق المعرفة ولا يسبحونه ولا يحبونه ولا يطيعونه ولا يتكلون عليه فقد تركهم الله ليأكلوا أثمار خطيتهم ومعصيتهم.
١٣ «وَلٰكِنِ ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ».
أعمال ٢: ٣٩ وغلاطية ٣: ٢٨ وع ١٧
وَلٰكِنِ ٱلآنَ أي وأنتم مؤمنون. وهذا مقابل قوله «قبلاً» في الآية الحادية عشرة وقوله «ذلك الوقت» في الآية الثانية عشرة.
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي باتحادكم به وهذا مقابل قوله «بدون مسيح» في الآية السابقة. إن الرسول متى تكلم على الفادي باعتبار إنباء الأنبياء به عبّر عنه «بالمسيح» ومتى أشار إليه باعتبار أنه ظهر بالجسد عبّر عنه «بالمسيح يسوع» كما عرفه تلاميذه بشخصه.
أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ أظهر الله في أيام النظام الموسوي حضوره في هيكله وكان شعبه إسرائيل قريباً من ذلك الهيكل فاقتربوا إليه هنالك بالعبادة والذبائح وأما الأمم فسكنوا في أماكن بعيدة عن الهيكل ولم يسمح لهم أن يقربوا من مذبحه كما سمح لشعبه اليهود. وأشار إشعياء إلى هذا بقوله بالنيابة عنه تعالى «اِسْمَعِي لِي أَيَّتُهَا ٱلْجَزَائِرُ، وَٱصْغُوا أَيُّهَا ٱلأُمَمُ مِنْ بَعِيدٍ» (إشعياء ٤٩: ١). وأشار إليه بطرس بقوله «ٱلْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ ٱلَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ» (أعمال ٢: ٣٩). وأشار إليه بولس بقوله «أَنْتُمُ ٱلْبَعِيدِينَ وَٱلْقَرِيبِينَ» (ع ١٧). والبعد عن الله انفصال عنه وعن كنيسته والقرب إليه يستلزم المصالحة له والاتحاد بكنيسته.
صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ قال في أول الآية «في المسيح يسوع» وفسر معنى هذا بالواسطة الخاصة لقرب البعيدين إليه لأنه لا مغفرة ولا مصالحة بلا سفك دم «لأَنَّ مُوسَى بَعْدَمَا كَلَّمَ جَمِيعَ ٱلشَّعْبِ بِكُلِّ وَصِيَّةٍ بِحَسَبِ ٱلنَّامُوسِ، أَخَذَ دَمَ ٱلْعُجُولِ وَٱلتُّيُوسِ، مَعَ مَاءٍ وَصُوفاً قِرْمِزِيّاً وَزُوفَا، وَرَشَّ ٱلْكِتَابَ نَفْسَهُ وَجَمِيعَ ٱلشَّعْبِ قَائِلاً: «هٰذَا هُوَ دَمُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي أَوْصَاكُمُ ٱللّٰهُ بِهِ»... وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ بِٱلدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين ٩: ١٩ - ٢٢). فالذي حصّله دم العجول والتيوس من الكفارة والمصالحة وقتياً حصّله دم المسيح «الذي دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً لنا». وقد ختم بموته عهد الله الأبدي مع كل شعبه المؤمنين من اليهود والأمم.
١٤، ١٥ «١٤ لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ ١٥ أَيِ ٱلْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ ٱلاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً».
ميخا ٥: ٥ ويوحنا ١٦: ٣٣ وأعمال ١٠: ٣٦ ورومية ٥: ١ وكولوسي ١: ٢٢ و٢: ١٤ و٢٠ و٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥ وص ٤: ٢٤
في هاتين الآيتين إثبات ما سبق في الآية الثالثة عشرة وإيضاح معناه قال هناك «أنتم الذين كنتم بعيدين صرتم قريبين» وأبان أن علة ذلك كونه سلامنا وموجد السلام برفعه الحاجز بين اليهود والأمم وبين الله والناس.
لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا الكلمة ذات الشأن في هذه العبارة «هو» أعني الذي سفك دمه لا غيره. وصنع لنا السلام منذ نحو ألف وتسع مئة سنة أي منذ عُلق على الصليب من أجلنا. والنبوءات المشيرة إلى كون المسيح سلامنا في العهد القديم كثيرة جداً منها (إشعياء ٩: ٥ و٦ و٥٢: ٧ و٥٣: ٥ و٥٧: ١٩ وميخا ٥: ٥ وحجّي ٢: ٩ وزكريا ٩: ١٠). وأعلن أنه علة «سلامنا» في العهد الجديد (لوقا ٢: ١٤ ويوحنا ١٤: ٢٧ و٢٠: ١٩ و٢١ و٢٦).
جَعَلَ ٱلاثْنَيْنِ وَاحِداً أي على اتفاق تام. وفي هذه الكلمات إشارة إلى مصالحتين الأولى مصالحة اليهود للأمم والثانية مصالحة الفريقين لله.
وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ هذا بيان الطريق التي بها جعل الأثنين واحداً أي أنه صالح اليهود مع الأمم وصالح الفريقين مع الله. والحائط الذي نقضه هو الناموس كما أبان في الآية الآتية ونتيجة هذا النقض تبيين حقيقة ذلك الناموس فلو كانت النتيجة مجرد مصالحة اليهود للأمم لاستنتجنا أن المقصود بالناموس الرسوم الموسوية. ولا ريب في أن هذا حق ولكنه ليس إلا بعض الحق وكان العلامة الظاهرة للاختلاف بين اليهود والأمم الحاجز المعلوم الذي كان في هيكل أورشليم بين دار الأمم ودار النساء الذي أُبيح لليهود أن يتجاوزوه وحظر ذلك على الأمم. وأعداء بولس اتهموه أنه نجس الهيكل بإدخاله إليه تروفيمس الأفسسي فعزموا. على أن يقتلوه لذلك (أعمال ٢١: ٢٨) فارجع إلى التفسير هناك. وهذا الحاجز أبطله المسيح بموته ولكن هذا ليس إلا جزءاً صغيراً مما فعله على الصليب كما يتبين من (ع ١٥ و١٦) إذ يتضح أنه عمل المصالحة بين الله والناس وكانت علامة ذلك الظاهرة الحجاب بين القدس وقدس الأقداس في الهيكل وكان انشقاق ذلك الحجاب عند موت المسيح إشارة إلى رفع الحاجز أبداً (أنظر تفسير متّى ٢٧: ٥١ وهو آية على أن الكنيسة المسيحية من حرية القرب من الله ما ليس للكنيسة اليهودية). وأن الطريق إلى الله فٌتحت بموته لليهود والأمم معاً. فإذاً الحائط الذي نُقض ليس سوى الناموس الرمزي والأدبي بالنظر إلى كونه واسطة التبرير والمصالحة بين الله والناس. إن الناموس عهد الأعمال وهو يطلب الطاعة الكاملة ممن ابتغوا مصالحة الله به فالمسيح نقضه بكونه «مولوداً تحت الناموس» (غلاطية ٤: ٤) وبقيامه بكل مطاليب الشريعة بالنيابة عنهم حتى لا يحتاجوا إلى إتمامه لكي يتبرروا (رومية ٦: ١٤ و٧: ٤ و٦ وغلاطية ٥: ١٨ وكولوسي ٢: ١١). والناموس أيضاً نظام إشارت ورموز فصل بين اليهود والأمم والمسيح نقضه بأن أكمل بنفسه كل ما أشار إليه حتى لم يبق شعب الله مكلفاً بحفظه.
إن المسيح سلامنا لأنه أكمل الشريعة الأدبية عنا حتى لم نبق مكلفين بأن نكملها باعتبار كونها شرط التبرير والمصالحة لله. وهو سلامنا أيضاً لأنه أكمل الشريعة الموسوية حتى لم يبق لها أن تفصل بين اليهود والأمم فإنهم كانوا مختلفين في طرق العبادة والعقائد الدينية والعواطف فاعتبر اليهود الأمم نجسين وأبغضوهم وهزئ الأمم باليهود وكرهوهم ولكنهم لما آمنوا بالمسيح اتخذوا طريقاً واحداً للكفارة وآمنوا إيماناً واحداً وعبدوا عبادة واحدة وصاروا جميعاً من أهل بيت المفديين.
وغني عن البيان أن ما جاء هنا من أن المسيح نقض الناموس الأدبي لا يستلزم البتة أنه نقضه باعتبار كونه قانون سيرتنا وطاعتنا ولهذا قال الرسول «أَفَنُبْطِلُ ٱلنَّامُوسَ بِٱلإِيمَانِ؟ حَاشَا! بَلْ نُثَبِّتُ ٱلنَّامُوسَ» (رومية ٣: ٣١).
ٱلْعَدَاوَةَ (ع ١٥) إن المسيح حين نقض حائط السياج نقض العداوة بإزالة أسبابها فأزالها من بين اليهود والأمم ومن بين الله والناس. والعداوة من جهة الله هي غضبه على الخطأة لكونه قدوساً وحاكماً أدبياً ومن جهة الناس هي نتيجة أمره تعالى لهم بما هو مخالف لأميالهم وإنذاره إياهم بالعقاب على عصيانهم. ومن المعلوم أن كل النظام اليهودي سياسة وديناً فصل اليهود عن سائر الأمم وجعلهم متكبرين معجبين بأنفسهم عادّين أنفسهم من أحباء الله الخاصة فكان من ذلك كل من اليهود والأممم مبغَضين ومبغِضين. والدليل على تلك العداوة قول أحد الأمم للمك أحشويرش «إِنَّهُ مَوْجُودٌ شَعْبٌ مَّا مُتَشَتِّتٌ وَمُتَفَرِّقٌ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ فِي كُلِّ بِلاَدِ مَمْلَكَتِكَ، وَسُنَنُهُمْ مُغَايِرَةٌ لِجَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ، وَهُمْ لاَ يَعْمَلُونَ سُنَنَ ٱلْمَلِكِ فَلاَ يَلِيقُ بِٱلْمَلِكِ تَرْكُهُمْ. فَإِذَا حَسُنَ عِنْدَ ٱلْمَلِكِ فَلْيُكْتَبْ أَنْ يُبَادُوا» (أستير ٣: ٨ و٩). وقول أحد اليهود لكرنيليوس «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ كَيْفَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى رَجُلٍ يَهُودِيٍّ أَنْ يَلْتَصِقَ بِأَحَدٍ أَجْنَبِيٍّ أَوْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَرَانِي ٱللّٰهُ أَنْ لاَ أَقُولَ عَنْ إِنْسَانٍ مَا إِنَّهُ دَنِسٌ أَوْ نَجِسٌ» (أعمال ١٠: ٨). فنقض الناموس الموسوي نقض العداوة المبنية عليه. والعداوة بين الله والناس هي المشار إليها بقوله «قاتلاً العداوة بالصليب» (ع ١٦). ووجود تلك العداوة ظاهر من قول الرسول «لأن اهتمام الجسد هو عداوة الله» (رومية ٨: ٧) فالناموس أبان علة هذه العداوة وأثبت على الإنسان الدينونة لأنه لم يحفظه تماماً بل هيّج فيه العصيان بدليل قوله «فَوُجِدَتِ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلَّتِي لِلْحَيَاةِ هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ» (رومية ٧: ١٠). وما في باقي الآية يبيّن كيف أبطل المسيح تلك العداوة بموته.
مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ هذا هو المبدأ العظيم الذي اجتهد بولس في بيانه في كل مواعظه ورسائله وهو أن المسيح بموته حررنا من الناموس باعتبار كونه شرطاً للخلاص وإنا لسنا تحت الناموس بعد بل تحت النعمة (رومية ٦: ١٤). وهو حررنا منه بتكميله إيّاه عنا إذ خضع له (غلاطية ٤: ٥) واحتمل لعنته (غلاطية ٣: ١٣) وقيل أنه «فعل ذلك بجسده» (رومية ٧: ٤) و «بجسم بشريته» (كولوسي ١: ٢٢) و «بصليبه» (كولوسي ٢: ١٤).
إن الكلمات «دم المسيح» (ع ١٣) و «جسده» (ع ١٥) و «صليبه» (ع ١٦) تفيد شيئاً واحداً أي انه قدم جسده أو نفسه ذبيحة كفارية أوفى بها كل مطاليب الناموس وصالحنا مع الله. ونقض المسيح للناموس بإكماله إياه تماماً عظم الناموس وكرمه وأنشأ طريقاً به بكون الله باراً ويبرر الخاطئ. ووصف الناموس بكونه «ناموس الوصايا في فرائض» ليبين أنه يشمل كل أنواع الشرائع من الأوامر والنواهي مما كتب على قلوبنا وعلى لوحي الحجارة ومما أوجب على الوثنيين الذين لا وحي لهم لكونه أُعلن في ضمائرهم ومما أوجب على اليهود أهل الوحي الذين أعلن الله إرادته لهم بواسطة أنبيائه ورسله. فلا يمكن أن يكون فداء المسيح لنا من الناموس مجرد التحرير من حفظ شريعة موسى لأن ذلك الفداء يؤكد المصالحة مع الله والتبرير والتقديس فهو التحرير من كل ناموس باعتبار كون حفظه شرطاً ضرورياً للخلاص. وخلاصة التعليم في هذه الآية أمران:
الأول: إنه قد نُقض حائط السياج الفاصل بين اليهود والأمم الذي كان سبب العداوة بينهما وذلك بأن نقض الناموس مع كل سننه باعتبار كونه واسطة التبرير وفُتح بالمسيح طريق جديد إلى الله لليهود والأمم معاً بدليل قول المسيح «لِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ» (يوحنا ١٠: ١٦). وقول الرسول «حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ، بَرْبَرِيٌّ سِكِّيثِيٌّ، عَبْدٌ حُرٌّ، بَلِ ٱلْمَسِيحُ ٱلْكُلُّ وَفِي ٱلْكُلِّ» (كولوسي ٣: ١١).
الثاني: المصالحة بذلك الطريق عينه بين الناس (يهوداً وأمماً) والله «لأَنَّ غَايَةَ ٱلنَّامُوسِ هِيَ: ٱلْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ» (رومية ١٠: ٤) و «إِنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ. لأَنَّ ٱلَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٦: ٦ و٧).
لِكَيْ يَخْلُقَ ٱلاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً هذا بيان قصد المسيح من نقض الناموس وتفسير قوله «جعل الاثنين واحداً» في الآية الرابعة عشرة. والمراد «بالأثنين» اليهود والأمم فإنهم مع كونهم كثيرين اتحدوا في محبة قلبية وكنيسة واحدة مسيحية حتى صاروا كإنسان واحد وتصالحوا مع الله معاً كأنهم خُلقوا جديداً وصاروا جسداً واحداً رأسه المسيح. واقتضى أن يُخلقوا جديداً لأن الإنسان العتيق الذي كلاهما له (وهو عدو لله) قد قُتل بجسد المسيح على الصليب. وقال «في نفسه» لأن الاتحاد بالمسيح هو الشرط الضروري لاتحاد بعضهم ببعض واتحاد جميعهم بالله ولتقديسهم الذي هو المقصود من الإنسان الجديد بدليل قوله «تَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ» (ص ٤: ٢٤ انظر أيضاً ٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥ وكولوسي ٣: ١٠). وقال «إنساناً واحداً جديداً» لأن الله يحسب كل المفديين واحداً في يسوع المسيح كما أنه حسب كل البشر واحداً في آدم.
صَانِعاً سَلاَماً بين اليهود والأمم على وفق قوله «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية ٣: ٢٨) وبين الله والناس كما بين في الآية الآتية.
١٦ «وَيُصَالِحَ ٱلاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ بِٱلصَّلِيبِ، قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ».
كولوسي ١: ٢٠ إلى ٢٢ رومية ٦: ٦ و٨: ٣ وكولوسي ٢: ١٤
هذا بيان أن غاية المسيح تشتمل على مصالحة اليهود والأمم معاً لله كإنسان واحد.
وَيُصَالِحَ ٱلاثْنَيْنِ مؤمني اليهود والأمم الذين انفصلوا عن الله بالخطيئة لكنهم بعد أن آمنوا بالمسيح اتحدوا به في جسد واحد هو كنيسة المسيح. وقد سبق الكلام على المصالحة بين الله والناس في تفسير رسالة كورنثوس الثانية (٢كورنثوس ٥: ١٨ - ٢١).
فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ أي كنيسته التي هي رأسها (ص ٤: ٤ وكولوسي ٣: ١٥). لم يقصد المسيح أن يفدي اليهود دون الأمم بل أن يأتي بكليهما لله ويصنع من كليهما جسداً واحداً حياً مغسولاً بدمه ساكناً فيه روحه.
بِٱلصَّلِيبِ أي بموته على الصليب ذبيحة كفارية.
قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ تدل القرينة على أن معنى هذه العبارة كمعنى قوله «يصالح الاثنين... مع الله». إن المسيح بموته رفع الخطيئة التي هي علة غضب الله على الخاطئ وعلى عداوة الإنسان لله حتى لم يبق مانع من المصالحة التي طلبها الله. وهذا كقوله «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ» (عبرانيين ٢: ١٤). وقوله «أَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ... فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِٱلْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ» (كولوسي ١: ٢٠ - ٢٢). وقوله «إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ ٱلَّذِي عَلَيْنَا فِي ٱلْفَرَائِضِ، ٱلَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ» (كولوسي ٢: ١٤ انظر أيضاً غلاطية ٣: ١٣).
١٧ «فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ ٱلْبَعِيدِينَ وَٱلْقَرِيبِينَ».
إشعياء ٥٧: ١٩ وزكريا ٩: ١٠ وأعمال ٢: ٣٩ و١٠: ٣٦ ورومية ٥: ١ وع ١٣ و ١٤ مزمور ١٤٨: ١٤ وأعمال ٢: ٣٩.
فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بعدما صنع سلاماً بموته بشر بذلك السلام وهذا هو خلاصة الإنجيل كما في قول الملائكة «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام» وقول الرسول «إِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٥: ١). وهذا لا يشير إلى مجيء المسيح إلى العالم حين تجسد بل حين ظهر للرسل بعد قيامته وبحضوره دائماً بواسطة روحه إتماماً لوعده في قوله «لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ» (يوحنا ١٤: ١٨) وقوله «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متّى ٢٨: ٢٠) إن أول الكلمات التي فاه بها لتلاميذه بعد قيامته هو «سلام لكم» (يوحنا ٢٠: ١٩ و٢١). وبشر بالسلام بواسطة تلاميذه حين أمرهم بقوله «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَٱكْرِزُوا بِٱلإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس ١٦: ١٥) وبواسطة رسله يوم الخمسين في أورشليم ولم يزل إلى اليوم حاضراً مع الكنيسة مبشراً بواسطتها وواسطة كلمته وروحه.
بِسَلاَمٍ بين الله والناس اللذين كانت العداوة بينهما.
أَنْتُمُ ٱلْبَعِيدِينَ وَٱلْقَرِيبِينَ اي الأمم واليهود (ع ١٣).
١٨ «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ».
يوحنا ١٠: ٩ و١٤: ٦ ورومية ٥: ٢ وص ٣: ١٢ وعبرانيين ٤: ١٦ و١٠: ١٩ و٢٠ و١بطرس ٣: ١٨ و١كورنثوس ١٢: ١٣ وص ٤: ٤
في هذه الآية دليل على أن المسيح صنع سلاماً لليهود والأمم لأن لكل منهما اقتراباً إلى الله بلا مانع. فلو لم يرفع المسيح «العداوة» ويصنع السلام لم يكن لأحد قدوم إلى الله.
بِهِ أي قربنا من الله «بدمه» و «جسده» و «صليبه» كما سبق وذلك إشارة إلى موته من أجلنا بدليل قول بطرس الرسول «إِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ» (١بطرس ٣: ١٨).
كِلَيْنَا مؤمني اليهود والأمم بلا امتياز.
قُدُوماً في الأصل اليوناني الكلمة المترجمة هنا «بقدوم» تعني أكثر من مجرد التقرب إلى الله فنشير فوق ذلك إلى نيل رضاه. فقد علمنا الإنجيل أن المسيح حصل لنا المصالحة مع الله والسلام وإننا صرنا بواسطته من أهل بيت الله.
فِي رُوحٍ وَاحِدٍ أي الروح القدس وهذا الروح يثبت علينا أننا خطأة ويقودنا إلى المسيح لكي نتمسك به بالإيمان وبواسطته يحضر المسيح اليوم في الكنيسة (ع ١٧) وقد سبق الكلام في قدومنا إلى الآب بهذا الروح في تفسير الجزء الأول من هذه الآية. وبسط الرسول الكلام على فعل الروح في الكنيسة في الرسالة الأولى إلى كورنثوس (١كورنثوس ١٢: ١ - ١٣) وختم كلامه بقوله «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً ٱعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً» وقال «روحاً واحداً» لأن اليهود والأمم مع كونهما اثنين أصلاً يقتربان بذلك الروح الواحد وهو يسكن فيهما ويرشدهما معاً.
إِلَى ٱلآبِ الذي ابتعدوا عنه بطبيعتهم الفاسدة وبعصيانهم إياه فأذن لهم الله في أن يقتربوا منه مثل أب مصالح محب. وأصل الفداء نُسب في الإنجيل إلى الآب فإنه اختار بابنه شعباً خاصاً وأرسل ابنه ليفديهم وروحه القدوس لكي يحملهم على قبول الفداء. وجاء في أول هذه الرسالة «إن الله أبا ربنا يسوع المسيح باركنا بكل بركة روحية في المسيح وأنه اختارنا قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم أمامه» (ص ١: ٣ و٤) و «قصد أن يصالح بالمسيح الكل لنفسه» (كولوسي ١: ٢٠) وجاء في ذلك ما نصه «لَنَا إِلٰهٌ وَاحِدٌ: ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ ٱلأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ» (١كورنثوس ٨: ٦) فإياه نصالح ونحن الكثيرين صرنا أهل بيته وورثة مجده.
ومما يستحق الالتفات إليه في هذا الفصل بيان تعليم التثليث فيه بكل إيضاح إذ اتضح أن مصالحتنا للآب بالابن في الروح.
١٩ «فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ ٱللّٰهِ».
تكوين ٢٣: ٤ فيلبي ٣: ٢٠ وعبرانيين ١٢: ٢٢ و٢٣ غلاطية ٦: ١٠ وص ٣: ١٥
لنا من هذه الآية أن الأمم الذين كانوا غرباء صاروا رعية مع القديسين وأهل بيت الله وجزءاً من ذلك الهيكل الذي يبنيه الله بروحه.
لَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً الغرباء هم الذين لا علاقة لهم بالرعية والنزل هم الذين يسكنون وقتاً مع الرعية ولكن ليس لهم ما للرعية من الحقوق. ولم يكن للأفسسيين قبلاً من نسبة إلى شعب إسرائيل إلا كنسبة أهل مملكة إلى أهل مملكة أخرى ولم يكن لهم شركة في بركات شعب إسرائيل ومواعيدهم وآمالهم ومقتنياتهم.
رَعِيَّةٌ مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ لم يقصد بالقديسين مجرد الأرواح المقدسة من الملائكة والمفديين في السماء ولا مجرد المؤمنين الأحياء لا اليهود ولا الآباء بل جماعة الله المختارة من كل أمة التي هي جسده وهي جماعة الذين اقتربوا إليه تعالى بالإيمان بالمسيح قبل إتيانه إلى العالم وبعده وهم شعبه الخاص كما كان الإسرائيليين قديماً وهم ملكوته الروحي وهذا الملكوت دخله الأمم بالشرط الذي دخله غيرهم على ما قال بولس وصار لهم الحقوق التي كانت لغيرهم وصار الله ملكهم كما كان ملك غيرهم وهم أعضاء ذلك الجسد الذي المسيح رأسه.
أَهْلِ بَيْتِ ٱللّٰهِ إن النسبة بين أهل بيت واحد أقرب وأشد من النسبة بين أفراد رعية مملكة واحدة والنسبة بين الأب وأهل بيته أقرب وأشد من النسبة بين الملك ورعية مملكته فالمؤمنون باعتبار كونهم أولاد الله أقرب إليه مما هم باعتبار كونهم رعيته وحقوقهم أعظم ومحبته إيّاهم أوفر. ولعل الرسول سماهم رعية مع القديسين إشارة إلى قرب بعضهم من بعض وسماهم «أهل بيت الله» إشارة إلى قربهم إليه تعالى.
٢٠ «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ».
١كورنثوس ٣: ٩ و١٠ وص ٤: ١٢ و١بطرس ٢: ٤ و٥ متّى ١٦: ١٨ وغلاطية ٢: ٩ ورؤيا ٢١: ١٤ و١كورنثوس ١٢: ٢٨ وص ٤: ١١ مزمور ١١٨: ٢٢ وإشعياء ٢٨: ١٦ ومتّى ٢١: ٤٢
غيّر الرسول في هذه الآية التشبيه والمعنى واحد وهو أن للأمم المؤمنين بالمسيح نفس الحقوق التي لمؤمني اليهود في المسيح ولهم نفس البركات التي لليهود في الحاضر ونفس الميراث الذي لهم في المستقبل لأنهم صاروا قسماً من إسرائيل الحقيقي كاليهود. ولعل سبب انتقاله من تشبيه المؤمنين بأهل البيت إلى تبشيههم بالبيت نفسه لأن البيت يطلق على المعنيين.
ورد في أماكن أخرى في الإنجيل تشبيه أفراد المسيح بهياكل يسكن فيها الروح القدس ومن ذلك قوله «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ» (١كورنثوس ٦: ١٩). ولكنه أبان هنا أن كل جماعة المؤمنين بناء واحد إشارة إلى اتحاد بعضهم ببعض ومشاركة كل للآخر مع كثرة عددهم. وحجارة هذا البناء ليست كسائر الحجارة من الرخام أو غيره بل هي أناس متبررون ومتقدسون بعضهم قد أُكملوا ومُجدوا في السماء وبعضهم سوف يؤمن ويتمجد ولكل مؤمن محل في ذلك الهيكل عيّنه الله. فهو مبني من كل المؤمنين الماضين والحاضرين والآتين إلى نهاية الزمان.
إن المسيح ابن الله أخذ طبيعتنا ليكون أساس هذا الهيكل فوجوده وثبوته وجماله وجلاله متوقفة عليه وملاط حجارته دم المسيح الكريم وكل حجر حي منها هو على صورة المسيح وركب في موضعه بالنسبة إليه باعتبار كونه رأس الزاوية. والروح القدس يعد كل حجر حي ويحعله مناسباً لموضعه ويزينه بزينة مقدسة ويضعه في المحل الذي عيّنه الله ويثبته فيه. وحجارة ذلك الهيكل أفراداً وإجمالاً ركزت على المسيح للقوة والاتحاد والكمال والدوام.
مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ المراد بالأنبياء هنا أنبياء العهد الجديد الذين أشار إليهم بولس في وصفه مواهب الروح القدس بقوله «وَضَعَ ٱللّٰهُ أُنَاساً فِي ٱلْكَنِيسَةِ: أَوَّلاً رُسُلاً، ثَانِياً أَنْبِيَاءَ» (١كورنثوس ١٢: ٢٨) ولو كانوا أنبياء العهد القديم لذكرهم قبل الرسل. والقرينة تدل على أن كلامه هنا في الكنيسة المسيحية وهي قوله «فجاء وبشركم بالسلام» (ع ١٧) وما قيل هنا من أن الرسل والأنبياء أساس الكنيسة يحتمل ثلاثة معان:

  • الأول: إن الكنيسة بُنيت عليهم. ويعسر علينا أن نقبل هذا التفسير لأمرين الأول منافاته لما تعلمنا في مواضع أُخر من أن المسيح هو الأساس والثاني استلزامه أن نتخذ الناس الضعفاء المعرضين للخطإ أساساً للكنيسة فإنهم حجارة البناء لا الأساس.
  • الثاني: إن أساس الكنيسة هو الذي وضعه الرسل والأنبياء وبَنوا عليه وبُنوا واجتهدوا في أن يجعلوا غيرهم بانين عليه ومبنين. ويناسب ذلك قول بولس «كَبَنَّاءٍ حَكِيمٍ قَدْ وَضَعْتُ أَسَاساً... فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ ٱلَّذِي وُضِعَ، ٱلَّذِي هُوَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (١كورنثوس ٣: ١٠ و١١).
  • الثالث: إن ذلك الأساس مناداة الرسل والأنبياء وشهادتهم للمسيح بأنه ابن الله وأنه تجسد وأنه مخلص العالم وعلى هذا التعليم بنوا رجاءهم واجتهدوا في أن يبنوا رجاء غيرهم عليه. ويرجح هذا المعنى قول المسيح لبطرس «أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي» (متّى ١٦: ١٨). أي على اعتراف بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي. ومن الواضح أن كل سافٍ أو مدماك من الحجارة أساس لما فوقه ومبني على ما تحته فلا مانع من أن يكون المسيح الأساس الأعظم الأصلي ومَن بنوا عليه أولاً من الرسل والأنبياء أُسساً ثانوية. وهذا يوافق قول يوحنا الرسول «وَسُورُ ٱلْمَدِينَةِ كَانَ لَهُ ٱثْنَا عَشَرَ أَسَاساً، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ ٱلْحَمَلِ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ» (رؤيا ٢١: ١٤). ولا نرى فرقاً بين الثاني والثالث لكي نفضل أحدهما على الآخر وكلاهما حق وموافق لقول بطرس «ٱلَّذِي إِذْ تَأْتُونَ إِلَيْهِ، حَجَراً حَيّاً مَرْفُوضاً مِنَ ٱلنَّاسِ، وَلٰكِنْ مُخْتَارٌ مِنَ ٱللّٰهِ كَرِيمٌ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ ٱللّٰهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١بطرس ٢: ٤ و٥).


يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ وهذا الحجر ذو شأن في كل بناء لأنه يربط الجدارين معاً ويقوي البناء ويقاس منه في الرسم كله. والمعنى أن الكنيسة تُسند على المسيح وتقوم به باعتبار أنه موضوع إيمانها وواسطة حياتها ويستحيل بدونه أن تثبت شيئاً لكنه بحضوره فيها «أبواب الجحيم لن تقوى عليها» وهذا موافق لقول الله بلسان إشعياء النبي «هَئَنَذَا أُؤَسِّسُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ ٱمْتِحَانٍ، حَجَرَ زَاوِيَةٍ كَرِيماً، أَسَاساً مُؤَسَّساً» (إشعياء ٢٨: ١٦). وقول المرنم «ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ» (مزمور ١١٨: ٢٢ انظر أيضاً متّى ٢٢: ٤١ وأعمال ٤: ١١ وارجع إلى تفسير رومية ٩: ٣٣).
إن كون المسيح حجر الزاوية لا يمنع من كونه أساساً أيضاً كما أن كونه ذريّة داود لم يمنع من أن يكون أصله (رؤيا ٢٢: ٦).
٢١ «ٱلَّذِي فِيهِ كُلُّ ٱلْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي ٱلرَّبِّ».
ص ٤: ١٥ و١٦ و١كورنثوس ٣: ١٧ و٦: ١٩ و٢كورنثوس ٦: ١٦
ٱلَّذِي فِيهِ أي في المسيح باعتبار كونه رأس الزاوية فإنه هو الذي يجعل البناء راسخاً نامياً في القوة والجمال وهو الذي يقدم وسائط النمو فالاتحاد به هو الشرط الضروري لكي نكون حجارة حية لذلك الهيكل الروحي الذي هو حجر زاويته.
كُلُّ ٱلْبِنَاءِ أي كل الكنيسة المركبة من مؤمني اليهود والأمم لتكون هيكلاً واحداً يسكن فيه روحه.
مُرَكَّباً مَعاً أي أن المسيحيين الحقيقيين مع كونهم مختلفي الأجناس والعصور هم أجزاء بيت واحد مختلفة الأنواع ولكونهم متحدين بالمسيح بالإيمان وبمحبة بعضهم لبعض ينمون معاً حتى يصيروا بناءً واحداً. وهذا الاتحاد روحي لا يستلزم نظاماً ظاهراً لعيون الناس كملكوت أرضي ذي رأس منظور.
فِي ٱلرَّبِّ يسوع المسيح أي ينمو فيه. فذلك الهيكل لا ينمو إلا به وهو ينمو به نمواً باطناً حياً ويتخذ منه الوسائط اللازمة لنموه.
٢٢ «ٱلَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلّٰهِ فِي ٱلرُّوحِ».
١بطرس ٢: ٥
ٱلَّذِي فِيهِ أي في المسيح لأن حضوره في البناء يجعله هيكلاً.
أَنْتُمْ أَيْضاً أراد بهذا أن ما قيل سابقاً على كل المؤمنين معاً يصدق على مؤمني أفسس أي أنهم حجارة حية في ذلك الهيكل العظيم.
مَبْنِيُّونَ مَعاً أي أنتم مع سائر المؤمنين لكم محل معين في ذلك البناء الروحي. فإن الحجارة الحيّة مع أنها أفراد كثيرة هي مبنية حتى صارت بناء واحداً. وهذا يعلمنا قيمة الاتحاد وضروريته فيه يكون المؤمنون والمسيح واحداً وبه يكون كل المسيحيين مع كونهم مختلفي الأصول والعصور واللغات والطوائف والفرق التي عُرفت بأسماء كثيرة رعية واحدة يربطها الإيمان بالمسيح مصلوباً ووسيطاً وحيداً لخلاصهم.
مَسْكَناً لِلّٰهِ هذا غاية وجود ذلك الهيكل الروحي الذي بُني فيه الأفسسيون مع غيرهم من المؤمنين وهي أن يكونوا مسكناً له تعالى كما كان هيكل سليمان المادي فكأنه قال إن كنيسة المسيح التي هي جسده هيكل الله الذي يُسر به ويُكرم ويُمجد فيه. ويلزم من كونها مسكناً له أنه يحفظها ويسوسها ويعتني بكل أمورها صغيرة كانت أو كبيرة.
فِي ٱلرُّوحِ أي الروح القدس وهذا متعلق بقوله «مبنيون» فكما أن الكنيسة تنمو باتحادها بالمسيح تُبنى بفعل الروح الذي هو حاضر في الكنيسة كلها في وقت جهادها ووقت مجدها. إنها اليوم لم تبلغ الكمال ولكن فعل الروح فيها يؤكد نموها في الطهارة إلى أن تبلغه وتكون مسكناً أبدياً لله.
وقد أوضح الرسول في هذه الآية أن الكنيسة هي الهيكل الذي أُعد لسكنى الآب والذي بناه الابن وأن الله يسكنه بروحه القدوس. فما أعظم المجد الذي نُسب هنا إلى كنيسة المسيح وأي مجد أعظم من أن تكون هيكلاً ومسكناً للعلي وأن يكون المسيح أساسها للرسوخ والدوام. وكونه «رأس زوايتها» يحقق نظامها واتحادها وجمالها وأن الروح القدس يؤكد طهارتها الباطنة ويعمل فيها ما يؤول إلى كمالها. ومن العجب أن الأجزاء التي تركبت منها الكنيسة «حجارة حيّة» مجموعة من أقطار بعيدة مختلفة في عصور مختلفة وممن كانوا يهوداً وأمماً من صنوف ورتب وألسنة مختلفة. فما أوسعها فإنها تتضمن كل مختاري الله في كل أزمنة البشر وكل من غُسل بدم المسيح من الأطفال الذين أخذوا إكليل الحياة من يد المسيح بدون أن يجاهدوا الجهاد الحسن على الأرض إلى الشيوخ الذين جاهدوا وماتوا شهداء والذي يحقق هيبتها ووقارها وقداستها أنها وقف للرب وان كل أجزائها من أساسها إلى آخر ما بني عليه محيً من الروح القدس.


اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ


كون بولس رسولاً إلى الأمم (ع ١ - ١٣) وصلاته من أجل مؤمني أفسس (ع ١٤ - ٢١).
تعيين الله بولس رسولاً ع ١ إلى ١٣


إن الرسول حين كتب هذه الرسالة كان رسول يسوع المسيح لأجل الأمم الذين الأفسسيين منهم (ع ١) وأن تعيينه رسولاً إليهم كان من النعمة (ع ٢). وأن ما أهّله لهذه الخدمة هو إعلان خاص كما أبان سابقاً (ع ٤). وأنه عُيّن لكي يخبر الأمم بالسر الذي هو موضوع الإنجيل كله أي الخلاص بالمسيح (ع ٥ و٦). وأن ذلك التعيين من النعمة أيضاً (ع ٧). وأن الغاية من تلك الخدمة عظيمة جداً (ع ٨ و٩). وأنها تبلغ الناس وجنوده السماء (ع ١٠) وتكمل غاية الله في المسيح (ع ١١). الذي به نقرب إلى الله بثقة (ع ١٢). وأنه يجب أن لا تكون شدائد الرسول سبباً لأن يكلوا (ع ١٣).
١ «بِسَبَبِ هٰذَا أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا ٱلأَمَمُ».
أعمال ٢١: ٣٣ و٢٨: ١٧ و٢٠ وص ٤: ١ و٦: ٢٠ وفيلبي ١: ٧ و١٣ و١٤ و١٦ وكولوسي ٤: ٣ و١٨ و٢تيموثاوس ١: ٨ و٢: ٩ وفليمون ٩ غلاطية ٥: ١١ وكولوسي ١: ٢٤ و٢تيموثاوس ٢: ١٠
بِسَبَبِ هٰذَا أي لكونكم أيها الأمم رعية مع القديسين ولا سيما كونكم يا مؤمني أفسس جزءاً من هيكل الله.
أَنَا بُولُسُ ابتدأ هذه الجملة هنا ووقف عن تكميلها لأخذه في كلام معترض أبان به أن الإنجيل هو السر الذي كان مكتوماً وقد أُعلن وتمام الجملة في الآية الرابعة عشرة وهو قوله «أحني ركبتي» ثم ابتدأ هناك بما ابتدأ به هنا وهو قوله «بسبب هذا» وما ذكره كان سبباً كافياً لحمله أن يصلي من أجلهم ويسأل الله نموهم الخ.
أَسِيرُ ٱلْمَسِيحِ كما أني خادمه ورسوله وكان وقتئذ سجين بيته في رومية (أعمال ٢٨: ١٦ و٣٠) ومراده أنه للمسيح على كل حال وأنه اعتبر وُثُقه واسطة لخدمة المسيح كما أعلن بقوله لأهل فيلبي «أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلإِنْجِيلِ حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي ٱلأَمَاكِنِ أَجْمَعَ» (فيلبي ١: ١٢ و١٣) ولذلك قال إنه «سفير في سلاسل» (ص ٦: ٢٠).
لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا ٱلأَمَمُ إن مناداته بالإنجيل للأمم كانت علة بغض اليهود إياه وشكواهم عليه إلى الولاة الرومانيين وعلة حمله أسيراً إلى رومية (أعمال ٢٢: ٢١ و٢٢).
٢ «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي لأَجْلِكُمْ».
رومية ١: ٥ و١١: ١٣ و١كورنثوس ٤: ١ وص ١: ١٠ و٤: ٧ وكولوسي ١: ٢٥ أعمال ٩: ١٥ و١٣: ٢ ورومية ١٢: ٣ وغلاطية ١: ١٦ وع ٨
غاية الرسول من هذه الآية إثبات كونه رسولاً إلى الأمم.
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ «إن» هنا للتعليل لا للشك فمعناه لا ريب في أنكم قد سمعتم. وجاء بالتأكيد على هذه الصورة تلطفاً وتواضعاً.
بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ أراد بهذا الوكالة التي أنعم الله عليه بها فاعتبر تعيين الله إياه رسول المسيح إلى الأمم نعمة منه تعالى لا يستحقها فتحمله دائماً على التواضع والشكر. ولم يستعظم تلك الخدمة لشرفها أو ما فيها من السلطة أو لربح دنيوي منها بل لمحبته للمسيح ولنفوس الناس وللفرصة التي انتهزها للتبشير تمجيداً للمسيح ونفعاً لإخوته البشر ولا سيما أنه أعلن بواسطتها سر الإنجيل المشتمل على دعوة الأمم إلى مشاركتهم لليهود في الخلاص بالمسيح. وكون هذه الخدمة وُكلت إليه دون غيره من الرسل هو ما قصده من لفظة «تدبير».
لأَجْلِكُمْ كان هو رسول الأمم اختاره يسوع المسيح لهذه الخدمة ووهبه لذلك مواهب خاصة بدليل قول الرب له «قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأَمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ الخ» (أعمال ٢٦: ١٦ - ١٨).
٣ «أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِٱلسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِٱلإِيجَازِ».
أعمال ٢٢: ١٧ و٢١ و٢٦: ١٧ و١٨ وغلاطية ١: ١٢ رومية ١٦: ٢٥ وكولوسي ١: ٢٦ و٢٧ ص ١: ٩ و١٠
أَنَّهُ هذا وما بعده (أي صلته) مفعول قوله «سمعتم» وبيان للمسموع.
بِإِعْلاَنٍ هذا مثل ما في قوله (وقد أثبته بأدلة مفصلة) «أُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ١: ١١ و١٢). ومثل ما في قوله في (رومية ١٦: ٢٥ و٢كورنثوس ١٢: ١٧). وهذا الإعلان كان شرطاً ضرورياً لتأهيله أن يكون رسولاً لأن شهادة الرسل امتازت على شهادة غيرهم من المؤمنين بناء على كونهم قد سمعوا ورأوا ما شهدوا به ولم ينقلوه عن غيرهم. والأرجح أن بولس أشار بهذا إلى الإعلان الذي كان له في هيكل أورشليم (أعمال ٢٢: ١٧ - ٢١).
بِٱلسِّرِّ السر هنا ما لا يحصل على معرفته إلا بالوحي وفحوى هذا السر أن ينادى بالإنجيل بين الأمم كما نودي به بين اليهود وأن الفريقين يتحدان برب واحد بالإيمان والمحبة.
٤ «ٱلَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ٤: ١ وص ٦: ١٩
كان للأفسسيين حينئذ أن يتخذوا ما سبق من كلام هذه الرسالة في سر دعوة الأمم دليلاً على معرفته بكل أمور طريق الخلاص.
بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ أي سر الفداء الذي بيسوع المسيح وهو قصد الله المكتوم في الأجيال الماضية أن يخلص الخطأة ويجدد الجنس البشري بواسطة ابنه الأزلي. ومن أجزاء هذا السر العظيم دعوة الأمم إلى مشاركة اليهود في الخلاص وهذا على وفق قوله «ٱلَّذِينَ أَرَادَ ٱللّٰهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هٰذَا ٱلسِّرِّ فِي ٱلأَمَمِ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ١: ٢٧). وقوله «مُصَلِّينَ... لِيَفْتَحَ ٱلرَّبُّ لَنَا بَاباً لِلْكَلاَمِ، لِنَتَكَلَّمَ بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَنَا مُوثَقٌ أَيْضاً» (كولوسي ٤: ٣). وقوله «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأَمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦).
٥ «ٱلَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو ٱلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ ٱلآنَ لِرُسُلِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِٱلرُّوحِ».
أعمال ١٠: ٢٨ ورومية ١٦: ٢٥ وع ٩ ص ٢: ٢٠
ٱلَّذِي أي سر المسيح.
فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ وهي الأجيال التي قبل مجيء المسيح وموته وقيامته وسكب الروح القدس. وفيها إشارة إلى أن الإعلانات الجزئية التي كانت على التوالي للآباء وموسى وداود وسائر الأنبياء.
لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ هذا على وفق قوله «حَسَبَ إِعْلاَنِ ٱلسِّرِّ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ، وَلٰكِنْ ظَهَرَ ٱلآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ ٱلأَمَمِ بِٱلْكُتُبِ ٱلنَّبَوِيَّةِ» (رومية ١٦: ٢٥ و٢٦) فارجع إلى التفسير هناك.
بَنُو ٱلْبَشَرِ حتى أنبياء العهد القديم فإنهم فهموا بعض الأمر كما أبان بولس بما اقتبسه مما كتبوه (رومية ٩: ٢٥ - ٣٣).
كَمَا قَدْ أُعْلِنَ ٱلآنَ إن ذلك السرّ كان قد أُعلن بعضه الإعلان لكنه لم يُعلن كما أُعلن يوم كتابة هذه الرسالة.
لِرُسُلِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ المقصود بالأنبياء هنا أنبياء العهد الجديد كما أبان في (ص ٢: ٢٠). والفرق بين الرسل والأنبياء من جهة الإلهام أن الرسل كانوا ملهمين دائماً وأما الأنبياء فكانوا يلهمون أحياناً. ونعت الرسل بكونهم «قديسين» لأنهم موقوفون لخدمة الله بنوع خاص. وقيل مثل ذلك في أنبياء العهد القديم (لوقا ١: ٧ و٢بطرس ١: ٢١). ولم يقصد الرسول أن يمدح نفسه بنعته الرسل الذين هو واحد منهم بكونهم قديسين إذ المراد من القداسة هنا وقف النفس للخدمة الدينية.
بِٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي هو مُبلغ الوحي ومعلن سر المسيح. وما جاء هنا دليل على أن أقانيم اللاهوت الثلاثة جوهر واحد إذ نُسب الإعلان أحياناً إلى الله (ع ٣) وأحياناً إلى المسيح (غلاطية ١: ١٢) وأحياناً إلى الروح كما في الآية. إن إلهام الرسل والأنبياء بالروح أهّلهم لأن يضعوا أساس الكنيسة فكان من الضروري حينئذ لأنه لم يكن الإنجيل يومئذ كاملاً بين أيدي الناس ولم يعرف العالم سوى قليل من حوادث تاريخ المسيح وحقائق تعليمه فكان الناس مفتقرين إلى التعليم شفاهاً من المعصومين من الخطإ وإثبات التعليم بالمعجزات. ولكن بعدما كمل الإنجيل وعُرفت حوادثه واشتهرت وأُثبتت وأُسست الكنيسة لم يبق من حاجة إلى وجود الرسل ولم يقم الله رسلاً بعدهم.
٦ «أَنَّ ٱلأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي ٱلْمِيرَاثِ وَٱلْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي ٱلْمَسِيحِ بِٱلإِنْجِيلِ».
غلاطية ٣: ٢٨ وص ٢: ١٤ ص ٢: ١٥ و١٦ غلاطية ٣: ١٤
في هذه الآية بيان أن «جزء سر المسيح» الذي أُعلن للرسل والأنبياء في العهد القديم والذي عيّن بولس أن يكون مبشراً به هو أن الأمم يشاركون اليهود في بركات ملكوت المسيح.
الظاهر أنه قبل يوم الخمسين لم يخطر على بال تلاميذ المسيح أن الأمم يخلصون بدون أن يتهودوا أولاً ولو آمنوا بالمسيح وأن كل نظام الشريعة الموسوية يبطل وأنه يقام نظام جديد يناسب كل قبائل الأرض وأنه يبطل التمييز بين اليهود والأمم لكن ذلك السر أُعلن للرسل والأنبياء ليعلنوه للكنيسة على أنه عسر عليهم أن يقبلوه حتى أُعلن لبطرس بطريق خاصة يوم إيمان كرنيليوس (أعمال ص ١٧ وص ١١). وقد نُسب إلى الأمم ثلاثة أمور:
الاول: إن متنصري الأمم مساوون لمتنصري اليهود في حقوق الميراث الروحي وذلك يشتمل على كل بركات عهد النعمة كمعرفة الحق والتبني والتقديس وسكنى الروح القدس فيهم والشركة في الكنيسة وفوائدها من الأسرار والعبادة. فبإيمانهم صاروا أولاد الله وورثته على وفق قوله «فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٧).
وَٱلْجَسَدِ أي وشركاء في الجسد. هذا هو الأمر الثاني من الثلاثة التي نُسبت إلى الأمم وهو أن يكونوا كاليهود في أنهم أعضاء الجسد الذي المسيح رأسه. والخلاصة أنهم أعضاء كنيسة المسيح كمتنصري اليهود لأنهم قبلوا الحياة رأساً من ذلك الرأس كما قبلها أولئك. إن اليد لم تكن في الجسد بإذن العين ولا العين بإذن اليد كذلك الأمم لم يكونوا أعضاء في كنيسة المسيح بإذن اليهود ولم يكن اليهود كذلك بإذن الأمم.
نَوَالِ مَوْعِدِهِ هذه الأمر الثالث من الأمور الثلاثة المذكورة آنفاً والموعد هنا هو الوعد بالفداء الذي وعده أبوانا الأولون وكُرر لإبراهيم ولأنبياء العهد القديم كقوله «لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ» وقوله «ٱلْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى ٱلْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» وقوله «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (غلاطية ٣: ١٤ و٢٢ و٢٩). وهذا يتضمن كل البركات الروحية.
فِي ٱلْمَسِيحِ اي بالاتحاد به. وهذا هو الشرط الوحيد لمشاركة الأمم لليهود في فوائد الفداء وهو شرط لا بد منه. فكل من الفوائد الثلاث التي حصل الأمم عليها إنما حصلوا عليها بالمسيح.
بِٱلإِنْجِيلِ أي بواسطة الإنجيل فإنه هو وسيلة اتحادهم بالمسيح لا ولادتهم ولا رسوم خارجية ولا دخولهم أولاً في جماعات ظاهرة فالعمدة الإيمان بابن الله المعلن بالإنجيل.
ولنا من هذه الآية أن البركات التي شارك الأمم اليهود فيها هي نيل الميراث وعضوية الكنيسة والدخول في العهد وأن شرط نيل كل ذلك هو الاتحاد بالمسيح وأن واسطة ذلك الاتحاد هو الإنجيل.
وكلام الرسول في الآيات الخمس الآتية بيان أن التبشير بالإنجيل نعمة عظيمة للمبشر.
٧ «ٱلَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ».
رومية ١٥: ١٦ وكولوسي ١: ٢٣ و٢٥ رومية ١: ٥ ورومية ١٥: ١٨ وص ١: ١٩ وكولوسي ١: ٢٩
ٱلَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ صرّح بهذا أن خدمة الإنجيل هي العمل الذي عيّنه الله له ووقف هو نفسه له.
حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ اعتبر بولس دعوته إلى خدمة الإنجيل إحساناً وافراً وبركة عظيمة وأنه لم يُدع إليها لأنه استحقها بل لأن الله وهبها له فإنه كان مجدفاً ومضطهداً لا يستحق إلا العقاب.
حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ أي أن الله فضلاً عن إظهار نعمته بدعوة من كان مجدفاً ومضطهداً إلى أن يكون رسولاً أظهر وقته أيضاً في تغييره بأن جعله مؤمناً بالمسيح بعد أن كان كافراً به وخادماً له بعد أن كان مقاوماً له بكل ما أتاه ليعده لعمله. ولم ينسب بولس تغيره إلى النور الذي رآه في الطريق وهو سائر إلى دمشق ولا إلى الصوت الذي سمعه بل إلى قوته تعالى التي أثرت في قلبه. وهذا كقوله «لِتَعْلَمُوا... مَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ ٱلْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ» (ص ١: ١٨ و١٩).
٨ «لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ أُعْطِيَتْ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ بِغِنَى ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى».
١كورنثوس ١٥: ٩ و١تيموثاوس ١: ١٣ و١٥ غلاطية ١: ١٦ و٢: ٨ و١تيموثاوس ٢: ٧ و١تيموثاوس ١: ١١ ص ١: ٧ وكولوسي ١: ٢٧
أشار بولس في هذه الآية إلى أنه لم يكن مستحقاً أن يكون رسولاً.
أَصْغَرَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ المراد «بالقديسين» هنا شعب الله كما جاء في (١كورنثوس ١: ١ ورومية ١: ٧). والذي حمل بولس على لومه لنفسه واعتبار أنه دون غيره من المؤمنين ليس خطاياه عموماً بل اضطهاده للمسيح وكنيسته فإنه لما سّر الله أن يعلن ابنه فيه وعلم هو عظمة المسيح وجودته شعر بفظاعة مقاومته له وأن سائر الخطايا ليست شيئاً بالنسبة إلى تلك الخطيئة. وهذا مثل قوله في (١كورنثوس ١٥: ٩ و١٠ و٢كورنثوس ١١: ٣٠ و١٢: ٩ - ١١) فإنه أبان في كل ذلك إخلاص توبته وفرط تواضعه.
أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ حسب النعمة العظمى أن يسمح الله لمرتكب خطيئة فظيعة كخطيئته أن ييشر بالمسيح بين الناس.
بِغِنَى ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى إن غنى المسيح يشمل «الحكمة والبر والقداسة والفداء» (١كورنثوس ١: ٣٠) فلا يقدر العقل البشري أن يتصور عظمته ولا يستطيع لسان أن يعبر عن حقيقته. ومن هذا الغنى يهب الله لنفوس شعبه المغفرة والقداسة والخلاص هبة أبدية. وعظمة تلك النعمة التي وُكل إليه إعلانها للناس زادت رسوليته عظمة وشرفاً.
٩ «وَأُنِيرَ ٱلْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ فِي ٱللّٰهِ خَالِقِ ٱلْجَمِيعِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
ص ١: ٩ وع ٣ رومية ١٦: ٢٥ و١كورنثوس ٢: ٧ وع ٥ وكولوسي ١: ٢٦ مزمور ٣٣: ٦ ويوحنا ١: ٣ وكولوسي ١: ١٦ وعبرانيين ١: ٢
وَأُنِيرَ ٱلْجَمِيعَ لا الأمم فقط بل كل بني البشر على قدر طاقتهم فالإنارة هي تأثير الإنجيل. وقد وصف بطرس الإنجيل بأنه «سراج منير في موضع مظلم» (٢بطرس ١: ١٩). وقال المسيح لبولس يوم أرسله للتبشير «لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ» (أعمال ٢٦: ١٨). وقال الرسول بولس نفسه إن «إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَـهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ٤: ٤). والذي ينيره الإنجيل هو روح الإنسان وضميره وقلبه لا عقله فقط.
شَرِكَةُ ٱلسِّرِّ هذا مضمون الإنجيل الذي كان بولس خادماً له وهذا أكثر من دعوة الأمم إلى الخلاص والمساواة لليهود فإنه يشمل كل نظام الفداء الذي هو دعوة كل الناس إلى الاشتراك في الخلاص بواسطة المسيح كما جاء في قوله «حَسَبَ إِعْلاَنِ ٱلسِّرِّ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ، وَلٰكِنْ ظَهَرَ ٱلآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ» (رومية ١٦: ٢٥ و٢٦). وقوله «ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ وَمُنْذُ ٱلأََجْيَالِ، لٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ الخ» (كولوسي ١: ٢٦ - ٢٨).
مُنْذُ ٱلدُّهُورِ أي من بدء الخليقة إلى أزمنة الإنجيل. وكان مكتوماً عن الناس لأن الله استحسن وقتئذ أن يعلنه بعض الإعلان بواسطة الإشارات والرموز والناس لم يدركوا حقيقة معناها.
فِي ٱللّٰهِ أي في قضائه.
خَالِقِ ٱلْجَمِيعِ قال الرسول هذا بياناً أن إله الخلق هو إله الفداء وأنه لكونه خالق كل الأشياء حق له أن يقضي في الكل بمقتضى مشيئته ويكتم ما يشاء ويعلن ما يشاء متى شاء. وأنه كما أمكنه أن يخلق العالمين يمكنه أن يجدد نفوس الناس ويجعلها خليقة جديدة وبياناً أنه حين قصد أن يخلق البرايا قصد أيضاً عمل الفداء.
بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ خلت من هاتين الكلمتين بعض النسخ القديمة وليس وجودهما هنا بأمر جوهري إذ جاء في أماكن كثيرة أن الخليقة كانت بيسوع المسيح ومن ذلك ما في (يوحنا ١: ٣ وكولوسي ١: ١٦ وعبرانيين ١: ٢).
١٠ «لِكَيْ يُعَرَّفَ ٱلآنَ عِنْدَ ٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ».
رومية ٨: ٣٨ وص ١: ٢١ و١بطرس ١: ١٢ و٣: ٢٢ و١كورنثوس ٢: ٧ و١تيموثاوس ٣: ١٦
لِكَيْ يُعَرَّفَ ٱلآنَ هذا متعلق «بأبشر» أو «أنير» في (ع ٨ و٩) بياناً لقصد الله من تبشير الأمم بسر الفداء وإنارة كل الناس في أمر ذلك السر. وذكر «الآن» يمنع من تعلّق الجار «بخالق» والقرينة تدل على أن سر الفداء هو الذي كُتم منذ الدهور وأُعلن الآن للكنيسة وبها لا على أنه شيء من متعلقات الخليقة.
ٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ أي الملائكة الأطهار كما يدل عليه مسكنهم وموضوع تعلمهم. وذكر بطرس مثل ذلك فيهم بقوله «تَشْتَهِي ٱلْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا» (١بطرس ١: ١٢). وفي كلام بولس بيان لسلطتهم وسمو شأنهم وانهم يزيدون معرفة وشعوراً بحكمة الله بواسطة الكنيسة وهذا يزيد الكنيسة فخراً إذ لم تعلم الناس فقط بل الملائكة أيضاً.
بِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ الكنيسة جماعة مؤلفة من مختاري الله من قبائل الناس في كل العصور وهي المشهد الذي فيه يُظهر الله عجائب حكمته بإجراء عمل الفداء الذي يتفق به العدل والرحمة وتُعاقب الخطيئة ويخلص الخاطئ. وبها أظهر الله حكمته بتجسد المسيح وسحق نسل المرأة رأس الشيطان وتعليم ابنه وجعل موته ينبوع حياة للعالم وبها أعلن الله سامي تلك الحكمة بفعل الروح القدس مثل إرشاده الناس وإقناعهم وتجديدهم وبسياسة الكنيسة وهدايتها ووقايتها من أعدائها الكثيرة داخلاً وخارجاً وتكليلها بنعمة وجمال وإعدادها للكمال في السماء.
إن الكنيسة مؤلفة من خطأة افتداهم المسيح فلا يمكنها من تلقاء نفسها أن تعلم الملائكة حكمة الله ولكنها تُعلن تلك الحكمة كلما بشرت بإنجيل المسيح وصار الإنجيل بواسطتها قوة الله وحكمته لخلاص الناس. وعلى وفق تعليم هذه الآية قال الرسول في رسل الكنيسة ومبشريها «أَرَى أَنَّ ٱللّٰهَ أَبْرَزَنَا نَحْنُ ٱلرُّسُلَ آخِرِينَ، كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِٱلْمَوْتِ. لأَنَّنَا صِرْنَا مَنْظَراً لِلْعَالَمِ، لِلْمَلاَئِكَةِ وَٱلنَّاسِ» (١كورنثوس ٤: ٩). وبهذا المعنى قوله «قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ ٱلسَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (عبرانيين ١٢: ٢٢ و٢٣). وبه قال المسيح «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ» (لوقا ١٥: ٧ و١٠ انظر أيضاً متّى ١٨: ١٠ و١كورنثوس ١١: ١٠).
ووُصفت حكمة الله بكونها متنوعة لأن كل حادثة في تاريخ الكنيسة تُظهر علامة جديدة من علامات الحكمة الإلهية فمنها ما صارت إلى تقدمها مع أن ظاهرها كان يدل على ملاشاتها مثل جعل أشد اعدائها وشر مقاوميها من أحسن أصدقائها وخير المحامي عنها. فحكمته تعالى متنوعة لتنوع قضائه وأعماله كدعوة الأمم ورفض اليهود مدة ثم ردهم وقبولهم وجعلهم واسطة خلاص للعالم وأن كل حوادث العالم رُتبت حتى تجري إلى غاية واحدة هي فداء البشر. وهي تشهد بأن حكمة الله كثيرة الأنواع وعجيبة المقدار.
١١ «حَسَبَ قَصْدِ ٱلدُّهُورِ ٱلَّذِي صَنَعَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا».
ص ١: ٩
في هذه الآية بيان أن حكمة الله بالكنيسة جزء من قضائه الأزلي.
حَسَبَ قَصْدِ ٱلدُّهُورِ أي قصد الله الأزلي الذي كان في العصور الخالية وتحقق أنه يجريه في الحال والمستقبل وهذا مثل قوله في (ص ١: ١١).
ٱلَّذِي صَنَعَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا أي أن الله أنجز قصده من جهة فداء العالم بتجسد ابنه وموته. وقال في المسيح أنه «يسوع ربنا» لبيان أن المسيح الموعود به هو الذي عرفه الناس بيسوع الناصري وكان حقيقة الرب من السماء.
١٢ «ٱلَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَة».
ص ٢: ١٨ عبرانيين ٤: ١٦
في هذه الآية كرر الرسول معنى قوله «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ» (ص ٢: ١٨)
ٱلَّذِي بِهِ بناء على ما فعله ليصالحنا مع الله ويكفر عنا خطايانا وبناء على استحقاقه غير المحدود الذي نتكل عليه فالمسيح يقدّر شر الخطأة أن يقترب من الله القدوس الذي هو نار «آكلة» (عبرانيين ١٢: ٢٩).
لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ كجراءة الأولاد وقدومهم عند والديهم لتحققهم أنه يقبلهم ويسمع طلباتهم. وأراد بقوله «لنا» كل المؤمنين لا صنف منهم امتاز على غيره كرؤساء الكنيسة دون رعاياهم فإنه كان لكنهة العهد القديم من حق الاقتراب إلى الله ما لم يكن مثله لغيرهم من الشعب ولكنه منذ موت المسيح شق حجاب الهيكل بين القدس وقدس الأقداس ومنذ ذلك الوقت صار المؤمنون كلهم «جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ» (١بطرس ٢: ٩). وكان ذلك بواسطة «رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ ٱجْتَازَ ٱلسَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (عبرانيين ٤: ١٤). وتلك الجراءة خالصة من خوف الرفض مقترنة بالنعمة بتمام المصالحة بين الله والناس بالمسيح.
بِإِيمَانِهِ أي الإيمان الذي هو موضوعه بدليل قوله «ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ» (ص ٢: ١٣). وهذا الإيمان مبني على سمو مقام المسيح وشفاعته وقيمة دمه فعلى كل خاطئ أن يسأل «بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى ٱلرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ ٱلْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ ٱلرَّبُّ بِأُلُوفِ ٱلْكِبَاشِ، بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي» (ميخا ٦: ٦ و٧). وجواب الإنجيل عن هذا السؤال «بالإيمان بيسوع المسيح». وإن اتكلنا على بر أنفسنا أو على شيء من أعمالنا الصالحة أو على وسيط غير المسيح من أهل الأرض أو أهل السماء كانت محاولتنا الاقتراب من الله عبثاً.
عَنْ ثِقَةٍ هذا متعلق «بقدوم» والمعنى أن المؤمن يقترب من الله بدون أدنى ريب في أن يقبله أو أدنى خوف من أن يرفضه وهذه الثقة مبنية على يقين أن المسيح جعل المصالحة التامة بين الله والإنسان.
إن الفرق عظيم بين تقدم المؤمن إلى الله بواسطة المسيح وتقدم أستير إلى الملك أحشويرش لتسأله حياتها وحياة شعبها بعد أن ذكرت شريعة مملكته وهي «أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ دَخَلَ أَوِ ٱمْرَأَةٍ إِلَى ٱلْمَلِكِ إِلَى ٱلدَّارِ ٱلدَّاخِلِيَّةِ وَلَمْ يُدْعَ، فَشَرِيعَتُهُ وَاحِدَةٌ أَنْ يُقْتَلَ، إِلاَّ ٱلَّذِي يَمُدُّ لَهُ ٱلْمَلِكُ قَضِيبَ ٱلذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَحْيَا» فإنها قالت «أَدْخُلُ إِلَى ٱلْمَلِكِ خِلاَفَ ٱلسُّنَّةِ. فَإِذَا هَلَكْتُ هَلَكْتُ» (أستير ٤: ١١ و١٦).
إن الله يحبنا أكثر مما يحب الوالد أولاده وهو أكثر استعداداً منه لأن يعطي عطايا صالحة لأولاده (متّى ٧: ١١). فيحق لنا أن «نَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ ٱلنِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ» (عبرانيين ٤: ١٦).
١٣ «لِذٰلِكَ أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ ٱلَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ».
أعمال ١٤: ٢٢ وفيلبي ١: ١٤ و١تسالونيكي ٣: ٣ ع ١ و٢كورنثوس ١: ٦
لِذٰلِكَ أي لأن لكم قدوماً عن ثقة إلى الله الذي هو مصدر كل خير ولأنكم شركاء في فوائد الفداء المذكورة آنفاً (ع ٦ - ١١) ولأن الله أنعم عليّ بأن أكون خادماً لكم لتحصيل تلك الفوائد.
أَطْلُبُ لم يتبين جلياً أن ذلك الطلب إلى الله في الصلاة أو منهم لتحصيل تلك الفوائد.
أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ أي أن لا تجبنوا وتسلموا أنفسكم لليأس بضعف إيمانكم. كان بولس أسيراً في قيصرية سنتين وفي رومية نحو سنتين قبل أن كتب هذه الرسالة فخاف أن تكون لهم شدائده وهو مسجون علة يأس وكلال لأنه امتنع في تلك المدة كلها من أن يجول بخدمهم باعتبار كونه رسولهم.
ٱلَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ لأنها لا بد أن تؤول إلى نفعكم. كان بولس يفتخر بضعفاته (٢كورنثوس ١١: ٣٠) لأنه كان كلما زادت زادت تعزيته (٢كورنثوس ١: ٥) ولأنه بها «َأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ ٱلْمَسِيحِ فِي جِسْمِي لأَجْلِ جَسَدِهِ: ٱلَّذِي هُوَ ٱلْكَنِيسَةُ» (كولوسي ١: ٢٤) فأراد أن لا يحسبوا آلامه من أجلهم عاراً عليهم وعلى فشلهم وآية ترك الله إياه فتركه إياهم بل أن يحسبوها سبباً للشكر والسرور إذ هي شهادة بقوة الحق وقوة نعمة المسيح لأنه أسيره وسفيره في سلاسل فهو بذلك شاهد بالحق وبالنعمة. فإن الله بذل ابنه ليتألم من أجلهم وذلك آية محبته لهم فأراد الرسول أن يتخذوا آلامه باعتبار كونه رسول المسيح آية حبه إياهم فوجب عليهم أن يتخذوا شدائده آيات محبة المسيح لهم وموضوع مجد لأن المسيح جعله يتألم من أجلهم ووسيلة للمناداة بالإنجيل بين الأمم الذين هم منهم لكي يشتركوا في كل فوائد الفداء.

