الرسالة إلى أهل غلاطية

المقدمة وفيها ستة فصول


الفصل الأول: في الكاتب


كاتب هذه الرسالة بولس الرسول بدليل قوله في بدء الرسالة «بُولُسُ، رَسُولٌ... إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ» (غلاطية ١: ١ و٢). ومما يؤيد ذلك أن أسلوبها كأسلوب سائر رسائله المعلومة واتفاق مؤرخي الكنيسة على ذلك من أول قرونها ونسبتهم ما اقتسبوه منها إليه.

الفصل الثاني: في من كتبت الرسالة إليهم


إن الذين كُتبت إليهم هذه الرسالة هم أهل كنائس غلاطية (ص ١: ٢). وغلاطية بلاد وفي وسط آسيا الصغرى وهي من أكبر أقسامها طولها نحو مئتي ميل ومعظم عرضها مئة وخمسون ميلاً وحدها من الشرق كبدوكية وبنفس ومن الجنوب بمفيلية وكيليكية ومن الغرب فريجية وليدية وميسية (وهذه الأقسام الثلاثة كاتت تسمى عند الرومانيين «أسية» وكانت عاصمتها أفسس) ومن الشمال بيثينية وبنتس تارة والبحر الأسود أخرى. فإن حدودها كانت تتغير كثيراً بالنظر إلى كونها غالبة أو مغلوبة.
وسميّت غلاطية نسبة إلى غالية (أي فرنسا) غربي أوربا لأن الغاليين استولوا عليها وسكنوها. وكانوا مشهورين بالغزو ونهبوا مدينة رومية في القرن الرابع قبل المسيح وبلغوا بغزواتهم إلى بلاد اليونان وقطعوا البوصفور من أوربا إلى أسيا سنة ٢٨٠ ق. م بطلب نيكوميديس ملك بيثينية ليساعدوه على حروبه فأقاموا ببلاده وكانوا هولاً وعذاباً لكل أسيا الصغرى. ولتضيق الوطنيين من أضرارهم تحالف عليهم من جاورهم من الملوك وأجبروهم على انحصارهم في قسم واحد من البلاد وهي القسم الذي سُمي غلاطية. وكان الغلاطيون في أيام بولس خليطاً من الغاليين والفريجين سكان البلاد الأصليين وكثيرين من اليونانيين (الذي غلبت لغتهم سواها هنا فكانت لغة البلاد). وكان فيها كثيرون من اليهود الذين سُبوا إليها أو جاءوا للتجارة وأقاموا بها. وكان أكثرهم قبل أن تنصروا وثنيين. وكانوا شديدي العبادة للأوثان يمارسون في رسومهم أموراً وحشية مؤلمة كتجريح أبدانهم وقطع بعض أعضائهم وما أشبه ذلك. وفي سنة ١٨٩ ق. م كسر الرومانيين شوكتهم حتى لم يبق لهم إلا بعض الاستقلال. وصارت غلاطية ولاية رومانية محضة في أيام أوغسطس قيصر سنة ٢٦ ق. م عند وفاة أمنتاس آخر ملوكها. واشتهر الغلاطيون بالشجاعة والنباهة والمهارة وكانوا من محبي الافتخار والخصومات كثيري التقلب سريعي التغير يحبون قريبهم اليوم ويبغضونه غداً كما كان من تصرفهم مع بولس أنهم رحبوا به كثيراً في زيارته الأولى لهم وكانوا مستعدين أن يقلعوا عيونهم ويعطوه إياها ولكن تغيروا حالاً وتركوا تعليمه واستخفوا بسلطته.
وتنصروا بواسطة بولس أيام سفره الثاني في نحو سنة ٥١ ب. م وكان مرافقاً سيلا وتيموثاوس (أعمال ١٦: ٦ وغلاطية ١: ٦ - ٨ و٤: ٤ - ١٣) وكان يومئذ متألماً من التعب والمرض (غلاطية ٤: ١٣). فقبلوه مع ما هو عليه من الضعف كملاك الله أو كيسوع المسيح نفسه (غلاطية ٤: ١٤ و١٥) ولا بد من أنه فرح بذلك كثيراً كما حزن من سرعة انقلابهم عنه. وزارهم ثانية في سفره الثالث للتبشير سنة ٥٤ أو ٥٥ وثبتهم في الإيمان بالمسيح (أعمال ١٨: ٢٣).
وكان أكثر مسيحيي غلاطية من متنصري الوثنيين كما يتبين من (ص ٤: ٨ و٩ و٦: ١٢) وبعضهم من متنصري اليهود كما يظهر من (ص ٢: ١٥ و٣: ١٣ و٢٣ - ٢٥ و٤: ٣).
وكنائس غلاطية التي كُتبت هذه الرسالة إليها ينبغي أن تكون في أمهات مدنها وما جاورها ومنها (Ancyra) أنسيرا المشهورة بمنسوجات شعر الماعز و(Tavium) تافيوم و(Pessinus) بسينوس وكانت مركز العبادة العشقية لسبيلي (Cybele) «إلاهة الأرض كلها».

الفصل الثالث: في مكان كتابة هذه الرسالة وزمانها


كُتبت هذه الرسالة في كورنثوس سنة ٥٧ أو٥٨ قرب سفره الأخير إلى أورشليم بعد أن كتب في مكدونية رسالته الثانية إلى كورنثوس وفي نحو الوقت الذي كتب فيه رسالته إلى رومية في كورنثوس نفسها.

الفصل الرابع: في الداعي إلى كتابة هذه الرسالة


دخل كنائس غلاطية بعد ما أسسها بولس معلمون من متنصري اليهود كانوا يبذلون الجهد في استمالة المسيحيين إلى حفظ الرسوم الموسوية واستخفوا بتعليم بولس وسطلته (ص ١: ١ و١١). وعلموا أن الاختتان ضروري للخلاص (ص ٥: ٢ و١١ و١٢ و٦: ١٢). ونفوا إمكان الخلاص بالنعمة دون أعمال الناموس. وكان بولس قد حذرهم شفاهاً من هؤلاء المعلمين (ص ١: ٩ و٤: ١٦ وأعمال ١٨: ٢٣). ولما لم يستفيدوا من ذلك كما يجب كتب هذه الرسالة لكي يبطل تعليم أولئك الكذبة.

الفصل الخامس: في مضمون هذه الرسالة


مضمون هذه الرسالة أمران الأول محاماة الرسول عن سلطته الرسولية والثاني إثبات تعليمه الإنجيلي وإبطال تعليم متنصري اليهود القائلين بوجوب القيام بالرسوم الموسوية.
وتنفسم هذه الرسالة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: تاريخي شخصي يثبت فيه الرسول دعوة المسيح إياه ليكون رسولاً ومختصر تصرفّه منذ آمن وذلك نحو عشرين سنة وإعلانه له التعليم الإنجيلي وشهادة سائر الرسل له في المجمع الأورشليمي (ص ١: ١ - ص ٣: ٤).
الثاني: تعليمي احتجاجي وفيه يثبت تعليم الإنجيل أن التبرير مجاني بواسطة الإيمان الحي بالمسيح وإبطال التعليم الكاذب الذي يوجب القيام بالرسوم الناموسية وأن أصحاب هذا التعليم يبدلون المسيح بموسى.
الثالث: عملي يحثهم فيه على الثبوت في الحرية المسيحية وعلى إظهار المحبة الأخوية والاتحاد والتواضع وطول الأناة ويختم الرسالة بالبركة الرسولية. وخلاصة هذه الرسالة كخلاصة الرسالة إلى رومية وهي إثبات التبرير بالإيمان بدون أعمال الناموس.
وتختلف الرسالة إلى الغلاطيين عن الرسالة إلى الرومانيين بأمرين:
الأول: إن تعليم التبرير بالإيمان في الأولى على طريق المناظرة وفي الثانية على سبيل التعليم البسيط.
الثاني: إن الرسول في الأولى يبطل الاتكال للتبرير على أعمال الناموس الموسوية وفي الثانية يبطل الاتكال لذلك على أعمال الناموس مطلقاً وأثبت في كليهما أن التبرير بالإيمان بالمسيح.

الفصل السادس: في فوائد هذه الرسالة


إن فوائد هذه الرسالة غير مقصورة على كنائس غلاطية بل هي لإفادة الكنيسة كلها في كل مكان وزمان. ومن أهم فوائدها ضرورية موت المسيح ليكون كفارة عنا إثباتاً لعدل الله وحقه وقداسته مع تخليصه للخاطئ. وبيان قيمة الإيمان في أمر خلاص الأثيم وتبيين نسبة الناموس إلى الإنجيل وإظهار حقيقة الحرية المسيحية والتمييز بينهما وبين الاستخفاف بالشريعة الأدبية الأبدية وأن الحر هو الذي يحرره الحق وكل من سواه عبد على حد قول الشاعر:
الحر من حرره الحق وغيره من ساده الرق


اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ


مخاطبة الرسول وتسليمه الرسولي (ع ١ - ٥). وبيان تعجبه من ارتداد الغلاطيين واحتجاجه على التعليم الفاسد المخالف للإنجيل (ع ٦ - ١٠). ودعوته وسلطته الرسوليتان (ع ١١ - ٢٤)
مخاطبة الرسول وتسليمه ع ١ إلى ٥


١ «بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ ٱلآبِ ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
بُولُسُ هو اسم الرسول اليوناني واسمه العبراني شاول.
رَسُولٌ بأسمى معانيه وأخصها على ما ورد في تفسير (رومية ١: ١) وذكره بولس بياناً لكونه مساوياً لكل من الاثني عشر الذين اختارهم المسيح لمرافقته والتعلم منه.
لاَ مِنَ ٱلنَّاسِ هذا بيان أن أصل سلطانه الرسولي لم يكن من الناس والمرجّح أن المعلمين الكاذبين ادعوا أنه ليس كسائر الرسل وأنه أخذ رسوليته من مصدر بشري ولهذا نفى كونه رسولاً باختيار الناس.
وَلاَ بِإِنْسَانٍ أي يتوسط أحد الناس من الرسل والمشايخ في أورشليم أو غيرهم بين الله وبينه توصلاً إلى الرسولية كما أخذ هرون سلطاته بواسطة موسى (لاويين ص ٨) وتيموثاوس بواسطة بولس (٢تيموثاوس ١: ٦). وليس في ذلك ما يمنع أن الله يستخدم وسائط بشرية لإثبات دعوته لرسوله. ومن ذلك فعله حنانيا في دمشق وهو وضع يديه على بولس إشارة إلى دعوته الإلهية (أعمال ٩: ١٧). وما فعل شيوخ كنيسة أنطاكية بأمر الروح القدس وهو أنهم أفرزوه وبرنابا لخدمتهما المخصوصة بين الأمم وهذا ليس بدعوته رسولاً لأنه كان قد دُعي كذلك آنفاً.
بَلْ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أشار بهذا إلى ما حدث له على طريق دمشق يوم ظهر له بأسلوب خارق العادة ودعاه المسيح رسولاً باعتبار كونه «الكلمة» الأزلي الذي به منح الله للناس نعمة كالخلق والفداء والوحي (يوحنا ١: ٣ و١كورنثوس ٨: ٦ وعبرانيين ١: ٢).
إن أعداء بولس حقروه بدعوى أنه دون الرسل الذين اختارهم المسيح وعلمهم شفاهاً فصرّح بولس أنه معادل لهم بأن المسيح دعاه كما دعاهم وعلمه كما علمهم. وقول الرسول أنه «لم يدع رسولاً من إنسان بل بيسوع المسيح» أوضح دليل على أنه اعتبر المسيح إلهاً.
ٱللّٰهِ ٱلآبِ إن الآب كان العلة الأولى والمسيح العلة الثانية لكل ما عمله باعتبار كونه فادياً ووسيطاً ورأساً للكنيسة لأنه «لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ. لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (رومية ١١: ٣٦). وهو الآب بنسبته الأزلية إلى المسيح وأب لمن صاروا أولاداً لله بالولادة الجديدة والإيمان بالمسيح (ص ٤: ٦ ويوحنا ١: ١٣ ورومية ٨: ١٥).
ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ علة ذكره إقامة الله للمسيح من الأموات في نبإ دعوته إياه رسولاً كونها من العطايا التي اقترنت بقيامة المسيح وصعوده على وفق قوله «صَعِدَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى ٱلنَّاسَ عَطَايَا»َ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ... وَهُوَ أَعْطَى ٱلْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً» (أفسس ٤: ٨ و١١ انظر أيضاً رومية ١: ٤ و٥). أو كون إقامته تكميلاً لارتفاعه واشتراكه في مجد أبيه مع دعوته إياه بياناً أن المسيح دعاه في وقت تمجده في السماء لا في وقت اتضاعه على الأرض.
٢ «وَجَمِيعُ ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مَعِي، إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ».
١كورنثوس ١: ١ و٢كورنثوس ١: ١ وفيلبي ١: ١ و٢: ٢٢ و٤: ٢١ وكولوسي ١: ١ و١كورنثوس ١٦: ١
وَجَمِيعُ ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مَعِي وهم رفقاؤه في السفر ومعاونوه في التبشير. ولا نعلم يقيناً من هم والمرجّح أن بعضهم هم الذين ذُكروا في (أعمال ٢٠: ٤) ورافقوه في سفره الأخير إلى أورشليم الذي شرع فيه على أثر كتابة هذه الرسالة من كورنثوس وهم سوباترس البيري وأرستخرس وسكوندس التسالونيكيان وغايوس الدربي وتيموثاوس وتيخيكس وتروفيمس وربما كان منهم تيطس. وعلة مشاركتهم له في التسليم ليست إثبات رسوليته بل الإكرام لهم وبيان أنهم موافقون له في ما كتبه على المعلمين الكاذبين الذين غايتهم أن يمزجوا الدين المسيحي بالرسوم الموسوية.
إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ أي كنائس مدنها الكبيرة أنسيرا وتافيوم وبسينوس وضواحيها (انظر المقدمة في ٢ صغفحة ٣٨٢).
والتحية في هذه الرسالة أخصر تحيات الرسول في سائر رسائله وهي خالية من عبارات المدح التي أتاها في غيرها لمن يستحق المدح (١كورنثوس ١: ٢ و٤ و٧). وخالية من نعوت الاعتبار والمحبة كنعت الرومانيين بأنهم أحباء الله وأهل كورنثوس «بالقديسين» وأهل أفسس «بالقديسين» وأهل أفسس «بالقديسين والمؤمنين». وعدل عن ذلك لأنه رأى الغلاطيين مستحقين اللوم أكثر من المدح أو لانحصار نفسه بما امتلأ قلبه به من دواعي الملامة لهم لارتداهم عن الإنجيل.
٣ «نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ، وَمِنْ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١: ٧ و١كورنثوس ١: ٣ و٢كورنثوس ١: ٢ وأفسس ١: ٢ وفيلبي ١: ٢ وكولوسي ١: ٢ و١تسالونيكي ١: ١ و٢تسالونيكي ١: ٢ و٢يوحنا ٣
هذه الآية هي البركة الرسولية وسبق تفسيرها في تفسير الرسالة إلى رومية (رومية ١: ٧).
٤ «ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا، لِيُنْقِذَنَا مِنَ ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ ٱلشِّرِّيرِ حَسَبَ إِرَادَةِ ٱللّٰهِ وَأَبِينَا».
متّى ٢٠: ٢٨ ورومية ٤: ٢٥ وص ٢: ٢٠ وتيطس ٢: ١٤ إشعياء ٦٥: ١٧ ويوحنا ١٥: ١٩ و١٧: ١٤ وعبرانيين ٢: ٥ و٦: ٥ و١يوحنا ٥: ١٩
ذكّر الرسول بهذه الآية الذين أرادوا الرجوع إلى عبودية الناموس غاية الكفارة التي يظهر أنهم نسوها.
ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ أي سلمها للموت اختياراً بلفظ ما في (تيطس ٢: ١٤). وبمعنى قول المسيح «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً» (متّى ٢٠: ٢٨). وقول الرسول «ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (١تيموثاوس ٢: ٦). وكون كفارة المسيح كانت باختياره مما يجب أن ننتبه له أبداً لأنه من المحال أن يجبر الله ابنه البار على أن يتألم عن الخاطئ. وبذل المسيح نفسه باحتمال العناء والحزن والفقر والهوان والموت من أجلنا.
لأَجْلِ خَطَايَانَا أي بسبب خطايا البشر ليكفر عنهم ويحررهم من قصاص الخطيئة وسلطتها. فخطايا الناس سبب الكفارة بمعنى أنه لولاها لم يكن من داع لعمل الفداء من أوله إلى آخره. فموت المسيح كان ذبيحة لأجل الخطايا لكي لا يموت الخطأة بها إلى الأبد. ومات لأجلها ليرفعها عن المؤمنين باعتبار كونها علة دينونتهم ولكي لا تتسلط عليهم وتستعبدهم. والمسيح كفّر عنا كل خطايانا صغيرة وكبيرة خفية وظاهرة ماضية وحاضرة. فلو اعتبر الغلاطيون حقيقة هذه الكفارة وغايتها لرأوا أنها تغنيهم عن الرجوع إلى النظام الاستعدادي الذي نادى به موسى والرسوم والذبائح اليهودية التي كانت تشير إلى الذبيحة العظيمة الواحدة التي قدمت وأكملت إلى الأبد المقدسين.
لِيُنْقِذَنَا هذا مثل إنباء المسيح لبولس بما يعمل فيه وبواسطته (أعمال ٢٦: ١٧). ومعنى «الإنقاذ» التنجية وغاية الإنجيل المناداة بالتنجية من عبودية هائلة.
مِنَ ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ ٱلشِّرِّيرِ المراد بهذا «العالم» ما يُشاهد من النظام الأدبي وقد وصفه يوحنا بقوله إن «كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي ٱلشِّرِّيرِ» (١يوحنا ٥: ١٩). فوصفه كما وصفه بولس هنا لأنه فيه يكمل الشيطان والخطيئة والموت والشهوات الرديئة والكذب والغايات الفاسدة وهو عالم لا يحب الله ولا يطيعه. ووصفه «بالشر» مقابلة للعالم العلوي المستقبل حيث تملك القداسة والسعادة الأبدية. والمسيح لم يقصد بإنقاذنا من هذا العالم نقلنا منه باعتبار كونه مسكناً بل تخليصنا من سلطته علينا حتى لا نخضع لشرائعه وعوائده ونشترك في لذاته المحرمة وأباطيله ونُدان بدينونته ونهلك بهلاكه. والعالم الحاضر يبقى عالم التجربة والضيقات والمصائب إلى أن يجيء المسيح المجيء الثاني المجيد (رومية ١٢: ٢ وأفسس ٢: ٢٢ و١تيموثاوس ٦: ١٧ وعبرانيين ٦: ٥).
إن الغلاطيين برغبتهم في الرجوع إلى عبودية الناموس رفضوا إنقاذ المسيح (ص ٣: ١٣).
حَسَبَ إِرَادَةِ ٱللّٰهِ وَأَبِينَا مصدر هذه الإرادة برهان على جودتها فهو خالقنا وأبونا أيضاً (يوحنا ٦: ٣٨ و٣٩ و١٠: ١٨). وكون إنقاذنا حسب إرادته دليل قاطع على أنه ليس من أفكارنا ولا إرادتنا ولا أعمالنا وعلى أن عمل الفداء ليس من حكمة إنسان أو تدبير بشر بل إنه بجلمته من الله. إن الله أراد أن يبذل المسيح نفسه من أجلنا. ونسبة الغلاطيين إلى الله باعتبار كونه خالقهم وكونهم خليقة يده ورعية ملكوته ونسبتهم إليه باعتبار كونه أباهم وكونهم أولاده تُوجب عليهم أن يؤثروا إرادته على إراداتتهم وأن يعدلوا عن رفض الخلاص بالإيمان الذي عيّنته إرادته واستبدلوا به الخلاص بأعمال اناموس.
٥ «ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ».
هذه الآية تمجيد لله أو ثناء عليه اعتاد الرسول إيراده عند ذكره تعالى وذكر أعماله المجيدة (رومية ١: ٢٥ و٩: ٥ و٢كورنثوس ١١: ٣١).

تعجب الرسول من ارتداد الغلاطيين واحتجاجه على التعليم الفاسد ع ٦ إلى ١٠


٦ «إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هٰكَذَا سَرِيعاً عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ ٱلْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ».
رومية ٨: ٣٠ و٩: ٢٤ و٢٥ و١كورنثوس ٧: ١٥ و١٧ وع ١٥ وص ٥: ٨ و١بطرس ١: ١٥ و٢بطرس ١: ٣
بعدما ذكر الرسول الغلاطيين بأعظم ما بشرهم به وآمنوا به من حقائق الإنجيل وهو الخلاص بالنعمة أظهر تعجبه من انصرافهم عنه.
إِنِّي أَتَعَجَّبُ توقع الرسول أن يرى منهم أفضل مما أتوه أي أن يكونوا ثابتين في الإيمان نامين في كل الفضائل معلمين غيرهم ما علمهم هو من أن الخلاص بالإيمان. واكتفى الرسول بقوله «أتعجب» تلطفاً لأنهم استحقوا بما فعلوا أشد التوبيخ وحمله تصرفهم على الأسف والموجدة.
تَنْتَقِلُونَ هٰكَذَا سَرِيعاً لا نعلم متى أخذوا يرتدون عن الحق الإنجيلي لكننا نستنتج من قوله «سريعاً» أن ارتدادهم كان قبل أن كتب إليهم بوقت وجيز. وهذا يمنع من أنهم ارتدوا على أثر تنصرهم لأنهم تنصروا منذ ست سنين قبل كتابة هذه الرسالة ويضعف أنهم ارتدوا على أثر زيارته الثانية لأنها كانت قبل ذلك بثلاث سنين فالأرجح أن ذلك الارتداد كان على أثر دخول المعلمين المفسدين فتعجب من أنهم بقليل من مخالطتهم انقلبوا في وقت وجيز عن تعليم الإنجيل الحق إلى تعليمهم الباطل. فالأثقال في الآية انتقال عقلي في عقائدهم وآرائهم الدينية. وشهادة المؤرخين الرومانيين على الغلاطيين موافقة لقول بولس هنا فإنهم اشتهروا بسرعة الأنتقال من رأي إلى آخر.
عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ أي الله لأنه دعاهم إلى نعمة المسيح كما قيل في (رومية ١: ٦ و١تسالونيكي ٢: ١٢ و٢تسالونيكي ٢: ١٤ و٢تيموثاوس ١: ١٩).
بِنِعْمَةِ ٱلْمَسِيحِ أظهر المسيح نعمته ببذل نفسه اختياراً وتسليمها للإهانة والموت بمجرد محبته للخطأة. فالمناداة بمحبة المسيح المجانية غير المحدودة هي الواسطة التي بها يدعو الله الناس إلى الإنجيل الحق.
إِنْجِيلٍ آخَرَ وصفه بأنه آخر لأنه ينفي نعمة المسيح وينادي بطريق خلاص غير طريق الاتكال على استحقاق المسيح وموته ويجعل حفظ الرسوم الموسوية ضرورياً للخلاص. وسماه «إنجيلاً» لأن المعلمين الكاذبين ادّعوا أنه كذلك وأنه هو الذي بشّر به الرسل.
٧ «لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ».
٢كورنثوس ١١: ٤ أعمال ١٥: ١ و٢٤ و٢كورنثوس ٢: ١٧ و١١: ١٣ وص ٥: ١٠ و١٢
لَيْسَ هُوَ آخَرَ قال هذا احتراساً من أن يفهموا مما قاله قبلاً أنه يوجد أناجيل كثيرة فصرّح بأنه ليس في الوجود سوى إنجيل واحد حق وأن لا إمكان لوجود غيره. فالذي نادوا به لا يستحق أن يسمى إنجيلاً لنقصانه بخلوه من المبدإ الجوهري ومناداته بطريق آخر للتبرير أمام الله. إن الإنجيل الحق علّم أن الخلاص بمجرد الإيمان بالمسيح وإنجيلهم علّم أن الخلاص بالرسوم الموسوية أيضاً أي أننا نخلص بالمسيح وبالختان معاً.
قَوْمٌ أي أناس يمزجون الإنجيل بالرسوم اليهودية.
يُزْعِجُونَكُمْ أي يقلقونكم بدعواهم أن لهم إنجيلاً غير الذي أنادي به وأحسن منه ويزرعون الشكوك في قلوبكم فينشأ عنها التعصب والخصومات والانشقاقات في الكنيسة.
يُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا أي يغيروا ويبدلوا فيجعلوا التبرير بالأعمال بدلاً من التبرير بالإيمان والعبودية لرسوم الشريعة الموسوية بدلاً من الحرية التي اشتراها لنا المسيح بقيامه بكل مطاليب الناموس عنا. وليس مراد بولس أن المعلمين المفسدين يعلنون أن غايتهم تحويل إنجيل المسيح بل أن تحويله نتيجة تعليمهم.
إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ نُسب الإنجيل إلى المسيح لأنه منه ولأنه هو موضوعه ولأن الإنجيل البشارة بالمصالحة لله بواسطة دم المسيح وحده.
٨ «وَلٰكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا».
١كورنثوس ١٦: ٢٢
نَحْنُ أي بولس وحده أو هو والإخوة الذين معه (ع ٢) الموافقون له على تعليمه. ودفع في هذه الآية التهمة التي اتهمه بها المعلمون الكاذبون وهي أنه بعد ما بشرّهم وذهب عنهم غيّر اعتقاده فبشر بإنجيل غير الإنجيل الذي بشرهم به أولاً وأنه علمهم أولاً أنهم غير مكلفين بالرسوم الموسوية وأنه اقتنع بعد ذلك بأنهم مكلفون بتلك الرسوم وأنه وافق أولئك المعلمين على آرائهم.
إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ على فرض صحة ما اتهموني به من تغيير الاعتقاد والمناداة بإنجيل آخر فإني أحكم على نفسي بأني مذنب خائن مستوجب القطع من الكنيسة ومن المسيح.
أَوْ مَلاَكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ على فرض المحال وهو أن ملاكاً مقدساً من السماء وهو يزيد كل المخلوقات حكمة يأتي إلى الأرض ويبشر بما ينافي الإنجيل. ولعل أولئك المفسدين سندوا تعليمهم بقولهم أننا اتبعنا في تعليمنا الرسل بطرس ويوحنا ويعقوب فرد عليهم بولس ما ذُكر فكأنه قال هل تسندون تعليمكم على الرسل فإني لا أبالي بمن يعلم ما ينافي الإنجيل ولو كان ملاكاً من السماء. وغاية الرسول من كلا الفرضين أن يؤكد لهم صدق الإنجيل كما بشرهم به وأظهر بذلك إيمانه بصحته وغيرته على طهارته ونفوره من تحويله.
أَنَاثِيمَا سبق الكلام على هذه الكلمة في تفسير (١كورنثوس ١٢: ٣ و١٦: ٢٢) فارجع إليه. ووضع الملاك المفروض مخالفته للإنجيل تحت قوله «أناثيما» يمتنع من أنها مقصورة على القطع من الكنيسة. وأتى بولس هذا التوكيد الشديد لصحة الإنجيل الذي بشر به لتيقنه محالية أن ينقض الله كلامه. فقول بولس هنا كقول موسى في (تثنية ١٣: ١ - ٣) و قول المسيح في (متّى ٢٤: ٢٣ - ٢٥) وقول يوحنا الرسول في (رؤيا ٢٢: ١٨ و١٩).
إن كان أحد يلوم بولس على كون كلامه مثل لعنة لمخالفي الإنجيل فليذكر أنه رسول تكلم عن وحي الله ومما يخفف شدته أنه أدخل فيه نفسه ورفقاءه على فرض المخالفة. وقول المسيح على الفريسيين الذين أبطلوا شريعة الله بتقاليدهم يشبه قول بولس هنا على المخالفين للإنجيل.
٩ «كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ ٱلآنَ أَيْضاً: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا».
تثنية ٤: ٢ و١٢: ٣٢ و١٣: ١ - ١١ وأمثال ٣٠: ٦ ورؤيا ٢٢: ١٨
كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا يمكن أن الرسول أشار بهذا إلى ما قاله للغلاطيين في زيارته لهم قبلاً والمرجح أنه أشار إلى ما قاله في الآية الثامنة وكرره توكيداً. ولا برهان على أنهم احتاجوا إلى هذا التحذير يوم كان عندهم وإلا لم يقل أنه يتعجب من انتقالهم.
بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ قال في الآية الثامنة «بغير ما بشرناكم» وقال هنا «بغير ما قتلم» ليبين زيادة إثمهم بارتدادهم عن الإنجيل بعد ما سمعوه بل بعد ما قبلوه واعترفوا بإيمانهم به وسلكوا بموجبه فإذاً ما علمه المعلمون الكاذبون مناف لما اعترف به الغلاطيون أولاً.
١٠ «أَفَأَسْتَعْطِفُ ٱلآنَ ٱلنَّاسَ أَمِ ٱللّٰهَ؟ أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ ٱلنَّاسَ؟ فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي ٱلنَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ».
١تسالونيكي ٢: ٤ ويعقوب ٤: ٤
أتى بهذه الآية جواباً على الذين اتهموه أنه غيّر آراءه الأولى وتبشيره الأول لكي يستميل الناس إليه وينشئ حزباً يتبعه وبياناً لعلة ما أتاه من الشدة في كلامه.
أَفَأَسْتَعْطِفُ ٱلآنَ ٱلنَّاسَ أشار بقوله «الآن» إلى ما قاله في الآيتين الثامنة والتاسعة فكأنه قال أفهذا كلام من يريد استعطاف الناس. والاستفهام إنكاري يفيد أنه لم يشأ أن يرضي الناس وإلا لكان كلامه على غير هذا الأسلوب.
أَمِ ٱللّٰهَ أي بل أستعطف الله لأنه يجب أن أستعطفه وأنا في الحقيقة باذل جهدي في استعطافه بعملي وتعليمي.
أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ ٱلنَّاسَ منذ آمنت بالمسيح ودُعيت رسولاً والاستفهام هنا إنكاري. والمعنى إن كان أحد يظن أني قبل أن تنصرت طلبت إرضاء مشائخ اليهود بمقاومتي المسيح وكنيسته فإن أعمالي منذ تنصرت إلى الآن تشهد أني عدلت عن ذلك.
دعاهم الرسول بسؤاله إياهم الحكم بأنه هل طلب إرضاء الناس أو طلب إرضاء الله إلى أن يشهدوا له من اختبارهم إياه بأنه طلب أن يرضي الله وأن يفحموا المشتكين عليه كذباً بأنه طلب أن يرضي الناس.
فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي ٱلنَّاسَ أي بعد إيماني بالمسيح وقد تقضى على ذلك مدة عشرين سنة. يريد أنه عدل عن إرضاء الناس منذ آمن بالمسيح إلى إرضاء الله واستمر على ذلك كل تلك المدة أفيُعقل أنه يرجع عن ذلك. ولو كان بعد إيمانه يحب أن يرضي الناس لم يكن ما يأتي.
لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ رأى الرسول من المحال أن يرضي الإنسان الناس لأغراض شخصية ويكون مع ذلك عبداً للمسيح. نعم إنه يجب على المسيحي أن يرضي الناس بشرط ابتغاء بنيانهم في الإيمان الإنجيلي وتمجيد الله (رومية ١٥: ١ - ٣) لا لتلك الأغراض. ورغبة بولس في أن يكون عبداً للمسيح ظاهرة مما فعله واحتمله على ما ذُكر في (١كورنثوس ٤: ٩ - ١٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٣ - ٣٣).