صلاة الرسول من أجل كنيسة المسيح وتسبيح لله ع ١٤ إلى ٢١


توجيه الرسول صلاته إلى الله الآب (ع ١٤ و١٥) وكون موضوع صلاته تقويتهم بالروح القدس في الإنسان الباطن أو بأن يمكث المسيح فيهم بالإيمان (ع ١٦ و١٧). وغايته من ذلك أن يتأصلوا في المحبة وأن يدركوا عظمة السر الذي تكلم عليه ليعرفوا بالاختبار وفرة محبة المسيح لهم ويمتلئوا بكل ملء الله (ع ١٨ و١٩).
١٤ «بِسَبَبِ هٰذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
بِسَبَبِ هٰذَا أي كونكم صرتم شركاء الفداء الذي بيسوع المسيح. ابتدأ صلاته من أجل الأفسسيين في الآية الأولى من هذا الأصحاح ثم وقف عنها لما أورده من الكلام المعترض ثم كرر ما ابتدأ به.
أَحْنِي رُكْبَتَيَّ هذا بيان هيئته في الصلاة وهو علامة الاتضاع والرغبة في الطلب.
أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا بيان النسبة بين الله والمؤمنين التي حصلوا عليها بعهد النعمة. إن الله أبو ربنا يسوع المسيح وسيطنا وشفيعنا ولذلك كان أبانا وأبا كل المفديين في كل زمان ومكان في الأرض والسماء. وبناء على هذه النسبة قدم الرسول صلاته بثقة من أجل مؤمني أفسس.
١٥ «ٱلَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ».
ض ١: ١٠ وفيلبي ٢: ٩ إلى ١١
ٱلَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ العشيرة هنا الجماعة التي هي سلالة أب واحد بعيد أو قريب كالقبيلة وبهذا المعنى جاءت عشيرة داود (لوقا ٢: ٤). والمراد بها في الآية جماعة المفديين الذين صاروا أهل بيت الله لأن المسيح صالحهم له بدمه وأدخلهم في نسبة البنين. فهي لا تشمل هنا الملائكة الأطهار لأنهم لم يسقطوا ولم يحتاجوا إلى الفداء نعم أنهم دُعوا في بعض الأماكن «أبناء الله» لأنهم خلقه أما المؤمنون فدعوا «ابنا الله» لأنهم صاروا بالفداء إخوة الفادي. وتسمى العشيرة بنسبتها إلى اسم أبيها فالمؤمنون يسمون أهل الله وأولاده بناء على نسبتهم إليه أبا روحياً والله يعتبرهم أولاده ويعترف بهم هنا وسيعترف بهم في اليوم الأخير.
١٦ «لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِٱلْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ».
رومية ٩: ٢٣ وص ١: ٧ وفيلبي ٤: ١٩ وكولوسي ١: ٢٧ ص ٦: ١٠ وكولوسي ١: ١١ رومية ٧: ٢٢ و٢كورنثوس ٤: ١٦
ذكر بولس في هذه الآية الطلبة الجوهرية في صلاته وهي أن يقويهم الله «بحسب غنى مجده» في الإنسان الباطن.
بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أي على قدر وفرة صفاته المجيدة. إن كبر النهر أو صغره يتوقفان على كبر الينبوع أو صغره وهبات الملك محدودة طبعاً بمقدار ثروته فسأل بولس الله أن يعامل مؤمني أفسس بمقتضى وفرة مجده لأن ذلك يؤول إلى تمجيده تعالى ونفعهم.
أَنْ تَتَأَيَّدُوا أي تتقووا. لم يطلب الرسول تقوية أذهانهم للإدراك ولا تقوية أرواحهم على شهواتهم بل تقوية الإنسان الجديد على الإنسان العتيق في الحرب بين الجسد والروح التي وصفها الرسول في (رومية ٧: ٢٢ و٢٣ وغلاطية ٥: ١٧) ليتمكنوا من أن يدركوا سر الفداء ويتأسسوا في المحبة ويمتلئوا بكل ملء اللاهوت.
بِٱلْقُوَّةِ أي القوة الإلهية التي هي منشأ القوى فإن الله «يُعْطِي ٱلْمُعْيِيَ قُدْرَةً وَلِعَدِيمِ ٱلْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ، وَٱلْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُّراً. وَأَمَّا مُنْتَظِرُو ٱلرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً» (إشعياء ٤٠: ٢٩ - ٣١) لكي يكونوا «مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ» (كولوسي ١: ١١)
بِرُوحِهِ أي الروح القدس الذي به يمنح الله القدير الإنسان الضعيف الذي هو عرضة للسقوط القدرة التي يحتاج إليها. وخلاصة تلك الطلبة سؤال الروح القدس لهم الذي وعد المسيح به تلاميذه بقوله «مَتَى جَاءَ ٱلْمُعَزِّي ٱلَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ ٱلآبِ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، ٱلَّذِي مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» (يوحنا ١٥: ٢٦). وبقوله «لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ» (أعمال ١: ٨).
فِي ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ أي إنسان القلب الخفي (١بطرس ٣: ٤) الذي ذكره الرسول في مقابلة الإنسان الخارج بقوله «إِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا ٱلْخَارِجُ يَفْنَى، فَٱلدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً» (٢كورنثوس ٤: ١٦). وأول ما يتجدد المؤمن لا يكون سوى طفل في يسوع المسيح لكنه بعمل الروح القدس في قلبه ينمو على توالي الأيام في المعرفة والنعمة.
١٧ «لِيَحِلَّ ٱلْمَسِيحُ بِٱلإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ».
يوحنا ١٤: ٢٣ وص ٢: ٢٢
إن التقوية التي سألها بولس لمؤمني أفسس في الآية السادسة عشرة بفعل الأقنوم الثالث سألها في هذه الآية بسكنى الأقنوم الثاني فيهم على وفق قوله «المسيح فيكم رجاء المجد» (كولوسي ١: ٢٧) فسكنى المسيح فيهم ليست نتيجة هبة الروح إذ هما شيء واحد بدليل قول المسيح وهو يعدهم بمجيء ذلك الروح «لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ» فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ» (يوحنا ١٤: ١٦ - ٢٠). وبناء على ذلك قال بولس «لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ» (فيلبي ١: ٢١) وقال «أَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية ٢: ٢٠).
إن الله يسكن حيث يظهر حضوره إظهاراً خاصاً دائماً وعلى هذا جاء في الكتاب أنه «ساكن السماء» (مزمور ١٢٣: ١) وأن «الساكن في صهيون» (مزمور ٩: ١١) وأنه «يَسْكُنُ، وَمَعَ ٱلْمُنْسَحِقِ وَٱلْمُتَوَاضِعِ ٱلرُّوحِ» (إشعياء ٥٧: ١٥). و «في شعبه» (٢كورنثوس ٦: ١٦). وقيل أحياناً أن الله يسكن في قلوب شعبه كما ذُكر وأحياناً «إن روح الله يسكن فيها» (رومية ٨: ٩) وأوقاتاً أن الذي يسكن فيها روح المسيح (رومية ٨: ١٠). وأحياناً أن المسيح نفسه هو الذي يسكن فيها كما في هذه الآية. واختلاف هذه العبارات منبي على كون الأقانيم الثلاثة ذات جوهر واحد وعلى ذلك يصح أن يقال «من رأى الابن فقد رأى الآب أيضاً» وأنه «من له الابن فله الآب» وحيث روح الله يكون الله وحيث روح المسيح يكون المسيح. ويلزم من ذلك أن معنى كون المسيح فينا هو أن روحه لنا وإن كان روحه لنا يستلزم كونه فينا. وجعل مسكنه القلوب باعتبار كونها محل العواطف وحيث يسكن المسيح بروحه تنشأ الحياة الإلهية والمعرفة السماوية والعواطف والأشواق الروحية. والمسيح يرغب أبداً في أن يسكن قلوب المؤمنين دائماً ليس كسكناه وقتاً قصيراً كما كان يسكن هو على الأرض كسكناه في بيت لحم والناصرة وأورشليم. وهو لا يقتصر على أن يسكن الكنيسة جملة بل يسكن كل فرد من مختاريه ليكون حافظاً له وكاهناً ونبياً وملكاً وموضوع محبته وثقته. وله حق أن يجلس على عرش القلب ولا يكتفي بأن يكون له محل في العقل ولا أن يسوس اللسان فقط بل لا يزال يقول اليوم كما كان يقول قديماً يا ابني أعطني قلبك (أمثال ٢٣: ٢٦).
يَحِلَّ بِٱلإِيمَانِ أي إيمانكم فالأعمى إذا وقف أمام أجمل ما في العالمين لا يشعر بجماله فبدون الإيمان في قلوبنا لم يكن للمسيح في أعيننا صورة ولا جمال ولا منظر مشتهى فبذلك الإيمان نقدر أن نتحقق وجوده وجودته ومجده وأن نقبله ونثق بمواعيده ونتمسك به للخلاص فمتى وقف على أبواب قلوبنا وقرع نفتح تلك الأبواب له بالإيمان الذي هو موهبة الروح.
وهنا نهاية طلبة الرسول من أجل مؤمني أفسس وما يأتي بيان نتائجها التي رغب فيها ورجا حصولها وهي تثبيتهم في المحبة وقوتهم على إدراك عظمتها وامتلاؤهم بكل ملء الله.
١٨ «وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ ٱلْعَرْضُ وَٱلطُّولُ وَٱلْعُمْقُ وَٱلْعُلْوُ».
كولوسي ١: ٢٣ و٢: ٦ ص ١: ١٨ رومية ١٠: ٣ و١٢ و١٣
وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ هذا نتيجة تقوية الروح في الإنسان الباطن وفي سكنى المسيح في القلوب فليست هي محبة الله أو محبة المسيح لنا بل المحبة باعتبار كونها فضيلة مسيحية بدون بيان ما هو موضوع تلك المحبة كما قال «أَمَّا ٱلآنَ فَيَثْبُتُ ٱلإِيمَانُ وَٱلرَّجَاءُ وَٱلْمَحَبَّةُ، هٰذِهِ ٱلثَّلاَثَةُ وَلٰكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ ٱلْمَحَبَّةُ» (١كورنثوس ١٣: ١٣) وهذه المحبة تنشأ عن الإيمان بدليل قوله «الإيمان العامل بالمحبة» (غلاطية ٦: ٦) وهي أول ما ذُكر من أثمار الروح (غلاطية ٥: ٢٣) وهي لله وللإخوة وتوضح حال النفس وهي متأصلة ومتأسسة في المسيح.
وقوله «متأصلون ومتأسسون» مجاز فيه استعارتان الأولى استعارة الشجرة الممتدة أصولها في التربة والثانية استعارة البناء الراسخ على أساسه للمؤمنين. والمعنى أن المحبة أثرت فيهم تأثيراً عظيماً كالعصير في أصل الشجرة فإنه يؤثر في كل غصن وورقة وزهرة وثمر في الشجرة فالمحبة المسيحية تؤثر في كل فكر وقول وفعل في مسيحي أفسس أفراداً وإجمالاً. ومراده بكونه «متأسسين في المحبة» أنه كما يكون في البناء أن كل طبقة وقنطرة وعمود وحجر من أسفله إلى قمته يحفظ موضعه وصورته وجماله من متانة أساسه كذلك كنيسة أفسس بمحبتها للمسيح ولكل مؤمن تبقى ثابتة حسناء كاملة على وفق قوله «ٱلْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلٰكِنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَبْنِي» (١كورنثوس ٨: ١) فيحق أن يُقال في المحبة أنها الفضيلة الأساسية.
حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا كما يجب. وهذه الكلمات تشير إلى أنه يعسر على المؤمنين أن يدركوا محبة المسيح وإلى وجوب أن يجتهدوا في إصابة ذلك الإدراك وإلى افتقارهم إلى المعونة السماوية فوق كونهم متأصلين ومتأسسين في المحبة. وهذا الإدراك يتضمن معرفة واختباراً والعلاقة بين التأسس في المحبة وإدراك محبة المسيح هي أن اختبار المحبة في القلوب إعداد للثقة بحقيقة محبة المسيح وعظمتها. إن الذي لا يشعر في قلبه بالمحبة لغيره لا يقدر أن يدرك محبة غيره له. والإدراك الذي طلبه الرسول في صلاته روحي ومصدره الروح القدس ولا يقدر أن يحصل عليه إلا الروحيون الذين تجددوا واستنيروا من العلى.
مَعَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ أي مع كل شعب الله. وهذا يدل على أن شعب الله يعتبر هذا الإدراك من أثمن المطالب وإنما يحصلون عليه برغبتهم في طلبه إجابة لصلواتهم وصلوات الرسول من أجلهم. وأن اتفاق المؤمنين على طلب هذا الإدراك يمكنهم من تحصيل مقدار أعظم مما لو طلبه كل وحده.
مَا هُوَ ٱلْعَرْضُ وَٱلطُّولُ وَٱلْعُمْقُ وَٱلْعُلْوُ أي عظمة محبة المسيح التي حملته على تقديم نفسه ذبيحة لفدائنا. إن الإنسان متى أراد أن يصف عظمة مادة كبناء أو هيكل يستعمل تلك الكلمات الهندسية التي اعتاد الناس استعمالها في مساحة البناء فاتخذها الرسول لوصف أمر روحي وهو محبة المسيح ونحن نفهم منها أنها تشير إلى أن تلك المحبة عظيمة جداً مع أننا لا نستطيع أن نحكم بما قصد من كل منها. وكثرة الأقوال بها دليل واضح على عدم إمكان المفسرين إصابة حقيقتها ولنذكر أحدها مثالاً لباقيها وهو.
إن المراد «بعرض» المحبة أنها واسعة تمتد إلى كل الأمم المنتشرة على وجه الأرض. «بطولها» أنها تشمل الناس في كل العصور وتدوم إلى نهاية العالم. و «بعمقها» الإشارة إلى زيادة الشقاء والفساد اللذين تنشل المحبة الناس منها و «بعلّوها» أنها ترفع الناس إلى السماء ليتمتعوا بمجده ومحبته. ولا دليل على أن الرسول قصد ذلك أو ما يشبهه إنما عنى أن محبة المسيح في غاية العظمة فيصح أن يقال فيها ما قيل في معرفة الله في سفر أيوب وهو قوله «أَإِلَى عُمْقِ ٱللّٰهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ ٱلْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ، فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا تَدْرِي؟ أَطْوَلُ مِنَ ٱلأَرْضِ طُولُهُ وَأَعْرَضُ مِنَ ٱلْبَحْرِر» (أيوب ١١: ٧ - ٩).
١٩ «وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ».
يوحنا ١: ١٦ وص ١: ٢٣ وكولوسي ٢: ٩ و١٠
وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ أي تعرفوها بعض المعرفة وتعلموا أن الموضوع فوق علم الإنسان لكونه ليس بمحدود. ولا يقدر أن يعلمه أحد تمام العلم إلا الله. وكانت محبة المسيح لنا فائقة المعرفة لأنه الله وكل ما يتعلق بالله لا يستطيع البشر أن يدركوه إدراكاً تاماً مثل أبديته وأزليته وكونه في كل مكان. ولا نستطيع إدراكها لأننا لا نستطيع إدراك التنازل المتعلق بتلك المحبة ولا شدة آلام المسيح التي احتملها لكي يظهر محبته ولا عظمة البركات التي تنال بواسطتها. وعدم إمكاننا أن ندرك عظمة تلك المحبة لا يمنع أن نعرف أنها عجيبة مجانية خالصة متأنية دائمة وعدم استطاعتنا إدراك ذلك الآن يستلزم أن المؤمنين يتقدمون شيئاً فشيئاً في إدراك محبة المسيح على قدر ما يبديه المسيح من المظاهر الجديدة لتلك المحبة وعلى قدر زيادة اختبارهم إياها وزيادة اقتدارهم على معرفتها والشعور بها.
لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ أي لكي تبلغوا الكمال الإلهي كقوله في المسيح «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ» (كولوسي ١: ١٩). وقوله «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي ٢: ٩). وقوله «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٤).
إن الله كامل الحكمة والعلم المحبة وهذا الكمال هو معنى الملء فالمؤمنون يمتلئون بتلك الفضائل على قدر ما لهم من الإمكان وذلك نتيجة سكنى المسيح فيهم وما يدركونه من عظمة محبته. وهذا موافق لقول المسيح «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى ٥: ٤٨). وقول الرسول «إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ١٣) فالقياس الذي يجب على المؤمنين أن يجعلوه نصب عيونهم لكي يبلغوه هو الكمال التام وسيملكونه بنعمة الله لا دفعة بل تدرجاً لأنهم قد عينوا سابقاً «ليكونوا مشابهين صورة ابن الله» (رومية ٨: ٢٩). فيكونوا أناساً كاملين كما أن الله إله كامل أي أنهم متى سكن الله فيهم إلى الغاية أخذوا يفتكرون ويشعرون ويعملون كما يشاء الله منهم. ومن سكن المسيح قلبه بالإيمان لا يعوزه شيء لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة لأن المسيح «هو الكل في الكل» (كولوسي ٣: ١١). وله في المسيح القوة والإيمان والمحبة والحكمة والعلم والقداسة كقول الرسول «كُلَّ شَيْءٍ لَكُمْ... أَمِ ٱلْعَالَمُ، أَمِ ٱلْحَيَاةُ، أَمِ ٱلْمَوْتُ، أَمِ ٱلأََشْيَاءُ ٱلْحَاضِرَةُ، أَمِ ٱلْمُسْتَقْبَلَةُ. كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ، وَٱلْمَسِيحُ لِلّٰهِ» (١كورنثوس ٣: ٢١ - ٢٣). ومتى امتلأ المؤمن بكل ما يمكن المخلوق بلوغه من الملء بقي البون عظيماً بينه وبين الله وما أعظم الفرق بين ملء القدح وملء الأوقيانوس. والفرق بين كمال المخلوق وكمال الخالق أعظم جداً.
٢٠، ٢١ «٢٠ وَٱلْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ ٱلْقُوَّةِ ٱلَّتِي تَعْمَلُ فِينَا، ٢١ لَهُ ٱلْمَجْدُ فِي ٱلْكَنِيسَةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ».
رومية ١٦: ٢٥ ويهوذا ٢٤ و١كورنثوس ٢: ٩ ع ٧ وكولوسي ١٠: ٢٩ رومية ١١: ٣٦ و١٦: ٢٧ وعبرانيين ١٣: ٢١
ختم الرسول الجزء التعليمي من رسالته إلى الرومانيين بتمجيد حكمة الله الفائقة (رومية ١١: ٣٣ - ٣٦) وختم الجزء التعليمي من هذه الرسالة بتمجيد قوة الله ومحبته.
وقد بلغ الرسول بصلاته من أجل مؤمني أفسس أسمى ما يمكن أن يبلغه الإيمان أو الرجاء أو التصور لكنه ما اكتفى بما طلبه لهم لأنه علم أن الله يقدر أن يعلم أكثر مما يستطيع أن يطلبه أو يفتكر فيه بما لا يوصف فجعل قوة الله قياس الهبات التي أرادها لهم لا صلاته ولا تصورات قلبه وأظهر ذلك على طريق التسبيح.
وَٱلْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ... نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ ما اكتفى الرسول في هذه الآية بوصف الله بأنه قادر على كل شيء بل زاد على ذلك بيان أنه قادر على أن يفعل فوق كل شيء ثم ما اكتفى بهذا حتى قال أنه يفعل أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر. ولنا من ذلك أن وجود الله لا يقيد بطلباتنا أو بتصورنا ما نحتاج إليه أو ما يقدر هو أن يهبه. فإذاً لا حد لوفرة البركات التي يتوقعها من يسكن المسيح في قلوبهم فإنهم مواضيع محبته.
بِحَسَبِ ٱلْقُوَّةِ ٱلَّتِي تَعْمَلُ فِينَا إن القوة التي أظهرها الله لنا في الماضي والحاضر هي القوة التي لنا أن نتوقع إعلانه إياها لنا في المستقبل.
إن الله الآب قد أرسل الروح القدس ليعمل فينا فنعلم من ذلك أنه يفعل فوق كل ما نقدر أن نطلبه أو نتصوره.
لَهُ أي الله القدير ووله وحده.
ٱلْمَجْدُ أي ليتمجد الله. أو المعنى ليكن مجد الله معروفاً ومعترفاً به وهذا المجد هو نتيجة كل ما ذُكر من أعمال الله.
فِي ٱلْكَنِيسَةِ إن الكنيسة هي مشهد يُعرف فيه ذلك المجد ويُعلن وهي جماعة المؤمنين في السماء وعلى الأرض وفيها أظهر الله حكمته المتنوعة ونعمته غير المحدودة في القرون الماضية وسيظهرها في كل القرون الآتية وهي لا تزال تنسب له إلى الأبد المجد والإكرام والسلطة.
فِي ٱلْمَسِيحِ أي أن الكنيسة تمجد الله بواسطة المسيح رأسها ونائبها وهذا مناسب لكل فحوى هذه الرسالة باتحاد الكنيسة في المسيح.
إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ ٱلدُّهُورِ أي إلى الأبد. جمع الرسول في هذه الكلمات ما يستعمله الناس إشارة إلى أزمنة متوالية طويلة لكي يعبر بها عن الزمان الذي لا نهاية له أي الأبدية.
آمِينَ أي ليكن كذلك. وأظهر الرسول بهذا رغبته في أن يتم ما سأله ويدعو لكل قراء الرسالة أن يوافقوه على ذلك وسؤال الإجابة.


اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ


هذا الأصحاح بداءة القسم الثاني من هذه الرسالة وهو الجزء العملي منها حثّ فيه على الاتحاد (ع ١ - ١٦) وعلى القداسة وغيرها من الفضائل المسيحية (ع ١٧ - ٣٢).
حفظ الاتحاد الروحي ع ١ إلى ١٦


طلب الرسول من مؤمني أفسس أن يسلكوا كما يليق بدعوتهم المسيحية في التواضع والوداعة وطول الأناة والاجتهاد في حفظ وحدة الكنيسة الروحية وسلامها (ع ١ - ٣). وأبان أن الكنيسة واحدة لأنها جسد واحد ولها روح واحد ورجاء واحد ورب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة وإله وأب واحد على كل الأعضاء وبكلهم وفي كلهم (ع ٤ - ٦). وهذه الوحدة لا تمنع من تنوع المواهب التي يوزعها المسيح حسب مشيئته (ع ٧). واثبت كلامه ببعض أقوال المزامير (ع ٩ و١٠). وبيّن أنواع المواهب بأنواع أصحابها (ع ١١). وإن الغاية من إقامة خدم الكنيسة هي بنيانها وتكميلها (ع ١٢ - ١٦).
١ «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا ٱلأَسِيرَ فِي ٱلرَّبِّ، أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ ٱلَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا».
ص ٣: ١ وفليمون ١ و٩ فيلبي ١: ٢٧ وكولوسي ١: ١٠ و١تسالونيكي ٢: ١٢
فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ نظراً لعظمة البركات التي اشتراها المسيح وجعلكم أيها الأمم شركاء فيها.
أَنَا ٱلأَسِيرَ فِي ٱلرَّبِّ كان بولس أسيراً لكونه مسيحياً وكان «في الرب» أي متحداً به وموثقاً من أجله فلم يستثقل وُثقه لمحبته لربه ولتيقنه أن وثقه تؤدي إلى نجاح الإنجيل فبنى طلبه عليه على كونه أسيراً لا لتحريك شفقتهم عليه بل لحملهم على زيادة إصغاء إلى كلامه واعتبار لأهميته. ولعله أراد أن يبين لهم أنه راض بأسره ومسرور بأن أُعدّ أهلاً لأن يتألم من أجل المسيح.
أَنْ تَسْلُكُوا الخ إن الله دعاهم وهم أمم أصلاً إلى التبني (ص ١: ٥) وبذلك دعاهم إلى القداسة والشرف والاتحاد بالمسيح وإلى مشابهة صورة ابنه وأن يكونوا جزءاً من شعبه المقدس وآل بيته السماوي.
ولم يأمرهم الرسول أن يسلكوا بالاستقامة لكي يستحقوا أن يكونوا مدعوين بل أن يسلكوا بها لأنهم مدعوون وهم غير مستحقين والذي أوجب عليهم السيرة الطاهرة هو الشعور بعظمة البركات الناشئة عن محبة المسيح لهم والشكر له وبعظمة الشرف الذي أكرمهم الله وأنعم عليهم به فألزمهم ذلك كله أن يسلكوا كما يحق لدعوتهم الشريفة العظمى.
٢ «بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْمَحَبَّةِ».
أعمال ٢٠: ١٩ وغلاطية ٥: ٢٢ و٢٣ وكولوسي ٣: ١٢ و١٣
بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ هاتان الصفتان من الصفات التي يجب أن يمتاز السلوك المسيحي بها والتواضع مبني على الشعور بالخطيئة والعجز وعدم استحقاق المدح وعكسه الإعجاب بالنفس والكبرياء التي تحمل الإنسان على الرغبة في نيل المدح من الناس والارتقاء فيهم. وطعن الرسول في هذه الرذيلة بقوله «غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِٱلأُمُورِ ٱلْعَالِيَةِ» (رومية ١٢: ١٦). وبقوله «إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئاً، فَإِنَّهُ يَغِشُّ نَفْسَهُ» (غلاطية ٦: ٣). وقوله هنا كقوله في رسالة فيلبي «لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (فيلبي ٢: ٣ انظر أيضاً كولوسي ٢: ١٨ و٢٣ و٣: ١٢ و١٣). والوداعة تشبه التواضع وتبني عليه وكثيراً ما تقترن في ذكر الفضائل وهي تحمل المسيحي على احتمال ذنوب الناس وتعدياتهم بلا غيظ ولا تذمر. قال المسيح في نفسه «إِنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ» (متّى ١١: ٢٩). وذكر الرسول وداعة المسيح في (٢كورثوس ١٠: ١). ويمتاز الخروف عن سائر البهائم بوفرة وداعته وشُبّه المسيح قدّام قاتليه «بشاة أمام جازيها» (إشعياء ٥٣: ٧).
بِطُولِ أَنَاةٍ هذه الصفة الثالثة التي امتاز بها السلوك المسيحي وهي تحمل الإنسان على ضبط نفسه عن الغضب (٢كورنثوس ٦: ٦ وغلاطية ٣: ٢٢ وكولوسي ٣: ١٢) وأن يتمهل عن عقاب المذنبين ويعامل إخوته من البشر بالصبر (١تيموثاوس ١: ١٦ و٢تيموثاوس ٤: ٢).
مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْمَحَبَّةِ هذا تفسير لطول الأناة وظرف للفضائل الثلاث التواضع والوداعة وطول الأناة فمن في قلبه محبة لإخوته يقدر بواسطتها أن يقي نفسه من الغضب وطلب الانتقام في يوم التجربة. فمحبة الوالد لأولاده تحمله على أن يحتمل نقائصهم ومحبة المسيحي لإخوته تحمله على غض النظر عن عيوبهم وتقصيرهم في شأنه.
٣ «مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ ٱلرُّوحِ بِرِبَاطِ ٱلسَّلاَمِ».
كولوسي ٣: ١٤
مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ ٱلرُّوحِ أي الوحدانية التي ينشئها الروح القدس بسكناه قلوب المؤمنين وهذا عمله الخاص (في جسد المسيح الذي هو كنيسته) المنسوب إليه في الإنجيل. وقوله «مجتهدين أن تحفظوا الخ» يشير إلى عظمة المسؤولية وإلى الخطر من فقدها أو ضعفها. إنه ليس للمسيحي قدرة على إنشائها لأنها من مواهب الله لكنه يقدر أن يعرف قيمتها ويحفظها باجتهاد من كل ما يطبلها داخل الكنيسة أو خارجها.
بِرِبَاطِ ٱلسَّلاَمِ إن السلام هو الواسطة التي تحفظ بها في الكنيسة وحدانية الروح وهو ينتج من المحبة والتواضع وطول الأناة واحتمال كلٍ غيره. وهو ضروري لحياة الكنيسة ونموها وثمر الروح وعلامة حضوره. فالبغض والكبرياء والخصام بين أعضاء الكنيسة تحمل الروح القدس على أن يفارقهم كما أن السلام والمحبة تدعوانه إلى أن يبقى فيها. قال المسيح «طوبى لصانعي السلام» (متّى ٥: ٩). وقال الرسول «فَلْنَعْكُفْ إِذاً عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ» (رومية ١٤: ١٩).
إن كون كنيسة المسيح مؤلفة من مختلفي البلاد والعوائد والأسماء والطوائف يستلزم حضور الروح القدس فيها واجتهاد محبي السلام فيها لكي تكون في وفاق واتحاد وتُحفظ كذلك. واجتهد بولس في كل رسائله أن يقود مؤمني اليهود والأمم إلى أن يحتمل بعضهم بعضاً وأن يسحب الفريقان أنفسهما أنهما واحد في المسيح.
٤ «جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ ٱلْوَاحِدِ».
رومية ١٢: ٥ و١كورنثوس ١٢: ١٢ و١٣ وص ٢: ١٦ و١كورنثوس ١٢: ٤ و١١ ص ١: ١٨
بعد أن حث الرسول الأفسسيين على حفظ وحدانية الروح أبان لهم ما تتوقف عليه تلك الوحدانية وهو سبعة أمور «جسد واحد وروح واحد ورجاء دعوة واحد ورب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة وإله وأب واحد». وهذه المبادئ السبعة الإلهية هي التي نظمت الكنيسة المسيحية بموجبها.
جَسَدٌ وَاحِدٌ هذا إخبار بما وقع لا أمر بما يجب أن يكون والمعنى أن المؤمنين كلهم جسد المسيح الواحد لأن كلهم «في المسيح» وكلهم أعضاؤه لا أجساد كثيرة بل جسد واحد بدليل قوله «نَحْنُ ٱلْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضاً لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ» (رومية ١٢: ٥ انظر أيضاً ١كورنثوس ١٠: ١٧ و١٢: ٢٧). وقد سبق في هذه الرسالة أن الكنيسة هي جسد المسيح (ص ١: ٢٣).
إن كل المؤمنين الحقيقيين هم أعضاء هذا الجسد الواحد لكنهم ليسوا مجموعين في نظام واحد منظور فيتضح من ذلك أن الجسد الذي ذكره بولس هنا ليس بكنيسة من الكنائس المعروفة المسماة باسم خاص على الأرض بل هو الكنسية غير المنظورة المؤلفة من كل المفديين في الأرض والسماء فهي الجسد الروحي الذي المسيح رأسه. ويتضح أيضاً أن نسبة بعض المؤمنين إلى بعض كنيسة بعض الأعضاء في جسد واحد إلى بعض.
رُوحٌ وَاحِدٌ في الجسد الكثير الأعضاء روح واحد وهي النفس الناطقة مركز الحياة كذلك في جسد المسيح الروح القدس هو الذي ينشئ الحياة والقوة للجسد كله ويسكن كل الأعضاء بدليل قوله «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً ٱعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً» (١كورنثوس ١٢: ١٣). وقوله «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ، وَرُوحُ ٱللّٰهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ» (١كورنثوس ٣: ١٦ انظر أيضاً ١كورنثوس ٦: ١٩ ورومية ٨: ٩ و١١). وكون جميع المؤمنين أعضاء جسد المسيح وكون الروح القدس فيهم وكونه علة حياتهم تستلزم أن يجتهدوا في حفظ وحدانية الروح وأن يحب كل منهم الآخر محبة أخوية وأن يرتبطوا جميعاً برباط السلام.
كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ ٱلْوَاحِدِ هذا هو الرباط الثالث من ربط الوحدانية فإنهم حين دُعوا ليكونوا مؤمنين كان أمامهم نفس الرجاء الذي وُضع أمام غيرهم من المؤمنين لأن لكلهم عين المواعيد التي بنوا عليها آمالهم. كان لهم رجاء واحد لأن تُغفر خطاياهم بدم المسيح وأن يكتسوا بثوب بر المسيح وأن يُحفظوا بقوة المسيح وإنهم كلهم متوقعون نيل الميراث العظيم في السماء الذي اشتراه المسيح لهم. فوحدة رجاء المؤمنين دليل على أنهم جسد واحد.
وقال «رجاء دعوتكم» لتعلقه بالدعوة طبعاً لأنه حين دعاهم الروح القدس الدعوة الباطنة الفعالة أنشأ فيهم هذا الرجاء. دعاهم ليكونوا شركاء ميراث القديسين في النور فرجوا طبعاً نيل ما دُعوا إليه. دُعوا إلى المصالحة مع الله والتمتع برضاه فانتظروا طبعاً الخلاص المستلزم من ذلك. وما حصلوا عليه من نتائج الدعوة الآن ينهض فيهم الرجاء في المستقبل على وفق قوله في ختم الروح «عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ ٱلْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ» (ص ١: ١٤). وقوله «ٱلَّذِي خَتَمَنَا أَيْضاً، وَأَعْطَى عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا» (٢كورنثوس ١: ٢٢). وما حصلوا عليه من مواهب الروح جعلهم يشتهون مواهب أخرى أعظم منها تنشئ الرجاء فيهم.
٥ «رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ».
١كورنثوس ١: ١٣ و٨: ٦ و١٢: ٥ و٢كورنثوس ١١: ٤ ع ١٣ ويهوذا ٣ غلاطية ٣: ٢٧ و٢٨ وعبرانيين ٦: ٢
ذكر في هذه الآية ثلاثة أشياء تستلزم أن تكون الكنيسة جسداً واحداً بروح واحد الأول خارج عنها والثاني داخلها والثالث بعضه خارج وبعضه داخل.
رَبٌّ وَاحِدٌ الذي هو رأس الكنيسة. إن لكل رب ملكاً وسلطة والمسيح رب في الأمرين. فنحن لسنا لأنفسنا فيجب أن نمجده بأرواحنا وأجسادنا التي هي له (١كورنثوس ٦: ٢٠). ويجب أن تخضع عقولنا لتعليمه وضمائرنا لأوامره وتكون قلوبنا وأعمالنا موافقة لإرادته والعبودية للمسيح لا تبطل حريتنا لأنها عبودبة للحق والقداسة اللذين يكون بهما خيرنا وصلاحنا وسعادتنا. إن يسوع ربنا لأنه إلهنا ولأنه فادينا وقد فدانا بدمه الكريم (١بطرس ١: ٢ انظر أيضاً ١كورنثوس ٦: ٢٠). فقد قال الكتاب «لِهٰذَا مَاتَ ٱلْمَسِيحُ وَقَامَ وَعَاشَ، لِكَيْ يَسُودَ عَلَى ٱلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ» (رومية ١٤: ٩).
وكوننا عبيد المسيح يستلزم أن نكون مرتبطين معاً برباط واحد مع جميع عبيده ولا سيما لأن الرباط بيننا وبين المسيح قلبي لا خارجي فقط فمحبي سيد واحد لا يمكنهم إلا أن يحب بعضهم بعضاً.
إِيمَانٌ وَاحِدٌ موضوعه الرب الواحد وهذا هو الرباط الخامس من ربط الوحدانية. وكثيراً ما جاء الإيمان في الإنجيل بمعنى موضوعه أي المؤمن به ومن ذلك قوله «كَانُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ ٱلَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلاً، يُبَشِّرُ ٱلآنَ بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي كَانَ قَبْلاً يُتْلِفُهُ» (غلاطية ١: ٢٣). وقوله كان «جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ ٱلإِيمَانَ» (أعمال ٦: ٧). وقوله «أَنْ تَجْتَهِدُوا لأَجْلِ ٱلإِيمَانِ ٱلْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ» (يهوذا ٣).
إنه يصدق على من يقرون إقراراً واحداً في الدين أنهم أهل إيمان واحد ولكن المؤمنين الحقيقيين لا يقتصرون على الاعتراف الشفاهي بالإيمان الواحد بل يعتقدون قلبياً كل ما هو جوهري للتقوى وللخلاص. إن كون وحدة الإيمان في الكنيسة تامة يستلزم أن يكون لجميع الأعضاء معرفة تامة وقداسة تامة والكنيسة تتقدم دائماً إلى نحو هذا الغرض وتدركه في السماء فما اتفقت عليه الآن الكنيسة الحقيقية هو أن الكتاب المقدس كلمة الله وقانون الإيمان والسيرة وأن يسوع المسيح هو ابن الله وأنه موضوع المحبة والعبادة ووجوب الاتكال على موته لأجل الفداء وعلى روحه لأجل التقديس.
مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ بها يدخل المؤمنون في العهد مع المسيح وبعضهم مع بعض ولا إشارة هنا إلى طريق استعمال الرسم الخارجي مثل كونه تغطيساً أو رشاً أو سكباً أو كونه للبالغين أو للأطفال فالمراد أن كل المعتمدين بالمعمودية المسيحية وقفوا أنفسهم للإله الواحد واعترفوا اعترافاً واحداً وتعاهدوا تعاهداً واحداً لربهم وفاديهم وعلى ذلك قال الرسول «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية ٣: ٢٧ و٢٨).
٦ «إِلٰهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، ٱلَّذِي عَلَى ٱلْكُلِّ وَبِٱلْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ».
ملاخي ٢: ١٠ و١كورنثوس ٨: ٦ و١٢: ٦ رومية ١١: ٣٦.
إِلٰهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ إنه كذلك لجميع الناس باعتبار كونه خالقهم وحافظهم ولكنه للكنيسة حق خاص بأن تدعو الله إلهها وأباها لأنه ليس لها إله بعيد بل قريب يُظهر كل صفاته لها ويعتني بها بمحبة الوالد لولده.
لا ذكر في هذه العبارة للثالوث على وجه التصريح لكننا نرى الكلام موافقاً له لأنه ذُكر فيها روح واحد ورب واحد وآب واحد ووحدة الكنيسة مبنية على اعتقاد أن لنا أباً واحداً ورباً واحداً وروحاً واحداً. وحياة الكنيسة الروحية ناشئة عن حياة الله في قلوب أعضائها إن حياة المسيح والمؤمنين به واحدة وحياة المسيح وحياة الله واحدة فإذاً وحدة الكنيسة قائمة لا باتحادها بالمسيح فقط بل بالله المثلث الأقانيم فجاء في الكتاب «الروح يسكن في المؤمنين والمسيح يسكن فيهم» وهذا على وفق قول المسيح «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا ١٧: ٢١).
ٱلَّذِي عَلَى ٱلْكُلِّ وَبِٱلْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ كلام الرسول هنا مقصور على نسبة الله إلى الكنيسة فلم يشر إلى سياسته للعالم وعنايته بالبشر عموماً. إن الله الآب هو على كل المؤمنين لأنه ملكهم ومرشدهم وحاميهم «وبالكل» لأن الكنيسة هيكله الذي يسكن فيه «وفي الكل» لأنه حاضر في كل أجزاء الكنيسة وفاعل في كلها بروحه. فكما أن حياة الإنسان في جسده كله وهي مؤثرة في كل أجزائه كذلك الحياة التي أنشأها المسيح في الكنيسة تبلغ كل عضو منها. وأعظم ما يطلب للكنيسة هو أن تمتلئ بالله كما امتلأ هيكل أورشليم بمجده يوم «تدشينه» (٢أيام ٧: ١ و٢). ولأن حضور روحه فيها هو مجدها ومؤكد دوامها وكمالها وسعادتها. والغاية التي قصدها الرسول من ذلك واضحة وهي وجوب أن يكون كل المؤمنين واحداً لأن الإله الذي يسكن في قلوب الكل ويعمل في الكل هو واحد.
٧ «وَلٰكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ ٱلنِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١٢: ٣ و٦ و١كورنثوس ١٢: ١١
هذه الآية تبيّن أن وحدة الكنيسة وتساوي أعضائها لا يمنعان من أن تكون المواهب التي أُعطيتها متنوعة وقد ذكر ذلك بالتفصيل في الأصحاح الأول من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس فأبان أنه كما أن الإنسان جسد واحد وله أعضاء كثيرة مختلفة في الهيئة والرتبة والعمل وأن الله عيّن لكل عضو موضعاً وعملاً كذلك الكنيسة الكثيرة الأعضاء فإن المسيح عيّن فيها موضعاً لكل عضو ومقامه ومواهبه وأعماله.
لٰكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ أي لكل عضو على حدته. هذا مع ما نُسب إلى الجميع من الوحدة فلا أحد من الأعضاء يُترك في توزيع المواهب وكل مكلف باستعمال موهبته لنفع الجميع.
أُعْطِيَتِ ٱلنِّعْمَةُ أي الموهبة الروحية الإلهية الفعالة المجانية وهي مع كونها واحدة في حقيقتها متنوعة في صورها حسب ما وُكل إلى كل مؤمن من العمل. وهذه النعمة جعلت البعض رسلاً والبعض أنبياء مبشرين.
حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ ٱلْمَسِيحِ التي استحسن أن يهبها لكل مؤمن. إن المعطي هو الرب يسوع المسيح وهو الله مصدر الحياة والقوة في الكنيسة وخدمها تلك النعمة منذ يوم صعوده (ع ٨). وقياس هبته ليس استحقاقهم ولا قابليتهم ولا شدة طلبهم بل مجرد مسرته فجعل بولس رسولاً مع أنه كان «مجدفاً ومسيئاً». فتوزيع المواهب الذي نُسب إلى المسيح هنا نُسب إلى الروح القدس في (١كورنثوس ١٢: ١١) ولكن لا تناقض في ذلك لأن المسيح والروح القدس أقنومان في لاهوت واحد فما يُنسب إلى أحدهما يُنسب إلى الآخر. ولنا من هذه الآية أنه يجب على كل مؤمن أن يقتنع بالخدمة التي عُيّن لها ولا يحسد من فوقه أو يحتقر من دونه. ويستلزم ذلك وجوب المواساة للذين هم أعضاء في الجسد الواحد بمقتضى القانون الذي هو «إِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلأََعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلأََعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ» (١كورنثوس ١٢: ٢٦)
٨ «لِذٰلِكَ يَقُولُ: إِذْ صَعِدَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى ٱلنَّاسَ عَطَايَا».
مزمور ٦٨: ١٨ قضاة ٥: ١٢ وكولوسي ٢: ١٥
ما قاله الرسول في الآية السابعة من أن الرب يسوع المسيح هو مصدر الحياة والقوة للكنيسة وموزع المواهب عليها برهن في هذه الآية على أنه موافق لما أُعلن في كتاب الله. واقتبس من المزامير ما يثبت أن المسيح كظافر راجع من الحرب بغنائم كثيرة يوزع الهدايا على الناس.
لِذٰلِكَ يَقُولُ الكتاب أو الله المتكلم فيه. والمقول هنا مقتبس من المزمور الثامن والستين فاتخذه الرسول نبوءة بانتصار المسيح عند صعوده مع أنه قيل أولاً في الإتيان بالتابوت إلى جبل صهيون بعد محاربة شعب الله لأعدائه وحق له ذلك لأن كل الأمجاد التي كانت متعلقة بالتابوت واحتفالاته وانتصارات داود وسليمان الجزئية لم تكن سوى رموز ونبوءات بانتصارات ابن الله في عمل الفداء المجيد.
فما نسبه بولس إلى المسيح نُسب في المزمور إلى الله وهذا موافق لما مرّ من أن كثيرين من الأعمال المنسوبة إلى يهوه في العهد القديم نُسبت إلى المسيح في الإنجيل ومن ذلك قول موسى إن يهوه قاد شعبه في البرية (خروج ١٣: ٢١) وجاء في الإنجيل أن المسيح قاد ذلك الشعب (١كورنثوس ١٠: ٤). وقال إشعياء أن مجد يهوه ظهر له في الهيكل (إشعياء ٦: ١) وقال يوحنا البشير إن الذي رآه إشعياء هو مجد المسيح (يوحنا ١٢: ٤١). وما قيل في العهد القديم على لسان يهوه وهو قوله «بِذَاتِي أَقْسَمْتُ. خَرَجَ مِنْ فَمِي ٱلصِّدْقُ كَلِمَةٌ لاَ تَرْجِعُ: إِنَّهُ لِي تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ. يَحْلِفُ كُلُّ لِسَانٍ» (إشعياء ٤٥: ٢٣) قاله بولس في المسيح إذ اتخذه برهاناً على أننا نقف أمام عرشه فقال «إِنَّنَا جَمِيعاً سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: َنَا حَيٌّ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، إِنَّهُ لِي سَتَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، وَكُلُّ لِسَانٍ سَيَحْمَدُ ٱللّٰهَ» (رومية ١٤: ١٠ و١١). وما قيل في الله باعتبار كونه خالقاً غير متغير في (مزمور ١٠٢: ٢٥) قيل في المسيح في (عبرانيين ١: ١٠). وبمقتضى ذلك إرشاد الروح القدس ما قيل في المزمور الثامن والستين في شأن يهوه صاعداً في صهيون نُسب هنا إلى المسيح صاعداً إلى السماء.
صَعِدَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ ما جاء في المزمور في صيغة الخطاب إذ قيل «صعدت الخ» جاء هنا في صيغة الماضي فإن الإشارة في الأصل إلى صعود شعب الله منتصراً إلى جبل صهيون بقيادة ملكهم يهوه الحاضر معهم غير منظور وهي هنا إلى المسيح صاعداً إلى السماء.
سَبَى سَبْياً المشار إليه بهذا أصلاً الأسرى في الحرب حقيقة والمشار إليه هنا انتصار المسيح على الموت وعلى الذي له سلطان الموت أي الشيطان (عبرانيين ٢: ١٤ و١٥). وما أراده الرسول بقوله في المسيح «إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ» (كولوسي ٢: ١٥). وما أراده المسيح بقوله «إِنْ كُنْتُ بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. حِينَمَا يَحْفَظُ ٱلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً، تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ ٱلْكَامِلَ ٱلَّذِي ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ» (لوقا ١١: ٢٠ - ٢٢). فيكون أسرى المسيح الذين سباهم أعداءه الذين هو يسحقهم كالشيطان والخطيئة والموت أو الذين كانوا أعداءه من البشر فخطفهم من قوة الشيطان وفداهم بنعمته وجعلهم شعبه إتماماً لقول النبوءة «شَعْبُكَ مُنْتَدَبٌ فِي يَوْمِ قُوَّتِكَ» (مزمور ١١٠: ٣).
وَأَعْطَى ٱلنَّاسَ عَطَايَا وفي الأصل العبراني «قبلت عطايا بين الناس» فسعى المفسرون بطرق كثيرة في أن يجدوا الموافقة بين القولين وأحسن ما قالوه أن المرنم ذكر الأمر الواقع وهو أخذ العطايا وأن الرسول ذكر غاية ذلك الأخذ وهو أن يعطي الناس. إن الملك الظافر يوزع الغنائم التي يأخذها فيأخذ حتى يعطي فلاحظ بولس قصد المسيح المنتصر من أخذ الغنائم فذكره بدلاً من الأخذ والمعنى واحد فالمسيح هو الغالب والآخذ الغنائم الكثيرة والقادر أن يُغني جنوده.
٩، ١٠ «٩ وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضاً أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ ٱلأَرْضِ ٱلسُّفْلَى. ١٠ اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ ٱلَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ ٱلسَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلَأَ ٱلْكُلَّ».
يوحنا ٣: ١٣ و٦: ٣٣ و٦٢ أعمال ١: ٩ و١١ و١تيموثاوس ٣: ١٦ وعبرانيين ٤: ١٤ و٧: ٢٦ و٨: ١ و٩: ٢٤ أعمال ٢: ٢٣
غاية الرسول من هاتين الآيتين أن يبرهن أن ما اقتبسه من المزمور يصدق على المسيح والبرهان أن صعود الله المذكور مع كونه واهب العطايا الروحية يستلزم أنه نزل قبلاً وأن الصعود المذكور ليس سوى رجوع من كان وطنه السماء إليها. وهذا على وفق قول المسيح في نفسه «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يوحنا ٣: ١٣) صرّح بولس هنا أن الذي نزل هو يسوع ابن الله وينتج من ذلك أنه هو الذي صعد. نعم إنه ذُكر في التوراة مراراً نزول الله وصعوده وانتصاراته لكن لم يتم في شيء من ذلك ما قُصد بما في المزمور الثامن والستين ولا في غيره من مرار صعوده ونزوله وانتصاره على أعدائه لأن تلك كلها لم تكن إلا رموزاً إلى ما سيفعله المسيح. وما قيل في ذلك على نزول الله كان رمزاً إلى مجيء المسيح إلى الأرض متجسداً. وما ذُكر فيه من أمر الصعود كان رمزاً إلى قيامته من القبر وصعوده إلى السماء.
ًوَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضا أي إن القول الأول يستلزم الثاني أي أن صعوده يستلزم سبق نزوله إياه.
إِلَى أَقْسَامِ ٱلأَرْضِ ٱلسُّفْلَى قد يقصد بهذا الأرض نفسها بالنظر إلى السماء ومن ذلك قول النبي «تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ فَعَلَ. اِهْتِفِي يَا أَسَافِلَ ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٤٤: ٢٣). وقد يُراد به القبر في (مزمور ٦٣: ٩). وقد يستعار في الشعر العبراني للرحم (مزمور ١٣٩: ١٥) وقد يرُاد به دار الأموات في (حزقيال ٣٢: ٢٤) والقرينة تدل على أن المُراد به في هذه الآية المعنى الأول فيكون المعنى أن الذي صعد إلى السماء هو الذي نزل إلى الأرض ليلبس طبيعتنا البشرية.
اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ ٱلَّذِي صَعِدَ أي أن الذي نزل إلى الأرض وأخذ طبيعتنا هو الذي صعد لا سواه.
فَوْقَ جَمِيعِ ٱلسَّمَاوَاتِ أي أعلى ما يمكن من الارتفاع. وكثيراً ما عبّر العهد القديم عن السماء بصيغة الجمع فجرى بعض كتبة العهد الجديد مجراهم فذكر بولس السماء الثالثة (٢كورنثوس ١٢: ٢) إذ اعتبر الجو سماء واحدة وسماء الكواكب سماء ثانية ومسكن الله سماء ثالثة.
ومعنى العبارة أن المسيح فوق كل البرايا المنظورة وغير المنظورة «سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين» فهذه كلها خضعت للمسيح حين قام.
لِكَيْ يَمْلَأَ ٱلْكُلَّ أي ليملأ المسيح السماء والأرض بحضوره وآيات قدرته وعمل روحه ويسود على الكل بحكمته وعنايته. وهذا موافق لقوله «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأََرْضِ» (متّى ٢٨: ١٨ انظر أيضاً فيلبي ٢: ٩ و١٠ ورؤيا ٥: ١٣).
وليس المقصود إن جسد المسيح المتجسد يوجد في كل مكان كما زعم بعضهم بل الذي يوجد كذلك هو ابن الله الذي صعد إلى السماء وقد تسربل طبيعتنا فهو حاضر في كل مكان بلاهوته وفي المكان الذي يشاءه بناسوته.
١١ «وَهُوَ أَعْطَى ٱلْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَٱلْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَٱلْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَٱلْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ».
١كورنثوس ١٢: ٢٨ وص ٢: ٢٠ أعمال ٢١: ٨ و٢تيموثاوس ٤: ٥ أعمال ٢٠: ٢٨ رومية ١٢: ٧
أفضل المواهب التي وهبها المسيح بعد صعوده للكنيسة هي الخدم الأمناء فهم هبة إلهية كالمواهب التي أعطوها وهم مختلفون بالمقامات والأعمال وكل ذلك ضروري لوحدة الكنيسة وبنيانها وامتدادها.
رُسُلاً هم الذين أرسلهم المسيح وكانوا شهود عين بسيرته ومعجزاته وقيامته وكانوا معصومين في تعليمهم وسياستهم للكنيسة بناء على ما كان لهم من الوحي والسلطان الذي أعطاهم إياه المسيح (انظر تفسير ١كورنثوس ١٢: ٢٨).
أَنْبِيَاءَ هم الذين كلم الله الناس بهم سواء كان كلامهم تعليماً أو تحذيراً أو إنباء بما في المستقبل فكل من تكلم بالوحي نبي. والفرق بين أنبياء العهد الجديد والرسل أن إلهام الأنبياء كان وقتياً وإلهام الرسل كان دائماً وأن سلطة الأنبياء في التعليم كان دون سلطة الرسل (انظر ١كورنثوس ص ١٤ وتفسير ١كورنثوس ١٢: ٢١). ومن الواضح أن إعطاء المسيح الكنيسة الرسل والأنبياء وإعطاءه إياهم سلطاناً على تعليم الكنيسة وسياستها يستلزمان إعطاءه إياهم المواهب الباطنة الضرورية لتكميل عملهم السامي ذي الشأن.
مُبَشِّرِينَ هم المرسلون للمناداة بالإنجيل حيث يجهله الناس فيجولون بالبشرى من مكان إلى آخر ومنهم فيلبس (أعمال ٢١: ٨) وتيموثاوس في أول خدمته للكنيسة (٢تيموثاوس ٤: ٥) وغلب أن يكون المبشرون مساعدين للرسل على أعمالهم.
رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ الأرجح أن الرعاة المعلمون أيضاً فليس بصنفين مختلفين والفرق بينهم وبين المبشرين أنهم مخصصون لخدمة كنائس معينة فكانوا يبشرون الذين يعرفون الإنجيل ويقيمون بالمواضع التي فيها كنائسهم ولا يجولون كالمبشرين. وسموا «رعاة» لأنهم أشبهوا رعاة الغنم بإرشاد جماعاتهم وعنايتهم بهم وإقالتهم بالأسرار. وسموا «معلمين» لتعليمهم الناس الإنجيل.
١٢ «لأَجْلِ تَكْمِيلِ ٱلْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ ٱلْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ١٢: ٧ و١كورنثوس ١٤: ٢٦ وص ١: ٢٣ وكولوسي ١: ٢٤
بعدما ذكر الرسول الذين عينهم المسيح لخدمة الكنيسة ذكر غاية تعيينهم وهي ثلاثة أمور ويعسر علينا أن نحكم بأنه هل كان كل من هذه الأمور موضوعاً خاصاً أو هل كان كلها موضوعاً واحداً عبر عنه بالثلاثة ولكن بمقابلة هذه الآية بالتي بعدها يتضح أن أولها في الذكر هو تكميل القديسين هو الغاية العظمى وأن تعيين خدم الكنيسة للبنيان هو الواسطة إلى تلك الغاية.
لأَجْلِ تَكْمِيلِ ٱلْقِدِّيسِينَ أي ليدرك أعضاء الكنيسة كل ما يحتاجون إليه ليكونوا كاملي المعرفة والقداسة والمحبة وهم كانوا كاملي التبرير حين آمنوا بدليل قوله «وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ» (كولوسي ٢: ١٠) وقوله «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (عبرانيين ١٠: ١٤) ولكنهم كانوا بالنظر إلى معرفتهم ومحبتهم وإرادتهم وسلوكهم ناقصين وفيهم شكوى ومخاوف كثيرة فاحتاجوا إلى خدمة الرعاة وإلى مثل صلاة الرسول «لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِٱلْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ» (ص ٣: ١٦).
لِعَمَلِ ٱلْخِدْمَةِ أي أن الله عيّن من ذُكروا من الرسل والأنبياء وغيرهم لأجل تكميل القديسين. ولما كانت حاجات شعب الله مختلفة وكنوز الحكمة والنعمة في الإنجيل متنوعة أعطاهم مواهب مختلفة للقيام بتلك الحاجات وإعلان ما في تلك الكنوز.
لِبُنْيَانِ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ أي أن الله عيّن خدمه في الكنيسة بغية نموها وتقويتها لكي يكمل بواسطتهم القديسين. وخلاصة هذه الآية أن المسيح عيّن لتكميل آله أولئك الخدم ليخدموهم وتنجح الكنيسة التي هم من أعضائها. فطلب بنيان الكنيسة بدون الخدم الذين عينهم الله لها عبث وكذا توقع تكميل أفراد المؤمنين بدون الكنيسة وخدمها.
ولنا من ذلك أن نجاح الكنيسة غير متوقف على كثرة عدد أعضائها ولا على عظمة هياكلها التي هي معابد أعضائها ولا على الأموال التي في خزانتها ولا على بهاء احتفالاتها بل على قداسة أفراد أعضائها ومعرفتهم ونفعهم لغيرهم ومماثلتهم للمسيح.
١٣ «إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ».
كولوسي ٢: ٢ و١كورنثوس ١٤: ٢٠ وكولوسي ١: ٢٨ متّى ٦: ٢٧
في هذه الآية جواب سؤال هو إلى متى تبقى الكنيسة مع خدَمها لكي يبنوها ويتعبوا في تقديس رعيتها. ونتعلم من الجواب أن الكنيسة المسيحية ليست نظاماً وقتياً فهي تبقى حتى تبلغ غاية عبّر عنها الرسول بثلاثة أمور ليس لها سوى معنىً واحد جوهري أولها وحدة الإيمان والمعرفة وثانيها الإنسان الكامل وثالثها قياس قامة ملء المسيح.
إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا أي كل شعب المسيح قديسيه وأعضاء جسده (ع ١٢) وقال «جميعنا» لأنه واحد منهم فلم يحسب أنه بلغ الكمال (فيلبي ٣: ١٢).
وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ إن المسيح موضوع كل من الإيمان والمعرفة فيجب على أعضاء الكنيسة لكي يدركوا هذه الوحدانية أن يكونوا كاملي المعرفة والقداسة.
إن المعرفة والإيمان في الإنجيل قد يفيدان معنى واحداً وقد يكون معنى خاص فيمكن أن نحصل على المعرفة بدون الإيمان ولكن لا يمكننا أن نحصل على الإيمان بدون المعرفة بدليل قول الرسول «كَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ» (رومية ١٠: ١٤) فإننا بمعرفتنا المسيح ندرك أنه ذو طبيعة إلهية وأنه نبي وكاهن وملك وأنه مات عن البشر وقام وجلس عن يمين المجد في السماء. وبالإيمان نتمسك به باعتبار أنه مخلصنا وقد فدانا بدمه ونتكل عليه ونحبه ونعبده.
جاء في الآية الخامسة أن للمؤمنين «إيماناً واحداً» وقيل هنا أنهم سينتهون إلى وحدانية الإيمان فعجب بعضهم من أن الكنيسة لا تبلغ من غايتها إلا ما كان لها في بداءتها. فالكنيسة مع أن لها إيماناً واحداً في الجوهريات ليست متحدة بالإيمان في كل عقائدها فهي مع أنها جسد واحد لم تنل ما طلبه لها المسيح من الوحدانية بقوله «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا ١٧: ٢١). فالمؤمنون على درجات مختلفة من المعرفة في الأمور الإلهية فاخلتف إيمانهم باختلاف معرفتهم فلا يمكنهم أن يبلغوا إلى وحدانية الإيمان حتى يعرفوا موضوع إيمانهم المسيح وإنجيله تمام المعرفة ويخلصوا به.
ٱبْنِ ٱللّٰهِ عبّر عن المسيح هنا بابن الله باعتبار كونه كذلك موضوع إيمان المؤمنين ومعرفتهم. وفي ذلك تصريح بأن طبيعته هي طبيعة الآب وصفاته صفاته وإكرامه إكرامه. فالذين لا يعرفون أن المسيح ابن الله لا يمكنهم أن ينالوا الحياة الأبدية بواسطته لأنه بدون معرفة أنه إله لا يمكنهم أن يتكلوا عليه أن يفديهم من الخطيئة والموت والدينونة ويرفعهم إلى القداسة والسعادة والسماء.
إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ أي أن يبلغوا الكمال الذي دعاهم الله إلى بلوغه وقصد أن ينالوه وهو الامتثال لأوامر الله في كتابه. والكاملون هم الذين في قوله «َكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (عبرانيين ١٢: ٢٣). إن المؤمنين في أول أمرهم أطفال في المسيح فقال الرسول «إن الله عيّن البعض رعاة ومعلمين الخ» لكي يصير الأطفال بخدمتهم أناساً كاملين في المعرفة والحكمة والثبات والغيرة للمسيح (١كورنثوس ١٢: ٢٨).
إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ هذا تفسير للإنسان الكامل أفراداً وللكنيسة إجمالاً وهو ما يجب على كل مؤمن في الكنيسة أن يناله وهو البلوغ في الحياة الروحية. وقياس هذا البلوغ هو ملء المسيح والمعنى البلوغ إلى صلاح كصلاح المسيح أو الصلاح الذي هو يمنحه. وهذا يشبه قوله قبلاً «لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ» (ص ٣: ١٩). والمطلوب من ذلك التمثل بالمسيح في كل شيء حتى نكون كاملين كما أنه هو كامل. ومتى سكن المسيح في قلب المؤمن بالإيمان وصار المؤمن كامل المعرفة بالمسيح والإيمان به فحينئذ يمتلئ بملء المسيح وهو الغاية المقصودة؟ فإن قيل متى يتم ذلك قلنا جواب الإنجيل حين نبلغ السماء. فعلينا أن نطلب الكمال في كل يوم وساعة نسعى في سبيله. فالوعد في الكتاب أن المسيح في مجيئه الثاني «يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (ص ٥: ٢٧). ومثل ذلك قوله «مَتَى جَاءَ لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (٢تسالونيكي ١: ١٠).
١٤ «كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ ٱلنَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ ٱلضَّلاَلِ».
إشعياء ٢٨: ٩ و١كورنثوس ١٤: ٢٠ عبرانيين ١٣: ٩ متّى ١١: ٧ رومية ١٦: ١٨ و٢كورنثوس ٢: ١٧
هذه الآية متعلقة بالآية الرابعة عشرة لبيان غاية خدم الدين. وما قيل في هذا الموضوع في الآية الثالثة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة على طريق الإيجاب قيل هنا على طريق السلب.
كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً إن الأطفال سريعو التقلب والانخداع وقد شُبه المؤمنون بالأطفال في عدة مواضع في الكتاب (متّى ١٢: ٢٥ ولوقا ١٠: ٢١ و١كورنثوس ٣: ١ وعبرانيين ٥: ١٣).
مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ شبههم بالأطفال بياناً لتقلبهم ولهذا شبههم بسفينة لا ربان لها ولا خيزرانة تلعب بها الأمواج وتقلبها وتحملها الرياح تارة إلى هنا وتارة إلى هناك. وهذا كقوله «لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَوِّعَةٍ وَغَرِيبَةٍ» (عبرانيين ١٣: ٩) وقول يعقوب الرسول «لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ ٱلْبَتَّةَ، لأَنَّ ٱلْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ ٱلْبَحْرِ تَخْبِطُهُ ٱلرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ» (يعقوب ١: ٦).
بِحِيلَةِ ٱلنَّاسِ إن الأطفال عرضة للانخداع باحتيال الماكرين. والحيلة هنا في الأصل من احتيال لاعب النرد ليأتي الكعب بالعدد الذي يريده وقصده بذلك الاحتيال على الناس لسلب ما لهم فالمعلمون الكاذبون يستعملون الأدلة السفسطية ليخدعوا المؤمنين الذين هم كالأطفال في البساطة فيضلوا عن طريق الحق.
بِمَكْرٍ أي احتيال المعلمين الكاذبين لغاية خبيثة ضارة مهلكة. ونُسب المكر إلى الشيطان في (ص ٦: ١١). وأصل المكر إبليس عدو الحق والله والناس ومعلم كل الضالين والماكرين وقد حذر بولس مشائخ أفسس من مثل هؤلاء بقوله «لأَنِّي أَعْلَمُ هٰذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذَهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى ٱلرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ» (أعمال ٢٠: ٢٩ و٣٠) وحذر الكورنثيين من مثله (٢كورنثوس ١١: ٣).
إِلَى مَكِيدَةِ ٱلضَّلاَلِ قال هذا بياناً وتقريراً لخداع المعلمين المفسدين فهم كالوحوش الضارية لكن فرائسهم ليست سوى نفوس الناس (رؤيا ١٨: ١٣). فالذين يدرسون كتاب الله بإخلاص ويطلبون إرشاد الروح القدس هؤلاء يُحفظون من حيلة المضلين ومكرهم ومكيدتهم.
١٥ «بَلْ صَادِقِينَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ ٱلَّذِي هُوَ ٱلرَّأْسُ: ٱلْمَسِيحُ».
زكريا ٨: ١٦ و٢كورنثوس ٤: ٢ وع ٢٥ ويوحنا ٣: ١٨ ص ١: ٢٢ و٢: ٢١ كولوسي ١: ١٨
بَلْ صَادِقِينَ أي ثابتين في الحق معترفين به محبين له تابعين إياه وهذا عكس كونهم أطفالاً مضطربين ومحمولين الخ. والكلمة اليونانية المترجمة بالصادقين تعني حقّيين أي محبي الحق وتابعيه والمتمسكين به والمعترفين به. والحق الذي هم ثابتون فيه هو حق الله المعلن في إنجيله.
فِي ٱلْمَحَبَّةِ أي مظهرين المحبة للذين يشهد لهم بالحق فإنه يمكننا أن نتمسك بالحق ونعلنه بروح البغض لمن لا يعتقدونه مثلنا فيمكننا أن نتكلم على الحق بخشونة حتى يكرهه السامعون فإن شهدنا بالحق للضالين عنه وجب أن ننذرهم بلطف ورقة ورغبة في خلاص نفوسهم فإذا تكلمنا مع الأشرار أو أخبرناهم بعقاب الله وجب أن لا نتكلم كأننا سُررنا بأنهم يعاقبون بل برغبة شديدة في أن يرجعوا وينجوا من العقاب متمثلين بالمسيح الذي بكى على أورشليم حين أنذرها بالخراب الآتي عليها لعصيانها. إنه يعسر علينا أن نقنع أحداً بأنه ضال قبل أن نقنعه أولاً بأننا نحبه.
نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ مما يمكن النمو فيه كالإيمان والمعرفة والصدق والمحبة ولا يمكن أن ينمو سوى الحي فالمتحدون بالمسيح أحياء به فينمون.
إِلَى ذَاكَ أي المسيح ومعنى العبارة إنّا نتمثل به تماماً. وهذا هو الإنسان الكامل وقياس قامة ملء المسيح على ما ذُكر آنفاً (ع ٣).
ٱلَّذِي هُوَ ٱلرَّأْسُ: ٱلْمَسِيحُ كون المسيح رأسنا وكوننا متحدين به كل الاتحاد يستلزمان أن نكون متمثلين به نامين في شبهه. وقد سبق أن المسيح رأس المؤمنين أفراداً على وفق قوله «أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ ٱلْمَسِيحُ» (١كورنثوس ١١: ٣) وأنه رأس الكنيسة إجمالاً كقوله «وَإِيَّاهُ (أي المسيح) جَعَلَ (الله) رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ» (ص ١: ٢٢).
١٦ « ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ ٱلْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي ٱلْمَحَبَّةِ».
كولوسي ٢: ١٩
في هذه الآية أربعة أمور تتعلق بالكنيسة التي هي جسد المسيح والمسيح رأسها:

  • الأول: إن نموها من المسيح لأنه مصدر حياتها وقوتها.
  • الثاني: إن نموها متوقف على اتحاد كل أجزاء الجسد بالرأس بواسطة ربط مناسبة.
  • الثالث: إن نموها متناسب متعادل.
  • الرابع: إن ذلك النمو لا يكون بدون المحبة.


ٱلَّذِي مِنْهُ أي من المسيح الرأس ومصدر كل حياة ونمو ونشاط.
كُلُّ ٱلْجَسَدِ أي الكنيسة. إن الكنيسة مؤلفة من مؤمنين كثيرين متحدين معاً فهي تشبه بناء مركباً من حجارة كثيرة (ص ٢: ٢١ و٢٢) والجسد لأنه مركب من أعضاء كثيرة (١كورنثوس ١٢: ١٢).
مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً أي أن النسبة بين أعضاء الكنيسة والمسيح رأسها وبين كل مؤمن وآخر صارت بالحكمة الإلهية وبتعيين خدمها من رعاة ومعلمين تؤول إلى نموها الروحي وجمالها وقوتها ودوامها وكمالها كما أن تركيب الأعضاء في الجسد البشري موافق بالنسبة إلى الرأس وكل عضو للحركة والصحة والسعادة والجمال والنشاط. ولسنا بقادرين على فرض تغيير في وضع الأعضاء يزيد به راحة الجسد وقوته وجماله ولا نستطيع أن نجد نقصاً في الترتيب الذي عيّنه الله لكنيسته.
بِمُؤَازَرَةِ أي بمساعدة وهي هذه القوة الروحية التي ينالها كل عضو في الكنيسة من المسيح مصدر الحياة ويوصلها إلى غيره من الأعضاء فهي تشبه الحياة الطبيعية التي تنشأ من رأس الجسد البشري وتمتد من عضو إلى عضو حتى تبلغ كل الأعضاء للتنشيط والنمو. وهذا موافق لقوله «أَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطِلْبَتِكُمْ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي ١: ١٩). ويساعدنا على فهم هذه الآية مقابلتها بقوله في موضع آخر «غَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِٱلرَّأْسِ ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِراً وَمُقْتَرِناً يَنْمُو نُمُوّاً مِنَ ٱللّٰهِ» (كولوسي ٢: ١٩). ومن الواضح أن المؤزارة المذكورة هنا هي الحياة الروحية تجري من المسيح بواسطة الروح القدس إلى كل الكنيسة التي هي جسده. ولعل الإشارة بقوله «كل مفصل» إلى المواهب الروحية وأصحابها الذين جعلهم المسيح وسائط إلى تبليغ هذه النعمة الإلهية منه إلى شعبه. وربما لم يشر بالمفصل إلا إلى ارتباط بعض المؤمنين ببعض.
حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ هذه العبارة إما متعلقة «بمقترناً» أو «بمؤزارة» أو «بالنمو» في آخر الآية والأولى تعليقها بما قبلها لا بما بعدها. وأن نفهم من لفظة «عمل» التأثير الإلهي الذي يجري من المسيح الرأس إلى الأعضاء. وفي قوله «على قياس كل جزء» إشارة إلى القوة المعطاة لكل عضو أو لكل خادم من خدم الكنيسة لينال هذه النعمة الإلهية ويكون وسيلة إيصالها إلى غيره من أعضاء الكنيسة حتى لا يُترك جزء منها ولا يأخذ أكثر من المعدل لئلا يتشوش التناسب والتعادل. وهذا موافق لقوله «هُوَ أَعْطَى ٱلْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً... وَٱلْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ» (ع ١١). وهو يفيدنا أن هؤلاء هم الوسائط البشرية التي عيّنها الله في كنيسته لتوزيع تأثيرات الروح القدس بواسطة تعليمهم حقائق إنجيله.
يُحَصِّلُ نُمُوَّ ٱلْجَسَدِ أي يحصل الجسد نموه ففاعل يحصّل ضمير يعود إلى الجسد في أول الآية ووضع هنا المظهر (أي الجسد) بدل المضمر لدفع الالتباس ولبعده عن مرجعه. والآية تدل أن نتيجة كل هذا التركيب الذي عيّنه الله فهي نمو الكنيسة أي تقدمها إلى الغاية التي هي الكمال. ولهذه الغاية هي مركة ومقترنة معاً ومقتانة بالقوة الآتية من رأسها الإلهي. وقد أُعطي كل من أجزائها حياة ونعمة حسب احتياجه باتصالها بالمسيح وارتباط بعضها ببعض وبذلك تنمو كلها.
لِبُنْيَانِهِ فِي ٱلْمَحَبَّةِ لأن المحبة شرط النمو والبنيان اللذين يرغب المسيح فيهما على وفق قول الرسول «المحبة تبني» (١كورنثوس ٨: ١) وقوله «المحبة... رباط الكمال» (كولوسي ٣: ١٤). فبالمحبة الذين جُمعوا في الكنيسة تعاهدوا وبالمحبة صار اتحادهم مأموناً ومثمراً. ونمو الكنيسة في شبه المسيح يستلزم أن تكون ممتلئة محبة وأن تكون أعمالها كلها مظهر المحبة حتى تكون كالذي اسمه محبة.

حث الأفسسيين على القداسة وغيرها من الفضائل بناء على مقتضى الفرق الواجب بين الإنسان العتيق والإنسان الجديد ع ١٧ إلى ٣٢