بيان دعوته وسلطته الرسوليتين ومحاماته عنهما من أعدائه ع ١١ إلى ٢٤


شغل الرسول بقية هذا الأصحاح وأربع عشرة آية مما يليه بهذا الموضوع فبرهن أن تعليمه إلهي لا بشري بأنه لم يتعلم ما علمه قبل تنصره (ع ١٣ و١٤). ولم يتعلمه من بشر في وقت اهتدائه لأنه ذهب على أثره إلى العربية لكي ينفرد بالله (ع ١٥ - ١٧). ولم يتعلمه من الرسل في أورشليم حين أتى إليها أول مرة بعد تنصره لأنه لم يجتمع إلا ببطرس ويعقوب وقتاً قصيراً جداً (ع ١٨ - ٢٤).
١١، ١٢ «١١ وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. ١٢ لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ١٥: ١ و١كورنثوس ١٥: ١ و٣ وع ١ و١كورنثوس ١١: ٢٣ وأفسس ٣: ٣ و١تسالونيكي ٤: ١٥
أبان في هاتين الآيتين ما شرع في بيانه وهو أن تعليمه من الله لا من بشر.
أُعَرِّفُكُمْ اعتاد الرسول استعمال هذه العبارة مقدمة لأمر ذي شأن (١كورنثوس ١٥: ١ و٢كورنثوس ٨: ١).
أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ خاطبهم كذلك بغية أن يستميلهم من ضلالهم ليتحدوا معاً في إيمان واحد.
ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ هذا متعلق بقوله «ما بشرناكم» و «ما قبلتم» (ع ٨ و٩) وهو الإنجيل الذي قال فيه من بشّر بغيره من إنسان أو ملاك فليكن أناثيما.
إِنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ أي ليس بشرياً لا في أصله ولا في حقيقته.
لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ أي لم آخذه عن بشر لا كتابة ولا سمعاً ولم يعلمني إياه إنسان ولم أمزجه بآرائي ولم أتعلمه وأنا في مدرسة ولا وأنا جالس عند قدمي غمالائيل. نعم إن بولس تعلم من الناس العلوم والفنون وشريعة موسى وتقليدات الشيوخ لكنه لم يتعلم الإنجيل. ولا ريب في أنه قال ذلك دفعاً لدعوى البعض أنه دون الرسل الذين علمهم المسيح بنفسه وأن كل ما علمه هو أخذه عمن أخذوه عن المسيح.
بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي إعلان مخصوص كما قال في (١كورنثوس ١١: ٢٣ و١٥: ٣ و١تسالونيكي ٤: ١٥) وحصل على هذا الإعلان وهو ذاهب إلى دمشق (أعمال ص ٩) وفي هيكل أورشليم (أعمال ٢٢: ١٧ - ٢١). والأرجح أنه حصل على أكثره وهو في العربية مدة ثلاث سنين كمدة تعليم المسيح لسائر الرسل (أعمال ٩: ١٧ و١٨) وإلا فليس من سبب ظاهر لبقائه فيها كل تلك المدة ولا لذكره إياه أمراً ذات شأن في أنبائه بأمور نفسه. والمرجح أن الإعلان لم ينقطع عنه كما ذُكر في (٢كورنثوس ١٢: ١).
والذي تعلمه وهو ذاهب إلى دمشق أخصه أمران الأول أن يسوع هو المسيح والثاني وجوب الإيمان به. ولكن الذي يظهر من سعة معرفته المسيحية في رسائله هو أنه توالت عليه الإعلانات كثيراً. ولا ريب في أن معرفته الناموس على ما هو في العهد القديم واختباره استحالة التبرير به مهد له الطريق إلى أن يفهم الحقائق الإنجيلية أحسن فهم ويتحقق مناسبته وكفايته للقيام بما يحتاج إليه البشر الخطأة وهبة السلام لضمائرهم المتعبة.
١٣ «فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا».
أعمال ٨: ٣ و٩: ١ و٢١ و٢٢: ٤ و٢٦: ١١ و١تيموثاوس ١: ١٣
فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ كان نبأ بولس قد انتشر في كل مكان فيه يهود لأهمية أمره ولأنه كان يقصه على الناس حيث نادى بالإنجيل بياناً لأسباب تركه المذهب اليهودي (أعمال ٢٢: ٣ - ٢١ و٢٦: ٤ - ٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٨ - ١٠).
بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ أي تصرفي وأنا يهودي.
أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ الخ كما أخبر لوقا (أعمال ٨: ٣ و٩: ١ و٢). وأراد بقوله «أتلفها» أنه قصد استئصالها فهو كقوله «ٱضْطَهَدْتُ هٰذَا ٱلطَّرِيقَ حَتَّى ٱلْمَوْتِ» (أعمال ٢٢: ٤). وذكره أن الذي اضطهده «كنيسة» يدل على أنه اعتبر كل كنائس المؤمنين حتى أفرادهم كنيسة واحدة. ونسب الكنيسة إلى الله مع أنها مؤلقة من المؤمنين بالمسيح إشارة إلى أنه اعتقد أن المسيح الله وأن الله نفسه هو منشئ الكنيسة وأنه هو الذي أرسل المسيح ليفديها والروح القدس لينيرها. ومحصل احتجاجه أنه يستحيل أن مضطهداً للدين المسيحي مثله يصير من أتباعه ما لم تؤثر فيه قوة إلهية.
١٤ «وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي».
أعمال ٢٣: ٣ و٢٦: ٩ و فيلبي ٣: ٦ إرميا ٩: ١٤ ومتّى ١٥: ٢ ومرقس ٧: ٥ وأعمال ٢٣: ٦ و٢٦: ٥
أَتَقَدَّمُ... عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي في معرفة الشريعة المكتوبة وما تواتر من تقاليد الشيوخ وكان يحامي شديد المحاماة عن الديانة اليهودية بغيرة تزيد على غيره أترابه أي المساوين له في السن من اليهود. ويوافق ذلك قوله «وَكُنْتُ غَيُوراً لِلّٰهِ كَمَا أَنْتُمْ جَمِيعُكُمُ ٱلْيَوْمَ. وَٱضْطَهَدْتُ هٰذَا ٱلطَّرِيقَ حَتَّى ٱلْمَوْتِ، مُقَيِّداً وَمُسَلِّماً إِلَى ٱلسُّجُونِ رِجَالاً وَنِسَاءً» (أعمال ٢٢: ٣ و٤) وقوله أيضاً «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، أَنَا فَرِّيسِيٌّ ٱبْنُ فَرِّيسِيٍّ» (أعمال ٢٣: ٦). وقوله «مِنْ جِهَةِ ٱلْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ ٱلْعِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ ٱلنَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ. مِنْ جِهَةِ ٱلْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ ٱلْكَنِيسَةِ» (فيلبي ٣: ٥ و٦).
أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي أراد بآبائه الفريسيين لأنه ابن فريسي. وذكر المسيح تلك التقليدات في (متّى ١٥: ٢ - ٦ وفي مرقس ٧: ٣ - ١٣) وقال إن الفريسيين أبطلوا ناموس الله به.
١٥، ١٦ «١٥ وَلٰكِنْ لَمَّا سَرَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ ١٦ أَنْ يُعْلِنَ ٱبْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً».
إشعياء ٤٩: ١ و٥ وإرميا ١: ٥ وأعمال ٩: ١٥ و١٣: ٢ و٢٢: ١٤ و١٥ ورومية ١: ١ و٢كورنثوس ٤: ٦ أعمال ٩: ١٥ و٢٢: ٢١ و٢٦: ١٧ و١٨ ورومية ١١: ١٣ وأفسس ٣: ٨ متّى ١٦: ١٧ و١كورنثوس ١٥: ٥٠ وأفسس ٦: ١٢
أخذ بولس يبين بالإيضاح الوافي كيف تغير بمجرد فعل الله بدون قصد أو عمل من نفسه فتحول من فريسي متحمس ومضطهد كنيسة المسيح إلى مسيحي ورسول للمسيح.
لَمَّا سَرَّ ٱللّٰهَ بمقتضى اختياره بلا سبب خارجي.
ٱلَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي أي اختارني وخصصني من سائر الناس لأكون رسولاً (رومية ١: ١) منذ أبدأني. وقوله هنا كقول إشعياء على نفسه «ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلْبَطْنِ دَعَانِي. مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي ذَكَرَ ٱسْمِي» (إشعياء ٤٩: ١). وقيل مثله في إرميا (إرميا ١: ٥) ويوحنا المعمدان (لوقا ١: ١٥). وقضاء الله أزلي ولكن إجراءه في وقت معين كما أجراه في تعيين بولس فكان بعضه يوم ميلاده الطبيعي وبعضه يوم ميلاده الروحي. وإفرازه من بطن أمه يمنع من أن يكون اختياره متوقفاً على استحقاقه.
وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ كانت هذه الدعوة يوم كان سائراً إلى دمشق وكانت بمجرد النعمة لأنه كان يومئذ مقاوماً لله ولمقاصده أشد المقاومة.
أَنْ يُعْلِنَ ٱبْنَهُ «أن» وصلتها في تأويل مصدر هو فاعل «سر». وإعلان ابنه لبولس تبيينه له أن يسوع هو المسيح وتحقيقه له سمو مقام المسيح وحقوقه وتأهيله إياه لأن يكون مبشراً به. وطريق هذا الإعلان مفصّل في (أعمال ٩: ١ و٢).
فِيَّ أي في قلبي ووجداني بواسطة الروح القدس. هذا فضلاً عن ظهور المسيح حقيقة أمام عينيه (٢كورنثوس ٤: ٦). وهذا الإعلان حمله على أن يؤمن به وأن يتيقن كل التيقن أن يسوع هو المسيح وهذا الذي قدره أن يحتمل كل أتعابه وبلاياه بلا اكتراث إلى آخر حياته وأن يختم إيمانه بدمه.
لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ لهذا دعي أن يكون رسولاً في ساعة إيمانه كما يتبين من (أعمال ٢٤: ١٦ - ١٨). وأُثبتت هذه الدعوة برؤيا رآها في أورشليم (أعمال ٢٢: ٧) فأناره الله ليكون منيراً وأعلن له ابنه ليعلنه لغيره (أعمال ٩: ١٥). وتعيينه مبشراً للأمم لم يمنعه من تبشير اليهود أولاً وكان ذلك أحسن وسيلة لتبشير الأمم. وكان أكثر المؤمنين الأولين في كل مدينة من متنصري اليهود والدخلاء وكان هؤلاء يساعدونه على التعليم للخارجين وتدبير الكنائس وجذب الأمم إلى المسيح.
لِلْوَقْتِ أي لم يصعد على أثر تنصره إلى أورشليم.
لَحْماً وَدَماً أي أحداً من البشر شاباً أو شيخاً ضعيفاً أو رفيعاً جاهلاً أو عالماً. وكثيراً ما يعبر «باللحم والدم» عن الضعف الإنساني أو التعرض للضلال (متّى ١٦: ١٧ وأفسس ٦: ١٢ وعبرانيين ٢: ١٤). وقد يعبر به عن الطبيعة الخاطئة. والمعنى به هنا ما ذكرنا أولاً وهو بيان لاستقلاله عن البشر واستغنائه عن إرشادهم له. أما حنانيا فلم يكن منه سوى أن عمده ووضع يديه عليه (أعمال ٩: ١٥ - ١٩).
١٧ «وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى ٱلرُّسُلِ ٱلَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ ٱنْطَلَقْتُ إِلَى ٱلْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ».
وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى ٱلرُّسُلِ أي إنه لم يذهب حال تنصره إلى تلك المدينة ليستشير الرسل ويتعلم منهم مبادئ الديانة المسيحية.
كانت أورشليم مركز دين الأمة اليهودية كما كانت مركزهم السياسي وكذا كانت أول مراكز الدين المسيحي فكانت كنيستها أم الكنائس وبقيت زماناً طويلاً مقاماً لأكثر الرسل.
ٱلَّذِينَ قَبْلِ في الرسولية ويظهر من هذا أنه اعتبر نفسه وقتئذ رسولاً مثله مساوياً لهم في كل شيء سوى وقت الدعوة.
ِبَلِ ٱنْطَلَقْتُ إِلَى ٱلْعَرَبِيَّة نستنتج مما كتبه لوقا في سفر الأعمال أن بولس أقام أياماً في دمشق بعد إيمانه وأنه بشّر اليهود في المجمع هنالك بأن يسوع هو المسيح وأنه بعد رجوعه إلى دمشق بشرهم بأكثر مجاهرة حتى اضطهدوه وأجبروه على الهرب (أعمال ٩: ٢٣ و٢كورنثوس ١١: ٣٢ و٣٣). والمراد «بالعربية» هنا البادية الممتدة من جنوب دمشق أو اليهودية إلى جبل حوريب. والله لم يلهم لوقا بأن يكتب كل أمور سائر الرسل فلم يذكر هذا السفر ولعل علة ذلك كونه متعلقاً بحياته الروحية الشخصية فلا أهمية له في بيان أعماله. والقصد من ذهابه إلى هنالك أن يخلو بالله ويتقوى للأخذ في عمله ويتعلم منه.
ولم نخبر في أي جزء من العربية سافر بولس ولكن بعضهم ظن أنه ذهب إلى حوريب مكان إعطاء الشريعة متمثلاً بموسى وإيليا اللذين انفردا هناك (خروج ٣: ١ و١ملوك ١٩: ٨). وحيثما كان منها فالأرجح أنه شغل الوقت بالصلاة والتأمل ومراجعة أسفار العهد القديم بإرشاد الروح القدس ليرى كيف تمت رموزه ونبواته بيسوع الناصري. وأنه أظهر المسيح له هنالك نفسه وتكلم معه (انظر ع ١٢) وكان الرسل الذين قبله يتعلمون من المسيح مدة ثلاث سنين ونصف سنة وهم يجولون معه في اليهودية والجليل وكذلك بولس كان في مدرسة المسيح يتعلم منه في السنين الثلاث التي تقضت عليه في العربية.
رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ هي مدينة من أقدم مدن العالم عُرفت منذ أيام إبراهيم (تكوين ١٤: ١٥) أخذها داود (٢صموئيل ٨: ٥ و٦) واستولى عليها الرومانيون سنة ٦٠ ق. م. والأرجح أنها كانت في أيام بولس هذه (أي سنة ٤٠ ب. م) تحت سطلة الحارث الغساني (أعمال ٩: ٢ و٢كورنثوس ١١: ٣٢).
١٨ «ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً».
أعمال ٩: ٢٦ أعمال ٩: ٢٨ و٢٢: ١٧ إلى ٢٢
بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ من يوم تنصره لا رجوعه من العربية ولا نعلم كم تقضى عليه من تلك المدة في دمشق. وذكر صعوده منها إلى أورشليم في سفر الأعمال (أعمال ٩: ٢٥) وكان ذلك في نحو ٤٠ سنة للميلاد.
لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ حمله اضطهاد اليهود على أن يترك دمشق وحملته رغبته في التعرف ببطرس على أن يذهب إلى أورشليم دون غيرها. ولا عجب من هذه الرغبة لأن بطرس كان مشهوراً وكان من الرسل وتلاميذ المسيح الأولين الممتازين. وهذه الأسباب كافية فلا شيء مما يستلزم أنه ذهب إليه ليتعلم منه ولا مما يستلزم أن المسيح أقامه رأساً على الكنيسة لأن بولس نفسه قال بعد قليل أنه اضطر أن يوبخه (ص ٢: ١١) وهذا دليل قاطع على أنه اعتبره مساوياً له ولو اعتقد أنه رأس الكنيسة لكان توبيخه له عصياناً وتعدياً.
فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً وشغل كثيراً من هذه المدة بمناظرة اليهود واليونانيين (أعمال ٩: ٢٩). وقصر تلك المدة مع ما أتى فيها من الأعمال يمنع أنه تعلم حينئذ من بطرس دين المسيح. وعلى أنه لم يبق هنالك سوى هذا الوقت الوجيز طلب اليهود اليونانيين أن يقتلوه (أعمال ٩: ٢٨ و٢٩) وأمر المسيح إياه أن ينطلق ويبشّر الأمم (أعمال ٢٢: ١٧ - ٢١).
١٩ «وَلٰكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ ٱلرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا ٱلرَّبِّ».
متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣ و١كورنثوس ٨: ٥
لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ ٱلرُّسُلِ الأرجح أنهم كانوا يبشرون في بلاد اليهود خارج أورشليم ويزورون الكنائس التي أُنشئت هناك (أعمال ٩: ٣١).
يَعْقُوبَ أَخَا ٱلرَّبِّ انظر تفسير (متّى ١٢: ٤٦ و١٣: ٥٥ وأعمال ١٥: ١٣). والظاهر أنه حُسب من الرسل كما حُسب برنابا منهم لأن المسيح حين اختار الاثني عشر لم يكن أحد من إخوته قد آمن به (يوحنا ٧: ٣ و٥).
٢٠ «وَٱلَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ ٱللّٰهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ».
رومية ٩: ١
المرجّح أن الذي حمله على هذا القول أنه شاع في غلاطية أن بولس بعد ما آمن بالمسيح شغل وقتاً طويلاً في أورشليم وتعلم من الرسل ولا سيما بطرس فلكي يؤكد لهم أنه لم يتعلم من بشر استشهد الله إذ لم يكن في طاقته أن يأتيهم بشهود من الناس.
٢١ «وَبَعْدَ ذٰلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ».
أعمال ٩: ٣٠ و١٥: ٢٣ و٤١
المراد بسورية هنا البلاد التي كانت أنطاكية عاصمتها وبكيليكية البلاد التي كانت طرسوس قاعدتها. والمرجّح أنه شغل الوقت حينئذ بالتبشير بالإنجيل وتأسيس الكنائس التي زارها بعد ذلك (أعمال ١٥: ٤٣ و٤٤). وقال هذا بياناً لبعده وقتئذ عن الرسل وعدم إمكانه أن يتعلم منهم. وليس من غاية الرسول ذكر سورية وكيليكية على ترتيب أوقات الزيارة إذ لنا مما قال لوقا أنه أرسله الرسل خفية من أورشليم إلى قيصرية وأنه ذهب من هنالك في البحر إلى طرسوس وأن برنابا بعد ذلك أتى وأخذه إلى أنطاكية فمكث فيها سنة يبشر (أعمال ٩: ٣٠ و١١: ٢٥ و٢٦).
٢٢، ٢٣ «٢٢ وَلٰكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِٱلْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ ٱلْيَهُودِيَّةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ. ٢٣ غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ ٱلَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلاً، يُبَشِّرُ ٱلآنَ بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي كَانَ قَبْلاً يُتْلِفُهُ.
رومية ١٦: ٧ و١تسالونيكي ٢: ١٤
كَنَائِسِ ٱلْيَهُودِيَّةِ أي التي هي خارج أورشليم. كان ما ذكره هنا بعد نحو عشر سنين من صعود المسيح إلى السماء ونستنتج من ذلك أنه في المدة القصيرة انتشر الدين المسيحي كثيراً حتى أنه أُنشئت عدة كنائس في اليهودية.
ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ ذكر هنا العلاقة العامة التي ربطت بعض الكنائس ببعض وهذا يدل على وحدة إيمانهم وعقائدهم فوق دلالته على أنها كانت متحدة بالمسيح باعتبار كونه رأسها وكونه حاضراً بروحه في كل منها. وقال إنه كان غير معروف بالوجه عند تلك الكنائس لاعتباره أنه رسول الأمم ولا رسولهم ولذلك شغل وقته بالتبشير في كيليكية وسورية. وأتى بهاتين الآيتين ليبرهن محالية أنه تعلم الدين المسيحي ممن علمهم الرسل في اليهودية ودليله أنه لم يخالطهم قط.
كَانُوا يَسْمَعُونَ نبإي ولم يبصروني.
يَضْطَهِدُنَا أي مؤمني تلك الكنائس. فاعتبروا أن مضطهد الكنيسة في موضع ما مضطهد لها في كل مكان وإن كان لم يأت إليهم ويضطهدهم.
بِٱلإِيمَانِ أي موضوع الإيمان. وعبّر عن الدين المسيحي بالإيمان لكونه الأمر الجوهري فيه.
٢٤ «فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ فِيَّ».
إن اهتداء الخاطئ إلى المسيح يحق أن يكون علة سرور المسيحيين على الأرض كما أنه علة سرور الملائكة في السماء ولا سيما إن كان ذلك الخاطئ ممن اشتهروا بمقاومة المسيح ودينه ورُجي أن يكون مقتدراً على التبشير بالمسيح والشهادة بإنجيله. فتلك الكنائس لم تقتصر على المسرة باهتداء بولس بل جعلته موضوع التمجيد لله الذي غيره فجعله رسولاً بعد أن كان مضهداً. وذكر بولس إحساسات كنائس اليهودية من جهته وهي مؤلفة من متنصري اليهود ليبين الفرق بين إحساساتهم وإحساسات المعلمين من اليهود الذين أتوا إلى غلاطية وأتباعهم فإنهم حقدوا وافتروا عليه.

فوائد



  • إن كل السلطة على التبشير بالإنجيل والقدرة عليه من الرب يسوع المسيح ومن الله الآب الذي أقامه من الأموات. فالذي يستحسن الرب أن يكون مبشراً ويراه أهلاً لذلك يدعوه بعنايته (ع ١)
  • إنه يجب علينا في الأمور الدينية أن نصغي إلى الله وحده وإلى المسيح الذي عيّنه الله معلماً لنا فالذي يرغب في أن يكون معلماً في الكنيسة يجب أن يعلم كلمات الوحي باسم الله والمسيح (ع ).
  • إن المسيح لما أسلم نفسه للموت لكي ينقذنا من خطايانا أفلا يجب علينا نحن أن نبذل كل شيء لكي ننجو من سلطتها. وأن ننكر شهواتنا الجسدية ونقاومها ونحترس منها لئلا نجعل نعمة المسيح باطلة (ع ٤).
  • إنه يسهل علينا تصديق أن المسيح مات من أجل خطايانا وخطايا بولس وخطايا سائر القديسين ولكن يعسر علينا تصديق أن المسيح مات من أجلنا أفراداً نحن الخطأة العصاة الذين لا استحقاق لنا. إن الشيطان يجبرنا بقوله لنا إنكم خطأة ولا بد أن تهلكوا بخطاياكم فيجب أن نرد عليه بقولنا إذا نحن الذين مات المسيح من أجلهم لأنه مات عن الخطأة (ع ٤).
  • إننا إذا نظرنا إلى موت المسيح على الصليب باعتبار أنه واسطة إنقاذنا من العالم الحاضر الشرير رأينا الإنقاذ قد تم لأنه بموته كفّر عنا خطايانا وصالحنا مع الله ولكن إذا نظرنا إلى غاية المسيح وهي إنقاذنا من تأثيرات العالم الشريرة وتأهيلنا لدخول عالم القداسة رأينا أنه لا يزال يفعل ذلك دائماً بمنحه إيانا الروح القدس وإنشائه فينا الإيمان والرغبة لنخلع الخطيئة ونلبس المسيح (ع ٤).
  • إنه يجب علينا أن نصلي من أجل الذين يدّعون أنهم مسيحيون والذين ضلوا عن الحق وأن نبذل جهدنا في سبيل ردهم إلى سبيل الاستقامة (ع ٦).
  • إن الذي يضيف شيئاً إلى الإنجيل يضعف قوته فإضافة وجوب الأعمال الصالحة إلى إنجيل النعمة كأنها علة الخلاص تجعله «إنجيلاً آخر» وتعرّض المضيف لأشد الدينونة (ع ٧).
  • إن الدينونة التي طلبها بولس على نفسه أن نادى بإنجيل آخر برهان على عظمة الإنجيل وسلطانه وهو برهان على تواضعه لأنه لم يعتبر نفسه سوى آلة لتبليغ الناس كلام سيده. فالذي حرمه بولس على نفسه وعلى ملاك من السماء من إضافة شيء إلى الإنجيل لا يسلم العقل أنه يحوز لإنسان في رومية أو للمجامع (ع ٧).
  • إنه لا يحق لنا أن نرضي الناس مهما كثروا وعظموا إذا أغظنا بذلك الله فإننا نخطأ إذا رغبنا في أن نرضيهم بعدولنا عن القيام بما أوجبه الله علينا وأمرنا المسيح به. ونخطأ كذلك إذا خالفنا ضمائرنا بغية إرضائهم وارتكبنا المحظورات أو سكتنا عما ارتكبوه من الخطايا أو مدحناهم وهم مستحقون اللوم. فلو اجتهد يوحنا المعمدان في أن يرضي هيرودس بسكوته عن خطاياه لسلم رأسه ولكنه لم يستحسن حينئذ ما مدحه المسيح به بقوله «بين المولودين من النساء ليس... أعظم من يوحنا المعمدان» (ع ١٠).
  • إن الغاية الحسنة لا تضمن جودة العمل أمام الله فيمكن الإنسان أن يرتكب أفظع الخطايا ويهدم كنيسة المسيح وهو يقصد أن يقدم خدمة لله. فالغيرة التي ترضي الله وتبني الكنيسة يجب أن تكون بمقتضى كلمته تعالى (ع ١٤).
  • إن الله يعين لشعبه العمل الخاص ويرتب الحوادث بعنايته ورحمته والتعليم الروحي حتى أنه يكون مستعداً لذلك العمل (ع ١٥ - ١٨).
  • إن تجديد كل خاطئ من أسباب الفرح وتمجيد الله وشكره ولا سيما إن رُفع بواسطة ذلك مانع من تقدم الحق وقام محام عنه. فلنا أن نفرح بتجديد بولس وما نتج عنه من الخدمة للمسيح وكنيسته والعالم ونفوسنا من الجملة. فيجب أن نرغب في تجديد كل كافر ومقاوم ونصلي من أجله وأن نؤمن بأنه لم تزل لله القوة التي كانت له حين جدد بولس وأن ليس على الأرض اليوم شرير لا يقدر أن يجعله صالحاً ولا مجدف لا يستطيع أن يجعله مسبحاً له ولا مبغض للمسيح ومضطهد لشعبه يعجز أن يجعله واعظاً أميناً ومحامياً عن الإنجيل (ع ٢٤).




اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي


بيان دعوته وسلطته الرسوليتين ومحاماته عنهما من أعدائه ع ١ إلى ١٠


ذكر الرسول في هذا الأصحاح زيارته مرة أخرى لأورشليم وأبان أن كل ما حدث له هناك برهان على استغنائه عن سائر الرسل بمعرفة الدين المسيحي إذ قبلوه مساوياً لهم واعتبروه رسول الأمم.
١ «ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذاً مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً».
أعمال ١٥: ٢
بَعْدَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةً لم نتبين من هذه الرسالة بداءة هذه المدة فهل هي بعد تنصره أو بعد زيارته التي ذكرها لكن بمقابلته ما أنبأ به هنا بما قاله لوقا في سفر الأعمال يظهر أنها كانت بعد تنصره وأن تلك الزيارة كانت في زمن المجمع الأول من مجامع الكنيسة (أعمال ١٥) وكان هذا المجمع في سنة ٥٠ ب. م فيكون تنصره سنة ٣٦ ب. م.
ولم يقل صعدت ثانية لأن صعوده هذا كان الثالث وكان الثاني في سنة ٤٥ ب. م أي بعد تسع سنين من تنصره ولم يذكرها للغلاطيين لأنه لم يكن من غرضه في ما كتبه إليهم أن يذكر كل زياراته لأورشليم بل ما كان منها يستلزم مخالطة الرسول وفي زيارته الثانية لم يكن له من فرصة لمخالطتهم لأنه أتى حينئذ مع برنابا لتقديم ما جمعه من الصدقات لفقراء أورشليم من كنيسة أنطاكية (أعمال ١١: ٣٠). ويظهر من كلام لوقا في سفر الأعمال أن ذلك كان في أثناء اضطهاد هيرودس للكنيسة وكان بطرس يومئذ في السجن وكان يعقوب أخو يوحنا قد قُتل وأن يعقوب أخا الرب كان حينئذ مختبئاً على ما يظهر (أعمال ١٢: ١٧) وأن بطرس اختبأ أيضاً بعد أن أُنقذ من السجن (أعمال ١٢: ١٧ - ١٩) فالمرجّح أنه وضع الصدقة التي أتى بها عند أمناء من المؤمنين ورجع حالاً آخذاً يوحنا مرقس معه بدون أن يشاهد أحداً من الرسل فلم يكن من داع لذكر هذه الزيارة في هذه الرسالة.
بَرْنَابَا ذكر أولاً أنه «ابن التعزية» وأنه كان كريماً (أعمال ٥: ٣٦). وأنه عرّف بولس بالرسل وبعض المؤمنين في أورشليم (أعمال ٩: ٢٧). وأنه بعد ما بشر مؤمنو القيروان وقبرس الأمم في أنطاكية وبلغ ذلك كنيسة أورشليم أرسلته ليرى ما حدث هناك فسر كثيراً بانتشار الإنجيل بينهم وأنه ذهب بعد ذلك إلى طرسوس وأتى ببولس ليساعده على التبشير في أنطاكية (أعمال ١١: ٢٢ - ٢٦). وأنه أتى بالصدقات مع بولس إلى أورشليم سنة ٤٥ (أعمال ١١: ٣٠). وأنه على أثر رجوعه تعيّن من كنيسة أنطاكية بأمر الروح القدس ليبشر الأمم فذهب مع بولس في سفره الأول للتبشير سنة ٤٥ ب. م وأنه عند رجوعهما مكث مدة في أنطاكية. ثم أُرسل مع غيره من كنيسة أنطاكية إلى أورشليم ليستشير الرسل والمشايخ في أنه هل يجب أن يختتن مؤمنو الأمم أولاً. ومدة ذلك هي المدة المشار إليها في هذه الآية.
تِيطُسَ كان من جملة من عُينوا رفقاء لبولس وبرنابا (أعمال ١٥: ٢) وذُكر هنا مقدمة لما في الآية الثالثة. ولم يذكره لوقا باسمه في أعمال الرسل والذي نعلمه من أمره إنه يوناني الأصل لا يهودي وإنه لم يختتن على أثر إيمانه وأن بولس أعزه كثيراً ودعاه شريكاً وعاملاً معه (٢كورنثوس ٨: ٢٣). وأنه كان مع بولس في أفسس سنة ٥٦ ب. م وأرسله إلى كورنثوس نائباً عنه وانتظر رجوعه إليه بشوق في ترواس (٢كورنثوس ٢: ١٣) ولكنه لم يتربص إلى أن يأتي فذهب لملاقاته في مكدونية واجتمع به هناك (٢كورنثوس ٦: ٧ و١٣ - ١٥). ثم أرسله ثانية إلى كورنثوس برسالته الثانية إليها وكلفه أن يحث المؤمنين على أن يسرعوا في جمع الصدقات لفقراء أورشليم. ومن ثم لم يسمع شيئاً من نبإه إلا في أثناء المدة بين سجن بولس المرة الأولى والمرة الثانية في رومية وكان وقتئذ في كريت (تيطس ١: ٥) وتركه بولس هناك. وبعد هذا كتب إليه رسالة تبين منها أن بولس توقع أن يجتمع به في نيكابوليس ويشتي معه. ولم يقل أن ذلك تم أولاً لكن نستنتج أنه تم لأنه كتب إلى تيموثاوس من رومية أيام سجنه الثاني أنه أرسل تيطس إلى دلماطية وهي شمالي نيكابوليس وعلى مقربة منها (٢تيموثاوس ٤: ١٠).
٢ «وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، وَلٰكِنْ بِٱلٱنْفِرَادِ عَلَى ٱلْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً».
أعمال ١٥: ١٢ ع ٦ فيلبي ٢: ١٦ و١تسالونيكي ٣: ٥
بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ ذكر ذلك لبيان أنه لم يصعد ليستشير الرسل ويتعلم منهم ويثبتوا رسوليته ولبيان أهمية الأمر الذي صعد لأجله وهو أنه هل يجب على مؤمني الأمم أن يقوموا بالرسوم الموسوية. ولا منافاة في ما قيل هنا من أمر الإعلان لما قيل في أعمال الرسل إن كنيسة أنطاكية أرسلته لاحتمال أن يكون الإعلان علة نصحه للكنيسة أن ترسل لجنة إلى أورشليم هو واحد منها. كذلك دُعي بطرس ليذهب من يافا إلى قيصرية بواسطة رؤيا من السماء وبواسطة مرسلين من قبل كرنيليوس (أعمال ١٠: ٨ و٢٠).
وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ أي على أعضاء كنيسة أورشليم في خطبة عامة (أعمال ١٥: ٤).
ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ أتى هذا ليبيّن أنه إلى زمان المجمع كان يبشر بالتعليم الذي علمه الغلاطيون وظل يعلّمه إلى الوقت الذي كتب فيه هذه الرسالة والأمر ذو الشأن في هذا التعليم أن التبرير بالإيمان لا بأعمال الناموس.
بِٱلٱنْفِرَادِ عَلَى ٱلْمُعْتَبَرِينَ أبان في الآية التاسعة من هم هؤلاء المعتبرون. ويظهر من هذه الآية أن بولس وبرنابا وبعض الرسل والمشائخ اجتمعوا اجتماعاً سرياً قبل المجمع العام ليعطوا فرصة لهما أن يقصا بالتفصيل أبناء أعمالهما ويبينا أسباب أنهما لم يوجبا على متنصري الأمم أن يختتنوا عندما يعتمدون وكيف أن الله أظهر رضاه بتصرفهما بمنحه الأمم مواهب الروح القدس. فلو حضرا المجمع العام بدون ذلك الاجتماع السري لربما حدث صراخ وضجيج ومقاومة ممن رغبوا في إلزام الأمم بالقيام برسوم الشريعة الموسوية فمنعهم من ذلك من حق النظر في المسئلة. فنتج من الاجتماع السري أن الذين حضروه اقتنعوا بجودة تصرف بولس. ففي المجمع العام جاهر بطرس ويعقوب بتصديق كل ما علّمه وعمله فحصل تصديق الباقين لذلك بلا صراخ ولا ضجيج وأجمعوا على الحكم. واقتصر لوقا في سفر الأعمال على ذكر المجمع العام وبولس لم يذكر هذا المجمع لشهرة أمره فاكتفى بذكر الاجتماع الانفرادي وموافقة الرسل له.
لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى ألخ لو حدث صراخ وضجيج في الكنيسة لم يكن فرصة لحق النظر في الأمر وامتنع على الكنيسة والرسل أن يعرفوا حقيقة تصرف بولس وعلة عدم طلبه من متنصري الأمم أن يختتنوا فنشأ عن ذلك أن يحكموا بأن تصرفه كان خطأ وأوجبوا على مهتدي الأمم حفظ الرسوم الموسوية. فلم يخش بولس أنه كان مخطئاً في تعليمه لعلمه أن الروح القدس كان يرشده ويبلغه تعليم المسيح نفسه إنما خشي أن لا تكون له فرصة لبسط حقيقة الأمر أمام الكنيسة فلا يدركوه حق الإدراك فيظن الأعضاء والرسل أنه «سعى باطلاً». وعبر عن تصرفه «بالسعي» إيماء إلى الألعاب اليونانية البرزخية التي يسعى المتبارون بها في السباق لكي ينال السابق الجعالة (فيلبي ٢: ١٦ و٢تيموثاوس ٤: ٧). فسعى بولس مثلهم لكي يحصل للأمم التحرير من رق الناموس. وهذا ما طلبه وحصل مؤمني الأمم شكوك ومخاوف واضطرابات ومنع تقدم الإنجيل في الأمم.
٣ «لٰكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ ٱلَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ».
هذه الآية والاثنتان اللتان بعدها كلام معترض بين الآية الثانية والسادسة. وذُكرت خلاصة مباحث المجمع في الآية السابعة وغاية الرسول ما جاء به من كلام المعترض أن كنيسة أورشليم والرسل لم يتعرضوا له في تصرفه بأمر متنصري الأمم.
لٰكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الخ أي أنه بدلاً من أن يحكموا أني سعيت باطلاً وبوبخوني ويأبوا عملي لم يوجبوا على تيطس أن يختتن وهو مولود وثنياً وكان رفيقي وشريكي في التبشير وذلك مما يظهر للبعض أنه يوجب عليه الختان أكثر مما يوجبه على سواه. ولنا من الآيتين الآتيتين والآية الخامسة من الأصحاح الخامس عشر من سفر الأعمال أنه كان في الكنيسة قوم متعصبون في الرسوم الموسوية وقد ألحوا كثيراً في طلب اختتان تيطس إثباتاً لرأيهم بوجوب ختان المتنصرين من الأمم.
٤ «وَلٰكِنْ بِسَبَبِ ٱلإِخْوَةِ ٱلْكَذَبَةِ ٱلْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، ٱلَّذِينَ دَخَلُوا ٱخْتِلاَساً لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا ٱلَّتِي لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا».
أعمال ١٥: ١ و٢٤ و٢كورنثوس ١١: ٢٦ ص ٣: ٢٥ و٥: ١ و١٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٠ وص ٤: ٣ و٩
أبان بولس في هذه الآية أمرين الأول سبب طلب البعض اختتان تيطس وهو سد أفواه المعترضين والثاني إباؤه أن يختنه لا لأن الاختتان محرم فإنه ختن تيموثاوس على أثر تنصره (أعمال ١٦: ٣) لكن أتى ذلك اختياراً لا اضطراراً ولعله كان يختن تيطس كذلك لولا أن الإخوة الكذبة طلبوا بذلك بناء على زعمهم أنه ضروري للخلاص فلو سلم بذلك لطفاً وتسكيتاً للمعترضين لادعوا أن الختان واجب على الجميع بمقتضى حكم الرسل والكنيسة وكانت نتيجة ذلك وجوبه على كل متنصري الأمم وكذا وجوب كل الرسوم الموسوية فبطل أن يكون التبرير بمجرد الإيمان.
ٱلإِخْوَةِ ٱلْكَذَبَةِ يجب أن نميز بين هؤلاء وبين الإخوة الضعفاء الذين كان بولس يحتملهم دائماً ويعلمهم ويتساهل معهم في العرضيات بغية تسكين ضمائرهم المضطربة (رومية ص ١٤ وص ٥: ١ - ٣). وكان هؤلاء الإخوة الكذبة من الفريسيين قد تنصروا ظاهراً لا باطناً فتظاهروا بأنهم مؤمنون بالمسيح لكي يُبقوا المسيحيين تحت نير العبودية الناموسية.
ٱلْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً أي خدعوا الكنيسة بتظاهرهم أنهم مسيحيون فأدخلتهم في شركتها.
دَخَلُوا ٱخْتِلاَساً أي بدون حق لأنهم فريسيون في الباطن.
لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا أي ليعرفوا مقدار ما للمؤمنين في الكنيسة من الحرية في استعمال الرسوم الموسوية أو تركها بغية أن يسلبوهم تلك الحرية كما يدل عليه قوله «كي يستعبدونا».
ٱلَّتِي لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ إن المؤمنين بالمسيح متحدون به بإيمان حي ومحررون من رق الناموس لأن المسيح أكمل الناموس بكل حروفه ونقطه (متّى ٥: ١٨ ورومية ١٠: ٤) وبذلك اشترى لشعبه الحرية من ثقل الناموس الرمزي وأبطل تمييز بعض الناس على بعض وجعل المؤمنين من كل أمة سواء في حقوق الملكوت السماوي. فلا حرية حقة إلا بالمسيح وبدونه كل البشر عبيد الخطيئة (يوحنا ٨: ٣٢ - ٣٦ ورومية ٥: ١ - ١٢).
كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا أي يستعبدوا كل الكنيسة المسيحية للرسوم الموسوية. وكانت غاية أولئك الكذبة من تجسسهم أن يعرفوا إلى أي حد عدل المسيحيون عن رسوم الناموس لكي يشتكوا عليهم ويردوا متنصري اليهود إلى تحت النير العتيق ويجبروا مؤمني الأمم على حمله.
٥ «ٱلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِٱلْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ ٱلإِنْجِيلِ».
ع ١٤ وص ٣: ١ و٤: ١٦
ٱلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ... وَلاَ سَاعَةً لم يسلم بولس البتة بختن تيطس إجابة لطلب أولئك الدعاة الكذبة لأنهم طلبوا ذلك بناء على أن الختان ضروري للخلاص فأبطلوا بذلك كون التبرير بمجرد الإيمان. قبل بولس أن يكون يهودياً ليخلص اليهود (١كورنثوس ٩: ٢٠ - ٢٢) ولكن ذلك تسليم حبي في أمر عرضي لم يتعلق بشيء من مبادئ الدين الجوهرية. ولو سلم لهم بأن يختن تيطس لكان قد خان الإنجيل وسلب متنصري الأمم الحرية التي اشتراها المسيح لهم.
لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ ٱلإِنْجِيلِ أي معكم أيها المؤمنون من الأمم في غلاطية. إنكم رضيتم أن تتركوا حريتكم وأنا راغب في أن تحفظوها لنفعكم. والمراد «بحق الإنجيل» هنا هو كون خلاصهم بالمسيح باعتبار كون المسيح علة الخلاص الوحيدة الكافية وذلك يكون بالإيمان به لا بأعمال الناموس (ص ١: ٦).
٦ «وَأَمَّا ٱلْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ، مَهْمَا كَانُوا، لاَ فَرْقَ عِنْدِي: اَللّٰهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ فَإِنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ».
ص ٦: ٣ أعمال ١٠: ٣٤ ورومية ٢: ١١ ٢كورنثوس ١٢: ١١
هذه الآية متعلقة بالآية الثالثة وما بينهما كلام معترض جيء به بياناً لأمر تيطس.
ٱلْمُعْتَبَرُونَ الذين حسبوا الكنيسة في الغالب رؤساءها ولعل الإخوة الكذبة قد علموا الغلاطيين أنهم كذلك. وسموا في الآية التاسعة «أعمدة» وفي رسالة كورنثوس الثانية «فائقي الرسل» (٢كورنثوس ١١: ٥ و١٢) وهم بطرس ويوحنا ويعقوب.
مَهْمَا كَانُوا، لاَ فَرْقَ عِنْدِي ما كان بولس في أمر الدين يكترث برأي بشر لرفعة مقامه أو لمشاهدته المسيح عياناً وسمعاً (٢كورنثوس ٥: ١٦) أو لاعتبار الكنيسة إياه. إنه لم يستخف بسائر الرسل ولكن أراد أن يظهر عدم رضاه بالاعتبار الزائد الذي وجهه المعلمون الكاذبون إلى بعض الرسل إهانة لبولس وإثباتاً لآراء الذين نسبوا إلى أولئك الرسل إيجاب حفظ الرسوم الموسوية وغايتهم إبطال قول بولس بأن حفظ الرسوم الموسوية لا ينفع المؤمنين بالمسيح شيئاً.
اَللّٰهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ أي إنه لا ينظر إلى أمور الإنسان الظاهرة كمقامه وسلطته بقطع النظر عن استحقاقه في الباطن (أعمال ١٠: ٤ و٣٤ ورومية ٢: ١١ وأفسس ٦: ٩ وكولوسي ٣: ٢٥). فإنه لم يعتبر أن أولئك الرسل أعظم من بولس نظراً لما امتازوا به من الأمور الخارجية التي استند عليها المعلمون الكاذبون فرأى أن اعتبار الله إياه أهم من اعتبار الرسل له مهما اعتبرهم الناس فإنه أخذ سلطته الرسولية من الله وحده فاستغنى عن رضى الرسل له وإثباتهم رسوليته.
لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ فوق ما أعلنه الله لي بوحيه. قال سابقاً أنه لم يتعلم الإنجيل من الرسل في وقت اهتدائه وزاد على هذا ما في هذه الآية بياناً أنه لم يتعلم شيئاً منهم حين أتى إلى أورشليم بعد ذلك.
٧ «بَلْ بِٱلْعَكْسِ، إِذْ رَأَوْا أَنِّي ٱؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْخِتَانِ».
١تسالونيكي ٢: ٤ أعمال ١٣: ١٦ ورومية ١: ٥ و١١: ١٣ و١تيموثاوس ٢: ٧ و٢تيموثاوس ١: ٦١
بَلْ بِٱلْعَكْسِ أي أنهم بدلاً من أن يعلموني شيئاً جديداً اكتفوا بتثبيتهم وتصديقهم ما علمته وسلموا بما قبلته بالوحي وهو أن أبشر الأمم بالإنجيل دون أن أوجب عليهم الختان أو غيره من الرسوم اليهودية.
إِذْ رَأَوْا أَنِّي ٱؤْتُمِنْتُ من الله على خدمة إنجيل الغرلة دائماً. رأوا ذلك من نتائج عمله التي ذكرها في الآية الثامنة مما أخبر به بطرس وبرنابا (ع ٢ وأعمال ١٥: ١٢).
إِنْجِيلِ ٱلْغُرْلَةِ أي ما بشر به الأمم من وجوب الإيمان بالمسيح بدون جعل الختان شرطاً للخلاص أو للاشتراك في الكنيسة المسيحية. واؤتُمن كذلك يوم آمن بالمسيح (أعمال ٩: ١٥) وحين كان في الهيكل (أعمال ٢٢: ١٧ - ٢١).
كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْخِتَانِ دعا الله بطرس ليكون مبشر اليهود خاصة (١بطرس ١: ١). وكان إنجيل بولس وإنجيل بطرس واحداً إلا أن المبشرين به كانوا مختلفين. ولكن لم يكن ذلك التعيين محظور المخالفة فإن بولس كان يبشر اليهود أولاً في كل مكان وجدهم فيه (أعمال ١٣: ٥ و١٤: ١ و١٨: ٦ ورومية ١: ١٦) وبطرس فتح باب الكنيسة المسيحية للأمم (أعمال ص ١٠: وص ١١ و١٥: ٧).
٨ «فَإِنَّ ٱلَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ».
أعمال ٩: ١٥ و١٣: ٢ و٢٢: ٢١ و٢٦: ١٧ و١٨ و١كورنثوس ١٢: ٦ و١٥: ١٠ وص ١: ١٦ و٣: ٥ وفيلبي ٢: ١٣ وكولوسي ١: ٢٩
هذه الآية تفسير الآية السابعة.
عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ أي اتخذ الله تبشيره وسيلة إلى تجديد قلوب اليهود بقوة الروح القدس في قلوبهم وبذلك أثبت مرسليته إليهم.
عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ أي شهد لي كما شهد لبطرس بهدايته الناس إلى الإيمان والخلاص بواسطة تبشيري. وفضلاً عن إثبات الله مرسلية كل منهما بإنجاح تبشيره أثبتها بإجراء المعجزات على أيديهما (رومية ١٥: ١٨ و١٩ و٢كورنثوس ١٢: ١٢).
٩ «فَإِذْ عَلِمَ بِٱلنِّعْمَةِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا، ٱلْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ ٱلشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ».
رومية ١: ٥ و١٢: ٣ و٦ و١٥: ١٥ و١كورنثوس ١٥: ١٠ وأفسس ٣: ٨ متّى ١٦: ١٨ وأفسس ٢: ٢٠ ورومية ٢١: ١٤
عَلِمَ بِٱلنِّعْمَةِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي أي تحققوا رضى الله إياي من البراهين التي أقمتها على أنه دعاني رسولاً.
يَعْقُوبُ ذُكر أنه رئيس مجمع أورشليم الأول (أعمال ١٥: ١٣) وأنه أخو الرب (ع ١٩). وأما يعقوب أخو يوحنا فقطع هيرودس رأسه قبل المجمع بست سنين أي سنة ٤٤ ب. م.
صَفَا (يوحنا ١: ٤٢) ومعناه صخر كمعنى بطرس.
يُوحَنَّا هو ابن زبدي وسالومي وأخو يعقوب الرسول الشهيد.
ٱلْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ أي الذين اعتبرتهم كنيسة أورشليم أنهم كذلك نظراً لسنهم وأعمالهم واختبارهم وتقواهم وحكمتهم ومعرفتهم بالإنجيل. فإنهم لما اعتبروا الكنيسة بناء روحياً (١كورنثوس ٥: ٦ وأفسس ٢: ١٦) اعتبروا هؤلاء أعمدة فيها.
أَعْطَوْنِ يَمِينَ ٱلشَّرِكَةِ دليلاً على أنهم اعتبروني أخاً وثقوا بي وبأني شريكهم في الرسولية.
لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ اتفقنا على قسمة عمل التبشير على المنوال المذكور.
إن الرسل بما في هذه الآية وما ذُكر قبلها أثبتوا تسوية بولس لهم وصدقوا حسن تصرفه بقبول مؤمني الأمم في شركة الكنيسة بلا ختان.
١٠ «غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ ٱلْفُقَرَاءَ. وَهٰذَا عَيْنُهُ كُنْتُ ٱعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ».
أعمال ١١: ٣٠ و٢٤: ١٧ ورومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ و٢كورنثوس ص ١ وص ٩ كليهما
الشيء الوحيد الذي كلفت به الكنيسة بولس وبرنابا هو أن يستمروا على ما ابتدأه تبرعاً (أعمال ١١: ٢٨ - ٣٠).
أَنْ نَذْكُرَ ٱلْفُقَرَاءَ أي فقراء أورشليم واليهودية.
ٱعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ أي رغبت فيه من تلقاء نفسي. وهذا يستلزم أنه وعد به. ويظهر إنجاز وعده مما ذُكر في (أعمال ٢٤: ١٧ ورومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ و٢كورنثوس ٨: ٩).
إن بولس كان مجتهداً في ممارسة الأعمال الصالحة مع أنه لم يعتبرها علة للتبرير.