إن الرسول أوجب على الأفسسيين بناء على ما تقدم أن لا يسلكوا كالأمم (ع ١٧ - ١٩) بل كما علمهم المسيح وعلى ذلك أمرهم بأن يخلعوا الإنسان العتيق ويلبسوا الجديد متمثلين بالمسيح في كل شيء (ع ٢٠ - ٢٤) معتزلين الكذب متكلمين بالحق (ع ٢٥ ). ممتنعين عن الغضب لئلا ينتصر عليهم الشيطان مبتعدين عن السرقة راغبين في الدأب والسخاء (ع ٢٨) متنزهين عن الهُجر ناطقين بما يؤول إلى البنيان لئلا يغيظوا الروح القدس (ع ٢٩ و٣٠) محسنين ومسامحين كما يليق بأهل الله (ع ٣١ - ص ٥: ٢).
١٧ «فَأَقُولُ هٰذَا وَأَشْهَدُ فِي ٱلرَّبِّ، أَنْ لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ ٱلأَُمَمِ أَيْضاً بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ».
ص ٢: ١ إلى ٣ وع ٢٢ وكولوسي ٣: ٧ و١بطرس ٤: ٣ رومية ١: ٢١
أثبت الرسول في ما سبق إن المسيح عيّن كنيسته للتمثل به في كل شيء وأنه رتب الوسائل المؤدية إلى ذلك فصرح هنا بأنه على المؤمنين أن يسلكوا بمقتضى دعوتهم السامية.
فَأَقُولُ هٰذَا بناء على ما قلته سابقاً.
وَأَشْهَدُ فِي ٱلرَّبِّ وأدعو الرب شاهداً بصدق ما أقوله وأهميته. وقال «في الرب» لأنه كان عالماً حينئذ فكر الرب ومشيئته وأنه موكل أن يتكلم باسمه وسلطانه.
أَنْ لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ ٱلأُمَمِ المقصود «بالسلوك» هنا سيرة الإنسان الذي يكون عمله ظاهراً دليلاً على باطنه فيشمل السلوك فوق تصرف الإنسان علناً حياة النفس السرية أمام خالقها. فنهى مؤمني أفسس عن الرجوع إلى عوائدهم وأعمالهم قبل تنصرهم وعن أن يسيروا سيرة الأمم المعاصرة.
بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ أي آرائهم ومقاصدهم وعواطفهم وضمائرهم وسائر قوى أنفسهم. وندر أن يميز الكتاب بين العقل الذي يعلم والقلب الذي يشعر أي أنه ينسب إلى القلب ما ينسبه إلى الذهن وبالعكس. وكما عبر «بالذهن» هنا عن كل قوى النفس كذلك عبر به في (رومية ٧: ٢٣ و٢٥). فمراده «يبطل ذهنهم» إنهم استعملوا عبثاً القوى التي وهبها لهم الله ليعرفوا لحق ويتمسكوا ويعرفوا لله ويعبدوه ويفضلوا القداسة على الخطيئة فأنفقوا تلك القوى الثمينة على أمور لا تستحق أن تطلبها النفس الخالدة. وكُتب سفر الجامعة بياناً لكون حياة الإنسان المنفصل عن الله «باطل الأباطيل». ومثله قول النبي «لِمَاذَا تَزِنُونَ فِضَّةً لِغَيْرِ خُبْزٍ، وَتَعَبَكُمْ لِغَيْرِ شَبَعٍ» (إشعياء ٥٥: ٢).
١٨ «إِذْ هُمْ مُظْلِمُو ٱلْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ ٱللّٰهِ لِسَبَبِ ٱلْجَهْلِ ٱلَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غَلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ».
أعمال ٢٦: ١٨ غلاطية ٤: ٨ وص ٢: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ٥ رومية ١: ٢١
هذه الآية تفسير «لبطل ذهنهم» وإثبات له أي أن الأمم سالكون في الظلمة العقلية والظلمة الأدبية لأن أفكارهم مظلمة وهم بعيدون عن الله.
مُظْلِمُو ٱلْفِكْرِ هذا شرح الحال التي سقطوا إليها وكنى «بالظلمة» عن الإنسان المعرّض للضلال والشقاء والخطر. ونُسبت الظلمة إلى فكرهم بياناً لكونها من متعلقات العقل دون العواطف التي هي بعض ما أراده «بالذهن» وقد كلف الإنسان في الوصية «الأولى والعظمى» أن يحب الله من كل فكره (متّى ٢٢: ٣٧).
َ مُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ ٱللّٰهِ إن حياة الله هي الحياة الروحية التي الله مصدرها بمعنى خاص وهو ينشئها بروحه القدوس في المؤمنين بدليل قول المسيح «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأََبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا ١٧: ٣) والتجنب عن تلك الحياة يستلزم كل الأنفصال عن الله وعدم الاشتراك في الفوائد الناتجة من جريان حياة الله في حياة نفس الإنسان. وهذا التجنب من نتائج إظلام الفكر لأن عميان القلوب لا يمكنهم أن يعرفوا الله ويتقوه ويحبوه ويعبدوه وأول خطوات الرجوع إلى الله ما أشير إليه في قول المسيح لبولس أرسلك إلى الأمم «لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ» (أعمال ٢٦: ١٨).
لِسَبَبِ ٱلْجَهْلِ الجهل من نتائج إظلام الفكر وعلة التجنب عن حياة الله فإن البصيرين يدفعون الجهل بالبصر ولكن الذين أفكارهم مظلمة يبقون في جهلهم. إن في المعرفة سعادة وتقدماً وجراء في المستقبل فالذين حُرسوا في الظلمة محرومو السعادة والتقدم وأسرى اليأس. وجهل الأمم اختياري كما بان من (رومية ١: ٢١ - ٢٨). وقوله «متجنبون عن حياة الله لسبب الجهل» يفيد أنهم لو عرفوا الله كما يجب وحاجتهم إليه لم بقوا متجنبين عن حياته بل كانوا قد طلبوه « لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً» كما قال بولس لأهل أثنيا (أعمال ١٧: ٢٧).
بِسَبَبِ غَلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ أي أن هذه الغلاظة علة كونهم متجنبين عن حياة الله. إن الله يدعو الناس إلى الاقتراب منه بلطفه ومعلناته في الخليقة وأعمال العناية وبكتابه المقدس وبروحه في قلوبهم ولكن غلاظتها تمنعهم من سمع صوته والميل إليه. وقد تُنسب في الكتاب غلاظة قلب الإنسان إلى فعل الشيطان (٢كورنثوس ٤: ٤) وقد تُنسب إلى فعل نفسه (خروج ٨: ١٥ و٣٢) وقد تُنسب إلى فعل الله عقاباً على إباءته الحق وعصيانه (خروج ١٠: ١ ويوحنا ١٢: ٤٠).
اختلف المفسرون في تعلق بعض العبارات الأربع في هذه الآية ببعض فربط بعضهم الأولى بالثالثة والثانية بالرابعة. فقال أن معنى الرسول أنهم مظلمو الفكر بسبب جهلهم وأنهم متجنبون عن حياة الله بسبب غلاطة قلوبهم وينافي هذا القول أنه جعل الجهل علة الظلمة والحق أنه نتيجتها وهو يخالف الأسلوب الذي جرى عليه الرسول من أنه يجعل عباراته يتبع بعضها بعضاً كحلقات سلسلة. فالأحسن أن نأخذ المعنى على ترتيب العبارات فيكون المعنى أن الوثنيين سلكوا ببطل ذهنهم لأن أفكارهم مظلمة بتجنبهم حياة الله بسبب جهلهم وغلاظة قلوبهم وعلى هذا يكون إظلام فكرهم علة جهلهم وجهلهم وغلاظة قلوبهم علتين لتجنبهم عن حياة الله. وهذا يوافق قول الرسول «ٱلإِنْسَانَ ٱلطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ ٱللّٰهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً» (١كورنثوس ٢: ١٤). ولنا من ذلك أن تجديد القلب ضروري للأشواق والعواطف المقدسة فحين يفتح الله عيون القلب يأتي البصر والمعرفة والسرور والمحبة.
١٩ «اَلَّذِينَ إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا ٱلْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي ٱلطَّمَعِ».
١تيموثاوس ٤: ٢ رومية ١: ٢٤ و٢٦ و١بطرس ٤: ٣
فَقَدُوا ٱلْحِسّ أي أن ضمائرهم كفت عن أن توبخهم على ارتكابهم الشر أو عن تنهاهم عنه. إن من خواص الضمير إذا استمر الإنسان على مخالفته وترك ما يأمره به وإتيان ما ينهاه عنه عدل عن تبكيته. فالروح القدس يخاصم الإنسان ليحمله على الامتناع عن الخطيئة وعلى الإطاعة لله والعبادة له. ولكن إذا قاوم الروح القدس أغاظه فانصرف عنه وتركه يعمل ما يحمله عليه قلبه الغليظ فيبقى بلا إرشاد ولا إنذار من ذلك الروح السماوي.
أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ الخ هذا نتيجة فقدهم الألم الذي ينشأ عن توبيخ الضمير فقصد الله أن يكون ذلك حاجزاً يمنعهم من التسليم إلى أميالهم الفاسدة فمنزلة ذلك الحس منزلة سد النهر فإنه متى رُفع اندفعت المياه بقوة الثقل. والمقصود «بالدعارة» ارتكاب الخطايا المنافية للعفة بلا خوف من الله ولا حياء من الناس. والكلمة اليونانية المترجمة بالدعارة أعم منها لأنها تدل عليها وعلى حب المال معاً وهاتان الخطيئتان امتاز بهما الأمم أكثر من غيرهم ولهذا جمعهما الرسول في قوله «ليعملوا كل نجاسة في الطمع» ونهى عنهما بقول «َكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ» وقوله كل «نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ... لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ» (ص ٥: ٣ و٥) وجمعهما في (كولوسي ٣: ٥ وفي رومية ١: ٢٩ و١كورنثوس ٥: ١٠). وذكر الدعارة هنا كأنها ناشئة طبعاً من التجنب عن حياة الله كما يتضح من قوله «لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ،... لِذٰلِكَ أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى ٱلنَّجَاسَةِ» (رومية ١: ٢١ و٢٤).
زعم بعضهم أن الإنسان يمكنه أن يحفظ الآداب دون الدين ولكن الاختبار والكتاب يشهدان أن الناس إذا لم يتقوا الله ويحبوه أسلموا أنفسهم للخطيئة ولا سيما النجاسة والطمع وقد برهن ذلك بولس في (رومية ص ١).
وظن بعضهم أنه لم يُرد «بالطمع» هنا سوى النجاسة وإنه ذكره بياناً لعظمة مقدارها فإن الأمم لم يكتفوا بالمقدار المعتاد من النجاسة فإنهم كانوا لا يفتأون يطلبون طرقاً جديدة لإشباع شهواتهم التي لا تشبع.
٢٠ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا ٱلْمَسِيحَ هٰكَذَا».
عنى بهذه الآية أن معرفتكم المسيح أيها المؤمنون حين آمنتم لم تسمح لكم أن تسلكوا كالأمم أي لم تقبلوه مخلصاً لكم على شرط أن يباح لكم أن تكونوا مثلهم. وقوله «تتعلموا المسيح» عبارة غريبة إذ التعلم لا يقع على الإنسان بل على مبادئه ولكن الرسول قصد به أكثر من معرفة مبادئ المسيح وحوادث حياته وهو المعرفة بالاختبار واختبروا قوته ليجددهم ويخلصهم. وهذا النوع من معرفة المسيح يمنع الإنسان من السلوك في الظلمة والدعارة.
٢١ «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ».
ص ١: ١٣
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ «إن» للقطع لا للشك والمراد «بالسمع» هنا طاعة القلب فوق سمع الأذن فهو كما في قوله «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ» (متّى ١٣: ٩) وقوله «ٱلْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ» (عبرانيين ٤: ٧).
إن سمعهم صوت المسيح يستلزم أن لا يسلكوا كسائر الأمم ويفيد تعلمهم أموره من غيره الاتحاد به والجلوس عند أقدامه وقبول كلامه بالسرور من صميم القلب كقول المسيح «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي فَتَتْبَعُنِي» (يوحنا ١٠: ٢٧).
وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ أي الحق كما هو في يسوع. هذا النوع من معرفة المسيح يقتضي أن يكون صاحبه مسيحياً حقيقياً لأنه بواسطته الحياة الأبدية بدليل قول المسيح «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ» (يوحنا ١٧: ٣). وتلك المعرفة تستلزم محبة المسيح ومحبة القداسة لأنه قدوس ويمنع من السير في سنن الخطيئة. قال المسيح «أنا هو الحق» فالحق كما هو في يسوع هو في كلامه الذي علمه تلاميذه الذين تبعوه يوماً فيوماً وفي سيرته الطاهرة. واستطاع الأفسسيون أن يحصلوا على تلك المعرفة بواسطة روحه القدوس الساكن فيهم الذي يأخذ مما للمسيح ويخبرهم (يوحنا ١٦: ١٤).
٢٢ «أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ ٱلْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ».
كولوسي ٢: ١١ و٣: ٨ و٩ وعبرانيين ١٢: ١ و١بطرس ٢: ١ ص ٢: ٢ و٣ وع ١٧ وكولوسي ٣: ٧ و١بطرس ٤: ٣ رومية ٦: ٧
في هذه الآية واللتين بعدها تفسير لقوله «كما هو حق في يسوع» وبيان أن خلاصة هذا التعليم التقديس الذي عبر عنه أحياناً بالموت عن الخطيئة وحياة القداسة (رومية ٦: ١١ وغلاطية ٢: ٢٠) وعبر عنه هنا بخلع الإنسان العتيق وليس الإنسان الجديد.
أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ استعار الخلع للترك والرفض. والعبارة كقوله «فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ ٱلظُّلْمَةِ» (رومية ١٣: ١٢). وقوله «ٱطْرَحُوا عَنْكُمُ ٱلْكَذِبَ» (ع ٢٥) و «ٱلْغَضَبَ، ٱلسَّخَطَ الخ» (كولوسي ٣: ٨) و «كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ» (يعقوب ١: ٢١).
والمراد «بالإنسان العتيق» الطبيعة الفاسدة غير المتجددة بدليل قوله «لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ» (كولوسي ٣: ٩) ووُصف بالعتيق لأنه يسبق الجديد ولأنه مدين وسيُرفض ويُباد. وسمي «بالإنسان» لأنه الطبيعة الإنسانية الساقطة الفاسدة المفتقرة إلى التغيير لا مجرد إصلاح الأعمال.
وخلع هذه الطبيعة الفاسدة لا بد منه استعداداً لاتخاذ الطبيعة الجديدة. وقوله «من جهة التصرف السابق» فمعناه ترك المبادئ التي كانت قواعد سيرتهم السابقة يوم كانوا أمماً. ووصف الرسول ذلك التصرف في (ع ١٧ - ١٩).
ٱلْفَاسِدَ أي المائل إلى الفناء كما جاء في (٢كورنثوس ٤: ١٦).
بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ في هذا إشارة إلى قوة الشهوات الجسدية على الخداع فإنها هي آلات الضلال قال بولس «لأَنَّ ٱلْخَطِيَّةَ، خَدَعَتْنِي» (رومية ٧: ١١). وتكلم على غرور الخطية في (عبرانيين ٣: ١٣). والخطية الساكنة في الإنسان تستخدم شهواته لكي تخدعه وتلقيه في سجنها.
٢٣ «وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ».
رومية ١٢: ٢ وكولوسي ٣: ١٠
تَتَجَدَّدُوا هذا وصف التقديس على طريق الإيجاب بعد وصفه على سبيل السلب. والتقديس عمل الله كما جاء في قوله «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ» (ص ٢: ١٠) ولذلك قال «تتجددوا» وهو فعل لازم لا جددوا أنفسكم. وجاء إنه «تَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (تيطس ٣: ٥). فلنا أن نتخذ لبس الإنسان الجديد إشارة إلى التجديد الدفعي عند الولادة الجديدة أو إلى عمل التقديس التدريجي المشار إليه بقوله «لاَ تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ» (رومية ١٢: ٢ وفي كولوسي ٣: ٩ و١٠). والقرينة تدل على أن مراد الرسول هنا الإشارة إلى عمل التقديس الذي به يتغير الإنسان كله إلى صورة الله. ولا منافاة بين قوله «تتجددوا» وكون التجديد عمل الروح القدس لأن شعورهم بعجزهم عن أن يجددوا أنفسهم ومعرفتهم أن الروح القدس حاضر ومستعد أن يجددهم بحملاتهم على طلب مساعدته لهم. وكثيراً ما طُلب في الكتاب من الإنسان أن يعمل ما يعجز عنه من تلقاء نفسه لأنه وُعد بالمعونة السماوية.
بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ هذا التعبير غريب إذ من المعلوم أننا نتخذ الروح والذهن بمعنى واحد ولا يصح بمقتضى القرينة أن يكون المراد بالروح هنا الروح القدس فالأرجح أن الرسول أراد الإشارة إلى المركز الداخلي للحياة الروحية في نفس الإنسان تمييزاً له عن الأعمال الخارجية والعوائد والانفعالات والمقاصد الوقتية. وما عبر عنه مما في الهيكل «بقدس الأقداس» يعبر عنه مما في الإنسان «بروح ذهنه» فمتى تجدد روح ذهنه تحقق تمام تجدده هو إلى الأبد فروح ذهن الإنسان هو الذي يفعل فيه روح الله فيجدده ويسكن فيه ويملأه بذاته.
٢٤ «وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ».
رومية ٦: ٤ و٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥ وص ٦: ١١ وكولوسي ٣: ١٠ ص ٢: ١٠
تَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ كما أنه يجب علينا أن نطرح عنا الطبيعة العتيقة كما يخلع الإنسان الثوب النجس البالي يجب أن نأخذ طبيعة جديدة كثوب من النور. شبه الطبيعة غير المتجددة بإنسان عتيق ضعيف أشوه قريب من الفناء وكذلك شبه الطبيعة المتجددة بإنسان جديد شاب قوي جميل. وكثيراً ما يُراد بالجديد السامي البهيج الفاضل كأورشليم الجديدة والسماء الجديدة والأرض الجديدة. ولم يرد بلبس الإنسان الجديد لبس المسيح كما عنى في (رومية ١٣: ١٤) بدليل نعته إياه «بالمخلوق».
ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ أي بقوة الله (ص ٢: ١٠ وتيطس ٣: ١٥) أو بصورته كما في قوله «لَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ» (كولوسي ٣: ١٠) وقول بطرس «بَلْ نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ» (١بطرس ١: ١٥). حق أن يُسمى هذا التجديد «خليقة جديدة» لأن الطبيعة الأولى الفاسدة ماتت (غلاطية ٦: ١٠) ولأنه يشبه عمل الله يوم الخليقة بدليل قوله «فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ» (تكوين ١: ٢٧). على أن المشابهة غير تامة لأن التجديد لم يتم دفعة بل تدريجاً ولأن صورة الله في الإنسان المتجدد تفوق مجداً صورة الله في آدم لأنها «بحسب الله في المسيح» مع أنه يصدق على كل منهما أنه بحسب الله.
فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ هذا بيان لما تقوم به المخلوقية «بحسب الله». متى ذكر الكتاب البر وحده فمعناه كل الفضائل الأدبية ومتى اقترن بالقداسة في الذكر كان معناه الاستقامة التي تحمل على العدل بين الناس وكان معنى القداسة الطهارة أمام الله ويعبر بهما معاً عن الإنسان الكامل. وذُكرا معاً في (لوقا ١: ٧٥ وتيطس ١: ٨ و١تسالونيكي ٢: ١٠).
وأضاف القداسة إلى الحق مقابلة لإضافة الشهوة إلى الغرور ولكون الحق من صفات الله فيجب أن يكون من صفات الإنسان المخلوق على صورته (يوحنا ٣: ٣٣ ورومية ١: ٢٥ و٣: ٧). والحق صار لنا بالمسيح (يوحنا ٣: ١٧) الذي هو الحق والحياة (يوحنا ١٤: ٦). ودُعي الروح القدس روح الحق (١يوحنا ٤: ٦) لأنه ينشئ الإنارة الإلهية في قلب المؤمن. وسُمي الإنجيل كلمة الحق (ص ١: ١٣) لأنه بها أعلن الله حقه للناس ليكون واسطة حياتهم الروحية. وقيل أن الحق يحررنا (يوحنا ٨: ٣٢) وأنه يقدسنا (يوحنا ١٧: ١٧).
ولنا مما ذُكر أن صورة الله في الإنسان تشتمل على كونه مخلوقاً ثانية في البر والقداسة لا في العقل والحكمة كما زعم بعض الناس ولا في كونه خالداً ولا في كونه متسلطاً على سائر المخلوقات الأرضية وإن خلقه على صورة الله يستلزم أنه لا يكون كاملاً بدون الحق أي معرفة الله الحقة.
٢٥ «لِذٰلِكَ ٱطْرَحُوا عَنْكُمُ ٱلْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِٱلصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ ٱلْبَعْضِ».
زكريا ٨: ١٦ وع ١٥ وكولوسي ٣: ٩ رومية ١٢: ٥
إن الرسول بعد أن خاطب الأفسسيين في وجوب القداسة وأن يكونوا متمثلين بالله أخذ يبين الواجبات الخاصة التي يستلزمها ذلك وذكر أكثر هذه الواجبات أولاً على طريق السلب ثم ذكره على طريق الإيجاب ومثال ذلك أنه نهاهم عن الكذب ثم أوجب عليهم الصدق وأبان علة ذلك. والخطايا التي خصها بالذكر أربع نهت عنها الوصية التاسعة والسادسة والثامنة والسابعة وكل ما قاله في هذه الخطايا قاله بالنظر إلى موضوع هذه الرسالة وهو وجوب الاتحاد بالمسيح وبالإخوة لأنهم أعضاء جسده الذي هو الكنيسة.
لِذٰلِكَ أي لأنكم عدلتم عن أن تسلكوا كسائر الأمم (ع ١٧) ولأنكم متمثلون بالله.
ٱطْرَحُوا عَنْكُمُ ٱلْكَذِبَ معتبرين إياه كاللباس المختص بالإنسان العتيق (ع ٢٢).
وَتَكَلَّمُوا بِٱلصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ كثيراً ما يُقصد بالقريب الأخ من البشر لكن القرينة تدل على أن معناها هنا مؤمن أو أحد الإخوة المؤمنين كما في (رومية ١٥: ٢).
لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ ٱلْبَعْضِ في الجسد الواحد الذي المسيح رأسه (ع ١٦). فيستحيل أن تخضع اليد للرجل والعين للأذن إضراراً لها فما يضاد الحق أن يخدع المسيحي أخاه ويؤذيه. فلا حق لنا أن نخدع إخوتنا أكثر مما لنا حق أن نسرق منهم. نعم إنه يجب علينا أن نتكلم بالحق لأسباب أُخر غير نسبتنا إلى إخوتنا المؤمنين. ومن تلك الأسباب أن الحق فضيلة سامية وكريمة وأن الله أحب الحق وأوصانا به ويكره الكذب وسيعاقب الكذاب وإن من الحقوق التي علينا نحن باعتبار كوننا بشراً أن نتكلم بالصدق وهذا ضروري لخير العالم وكل ذلك يمنع من أن نعتبره ضرورياً علينا بالنظر إلى أننا أعضاء جسد المسيح.
٢٦، ٢٧ «٢٦ اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ ٢٧ وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً».
مزمور ٤: ٤ و٣٧: ٨ و٢كورنثوس ٢: ١٠ و١١ ويعقوب ٤: ٧ و١بطرس ٥: ٩
حذّرهم الرسول هنا من الغضب وقال فيه ثلاثة أمور الأول أن لا نجعله سبباً للخطيئة الثاني أن لا نسمح له بأن يمكث في قلوبنا والثالث أن لا ندع للشيطان سبيلاً إلى أن يجربنا بواسطته.
اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا فسر هذا بعضهم بقوله «لا تخطئوا بأن تغضبوا». والبعض بقوله «اغضبوا بشرط أن لا تخطئوا» أي يجوز لكم أن تغضبوا لكن يجب أن تحترسوا من أن يقودكم الغضب إلى الخطيئة فيجب أن تمسكوه حتى لا يحملكم أن تجاوزوا الحد الذي بين الحلال والحرام والأرجح أن هذا هو المعنى. فإن قيل إن الغضب من الخطايا المنهي عنها مطلقاً (ع ٣١) قلنا إن الغضب المنهي عنه هو الناتج عن الحقد أو المقترن به وهو الضار فلا يقال إن كل غضب حرام في كل درجاته بدليل أن المسيح نظر إلى المعترضين عليه بغضب (مرقس ٣: ٥) وكثيراً ما نسب الغضب في الكتاب المقدس إلى الله فلا بد من أنه غُرس في طبيعتنا ليعيننا على المحاربة بين الخير والشر في العالم حتى أننا نقاوم الظلم وسلب الحقوق لكن يعسر على الإنسان أن يغضب كغضب الله الناتج عن محبته وغيرته للعدل والقداسة وأن يكون غضبه مقترناً بمحبة المغضوب عليه. ولعل قوله «اغضبوا ولا تخطئوا» من أصعب أوامر الكتاب المقدس ومناهيه.
لاَ تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ هذا كشريعة تأدية الأجرة للعامل الفقير ورد ثوب الفقير المرهون (تثنية ٢٤: ١٣ و١٥). والمعنى النهي عن بقاء الغيظ في القلب وإن كان جائزاً. قال الحكيم «إِنَّ ٱلْغَضَبَ يَسْتَقِرُّ فِي حِضْنِ ٱلْجُهَّالِ» (جامعة ٧: ٩). ونستنتج من هذا الكلام إن غضبنا يمكن أن يكون جائزاً ولكن الأرجح أنه ليس في محله وإن بقي في قلوبنا كان حراماً مطلقاً لأنه لا يبقى في القلب ما لم ينشئ بغضاً.
وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً هذا متعلق بالنهي عن الغضب وهو دليل واضح على أن الغضب يعطي إبليس فرصة لكي يدخل قلوبنا وأن يجربنا ويجعلنا نخطئ على وفق ما هو مستعد له أبداً بدليل قول بطرس الرسول «إِنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (١بطرس ٥: ٨). إن موسى كان أحلم الناس لكنه عندما تذمر عليه الشعب في مريبة اغتاظ حتى أنه فرّط بشفتيه (مزمور ١٠٦: ٣٣). ولعل تجربة الشيطان التي قصد الرسول أن يحذر الأفسسيين من الوقوع فيها هو نزع اتحاد الكنيسة وسلامها اللذين غاية الرسول حفظهما وإثباتهما.
٢٨ «لاَ يَسْرِقِ ٱلسَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً ٱلصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ».
أعمال ٢٠: ٣٥ و١تسالونيكي ٤: ١١ و٢تسالونيكي ٣: ٨ و١١ و١٢ لوقا ٣: ١١
حذّرهم الرسول في هذه الآية بطريق السلب من السرقة وأوصاهم بطريق الإيجاب بالاجتهاد في العمل لتحصيل النفقة على أنفسهم والإحسان إلى الفقراء.
لاَ يَسْرِقِ ٱلسَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ الظاهر من هذا أن بعضهم كان يسرق ويعسر علينا أن نجعل الوفق بين هذا ومخاطبته إياهم كأنهم متجددون ودعوته إياهم إلى أن يسلكوا بمقتضى طبيعتهم المتجددة. قال البعض دفعاً لهذه الشبهة إن الأفسسيين نظراً لعوائد بلادهم في ذلك الوقت وما اعتادوه حين كانوا أمماً استعملوا لكسب المال طرقاً لا تجوز في شريعة الله لكن ضمائرهم لم تكن تمنعهم عنها إذ اعتبروها من باب النباهة ولكن الرسول نهاهم عنها فكانت أحوالهم كأحوال مؤمني كورنثوس فإن بعضهم كانوا يزنون والكنيسة لم تقطعهم من شركتها (١كورنثوس ٦: ١ - ٦). ودفعها آخر أن المراد بالسارق الذي كان سارقاً قبل تجدده وبقي يُسمى بما كان عليه كما يُسمى من قتل إنساناً مرة وتاب بالقاتل. وإن بولس خاطب من كان سارقاً بمقتضى «تصرفه السابق» وكان محتاجاً إلى أن يتعلم ما يجب عليه أن يفعله بعد تركه السرقة والمرجح أن هذا هو المقصود.
بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً ٱلصَّالِحَ بِيَدَيْهِ أوصاه الرسول بأن يستعمل اليد التي كان يستخدمها للسرقة في الدأب وتحصيل المال الحلال وهذا على وفق المبدإ الذي هو قوله «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً» (٢تسالونيكي ٣: ١٠) لأن الكسلان الذي يجبر غيره على إعالته لا يكاد يفرق عن السارق.
إن من المبادئ الإنجيلية إن من يقدر على تحصيل أسباب معاشه بتعبه مكلف بأن يفعل ذلك وأن غيره مكلف بأن لا يطعمه وأن يطعم من لا يستطيع عملاً.
لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ هذا يوجب على الإنسان أن يجتهد في العمل لا لتحصيل ما يحتاج إليه فقط بل لكي يقدر أن يساعد الفقير والمحتاج من فضلات أثمار تعبه. وعمل الرسول كان موافقاً لتعليمه فإنه كان يعمل بيديه ليقوم بحاجات نفسه وحاجات من معه (أعمال ١٨: ٣ و ٢٠: ٣٤ و٢تسالونيكي ٣: ٨) ومثل تعليمه هنا تعليمه في أماكن أُخر ومن ذلك قوله «فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ ٱلضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأََخْذِ» (أعمال ٢٠: ٣٥) والشرط الذي قيد الرسول به العمل الذي للمؤمن أن يعمله وهو ما في قوله «عاملاً الصالح» يمنعه من أن يأتي عملاً يضر به غيره كعمل المسكرات أو الاتجار بها وكل ما يستلزم مخالفة شريعة الله كالعمل في يوم الرب. ومؤمنو أفسس أبانوا مثالاً حسناً للمؤمنين في كل زمان بأنهم حين آمنوا أتوا بما عندهم من كتب السحر التي كانوا يربحون بها الأموال الطائلة ظلماً وأحرقوها على مرأى من الناس مع أنها كانت يومئذ ثمينة جداً (أعمال ١٩: ١٩).
٢٩ «لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ ٱلْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ».
متّى ١٢: ٣٦ وص ٥: ٤ وكولوسي ٣: ٨ كولوسي ٤: ٦ و١تسالونيكي ٥: ١١ كولوسي ٣: ١٦
جرى الرسول في ما قاله في هذه الآية على استعمال اللسان كعادته بأن يوصي بالشيء على طريق النهي ثم يوصي به على طريق الأمر.
لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ أراد «بالكلمة الردية» هنا ما تهيج الأفكار النجسة وتقود إلى الأعمال الخبيثة كالقصص والروايات والأغنية المجونية وكل كلمة تهين شأن الله أو كتابه أو دينه وكل ما ينشئ التذمر على الله والبغض له وللناس. وهذا موافق لقول المسيح «ٱلإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنَ ٱلْكَنْزِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشُّرُورَ. وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا ٱلنَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ ٱلدِّينِ» (متّى ١٢: ٣٥ و٣٦). ومن الكلمات الرديئة الكلمة المرة (مزمور ٦٤: ٣). وأوضح معناها الرسول بقوله «ٱطْرَحُوا عَنْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً ٱلْكُلَّ: ٱلْغَضَبَ، ٱلسَّخَطَ، ٱلْخُبْثَ، ٱلتَّجْدِيفَ، ٱلْكَلاَمَ ٱلْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ. لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» (كولوسي ٣: ٨ و٩).
بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ أي طاهراً بالذات خارجاً من قلب صالح كقول المسيح في (متّى ١٢: ٣٥). ومفيداً للسامعين بالتعليم والنصح والإنذار والتعزية وموافقاً للاحتياج كما تدل عليه القرينة.
حَسَبَ ٱلْحَاجَةِ أي أن يكون الكلام موافقاً لما يقصد من البنيان بالنظر إلى سن السامع ومقدار معرفته ومقتضيات أحواله. وهذا مثل قول الحكيم «تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِي مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ فِي مَحَلِّهَا» (أمثال ٢٥: ١١).
كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ أي منفعة روحية وهذا على وفق النبوءة بالمسيح بأنه انسكبت النعمة على شفتيه (مزمور ٤٥: ٢). وذلك ما يجب أن نقصده من المكالمة لا مجرد إنفاق الوقت أو إرضاء السامع بل يجب أن يقصد مع ذلك إفادته الروحية. وهذا مثل قوله «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تُجَاوِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ» (كولوسي ٤: ٦).
٣٠ «وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللّٰهِ ٱلْقُدُّوسَ ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ».
إشعياء ٧: ١٣ و٦٣: ١٠ وحزقيال ١٦: ٤٣ و١تسالونيكي ٥: ١٩ ص ١: ١٣ لوقا ٢١: ٢٨ ورومية ٨: ٢٣ وص ١: ١٤
لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللّٰهِ ٱلْقُدُّوسَ هذا معلق بما سبق من قوله «لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم» لئلا تحزنوه بذلك. فقيل في الرسالة إلى أهل كورنثوس «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ، وَرُوحُ ٱللّٰهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ هَيْكَلَ ٱللّٰهِ فَسَيُفْسِدُهُ ٱللّٰهُ، لأَنَّ هَيْكَلَ ٱللّٰهِ مُقَدَّسٌ ٱلَّذِي أَنْتُمْ هُوَ» (١كورنثوس ٣: ١٦ و١٧). فلا شيء يدنس قلوب المؤمنين التي هي هياكل الله مثل الكلمات النجسة التي تهيج الأفكار النجسة وتغيظ الروح القدس. وقال الرسول في موضوع آخر «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ، ٱلَّذِي لَكُمْ مِنَ ٱللّٰهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ» (١كورنثوس ٦: ١٩) فالاعتبار الواجب علينا للروح القدس يمنعنا من أن نتفوه بكلمة مفسدة. وقوله «لا تحزنوا روح الله» يستلزم أن ذلك الروح يرغب كثيراً في قداسة المؤمنين ويحزن من كل ما يعيق قداستهم أو يمنعها منهم. قيل في الأشرار المضطهدين «إنهم يقاومون الروح القدس بشرورهم» (أعمال ٧: ٥). ولكن قيل في المؤمنين «أنهم يحزنونه حين يخطأون» وعلة إحزانهم إياه أنهم يستحقون بمحبته لهم وهم لا يأتون بما يجب عليهم من الشكر له. ولا شيء يحزن قلب الصديق البشري مثل عدم الشكر له على معروفه.
ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ سكنى الروح القدس في المؤمن يثبت أنه ابن الله ويؤكد خلاصه كما جاء في قوله «ختمتم بروح الموعد القدوس» (ص ١: ١٣). فحين يحزن الروح القدس يتعدى على ذلك الذي منح له رجاء نيل السماء لأن الروح بعد أن يسكن قلب المؤمن لا يفارقه أبداً ولكن لا ريب في أن المؤمن الذي يحزنه يخسر كثيراً من إعلانات فعل فيه فإن لم يبال بذلك فقد أبان أن ليس فيه روح المسيح وأنه ليس له.
٣١ «لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ».
كولوسي ٣: ٨ و١٩ تيطس ٣: ٢ ويعقوب ٤: ١١ و١بطرس ٢: ١ تيطس ٣: ٣
في هذه الآية والتي تليها وآيتين من الأصحاح الخامس حذر الرسول مؤمني أفسس من الانفعالات الخبيثة الانتقامية وحثهم على أن يكونوا لطفاء ومسامحين بناء على ما اختبروه من رحمة الله وحب المسيح.
لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ أي شراسة الأخلاق التي تجعل الإنسان سريع الغضب بطيء الرضى.
سَخَطٍ وَغَضَبٍ قيل إن السخط يمتاز عن الغضب بأنه لا يكون إلا من الكبراء والعظماء على من دونهم والغضب المطلق. ولعل المراد بالسخط هنا ما يشعر به الإنسان عند التجربة البغتية وإعلانه له حينئذ قولاً وفعلاً. والمراد بالغضب ما هو أعمق من السخط في القلب ويحمل على الانتقام من المغضوب عليه ولا يشفى إلا به.
صِيَاحٍ هو إظهار الغضب بالصوت فيهيج بذلك غضب الغير. وهذا مما لا يليق بالمؤمن لأن مثاله المسيح الذي قيل إنه «لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي ٱلشَّوَارِعِ صَوْتَهُ» (متّى ١٢: ١٩).
وَتَجْدِيفٍ وهو ما ينتج من الغضب مقصوداً به إيلام الغير وأصله في اليونانية يفيد اللعنة والنميمة. ولعنة الإنسان لمثله لا تخلو من التجديف على خالقه.
مَعَ كُلِّ خُبْثٍ الخبث أصل في القلب وكل ما ذُكر آنفاً هو من فروعه. ورفع الفروع حتى لا تظهر أبداً يستلزم قلع الأصل وغرس عكسه وهو المحبة التي قيل فيها أنها «تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. لاَ تَحْسِدُ. وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ ٱلسُّوءَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِٱلإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِٱلْحَقِّ» (١كورنثوس ١٣: ٤ - ٦).
٣٢ «وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ».
٢كورنثوس ٢: ١٩ وكولوسي ٣: ١٢ و١٣ متّى ٦: ١٤ ومرقس ١١: ٢٥
حثهم في هذه الآية على ممارسة الفضائل المضادة للرذائل التي نهى عنها.
كُونُوا لُطَفَاءَ... شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ هذا كقوله في (غلاطية ٥: ٢٢ وكولوسي ٣: ١٢ و١بطرس ٣: ٩) لأن دين المسيح يوجب علينا تلك الانفاعالات الحبية في قلوبنا وإظهارها في أعمالنا.
كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ مسامحة الله لنا هي التي توجب علينا أن نسامح غيرنا فإنه غفر لنا خطايانا مجاناً مع كثرتها وفظاعتها. ومسامحته لنا أعظم بما لا يقاس مما يكلفنا به من المسامحة لغيرنا.
وكل مسامحة الله لنا «في المسيح» أي بواسطته فإنه بذل ابنه عنا ليكون كفارة لخطايانا حتى يغفرها بدون أن ينافي ما يقتضيه قداسته وعدله وحقه فيجب أن تكون مغفرة الله لنا قياس مغفرتنا لغيرنا فإنه غفر لنا مجاناً غفراناً كاملاً بقطع النظر عن وفرة خطايانا. فيجب علينا أن نذكر كلما اغتظنا من أخينا كثرة آثامنا أمام الله وفظاعتها وأنه قد غفرها كلها متذكرين مع ذلك قول المسيح «إِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ» (متّى ٦: ١٥). اللطف حسن والشفقة أحسن وأما المغفرة للمسيئين إلينا فمماثلة لله.

ص ٥: ١ و٢


١ «فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ».
متّى ٥: ٤٥ و٤٨ ولوقا ٦: ٣٦ وص ٤: ٣٢
فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ نظراً لكونه قد سامحنا بالمسيح. إن الفضيلة التي حث الرسول الأفسسيين على ممارستها هي المحبة وأعظم ما أبانه الله من أدلة محبته للبشر هو أنه بذل ابنه من أجلنا بدليل قول يوحنا الرسول «فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ الخ» (١يوحنا ٤: ١٠). وقوله «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأََبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٦). وقول بولس في حث الأفسسيين على التمثل بالله في المحبة. وقول المسيح لتلاميذه «كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ» (لوقا ٦: ٣٦).
كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ كون المؤمنين أولاد الله يستلزم أن يكونوا مثل أبيهم السماوي الذي هو محبة (١يوحنا ٤: ٨) وكونهم أحباء يستلزم أن يحب بعضهم بعضاً ويؤيد ذلك قول يوحنا الرسول «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ قَدْ أَحَبَّنَا هٰكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضاً أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً» (١يوحنا ٤: ١١). وهذا أعظم برهان على أننا أولاده ويؤيده قوله «نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ ٱنْتَقَلْنَا مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ لأَنَّنَا نُحِبُّ ٱلإِخْوَةَ» (١يوحنا ٣: ١٤).
٢ «وَٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً».
يوحنا ١١٣: ٣٤ و١٥: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ٩ و١يوحنا ٣: ١١ و٢٣ و٤: ٢١ غلاطية ١: ٤ و٢ ١٦ وعبرانيين ٧: ٢٧ و٩: ١٤ و٢٦ و١٠: ١٠ و١٢ و١يوحنا ٣: ١٦ تكوين ٨: ٢١ ولاويين ١: ٩ و٢كورنثوس ٢: ١٥
وَٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ إنهم مكلفون أن يظهروا هذه الفضيلة في كل سلوكهم أي أن يمارسوها على الدوام.
كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً هذا قياس محبتنا وموجبها علينا وتمثلنا بالمسيح كتمثلنا بالله لأن المسيح هو الله فاعتبر الرسول محبة الله لنا ومحبة المسيح لنا شيئاً واحداً.
وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا أي بذلها عنا وهذا دليل قاطع على عظمة محبته كما جاء في قوله «أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا» (ع ٢٥) وقوله «وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ» (ص ٣: ١٩) وقول المسيح نفسه «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوخنا ١٥: ١٣). وقول رسوله يوحنا «بِهٰذَا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ ٱلإِخْوَةِ» (١يوحنا ٣: ١٦).
قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً إن الكلمة الثانية تفسير للأولى. فكل ما قدم لله هو قربان لكن الذبيحة قربان دموي ومعنى الكلمتين أن المسيح سفك دمه ومات من أجلنا (متّى ٢٠: ٢٨ ورومية ٣: ٢٥ و١تيموثاوس ٢: ٦) وبناء على ذلك لقب الابن الأزلي «َحملُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩). ولذلك قال بطرس الرسول «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ» (١بطرس ١: ١٨ و١٩).
لِلّٰهِ يصح أن يعلق بقوله «أسلم» أو بنعت ذبيحة من قوله «قربان وذبيحة» بعده وهذا هو الأرجح فيكون المعنى إن الله سرّ بقربان المسيح وذبيحته. واستعار الرسول هذا من العهد القديم ففيه إن الله كان يسر بالتقدمات ومن ذلك قوله في الذبيحة التي قدمها نوح «بَنَى نُوحٌ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ... وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ، فَتَنَسَّمَ ٱلرَّبُّ رَائِحَةَ ٱلرِّضَا» (تكوين ٨: ٢٠ و٢١). وقوله في الذبائح «إنها رائحة سرور» (خروج ٢٩: ١٨ ولاويين ٤: ٣١) وأمثال ذلك كثيرة.


اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ


نصائح خاصة ع ٣ - ٢٠ وبيان واجبات الزوجين (ع ٢١ - ٣٣).
نصائح خاصة ع ٣ إلى ٢٠


حثّ الرسول أهل أفسس أن يعتزلوا النجاسة والطمع وأن يمتنعوا عن كل ما لا يليق من القول والعمل (ع ٣ و٤). وذلك لأن خطايا النجاسة والطمع تجلب غضب الله على مرتكبيها فيقتضي أن لا يشترك المسيحيون في تلك الخطايا لأنهم قد أُنيروا من فوق وصاروا أبناء النور الذي يوجب عليهم الصلاح والبر والصدق وعليهم أن يظهروا تلك الصفات وأن يجتنبوا كل أعمال الظلمة ويوبخوها (ع ٧ - ١٠). إن أعمال الظلمة قبيحة جداً إلى حد أن يُستقبح مجرد ذكرها لكنها تتلاشى بالنور الذي يضيء للمؤمنين ولذلك قال الكتاب إن النور الذي ينتشر من المسيح يبلغ المخلوقات حتى الموتى (ع ١١ - ١٤). فعلى المؤمنين أن يكونوا حكماء وينتهزوا كل فرصة لعمل الخير بالنظر إلى كثرة الشرور المحيطة بهم (ع ١٥ و١٦). وأن لا يسكروا بالخمر بل يمتلئوا بالروح القدس ويظهروا سرورهم بالترنيمات والتسابيح مسبحين الله وشاكرين له بيسوع المسيح (ع ١٧ - ٢٠).
٣ «وَأَمَّا ٱلزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ».
رومية ٧: ١٣ و١كورنثوس ٦: ١٨ و٢كورنثوس ١٢: ٢١ وص ٤: ١٩ و٢٠ وكولوسي ٣: ٥ و١تسالونيكي ٤: ٣ الخ و١كورنثوس ٥: ١
نهى الرسول في الفصل السابق عن الخطايا التي يرتكبها الإنسان على أخيه لكنه نهى في هذا الفصل عن الخطايا التي يرتكبها الإنسان على ذاته.
ٱلزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ لم يكتف بأن نهى عن الزناء حتى نهى عن كل ما يشابهه ويؤدي إليه وزاد على ذلك أن نهى عن مجرد ذكره كأنه ينجس شفتي المتكلم وآذان السامعين.
طَمَعٍ قرن الطمع بالنجاسة كما قرنه بها في الأصحاح السابق (ع ١٩) لأن الوثنيين كانوا عرضة لها على نوع خاص. والأحداث أكثر عرضة للآثام المنافية للعفاف والشيوخ أكثر عرضة لحب المال.
كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ كون المسيحيين مختارين من العالم وموقوفين لله ومطهرين بالروح القدس يستلزم أن لا يكون لهم أدنى مشاركة في تلك الخطايا.
٤ «وَلاَ ٱلْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ ٱلسَّفَاهَةِ وَٱلْهَزْلُ ٱلَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلشُّكْرُ».
متّى ١٢: ٣٥ وص ٤: ١٩ رومية ١: ٢٨
ٱلْقَبَاحَةُ كل دنيء ومكروه قولاً وفعلاً يصف الناس المنظر بالحسن أو القبح ووصفوا بذلك الأعمال الأدبية فدعوا الفضائل حسنة والرذائل قبيحة.
كَلاَمُ ٱلسَّفَاهَةِ وَٱلْهَزْلُ أشار بذلك إلى ما هو أقل قبحاً مما سبق والذي يجب على المؤمنين أن يمتنعوا عنه لأنه لا يليق بدعوتهم وكثيراً ما يكون سبباً للعثرات ومنه أن تؤخذ آيات الكتاب وسيلة إلى حمل السامعين على الضحك وكلام الهزل والمزاح يشغل الوقت بالباطل. واشتهر الأفسسيون قديماً بمثل ذلك حتى ضرب المثل بهم في الهزل والمزاح.
ٱلَّتِي لاَ تَلِيقُ بالقديسين لأنهم وقفوا ألسنتهم لخدمة المسيح.
بَلْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلشُّكْرُ يجوز للمؤمن أن يسر وأحسن طريق لإظهار مسرّته الشكر والتسبيح (كما يظهر الملائكة سرورهم في السماء) لا كلام السفاهة والهزل.
٥ «فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هٰذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، ٱلَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأََوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ».
١كورنثوس ٦: ٩ وغلاطية ٥: ١٩ و٢١ كولوسي ٣: ٥ و١تيموثاوس ٦: ١٧ غلاطية ٥: ٢١ ورؤيا ٢٢: ١٥
ذكر في هذه الآية علة نهيه في الآية الثالثة.
فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هٰذَا مما سمعتموه من الإنجيل الذي بُشرتم به ومن إنارة ضمائركم بالروح القدس.
طَمَّاعٍ، ٱلَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأََوْثَانِ جاء مثل هذا في (كولوسي ٢: ٦). والطمع من أكثر الخطايا عموماً فيرتكبه الناس أكثر مما سواه ويعتبرونه أقل شراً من غيره ولكن الله يعتبره كعبادة الأوثان التي نهى الله عنها لأنها مكروهة جداً في عينيه ومما يجلب غضبه ودينونته على مرتكبيه. وكان الطمع مثل عبادة الأوثان لأن في كل منهما تفضيل المخلوق على الخالق وكلاهما يصرف النفس عن الله ويهلكها. فالطماع يجعل ماله إلهاً له كما يجعل عابد الوثن صنمه. فمن ضروريات المؤمنين أن يعلموا كيف يحسب الله الطمع الذين كلهم عرضة له فلا طريق إلى الهرب من خطره أحسن من أن ينفقوا أموالهم على الفقراء وخدم المسيح في كنيسته وبذلك يجعلون أصدقاء لهم في السماء من مال الظلم بدليل قول المسيح في (لوقا ١٦: ٩).
لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ الخ هذا يصدق على كل من الوثني والطماع فأهل الملكوت الذي جاء المسيح ليؤسسه هم مفديون بالمسيح ومغسولون بدمه ومقدسون بروحه وسيتمتعون بالله إلى الأبد. إن ذلك الملكوت هو ملكوت النعمة الآن ولكنه سيكون ملكوت المجد أخيراً. ومعنى «ملكوت المسيح والله» إن المسيح صاحب الملكوت هو الله كما أن معنى «الله والآب» في (ص ١: ٣) الله الذي هو الآب (قابل هذا بما في تيطس ٢: ١٣) وهذا موافق لتعليم بولس في كل رسائله في شأن لاهوت المسيح ومساواته للآب.
٦ «لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هٰذِهِ ٱلأَُمُورِ يَأْتِي غَضَبُ ٱللّٰهِ عَلَى أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ».
إرميا ٢٩: ٨ ومتّى ٢٤: ٤ وكولوسي ٢: ٤ و٨: ١٨ و٢تسالونيكي ٢: ٣ رومية ١: ١٨ ص ٢: ٢ وكولوسي ٣: ٦
لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ أشار بذلك إن كثيرين استحقوا بتلك الخطايا التي هو وبخ عليها. فالوثنيون استخفوا بها عموماً حتى فلاسفتهم ويحتمل أنه وافقهم على ذلك بعض المدعين أنهم مسيحيون إذ احتجوا أن تلك الخطايا الشهوية من الأمور الطبيعية وأنها مما يختص بالجسد فلا تدنس النفس شيئاً وحسبوا الطمع اقتصاداً فأجازوها فحذر بولس المؤمنين من الغرور بمثل ذلك الاحتجاج المغالطي ووصف ذلك الاحتجاج بأنه كلام باطل إذ لا صدق فيه وأنه خادع مضل.
غَضَبُ ٱللّٰهِ أي قصده أن يعاقب المذنبين إن غضب الإنسان مخيف مع أنه محدود فبالأولى أن يكون غضب الله مخيفاً لأن قدرته على العقاب غير محدودة.
أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ أي العصاة المصرّين على العصيان (راجع تفسير ص ٢: ٢). وقول الرسول «يأتي غضب الله الخ» بيان ما يقع عليهم في الحال من عواقب معصيتهم فإن الله يرفع روحه عنهم ويتركهم إلى ذهن مرفوض. فكثيراً ما يعاقب الزناة بأمراض خبيثة أو يقصر حياتهم علاوة عن تعذيبهم في النار الأبدية (رؤيا ٢٢: ١٥).
٧ «فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ».
حذّر بولس المؤمنين بناء على قصد الله أن يعاقب النجسين من أن يشتركوا في خطاياهم ويعرّضوا أنفسهم للعقاب.
٨ « لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا ٱلآنَ فَنُورٌ فِي ٱلرَّبِّ. ٱسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ».
إشعياء ٩: ٢ ومتّى ٤: ١٦ وأعمال ٢٦: ١٨ ورومية ١: ٢١ وص ٢: ١١ و١٢ و٤: ١٨ وتيطس ٣: ٣ و١بطرس ٢: ٩ يوحنا ٨: ١٢ و١٢: ٤٦ و٢كورنثوس ٣: ١٨ و٤: ٦ و١تسالونيكي ٥: ٥ و١يوحنا ٢: ٩ لوقا ١٦: ٨ ويوحنا ١٢: ٣٦
أثبت ما قاله بمقابلة حالهم قبل إيمانهم حين كانوا في الخطيئة والشقاء بحالهم بعد انتقالهم إلى حال القداسة والسعادة.
قَبْلاً أي قبل إيمانكم وتجديدكم.
ظُلْمَةً تُستعار الظلمة للجهل والدنس والشقاء كما في (متّى ٤: ١٦ ولوقا ١: ٧٩ ويوحنا ٣: ١٩ ورومية ٢: ١٩ وكولوسي ١: ٢ و١يوحنا ١: ٦ و٢: ٩ و١٠). وغلب أن يقال على مثلهم أنهم في الظلمة أو جالسون فيها أو سالكون كذلك لكنه قيل هنا «أنهم كانوا ظلمة» كأن الظلمة بلغت باطن نفوسهم حتى صاروا مصادرها لأنفسهم ولغيرهم فحجبوا نور السماء عنهم.
نُورٌ فِي ٱلرَّبِّ أي كنتم باتحادكم بالرب متنورين وقُدستم أيضاً وصرتم واسطة نور وبركة لغيركم. إن المسيح هو النور الحقيقي شمس البر (يوحنا ١: ٤ - ٩ و٣: ١٩ و٨: ١٢ و٩: ٥ و١٢: ٤٦) فتلاميذه يكونون أنواراً بإنارته إياهم (متّى ٥: ١٤ ولوقا ١١: ٣٣ - ٣٦ ويوحنا ٥: ٣٥).
ٱسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ أي اسلكوا كما يليق بمتنورين ومتقدسين باتحادهم بالرب يسوع. وهذا يستلزم أن يكونوا أطهاراً باطناً وظاهراً وأن يشبهوا الله أبا الأنوار (يعقوب ١: ١٧). وأن يحبوا الحق (يوحنا ٣: ٢١ و١يوحنا ١: ٦). وأن يكونوا أنواراً لغيرهم (انظر تفسير يوحنا ١٢: ٣٦). وتنورهم ليروا شر الأمور التي نهاهم عنها يستلزم أن يعتزلوها كل الاعتزال.
٩ «لأَنَّ ثَمَرَ ٱلرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ».
غلاطية ٥: ٢٢
ثَمَرَ ٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي هو المنير والمقدس وذُكر من أثمار الروح التي هي أثمار النور أيضاً (كما جاء في أكثر النسخ) ثلاثة هنا وذُكر غيرها في (غلاطية ٥: ٢٢ و٢٣). فيليق أن ننسب إلى النور أثماراً لأن النور في العالم الطبيعي ضروري لنمو النبات وإثماره وننعت أعمال الظلمة بكونها غير مثمرة (ع ١١).
فِي كُلِّ صَلاَحٍ أي في كل أنواع الصلاح (كما في كل أنواع البر والحق أيضاً) وهو إظهار المحبة في الأعمال.
وَبِرٍّ هو الاستقامة بمقتضى شريعة الله. والصلاح والبر يشملان كل التقوى.
وَحَقٍّ أي دين حق. فإذاً أثمار البر هي كل الفضائل والتقوى.
١٠ «مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ ٱلرَّبِّ».
رومية ١٢: ٢ وفيلبي ١: ١٠ و١تسالونيكي ٥: ٢١ و١تيموثاوس ٢: ٣
ما ذُكر في الآية التاسعة كلام معترض وما في الآية العاشرة متعلق بالآية الثامنة فكأنه قال «اسلكوا كأولاد نور مختبرين ما هي إرادة الله». إن أبناء هذا الدهر يختبرون ما هو مرض لأنفسهم ولغيرهم ممن حولهم أما أولاد النور فيجعلون رضى الله مقياس كل ما يأتونه وما يمتنعون عنه. إن بولس حين ظهر له يسوع وهو ذاهب إلى دمشق قال «ماذا تريد يا رب أن أفعل» ولم يفتر في كل حياته الطويلة أن يبرهن بسيرته أنه جعل مشيئة المسيح قانون حياته.
١١ «وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ ٱلظُّلْمَةِ غَيْرِ ٱلْمُثْمِرَةِ بَلْ بِٱلْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا».
١كورنثوس ٥: ٩ و١١ و١٠: ٢٠ و٢كورنثوس ٦: ١٤ و٢تسالونيكي ٣: ٦ و١٤ رومية ٦: ٢١ و١٣: ١٢ وغلاطية ٦: ٨ لاويين ١٩: ١٧ و١تيموثاوس ٥: ٢٠
أبان في الآية السابقة أن كونهم أولاد نور أوجب عليهم حسن السلوك. وأبان هنا ما أوجب ذلك عليهم من جهة أعمال الذين لم يزالوا في الظلمة. وقد أتى الرسول بمثل قوله هنا في قوله لأهل كورنثوس «أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ ٱتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيَّعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِ» (٢كورنثوس ٦: ١٤ و١٥) فارجع إلى التفسير هناك. ومما أوجب عليهم الرسول من جهة أعمال الظلمة أمران الأول أن يمتنعوا عنها والثاني أن يوبخوها. والمراد «بأعمال الظلمة» هو ما ينشأ من الإنسان لجهله الله ولفساد قلبه. ووصفها بكونها «غير مثمرة» دلالة على عدم نفعها وعلى كونها أيضاً مضرة للنفوس وتعرّض مرتكبيها للهلاك المعد لكل من لا يأتي بثمر (يوحنا ١٥: ٦). إن الاشتراك في الأعمال يدل على الرغبة فيها والاستمرار على ممارستها ومن المعلوم أن مثل هذا الارتباط بأعمال الظلمة محرم على المؤمنين.
وَبِّخُوهَا أي اظهروا بكلامكم عدم رضاكم إياها. والأصل اليوناني يشير إلى أكثر من التبكيت وهو أن يقنع الإنسان بعد توبيخه على شره إن ما أتاه شر وأن يبين له أنه تدنس بذلك وأهلك نفسه. فعلى أولاد النور أن يجعلوا نور الحق يشرق على كل أعمال الظلمة لكي يرى كل إنسان دنسها وفظاعتها.
١٢ «لأَنَّ ٱلأُمُورَ ٱلْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أَيْضاً قَبِيحٌ».
رومية ١: ٢٤ و٢٦ وع ٣
في هذه الآية والتي تليها علة أنه يجب أن نوبخ أعمال الظلمة على ذلك الأسلوب. قيل سابقاً إن الأعمال الشريرة تسمى أعمال الظلمة لأنها تنتج عن الجهل لله وتسمى كذلك أيضاً لأن مرتكبيها يخافون من النور فيطلبون الظلمة لكي لا يكشف شرهم لذلك اقتضت أن يوبخها المؤمنون لكي تُعلن بالتوبيخ أسرارها. وفظاعتها تمنع من ذكرها إلا ما كان ضرورياً لتوبيخها فلا يجوز أن تكون موضوع الحديث لئلا تدنس شفاه المتكلمين وآذان السامعين. وكان بولس مثالاً لنا في طريق توبيخها مما أتاه في رسائله من ذلك.
١٣ «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِٱلنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ».
يوحنا ٣: ٢٠ و٢١ وعبرانيين ٤: ١٣
مفاد هذه الآية أن تلك الخطايا ليست بممتنعة الشفاء وأنها قابلة الإصلاح ولذلك وجب أن توبخ وأن يشرق عليها بذلك نور الحق الإلهي. فيجب أن يقابلها بشريعة الله المقدسة ويبين ماذا يستحق مرتكبوها من العقاب وماذا فعل المسيح لرفع الخطية وما هو استعداد الروح القدس لأن يفعل لكي يقدس الناس بالحق المعلن في كتاب الوحي.
ٱلْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ أي كل الأمور الحادثة سراً على ما في الآية السابقة وهي تظهر حين توبخ.
يُظْهَرُ بِٱلنُّورِ الحق كالنور لأنه يبدد ظلمات الضلال كما النور ظلمات الليل وهو الواسطة التي بها يجعل الروح القدس الجهلاء حكماء وغير التائبين تائبين ويجد الضالون سبيل الهدى والحياة والسلام.
كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ في هذا بيان قوة الحق الإلهي الذي يشرق من الإنجيل ومن أعمال المؤمنين وهو يفعل فعل النور فينير القلب الذي تشرق فيه ويقدسه فيكون المتنور واسطة إنارة لغيره ولذلك طلب الرسول في الصلاة أن تسكن في قلوب المؤمنين كلمة الله بغنىً (كولوسي ٣: ١٦). وقد نسب إلى الحق هنا ثلاثة أفعال:

  • الأول: إنه يبدد الظلمة ويعلن المكتوم.
  • الثاني: إنه يجعل الظلمة منيرة.
  • الثالث: إن المُنار به يصير واسطة لتنوير غيره. ومن الواضح أن تلك القوة لا تكون للحق إلا بواسطة روح الله. فكما أن النور لا يقدر أن يجعل العميان مبصرين كذلك الحق وحده لا يستطيع أن يجدد الأموات في الروح ولكن الروح القدس لا يفعل بدون الحق فلذلك وجب على المسيحيين أن يفعلوا كل ما في الطاقة ليعلنوا حق الله للجهلاء والضالين.


١٤ «لِذٰلِكَ يَقُولُ: ٱسْتَيْقِظْ أَيُّهَا ٱلنَّائِمُ وَقُمْ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ ٱلْمَسِيحُ».
إشعياء ٦٠: ١ ورومية ٣: ١١ و١٢ و١كورنثوس ١٥: ٣٤ و١تسالونيكي ٥: ٦ يوحنا ٥: ٢٥ ورومية ٦: ٤ وص ٢: ٥ وكولوسي ٣: ١
لما كان ذا قوة كما ذُكر ومقدماً للجميع حق للكتاب المقدس أن ينبه القيام والموتى ليقوموا ويستنيروا بأشعته.
لِذٰلِكَ يَقُولُ لم يتضح إلى أي شيء نسب الرسول هذا أإلى فحوى مجموع الكتاب أو إلى جملة معينة منه فإن كان المقصود الثاني فالآية التي هي أقرب إلى ما اقتبسه هي ما في (إشعياء ٦٠: ١) واقتبسها معنىً لا لفظاً وجرى بها مجرى كتبة العهد الجديد في أن نسب إلى المسيح ما نسبه أنبياء العهد القديم إلى يهوه.
إن المخاطبين كانوا في ظلمة روحية كالظلمة المحيطة بالنيام والموتى. والنور الذي أشرق بالمسيح كافٍ لإيقاظ النيام حتى الذين ناموا نوم الموت. وقوله هنا كقول المسيح «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأََمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (يوحنا ٥: ٢٥). وهو يثبت ما قيل في (ع ١٣) «لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ».
ٱسْتَيْقِظْ... وَقُمْ أي انتبه من نوم الغفلة والأمن الكاذب وقم من موت الخطيئة إطاعة لأمر المسيح الذي يدعو بكلمته وروحه (رومية ١٣: ١١ - ١٤).
فَيُضِيءَ لَكَ ٱلْمَسِيحُ هذا علة وفق قول بطرس الرسول في النبوءة المتعلقة بالمسيح «تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ ٱنْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ ٱلنَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ ٱلصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ» (٢بطرس ١: ١٩).
إن المسيح نور العالم (يوحنا ١: ٤ و٨ و٨: ١٢ وعبرانيين ١: ٣). وإن حال الخطأة كحال النيام والموتى حقيقة لأنهم لا يشعرون بما يحدث حولهم ولا يتلفتون إلى من يكلمهم فلا يدركون دعوة الداعي إلى كسب الخير إو إلى النجاة من الشر وتختلف عنها بأن ليس على النيام والموتى حقيقة مسؤولية الاستيقاظ والقيام لكن نوم الخطأة إثم بشهادة ضمائرهم فلا يجوز الاستمرار عليه ساعة واحدة.
١٥ «فَٱنْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِٱلتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ».
كولوسي ٤: ٥
هذه الآية متعلقة بالآية العاشرة والآية الحادية عشرة. وكونهم أولاد نور يوجب عليهم أن يسلكوا بتدقيق كما أوجب عليهم أن لا يشتركوا في أعمال الظلمة وأن يوبخوها.
تَسْلُكُونَ بِٱلتَّدْقِيقِ كي لا تميلوا عن سنن القداسة والطاعة البتة لا يميناً ولا شمالاً.
لاَ كَجُهَلاَءَ مثل أولاد هذا الدهر الموصوفين بأنهم جالسون في الظلمة.
بَلْ كَحُكَمَاءَ أي كأولاد النور والحق المتعلمين من الله.
١٦ «مُفْتَدِينَ ٱلْوَقْتَ لأَنَّ ٱلأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ».
غلاطية ٦: ١٠ وكولوسي ٤: ٥ جامعة ١١: ٢ و١٢: ١ ويوحنا ١٢: ٣٥ وص ٦: ١٣
مُفْتَدِينَ ٱلْوَقْتَ هذا أحد الطرق التي يظهر فيها الحكماء حكمتهم وذلك باغتنام كل فرصة تمكنهم من أن يكسبوا الخير ويفعلوه مختطفين الوقت من الإتلاف وسوء الاستعمال. والافتداء هنا يشير إلى وجوب بذل كل حكمة والاجتهاد في سبيل التوصل إلى المقصود كما يفعل التاجر في الدنيويات. والموجب لذلك أن الله وهب لنا الوقت لغايات ثمينة لكي نتعب فيها لإدراك أسباب المعاش لنا ولعيالنا ولنكسب العلم المفيد ولنفعل خيراً لغيرنا في الجسديات والروحيات وأن يتمجد الله ونستعد للأبدية فإذاً ليس لنا من دقيقة نستغني عنها أو نشغلها بالكسل أو بطلب الأباطيل.
لأَنَّ ٱلأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ أي يكثر فيها الشر وتكثر التجارب القوية وتحيط الأخطار من كل جهة فما على الإنسان أن يفعله يجب أن يفعله بسرعة لكي ينجو من الشر ولكي يحمل غيره على النجاة منه. وقد نبه المسيح تلاميذه على وجوب انتهاز الفرص في مثَل قاضي الظلم إذ قال «أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ فِي جِيلِهِمْ» (لوقا ١٦: ٨).
١٧ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ».
كولوسي ٤: ٥ رومية ١٢: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٣ و٥: ١٨
مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي لأن الأيام شريرة.
لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ معنى هذه العبارة قريب من معنى قوله «لا كجهلاء» (ع ١٥). والغبي هو الذي لا يستعمل عقله كما يجب ولا يرى الأمور في النور الحق ولا يحكم فيها على قدر قيمتها فكأنه قال لا تكونوا أغبياء حتى لا تميزوا بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام وبين المهم وما لا طائل تحته وبين ما هي غاية حياتنا الحقة هنا وما ليست كذلك.
فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ هذا كقوله «كحكماء» (ع ١٥). والمراد أن يقيسوا كل الأمور بمقياس الرب يسوع وأن يجعلوا مشيئته قانون سيرتهم.
١٨ «وَلاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ، بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ».
أمثال ٢٠: ١ و٢٣: ٢٠ و٣٠ وإشعياء ٥: ١١ و٢٢ ولوقا ٢١: ٣٤
لاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ فإن ذلك عين الغباوة المنهي عنها فلا تليق بالمؤمن الحكيم لأن من دأب الحكماء أن لا يطلبوا الانتعاش والتسلية بالمسكر بل بتأثير الروح القدس.
ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ لأن السكر بالخمر يؤدي إلى اتباع الشهوات المحرمة وهلاك الجسد والنفس كليهما لأنه به تخضع النفس للأهواء الجسدية وتزيد سلطة بزيادة خضوع الإنسان لها حتى تكون النفس المخلوقة على صورة الله أَمة للشهوات وللشيطان.
بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ أي الروح القدس حتى يسوس الأفكار والانفعالات وللأقوال والأعمال. وكثر استعمال مثل هذا في الإنجيل فقيل أن المسيح «ممتلئ من الروح القدس» (لوقا ٤: ١). وأن استفانوس «مملوء من الإيمان والروح القدس» (أعمال ٦: ٥). وأن برنابا «كَانَ رَجُلاً صَالِحاً وَمُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (أعمال ١١: ٢٤). وحضور الروح القدس في المؤمن على قوته ومسرته ويحمله بدلاً من أن يتغنى كالسكير بأغاني المجون والدعارة على أن يترنم بما ذُكر في الآية الآتية.
١٩ «مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ».
أعمال ١٦: ٢٥ و١كورنثوس ١٤: ٢٦ وكولوسي ٣: ١٦ ويعقوب ٥: ١٣
أشار بهذه الأية إلى ما اعتاده المؤمنون يومئذ في اجتماعاتهم الدينية من الترنم معاً أو على التناوب بمزامير التسبيح وترنيمات العبادة إعلاناً لمحبتهم لله وابتهاجهم بعبادته وخدمته. ويطلق «المزمور» على القصيدة الروحية التي يترنم به بمساعدة الآلات الموسيقية وعلى أحد المزامير المكتوبة في السفر الإلهي المشهور كما جاء في (أعمال ١٣: ٣٣ و١: ٢٠). وعلى قصيدة روحية على أسلوب مزامير داود. والأرجح أن هذا هو المراد بما في (١كورنثوس ١٤: ٢٦) ولا نقطع بما هو المراد هنا من تلك المعاني.
تَسَابِيحَ أي أشعار موضوعها التسبيح لله.
أَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ قُسمت الأغاني يومئذ إلى عالمية ودينية وهي الروحية بمعنى أنها من وحي الروح القدس أو بمعنى أنها تعبير عن الأفكار الروحية والأشواق الروحية والأرجح أن هذا هو المراد لأنه قيل أن المؤمنين امتلأوا من الروح وذلك يحملهم على أن يظهروا تأثير ذلك الروح بأغانيهم كما يعلنونه بالأحاديث والسيرة.
مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لا بمجرد شفاهكم. وهذا شرط كل ترنم لكي يكون لائقاً بالمؤمنين ومرضياً لله. ولا فرق بين الترنم والترتيل إلا أن الثاني أعم من الأول ولعله يشتمل على استعمال الآلات الموسيقية مع الصوت الإنساني (انظر ١كورنثوس ١٤: ١٥ ويعقوب ٥: ١٣ ورومية ١٥: ٩).
لِلرَّبِّ أي للمسيح. إننا بتسبيحنا للمسيح نسبح الله ونسبح لله في المسيح كلما حملتنا أشواقنا على أن نبيّن محبتنا وشكرنا له. فلا نقدر أن نسبح لأقنوم من الأقانيم الثلاثة ما لم نسبح للآخر.
٢٠ «شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِلّٰهِ وَٱلآبِ».
مزمور ٣٤: ١ وإشعياء ٦٣: ١٧ و١تسالونيكي ٥: ١٨ و٢تسالونيكي ١: ٣ عبرانيين ١٣: ١٥ و١بطرس ٢: ٥ و٤: ١١
في هذه الآية بيان الاتفاق بين الترنم للمسيح والشكر لله الآب فإن الرسول اعتبرهما جزئين من عبادة واحدة ومما يجب على كل المؤمنين.
شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ ليس مرة بل دائماً على توالي الأيام على المراحم الجسدية والروحية التي أنعم الله بها في الماضي وينعم بها في الحال.
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حتى على ما يظهر لنا في أول أمره أنه من النوازل لكن الله قصد نفعنا به.
فِي ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بهذا الاسم نادى الرسول وصنعوا المعجزات وبه أُمر المسيحيون أن يصلوا وأن يشكروا على كل شيء وأن يفعلوا كل شيء فالذي يفعلونه باسمه يفعلونه بسلطانه وباتكالهم عليه بغية النجاح.
لِلّٰهِ وَٱلآبِ أي الله الذي هو أبو المسيح وأبونا أيضاً بمقتضى عهد الفداء الذي به لنا ثقة القدوم إليه كبنين إلى آبائهم (يوحنا ١٥: ١٦ و١٦: ٢٣ و٢٤).

نصائح للزوجين ع ٢١ إلى ٣٣


إنه يجب على المؤمنين جميعاً أن يخضع بعضهم لبعض بمقتضى نسبة أحدهم إلى الآخر (ع ٢١). ويجب على النساء أن يخضعن لرجالهنّ إكراماً للرب (ع ٢٢). وإن ذلك الوجوب مبني على أن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح رأس الكنيسة (ع ٢٣). وإن ذلك الخضوع يجب أن يكون في كل الأمور (ع ٢٤). وإنه يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم وأن قياس محبتهم لهن محبة المسيح للكنيسة ( ٢٥ - ٢٧). وأن علة المحبة في الأمرين واحدة لأن الرجل والمرأة جسد واحد وكذلك المسيح والكنيسة (ع ٢٨ - ٣١). وإن اتحاد المسيح بالكنيسة أسمى من اتحاد الرجل بالمرأة ولكن هذا لا يمنع من وجوب أن تخضع النساء لرجالهن وأن يحب الرجال نساءهم (ع ٣٢ و٣٣).
٢١ «خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ».
فيلبي ٢: ٣ و١بطرس ٥: ٥
بيّن الرسول في هذه الآية القانون العام في أن يخضع بعض المؤمنين لبعض باعتبار نسبة كل إلى الآخر. وقد فصل هذا القانون في ما يأتي من بيان واجبات كل من الزوجين للآخر وكل من الأولاد لوالده وكل من الوالدين لأولاده وكل من العبيد لسيده وكل من السادة لعبيده. ومثل قول بولس هنا قول بطرس الرسول «كُونُوا جَمِيعاً خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَسَرْبَلُوا بِٱلتَّوَاضُعِ» (١بطرس ٥: ٥). وقول بولس «وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِٱلْمَحَبَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْكَرَامَةِ» (رومية ١٢: ١٠). وقوله «فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ... لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (فيلبي ٢: ٢ و٣). وفي هذا نهي للناس عن أن يحسبوا أنهم مستقلون وتقرير لقوله «لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ» (رومية ١٤: ٧). ووجوب خضوع بعض المؤمنين لبعض مبني على كونهم متساوين أمام الله ومحتاجاً كل منهم إلى الآخر وذلك يمنع من الكبرياء وادعاء الأفضلية وعدم الاكتراث بآراء الإخوة في العقائد والأعمال. ويوجب على كل مؤمن أن يعتبر مقاصد وآراء إخوته الاعتبار اللائق حاسباً نفسه جزءاً من الجسد الواحد الذي هو الكنيسة ذات الإيمان الواحد والسلوك الواحد.
فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ أو خوف المسيح على ما في أكثر النسخ. فوجوب خضوع بعض المؤمنين لبعض مبني على وجوب خضوعهم للمسيح (الذي هو أيضاً الله) واعتبارهم لإرادته ومجده. فيجب أن يرغبوا في رضاه بالطاعة وأن يخافوا إغاظته لأنهم سيقفون أمامه للدينونة وهو يحسب ما صُنع لأصغر إخوته أنه صُنع له.
٢٢ «أَيُّهَا ٱلنِّسَاءُ ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ».
تكوين ٣: ١٦ و١كورنثوس ١٤: ٣٤ وكولوسي ٣: ١٨ وتيطس ٢: ٥ و١بطرس ٣: ١ ص ٦: ٥
إن وجوب الخضوع العام يتضمن وجوب أن تخضع النساء لرجالهن وذكر هذا الوجوب حمل الرسول أن يوضح حقيقة الخضوع الواجب على المرأة لرجلها وعلته ومقداره. ومثل قول الرسول في هذه الآية ما في (كولوسي ٣: ١٨ وتيطس ٢: ٥ و١بطرس ٣: ١ - ٦) والتلميح الذي في (١كورنثوس ١١: ٣ و٧ - ٩ و١٤: ٣٤ و٣٥ و١تيموثاوس ٢: ١١ و١٢).
كَمَا لِلرَّبِّ أي إطاعة لأمر الرب لأنه هو الذي أعطى تلك السلطة للرجال فالخضوع لرجالهن جزء من خضوعهن الواجب للمسيح وأحد واجباتهن المسيحية. وليس معنى هذا القول أن يكون خضوع المرأة للرجل مطلقاً كخضوعها للمسيح. فخضوعها لرجلها إكراماً للمسيح وإطاعة له أخف عليها من أن يكون بدون نظر إلى المسيح.
٢٣ «لأَنَّ ٱلرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ ٱلْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ ٱلْجَسَدِ».
١كورنثوس ١١: ٣ ص ١: ٢٢ و٤: ١٥ وكولوسي ١: ٧ ص ١: ٢٣
إن الرسول مع تصريحه بأن وجوب أن تخضع المرأة لرجلها من الواجبات الدينية أوضح هنا أن علة ذلك الخضوع أمر طبيعي كأكثر أوامر الله.
لأَنَّ ٱلرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ علة وجوب أن تخضع المرأة لرجلها هي أن الله لما خلق الرجل خلقه أقوى من المرأة جسداً وعقلاً ووهب له من الصفات الجسدية والعقلية ما أهله لأن يكون رأسها. وقد سبق الكلام على ذلك في تفسير (١كورنثوس ١١: ٣ - ٩) فأثبت الرسول أفضلية الرجل على المرأة من كتاب الله وأبان أن الرجل خُلق قبل المرأة وأنها أُخذت منه وأن خضوعها لرجلها لائق في ذاته فضلاً عن كونه طبيعياً واختبار الناس يشهد بحسن هذا النظام الإلهي. وأن كون المرأة دون الرجل في السلطة لا يستلزم أنه دونه في سائر الأمور ولا دونه في ملكوت الله ونفع كنيسة المسيح والعالم. إن إنجيل المسيح لا يبطل سلطة الرجال على النساء ووجوب خضوع النساء للرجال لكنه جعل المرأة رفيقة الرجل ومعينة له وشريكته في أفراحه وأحزانه وأعلى شأنها بأن رفعها من كونها أَمة للرجل إلى كونها شريكة له.
كَمَا أَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ ٱلْكَنِيسَةِ وجب على المرأة أن تخضع للمسيح والذي أمر بوجوب أحد الأمرين أمر بوجوب الآخر.
وَهُوَ مُخَلِّصُ ٱلْجَسَدِ هذا يصدق على المسيح فضلاً عن كونه رأس الكنيسة. والمرجّح أن الرسول ذكر هذه العبارة بياناً لأن نسبة الكنيسة إلى المسيح أعظم وأرفع من نسبة المرأة إلى الرجل. وأن نسبة المسيح إلى الكنيسة غير مقصورة على أنه يسوسها ويعلمها بل على أنه يخلصها أيضاً من الخطيئة والهلاك ويبررها ويقدسها. ولا رجل يستطيع أن يصنع لامرأته مثل ما صنع المسيح للكنيسة ولذلك لا حق له أن يطلب من المرأة الخضوع الذي يحق للمسيح أن يطلبه من الكنيسة.
٢٤ «وَلٰكِنْ كَمَا تَخْضَعُ ٱلْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذٰلِكَ ٱلنِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ».
كولوسي ٣: ٢٠ و٢٢ وتيطس ٢: ٩
لٰكِنْ أي مع التمييز بين نسبة المسيح إلى الكنيسة ونسبة الرجل إلى المرأة على ما ذُكر.
كَمَا تَخْضَعُ ٱلْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ... فِي كُلِّ شَيْءٍ هذا بيان مقدار الخضوع الواجب على المرأة للرجل. وعنى بقوله «كل شيء» أن لا يجوز للمرأة أن تخضع في بعض الأشياء وتستقل في غيرها بل في كل ما يحق له أن يأمرها به. وهذا لا يستلزم أن سلطته عليها غير محدودة لأنها مقيدة بحقيقة النسبة الزوجية وبأن سلطة الله فوق سلطته وليس عليها أن تخالف شريعة الله إطاعة لأمر زوجها وليس له سلطان على عقائدها أو ضميرها.
٢٥ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا».
كولوسي ٣: ١٩ و١بطرس ٣: ٧ أعمال ٢٠: ٢٨ وغلاطية ١: ٤ و٢: ٢٠ و ع ٢
إن الرسول كما أوجب على النساء الخضوع لرجالهن (ع ٢٣) أوجب على الرجال المحبة لنسائهم وجعل قياسها وعلة وجوبها محبة المسيح للكنيسة وبنى وجوبها على الاتحاد الكليّ الخاص بين الرجل وامرأته.
أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ إن محبة المسيح للكنيسة مثال لحب الرجال لنسائهم وقياس له فإنهم مكلفون بأن ينكروا أنفسهم لأجلهم كما أنكر المسيح نفسه لأجل الكنيسة فإنه أحبها حتى أنه مات من أجلها فعلى الرجال أن يخاطروا بأنفسهم إذا اقتضت الحال وقاية لنسائهم. وإن إظهار الرجال محبتهم لأزواجهم من أفضل الوسائط لحملهن على الخضوع لهم. وخضوع النساء لرجالهنّ من أحسن الوسائل إلى حملهم على محبتهن ولكن يجب أن يكون كل من الخضوع والمحبة خالصاً بمقتضى الأوامر الإلهية والإطاعة للمسيح لا لقيام كل من الزوجين بما يجب عليه للآخر.
وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا صنع المسيح للكنيسة أكثر مما يستطيع الرجل أن يصنعه لامرأته فقدم نفسه ذبيحة على الصليب ليفدي الكنيسة ويقدسها. فالرجال الذين يريدون أن يتمثلوا بالمسيح في إنكار أنفسهم يندر أن يجدوا فرصاً لذلك في سوى تخفيف ما عليها من الأثقال وتعزيتها في الضيقات وطلب خلاص نفسها وبذلك كل ما في طاقته قولاً وعملاً ليقودها إلى الاتكال على المسيح والتثمل بمثله.
٢٦ «لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ».
يوحنا ٣: ٥ وتيطس ٣: ٥ وعبرانيين ١٠: ٢٢ ويوحنا ٥: ٦ يوحنا ١٥: ٣ و١٧: ١٧
انتهز الرسول فرصة التكلم في واجبات الأزواج لإيضاح الاتحاد بين المسيح وكنيسته وبيان أن من غايات موته تقديمه إياها أخيراً لنفسه لكي يسّر بها وأنه في هذا الزمان يؤهلها لغايته السامية منها وأوضح ذلك بطريق المجاز معتبراً الكنيسة عروساً للمسيح. وأعلن في ذلك ثلاثة أمور:

  • الأول: إن الكنيسة موضوع محبته الخاصة العظيمة.
  • الثاني: إنه كما أن العروس لزوجها خاصة كذلك الكنيسة للمسيح خاصة.
  • الثالث: إن اتحاد المسيح بالكنيسة قوي جداً كالاتحاد الزوجي فإن المؤمنين عظم من عظامه ولحم من لحمه وإن الكنيسة موضوع أعظم ابتهاج للمسيح فهو يقصد أن يقدمها لنفسه عروساً على وفق قوله تعالى «كَفَرَحِ ٱلْعَرِيسِ بِٱلْعَرُوسِ يَفْرَحُ بِكِ إِلٰهُكِ» (إشعياء ٦٢: ٥). ولذلك يجب أن يطهرها ويزينها لكي تكون أهلاً للجلوس معه على عرشه. وما قاله في الكنيسة إجمالاً يصدق على كل أعضائها أفراداً فهم موضوع حبه الخاص وعنايته وابتهاجه فيرغب أن يكون كل مؤمن كاملاً في القداسة والمجد.