مقاومة بولس لبطرس في أنطاكية ع ١١ إلى ٢١


١١ «وَلٰكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً».
أعمال ١٥: ٣٥
أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ لم يذكر لوقا في أعمال الرسل زيارة بطرس لأنطاكية والأرجح أنه حدث في أثناء المدة المشار إليها في (أعمال ١٥: ٣٥) على أثر رجوع بولس وبرنابا إلى أورشليم وقبل وقوع الاختلاف بينهما وشروع بولس في سفره الثاني بدليل وجود برنابا في أنطاكية حينئذ.
قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً أي وبخته في اجتماع الكنيسة وهو حاضر ولم أشكه وهو غائب.
لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً من عمله خلاف المبادئ التي أثبتها قبلاً. والمرجح أن الكنيسة لامته أيضاً. وكانت علة مقاومة بولس إياه أنه خالف المبدأ الذي هو حامى عنه قولاً وفعلاً في يوم تنصر كرنيليوس وهو أن لا فرق بين مؤمني اليهود ومؤمني الأمم غير المختونين (أعمال ١٠: ١٠ - ٢٠ و١١: ٣ - ١٧) والمبدأ الذي أقر به أمام مجمع أورشليم في تلك الأثناء (أعمال ١٥: ٧ - ١١ وع ٩) وصدقه في أول مجيئه إلى أنطاكية. فإنه خالفه حينئذ بانفصاله عن مؤمني الأمم كأنهم ليسوا مساوين لمؤمني اليهود. ولا ريب أن الذي حمل بولس على مقاومة بطرس على عمله قدام الكنيسة هو ما نتج عنه من العثرة والتشويش في كنيسة أنطاكية التي أكثر أعضائها من مؤمني الأمم وما في ذلك من العثرة لعموم الكنيسة بين الأمم وسلب حقوقها من جهة الحرية والأخوية التامة بذلك. والذي حمل بطرس على ذلك الانفصال هو طبعه السريع التأثر والتقلب كما تبين من إسراعه إلى المشي على الماء (متى ١٤: ٢٨ - ٣٣) وإنكاره سيده على أثر وعده بالثبوت (مرقس ١٤: ٢٩ و٦٦).
١٢ «لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ ٱلأُمَمِ، وَلٰكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفاً مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ».
أعمال ١٠: ٢٨ و١١: ٣
قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ أي من كنيسة أورشليم التي كان يعقوب راعيها ولعله عينهم لينوبوا عنه في بيان آرائه وهم لم يعلنوها كما هي. فإن رأي يعقوب أنه يجب على المولودين يهوداً عند إيمانهم أن يحفظوا الناموس تمام الحفظ كما يظهر من خطابه (أعمال ١٥: ١٦ - ٢١) ومما نصح بولس به (أعمال ٢١: ٢٠ - ٢٥) فالمرجّح أنه لم يقصد بإرسال القوم إلا أن يحث مؤمني اليهود على حفظ الرسوم الموسوية فزادوا على قوله أنه يجب ذلك على كل المؤمنين من اليهود والأمم.
كَانَ يَأْكُلُ مَعَ ٱلأُمَمِ بدون التفات إلى مطاليب الرسوم الناموسية إذ ذلك محرم بمقتضاها كما قال بطرس أمام كرنيليوس (أعمال ١٠: ٢٨). وعلة تحريم الأكل مع الأمم كون الآكل معهم عرضة لأن يأكل شيئاً اعتبرته الشريعة نجساً لكن بطرس تعلم من الرؤيا في يافا أن الله قد أبطل كون الفرق بين الطاهر والنجس دينياً فطوعاً لتلك الرؤيا أكل مع كرنيليوس ورفقائه. وأتى مثل ذلك في أنطاكية أول إتيانه إليها. وقد قاوم الفريسيون المسيح على أكله مع العشارين والخطاة (لوقا ١٥: ٢).
لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ أبى أن يأكل مع مؤمني الأمم وبذلك عرّض بأنهم نجسون وغير مساوين لمؤمني اليهود وأن الشريعة الموسوية من جهة تمييز الأطعمة لم تزل قائمة وواجبة. وهذا يمنع من اشتراك الفريقين مؤمني اليهود ومؤمني الأمم في العشاء الرباني وولائم المحبة وتناول الطعام المعتاد في بيوتهم.
خَائِفاً مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ أي من متنصري اليهود الذين جاءوا من عند يعقوب فخاف بطرس من أنهم يعيرونه على خيانته لدينه اليهودي كما سبق منه بعدما أكل مع كرنيليوس وأنه يخسر اعتبارهم واعتبار أصدقائه القدماء. وسبق لبطرس من مثل ذلك لأنه كان أول من أقر بالمسيح وأول من أنكره وأول من أقر بحقوق الأمم وأول من أنكر هذه الحقوق فميله إلى التقلب عرضه للملامة واستحقها هنا. ولكنه يستحق أيضاً المدح لأنه كان سريع التوبة والاعتراف بذنبه والذي يؤكد تواضعه أنه قبل توبيخ أصغر منه سناً من العاملين معه في الإنجيل. وقد مدح بولس وقال إنه «أَخُونَا ٱلْحَبِيبُ» ومدح رسائله التي ذُكر في إحداها سوء تصرفه في أنطاكية (٢بطرس ٣: ١٥ و١٦).
١٣ «وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي ٱلْيَهُودِ أَيْضاً، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً ٱنْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ!».
رَاءَى أي فعل خلاف ما عرف أنه الصواب بغية رضى الناس. ولم يفعل ذلك رفقاً بضعفاء الإيمان من الإخوة على مقتضى المحبة والسلام مما علم بولس وجوبه (١كورنثوس ٩: ٢٠ ورومية ١٤: ١ و١٥: ٣) بل إنكاراً للحق الذي سلموا به باطناً وأنكروه ظاهراً لأن الذين فرزوا أنفسهم عنهم هم بالحق إخوتهم في المسيح ومساوون لهم عنده وأن المسيح حررهم من رق الناموس.
بَاقِي ٱلْيَهُودِ من المتنصرين في أنطاكية فاقتدوا ببطرس نظراً لسنه ومقامه.
ولا حاجة إلى البيان لسوء تأثير ما أتاه بطرس لولا مقاومة بولس له فلا بد من أنه كان يقسم كنيسة أنطاكية إلى حزبين وكذا سائر الكنائس المؤلفة من الفريقين.
حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً الخ مع أنه قد سرّ سابقاً بدخول الأمم في كنيسة أنطاكية (أعمال ١١: ٢٣) وشارك بولس في تبشير الأمم وكان غيوراً في المحاماة عن حقوق مؤمني الأمم في مجمع أورشليم (ع ٩ وأعمال ١٥: ١٢). وما فعله برنابا دليل على قوة تأثير التربية والعادة منذ الصغر وسلوك الذين نعتبرهم.
١٤ «لٰكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِٱسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ ٱلإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ ٱلْجَمِيعِ: إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيّاً لاَ يَهُودِيّاً، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ ٱلأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟».
ع ٥ و١تيموثاوس ٥: ٢٠ أعمال ١٠: ٢٨ و١١: ٣
لاَ يَسْلُكُونَ بِٱسْتِقَامَةٍ أي يراؤون كما في (ع ١٣) وهو أنهم لم يسلكوا حسب حق الإنجيل أو لم يحفظوا حق الإنجيل فلو ساروا على سنن الاستقامة والإخلاص لثبتوا بتعليمهم وعملهم في الحرية الإنجيلية أي التحرر من رق الناموس ومن الاتكال على أعمال الناموس بغية التبرر أمام الله ولكنهم أنكروا بسلوكهم تعليم الإنجيل أن التبرير بالإيمان بيسوع المسيح وحده.
قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ ٱلْجَمِيعِ أي على مرأى ومسمع من المؤمنين فإن بطرس انفصل جهاراً وكان اضراره بالحق جهاراً فاقتضت الحال أن تكون المحاماة عن الحق جهاراً.
إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيّاً كونه يهودي الأصل يوجب عليه أن يحفظ الناموس لكنه في أول الأمر أكل مع الأمم بلا التفات إلى صنف الطعام ولا إلى الرسوم الموسوية التي حظرت عليه الأكل معهم. والعبارة تدل على أن بطرس كان مستمراً على ذلك (ع ١٨ وأعمال ١٥: ١٠ و١١).
فَلِمَاذَا تُلْزِمُ ٱلأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا بسلوكك لأنك ممن يٌقتدى بهم. والمراد «بالتهود» هنا أن يعيشوا عيشة اليهود بمراعاة الرسوم الموسوية. فينتج طبعاً من سلوكه أن حفظ الناموس ضروري لمؤمني الأمم لأنهم بدون ذلك لا يستطيعون أن يخالطوا مؤمني اليهود. وهذا مناف لقول بطرس في المجمع «فَٱلآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللّٰهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ لٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضاً» (أعمال ١٥: ١٠ و١١). وإذا وجب عليهم أن يراعوا الشريعة الرمزية في أمر واحد كتمييز الأطعمة فتح الطريق لوجوب مراعاتها في سائر الأمور.
١٥، ١٦ «١٥ نَحْنُ بِٱلطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ ٱلأُمَمِ خُطَاةً، ١٦ إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا».
أعمال ١٥: ١٠ و١١ متّى ٩: ١١ وأفسس ٢: ٣ و١٢ أعمال ١٣: ٣٨ و٣٩ رومية ١: ١٧ و٣: ٢٢ و٢٨ و٨: ٣ وص ٣: ٢٤ وعبرانيين ٧: ١٨ و١٩ مزمور ١٤٣: ٢ ورومية ٣: ٢٠ و ص ٣: ١١
نَحْنُ بِٱلطَّبِيعَةِ يَهُودٌ هذا جزء من خطاب بولس لبطرس إذ لا يصح أن يخاطب بذلك الغلاطيين الذين هم من الأمم بالطبيعة. وأراد بقوله «نحن» نفسه وبطرس. وبقوله «بالطبيعة يهود» إنهما مولودان يهوديين وليس بدخيلين.
وَلَسْنَا مِنَ ٱلأُمَمِ خُطَاةً جرى بولس هنا مجرى اليهود في اعتبارهم الأمم خطأة لكونهم لم يخضعوا للناموس ولم يكونوا من أهل الناموس إذ وُلدوا خارج الناموس والعهد.
إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أي نتحقق أن الأعمال التي يأمر بها الناموس ليست بعلة لتبرير الخاطئ حتى أن الله يحسبه بريئاً من الخطيئة غير عرضة للعقاب فالتبرير بتلك الأعمال محال. وإذ تحققنا ذلك عدلنا عن الاتكال على الناموس وعلى حقوقنا اليهودية بجعلنا أنفسنا قدام الله كخطأة الأمم بالنظر إلى التبرير بالأعمال فقصر التبرير على عمل المسيح.
بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وحده فالإيمان هو الآلة التي بها يتمسك الخاطئ بالمسيح للتبرير.
آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً أي نحن الذين وُلدوا بهوداً. كل رسومنا ليست بكافية لتبريرنا وأن الناموس عاجز عن التبرير فلذلك لجأنا إلى المسيح متكلين عليه وحده للتبرير باعتبار أنه هو وحده العلة الوحيدة الكافية لذلك.
لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ أي بيسوع نفسه الذي هو موضوع الإيمان وعلة التبرير.
لاَ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ على الإطلاق رمزية كانت أو أدبية إذ حفظها لم يكن ولا يكون علة تبرير أو تقديس أحد من الجنس البشري.
لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا هذا مقتبس من (مزمور ١٤٣: ١٢) احتج به بولس باعبتار أنه مبدأ ديني في العهد القديم وكرر في العهد الجديد (رومية ٣: ٢٠). وخلاصة كلامه هنا مقابلة موسى بالمسيح باعتبار كل منهما موضوع الاتكال ومقابلة الناموس بالوعد والأعمال بالإيمان والأجرة بالهبة واللعنة بالبركة.
وأورد بولس في الرسالة إلى رومية علتين لاستحالة التبرير بأعمال الناموس الأولى أن الناموس يطلب الطاعة الكاملة وهذا يعجر الإنسان عنه. والثانية أن الناموس لا يمكن الإنسان من تبرير نفسه لأنه حرف مكتوب لا قوة حيّة.
١٧ «فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي ٱلْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً خُطَاةً، أَفَٱلْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا!».
١يوحنا ٣: ٨ و٩
فَإِنْ كُنَّا أنت يا بطرس وأنا.
وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي ٱلْمَسِيحِ أي بعدما آمنا بالمسيح واتحدنا به بالإيمان بناء على تعليم الإنجيل أن المسيح قام بمطاليب الناموس عنا.
نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً خُطَاةً كالأمم عند اليهود غير متبررين تمام التبرير لأننا عدلنا عن حفظ شريعة موسى.
أَفَٱلْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ لأنه جعلنا نترك الاتكال على الناموس وأبقانا غير متبررين وعرضة للهلاك الأبدي. وهذه نتيجة لا بد منها إذا سلمنا أن المسيح لم يبررنا حق التبرير وترك موسى (رومية ٢: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٢١). ونحن جعلنا أنفسنا مثل مؤمني الأمم بأكلنا معهم فصرنا خطاة مثلهم.
إن بطرس بانفصاله عن مؤمني الأمم وانحيازه إلى مؤمني اليهود أقر بوجوب أن يحفظ المؤمنون بالمسيح ناموس موسى وأنهم لا يتبررون بدونه وينتج من ذلك أن الذين عدلوا عن الاتكال على الناموس بغية التبرير واتكلوا على المسيح ليسوا متبررين فإذن لم ينتفعوا شيئاً بالمسيح وينتج بطلان قول يوحنا المعمدان فيه «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» وبطلان قول المسيح نفسه «مَنْ يُؤْمِنُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٥). وواضح أن التعليم الذي هذه نتيجته لا يمكن أن يكون حقاً والسلوك الذي أوجبه لا يمكن أن يكون «استقامة».
حَاشَا هذا شديد نفي لذلك الفكر وإظهار لكرهه فهو مثل ما في (١كورنثوس ٦: ١٥). وجاء مثله عشر مرات في الرسالة إلى أهل رومية ومرة في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس وثلاث مرات في هذه الرسالة.
١٨ «فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضاً هٰذَا ٱلَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّياً».
لم يزل الرسول يخاطب بطرس والذين مالوا معه في أنطاكية.
فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أنا وغيري من المسيحيين يأتي قولاً أو فعلاً بما يدل على ضرورية حفظ الناموس. وجعل نفسه بمنزلة بطرس وغيره ممن مالوا معه تلطفاً.
أَبْنِي أَيْضاً هٰذَا ٱلَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ بانفرازي عن مؤمني الأمم بياناً لوجوب حفظ الرسوم الناموسية للتبرير. والمقصود بالذي «هدمه» هنا هو التبرير بالأعمال. وهدمه بالتبشير بإنجيل النعمة أو ما نادى به من الإيمان بالمسيح. وكان بولس يحب الاستعارات البنائية ومن ذلك قوله «إنه لا يبني على أساس آخر» (رومية ١٥: ٢٠). وقوله «إن المسيح أساس الكنيسة» (أفسس ٢: ٢٠). وقوله «إن المسيح حجر الزاوية» (أفسس ٢: ٢٠ انظر أيضاً ٢كورنثوس ٥: ١ و١٠: ٤). والرسوم التي هدمها اعتبرها كقالب بًُني عليه ويُرفع متى تم البناء لبلوغ الغاية منه. والمراد «ببناء ما هدمه» الرجوع إلى حفظ الناموس للتبرير فإنه رجوع عن المسيح إلى موسى للخلاص ومن إنجيل الحرية إلى نير العبودية. وبناء النظام الموسوي ثانية لا يمكن إلا بهدم النظام المسيحي فلما بشر بطرس كرنيليوس بأنه يتبرر بمجرد الإيمان بالمسيح هدم تعليم أن التبرير بأعمال الناموس. وأتى مثل ذلك في خطابه بمجمع أورشليم وبسلوكه في أول وصوله إلى أنطاكية ولكن سلوكه بعد ذلك كان شروعاً في بناء ما قد هدمه.
أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّياً أي أقر بأني خطئت بترك الناموس حين آمنت وباتكالي على المسيح وحده للتبرير وبأني تعديت على الناموس باعتباري أن الناموس وقتي وتمهيد للإنجيل وللإيمان بالمسيح وبذلك أكون قد أظهرت أني لست متبرراً بالإيمان بالمسيح وأني لم أزل تحت الدينونة. واستحق أن يسمى فعله تعدياً لأنه به يكون قد هدم ما بناه المسيح بتعليمه وخدمته وموته «إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ ٱلَّذِي عَلَيْنَا فِي ٱلْفَرَائِضِ... وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ» (كولوسي ٢: ١٤).
ذهب بعضهم أنه فرغ هنا من خطابه لبطرس وأخذ يخاطب الغلاطيين والحق أنه يصعب تعيين نهاية الأول وبداءة الثاني كما صعب ذلك في خطاب المسيح لنيقوديموس (يوحنا ص ٣). والمرجح أنه ابتدأ هنا يتلفت إلى الغلاطيين وهو يخاطب بطرس وفرغ من مخاطتبه في نهاية هذا الأصحاح.
١٩ «لأَنِّي مُتُّ بِٱلنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلّٰهِ».
رومية ٦: ١١ و١٤ و٧: ٤ و٦ و٨: ٢ و٢كورنثوس ٥: ١٥ و١تسالونيكي ٥: ١٠ وعبرانيين ٩: ١٤ و١بطرس ٤: ٢
لأَنِّي ترك الفرض وأخذ يتكلم في الواقع. ومراده من هذه الآية أنه لم يكن معترضاً بترك الناموس بالنظر إلى التبرير.
مُتُّ بِٱلنَّامُوسِ أي بواسطة الناموس لأنه كان مؤدباً لي ليرشدني إلى الفادي لأنه «كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح» (ص ٣: ٢٤) فحكم علي بالخطيئة فالجأني أن أهرب إلى المسيح من غضب الله (رومية ٣: ٢٠) وعلمني أنه وقتي وأن كل رموزه تشير إلى الكاهن السماوي (رومية ١٠: ٤) ووعدني بشريعة جديدة تُكتب على القلب (تثنية ١٨: ١٥ - ١٩ وإرميا ٣١: ٣٣).
لِلنَّامُوسِ أي مت له باعتبار كونه علة التبرير وعلة الدينونة فإن المسيح حين مات أكمل الناموس الرسمي وحرر المؤمنين من مطاليبه وكل المؤمنين متحدون به بواسطة الإيمان فماتوا معه للناموس فخلصوا منه ولم يعتبروه واسطة للتبرير. وهذا خلاف ما اعتقده بولس أولاً حين اجتهد في حفظه وتوقع أن يتبرر به (فيلبي ٣: ٣ و٦). وكلامه في هذه الآية على وفق قوله «إِذاً يَا إِخْوَتِي أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ مُتُّمْ لِلنَّامُوسِ بِجَسَدِ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٧: ٤) وقوله «إِذاً إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ» (كولوسي ٢: ٢٠). ومعنى «الموت للناموس» التحرر من حفظه للتبرير ومن لعنته على التعدي السابق.
لأَحْيَا لِلّٰهِ فالموت عن الخطيئة ضروري للحياة للبر والموت والناموس ضروري للتمهيد للتبرير بالإيمان لأنه ما دام الإنسان يتكل على الناموس للتبرير والحياة لا يقدر أن يتمسك بالمسيح الذي يقدر المؤمن أن يحيا لله. والحياة لله هي حياة الطاعة الاختيارية كطاعة الأولاد المبنية على الاتحاد بالمسيح والنعمة التي يهبها والروح الذي يمنحه والشكر لله على رحمته. فالمؤمن فوق كونه مات للناموس بالنظر إلى كونه علة التبرير مات عن الخطيئة باعنبار كونها قوة متسلطة عليه وقام بالحياة الجديدة أعني حياة البر والقداسة.
٢٠ «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي».
رومية ٦: ٦ وص ٥: ٢٤ و٦: ١٤ و٢كورنثوس ٥: ١٥ و١تسالونيكي ٥: ١٠ و١بطرس ٤: ٢ ص ١: ٤ وأفسس ٥: ٢ وتيطس ٢: ١٤
مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ هذا تفسير لقوله «متّ للناموس» (ع ١٩) وبيان لاتحاده بالمسيح. وكان ذلك حين آمن فإن بولس كان متحداً بالمسيح اتحاداً كان به أن ما حدث للمسيح حدث له. فمات المسيح بالناموس حاملاً لعنة الناموس بتعلقه على الخشبة. ومات المسيح للناموس بأن أكمل كل رسومه وإشاراته وظلاله وكان موته آخر مطاليبه بدليل قوله «أطاع حتى الموت» (كولوسي ٢: ٨) وبولس بالنظر إلى اتحاده بالمسيح تحرر من كل مطاليبه باعتبار كونها شرطاً للخلاص. فمات بصلبه مع المسيح عن الناموس والعالم والخطيئة.
فَأَحْيَا حياة جديدة روحية باتحادي بالمسيح الحي بدليل قوله «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يوحنا ١١: ٢٥ و٢٦). فغاية موتي للناموس أن أحيا مع المسيح فموتي من جهة لا يمنع حياتي من جهة أخرى إذ حياتي الجديدة هي التي تستحق أن تسمى حياة.
لاَ أَنَا شاول اليهودي الإنسان العتيق الأرضي من الأرض. كما كنت في الحياة العتيقة تحت سلطة الخطيئة ولعنة الناموس بل الإنسان الجديد (ص ٥: ٢٤ وكولوسي ٣: ١١). «ولا أنا» بقوة نفسي لأن حياتي ليست لي بل للمسيح الحي فيّ ولست أحيا مستقلاً بل متحداً بالمسيح.
بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ ذلك الذي صُلب ولكنه قام من الموت فهو علة حياتي فإني اتحدت به اتحاد الغصن بالكرمة فحياتي بحياته. والمسيح يحيا في كل فرد من أفراد شعبه المؤمن كحياة الكرمة في كل غصن من أغصانها.
فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ منذ آمنت بمقابلة حياتي الآن بحياتي قبل إيماني أو بمقابلة حياتي الظاهرة الزمنية بحياتي الحقيقية الروحية. وحياته في الجسد هي الحياة الظاهرة للناس وأما حياته الجديدة فمستترة مع المسيح في الله أي بالمسيح باعتبار كونه يحيا فيه (كولوسي ٣: ٣).
فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ هذه مقابلة حياته في الجسد فإن الحياة الروحية تمتاز بالإيمان عن الحياة الطبيعية فبالإيمان تتحد نفس المؤمن بالمسيح حتى أنه يلبس المسيح (ص ٣: ٢٧). وهذه الحياة تبتدئ بالإيمان فالإيمان علة دوامها وبه يصير المسيحي عظماً من عظام المسيح ولحماً من لحمه (أفسس ٥: ٣٠). وينال قوته الروحي منه (يوحنا ١٥: ١).
إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ فالمسيح غاية هذه الحياة ومصدرها (كولوسي ٣: ٤ انظر أيضاً يوحنا ١٥: ٥ و١٧: ٢٣). وكون المسيح ابن الله في الجوهر جعله أصل حياة كل المؤمنين وجعل موته على الصليب كفارة عن المؤمنين وينبوع حياة أبدية لهم (يوحنا ٥: ٢٥ و٢٦). والمسيح شخص والإيمان به تمسك المؤمن به وتوكله عليه لا مجرد الإيمان بالعقائد.
ٱلَّذِي أَحَبَّنِي مجاناً وهذه المحبة رباط الاتحاد بينه وبين المسيح. وقال «احبني» لا أحب الجنس البشري إشارة إلى أن المسيح أحب كل فرد من المؤمنين ومات من أجله.
وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي هذا برهان محبته وهو أعظم برهان يمكن إيراده. فموت المسيح عن الخاطئ كأنه الخاطئ الوحيد في الكون هو الذي جعله يتأكد خلاصه وينشيء فيه فرط الشكر له. وقوله «لأجلي» بمعنى بدلي أي أن ذلك البار مات من أجلي أنا الخاطئ لكي لا أموت موتاً أدبياً.
٢١ «لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِٱلنَّامُوسِ بِرٌّ، فَٱلْمَسِيحُ إِذاً مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ».
رومية ١١: ٦ وص ٣: ٢١ و٥: ٤ وعبرانيين ٧: ١١
لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ لا بتعليمي ولا بعملي بمقتضى الرسوم والعوائد اليهودية كما يفعل أولئك المتعلمون المتهودون الذين يجعلون النعمة الإلهية عبثاً بإيجابهم حفظ الناموس للتبرير. ونعمة الله هي ما تطلب تبرير الخاطئ وتقديسه وخلاصه التام مجاناً وهي ظاهرة في المسيح فكأن الرسول قال خُيرت بين الناموس والمسيح فاخترت المسيح. وفي نفي تبطيل النعمة عن نفسه تعريض بأن غيره بطلها وهم أما المعلمون الفريسيون الذين أفسدوا ضمائر الناس بتعليمهم أو بطرس الذي شاركهم بسلوكه فإنهم فضلوا ناموس العدل على ناموس النعمة وتركوا المسيح فأبانوا أن موته لم يكن ضرورياً وأنه كان باطلاً.
إِنْ كَانَ بِٱلنَّامُوسِ بِرٌّ أي نتيجة تبرير. والكلام هنا فرض وهو إن كان الخاطئ يتبرر ويخلص بواسطة ناموس موسى أو ناموس آخر أو عمل آخر كان ذلك برهاناً على صحة ما يأتي.
فَٱلْمَسِيحُ إِذاً مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ أي لم يكن من حاجة ولا داع إلى موته فكان موته عبثاً. وهذا ما استلزمه بالضرورة تعليم الفريسيين الذي سماه آنفاً «إنجيلاً آخر» فبيّن هذا الاستلزام بطلانه وما فيه من التجديف. والواقع أن المسيح مات وهذا برهان قاطع أن الناموس عاجز عن التبرير فلا سبيل إلى تبرير الخاطئ سوى موت ابن الله. وهذا نهاية خطاب بولس كثيراً فلم يذكر شيئاً من أمر تأثير خطابه فيهم ولا ريب في أن بطرس خجل وتاب كما فعل يوم أنكر سيده على أنه بقي في الكنيسة الأولى قوم تمسكوا بتعاليم الذين قاوموا بولس هنا وسموا الأبونيين والغنوسيين وأضروا الكنيسة كثيراً. وأما تعليم «إن البار بالإيمان يحيا» فبقي وانتصر وقوي بمقاومتهم إياه كما انتصر على غيرهم ولن يزال بنتصر على رغم كل مقاوميه.

فوائد



  • إن الحرية في المسيح التي دفع عنها بولس لم تمنعه من أن يكون «خادماً للجميع» لكي يربح نفوسهم للمسيح لكنها منعته من الخضوع لأمر بشري ينافي حكم ضميره أو يدعي أنه من أوامر الله وأنه شرط ضروري للخلاص. والذي أتاه من تلقاء نفسه لكي لا يعثر أخوه الضعيف لا يعتبره منافياً لحريته في المسيح فكان لا يفتأ يميّز بين أوامر الناس وأوامر الله ورأى أنه حر أن يطيع الأولى أو لا بمقتضى استحسانه وأما الثانية فرأى أنه مضطر أن يطيعها فإنه ختن تيموثاوس استحساناً وأبى أن يختن تيطس لأن بعض الذين معه أرادوا إجباره على ذلك لاعتبارهم أنه ضروري للخلاص (ع ٤).
  • إن أشد أعداء الحق ضرراً لراحة الكنيسة ونجاحها هم الأعداء الذين فيها وقد دخلوها لأغراض نفسانية لا لتمجيد المسيح (ع ٤).
  • إنه لا يحسن في أمور الدين أن ننظر إلى عظمة الذين يعتقدون هذه العقيدة أو تلك ولا إلى وفرة عددهم بل إلى كون العقيدة موافقة لتعليم المسيح أو لا (ع ٦).
  • إن كل المواهب الروحية من الله فاقتدارنا على تعليمنا غيرنا منه وكل نجاح في التبشير من آلائه وعلى ذلك يجب أن نطلب الاقتدار والنجاح منه في الصلاة وإننا إذ حصلنا عليهما وجب أن نشكره ونعطيه كل المجد (ع ٨).
  • إنه ليس كل اتفاق حسناً فقد يتفق الكثيرون على ما لا يحل فإن بولس لو وافق الذين أوجبوا على متنصري الأمم حفظ شريعة موسى على آرائهم لا تنفي الخلاف بينه وبين كنيسة أورشليم والرسل في أول أمرهم ولكن الاتفاق الحقيقي كان حينما أقنع الرسل الثلاثة وغيرهم من عمدة الكنيسة ببراهين الروح القدس على أن الطريق التي سار فيها بتبشيره الأمم بالإنجيل هي طريق الحق فأعطوه يمين الشركة (ع ٩).
  • إن الذي يرغب في أن يرضي الناس يعرّض نفسه للسقوط من سبيل الاستقامة وقد وقع بطرس في هذه التجربة فينبغي أن تكون على حذر منها وأن نجتهد في رضى الله والتمسك بالحق أكثر من التمسك رضى أفضل الناس وأعز الأصحاب كما فعل بولس لما قاوم بطرس مع أنه أقدم منه في الإيمان وبرنابا مع أنه رفيقه العزيز (ع ١٣ و١٤).
  • إنه إذا كنا مستحقين للتوبيخ فخير لنا أن يكون لنا موبخ أمين كبولس وأن يجعلنا الله متواضعين لنقبل ما استحققنا من التوبيخ كبطرس (ع ١٤).
  • إنه يجب على المعلمين المسيحيين أن يحذروا من أن يفسدوا بسيرتهم ما أصلحوه بتعليمهم فيكونوا كما يبني بيد ويهدم بأخرى (ع ١٨).
  • إن غاية تحررنا من الناموس هي أن لا لنحيا لأنفسنا ولا لشهواتنا ولا للعالم بل لله (ع ١٩).
  • إن مشاركتنا للمسيح ليست مجرد المشاركة في صلبه لأن ذلك يجعل ديننا بلا سرور فإننا مدعوون إلى مشاركته في حياته أيضاً (ع ٢٠).
  • إن كون «المسيح أحبنا وأسلم نفسه من أجلنا» مختصر عمل الفداء وأعظم مواضيع التعزية وأسمى موجبات المحبة والشكر والخدمة. فكلما اعتبرنا أن موته كان عنا خاصة وأنه ذكر أسماءنا حين عُلق على الصليب وطلب أن نكون معه في ملكوته وأن خطايانا هي التي حملته على سفك دمه شعرنا بزيادة المنة له (ع ٢٠).
  • إن كل من يعلم أن الإنسان يمكنه أن يخلص بدون اتكاله على ذبيحة المسيح الكفارية يبطل نعمة الله ويجعل موت المسيح بلا سبب وكذلك قيامته وانتصاره على الخطيئة والهاوية. فصرح بولس أن ذلك نتيجة ضرورية من تعليم أن التبرير والخلاص بالناموس. فكان يجب أن تكون هذه النتيجة كافية لمنع كل أحد من قبول ذلك التعليم ومع هذا نرى أكثر الناس متكلين على بر أنفسهم دون نعمة المسيح وهذا عين الخطيئة التي هي الازدراء بالنعمة والحكم أن المسيح مات بلا سبب وهم ينادون بذلك بأعمالهم مع مدحهم النعمة والافتخار بالصليب بأفواههم.
  • إن الدين المسيحي يوجب على تابعيه أمرين هما الموت والحياة أي الموت عن الخطيئة والعالم وحب الذات وشهوات الجسد وعن الناموس كعلة التبرير والحياة للمسيح ولله حياة القداسة والإيمان والاتحاد بالمسيح والطاعة له والاجتهاد في توسيع ملكوته. وفي كل منهما نحتاج إلى الإيمان لأنه بدون الإيمان بأنه الذبيحة الكفارية وأنه حمل لعنة الناموس عنا ومحا خطايانا وهو على الصليب لا نستطيع أن نموت عن الخطيئة والناموس ولا يمكننا بلا إيمان أن نقوم معه في جدة الحياة ونحيا حياة القداسة والطاعة باتحادنا به وقبولنا روحه القدوس (ع ٢٠).




اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ


إثبات كون التبرير بالإيمان وأن الذين تحت الناموس هم تحت اللعنة. وهذا الأصحاح بداءة القسم الثاني من هذه الرسالة وهو ينتهي في (ص ٥: ١٢) وفيه احتجاج على أن التبرير بالإيمان لا بأعمال الناموس. وافتتح كلامه فيه بتوبيخ الغلاطيين على سرعة انقيادهم بحيلة بعض المعلمين حتى أنهم تركوا الإنجيل وتمسكوا بالناموس (ع ١). وسألهم أن يشهدوا بمقتضى اختبارهم أنهم نالوا موهبة الروح القدس التي هي أعظم المواهب بواسطة الإنجيل لا بحفظهم الرسوم الناموسية (ع ٢ - ٥) وأورد لهم مثالاً من العهد القديم إبراهيم الذي تبرر بالإيمان وأنهم هم أولاده إذا آمنوا إيمانه (ع ٦ - ٩). وأن الناموس أوجب اللعنة على كل من تحته لتعديهم إياه فاستحال أن يتبرر أحد به. والمسيح حمل هذه اللعنة عنا حتى يمكننا أن نتبرر قدام الله بالإيمان به. وبذلك الإيمان يمكن الأمم أن تنال بركة إبراهيم وتخلص كما خلص هو (ع ١٠ - ١٤). ومما يثبت أن التبرير بالإيمان هو أن الوعد كان لإبراهيم قبل إعطاء الناموس على سبيل العهد وفيه إشارة إلى المسيح والتبرير به وكان مبنياً على الإيمان فمن المحال أن ينسخه الناموس الذي أعطي بعده بسنين كثيرة (ع ١٥ - ١٨). وبيان غاية الناموس ودفع اعتراض أن تعليم التبرير بالإيمان جعل الناموس بلا قيمة (ع ١٩ و٢٠). ودفع اعتراض آخر وهو أن الناموس مناف لمواعيد الإنجيل (ع ٢١ - ٢٤). وأن تعليم التبرير بالإيمان يحرر الإنسان من عبودية الناموس ويجعله ابناً لله فإن الناموس ليس سوى مؤدب يقود إلى المسيح فبالإيمان نصير أولاد الله وأهل بيت واحدٍ بالمسيح وأولاد إبراهيم وورثة ما وُعد به (ع ٢٥ - ٢٩).
إثبات كون التبرير بالإيمان وأن الذين تحت الناموس هم تحت لعنة ع ١ إلى ١٤


١ «أَيُّهَا ٱلْغَلاَطِيُّونَ ٱلأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوباً!».
ص ٥: ٧ ص ٢: ١٤ عدد ٢١: ٩
أَيُّهَا ٱلْغَلاَطِيُّونَ ٱلأَغْبِيَاءُ وصفهم الرسول بالغباوة لأنهم لم يستعملوا عقولهم للتمييز بين الحق والباطل في أمر التبرير ولتقلبهم السريع في آرائهم وعقائدهم وبيّن أسفه وتعجبه من تركهم الإنجيل لأجل الناموس.
مَنْ رَقَاكُمْ استعار الرسول ما زعمه الناس من تأثير السحر في الألباب لتأثير تعليم الكذبة في قلوب الغلاطيين لتصوره أن انحرافهم عن الحق الصريح الذي اعتقدوه أولاً إلى البدعة القبيحة المهلكة التي جاء بها المضلون لا يمكن إلا بمثل ما يُزعم من أعمال السحرة مما تُظلم به العقول وتُفسد الأذهان. فكأن أولئك الخادعين حوّلوا عيون الغلاطيين باحتيالهم ومكرهم المشبه أعمال السحرة المزعومة عن النظر إلى المسيح مصلوباً وموضوع الإيمان والاعتقاد إلى أعمال الناموس كأنه علة الخلاص الجوهرية.
حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ أي تسلموا بحق الإنجيل الذي خلاصته أن الخاطئ لا يتبرر إلا بالإيمان بالمسيح.
رُسِمَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوباً لم يتعجب الرسول لو حدث ما كان منهم من تقلب الآراء ممن لم يكن لهم فرصة أن يعرفوا حقيقة عمل المسيح للفداء وتأثيره في تبرير المؤمن كما عرفوا هم من تبشيره إياهم فإنه أعلن ذلك لهم بتعليمه ووعظه بكل وضوح كأنهم وقفوا أمام صليب المسيح وشاهدوه يتألم ويموت من أجل خطايا البشر. فكان من الواجب أن تأثير ذلك يكون علة غاية الشدة حتى يمنع كل قوة من تحويل نظرهم إلى غيره. والتأثير الذي نسبه الرسول إلى مشاهدة المسيح مصلوباً على وفق قول المسيح «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا ١٢: ٣٢). ورسم المسيح مصلوباً بوضوح البشرى يتضمن بيان تأثير موته عن المؤمنين وهو التبرير مجاناً. وقال «رسم بينكم مصلوباً» بياناً أن تبشيره بذلك كان على غاية الوضوح كأن المسيح صُلب في غلاطية كما صُلب في أورشليم. وهذا الموضوع كان أعظم مواضيع تبشير بولس في كل مكان بدليل قوله لأهل كورنثوس «لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (١كورنثوس ٢: ٢).
والمراد من قوله «من رقاكم الخ» هو أنه بعدما تحققتم موت المسيح وآلامه عرفتهم الغاية من ذلك كيف سلمتم أن أولئك المضلين يخدعونكم حتى تصرفوا عن إيمانكم به وتتوقعوا التبرير بواسطة أخرى.
٢ «أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هٰذَا فَقَطْ: أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَخَذْتُمُ ٱلرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ ٱلإِيمَانِ؟».
أعمال ٢: ٣٨ و٨: ١٥ و١٠: ٤٧ و١٥: ٨ وع ١٤ وأفسس ١: ١٣ وعبرانيين ٦: ٤ رومية ١٠: ١٦ و١٧
أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هٰذَا فَقَطْ لأن جواب السؤال الآتي كاف وحده لإزالة كل ريب في أي الأمرين أعظم الإنجيل أم الناموس وأيهما يجب أن نلقي عليه رجاء الخلاص. خاطبهم كأنهم أناس جُددوا واختبروا قوة الروح القدس فاستند على اختبارهم لاعتقاده أنه كاف لتقديرهم على الإجابة عن السؤال والحكم بصحة آرائهم الأولى أو آرائهم المحدثة.
أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أي هل أُثبتم لطاعتكم أعمال الناموس أدبية أو رمزية أو رسمية بما يأتي.
أَخَذْتُمُ ٱلرُّوحَ أي الروح القدس. وأشار بذلك إلى كل تأثيرات الروح القدس الظاهرة والباطنة في تجديد القلوب وتقديسها وفي تعزية المصابين ومنح المواهب العجيبة من النبوءة والتكلم بالألسنة وترجمتها وتمييز الأرواح ومواهب الشفاء وغير ذلك مما كان آية حضور الروح وقوته. وأُعطيت المؤمنين الأولين تثبيتاً للتعليم الإنجيلي الذي سمعوه وقبلوه (أعمال ٨: ١٧ و١٠: ٤٤ - ٤٦ و١٩: ٦ و١كورنثوس ص ١٢ وص ١٤).
أَمْ بِخَبَرِ ٱلإِيمَانِ خبر الإيمان هنا هو عين وعظ بولس لأن موضوعه الإنباء بأن الإيمان هو واسطة التبرير والخلاص. وهذا خلاصة الإنجيل كله وهو الآلة استعملها الروح القدس للتجديد والتنوير. وغنيٌ عن البيان أن هبة الروح مقترنة بالتبشير بالإنجيل لا بالمناداة بالناموس وفي ذلك دليل قاطع أن الإنجيل حق وأنه من الله. والمقابلة هنا بين الإيمان والأعمال لا بين سمع الخبر والعمل.
٣ «أَهٰكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ٱبْتَدَأْتُمْ بِٱلرُّوحِ تُكَمِّلُونَ ٱلآنَ بِٱلْجَسَدِ؟».
ص ٤: ٩ عبرانيين ٧: ١٦ و٩: ١٠
أَهٰكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ تقوم هذه الغباوة بما يأتي من كلامه وحقيقتها هي تفضيل الإنسان بعد الاختبار الأدنى على الأعلى. والاستفهام للتعجب فقد صعب على الرسول تصديق أن الغلاطيين بعدما قبلوا الإنجيل من شفتيه وشاهدوا آيات تأثيرهم بينهم تركوه وتمسكوا بالتعليم الفاسد.
أَبَعْدَمَا ٱبْتَدَأْتُمْ بِٱلرُّوحِ ابتدأوا عند إيمانهم بالحياة المسيحية بتأثير الروح القدس وإرشاده. وهذا الروح علمهم العبادة الروحية ووهب لهم الحرية التي بها يحرر المسيح شعبه.
تُكَمِّلُونَ كما زعمتم واجتهد المعلمون الكاذبون في أن يقنعوكم.
بِٱلْجَسَدِ أي بالناموس وسمي (جسداً) للمقابلة بالروح. إن اعتقاد التبرير بأعمال الناموس هو الذي يستحسنه العقل البشري ويستعبد الناس للرسوم الجسدية التي هي أرضية وصعبة ودنيئة. فالاتكال على الناموس ورسومه للخلاص بدلاً من الاتكال على يسوع المسيح بالإيمان والاقتداء به هو «التكميل بالجسد» في كل عصر من عصور العالم فلم يُظهر الغلاطيون وحدهم تلك الغباوة.
٤ «أَهٰذَا ٱلْمِقْدَارَ ٱحْتَمَلْتُمْ عَبَثاً؟ إِنْ كَانَ عَبَثاً!».
عبرانيين ١٠: ٣٥ ٣٦ و٢يوحنا ٨
ٱحْتَمَلْتُمْ بما احتملوا حين آمنوا وتمسكوا بالإنجيل وابتدأوا بالروح من اضطهاد اليهود والأمم بتهييج اليهود إياهم فأصابهم ما أصاب التسالونيكيين الذين قال فيهم «مُتَمَثِّلِينَ بِكَنَائِسِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي هِيَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ ٱلآلاَمَ عَيْنَهَا كَمَا هُمْ أَيْضاً مِنَ ٱلْيَهُودِ، ٱلَّذِينَ قَتَلُوا ٱلرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ» (١تسالونيكي ١٤ و١٥).
عَبَثاً لأنكم لو قبلتم الناموس من أول أمركم لخلصتم من ذلك الاضطهاد وإن سقطتم من النعمة الآن تخسروا كل البركات الموعود بها الذين اضطهدوا من أجل إيمانهم بالحق (ص ٤: ١١ و١كورنثوس ١٥: ٢).
إِنْ كَانَ عَبَثاً لم ييأس الرسول من رجوعهم عن الاتكال على أعمال الناموس للخلاص إلى الإيمان بالمسيح ورجا أنهم يجنون إثمار امتحانهم وضيقاتهم.
٥ «فَٱلَّذِي يَمْنَحُكُمُ ٱلرُّوحَ، وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ، أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ ٱلإِيمَانِ؟».
٢كورنثوس ٣: ٨
هذا مكرر الآية الثانية معنى للتقرير. إن وجوب السؤال الذي سألهم إياه هنا يجدونه بالنظر حولهم في الاماكن التي يُظهر الروح القدس قوته في متجدديها فيتحققون أبالمناداة بناموس موسى مقترنة أعمال الروح أم بالمناداة بإنجيل يسوع المسيح.
فَٱلَّذِي يَمْنَحُكُمُ ٱلرُّوحَ هو الله فهو يعطي المؤمنين آيات الروح الخارقة العادة ومنح ذلك بالتبشير بالإنجيل لا بحفظ أعمال الناموس.
وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ أي يستمر على منح القوات الروحية والمواهب.
فِيكُمْ أي بينكم أيها المؤمنون بالمسيح. إن الله منحهم تلك القوات وهي العلامات الظاهرة والباطنة الدالة على وجوده وقوته.
أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ ٱلإِيمَانِ أي أحين كنتم مجتهدين في حفظ الناموس فمنحكم الله الروح والآيات أم حين آمنتم بالمسيح بواسطة التبشير. ولا بد من أن يكون جواب هذا السؤال أن الله صدق «خبر الإيمان» بآيات الروح القدس.
٦ «كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللّٰهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً».
تكوين ١٥: ٦ ورومية ٤: ٣ و٩ و٢١ و٢٢ ويعقوب ٢: ٣٢
قدر الرسول أنهم أجابوه بقوله «بخبر الإيمان» فأخذ يبرهن من تاريخ إبراهيم ما برهنه من اختبارهم.
كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللّٰهِ أي أن تاريخ إبراهيم يثبت ما برهنته من اختباركم فكما أن الله منحكم الروح القدس بإيمانكم لا بأعمالكم كذلك نال إبراهيم التبرير بالإيمان لا بالأعمال. والخلاصة أن التبرير وموهبة الروح القدس كلهيما من متعلقات الإيمان. والآية كلها مقتبسة من سفر التكوين (تكوين ١٥: ٦) واقتبست في الرسالة إلى رومية (رومية ٤: ٣) وسبق تفسيرها هناك. والكلمة ذات الشأن فيها «آمن» وغاية الرسول أن يبرهن فضل الإيمان على الناموس وبرهانه هو أن إبراهيم نال ما وُعد به من البركات بواسطة إيمانه. وهذا الإيمان يمكن الأمم كما يمكن اليهود فإذاً لا فضل لليهودي على اليوناني من جهة الحقوق والامتيازات التي افتخر اليهود بها ولا نفع من تلك الرسوم الثقيلة التي أراد المعلمون الفريسيون أن يحملوا الغلاطيين إياها.
آمن إبراهيم وتبرر قبل أن أُعطي ناموس موسى ويتضح من ذلك أن حفظ ذلك الناموس لم يكن ضرورياً لإبراهيم أي أنه لم يكن مضطراً إلى حفظه وإلا لم يمكن أن يتبرر والذي لم يكن ضرورياً له ليس بضروري لغيره. وبهذا البرهان أبطل تعليم الذين أوجبوا حفظ الناموس.
٧ «ٱعْلَمُوا إِذاً أَنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ».
يوحنا ٨: ٣٩ ورومية ٤: ١١ و١٢ و١٦
ٱعْلَمُوا إِذاً أي تحققوا من مثَل إبراهيم.
أَنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ أي الذين حياتهم الروحية ناشئة عن الإيمان ورجاؤهم الخلاص مبني عليه خلافاً للذين بنوا رجاءهم الخلاص على حفظ الناموس.
أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ أي هم وحدهم لا الذين من الأعمال وهم نسل إبراهيم الروحي كما يتضح من الرسالة إلى أهل رومية (رومية ٤: ١١ و١٢ و١٦ و٩: ٦ - ٨). والبرهان أنهم أولاده أن إيمانهم مثل إيمانه ويمتازون به كما هو امتاز وتبرروا به كما هو تبرر ورضي الله عنهم كما رضي عنه فخلصوا به كما خلص.
٨ «وَٱلْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ ٱللّٰهَ بِٱلإِيمَانِ يُبَرِّرُ ٱلأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ».
رومية ٩: ١٧ وع ٢٢ تكوين ١٢: ٣ و١٨: ١٨ و٢٢: ١٨ وأعمال ٣: ٢٥
وَٱلْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى مثل كتاب الله كأنه سبق ورأى ما سبق ورأى مؤلفه.
أَنَّ ٱللّٰهَ بِٱلإِيمَانِ يُبَرِّرُ ٱلأُمَمَ حسب قضائه الأزلي الذي أعلنه بعض الإعلان بوعده لإبراهيم في قوله «فيك تتبارك جميع الأمم» (تكوين ١٢: ٣).
وتخصيصه الأمم هنا بالتبرير بالإيمان لا يلزم منه أن الله لم يقصد أن يبرر اليهود أيضاً بالإيمان لكنه خص الأمم بالذكر لأن الغلاطيين من الأمم والأمر المبحوث عنه ما هو ضروري للخلاص.
سَبَقَ فَبَشَّرَ أي تنبأ قبل إنجاز الوعد وقبل مجيء المسيح وقبل دعوة الأمم. وسمى أنباءه «تبشيراً» لأن جوهر الخبر المبهج أن الأمم تتبرر بالإيمان. وكون الوعد لإبراهيم إنجيلاً سابقاً بتبين من قول المسيح «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ» (يوحنا ٨: ٥٦).
فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ أي بكونك أباً روحياً لجميع المؤمنين. فاتخاذ هذه الكلمة إشارة إلى المؤمنين من نسل إبراهيم لا يمنع من اتخاذها في موضع آخر بمعنى آخر هو المسيح (ع ١٦) والمراد «بجميع الأمم» كل قبائل الأرض من اليهود والأمم الذين اقتفوا خطوات إبراهيم في الإيمان واتخذوه أباً روحياً فصاروا ورثة البركات التي نالها. والبركة التي وعد بها إبراهيم تؤكد لكل المؤمنين جميع فوائد ملكوت المسيح (أعمال ٣: ٢٥ ورومية ٤: ١٣) و هذا الوعد خلاصة وعدين الأول قوله «تتبارك فيك جميع قبائل الأرض» (تكوين ١٢: ٣) والثاني قوله «إِبْرَاهِيمُ يَكُونُ أُمَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً، وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلأَرْضِ» (تكوين ١٨: ١٨).
٩ «إِذاً ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُؤْمِنِ».
كما أن إبراهيم تبرر بإيمانه بوعد الله كذلك الذين يؤمنون إيمان إبراهيم ينالون بركة التبرير التي نالها إبراهيم وتلك البركة تتضمن غفران الخطايا ونسبة كل استحقاق المسيح إلى المؤمن والخلاص التام. والمراد «بالذين هم من الإيمان» المؤمنون بالمسيح (ع ٧). ومعنى قوله «يتباركون مع إبراهيم» يُعتبرون أولاده باعتبار كونه أباهم الروحي وأنهم يشاركونه هم وسائر المؤمنين في البركة كقول المسيح «أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى ٨: ١١). فكل من يشاركونه في الإيمان يشاركونه في التبرير وفي الخلاص.
ٱلْمُؤْمِنِ الذي امتاز إبراهيم به وتبرر هو الإيمان بالله وبهذا الإيمان عينه يمتاز كل من سواه وبه يتبررون ثم يتقدسون ثم يتمجدون.
١٠ «لأَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ».
رومية ٣: ٩ - ٢٠ تثنية ٢٧: ٢٦ وإرميا ١١: ٣
لأَنَّ هذه الآية تثبت الآية التاسعة لأن الذين اتكلوا على أعمال الناموس لا يقدرون أن يشاركوا إبراهيم في بركته لأنهم تحت لعنة الناموس لعجزهم عن طاعته الكاملة.
ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ هذا مقابل لقوله «الذين هم من الإيمان» (ع ٧ و٩). والمراد بقوله «الذين هم من أعمال الناموس» الذين يتكلون على القيام بأعمال الناموس للتبرير والخلاص.
هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ أوضح هذا الرسول في الرسالة إلى رومية (رومية ٣: ٢٠) وتلك اللعنة هي التي صرّح الناموس بها على كل من تعدّاه جزئياً أو كلياً. فحفظ بعضه دون بعض لا يرفع تلك اللعنة بدليل قول يعقوب الرسول «مَنْ حَفِظَ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ» (يعقوب ٢: ١٠) والكون «تحت لعنة» تعرّض للعقاب والهلاك الأبدي. وخلاصة الآية أن كل الذين طلبوا خلاص نفوسهم بأعمال الناموس عرضوا أنفسهم لحمل عقابه لأنه من المحال أن يحفظ الإنسان الناموس كله (رومية ٣: ١٩).
لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ في سفر التثنية (تثنية ٢٧: ٢٦) واقتبس معنى لا لفظاً.
مَنْ لاَ يَثْبُتُ هذا دليل على أن الناموس يطلب الطاعة الدائمة.
فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ هذا دليل على وجوب أن تكون الطاعة كاملة. وكون الإنسان لا يستطيع تلك الطاعة ظاهر في قول الرسول «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ ٱلنَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّامُوسِ، لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ ٱللّٰهِ» (رومية ٣: ١٩).
١١، ١٢ «١١ وَلٰكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِٱلنَّامُوسِ عِنْدَ ٱللّٰهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ ٱلْبَارَّ بِٱلإِيمَانِ يَحْيَا. ١٢ وَلٰكِنَّ ٱلنَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ ٱلإِيمَانِ، بَلِ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا».
ص ٢: ١٦ حبقوق ٢: ٤ ورومية ١: ١٧ وعبرانيين ١٠: ٣٨ رومية ٤: ٤ و٥ و١٠: ٥ و٦ و١١: ٦ لاويين ١٨: ٥ ونحميا ٩: ٢٩ وحزقيال ٢٠: ١١ ورومية ١٠: ٥
في هاتين الآيتين برهان على أن الناموس لا يأتي بالبركة الموعود بها إبراهيم لأنه لا يقدر أن يبرر أحداً لأن شرط التبرير الإيمان وليس للناموس من تعلق بالإيمان وليس له سوى الأعمال.
بِٱلنَّامُوسِ أي بواسطته أو بواسطة حفظه.
عِنْدَ ٱللّٰهِ أي بمقتضى حكمه حين يقف الإنسان أمامه للمحاكمة.
فَظَاهِرٌ بشهادة كلمة الله كما جاء في نبوءة حبقوق حسب ترجمة السبعين (حبقوق ٢: ٤ انظر تفسير هذه الآية في تفسير رومية ١: ١٧). والمعنى أنه لا يستطيع الخاطئ أن يتبرر بالأعمال لأن الله عيّن طريقاً آخر للتبرير.
ٱلنَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ ٱلإِيمَانِ لأن مبدأه الأصلي الأعمال لا الإيمان. والآية التي اقتبسها الرسول إثباتاً لقوله هي من سفر اللاويين (لاويين ١٨: ٥). والشرط الجوهري في الناموس على من يرغب في نيل الحياة الزمنية والأبدية بواسطته هو العمل بدوام الطاعة الكاملة لا الإيمان.
ٱلَّذِي يَفْعَلُهَا أي الفرائض والأحكام على ما في الأصل المقتبس منه (لاويين ١٨: ٥).
١٣، ١٤ «١٣ اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ. ١٤ لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ».
رومية ٨: ٣ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وص ٤: ٥ تثنية ٢١: ٢٣ رومية ٤: ٩ و١٦ إشعياء ٣٢: ١٥ و٤٤: ٣ وإرميا ٣١: ٣٣ و٣٢: ٤٠ وحزقيال ١١: ١٩ ويوئيل ٢: ٢٨ و٢٩ وزكريا ١٢: ١٠ ويوحنا ٧: ٣٩ وأعمال ٢: ٣٣
إن المسيح أتى كل الذين كانوا تحت لعنة الناموس بالخلاص لأنه حررهم منها فالناموس أتاهم باللعنة وهذا كل ما استطاعه فابتدأ عمل المسيح حيث انتهى عمل الناموس إذ أتى بالإنقاذ من اللعنة.
ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ لكي تأتينا البركة التي وُعد إبراهيم بها. إن جميع الناس يهوداً وأمماً احتاجوا إلى الفداء لأن جميعهم كانوا تحت اللعنة سواء فاليهود كانوا تحتها لتعديهم الناموس المكتوب والأمم لتعديهم الناموس المعلن لهم بالخليقة والضمائر (رومية ٣: ٩ و١٠). وعبر عن إنقاذ المسيح «بالاقتداء» لأن الفداء إيفاء المطلوب لإطلاق الأسير فالمسيح فدانا واشترانا بثمن من حمل العقاب على خطايانا بتأديته الثمن الذي طلبه الناموس بموته على الصليب مرة واحدة عن الجميع بدليل قوله «لأنكم قد اشتريتم بثمن» (١كورنثوس ٦: ٢٠ و٧: ٢٣) وقوله «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى... بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ» (١بطرس ١: ١٨ و١٩). وقوله «وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ» (رؤيا ٥: ٩). وقوله «هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَتْبَعُونَ ٱلْحَمَلَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هٰؤُلاَءِ ٱشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ ٱلنَّاسِ بَاكُورَةً لِلّٰهِ وَلِلْحَمَلِ» (رؤيا ١٤: ٤ انظر أيضاً متى ٢٠: ٢٨ و١تيموثاوس ٢: ٦ ورومية ٣: ٢٤ و١كورنثوس ١: ٣ وأفسس ١: ٧ و١٤ و٤: ٣٠ وكولسي ١: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٥). والذي جمل المسيح على افتدائنا هو محبته غير المحدودة على وفق قضاء الله الأزلي بالفداء.
ولعنة الناموس هي اللعنة التي صرّح بها على كل الذين لا يحفطون الناموس حفظاً تاماً.
إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا وهو البار واختار ذلك طوعاً. فرضي أن ينقل الله اللعنة من الجميع إليه وأن يعامله كأنه مذنب فعلاً كما كان في شريعة موسى يُنقل ذنب المذنب اليهودي إلى التيس عزازيل (لاويين ص ١٦) وهذا مثل قوله «لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ.» (٢كورنثوس ٥: ٢١).
لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ في سفر التثنية (تثنية ٢١: ٢٣) وهذا المكتوب هو ما أوصى به موسى في أمر المذنبين الذين رجموا أولاً ثم علقوا على الخشبة ومنه أن تبقى جثثهم معلقة ليلاً لئلا تتدنس الأرض المقدسة بها. والمسيح حمل لعنة الناموس على الصليب حتى مات. وفي الأصل العبراني المقتبس منه «ملعون من الله» وترك الرسول لفظتي «من الله» لأن المسيح لم يكن ملعوناً من الله حقيقة لكن الله عامله كأنه كذلك لأنه احتمل من تلقاء نفسه لعنة الخطأة وأتى ذلك على وفق إرادة الآب الذي سر بتقديمه نفسه على الصليب بدليل قوله «أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس ٥: ٢).
ذكر بولس لعنتين الأولى في الآية العاشرة وهو قوله «ملعون من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في أعمال الناموس ليعمل به» وهذه اللعنة عمت الجنس البشري. والثانية في الآية الثالثة عشرة وهي قوله «ملعون كل من عُلق على خشبة» وهذه اللعنة احتملها المسيح ليفدينا من اللعنة الأولى وكلتاهما من لعنات الناموس وإحداهما تشير إلى الذنب والأخرى تشير إلى العقاب فالمسيح «لعنة» بدلاً من جميع «الذين هم من أعمال الناموس» بكونه «من عُلق على خشبة».
لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ هذا غاية مصير المسيح لعنة. و «بركة إبراهيم» هي البركة التي وُعد بها هو ونسله وخلاصتها التبرير بالإيمان والخلاص بالمسيح.
لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ نحن المؤمنون من اليهود والأمم بلا التفات إلى النسل. و «موعد الروح» هنا هو المشار إليه في الآية الثانية من هذا الأصحاح. وهو من أعظم البركات الموعود بها في ملكوت المسيح (يؤيل ٢: ٢٨ و٢٩ ولوقا ٢٤: ٤٠ وأعمال ٢: ١٦ - ٢١). وقيّد هنا نيل الموعد بالإيمان. والعبارة جواب لسؤاله في الآية الثانية وهو قوله «أبأعمال الناموس أخذتم الروح أم بخبر الإيمان».