لِكَيْ يُقَدِّسَهَا أي يفرزها وينقيها من دنس الخطيئة. إن غاية موت المسيح تقديس شعبه وحصل على ذلك بمصالحتهم لله وبإعطائه إياهم الروح القدس كما أبان في قوله «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ... لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأَُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ» (غلاطية ٣: ١٣ و١٤).
مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ قد يُراد بهذا في الكتاب المقدس التطهير الروحي الذي الغسل بالماء رمز إليه (حزقيال ١٦: ٩ و٣٦: ٢٥ وعبرانيين ١٠: ٢٢) وأكثر ما يُراد به المعمودية ومن ذلك قول حنانيا لشاول «قُمْ وَٱعْتَمِدْ وَٱغْسِلْ خَطَايَاكَ» (أعمال ٢٢: ١٦) لأن المعمودية هي الغسل بالماء واعتاد الذين كتب إليهم بولس أن يحسبوها بمعنى واحد. والتطهير هنا هو التنقية من جرم الخطيئة ودنسها (عبرانيين ١: ٣ و٩: ١٤ و٢٢ و٢٣ و١يوحنا ١: ٧). والذي يؤيد قولنا أن المراد هنا «بالغسل بالماء» المعمودية. إن المعمودية كثيراً ما اقترنت بمغفرة الخطايا كما في قوله «قَالَ لَـهُمْ بُطْرُسُ: تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا» (أعمال ٢: ٣٨ و٢٢: ١٦).
فإن قيل كيف يمكن أن يكون التطهير بالمعمودية قلنا أن المعمودية تطهر من الخطية كما أن الكلمة تطهر منها حيث الكلام في الكلمة هنا كالكلام في التطهير بغسل الماء أي المعمودية. وجاء في الإنجيل أننا «نخلص بالكلمة» وأننا نولد بها ونتقدس وذلك لا يستلزم أن قوة سرية تخرج من الكلمة لتأتي بتلك النتائج ولا أن تلك النتائج تقترن أبداً بسمع الكلمة فإنه يفعل كذلك في الأطفال الذين لا يقدرون أن يفهموا الكلمة. وكل ما قيل على الكلمة قيل على المعمودية مثل أنها تغسل من الخطيئة (أعمال ٢٢: ١٦) وإنها تقرننا بالمسيح وأنها تجعل موت المسيح موتنا (رومية ٦: ٤ وكولوسي ٢: ١٢) وأنها تخلصنا (١بطرس ٣: ٢١). وهذه الأقوال لا تستلزم أن قوة سرية تخرج من المعمودية ولا من المعمد لتأتي بتلك النتائج ولا أن تلك النتائج تقترن أبداً بالمعمودية ولا أن الروح القدس لا يجدد غير المعتمدين فيتركهم يهلكون لأن كثيرين من المعتمدين لا يزالون أشراراً وأن كثيرين من غير المعتمدين قدسوا وخلصوا.
والذي نتعلمه من العبارة هو أن الله شاء بنعمته أن يقرن الفداء وبركاته بقبول كلمته بالإيمان وبقبول المعمودية كذلك. فكما يصدق أن نخلص بالكلمة يصدق أننا نخلص بالمعمودية مع أن المعمودية لا تنفع شيئاً بلا إيمان كما أن الكلمة لا تنفع شيئاً بدونه. ولذلك قيل «مَنْ آمَنَ وَٱعْتَمَدَ خَلَصَ» (مرقس ١٦: ١٦) وما قاله الرسول هنا في تأثير المعمودية في الكنيسة التي هي جسد المسيح وعروسه قاله باعتبار كونها مؤلفة من المؤمنين لا باعتبار الذين هم ليسوا بمؤمنين وهم غرباء عن عهود الموعد وأجنبيون عن رعوية إسرائيل ولذلك لم يذكر وجوب الإيمان مع المعمودية كشأن كثير من أقوال الكتاب. والمراد من «الكلمة» هنا جملة كلام الله أو الإنجيل لا أحد مواعيده أو أوامره أو البسملة.
٢٧ لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ».
٢كورنثوس ١١: ٢ وكولوسي ١: ٢٢ نشيد الأناشيد ٤: ٧ ص ١: ٤
لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ هذه غاية المسيح الأخيرة وغايته الأولى أنه يقدسها والمعنى أنه يضعها على القرب منه دليلاً على أنها له خاصة ويعترف قدام كل الخليقة بأنها عروسه التي اقتناها بدمه. ومن عادة الناس ان يُحضر العروس لعريسها رفيقاتها أو صديق العريس (يوحنا ٣: ٢٩). وأما المسيح الذين أسلم نفسه من أجلها فهو وحده يهيئها ويحضرها ويقبلها. والوقت الذي يحضرها فيه لنفسه هو وقت مجيئه الثاني حين يأتي «لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (٢تسالونيكي ١: ١٠) وحين يقام الموتى في شبه ابن الله ويتغير الأحياء وحين يلبس هذا الفاسد عدم الفساد وهذا المائت عدم الموت وحينئذ تكون الكنيسة كعروس مزينة لرجلها (رؤيا ٢١: ٢ و١٩: ٧ - ٩).
كَنِيسَةً مَجِيدَةً إلى حد يبتهج بها عنده كل المشاهدين جمالها وهي خالية من كل عيب وحاوية كل كمال وذلك لأنها ستكون في شبه صورة المسيح يوم ظهر لتلاميذه على جبل التجلي فصاروا كأموات. لأن الله عيّن مختاريه ليكونوا مشابهين صورة ابنه (رومية ٨: ٢٩). وقيل أنهم «سيكونون مثله لأنهم سيرونه كما هو» (١يوحنا ٣: ٢).
لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ مما يشين جمالها أو ينقص كمالها أو يغير هيئتها بمرور الزمان كما هو المشاهد في الناس على الأرض لأنها تكون خالدة في شبيبتها.
بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ كما اختار الله آله أن يكونوا قبل تأسيس العالم (ص ١: ٤) فإذاً قصد الله الأزلي سيتم في الكنيسة عند تمجيدها باعتبار أنها عروس المسيح.
٢٨ «كَذٰلِكَ يَجِبُ عَلَى ٱلرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ ٱمْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ».
رجع الرسول هنا إلى ذكر واجبات الرجال لنسائهم بعد آيتين معترضتين.
كَذٰلِكَ يَجِبُ عَلَى ٱلرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ كما أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها بناء على كون الكنيسة جسده. وليس المراد من ذلك أنه يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم بمقدار ما يحبون أجسادهم بل أن يحبوهن لأن نسبتهم إلى نسائهم كنسبة المسيح إلى الكنيسة فإنه أحبها كذلك وجب أن يحبوا نساءهم. واعتبرها جسده فوجب أن يعتبروهن أجسادهم فلا يحبونهم كأجسادهم بل لأنهن أجسادهم وهذا مستلزم من قوله سابقاً «إن الزوجين جسد واحد» على وفق قوله تعالى في (تكوين ٢: ٢٤) وما كرره المسيح في (متّى ١٩: ٤ - ٦) فما أوجبه الإنجيل على الرجال من محبتهم لنسائهم لا يقدرون أن يتعدوه ما لم يضروا أنفسهم أرواحاً وأجساداً وأولادهم والهيئة الاجتماعية فلا يجوز أن يُقطع رباط الزيجة إلا لأسباب ذكرها الإنجيل.
مَنْ يُحِبُّ ٱمْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ هذا القول والقول «إن الرجل والمرأة جسد واحد» ليسا بياناً لما يجب أن يكون بل بياناً للواقع فإن الزوجين جسد واحد وكل جزء من الآخر فإذاً قوله «من يحب امرأته يحب نفسه» لا يحتاج إلى برهان.
٢٩ «فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا ٱلرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ».
هذه الآية نتيجة الآية السابقة فإن محبة الرجال لنسائهم طبيعية كمحبة الإنسان لنفسه فكما أنه من المخالف للطبيعة أن يبغض الإنسان جسده مخالف لها أن يبغض امرأته. نعم إن من المحتمل أن الإنسان لا يعجبه جسده تمام الإعجاب فيرغب أن يكون أقوى أو أجمل وأقل تعرضاً للآلام والأمراض ولكنه لا يرى ذلك علة كافية لأن يبغضه ويهمله. وكذلك يحتمل أن يرى الإنسان عدم الكمال في امرأته لكن ذلك ليس بعلة كافية لأن يهملها أو يظلمها.
بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ وكذلك بمقتضى الشريعة الطبيعية وأوامر الله يجب على الرجل أن يعامل امرأته بكل رقة ويعتني بها ويقوم بحاجاتها ويطلب راحتها.
كَمَا ٱلرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ أثبت ما قاله في الواجبات على الرجال للنساء بما فعله المسيح للكنيسة فإنها عالها كما يعول الإنسان جسده لأن نسبته إليها كنسبة الرجل إلى امرأته. زعم بعضهم أن الرسول أشار بقوت الكنيسة إلى العشاء الرباني. والحق عدم التقييد بذلك ولكنه يذكرنا قول المسيح «أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ» وقوله «أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ. وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ» ( يوحنا ٦: ٤٨ و٥١). وقوله «يربيه» كقول المسيح في أورشليم «يَا أُورُشَلِيمُ... كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا» (متّى ٢٣: ٣٧).
٣٠ «لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ».
تكوين ٢: ٢٣ ورومية ١٢: ٥ و١كورنثوس ٦: ١٥ و١٢: ٢٧
في هذه الآية علة ما قيل في الآية السابقة.
لأَنَّنَا نحن المؤمنين المتحدين بالمسيح بالإيمان.
أَعْضَاءُ جِسْمِهِ الخ إن المسيح يقوت الكنيسة ويربيها كما يقوت الإنسان جسده ويربيه لأن اتحادها به كاتحاد جسد الإنسان بنفسه. وما قيل هنا مبني على قول آدم لحواء «هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي» والمعنى أن النسبة بين المسيح وكنيسته كالنسبة بين آدم وحواء فإن حواء أُخذت من جسم آدم على وفق نص الآية. وقال الرسول في هذا الأمر أنه سر عظيم (ع ٣٢) فإذاً لا يمكن التفسير البشري أن يوضحه تمام الإيضاح لكننا نقدر أن نعتزل فيه سوء التأويل فنتركه كما تركه الرسول. وليس المراد مجرد أنه كما أن الزوجين متحدان كذلك المسيح والكنيسة. فحين قال المسيح لتلاميذه «أنا الكرمة وأنتم الأغصان» أراد ما يزيد على معنى الاتحاد وهو الحياة المشتركة. ومثله قوله في النسبة بين آدم ونسله ففيه معنى يزيد على الاتحاد. وكذا ما قيل في هذه الآية لأنه اشتراك في اللحم والدم وفي هذا الاشتراك معنى زائد على الاتحاد. وليس هو مجرد مجاز بمعنى أنه كما أن حواء أخذت جسدها من آدم كذلك نأخذ حياتنا الروحية من المسيح. نعم إن هذا حق ولكنه ليس الحق كله إذ قيل هنا إن حياتنا الروحية مأخوذة من جسد المسيح وإننا شركاء جسده.
ذهب بعضهم أن في الآية إشارة إلى تجسد المسيح لأن طبيعتنا البشرية مثل الطبيعة التي اتخذها المسيح وهذا على وفق ما جاء في (عبرانيين ٢: ١٠ و١٤). لكن تعليم تجسد المسيح هو أنه أخذ لحمنا ودمنا وتعليم هذه الآية إننا نشترك في جسد المسيح ودمه بعد اتخاذه إياهما. والمسيح بالتجسد اتحد بكل الجنس البشري لكن الاتحاد المذكور في الآية ليس إلا بين المؤمن والمسيح. وذهب آخرون إلى أن الاتحاد المشار إليه هنا هو كالاتحاد الذي يحدث حين نتناول العشاء الرباني وإننا صرنا من جسده لأننا أكلنا جسده. لكن لا إشارة هنا إلى العشاء الرباني الذي قال الكتاب إنه اشتراك في لحم المسيح ودمه. والكلام هنا في خلق المرأة والنسبة الزوجبة التي عبر عنها بالاشتراك في اللحم والعظام. وأما ما صّرح به هنا هو أن حواء كما أنها أخذت حياتها من جسد آدم وصارت شريكة له في حياته كذلك المؤمنون يتخذون حياتهم من جسد المسيح ويصيرون شركاء له في حياته وكلام بولس في ذلك ليس بتفسير للسر بل تصريح بكونه.
إن حواء بقيت شريكة لآدم في حياته بعد مرور السنين ونفاد كل جزء من جسمه الذي أُخذ منه جسمها لكنها ما زالت مدة عمرها عظماً من عظامه ولحماً من لحمه كما كانت في اليوم الذي خُلقت فيه.
ونحن شركاء آدم في حياته مع أنه لا شيء من جسد آدم في أجسادنا والقول هنا وفي أماكن أخرى في الكتاب إن الزوجين «جسد واحد» وإن المسيح والكنيسة واحد نمثل ما ذُكر ففي كلها إشارة إلى الحياة المشتركة وكل ما يختص بالحياة سر لا يعلم بماذا تقول ولا كيف نتسلسل. وما قيل هنا في شأن اتحاد المسيح بشعبه واتخاذهم حياتهم من جسده أُشير إلى أنه كان بواسطة جسده (رومية ٧: ٤). وبواسطة دمه (ص ٢: ١٣) و «بجسم بشريته» (كولوسي ١: ٢٢) وفي كل ذلك بيان أن جسد المسيح مصدر حياتنا وأننا بالاشتراك فيه ننال الحياة الأبدية كما صرّح المسيح بقوله «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا ٦: ٥٣ و٥٤).
٣١ «مِنْ أَجْلِ هٰذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ ٱلاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً».
تكوين ٢: ٢٤ ومتّى ١٩: ٥ ومرقس ١٠: ٧ ١كورنثوس ٦: ١٦
هذه الآية مقتبسة من سفر التكوين (تكوين ٢: ٢٤) واقتبسها الرسول إثباتاً أن ما قاله مبني على كلام الله وأن نسبة المسيح إلى الكنيسة قريبة جداً لأنها كالنسبة التي بين الرجل وامرأته وهي ألصق من كل نسبة بشرية حتى النسبة بين الوالدين والأولاد. فحق له أن ينسب إلى المسيح وشعبه حياة مشتركة لأنهم اتخذوا حياتهم من جسده كما اتخذت حواء حياتها من جسد آدم. وقد وجد المفسرون كلهم صعوبة في بيان العلاقة بين قوله «نحن أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه» وقوله «من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه». وزعم بعضهم إن في ذلك إشارة إلى أن المسيح عند مجيئه إلى العالم ترك حضن أبيه لكي يلتصق بكنيسته. وأفضل سبيل إلى حل هذا الإشكال هو أن بولس اقتبس الجملة كلها كما في سفر التكوين ومراده الجزء الأخير منها وهو قوله «ويكون الاثنان جسداً واحداً» لأن فيه تشبيهاً لنسبة المسيح إلى الكنيسة وأما بقية الجملة من ترك الآب والأم غير مقصودة في الإثبات. وكثيراً ما رأينا في مواضع أخر من الإنجيل اقتباس آية من العهد القديم بغية جزء منها دون غيره. ومن أمثلة ذلك (عبرانيين ٢: ١٣) إذ اقتُبست الآية كلها لمجرد لفظة «أولاد» (غلاطية ٣: ١٦) فإنها اقتُبست لمجرد لفظة «نسل».
٣٢ «هٰذَا ٱلسِّرُّ عَظِيمٌ، وَلٰكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ ٱلْمَسِيحِ وَٱلْكَنِيسَةِ».
هٰذَا ٱلسِّرُّ عَظِيمٌ معنى السر هنا ما لا يصل العقل إلى إدراكه والمقصود به هو الاتحاد الروحي بين المسيح والكنيسة حتى كأنهما جسد واحد الذي نسبة الرجل إلى امرأته إشارة إليه.
وَلٰكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ الخ قال هذا دفعاً لأن يظن أحد قراء رسالته أنه حسب الزيجة سراً وبياناً لأن السر العظيم العجيب المقصود هنا هو اتحاد المسيح بالكنيسة.
٣٣ «وَأَمَّا أَنْتُمُ ٱلأَفْرَادُ، فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ ٱمْرَأَتَهُ هٰكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا ٱلْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا».
ع ٢٥ وكولوسي ٣: ١٩ و١بطرس ٣: ٦
وَأَمَّا أي مع أن النسبة بين المسيح وكنيسته أعظم بما لا يحد من النسبة بين الرجل وامرأته المشابهة كافية ليبنى عليها ما يأتي.
أَنْتُمُ ٱلأَفْرَادُ أي كل منكم أيها المؤمنون.
فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ ٱمْرَأَتَهُ هٰكَذَا أي كما أحب المسيح الكنيسة.
كَنَفْسِهِ كما جاء في (ع ٢٨) لأن امرأته جزء منه فمحبته لها محبة لنفسه.
وَأَمَّا ٱلْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا للهيبة درجات حسب موضوعها من الهيبة للمخلوق إلى الهيبة للخالق وهي في كل درجاتها مبنية على اعتبار الهائب أفضلية المهوب عليه. وهيبة المرأة للرجل واجبة لكونه «رأسها» وهذا أساس خضوعها الذي أوجبه عليها سابقاً.
وفي هذه الآية تصريح بالأمرين اللذين أوصى الله بهما حتى تكون الزيجة واسطة سعادة الزوجين ونفعهما وهما أن الرجل يحب امرأته حتى يعتني بها ويحميها وأن المرأة تهاب رجلها حتى تخضع له الخضوع الواجب اختياراً.


اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّادِسُ


واجبات الوالدين والأولاد والسادة والعبيد (ع ١ - ٩). نصائح في شأن المحاربة الروحية (ع ١٠: ٢٠). خاتمة الرسالة (ع ٢١ - ٤٢).
واجبات الأولاد لوالديهم والوالدين للأولاد والعبيد للسادة والسادة للعبيد ع ١ إلى ٩


إنه على الأولاد أن يطيعوا والديهم إكراماً للمسيح لأنه واجب طبعاً وحق في نفسه ولأن الله أثبته في وصاياه ووعد بإثابة القائمين به (ع ١ - ٣). وإنه على الوالدين أن يعتزلوا كل ما يمنع أولادهم من محبتهم وأن يربوهم تربية مسيحية (ع ٤). وإنه على العبيد أن يطيعوا سادتهم وأن تكون طاعتهم مقترنة بالنشاط والإخلاص وبكونها كجزء من خدمتهم للمسيح لكي يرضوا الله ويقفوا أمام منبر المسيح بلا خوف (ع ٥ - ٨). وإنه على السادة أن يلتفتوا إلى واجباتهم للمسيح في معاملتهم عبيدهم وأن يتجنبوا القساوة لأن للسادة وللعبيد سيد واحد في السماء وليس عنده محاباة (ع ٩).
١ «أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي ٱلرَّبِّ لأَنَّ هٰذَا حَقٌّ».
أمثال ٢٣: ٢٢ و كولوسي ٣: ٢٠
أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ هذا أول ما أوجبه الله على الأولاد ولعل علة ذلك أنه أول ما يستطيعون فهمه والقيام به وهو أساس الطاعة لله وللحكام الذين عينهم. وهذه الشريعة المكتوبة على الورق هي عين الشريعة التي كتبها الله على صفحات ضمائر البشر في كل زمان ومكان.
فِي ٱلرَّبِّ هذا قيد لطاعة الأولاد لوالديهم ومعنى «الرب» هنا يسوع المسيح كما يتبين من القرينة وعلى ذلك يجب أن يعتبر الأولاد أن الطاعة لوالديهم هي طاعة للمسيح. وكون هذه الطاعة له يستلزم أن لا تكون ناشئة عن الخوف ولا عن المودة الطبيعية بل ناشئة عن الدين والضمير ويجب أن تكون اختيارية قلبية دائمة.
وهذا القيد يحظر على الولد أن يخالف شريعة الله لكي يطيع والديه فهو غير مكلف أن يسرق أو يقتل أو يكذب أو يجدّف أو يدنّس يوم الرب إرضاء لهما ولكن يجب عليه قبل إباء الطاعة أن يتحقق ويتأكد أن ما أمراه به مخالف لمشيئة الله ويجب عليه أن يصلي لله لئلا يخدع نفسه في ذلك.
لأَنَّ هٰذَا حَقٌّ أي إن النسبة الطبيعية بين الأولاد والوالدين توجب طاعة الولد الأبوية كما توجبها شريعة الله وهذا يصدقه ضمير كل إنسان. وليس هذا الحق مبنياً على حكمة الوالدين ولا على إحسانهم إلى أولادهم ولا علة عنايتهم بهم في قصورهم ولا على حسن أخلاقهم وسيرتهم ولا على أنه أولى أن الولد يطيع والده من أن الوالد يطيع ولده. وهذا ركن نجاح الأولاد في الحياة. فالولد الذي اعتاد إطاعة والديه في البيت كان على استعداد لإطاعة أستاذه في المدرسة ورؤسائه الروحيين وإكرام شريعة الله والخضوع للأحكام السياسية. وأما الولد الذي لم يتدرب على الإطاعة البيتية يعسر عليه أن يقوم بالطاعة لله وللغيره ممن تجب لهم ويغلب أن العاصي لأبيه الذي يراه يعصي أباه السماوي الذي لا يراه. والمتدرب عليها يسهل عليه أن يطيع الله ويحبه ويترجح أنه يرث سماءه.
ومما يجب الالتفات إليه هنا أن الله أمر بإكرام الأم كما أمر بإكرام الأب فإن كليهما يستحقان الطاعة والإكرام سواء.
٢، ٣ «٢ أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، ٱلَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ، ٣ لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ ٱلأَعْمَارِ عَلَى ٱلأَرْضِ».
خروج ٢٠: ١٢ وتثنية ٥: ١٦ و٢٧: ١٦ وإرميا ٣٥: ١٨ وحزقيال ٢٢: ٧ وملاخي ١: ٦ ومتّى ١٥: ٤ ومرقس ٧: ١٠
أثبت الرسول هنا وجوب الطاعة للوالدين بإيراد الوصية الخامسة من الوصايا العشر التي أنزلها الله على جبل سينا وكتبها بإصبعه على لوحين من حجر (خروج ٢٠: ١٢ وتثنية ٥: ١٦ انظر أيضاً تفسير متّى ١٥: ٤). فالإكرام للوالدين لا يكون بمجرد قيام الولد بالواجبات ظاهراً فيجب عليه مع ذلك احترامهما ومحبتهما.
ٱلَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ أي وعد البركة للمطيع والحق أنها هي الوصية الوحيدة المقترنة بوعد. وما جاء في الوصية الثانية من قوله «اصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي» فليس بوعد نصاً بل بيان لصفة الله من أنه حافظ العهد لمطيعيه. ولعله أراد أنها أول وصية بعهد من وصايا اللوح الثاني أو أن تلك الوصية دُعيت الأولى لكونها أهم الوصايا المفصحة عما يجب على كل من الناس للآخر. وجاء «الأول» في هذا المعنى في (مرقس ١٢: ٢٨ و٣٠). وهذا الوعد الذي في الوصية يتضمن الوعد لبني إسرائيل بالنجاح وطول الأيام في أرض كنعان التي أعطاهم إياها ونص ذلك الوعد على ما في الكتاب «لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك» فهو يتضمن نجاح بني إسرائيل وطول بقائهم في أرض كنعان التي أعطاهم الله إياها ميراثاً. والرسول لم يذكر كلمات الوعد المختصة ببني إسرائيل أي قوله تعالى «على الأرض التي يعطيك الرب إلهك» فجعله عاماً لكل من يطيع والديه من كل شعب وأمة. وفيه بيان قصد الله الذي يجريه بعنايته الشاملة وذلك أن الولد الذي يرغب في طول الحياة ووفرة النجاح يجب أن يطلبها بالسعي في إرضاء الله بإطاعة تلك الوصية. وهذا لا يمنع من أن بعض أولاد الطاعة يكونون قصار الأعمار وقليلي النجاح كما أن قوله «أما يد المجتهدين فتغنى» لا يستلزم أن كل مجتهد غني. ولا تستلزم أن كل عاص لوالديه قصير العمر. فالوعد مقيد ضرورة بشرط أن يكون إنجازه لمجد الله ونفع الموعود. وقد تحققنا بالاختبار إن من الخطايا التي تقصر الحياة إباء الأولاد أن يسمعوا نصح والديهم وإطاعة أوامرهم التي يأتونها لنفع نفوس الأولاد وأجسادهم. فولدا عالي الكاهن لم يكترثا بنصح والدهما فماتا في الشبيبة وأبيشالوم مات حدثاً لعصيانه إباه.
٤ «وَأَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ، بَلْ رَبَّوْهُمْ بِتَأْدِيبِ ٱلرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ».
كولوسي ٣: ٢١ تكوين ١٨: ١٩ وتثنية ٤: ٩ و٦: ٧ و٢٠ و٢١ و١١: ١٩ ومزمور ٧٨: ٤ وأمثال ١٩: ١٨ و٢٢: ٦ و٢٩: ١٧
أبان الرسول في هذه الآية ما يجب على الوالدين للأولاد وأتى بذلك على طريق السلب أولاً وعلى طريق الإيجاب ثانياً. وخاطب الآباء دون الأمهات لأنهم نواب عن نسائهم إذ هم رؤوس البيوت.
لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ بأن تقسوا عليهم لغير ضرورة أو أن تظلموهم أو أن تظهروا المحاباة بينهم أو أن تطلبوا منهم أكثر مما يحق لكم من طاعتهم أو بأن تظهروا الغضب بإعلان الأوامر أو بإجراء التأديب للعاصي منهم.
ولا شيء يهيج الغيظ في قلوب الأولاد مثل إظهار الغيظ عليهم ويندر أن يستفيد الولد شيئاً من القصاص الذي يأتيه الوالد وهو مغتاظ.
رَبَّوْهُمْ هذا يقتضي أن يأخذ الوالدون في تهذيب أولادهم في أول إدراكهم أو أول قبولهم التعليم بالكلام والسيرة والنصح والتوبيخ لكي يفعلوا المستقيم وما يرضي الله ويمتنعوا عن كل ما لا يريده. وهو يمنع الوالدين من أن يتركوا الأولاد بلا تعليم ولا حراسة وتأديب ومن أن يضعوهم حيث يكونون عرضة للتجارب القائدة إلى الإثم أو الاستخفاف بالدين من مدارس أو معامل.
بِتَأْدِيبِ ٱلرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ أي بالتأديب الذي أمر به الرب والإنذار الذي أوجبه. والمعنى أنه يجب أن يربى الأولاد بمقتضى مبادئ الدين المسيحي على ما هي في كتاب الله ولا سيما المعلنة من سيرة يسوع المسيح وتعليمه بغية أن يكونوا نافعين وسعداء في هذا العالم وورثة الحياة الأبدية في العالم الآتي. على الوالدين أن يعلّموا الأولاد بأفعالهم لا بمجرد أقوالهم وأن يبنوا كل وصاياهم على واجبات الأولاد لله لا على مجرد واجباتهم لهم. وهذا يستلزم أن يؤثروا تهذيبهم بالدين على كل ما سواه من التعاليم وأن يعوّدهم عبادة الله في البيت والكنيسة وأن يعلّموهم الكتاب المقدس ويصلوا معهم ويعلّموهم منذ الحداثة أن يصلوا من أجل أنفسهم فيليق أن تكون الكلمات التي أول ما تعلمه أمه النطق بها كلمات الصلاة.
٥، ٦ «٥ أَيُّهَا ٱلْعَبِيدُ، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، فِي بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ كَمَا لِلْمَسِيحِ ٦ لاَ بِخِدْمَةِ ٱلْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي ٱلنَّاسَ، بَلْ كَعَبِيدِ ٱلْمَسِيحِ، عَامِلِينَ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ مِنَ ٱلْقَلْبِ».
كولوسي ٣: ٢٢ و١تيموثاوس ٦: ١ وتيطس ٢: ٩ و١بطرس ٢: ١٨ و٢كورنثوس ٧: ١٥ وفيلبي ٢: ١٢ و١أيام ٢٩: ١٧ وكولوسي ٣: ٢٢ و٢٣
في هاتين الآيتين بيان ما يجب على العبيد لسادتهم. من المعلوم أن العبيد في عصر بولس كانوا كثيرين في كل البلاد ولا سيما البلاد الرومانية. والمسيح والرسل لم يقاوموا الاسترقاق نصاً ولكنهم علموا أن كل الناس إخوة وهذا ينافي الاسترقاق ويحمل على إبطاله في العالم كما علمنا من تاريخ كل بلاد أثر الدين الإنجيلي فيها. والأرجح إن أكثر العبيد الذين خاطبهم بولس هنا كان سادتهم وثنيين. وهذا مع أنه خوطب به العبيد أولاً مناسب للذين يدخلون اختياراً في الخدمة لغيرهم من الناس.
سَادَتَكُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ قيد طاعة العبيد لسادتهم بكونها جسدية دفعاً لتوهم أنها روحية لأن ليسوع المسيح وحده السيادة على الروح.
بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ أمام الله لا أمام سادتهم الأرضيين وحدهم لكي لا يغيظوهم. وهذا على وفق قول بولس في نفسه «أَنَا كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ» (١كورنثوس ٢: ٣). وما أمر به الفيلبيين (فيلبي ٢: ١٢). والمعنى أنه يجب على العبيد أن يهتموا كل الاهتمام بأن يفعلوا ما يجب عليهم لسادتهم لكي يرضوا الله بذلك.
فِي بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ إي بإخلاص لا برياء او خداع أو احتيال.
كَمَا لِلْمَسِيحِ أي معتبرين خدمتكم لسادتكم قسماً من الخدمة للمسيح أي خدمة دينية فهذا مما يجعل خدمتكم أشرف وأسهل. وعلى نيل العبد إثابة المسيح كونه أميناً لسيده السماوي.
لاَ بِخِدْمَةِ ٱلْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي ٱلنَّاسَ حذّرهم بهذا من الرياء في الخدمة وهو أن يظهر العبد الغيرة في أعماله لمجرد كون سيده مراقباً إياه فيجتهد في أن يرضيه خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب. فإن تلك الغيرة تزول بزوال مراقبة السيّاد إياه. وقال الرسول مثل ذلك في (كولوسي ٣: ٢٢).
كَعَبِيدِ ٱلْمَسِيحِ معتبرين أنه يراقبكم أبداً ويجازيكم على قدر أعمالكم. فسيرة المسيح مثال لكل الخدم لأنه مع كونه رب المجد «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ» (فيلبي ٢: ٧) لكي يفدي الناس من عبودية الخطيئة والموت. فالذين خدموا سادتهم لأنهم عبيد المسيح ليرضوا سيدهم السماوي هم الذين «يعملون مشيئة الله من القلب» بدلاً من «خدمة العين» فلا تكون خدمتهم بمقتضى الظاهر فقط بل تكون بالأمانة والغيرة والتواضع أيضاً.
٧ «خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ».
في هذه الآية والتي بعدها تفسير لقوله «بساطة قلوبكم».
بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ هذا يتضمن النهي عن الخدمة المقترنة بالحق على السادة وبالتذمر على الله الذي أنزلهم تلك المنزلة.
كَمَا لِلرَّبِّ الخ الذي قسم لهم نصيبهم بحكمته ومحبته. وهذا يحملهم على الأمانة في أعمالهم والصبر على العناء والظلم والاكتفاء بقسمتهم الدينية وتذكر ذلك الذي أتى «لا ليُخدم بل ليخدُم» (متّى ٢٠: ٢٨).
٨ «عَالِمِينَ أَنْ مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ ٱلْخَيْرِ فَذٰلِكَ يَنَالُهُ مِنَ ٱلرَّبِّ، عَبْداً كَانَ أَمْ حُرّاً».
رومية ٢: ٦ و٢كورنثوس ٥: ١٠ وكولوسي ٣: ٢٤ غلاطية ٣: ٢٨ وكولوسي ٣: ١١
في هذه الآية تعزية للعبيد وما يجعلهم يرضون بعبوديتهم وخلاصتها أن كل الناس سواء أمام منبر المسيح والامتيازات المعهودة في الأرض تبطل أخيراً. فإنه بالمسيح وعنده «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية ٣: ٢٨).
مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ الخ لأن السؤال في اليوم الأخير هو «من عمل الصالحات بمقتضى إرادة الله» لا «من العبد ومن السيّد» فتعليم الرسول هنا كتعليمه في (٢كورنثوس ٥: ١٠).
٩ «وَأَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلسَّادَةُ، ٱفْعَلُوا لَـهُمْ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ، تَارِكِينَ ٱلتَّهْدِيدَ، عَالِمِينَ أَنَّ سَيِّدَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُحَابَاةٌ».
كولوسي ٤: ١ لاويين ٢٥: ٤٣ يوحنا ١٣: ١٣ و١كورنثوس ٧: ٢٢ رومية ٢: ١١ وكولوسي ٣: ٢٥
أَيُّهَا ٱلسَّادَةُ أبان الرسول بعد بيانه ما يجب على العبيد لسادتهم ما يجب على السادة لعبيدهم.
ٱفْعَلُوا لَهُمْ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ أمر السادة هنا بكل ما أمر به العبيد من العمل بمقتضى الضمير والمبادئ الدينية المتعلقة بإتمام إرادة الله وبساطة القلب. فعلى السادة أن يعتبروا أنهم تحت سيادة الله كالعبيد وأنهم تحت المسؤولية لله في كل أعمالهم.
تَارِكِينَ ٱلتَّهْدِيدَ الذي يعتاده غالباً السادة في مخاطبتهم عبيدهم. وهذا يمنع من شراسة الأخلاق وإظهار الاحتقار والقساوة ويوجب على السادة المسيحيين أن يظهروا الرقة والحنو على عبيدهم ويرغبوا في أن يسوسوهم باللطف والرفق لا بالغلاظة والشدة.
عَالِمِينَ أَنَّ سَيِّدَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ كون الرب سيدهم وسيد عبيدهم يستلزم أن الفريقين سواء عنده. وكونه «في السماوات» يستلزم أنه على كل شيء قدير وأنهم تحت المسؤولية له وأنه لا يبالي بالسلطة البشرية الأرضية وإنه سوف يأتي من السماء دياناً للعالمين (١تسالونيكي ٤: ١٦ و٢تسالونيكي ١: ٧). فإنه يدينهم إذا ظلموا عبيده ويثيبهم إذا عاملوهم بمقتضى القاعدة الذهبية وهو أن يفعلوا بعبيدهم كل ما يريدون أن يفعل العبيد بهم.
لَيْسَ عِنْدَهُ مُحَابَاةٌ جاء هذا نصاً في (رومية ٢: ١١) ومعنىً في (أعمال ١٠: ٣٤ كولوسي ٣: ٢٥ ويعقوب ٢: ١ و٩) ومعناه أن الله يدين في اليوم الأخير كل إنسان حسب أعماله بقطع النظر عن أنه كان على الأرض سيداً أو عبداً غنياً أو فقيراً.
ومن الواضح أن هذا التعليم مما يعزي العبد ويحقق له أن كونه عبداً لا ينقص رجاءه الخلاص. ومما يُعلم السيد المسيحي أن لا يتكل على مقامه السامي للقبول عند المسيح وأن يعتبر عبده المسيحي أخاً له لأن الله فدى ذلك العبد كما فداه وغفر خطاياه كما غفر له وجعله مثله في كونه شريكاً له في الميراث السماوي.