بيان غاية الناموس ع ١٥ إلى ٢٩


١٥ «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ أَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْداً قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ».
عبرانيين ٩: ١٧
بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ أَقُولُ أي أضرب لكم مثلاً إثباتاً لما سبق مما اعتاده الناس في الأمور اليومية.
لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْداً قَدْ تَمَكَّنَ إن العهد بعد أن يتفق عليه الناس ويصدقونه لا يمكن أن يُغفل عنه كأنه لم يكن ولا يمكن أن يغيره أحد بلا اتفاق الجميع على تغييره. والمراد بأنه «تمكن» أنه تثبت بوعد أو قسم أو ذبيحة أو طريق آخر بمقتضى عوائد البلاد.
وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ ما صدق في عهود الناس من دوامها بلا تغير يصدق بالأولى في عهود الله. وكان وعد الله لإبراهيم على طريق العهد (تثنية ١٢: ٧ و١٥: ١٨) وكان عهداً أبدياً.
أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ بوضع شروط جديدة لإنجازه. قال الرسول هذا لأن الحزب اليهودي أراد أن يضيف إلى عهد إبراهيم شرطاً جديداً وهو حفظ شريعة موسى الرمزية وادعوا أنه دون حفظها لا يقدر أحد أن ينال بركات العهد. وحاولوا أن يضيفوا على العهد الأبدي شيئاً أرضياً خارجياً وقتياً وهذا الشرط الجديد وهو إطاعة الناموس يستحيل على كل أحد أن يقوم به فإذا يستحيل عليه أن ينال بركة العهد به.
١٦ «وَأَمَّا ٱلْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي «إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ». لاَ يَقُولُ «وَفِي ٱلأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَفِي «نَسْلِكَ» ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ».
تكوين ١٢: ٣ و٧ و١٧: ٧ و٨ و٢٢: ١٨ وع ٨ ١كورنثوس ١٢: ١٢
هذه الآية معترضة بيّن الرسول بها أن المسيح هو الموعود به في عهد إبراهيم ويلزم من ذلك أنه لم ينجز حتى أتى هو وعلى هذا لا يمكن أن يبطل العهد بالناموس الذي كان قبل إتيانه.
ٱلْمَوَاعِيدُ عبّر عن الموعد بالجمع لتكرره لإبراهيم وغيره من الآباء (تكوين ١٢: ٣ و١٣: ١٥ و١٥: ٥ و١٨ و١٧: ٧ و٢٢: ١٨).
فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ هذا مقتبس من (تكوين ١٣: ١٥ و١٧: ٨). والموعود به حقيقة هو الأرض المقدسة لكن بولس اعتبره وعداً روحياً أيضاً لا لإبراهيم وحده بل لنسله معه ولا سيما المسيح.
لاَ يَقُولُ وَفِي ٱلأَنْسَالِ لئلا يقال أنه كان لأولاد قطورة وابن هاجر وأولاد عيسو.
كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ وَفِي نَسْلِكَ (تكوين ١٧: ٧). والمعنى أن الذي أعطي الوعد هو نسل إبراهيم الروحي أي المؤمنون الذين يسوع المسيح هو رأسهم ونائبهم وهم جسده لاتحادهم به بالإيمان الحي. فكلمة «نسل» اسم جنس يتضمن كل أولاد إبراهيم الروحيين لا أولاده الطبيعيين كما توهّم اليهود (ع ٢٨ و٢٩ ورومية ٤: ١٦ و١٨ و٩: ٨).
وليس في نسل إبراهيم الروحي من تمييز بين متنصري اليهود ومتنصري الأمم وكلاهما من أهل الموعد كأنهم نسل واحد بدليل قوله «تتبارك فيك جميع قبائل الأرض» وشرط نيله واحد للكل وهو أنه بالإيمان لا أن البعض يناله بالإيمان والبعض بالناموس بل يناله الكل بالإيمان مختونين وغلفاً. وهذا على وفق قوله «فَإِنَّهُ لَيْسَ بِٱلنَّامُوسِ كَانَ ٱلْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثاً لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ ٱلإِيمَانِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ ٱلإِيمَانُ وَبَطَلَ ٱلْوَعْدُ» (رومية ٤: ١٣ و١٤).
ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ لا باعتبار كونه يسوع الناصري مفرداً بل باعتباره مع أتباعه الذين هم أعضاء جسده وكونه آدم الثاني ورأس المفديين. وخلاصة ما قيل هنا هو ما قاله في (ع ٢٨ و٢٩) «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (انظر أيضاً ١كورنثوس ١٢: ١٢).
١٧ «وَإِنَّمَا أَقُولُ هٰذَا: إِنَّ ٱلنَّامُوسَ ٱلَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، لاَ يَنْسَخُ عَهْداً قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ ٱللّٰهِ نَحْوَ ٱلْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ ٱلْمَوْعِدَ».
خروج ١٢: ٤٠ و٤١ رومية ٤: ١٣ و١٤ وع ٢١
وَإِنَّمَا أَقُولُ هذا الإشارة إلى ما قاله آنفاً في عهود الناس (ع ١٥) بياناً أن الناموس الذي أُعطي بعد ما وعد الله الآباء مراراً لا يمكن أن ينسخ الوعد.
إِنَّ ٱلنَّامُوسَ الذي طلب الطاعة بدل شرط الوعد الذي هو عطية مجانية بشرط الأعمال.
ٱلَّذِي صَارَ بَعْدَ أي بعد الوعد.
أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً أي أن إعطاء الناموس على طور سينا كان بعد هذه المدة من الوعد لإبراهيم فحسب مدة تغرب إبراهيم وإسحاق ويعقوب مع مدة العبودية وعبر عنها استفانوس بأربع مئة سنة يوم آخر المواعيد ليعقوب وذلك بعد أن كان لإبراهيم في أور الكلدانيين بنحو مئتي سنة. وغاية بولس بيان أن الوعد سبق الناموس فقوى بذلك سلطان الوعد.
لاَ يَنْسَخُ عَهْداً أي موعداً كما كان ينسخه لو جعل حفظ الناموس شرطاً لنيل البركات الموعود بها بالعهد على سنن قوله «إِنْ كَانَ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ ٱلإِيمَانُ وَبَطَلَ ٱلْوَعْدُ!» (رومية ٤: ١٤). والنتيجة أن العهد لم يتغير أي بقي عهد النعمة لا عهد الأعمال والهبة المجانية لا الخدمة. والإيمان لا الناموس.
فَتَمَكَّنَ مِنَ ٱللّٰهِ كما جاء في الآية الخامسة عشرة.
نَحْوَ ٱلْمَسِيحِ أي لكي يتم بالمسيح. وهذه العبارة ليست في كل النسخ وليست بضرورية لتكميل المعنى.
حَتَّى يُبَطِّلَ ٱلْمَوْعِدَ هذا متعلق بقوله «لا ينسخ عهداً» والكلام عليه هناك.
١٨ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ ٱلْوِرَاثَةُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ فَلَمْ تَكُنْ أَيْضاً مِنْ مَوْعِدٍ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ».
رومية ٨: ١٧ رومية ٤: ١٤ و ١١: ٦
ٱلْوِرَاثَةُ جمع الرسول في هذه الكلمة كل البركات الروحية والزمنية الموعود بها إبراهيم ونسله بالإيمان وأعظمها المسيح والتبرير به الآن والتمجيد به أخيراً على وفق قوله «إِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٧ انظر أيضاً ص ٤: ٧).
مِنَ ٱلنَّامُوسِ أي لو كان حفظه شرط نيل البركات التي تتضمنها الوراثة.
فَلَمْ تَكُنْ أَيْضاً مِنْ مَوْعِدٍ لأن الموعد من النعمة المجانية التي تُقبل بالإيمان ولو كانت الوراثة من الناموس لكانت أجرة لا هبة مجانية. فالناموس والموعد ضدان باعتبار كونهما واسطتين للخلاص فالأول شرطه الأعمال والثاني شرطه الإيمان.
وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ وهذا دليل على أن الوراثة ليست من الناموس.
١٩ «فَلِمَاذَا ٱلنَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ ٱلنَّسْلُ ٱلَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّباً بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ».
يوحنا ١٥: ٢٢ ورومية ٤: ١٥ و٥: ٢٠ و٧: ٨ و١٣ و١تيموثاوس ١: ٩ ع ١٦ أعمال ٧: ٥٣ وعبرانيين ٢: ٢ خروج ٢٠: ١٩ و٢١ و٢٢ وتثنية ٥: ٥ و٢٢ و٢٣ و٢٧ و٣١ ويوحنا ١: ١٧ وأعمال ٧: ٣٨ و١تيموثاوس ٢: ٥
فَلِمَاذَا ٱلنَّامُوسُ أي فإن قال المعترض بناء على قولنا لا تبرير بالناموس ولا خلاص به «ألا يستلزم ذلك أن الناموس بلا نفع». وجواب هذا السؤال ألجأ بولس أن يوضح النسبة بين الناموس الموسوي والدين المسيحي فذكر أربعة أمور تتعلق بالناموس.

  • الأول: إن غايته الكف عن الخطيئة لا إنشاء القداسة.
  • الثاني: إنه وقتي تمهيدي.
  • الثالث: إنه أُعطي بواسطة الملائكة وموسى.
  • الرابع: إن حفظه متوقف على عمل الإنسان القابل السقوط.


قَدْ زِيدَ أي أنه لم يكن جزءاً من الوعد أُضيف إليه وإلا خالف ما قاله في الآية الخامسة عشرة من منع الزيادة. فإذا كان دخوله عرضاً مستقلاً بنفسه اعترض بين الوعد والإنجاز تمهيداً للوفاء به وبيان شدة الاحتياج إليه.
بِسَبَبِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ لا نعرف كل أنواع هذا السبب ولكننا نذكر أعظمها وهي أربعة:

  • الأول: منع وقوع التعديات أو كف الناس عن ارتكابها كقوله «عَالِماً هٰذَا: أَنَّ ٱلنَّامُوسَ لَمْ يُوضَعْ لِلْبَارِّ، بَلْ لِلأَثَمَةِ وَٱلْمُتَمَرِّدِينَ، لِلْفُجَّارِ وَٱلْخُطَاةِ، لِلدَّنِسِينَ وَٱلْمُسْتَبِيحِينَ، لِقَاتِلِي ٱلآبَاءِ وَقَاتِلِي ٱلأُمَّهَاتِ، لِقَاتِلِي ٱلنَّاس... وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ يُقَاوِمُ ٱلتَّعْلِيمَ ٱلصَّحِيحَ» (١تيموثاوس ١: ٩ و١٠).
  • الثاني: بيان العقاب للمتعدين وبذلك تستيقظ ضمائرهم وتنشأ فيهم الرغبة في الفداء.
  • الثالث: تكثير التعديات على وفق قوله «وَأَمَّا ٱلنَّامُوسُ فَدَخَلَ لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلْخَطِيَّةُ» (رومية ٥: ٢٠). وقوله «لَمْ أَعْرِفِ ٱلْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِٱلنَّامُوسِ. فَإِنَّنِي لَمْ أَعْرِفِ ٱلشَّهْوَةَ لَوْ لَمْ يَقُلِ ٱلنَّامُوسُ «لاَ تَشْتَهِ». وَلٰكِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِٱلْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ. لأَنْ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ ٱلْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ» (رومية ٧: ٧ و٨ انظر أيضاً ١كورنثوس ١٥: ٥٦) وذلك التكثير ليس من غاية الناموس ولا من تأثيره الذاتي لأن الناموس صالح ومقدس وعادل (رومية ٧: ١٢ و١٤ و٢٢) لكنه من تأثيره في طبيعة الإنسان الفاسدة فهو يحمل تلك الطبيعة على مقاومته وارتكاب المحظورات.
  • الرابع: بيان حقيقة الخطية وشرها وفظاعتها بمقابلتها بشريعة الله المقدسة وبذلك يتيقن الخطأة شرهم وفظاعة عصيانهم فيريهم عظمة مرضهم تمهيداً لشفائه ببيان افتقارهم إليه ولترغيبهم في المخلص الموعود به طبيباً روحانياً «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَباً، إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ» (رومية ٤: ١٥). و «لأَنَّ بِٱلنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٣: ٢٠). فبكل من تلك الأنواع ولا سيما الرابع كان الناموس مؤدباً لنا يقودنا إلى المسيح (ع ٢٤) أي ممهداً قلوبنا لقبوله.


إِلَى أَنْ يَأْتِيَ ٱلنَّسْلُ الذي قد وعد به وهو المسيح كما بُيّن في الآية السادسة عشرة. وأراد بقوله «إلى أن يأتي» كل المدة التي من إعطاء الموعد إلى إنجازه بالمسيح. والناموس دخل بينهما معترضاً وأكمل غايته من جهة إيضاح التعديات كما سبق.
مُرَتَّباً بِمَلاَئِكَةٍ واشتراك الملائكة في إعطاء الناموس ظاهر في قول موسى «جَاءَ ٱلرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلَأْلَأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رَبَوَاتِ ٱلْقُدْسِ، وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ» وفي اليونانية «ربوات الملائكة» بدل من «ربوات القدس» في العبرانية (تثنية ٣٣: ٢). وقال استفانوس في خطابه لمجلس اليهود « ٱلَّذِينَ أَخَذْتُمُ ٱلنَّامُوسَ بِتَرْتِيبِ مَلاَئِكَةٍ» (أعمال ٧: ٥٣). وقال الرسول في الرسالة إلى العبرانيين « لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ ٱلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ» (عبرانيين ٢: ٢) ولم تكن الملائكة في الناموس سوى آلات لتبليغ الناس إياه ولإعلان الآيات المقترنة به.
فِي يَدِ وَسِيطٍ أي موسى الذي جاء من حضرة الله إلى الشعب حاملاً بيده لوحي الشريعة كقوله «أنا كنت واقفاً بين الرب وبينكم في ذلك الوقت لكي أخبركم بكلام الرب. لأنكم خفتم من أجل النار ولم تصعدوا إلى الجبل». وسمي وسيطاً لتوسطه بين شعب إسرائيل والرب. وظن بعضهم أن الوسيط هنا المسيح هذا ليس بحق لأن المسيح وسيط العهد الجديد لا الناموس (عبرانيين ٨: ٦ و٩: ١٥ و١٢: ٢٤).
٢٠ «وَأَمَّا ٱلْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ».
رومية ٣: ٢٩ و٣٠
الغاية من هذه الآية أن الناموس لا يبطل الوعد وأنه دون الوعد لكونه وقتياً. واختلف المفسرون في معنى هذه الآية وبلغت أقوالهم فيه ما بين ٢٥٠ و٣٠٠ حتى قال بعضهم أنها ٤٣٠ وسنذكر الذي أنفق عليه الأكثرون.
وَأَمَّا ٱلْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ أي يستحيل أن يكون لواحد إذ وجود الوسيط يستلزم وجود شخصين أو مشيئتين لقطع العهد بينهما وكان للناموس وسيط فإذا كان عهداً بين اثنين هما الله والإنسان وشرطه الطاعة الكاملة من الإنسان فإذا هو عرضة للنسخ بخطيئة الإنسان وقد وقع ذلك.
وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ وهو رب الوعد وهو الذي أعطى الوعد ولم يكن غيره وفعل وحده إذ أعطاه إبراهيم بنفسه دون وسيط وهو لا يتغير. فالوعد ليس من نوع العهد بين فريقين بل هو هبة مجانية وشرطه متعلق بالله وحده فإذاً لا يمكن أن يسقط أو يخلف. والعبارة كقول النبي «إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية ٦: ٤) ولا منافاة بين قوله هنا وقوله «إن المسيح وسيط» (١تيموثاوس ٢: ٢٥) لأن موضوع كلام بولس هنا الوعد لإبراهيم لا الإنجيل. وعمل المسيح باعتبار كونه وسيطاً يفرق عن عمل موسى باعتبار أنه كذلك فإن المسيح صالح الخصمين المختلفين وجعلهما واحداً بنفسه.
٢١ «فَهَلِ ٱلنَّامُوسُ ضِدَّ مَوَاعِيدِ ٱللّٰهِ؟ حَاشَا! لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْبِرُّ بِٱلنَّامُوسِ».
ص ٢: ٢١
كون الناموس دون الوعد لا يستلزم أنه مناف له فإنه كان للناموس غاية خاصة هي تمهيد الطريق لنيل الوعد بالإيمان وإن كان ليس من شأنه أن يهب الحياة أو يبرر الخاطئ. فكان بذلك معيناً للوعد لأنه أثبت على كل الناس أنهم خطأة ومفتقرون إلى المسيح الموعود به.
فَهَلِ ٱلنَّامُوسُ الذي له وسيط.
ضِدَّ مَوَاعِيدِ ٱللّٰهِ التي كانت منه رأساً بلا وسيط. وعبر عن الوعد بالمواعيد جمعاً كما في الآية السادسة عشرة لتكريره مراراً لإبراهيم وسائر الآباء.
حَاشَا كلمة تنزيه لتأكيد النفي أتى بها دلالة على أن الناموس لا يمكن أن ينافي الوعد لأن الله منشئ الناموس كما أنه منشئ الوعد.
لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ كما ذهب إليه الفريسيون وبعض متنصري اليهود وهذا فرض مستحيل كما أبان في (ع ١١ و١٢ وص ٢: ١٦ ورومية ٣: ٢٠) فكون الناموس قانوناً خارجياً مكتوباً بأحرف يمتنع عليه أن يهب الحياة الروحية لأناس موتى بالخطيئة وأن يغير صفاتهم. إن الناموس طاهر صالح مقدس ولا يمكن أن يكون أحسن مما هو لكنه لا يتكفل بأن يهب الحياة ولا البر الذي هو شرطه. فإذا لا منافاة بين الناموس والوعد كأنهما متباريان لنيل غاية واحدة فغاية كل منهما غير غاية الآخر.
لَكَانَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْبِرُّ بِٱلنَّامُوسِ أي بالشريعة التي أُعلنت في طور سينا وهي لا يمكن أن يكون أحسن منها فإذا ما أمكن أن يكون البر بها استحال بالأولى أن يكون بشريعة دونها.
٢٢ «لٰكِنَّ ٱلْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى ٱلْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ».
ع ٨ رومية ٣: ٩ و١٩ و٢٣ و١١: ٣٢ رومية ٤: ١١ و١٢ و١٦
ٱلْكِتَابَ هو شريعة الله المكتوبة والمراد به هنا أسفار العهد القديم كما جاء في (يوحنا ٥: ٣٩).
أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ بدلاً من أن يهب البر والحياة الروحية. ومعنى «أغلق الخ» أثبت على كل إنسان من اليهود والأمم أنه تحت سلطة الخطيئة والدينونة كأسرى السجن بلا قوة على الهرب منه. وهذا مثل قوله «لأَنَّ ٱللّٰهَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْجَمِيعِ مَعاً فِي ٱلْعِصْيَانِ لِكَيْ يَرْحَمَ ٱلْجَمِيعَ» (رومية ١١: ٣٢ انظر أيضاً رومية ٣: ٩ و١٩). وهذه العبارة كشف سر العلة لعدم منع دخول الخطيئة إلى العالم وفيها مختصر تاريخ عمل الفداء.
لِيُعْطَى ٱلْمَوْعِدُ أي ما وعد به وسمي في الآية الثامنة عشرة «وراثة». وهو يتضمن الفداء من كل نتائج الخطيئة والحياة الأبدية.
مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فهو موضوع الإيمان وواهبه فالإيمان اليد التي بها يتمسك الخاطئ بالهبة المجانية التي في الموعد. والكلمة ذات الشأن في هذه الآية «ليعطى» وهي بيان أننا لا نستحق شيئاً بأعمال الناموس ولا ننال شيئاً به وأن الموعد هبة مجانية.
لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ «إيمان يسوع المسيح كما ذُكر».
٢٣ «وَلٰكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى ٱلإِيمَانِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ».
في هذه الآية بيان آخر لغاية الناموس.
قَبْلَمَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ أي قبل وجود إيمان يسوع المسيح (المذكور في الآية السابعة) في قلوب الناس. ولم يكن له وجود قبل أن أتى المسيح ونادى بإنجيله الذي أنبأ الناس بإتيان المسيح الموعود به ووجوب الإيمان به.
كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا كما في (ع ٢٢). ومعنى هذه الآية كمعنى قوله «أَنَّ ٱلنَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى ٱلإِنْسَانِ مَا دَامَ حَيّاً. فَإِنَّ ٱلْمَرْأَةَ ٱلَّتِي تَحْتَ رَجُلٍ هِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِٱلنَّامُوسِ بِٱلرَّجُلِ ٱلْحَيِّ. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَ ٱلرَّجُلُ فَقَدْ تَحَرَّرَتْ مِنْ نَامُوسِ ٱلرَّجُلِ... أَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ مَاتَ ٱلَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ» (رومية ٧: ١ و٢ و٦). والخلاصة أن الناموس حارس شديد وتأديبه قوي حتى يستحق أن يسمى عبودية ونضطر أن نطيعه إذ يقول «افعل هذا فتحيا» وأنه كان تمهيداً وقتياً إلى أن يأتي الوقت المعيّن لإعلان الحرية الإنجيلية.
إِلَى ٱلإِيمَانِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ كان الإيمان موجوداً في قضاء الله ومحجوباً عن الناس إلى أن أتى المسيح وبشر به وآمن الناس به. وغاية حراسة الناموس تأهيلنا لنظام الإيمان الآتي.
٢٤ «إِذاً قَدْ كَانَ ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِٱلإِيمَانِ».
متّى ٥: ١٧ ولوقا ١٦: ١٦ ورومية ١٠: ٤ وكولوسي ٢: ١٧ وعبرانيين ٩: ٩ و١٠ أعمال ١٣: ٣٩ وص ٢: ١٦ وفيلبي ٣: ٩ وعبرانيين ٧: ١٨ و١٩
إِذاً أي ينتج مما قيل في الآية السابقة وفيه شيء من التلميح إلى ما سيذكره في (ع ٢٦) من كوننا أبناء الله.
ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا الكلمة اليونانية المترجمة «بمؤدب» هي παιδαγωγος (بيداغوغس) ومعناها الخادم الأمين الذي كانوا في الأيام القديمة يكلون إليه الولد منذ الطفولة إلى أن يكون رشيداً فيحميه من الضرر الجسدي والأدبي ويرافقه من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت ويعده لحرية الشبيبة والرشد والعمل. وكان ينتهي عمل المؤدب حين يبلغ الولد رشده ويكون أهلاً للحرية. وليس المراد أن ناموس موسى وحده مؤدبنا بل الناموس الأدبي العام المعلن في الخليقة والضمير والكتاب.
إِلَى ٱلْمَسِيحِ الخ ليس المراد من هذا أن يسوع هو بمنزلة المعلم الذي كان المؤدب يقود الولد إليه في الطفولة لأن ليس من غاية الرسول هنا أن يشير إلى تعليم المسيح بل المراد الإشارة إلى كون المسيح أعظم من الناموس فالناموس يسلمه إلى المسيح متى أعده لذلك. فوجوده تحت تأديب الناموس وسلطته أفضل استعداد له لإطاعته المسيح المبنية على المحبة ولضبطه نفسه وفي ذلك الحرية الفضلى. ولما ارتقى الإنسان عن حراسة الناموس إلى حرية المسيح صار عضواً من ملكوت المسيح وتبرر بالإيمان وغُفرت خطاياه الماضية وحُسب باراً عند الله. إن الناموس يقودنا إلى المسيح لأنه يأمرنا بطاعة لا نستطيعها وينذرنا بالعقاب على عصياننا وبذلك يحملنا على الالتجاء إلى المسيح الذي قام بكل ما يجب علينا واحتمل القصاص عن خطايانا ووهب لنا مجاناً البر والحياة الأبدية التي طلبناهما من الناموس عبثاً.
٢٥ «وَلٰكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ».
بَعْدَ مَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ أي الإيمان بالمسيح الذي هو جوهر الوعد الذي كان الناموس إعداداً له وهو «غاية الناموس وتكميله».
لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ لأن الناموس إعدادي فهو وقتي فمتى اتحد المسيحي بالمسيح بالإيمان تبرر وتحرر من دينونة الناموس وشكواه وصار يعمل باختياره ما كان يجبره عليه الناموس ولا يقوم هو به.
٢٦ «لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
يوحنا ١: ١٢ ورومية ٨: ١٤ إلى ١٦ وص ٤: ٥ و١يوحنا ٣: ١ و٢ ورؤيا ٢١: ٧
هذه الآية بيان أننا لا نحتاج بعد إلى مؤدب.
جَمِيعاً من مؤمني اليهود والأمم.
أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ راشدون من أهل بيت الله لا أطفال يحتاجون إلى مؤدب يرشدهم ولهم كل حقوق الأبناء الراشدين في بيت أبيهم محررون من حراسة الناموس المختصة بالطفولة وقد أصابوا الحرية التامة. فالولادة الجديدة حين آمنوا جعلتهم أبناء «وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١: ١٢ انظر أيضاً ١يوحنا ٣: ١ و٢ و١٠).
بِٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي حصلنا على البنوة لله بواسطة الإيمان بالمسيح المخلص. فالإيمان عمل حر راشد يحصل به المؤمن على اتحاد محي بالمسيح.
٢٧ «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ».
رومية ٦: ٣ رومية ١٣: ١٤
ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ المعمودية رسم خارجي يدل على فعل داخلي. وهي من جهة المؤمن علامة وقفه نفسه لخدمة الله (رومية ٦: ٣ و٤) وقبوله المسيح مخلصاً له. ومن جهة الله علامة مغفرته خطايا المؤمن وتجديده إياه بالروح القدس وختم اتحاده بالمسيح بالإيمان. وقوله «اعتمدتم بالمسيح» كقوله «اعتمدتم ليسوع المسيح» (رومية ٦: ٣). وقول المسيح «عَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (متّى ٢٨: ١٩).
قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ حين اعتمدتم. ومعنى هذا كمعنى قوله «أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ ٱلْفَاسِدَ... وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ» (أفسس ٤: ٢٢ - ٢٤). وقوله «إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ» (كولوسي ٣: ٩ و١٠).
وهذه الآية تتضمن أمرين:
الأول: إنه بواسطة معمودية الروح التي معمودية الماء علامة لها وختم نولد ثانية وننتقل من عبودية الناموس ودينونته إلى الاتحاد الحي بالمسيح. فالبنوة لله لأن المسيح ابن الله «لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ» (رومية ٨: ١٤).
الثاني: إن المسيح بتعميده إيانا بالروح القدس يجعل النعمة الداخلية على وفق العلامة الخارجية.
إن الله لم يقصد أن تكون أسرار الكنيسة مجرد علامات فارغة بل قصد أن تقترن بالمرموز بها إليه. فعلينا أن نتوقع ذلك حسب وعده إذا أتيناها بإخلاص النية والمعرفة الكافية لإدراك ما يشار إليه بها. والمعمودية تمارس مرة واحدة ولا تكرر وأما المؤمن المسيحي المعتمد فلبس المسيح حين تعمده ويستمر كذلك كل يوم فيجتهد في أن يبلغ الاتحاد الكامل به والمشابهة له.
٢٨ «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
رومية ١٠: ١٢ و١كورنثوس ١٢: ١٣ وص ٥: ٦ وكولوسي ٣: ١١ يوحنا ١٠: ١٦ و١٧: ٢٠ وأفسس ٢: ١٤ إلى ١٦ و٤: ٤ و١٥
كون كل المؤمنين أولاد الله يجعلهم متساوين ويبطل أمام الله كل الامتيازات المتعلقة بالأصل والمقام والجنس ويجعلهم سواء باعتبار كونهم أعضاء كنيسة المسيح. والكلام هنا ليس مجرد خبر بأمر واقع بل تصريح أيضاً بأنه لا يجوز أن لا يكون كذلك بدليل قول يعقوب الرسول «يَا إِخْوَتِي، لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، رَبِّ ٱلْمَجْدِ، فِي ٱلْمُحَابَاةِ.َ.. وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً» (يعقوب ٢: ١ و٩). وهذا القانون في الدينيات لا في السياسيات والمدنيات. والإنجيل صرّح بأن كل الناس خطأة أمام الله على السواء وأنهم مفتقرون إلى نعمة الفداء كذلك وقد رفع النساء والعبيد إلى مقامهم الواجب والتمتع بكل ما يحق لهم لا دفعة ينشأ عنها الهياج والانقلاب بل تدريجاً بأن قرب قلوب ببعض الناس من بعض وأقنعهم بأن كل البشر إخوة.
لَيْسَ يَهُودِيٌّ أي بخلاف ظن اليهود أنهم أفضل البشر لأن الله فضلهم على سائر الناس (رومية ١٠: ١٢ و١كورنثوس ١٢: ١٣ وكولوسي ٣: ١١).
وَلاَ يُونَانِيٌّ تفرق اليونانيون على أثر فتوحات اسكندر الكبير في كل العالم المعروف وقتئذ وانتشرت اللغة اليونانية كذلك وسمى اليهود كل من ليس منهم يونانياً فكان الأمم واليونانيون مترادفين عندهم. فيكون المراد من اليهود واليونان جميع الناس كالمراد من كل اثنتين من الكلمات الآتية فإن كل الامتيازات أُبطلت بمقتضى الإنجيل حين صرنا أبناء الله بالإيمان بالمسيح.
لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ إن العبيد لم يكونوا في عصر بولس مساوين للأحرار ولكن الإنجيل صرّح بأن لهم كل ما للأحرار من الحقوق الدينية (١كورنثوس ٧: ٢١ و٢٢ وأفسس ٦: ٨).
لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى إنه كان للذكور في شريعة موسى ما ليس للإناث من الحقوق الروحية وأما الإنجيل فجعل حقوق الفريقين متساوية. والتمييز بين الذكر والأنثى طبيعي فجعله الرسول في منزلة التمييزين البشريين المذكورَين آنفاً.
وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي في الإيمان به. وهذا مثل قوله في المسيح «لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلٱثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ» (أفسس ٢: ١٤). إن الكنيسة جسد واحد رأسه المسيح (أفسس ٤: ١٥ و١كورنثوس ١٢: ١٥).
٢٩ «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ».
تكوين ٢١: ١٠ و١٢ ورومية ٩: ٧ وعبرانيين ١١: ١٨ رومية ٨: ١٧ وص ٤: ٧ و٢٨ وأفسس ٣: ٦
هذه الآية نتيجة احتجاج الرسول في اثنتين وعشرين آية سبقت في هذا الأصحاح إثباتاً لقوله «ٱعْلَمُوا إِذاً أَنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ» (ع ٧) أي أن المؤمنين بالمسيح هم أولاد إبراهيم الحقيقيين وورثة الوعد لأن المسيح هو نسل إبراهيم الحقيقي وأن المؤمنين به متحدون به فصاروا واحداً وقد لبسوا المسيح وهذا يحقق كونهم نسل إبراهيم الروحي وورثة كل البركات التي يتضمنها الوعد.

فوائد



  • إن الذين يتوقعون الخلاص بطريق غير طريق الإيمان بالمسيح هم مخدوعون كل الخداع (ع ١).
  • إن قول الإنسان لأخيه «يا غبي» على سبيل الهزء والإهانة يعرّضه للدينونة بدليل قول المسيح في بشارة متى (متى ٥: ٢٢) لكنه لا يكون كذلك إذا قال له هذا على سبيل الحزن والشفقة عليه لما يعتريه من العماية الروحية الاختيارية والرغبة في أن يكون مستنيراً ويرجع عن غباوته (ع ١).
  • إنه في أسفار العهد القديم بُشّر اليهود بالمسيح بواسطة رموز وإشارات ونبوءات يلتبس معناها لكنه في الإنجيل جاء الجوهر بدل الظل والمرموز إليه بدل الرمز والحقيقة بدل الرسم والمتنبأ به بدل النبوءة وأوضح كل ما كان مبهماً من أمور ملكوته وتعليمه والنجاة بواسطته (ع ١).
  • إن الطريق الوحيدة لنيل الروح القدس «خبر الإيمان» أي التبشير بالإنجيل ويشهد الروح بذلك. ومن بدء الخليقة إلى الآن لم ينل أحد ذلك الروح بالإصغاء إلى خبر الأعمال الصالحة ووجوب الطاعة للناموس (ع ٢).
  • إن البداءة الحسنة في أمر ممدوح لا تكفي فيجب على البادئ أن يستمر على العمل فباطلاً نتوقع الخلاص إذا ابتدأنا السير في طريق الإيمان بالمسيح وإرشاد الروح ثم عدلنا عن ذلك إلى طلب خلاصنا بأعمالنا الصالحة. فبداءة الحياة المسيحية ونهايتها وما بينهما ذلك كله بالإيمان (ع ٣).
  • إن تأثيرات الإنجيل العجيبة في الإنسان من أحسن الأدلة على كونه من الله (ع ٥).
  • إن توقع التبرير مما هو علة الدينونة من أفظع أنواع الجهل. فمتوقعه كذلك كمن يتوقع الدفء من جليد القطب الشمالي والبرودة من لهيب الأتون (ع ١٠).
  • إن كون التبرير بالإيمان لا بأعمال الناموس من تعليم العهد القديم كما أنه من تعليم العهد الجديد (ع ١١).
  • إن عهد الله لإبراهيم بُني على المسيح وثُبت به فالناموس الذي أُعطي بعد ذلك لم يُقصد به تغيير مطاليب الناموس وعظمتها إذا رغبوا في أن يخلصوا بالطاعة له ويحملهم على أن يطلبوا بواسطة العهد البركات التي عجزوا عن نيلها بالناموس (ع ١٧).
  • إنه لا يجوز أن نفهم بالناموس كل العهد القديم ولا أن نفهم بالإنجيل العهد الجديد وحده ولا أن نقول بما أن المسيح أتى وهو غاية الناموس والإنجيل حل محل الناموس لم يبق من حاجة إلى العهد القديم لأن المراد بالناموس الذي أُبطل هو المبدأ أن الخاطئ يخلص بقيامه بالأعمال التي يطلبها الناموس. فالعهد الجديد يثبت الناموس باعتبار كونه قانون الحياة كما يثبته العهد القديم مع أنه ينفي إمكان نيل الخلاص بواسطته. وفي العهد القديم تصريح بالخلاص المجاني كما في العهد الجديد. والفرق بين العهدين أنه في العهد القديم أُعلن الإنجيل برموز ووعد فكان محجوباً شيئاً وفي العهد الجديد أُعلن كل الإعلان والروح القدس أُعطي ليكتب الإنجيل على قلوب المؤمنين فكلاهما من مصدر واحد وإنجيلهما واحد وما جمعهما في إعلانه المقدس لا يفرقهما إنسان (ع ٢٥).
  • إننا إذا لبسنا ثوباً كان حينئذ لنا ما نستر به عيوننا ونزين أجسادنا فبر يسوع المسيح رداؤنا الحسن متى لبسناه سترت خطايانا واحتمينا به من غضب الله وتزينا به أمامه تعالى بحلية المسيح (ع ٢٧).
  • إن المعمودية آية اتحادنا بالمسيح بالإيمان وبنوتنا لله ودخولنا ملكوته. والذي عبر عنه بولس «بالإيمان» في (ع ٢٦) عبر عنه «بالمعمودية» في (ع ٢٧). وهذا دليل على أنه لا يمكن أن نتصور إيماناً لا يحمل المؤمن على المعمودية ولا أن نتصور معمودية بلا إيمان (ع ٢٦ و٢٧).




اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ


مقابلة بين حال العبودية التي كنا فيها قبل المسيح تحت الناموس وحال البنوة التي صرنا إليها بعده وفضل الثانية على الأولى (ع ١ - ١١). وتذكير الرسول الغلاطيين بمحبتهم السابقة له (ع ١٢ - ٢٠). وتمثيله بياناً لفضل الذين هم تحت الإنجيل على الذين تحت الناموس (ع ٢١ - ٣١).
حالنا تحت الناموس حال الأولاد القاصرين وحالنا في المسيح حال الورثة الراشدين ع ١ إلى ١١