النصائح الأخيرة


نصائح من جهة المحاربة وأسلحتها الضرورية (ع ١٠ - ١٧) أبان الرسول أنه يجب على المسيحيين أن يطلبوا المعونة من المسيح (ع ١٠) لأن أعداءهم روحيون وهم الشيطان وكل قوات الظلمة فيحتاجون إلى قوة أسمى من القوة البشرية وإلى أسلحة إلهية فعليهم أن يلبسوا كل سلاح الله لكي يثبتوا في اليوم الشرير (ع ١١ - ١٣) وأشار إلى أن هذه الأسلحة ستة:

  • الأول: معرفة الحق وقبوله.
  • الثاني: بر المسيح.
  • الثالث: النشاط الناشئ عن سلام الإنجيل.
  • الرابع: رجاء الخلاص.
  • الخامس: الإيمان.
  • السادس: كلمة الله التي هي سيف الروح (ع ١٤ - ١٧).


وإنهم يحتاجون إلى الصلاة لكي ينتصروا في تلك الحرب الروحية. وإنه يجب أن تكون صلواتهم بلا انقطاع مقترنة بمعونة الروح القدس وأن يصلوا من أجل كل القديسين (ع ١٨). وأن يصلوا من أجله هو أيضاً لكي ينجح في مناداته بالإنجيل (ع ١٩ و٢٠). وإنه قد أرسل تيخيكس ليخبرهم بكل أحواله (ع ٢١ و٢٢). وإنه يطلب لهم إلى الآب والمسيح سلاماً ومحبة وإيماناً وختم كلامه بالبركة على كل الذين يحبون الرب يسوع المسيح بإخلاص (ع ٢٣ و٢٤).

نصائح في الحرب الروحية وأسلحتها الضرورية ع ١٠ إلى ١٧


عبّر الرسول في هذا الفصل عن الحياة الروحية بكلام المجاز فمثلها بحرب بين الله والشيطان والسماء وجهنم فيحتاج المسيحي إلى قوة سماوية للانتصار فيها والاقتدار على الأعداء القوية غير المنظورة وإلى أسلحة روحية. وقد أشار إلى هذه الحرب في (١تسالونيكي ٥: ٨ و٩ ورومية ١٣: ١٢). وخاطب في الموضعين المؤمنين كأنهم نيام دُعوا بغتة عند بزوغ الفجر إلى أن يلبسوا أسلحتهم ويخرجوا للقتال.
ولا يخفى على القارئ ما حمل الرسول على هذا التمثيل من أمور حياته وقتئذ فإنه كان أسيراً يحرسه عسكري روماني ولا يفارقه أبداً وهو في اللباس العسكري الكامل.
١٠ «أَخِيراً يَا إِخْوَتِي تَقَوَّوْا فِي ٱلرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ».
ص ١: ١٩ و٣: ١٦ وكولوسي ١: ١١
كان الرسول قد وصف الفداء الذي اشتراه المسيح بأنه تام مجاني لكن ذلك لا يمنع من أن يبقى على المؤمن جهاد طويل شديد قبل أن ينال فوائد الفداء. وذلك الجهاد ليس مجرد حرب بين الروح والجسد وليست القوى الطبيعية بقادرة على تمكين المجاهد من الظفر لأنه فيه يقاومه كل قوات الظلمة وتبذل جهدها في أن تأسر نفسه للخطيئة والموت.
تَقَوَّوْا فِي ٱلرَّبِّ لأن الجهاد في سبيل الرب وبأمره وهو مستعد لإعانة جنوده (فيلبي ٤: ١٣ و١تيموثاوس ١: ١٣ و٢تيموثاوس ٤: ١٧). ولأن الإنسان في الطبيعة بلا قوة روحية. وينال القوة التي يفتقر إليها باتكاله على المسيح والاتحاد به كما أن الغصن ينال قوته من اتحاده بالكرمة وذراع الإنسان باتحادها بسائر الجسد.
وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ إن أعضاء جسد المسيح لا حياة لها ولا قوة بدونه ولكنه بحياة ابن الله فيها تقدر على كل جهادها ولذلك قال الرسول «أَفْتَخِرُ بِٱلْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحُلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ١٢: ٩). وقوة المسيح هي قوة الآب كما في قوله في (ص ١: ١٩).
١١ «ٱلْبَسُوا سِلاَحَ ٱللّٰهِ ٱلْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ».
رومية ١٣: ١٢ و٢كورنثوس ٦: ٧ وع ١٣ و١تسالونيكي ٥: ٨
سِلاَحَ ٱللّٰهِ ٱلْكَامِلَ يشتمل على أدوات الهجوم والدفاع كشأن سلاح كل جندي فإن الجندي الذي كانت يد بولس مربوطة إلى يده كان تام السلاح. فلا يكفي المؤمن أن يكون مستعداً لأن يدفع عن نفسه الذين يهجمون عليه بل يجب عليه أيضاً أن يجتهد في أن يغلبهم ويخضعهم. وسلاح الله يقدر المسيحي على وقاية نفسه ومقاومة الشر ووصف «بالكامل» بياناً أنه لا يترك شيئاً للإنسان عرضة للخطر من قواه العقلية وضميره وانفعالاته. وسمي «سلاح الله» تمييزاً له عن السلاح البشري الناقص ولأن الله هو الذي أعده وهو الذي يعطيه كل مؤمن عند الحاجة. وسمى أيضاً «أسلحة النور» (رومية ١٣: ١٢) و «سلاح البر» (٢كورنثوس ٦: ٧). وقد أشار إليه الرسول بقوله «ٱلْبَسُوا ٱلرَّبَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ» (رومية ١٣: ١٤).
إن الإنسان يميل إلى الاتكال على الحكمة البشرية لمقاومة الشر بدلاً من أن يتكل على المسيح وعلى الأسلحة الإلهية. ومن هذا الاستنادات الباطلة كالاتكال على القديسين والملائكة وعلى إماتة الجسد بالأصوام والخضوع لسنن الناس والامتناع عن الجائزات الحسنة ومن ممارسة رسوم لم يأمر الله بها كحفظ أشهر وأيام عينها الناس ونذور وزيارة ما يُعتبر مقدساً من الأماكن. ويحسن أن يقابل ما قيل هنا بما في (إشعياء ٥٩: ١٦ و١٧).
ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ كون إبليس خصمهم ليس ببشر يستلزم أن نلبس الأسلحة الإلهية لمقاومته وكونه ذا قوة شديدة وحيلة عجيبة يستلزم أن نكون منتبهين أبداً ومستعدين بقوة سماوية لأن نغلب ولا نُغلب لأنه رئيس قوات الظلمة وإله هذا الدهر ومنشئ الشر الجسدي والأدبي وأنه عدو لله وللمسيح وللمؤمنين وإنه على غاية المكر والبغض يطلب دائماً من يفترسه ويهلكه وأنه خبير بتجريب الناس وإضلالهم بأن يعمي قلوبهم ويجعل فيها الشكوك ويهيج الأفكار الشريرة وإنه حاضر ليلاً ونهاراً وهو لا يُرى ويكمن للنفوس لكي يخدعها ويأسرها ويهلكها. ولإبليس جنود لا تُحصى قال واحد منهم «إننا لجئون» ولهم معرفة واسعة وخبث لا حد له فقد قتلوا كثيرين من جبابرة الناس فلم يكن لنا من رجاء للنجاة منه لو لم يأت المسيح لينقض أعماله ويعن الروح القدس ضعفاتنا ويعد الله لنا الأسلحة السماوية وينبهنا على أن نسهر على الدوام.
١٢ «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ ٱلرُّؤَسَاءِ، مَعَ ٱلسَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ».
متّى ١٦: ١٧ و١كورنثوس ١٥: ٥٠ رومية ٨: ٣٨ وص ١: ٢١ وكولوسي ٢: ١٥ لوقا ٢٢: ٥٣ ويوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠ وص ٢: ٢ وكولوسي ١: ١٣ ص ١: ٣
غاية الرسول من هذه الآية أن يبين لهم ما عليهم من الخطر الذي لا يشعر به وعظمة قوة العدو.
فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ أي المصارعة الروحية التي يُدعى إليها المؤمنون ليست مع بشر كما يتضح من قوله «لم أستشر لحماً ودماً» (غلاطية ١: ١٦). وهو لم ينف أن لهم أعداء بشريين من مضطهدي اليهود والأمم لكنه لم يعتبرهم شيئاً بالنسبة إلى أعدائهم الروحيين الذي هم أشد بأساً وخطراً وهم الأرواح النجسة. والحق أن هؤلاء هم الذين هيجوا عليهم أعداءهم من الناس. وعبر عن هذه المحاربة «بالمصارعة» إشارة إلى شدتها وقربهم إليها لأن المصارعين يطلب كل منهم أن يصرع الآخر يداً بيد ورجل برجل.
مَعَ ٱلرُّؤَسَاءِ، مَعَ ٱلسَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، (انظر تفسير ص ١: ٢١) وسموا «أراوحاً نجسة» (متّى ١٢: ٤٣). وكانوا ملائكة وسقطوا (٢بطرس ٢: ٤ ويهوذا ٦). والظاهر أن لهم رئيساً اسمه إبليس. ولُقبوا «برؤساء وسلاطين» نظراً لسمو مقامهم واختلاف بعضهم عن بعض في زيادة القوة. ودُعوا «ولاة العالم» نظراً لسلطتهم على الناس. وقد دُعي الشيطان «إله هذا الدهر» و «رئيس هذا العالم» (يوحنا ١٦: ١١) لأن أكثر أهل العالم خاضع له اختياراً.
عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ نُسبت «الظلمة» إلى هذا العالم نظراً لجهل الناس الله وانفصالهم عنه ولأن الإثم حجز نوره تعالى عن أذهانهم. واستعار «الظلمة» لمن هم من مملكة الظلمة طوعاً وهم يمتازون عن شعب الله الذين هم «أولاد نور» (ص ٥: ٨) ورعية ملكوت النور باختيارهم.
مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ سمى الشيطان «أجناد الشر» بياناً لطبيعتهم الخبيثة كما سماهم «رؤساء وسلاطين» بياناً لقوتهم. وهم أشرار بالذات والغاية لأنهم يبذلون الجهد في أن يحملوا الناس على فعل الشر.
فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ ذكر هذا إشارة إلى كونهم ليسوا من الأرض ولهذا نُسبوا إلى الهواء (ص ٢: ٢) لأن الأرض ليست مسكنهم الخاص وقوتهم ليست محدودة بحدود قوة أهل الأرض. ولا نظن أنه ذكر ذلك إشارة إلى أنهم كانوا من سكان السماء أصلاً بل نرى أنه وصفهم بذلك لأنه هو ما كانوا عليه يوم كتب هذه الرسالة. وهم يشبهون ملائكة السماء في القوة وبعض غيرها من الصفات. ووصفهم الرسول بذلك لزيادة التحذير منهم والحذر من حيلهم ولكي يطلب المسيحيون أن يتقووا بقوة أعظم من القوة البشرية ليقاوموا أولئك الأرواح النجسة وأن يتسلحوا بالأسلحة الإلهية. ولبيان أن هجومهم غير مقصور على أجساد البشر التي هي من الأرض بمجرد التجارب الأرضية بل هو أيضاً على نفوس الناس الخالدة التي صنعها الله لتسكن السماء فالتجارب التي تأتي بها تلك الأرواح توجهها إلى طبيعة الناس الروحية.
١٣ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ ٱحْمِلُوا سِلاَحَ ٱللّٰهِ ٱلْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي ٱلْيَوْمِ ٱلشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا».
٢كورنثوس ١٠: ٤ وع ١١ ص ٥: ١٦
مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي بسبب أنكم ضعفاء وإن أعداءكم كثيرة وقوية إلى هذا الحد لا يكفون عن محاربتكم.
ٱحْمِلُوا سِلاَحَ ٱللّٰهِ لأن غيره ليس بكاف.
فِي ٱلْيَوْمِ ٱلشِّرِّيرِ أي زمن التجارب التي يأتي بها أولئك الأعداء. ويصح أن نسمي كل زمن الحياة بالزمن الشرير لأننا عرضة للتجربة فيه كله ولكن لا بد من أن تكون التجربة في بعض الأحيان أشد مما في غيرها ولذلك قال المسيح لرؤساء الكهنة وشيوخ الشعب الذين طلبوا قتله حين قبضوا عليه ليسلموه لبيلاطس «هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ» (لوقا ٢٢: ٥٣).
وفي الإنجيل كثير من الأدلة على أنه قُبيل مجيء المسيح ثانية تكون حرب شديدة خاصة بين جنود السماء وجنود الجحيم ولكن لا دليل على أن الرسول أشار إلى ذلك هنا.
وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا أي بعد أن تأتوا كل الاستعداد المذكور وتحتملوا ما يصيبكم من هجمات أعدائكم الأشرار أن تبقوا راسخين غير متزعزعين شجعاناً معلنين للناس أنكم جنود الله وأتباع المسيح رئيس خلاصكم.
١٤ « فَٱثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِٱلْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ ٱلْبِرِّ».
إشعياء ١١: ٥ ولوقا ١٢: ٣٥ و١بطرس ١: ١٣ إشعياء ٥٩: ١٧ و٢كورنثوس ٦: ٧ و١تسالونيكي ٥: ٨
فَٱثْبُتُوا أمام أعدائكم في الحرب.
مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ كانت منطقة الجندي الروماني من جلد عليها صفائح صغيرة من الحديد أو الفولاذ. وشد المنطقة فوق الثياب أول استعداد للنزال لأن المنطقة تقي سائر الأسلحة في مواضعها وتقي بعض أجزاء الجسد المعرّضة للخطر.
بِٱلْحَقّ هذا الحق الذي أخذه الرسول بمنزلة المنطقة للجندي الروحي ليس بكلمة الله لأنه استعار لها سيف الروح كما سيأتي فالمراد به معرفة تلك الكلمة وتيقنها وهذا مما يليق بالمسيحي لكونه «مؤمناً» و «في المسيح». لأن من الواضح أن الذي يدخل المحاربة الروحية وهو جاهل الكلمة وشاك فيها يكون كالجندي الأعمى العاجز وأما التيقن في الروحيات فيقوي كل قوى نفس المؤمن كما أن المنطقة تقوي جسده. وأما من ذهنه مملوء من الحكمة البشرية والآراء الفلسفية العالمية وتقاليد الناس فلا يستطيع أن يثبت في محاربة جنود الظلمة.
دِرْعَ ٱلْبِرِّ (إشعياء ٥٩: ١٧) كان درع العسكري الروماني يمتد من عنقه إلى وركيه كانت من زرد أو حراشف معدنية يتصل بعضها ببعض اتصالاً يسمح للابسها بالحركة وهي تقيه من ضرب السيف وطعن الحربة والسهم. وليس المراد هنا أن تكون تقوى المسيحي بمنزلة الدرع له لأن تلك التقوى عجزت أن تحميه من توبيخات الضمير واليأس وقوة التجربة ودينونة الناموس وهجمات الشيطان. وقد قال الرسول إنه «لَيْسَ له بِرّه ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ» (فيلبي ٣: ٨ و٩). فالذي قصد أن يتخذه الأفسسيون درعاً وهو بر المسيح الكامل المعد لنا ليكون موضوع اتكالنا وهذا يقينا من كل مطاليب الناموس والعدل وكل الهجمات الداخلية والخارجية. وهذا يبرر المؤمن ويقدسه فإن المسيح لا ينسب بره إلى أحد ما لم يعطه أيضاً براً في الباطن.
١٥ «وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِٱسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ ٱلسَّلاَمِ».
إشعياء ٥٢: ٧ ورومية ١٠: ١٥
كانت سرعة الجري في الميدان ضرورية للجندي في الحروب القديمة لأنها كانت تقتضي أن يلتقي الأقران بالأقران. ولما قال الرسول إنه يجب على المؤمنين أن «يحذوا أرجلهم باستعداد إنجيل السلام» عنى بذلك أن يكونوا ذوي غيرة سريعين مسرورين بالمناداة بالإنجيل الذي موضوعه سلام من الله. وهذا السلام شرط ضروري للجراءة والنجاح في الجهاد الروحي. كان في نعال العساكر يومئذ مسامير بارزة الكرات لإثبات خطوات الجندي ووقايته من الزلق حين يصارع قرنه أو يصعد الأنجاد والحُزون. والمسيحي بواسطة اتخاذه استعداد إنجيل السلام يوقى من الشكوك والسقوط بها وتيقن محبة الله ويقدر على الصعود في طريق السماء فالأحذية الإنجيلية قوية باقية غير ثقيلة على لابسها تقدره على أن يكون سريعاً مسروراً في جريه. ولا يجوز أن نفسر هذا بقول إشعياء «مَا أَجْمَلَ عَلَى ٱلْجِبَالِ قَدَمَيِ ٱلْمُبَشِّرِ، ٱلْمُخْبِرِ بِٱلسَّلاَمِ» (إشعياء ٥٢: ٧) لأن ذلك مختص بالمبشرين وما قيل هنا عام لكل المؤمنين.
١٦ «حَامِلِينَ فَوْقَ ٱلْكُلِّ تُرْسَ ٱلإِيمَانِ، ٱلَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ ٱلشِّرِّيرِ ٱلْمُلْتَهِبَةِ».
١يوحنا ٥: ٤
فَوْقَ ٱلْكُلِّ أي زيادة على كل ما ذُكر من الأسلحة. أو ما يمكن أن يوضع فوقه ليقي كل الجسد ولم يُرد أن ذلك أهم الكل. وكان الترس قديماً بيضي الشكل مصنوعاً من نحاس أو من جلد مدهون بالزيت مغطى بصفائح من النحاس (إشعياء ٢١: ٥) وغلب أن يكون طوله أربع أقدام وعرضه قدمين ونصف قدم. وكان الجندي يربطه بيده اليسرى. وهو ضروري لوقاية الجسد من الحراب والسهام. وأما المجن المذكور مع الترس في الكتاب المقدس فالمرجح أنه الصغير من الأتراس (مزمور ٤٥: ٢ و٩١: ٤). والإيمان في الجهاد المسيحي بمنزلة ترس لأنه بواسطة الإيمان نتبرر ونتصالح مع الله بدم المسيح. وغاية هذا الإيمان يسوع ابن الله مخلص البشر فبه نقترب إلى الله (ص ٣: ١٢) وبه ننال موهبة الروح القدس وندرك الأمور المعلنة به (ص ١: ١٣) وبه نغلب العالم (٢يوحنا ٥: ٤) ونقتدر كثيراً كما يظهر من الأمثلة الوافرة في الاصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين.
أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ ٱلشِّرِّيرِ ٱلْمُلْتَهِبَةِ اعتاد الناس قديماً أن يربطوا بالسهام مواد قابلة الاشتعال كالزفت ونحوه يرمون العدو والقلاع بها وهي مشتعلة وإلى ذلك أشار المرنم بقوله «يجعل سهامه ملتهبة» (مزمور ٧: ١٣). والمراد «بالشرير» في عبارة الوحي الشيطان بدليل ما في (متّى ١٣: ١٩ و٣٨ و١يوحنا ٢: ١٣ و٣: ١٢ و٥: ١٨). والسهام الملتهبة أضر من غيرها لأنها تحرق حيث تدخل إلا إذا رُدعت بالترس فتقع عنه وتنطفئ. ويحسن أن تستعار لتجارب الشيطان وجنوده التي يرمون بها نفس المؤمن فلولا ترس الإيمان الذي يحميها هلكت لا محالة لأن المؤمنين جميعاً يشهدون عن خبرة بأنه تدخل قلوبهم شكوك وأهوال وأفكار كفرية وتجديف وعصيان تؤلم النفس كسهام ملتهبة ولا يرون من مصدر لها سوى الشيطان. وبعض تلك السهام الملتهبة الشيطانية يهيج في المؤمنين الشهوات الرديئة والتذمر والحسد والبخل والطمع والكبرياء والانتقام ولا وافي منها إلا الإيمان والثقة بالمواعيد الإلهية والنظر إلى المسيح بالصبر والخضوع لإرادته وتوقع النجاة منها به لأن الإنسان في ذاته عاجز عن دفع تلك السهام لكنه بالإيمان أطفأها ضعفاء المسيحيين بدليل قوله «أَطْفَأُوا قُوَّةَ ٱلنَّارِ، نَجَوْا مِنْ حَدِّ ٱلسَّيْفِ، تَقَوَّوْا مِنْ ضَعْفٍ، صَارُوا أَشِدَّاءَ فِي ٱلْحَرْبِ» (عبرانيين ١١: ٣٤ (انظر أيضاً سياحة المسيحي صفحة ١١٢ و١١٣).
١٧ «وَخُذُوا خُوذَةَ ٱلْخَلاَصِ، وَسَيْفَ ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي هُوَ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ».
إشعياء ٥٩: ١٧ و١تسالونيكي ٥: ٨ عبرانيين ٤: ١٢ ورؤيا ١: ١٦ و٢: ١٦ و ١٩: ١٥
خُوذَةَ ٱلْخَلاَصِ كانت الخوذة زينة العسكري ووقاية له من الخطر كذلك الخلاص الذي يحصل عليه المؤمن بالإيمان يزين رأسه ويقيه من الخطر حتى يستطيع أن يرفع رأسه بالرجاء والمسرّة في ساحة الحرب. ورجاءه الخلاص يحقق له أنه انتقل من مملكة الظلمة إلى ملكوت ابن الله لأنه صار ابناً لله ووراثاً مع القديسين الميراث الأبدي وعظم انتصاره بالذي أحبه (رومية ٨: ٣٧).
والخلاص المذكور هنا الذي يرجوه المؤمن يتضمن كل ما كسبه المسيح له بواسطة كفارته ونعمته وهو عربون كل ما سوف يناله. فرجاء المجد الذي سيُعلن يعزيه ويشجعه في كل حروبه كما يقوبه ذكر ما سلف من المعونة والنعمة. ونُسب إلى الرجاء في موضع آخر (نظراً لقوة تأثيره) ما نُسب إلى الخلاص هنا بدليل قوله «نحن الذين من النهار فلنصح لابسين... خوذة هي رجاء الخلاص».
وَسَيْفَ ٱلرُّوحِ كل ما ذُكر آنفاً من أسلحة المسيحي هو لحمايته ولكن «سيف الروح» هو للوقاية والهجوم معاً فلا جندي في الزمان القديم يحسب أنه استعد للحرب ما لم يكن ناقلاً السيف. ونُسب «السيف» هنا إلى الروح القدس لأن الروح هو الذي صنعه وهو الذي يقدر المؤمن على استعماله ويجعله ذا فاعلية ليقتل آثام قلبه وينتصر على عداوة العالم والشيطان.
ٱلَّذِي هُوَ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ نُسبت الكلمة إلى الله لأن الذي أوحى بها روحه القدوس وهو الذي يجعلها ذات فاعلية لتجديد القلب وتقديسه. وهذه الكلمات تشتمل على كتب العهدين القديم والجديد كلها من أول آية من سفر التكوين إلى آخر آية من سفر الرؤيا وقد أُعطيناها للدفاع والهجوم. وما قيل هنا مثل قوله «إِنَّ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين ٤: ١٢). وقوله «لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاَصِ» (رومية ١: ١٦). وقد استعمل المسيح هذا السيف في دفع تجربة الشيطان فكان لنا مثالاً في ذلك (متّى ٤: ٣ - ١٠) ففي كلمة الله يجد المؤمنون حكمة الله والقوة الإلهية القادرة على أن تنصرهم على كل أنواع الضلال من الفلسفة الكاذبة والمبادئ السفسطية والوساوس الشيطانية وكل تجارب الأشرار فيها تتبدد قوات الظلمة وتتلاشى شكوك المسيحي ومخاوفه فإنه بها انتصرت الكنيسة على العالم وعلى ممالك الشيطان ولم تحصل على ذلك إلا بها ولكنها لما اتكلت على القوة السياسية وعلى الثروة وعلى الفلسفة العالمية والتقاليد ووصايا الناس وهنت وعجزت.
١٨ « مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي ٱلرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهٰذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ».
لوقا ١٨: ١ ورومية ١٢: ١٢ وكولوسي ٤: ٢ و١تسالونيكي ٥: ١٧ متّى ٢٦: ٤١ ومرقس ١٣: ٣٣ ص ١: ١٦ وفيلبي ١: ٤ و١تيموثاوس ٢: ١
لا شيء من هذه الأسلحة ولا كلها معاً يقدر المسيحي على الانتصار في الجهاد الروحي ما لم تأته المعونة من فوق. ويجب عليه ليحصل على تلك المعونة أن يطلبها بالصلاة وذُكر هنا خمسة من أمورها:

  • الأول: أن تكون مشتملة على كل أنواعها.
  • الثاني: أن تكون في كل وقت مناسب.
  • الثالث: أن تكون في الروح أي الروح القدس.
  • الرابع: أن تكون حارة دائمة.
  • الخامس: أن تكون من أجل جميع الإخوة القديسين الذين منهم بولس نفسه.


مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ هذا من قيود قوله «فاثبتوا» في الآية السابعة عشرة. والفرق بين الصلاة والطلبة أن الأولى أعم من الثانية ولكنها لا تتقدم إلا لله. وأما الثانية فيمكن أن توجّه إلى الإنسان أيضاً. والأولى تشتمل على الحمد والشكر والدعاء وأما الطلبة فليست سوى الدعاء. والمراد «بكل صلاة» أنواع الصلاة من جمهورية أو انفرادية وشفوية أو قلبية ورسمية أو ارتجالية ومقدمة من أجل أنفسنا أو من أجل غيرنا.
كُلَّ وَقْتٍ هذا الثاني من أمور الصلاة والمعنى يجب أن يصلي الإنسان في كل وقت يحتاج فيه إلى المعونة. وهذا ما أراده المسيح في قوله «يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ» (لوقا ١٨: ١). وما أراده الرسول بقوله «صلوا بلا انقطاع» (١تسالونيكي ٥: ١٧). إن الصلاة هي تقديم أشواقنا لله فإذا أحببنا الله وشعرنا بوجوده معنا دائماً ملنا طبعاً إلى مخاطبته دائماً كما يخاطب الرفيق رفيقه حتى لا يبقى من غلو في قوله «صلوا بلا انقطاع».
فِي ٱلرُّوحِ أي بإرشاد الروح القدس وبفعله في القلب وهذا موافق لما في قوله «ٱلرُّوحُ أَيْضاً يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا» (رومية ٨: ٢٦).
ومما يجب أن نذكره دائماً أننا لا نستطيع أن نقدم من قلوبنا صلوات حارة مقبولة فعالة ما لم يكن الروح القدس قد أنشأ فيها الأشواق والأفكار التي نعبر عنها.
سَاهِرِينَ لِهٰذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ هذا الرابع من أمور الصلاة يدعونا فيه الرسول إلى الحرارة في الصلاة وطلب معونة الروح القدس والاستمرار على الصلاة بلا ملل ولا غفلة. وهذا كقوله «مواظبين على الصلاة» (رومية ١٢: ١٢).
لأَجْلِ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ الصلاة لأجل جميع الإخوة القديسين فرض على كل مسيحي لأن الجهاد الروحي ليس بين الشيطان والشخص وحده بل هو أيضاً بين كل قوات الظلمة وشعب الله. إن المؤمنين جيش واحد ونجاح كل منهم نجاح الكل فإذاً يجب أن لا يقتصر على الصلاة من أجل نفسه بل يصلي من أجل جميع إخوته أيضاً. فإن كان كل من المسيحيين لا يكترث بغيره فلا يصلي من أجله كانت حال الكنيسة كحال الجسد الذي لا يهتم فيه اليد بالعين.
١٩ «وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ ٱفْتِتَاحِ فَمِي، لِأُعْلِمَ جِهَاراً بِسِرِّ ٱلإِنْجِيلِ».
أعمال ٤: ٢٩ وكولوسي ٤: ٣ و٢تسالونيكي ٣: ١ و٢كورنثوس ٣: ١٢
وَلأَجْلِي مما يبين أهمية الصلاة الشفاعية وتيقن الرسول منفعتها سؤاله إخوته الذين كتب إليهم هذه الرسالة أن يصلوا لأجله.
لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ ٱفْتِتَاحِ فَمِي لم يسألهم أن يطلبوا له من الله النفع الجسدي أو النجاة من قيوده بل أن تزيد حريته بالمناداة بالإنجيل أو أن الله يهب له الشجاعة والقوة في تلك المناداة وهو في ما كان عليه من الأحوال. فكانت غاية مطلوبه أن يبارك الله على تبشيره وأن يتفقوا معه على الصلاة لتلك الغاية عينها.
لِأُعْلِمَ جِهَاراً بِسِرِّ ٱلإِنْجِيلِ أي لكي أوضح كل الإيضاح حقائق السر الإلهي الذي كان مكتوماً في الأزمنة الماضية ولكنه أُعلن الآن «لمجدنا» (١كورنثوس ٢: ٧).
٢٠ «ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ».
٢كورنثوس ٥: ٢٠ أعمال ٢٦: ٢٩ و٢٨: ٢٠ وص ٣: ١ وفيلبي ١: ٧ و١٣ و١٤ و٢تيموثاوس ١: ١٦ و٢: ٩ وفليمون ١٠ أعمال ٢٨: ٣١ وفيلبي ١: ٢٠ و١تسالونيكي ٢: ٢
ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ السفير نائب الملك في الكلام وهذا مثل قوله «نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا» (٢كورنثوس ٥: ٢٠). وكان الرسل سفراء المسيح بمعنى خاص لأنه هو أرسلهم ليتكلموا بالنيابة عنه وأن يسألوا الناس أن يصالحوا الله بالتوبة والإيمان اللذين أعلنهما. ولنا أن نعتبر أن كل المبشرين بالإنجيل سفراء المسيح لأنهم أُرسلوا لينادوا بشروط الخلاص. وقد جرت العادة في ممالك الأرض أن يكرم السفير الإكرام الذي يليق بملكه وكان بولس سفير ملك الملوك ولكنه مع ذلك كان مقيداً بسلاسل. وهذا لم يمنعه من أن ينادي بما وُكل إليه بكل شجاعة.
لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ هذا بيان أنه يشعر بأهمية مرسليته وأنه عالم بصعوبات القيام بعمله وأنه عالم بالتجارب التي كان عرضة لها مثل أن يسكت أو أن يكتم بعض مناداته ولذلك طلب صلوات إخوته المسيحيين لكي يتكلم كما يليق بالسفير السماوي بما يتعلق بإكرام ملكه وخير نفوس مخاطبيه الأبدي.
٢١، ٢٢ «٢١ وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ أَيْضاً أَحْوَالِي، مَاذَا أَفْعَلُ، يُعَرِّفُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ تِيخِيكُسُ ٱلأَخُ ٱلْحَبِيبُ وَٱلْخَادِمُ ٱلأَمِينُ فِي ٱلرَّبِّ، ٢٢ ٱلَّذِي أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ لِهٰذَا بِعَيْنِهِ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَحْوَالَنَا، وَلِكَيْ يُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ».
كولوسي ٤: ٧ أعمال ٢٠: ٤ و٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢ كولوسي ٤: ٨
رأى الرسول قبل ختام رسالته أن يخبرهم أنه أرسل تيخيكس ليصف لهم أحواله لئلا تضطرب أفكارهم من أمره كثيراً. إنهم علموا أنه مسجون لكنهم لم يكونوا يعملون شيئاً من أمور صحته ولا مقدار ما كان له من الراحة وما له من الفرصة لمواجهة أصدقائه والحاجات الجسدية وما له من فرص التبشير بالإنجيل.
ٱلأَخُ ٱلْحَبِيبُ وَٱلْخَادِمُ ٱلأَمِينُ فِي ٱلرَّبِّ كان تيخيكس أخاً لبولس في الإيمان وخادماً معه للإنجيل ولعله خدمه أيضاً في الجسديات. وذُكر أيضاً في غير هذا الموضع (أعمال ٢٠: ٤ وكولوسي ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢). وبيّن مما ذُكر هنالك أنه كان من رفقاء بولس الأمناء المحبوبين. ويتبين مما قيل في ع ٢٢ أنه كان مبشراً أيضاً وقادراً أن يعزيهم بتعزيات الإنجيل فضلاً عن أن يخبرهم بأمور بولس.
٢٣ «سَلاَمٌ عَلَى ٱلإِخْوَةِ، وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
١بطرس ٥: ١٤
سَلاَمٌ عَلَى ٱلإِخْوَةِ هذه تحية الرسول العادية وهي بركة أيضاً. و «السلام» يتضمن كل فوائد النعمة الإلهية.
وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ الخ أي محبة مع ما لهم من الإيمان. وطلب ذلك من الله الآب ومن ابنه يسوع المسيح معتبراً كليهما معبودين ومصدري البركة الروحية المنقذة فالذين يطلبون السلام والمحبة فوق ما لهم من الإيمان من هذين المصدرين يجدونهما لا محالة.
٢٤ «اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. آمِينَ».
تيطس ٢: ٧
ختم الرسالة بالبركة الرسولية فطلب فيها نعمة المسيح الخاصة للذين يحبونه بمحبة خالصة فائقة الوصف دائمة.
ختم رسالته لأهل كورنثوس بقوله «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُحِبُّ ٱلرَّبَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا». والختام هنا بمعناه وإن اختلف لفظاً لأن محبة المسيح هي الشرط الضروري للخلاص ونيل كل بركة. وذلك يستلزم أن يسوع هو الله لأن المحبة له تستلزم الإعجاب بصفاته والشوق إلى حضوره والرغبة في تمجيده بغيرة ووقف النفس لخدمته. فوجود هذه المحبة فينا دليل على استعدادنا للسماء. نعم إننا لا نستطيع أن نحبه الحب الذي يستحقه لكن طوبى لنا على أن شرط الخلاص ليس عظمة محبتنا بل إخلاصها. ومن الباطل بناء رجاء الخلاص على عبادة الله الخالق بلا محبة ذاك الذي أعلن نفسه لنا أوضح إعلان وبيّن سمو صفاته وأنه أخذ طبيعتنا ومات على الصليب ليفدينا وهو الآن يشفع فينا في السماء.

Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D - 70007
Stuttgart
Germany
www.call - of - hope.com