١ «وَإِنَّمَا أَقُولُ: مَا دَامَ ٱلْوَارِثُ قَاصِراً لاَ يَفْرِقُ شَيْئاً عَنِ ٱلْعَبْدِ، مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ ٱلْجَمِيعِ».
إِنَّمَا أَقُولُ هذا مقدمة لما سيقوله في شأن القاصرين من الورثة والراشدين منهم لا إشارة إلى ما قبله.
مَا دَامَ ٱلْوَارِثُ قَاصِراً صرّح هنا بالقانون المتعارف وقتئذ في الأمور الدنيوية من جهة قاصري الورثة. ففي الأمور العالمية يحصل الوارث على ميراثه عند موت والده ولكن الله لكونه ينبوع الحياة وهو الحي الذي لا يموت يجعل أولاده ورثة بدون ما يقابل الموت من التغيير وعد عيّن لأولاد وقت نيل الميراث.
لاَ يَفْرِقُ شَيْئاً عَنِ ٱلْعَبْدِ وذلك مع كون الميراث محسوباً له وسيكون في ملكه. ولكنه ما دام قاصراً يكون بمنزلة العبد في كونه لا يقدر على التصرف بالميراث أكثر مما يقدر على ذلك عبد البيت فلا يقدر أن يشتري عقاراً ولا يبيع ملكاً ولا يكتب صكاً يثبت عند أرباب الحكومة. والمراد «بالقاصر» هنا الناس قبل ميلاد المسيح ولا سيما الأمة اليهودية.
مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ ٱلْجَمِيعِ لأنه الوارث.
٢ «بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ إِلَى ٱلْوَقْتِ ٱلْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ».
بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ هذا لا يصدق في الدنيويات ما لم يمت الأب أو يغب أو يُشغل بأمور ذات الشأن. ولم يذكر الرسول بأي واسطة صار الناس في تلك الحال. والحق أنهم صاروا فيها بمشيئة الله وقضائه. وفي الأصل اليوناني الأوصياء هم الذين يوكل إليهم النفوس والوكلاء الذين يوكل إليهم الأموال.
إِلَى ٱلْوَقْتِ ٱلْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ في بعض الممالك أرباب الحكومة تعيّن السن التي عندها يستولي الوارث على ميراثه وفي غيرها الوالد يعيّن ذلك. ولنا مما قيل هنا أن تعيين ذلك كان في غلاطية للوالد. وأبونا السماوي بحكمته غير المحدودة قد اختار الوقت الذي فيه يشغل شعبه من قصوره تحت رق الناموس إلى بلوغه الكامل في حرية الإنجيل.
٣ «هٰكَذَا نَحْنُ أَيْضاً: لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ».
ص ٢: ٤ وع ٩ وص ٥: ١ وكولوسي ٢: ٨ و٢٠ وعبرانيين ٩: ١٠
هٰكَذَا نَحْنُ المتنصرون من اليهود والأمم قبل إيماننا بالمسيح بدليل قوله «قَبْلَمَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى ٱلإِيمَانِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ» (ص ٣: ٢٣).
كُنَّا قَاصِرِينَ أي مثل القاصرين عن الميراث.
مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ المراد «بأركان العالم» هنا مبادئ العلم والمعنى إنا كنا كالذين يتعلمون حروف الهجاء. وهذا على وفق قوله «لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ ٱلزَّمَانِ، تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين ٥: ١٢ انظر أيضاً كولوسي ٢: ٨ و٢٠). وهو موافق لكل ما قيل في الأصحاح السابق من كوننا تحت مؤدب لأن نظام العهد القديم كان لليهود مدرسة إعدادية للإنجيل وكان قائماً بالأمور الخارجية من رسوم وعوائد وظلال الخيرات الآتية ونبوءات تنجز وتتم كلها في الديانة المسيحية بدليل قوله «تَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ» (ع ١٠). وكذلك الوثنيون فإنهم عبدوا الماديات كالأجرام السماوية والعناصر الطبيعية المحسوسة فيحق أن تسمى ديانتهم «عبودية لأركان العالم» بالنسبة إلى العبادة الروحية التي أعلنها المسيح بقوله «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا ٤: ٢٤). فيصح أن يقال على اليهود والأمم أنهم كانوا يعتبرون الرسوم أكثر من الحقائق والمحسوسات أكثر من الروحيات.
٤ «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ».
تكوين ٤٩: ١٠ ودانيال ٩: ٢٤ ومرقس ١: ١٥ وأفسس ١: ١٠ يوحنا ١: ١٤ ورومية ١: ٣ وفيلبي ٢: ٧ وعبرانيين ٢: ١٤ تكوين ٣: ١٥ وإشعياء ٧: ١٤ وميخا ٥: ٣ ومتّى ١: ٢٣ ولوقا ١: ٣١ و٢: ٧ متّى ٥: ١٧ ولوقا ٢: ٢٧
لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ حسب تعيين الله الآب عندما رأى العالم مستعد لمجيء المسيح وقبوله. فلو أتى المسيح على أثر سقوط البشر لما شعر بعظمة جرم الخطية ومرارة أثمارها وعجزهم أن يخلصوا أنفسهم بأعمالهم على ما في شريعة موسى أو غيرها من المكتوب على ألواح ضمائرهم وما شعر بالحاجة إلى مخلص ولكن في مدة نحو أربعة آلاف سنة اخترعوا أدياناً مختلفة فوجدوها غير كافية لإصلاح أحوالهم وتحققوا بطلانها وعرفوا عجزهم عن أحسن منها. فاحتيج إلى أعداد الطريق لمجيء المسيح بواسطة نبوءات وإشارات حت يُعرف عند مجيئه أنه المخلص الموعود به. وإلى أن تكون حال العالم السياسية والمدنية موافقة لذلك المجيء. وكذا كان لأن العالم كان عند مجيء المسيح رئيس السلام في حال السلام تحت سلطة الدولة الرومانية وفي حال يتمكن بها من إدراك الإنجيل وانتشاره فيه. وكان مجيء المسيح نهاية النظام الاستعدادي وبداءة النظام الجديد الباقي بدليل قوله «قَدْ كَمَلَ ٱلّزَمَانُ وَٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ» (مرقس ١: ١٥).
أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ من السماء. وإرسال الله إياه يستلزم أنه كان قبل أن أُرسل على وفق قوله «وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ» وكونه ابن الله يستلزم أنه إله على وفق قوله «وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يوحنا ١: ١ و٢). وقوله «ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ ٱلْكُلُّ» (كولوسي ١: ١٥ - ١٧).
مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ هذا دليل قاطع على ناسوته مع كونه ابن الله وذا طبيعة إلهية. وولادته من امرأة تستلزم مشاركته لكل البشر في الطبيعة.
مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بتعيين الله وإرادته هو. والمراد «بالناموس» هنا نوعاه الرسمي والأدبي اللذان أعلنهما الله لليهود وتممه المسيح وقام بكل مطاليبه باعتبار كونه نائباً عن الجنس البشري واحتمل ما وجب على الإنسان بتعديه ذلك الناموس. وبالنظر إلى ولادته تحت الناموس وتتميمه خُتن وقُدم في الهيكل (يوحنا ٢: ٢١ و٢٢ و٢٧ ومتى ٥: ١٧) وعُمد ليكمل كل بر (متّى ٣: ١٥) وبكونه «مولوداً تحت الناموس» اقتدر أن يفدي الذين هم تحت الناموس بحمله عنهم لعنة الناموس (ص ٣: ١٣). ولو وُلد المسيح من أميّة لم يستطع أن يفدي الذين تحت الناموس لعدم قيامه بمطاليبه. ولكونه يهودياً استطاع أن يكمل كل ما أوجبه الناموس ولذلك قال «إِنَّ ٱلْخَلاَصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ» (يوحنا ٤: ٢٢) أي ابتدأ منهم لكي يشترك فيه كل الجنس البشري بعدئذ.
٥ «لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ».
متّى ٢٠: ٢٨ وص ٣: ١٣ وأفسس ١: ٧ وتيطس ٢: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٢ و١بطرس ١: ١٨ و١٩ و٣: ١٨ ورؤيا ٥: ٩ و١٤: ٣ يوحنا ١: ١٢ وص ٣: ٢٦ وأفسس ١: ٥
لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بطاعته الكاملة له وتأديته بموته الثمن المطلوب لفدائهم. فهو اقتدى اليهود أولاً من الدينونة التي أوجبها عليهم الناموس المكتوب ثم الأمم الذين لم يعرفوا ذلك الناموس فإنه فداهم من دينونة الناموس المكتوب على قلوبهم وضمائرهم لأن اليهود والأمم كانوا خطأة جميعاً خالفوا شريعة الله الأبدية وعرضوا أنفسهم للهلاك. وفدانا من العبودية للناموس باعتبار كونه نيراً ثقيلاً على ضمائر الناس فضلاً عن أنه فدانا من لعنة الناموس.
لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ على وفق قوله «وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ» فانظر تفسير هذا هناك (يوحنا ١: ١٢ وانظر أيضاً تفسير رومية ٨: ١٥ و٢٣).
والتبني من ملحقات التبرير من الخطيئة ومن دينونة الناموس ويؤهل الإنسان لدخول البيت الذي الله الآب أبوه والمسيح بكره بين إخوة كثيرين. وفوائد التبني تفوق كثيراً ما حصل عليه الإنسان بخلقه في حال البر لأنه بالتبني يخلق جديداً على صورة المسيح وينال الروح القدس.
٦ «ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا ٱلآبُ».
رومية ٥: ٥ و٨: ١٥
أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ كما في قوله «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي ٱلْجَسَدِ بَلْ فِي ٱلرُّوحِ إِنْ كَانَ رُوحُ ٱللّٰهِ سَاكِناً فِيكُمْ. لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ. إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ ٱلْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا ٱلآبُ!». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ٩ و١٤ - ١٧). فنيل الروح نتيجة التبني وبرهان كماله ونحصل عليه وقت الإيمان والولادة الجديدة ولكنه لا يكمل دفعة واحدة لكنه يستمر مع كل النمو الروحي في بني الله. وعبر عن الروح القدس «بروح ابنه» لأنه هو عين الروح الذين سكن في ابن الله الأزلي وهو الروح الذي حصله لنا بفدائه إيانا. ودعي «بروح التبني» (رومية ٨: ١٥) و «روح المسيح» (رومية ٨: ٩). ووجوده فينا شرط ضروري لكي نصير للمسيح.
صَارِخاً يَا أَبَا ٱلآبُ كوننا أولاد الله يمكننا من أن نقترب إلى الآب السماوي بمحبة الأولاد لوالدهم وأن نجسر على مخاطبته بهذه العبارة. والروح القدس هو الفاعل في هذا الصراخ والمؤمن آلة مريدة له وهو يحرك أشواقنا في الصلاة ويشفع فينا. والكلام على قوله «يا أبا الآب» فُصل في تفسير (رومية ٨: ١٥) فارجع إليه.
٧ «إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ٱبْناً، وَإِنْ كُنْتَ ٱبْناً فَوَارِثٌ لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ».
رومية ٨: ١٦ و١٧ وص ٣: ٢٩
إِذاً جاء الرسول في هذه الآية بنتيجة كل ما سبق من الكلام على الفداء والتبني وسكنى الروح في المؤمنين بالنظر إلى كون زمن العبودية والقصور قد مضى وأنهم بلغوا كل حقوق الابن الرشيد ونالوا الميراث.
لَسْتَ خاطب الجمع بضمير المفرد بياناً إن ما صرّح لهم به يصدق على كل فرد من أفراد المؤمنين.
بَعْدُ أي منذ إتيان المسيح وقبولكم إياه بالإيمان.
بَلِ ٱبْناً (ع ٥).
وَإِنْ كُنْتَ ٱبْناً فَوَارِثٌ بمقتضى الشريعة الرومانية المدنية التي اعتادها الغلاطيون وبموجب هذه الشريعة البنون والبنات سواء في حقوق الميراث.
لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ ليس المؤمنون ورثة باستحقاقهم ولا بتسلسلهم من إبراهيم ولا بالناموس بل بفداء المسيح والتبني. ففي هبتهما اتفق الإله الواحد المثلث الأقانيم فإن الآب بذل ابنه الوحيد والابن فدانا من رق الناموس وصالحنا مع الآب والروح القدس أنشأ فينا روح التبني وشهد ببنوتنا.
٨ «لٰكِنْ حِينَئِذٍ إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ ٱسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِٱلطَّبِيعَةِ آلِهَةً».
أفسس ٢: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ٥ رومية ١: ٢٥ و١كورنثوس ١٢: ٢ وأفسس ٢: ١١ و١٢ و١تسالونيكي ١: ٩
خص بولس كلامه في هذه الآية والثلاث التي تليها بمتنصري الأمم في غلاطية. وذكرهم بأنهم حين كانوا وثنيين كانوا عبيداً لمن ليسوا بآلهة وحرروا من رقهم وبلغوا معرفة الإله الحق وأعلن الله أنه اعترف بأنهم له. فقال لهم الرسول كيف استطعتم أن ترجعوا بعد ذلك إلى الرسوم الخارجية. فأخافه عملهم من أنه تعب لأجلهم عبثاً.
إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ أبان الرسول في رسالته إلى الرومانيين أن الوثنيين عرفوا الله أصلاً ولكنهم لعدم استحسانهم أن يبقوا الله في معرفتهم فسدوا وضلوا عن سبيله. وكان يمكنهم أن يعرفوه من مصنوعاته ومع هذا جهلوا أزليته وقدرته وقداسته (رومية ١: ٢١ و٢٨).
ٱسْتُعْبِدْتُمْ قال هذا لأن عبادتهم كانت عبادة خوف وكانت هواناً لهم كالعبيد الأدنياء لقبح طريقتها.
لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِٱلطَّبِيعَةِ آلِهَةً أي لا وجود لهم أصلاً إنما هم صور خيال صوّرتها القلوب الفاسدة (١كورنثوس ٨: ٤ و١٠: ١٩ و٢٠) وإن كان لآلهة الأمم وجود فهي إما الشياطين وإما أرواح الموتى (١كورنثوس ١٠: ٢٠).
٩ «وَأَمَّا ٱلآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ ٱللّٰهَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ، فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى ٱلأَرْكَانِ ٱلضَّعِيفَةِ ٱلْفَقِيرَةِ ٱلَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟».
١كورنثوس ٨: ٣ و١٣: ١٢ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ ص ٣: ٣ وكولوسي ٢: ٢٠ رومية ٨: ٣ وعبرانيين ٧: ١٨
إِذْ عَرَفْتُمُ ٱللّٰهَ أي علمتم وجوده وصفاته الروحية.
عُرِفْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ بمجرد نعمته لا باستحقاقهم أو بفحصهم عنه فإنه تعالى تنازل وأعلن نفسه في قلوبهم وأذهانهم ولما آمنوا به قبلهم أولاداً له وحقق لهم ذلك القبول بعلامات ظاهرة. وقال هذه العبارة دفعاً لتوهم أنهم عرفوا الله بقدرتهم وبحثهم.
فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ الاستفهام هنا للتعجب. فإنّ حالهم كان كحال عالِم بلغ معارف الفلاسفة وأحكم العلوم والفنون ثم تركها ورجع إلى تعلم أبجدية الأطفال.
ٱلأَرْكَانِ ٱلضَّعِيفَةِ أي المبادئ الدينية ونعتها «بالضعيفة» لأنها لم تكن كافية لتقدير الإنسان على الخلاص.
ٱلْفَقِيرَة بالنسبة إلى الإنجيل الغني الوافر البركات الروحية (يوئيل ٢: ١٩ و٣: ١٨ وعاموس ٩: ١٣ و١٤ وإشعياء ٥٥: ١ و٦٥: ٢١ و٢٥ ويوحنا ٧: ٣٧ و٣٨) وأمثال ذلك كثيرة.
أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ بعدما تركتموها. والعبودية تصدق على أتباع الأديان اليهودية والوثنية لأنها رسوم خارجية بلا تأثير روحي. فاعتبر بولس العبادة التي مارسها الفريسيون وعلمها المعلمون المتهودون والتي مال إليها الغلاطيون أركاناً ضعيفاً وفقيرة كالديانة الوثنية نفسها.
١٠ «أَتَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ؟».
رومية ١٤: ٥ وكولوسي ٢: ١٦ لاويين ٢٣: ٢٤ لاويين ٢٣: ٤ و٢أيام ٨: ١٣
أَتَحْفَظُونَ الاستفهام للتعجب فهو بمعنى أن يقال عجباً من أنكم بعدما استنرتم وعرفتم الإله الحق وعبادته الروحية فعلتم ما يأتي.
أَيَّاماً تختص بالرسوم اليهودية من الأهلّة والأعياد والسبوت (كولوسي ٢: ١٦). ولم يذكر الختان لأنهم على ما يظهر لم يقبلوه لكنهم كانوا عرضة لقبوله.
وَشُهُوراً اي أوائل الشهور (لاويين ٢٣: ٢٤ وعدد ٢٨: ١١) أو الشهر السابع من كل سنة باعتبار أنه أقدس الشهور.
وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ كعيد الفصح ويوم الخمسين وعيد المظال.
لا شيء مما ذُكر يشير إلى نسخ تقديس يوم الرب بل إلى طريق حفظ اليهود للسبوت التي وبخهم عليها المسيح قولاً وفعلاً لأنهم جعلوا حفظ السبت ثقلاً لا بركة. فإن الرسول اعتبر حفظهم لتلك الأوقات دليلاً على رغبتهم في الرجوع إلى سائر رسوم الناموس الموسوي.
١١ «أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً!».
ص ٢: ٢ و٥: ٢ و٤ و١تسالونيكي ٣: ٥
أخذ الرسول بدلاً من أن يوبخهم يأسف على أنهم ما انتفعوا بتعليمه وحزن على خسارتهم لا خسارته.

تذكير الرسول الغلاطيين بمحبتهم السابقة له ع ١٢ إلى ٢٠


١٢ «أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضاً كَمَا أَنْتُمْ. لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئاً».
١كورنثوس ١٩: ٢٠ إلى ٢٢ و٢كورنثوس ٢: ٥
أظهر الرسول بأسلوب كلامه شدة رغبته في أن يلقوا عنهم نير العبودية للديانة اليهودية كما ألقاه هو إذ ترك كل حقوقها وامتياراتها لكي يكون مساوياً لهم.
كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضاً كَمَا أَنْتُمْ أنا تركت العوائد والرسوم اليهودية وصرت مثلكم. وهذا كقوله «صِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ ٱلْيَهُودَ، وَلِلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لأَرْبَحَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ لِلّٰهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ لأَرْبَحَ ٱلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ» (١كورنثوس ٩: ٢٠ و٢١).
لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئاً أشار بذلك إلى حين بشرهم أولاً بالإنجيل وعاش بينهم لا يهودياً بل كواحد منهم فقال إنكم حينئذ لم تكونوا أعدائي ولا ضررتموني شيئاً بل أظهرتم لي المواساة في شدائدي وأكرمتموني فيلزم من ذلك أني صرت عدوكم بعد ذلك الوقت بصدقي لكم (ع ١٦). وقال ذلك ليبين أن قوله في الآية الحادية عشرة «أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً» لم يكن لومه إياهم على ضرر أو تعد شخصي عليه لأن ارتدادهم عن الحق لم يضره هو بل ضر أنفسهم وأغاظ الله والمسيح ولم يغظه هو.
١٣ «وَلٰكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ ٱلْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي ٱلأَوَّلِ».
١كورنثوس ٢: ٣ و٢كورنثوس ١١: ٣٠ و١٢: ٧ و٩ ص ١: ٦
أتى بهذه الآية بياناً أنهم لم يضروه ولم يحتقروه لمصابه (ع ١٤).
تَعْلَمُونَ... بَشَّرْتُكُمْ اتضح من قوله هنا أنه في سفره الثاني للتبشير سنة ٥٢ ب.م لم يقصد أن يقيم طويلاً بغلاطية بل أن يمر بها لكنه أُعيق هناك لمرض أو ضعف اعتراه فكان له بذلك فرصة لتبشيرهم بالإنجيل. فإذاً ليس للغلاطيين ما يحملهم على إظهار المن له على تبشيره إياهم لأنه لم يقم عندهم اختياراً بل كان ذلك بعناية الله وترتيبه.
فِي ٱلأَوَّلِ هذا يدل على أنه زارهم مرتين وذكر لوقا الزيارة الأولى في (أعمال ١٦: ٦) والثانية في (أعمال ١٨: ٢٣).
١٤ «وَتَجْرِبَتِي ٱلَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا، بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ ٱللّٰهِ قَبِلْتُمُونِي، كَٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
٢كورنثوس ١٢: ٧ و٢صموئيل ١٩: ٢٧ وزكريا ١٢: ٨ وملاخي ٢: ٧ متّى ١٠: ٤٠ ولوقا ١٠: ١٦ ويوحنا ١٣: ٢٠ و١تسالونيكي ٢: ١٣
تَجْرِبَتِي هي مصابه الجسدي الذي لم يبين ما هو لكن نستنتج مما قيل هنا أنه كان مما يحمل الناس على الاستخفاف به وتبشيره بالإنجيل والمرجح أن هذه التجربة هي النازلة التي سماها «شوكة الجسد» (٢كورنثوس ١٢: ٧). وأما الغلاطيون فلم يحتقروه من أجلها ولم يستخفوا بتبشيره.
بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ ٱللّٰهِ قَبِلْتُمُونِي الخ أي قبلتموني بغاية الإكرام (٢صموئيل ١٩: ٢٧ وزكريا ١٢: ٨). وقبولهم إياه كالمسيح نفسه يستلزم أنهم أكرموه أكثر مما يكرمون الملاك بمقدار ما هو أعظم من الملائكة والخالق أعظم من مخلوقاته.
١٥ «فَمَاذَا كَانَ إِذاً تَطْوِيبُكُمْ؟ لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي».
افتخر الغلاطيون يومئذ بسعادتهم وسرورهم بسمع تعليمه وانتقالهم من عبودية الناموس إلى حرية الإنجيل.
فَمَاذَا كَانَ إِذاً تَطْوِيبُكُمْ ارتدادهم عن الإيمان الأول يستلزم أنه لم يكن حينئذ أساس متين لسعادتهم وأن فرحهم بنعمة الإنجيل كان بلا سبب كاف. فغاية بولس من هذا الكلام جعلهم يخجلون من سرعة تقلبهم.
لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ إن شعورهم بقيمة عظمة الإنجيل واعترافهم بالفضل لبولس لكونه واسطة نيلهم ذلك حملهم على إظهار كل الممنونية له.
لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ الخ الناس يعتبرون عيونهم أعز ما لهم حتى استعاروا الحدقة لأعز الأشياء (تثنية ٣٣٢: ١٠ ومزمور ١٧: ٨ وأمثال ٧: ٢). ولعل العبارة مثل جار يومئذ لإظهار غاية الممنونية على عظيم البركة. وليس في هذا ما هو كاف لإثبات قول بعضهم بأن شوكة بولس التي في الجسد كانت الرمد الشديد حتى شفقوا عليه ورغبوا لو أمكنهم أن يبدلوا عينيه المصابتين بعيونهم الصحيحة.
١٦ «أَفَقَدْ صِرْتُ إِذاً عَدُوّاً لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ؟»
ص ٢: ٥ و١٤
أَفَقَدْ صِرْتُ إِذاً عَدُوّاً لَكُمْ جاء بالاستفهام بدلاً من التصريح تلطفاً. والداعي لهذا السؤال أن الفرق بين معاملتهم إياه وقتئذ ومعاملتهم إياه في الحال يشير أن صداقتهم الأولى تحولت إلى عداوة. وذكر أنه لم يعلم علة عدواتهم له إلا أنه كلمهم بالحق.
لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ صدق لهم بقوله أن ارتدادهم من الإنجيل إلى الديانة اليهودية خطيئة لله ولنفوسهم وأن ذلك غاية الجهل. إن الغلاطيين لم يحسبوه عدواً في أول زيارته لهم وإنما حسبوه عدواً قبل أن كتب هذه الرسالة فيكون صدقه في زيارته الثانية المذكورة في (أعمال ١٨: ٢٣) وأنه رأى حينئذ بداءة ارتدادهم عن الحق وحذرهم منها. والصديقون يحبون توبيخ الأمين (مزمور ١٤١: ٥) وأما الجاهل الشرير فيبغضه (أمثال ٩: ٨). إن علة عدم محبة كثيرين للإنجيل هو أنه يصدق لهم في تنبيههم على خطاياهم وخطرهم.
١٧ «يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَناً، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ».
رومية ١٠: ٢ و٢كورنثوس ١١: ٢
يَغَارُونَ أي المعلمون المفسدون الذين يجتهدون كل الاجتهاد في أن يهوّدوكم (ص ١: ٧ و٥: ١٠). وقول بولس في أولئك المعلمين كقول المسيح في الفريسيين «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ ٱلْبَحْرَ وَٱلْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً» (متى ٢٣: ١٥).
لَيْسَ حَسَناً أي ليس بإخلاص لغاية نافعة لكم بل رغبة في مدح اليهود لهم. فالغيرة بلا معرفة كالسيف في يد المجنون.
بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ عنّي وعن المسيح نفسه بتعليمهم وجوب حفظ الناموس للخلاص.
لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ أي يخصصوا كل محبتكم بأنفسهم ولا يتركوا شيئاً منها لي.
١٨ حَسَنَةٌ هِيَ ٱلْغَيْرَةُ فِي ٱلْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ، وَلَيْسَ حِينَ حُضُورِي عِنْدَكُمْ فَقَطْ».
لم يعترض الرسول على انتصار المتعلمين للمعلمين وغيرة كل من الفريقين للآخر بشرط أن تكون الغاية حسنة والنية خالصة. وكان مسروراً بغيرتهم له يوم كان بينهم ولكنه أراد أن لا تفتر محبتهم له وأن لا يعدلوا عن الغيرة له وهو غائب عنهم.
١٩ «يَا أَوْلاَدِي ٱلَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ».
١كورنثوس ٤: ١٥ وفليمون ١٠ ويعقوب ١: ١٨
يَا أَوْلاَدِي هم أولاده الروحيون لأنهم آمنوا بواسطته فخاطبهم كما اعتاد مخاطبة غيرهم ممن آمنوا كذلك (١كورنثوس ٤: ١٥ و١تسالونيكي ٢: ١١ وفيلبي ٢: ٢٢ وفليمون ١٠). وخاطبهم بالرقة لكي يستميل قلوبهم إليه وإلى الحق الذي علّمه.
أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً حسب تعبه في الإتيان بهم من تمسكهم بالأوثان إلى المسيح كألم الولادة. ومثل حزنه بارتدادهم عن الحق وشوقه الشديد إلى رجوعهم إلى إيمانهم الأول ومحبتهم الأولى بألم الوالدة عند الولادة. وقال «أتمخض بكم أيضاً» لأنه اعتبرهم محتاجين إلى أن يولدوا ثانية بعد ارتدادهم كأن نجاتهم من التعليم اليهودي الكاذب وعودهم إلى الإنجيل الحق الذي بشر به ليست أقل شأناً من نجاتهم أولاً من عبادة الأوثان وأن اهتمامه وتعبه وحزنه في الثانية ليست أقل منها في الأولى. وغني عن البيان ما في ذلك من المجاز وعدم تمام مطابقته للواقع حقيقة لأنه لا يمكن الإنسان أن يولد غير مرة واحدة ولادة طبيعية بدليل قوله «لأَنَّ ٱلَّذِينَ ٱسْتُنِيرُوا مَرَّةً، وَذَاقُوا ٱلْمَوْهِبَةَ ٱلسَّمَاوِيَّةَ وَصَارُوا شُرَكَاءَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَذَاقُوا كَلِمَةَ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي، وَسَقَطُوا، لاَ يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُمْ أَيْضاً لِلتَّوْبَةِ» (عبرانيين ٦: ٤ - ٦).
إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ لا تستريح الوالدة من همها وخوفها قبل أن ترى مولودها. كذا قال بولس أنه لا يستريح من تعبه واهتمامه بهم قبل أن يرى آيات ولادتهم الجديدة الروحية التي ليست سوى سكنى المسيح في قلوبهم وإنشائه حياة جديدة فيهم كالحياة التي أنشأها فيه وقال هو فيها «فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (ص ٢: ٢٠).
إن المسيحي لا يحصل على صورة المسيح دفعة بل ينمو يوماً فيوماً في النعمة والمشابهة للمسيح حتى يبلغ «إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ١٣). ويتصور المسيح في المؤمن متى استطاع أن يقول «لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ» (فيلبي ١: ٢١) وحين «يَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي ٣: ٨). وحين لا يفتخر إلا في موته وقيامته وبره (أفسس ٣: ١٧ - ١٩ وكولوسي ١: ٢٧).
٢٠ «وَلٰكِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِراً عِنْدَكُمُ ٱلآنَ وَأُغَيِّرَ صَوْتِي، لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ!».
كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِراً عِنْدَكُمُ لأنهم في غيبته ارتدوا عن إيمانهم وحولوا قلوبهم عنه فأمل أن حضوره يقرب بعضهم من بعض وأنه يستطيع أن يفيدهم بالكلام أكثر مما يفديهم بالرسائل.
وَأُغَيِّرَ صَوْتِي أعدل عن عبارات اللوم والتوبيخ وأخاطبكم بالكلام أكثر مما يقيدهم بالرسائل.
لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ أي لا أعرف كيف أخاطبكم لأني لم أعلم هل اقتنعتم بما كتبته إليكم أو لا فهل تحتاجون إلى زيادة البراهين لكي ترجعوا إلى الحق أو لا فلو كنت عندكم كنت عرفت نتيجة ما كتبته إليكم واجعلوا كلامي موافقاً لمقتضى الحال.

تمثيل الرسول بياناً لفضل الذين هم تحت الإنجيل على الذين هم تحت الناموس ع ٢١ إلى ٣١


٢١ «قُولُوا لِي، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ؟».
وجه الرسول كلامه هنا إلى متنصري اليهود في غلاطية الذين مالوا إلى تفضيل تعليم الناموس على تعليم الإنجيل وأخذ يبين لهم خطأهم من الناموس نفسه بأسلوب استعمل فيه ما دل على الأحوال والحوادث في ما يشبه بمعناها الأصلي تشبيه التمثيل. والأرجح أن المعلمين الفريسيين استمالوا الغلاطيين إلى طاعة الناموس بإيراد أمثال منه فاستحسن الرسول أن يدفعهم بمثل أسلحتهم.
ٱلَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ أي تطيعون أوامره على رجاء أن تتبرروا بذلك.
أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ لكي تفهموا حقيقة معناه. «فالسمع» هنا بمعناه في (متى ١٣: ٩ و١٣ ولوقا ١٦: ٢٩ و٣١). ومقصوده أنهم لا يستطيعون أن يدركوا تمام معنى الناموس ويبقون تحته بغية التبرر به. والمراد «بالناموس» هنا التوراة أي أسفار موسى الخمسة على اصطلاح اليهود في قسمة أسفارهم المقدسة وأخذ تمثيله من أول أسفارها وأتى بولس ذلك بوحي الله. ونتعلم من ذلك أن في تاريخ شعب الله المختار إشارات ورموزاً كما في رسومهم الدينية (١كورنثوس ١٠: ١ - ٤ و١٥: ٤٥ و٤٧ ورؤيا ١١: ٨).
٢٢ «فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ٱبْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَارِيَةِ وَٱلآخَرُ مِنَ ٱلْحُرَّةِ».
تكوين ١٦: ١٥ تكوين ٢١: ٢
لإِبْرَاهِيمَ إن اليهود والذين رغبوا في الالتصاق بهم عظموا إبراهيم كثيراً وأرادوا أن يُنسبوا إليه نسبة الأولاد إلى الوالد بدليل قول يوحنا المعمدان «لاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً» (متى ٣: ٩ انظر أيضاً رومية ٩: ٧ و٩). والحادثة التاريخية التي ذكرها الرسول هنا ذُكرت في (تكوين ص ١٦ وص ٢١).
ٱلْجَارِيَةِ هاجر المصرية (تكوين ١٦: ١).
ٱلْحُرَّةِ سارة.
٢٣ «لٰكِنَّ ٱلَّذِي مِنَ ٱلْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، وَأَمَّا ٱلَّذِي مِنَ ٱلْحُرَّةِ فَبِٱلْمَوْعِدِ».
رومية ٩: ٧ و٨ تكوين ١٨: ١٠ و١٤ و٢١: ١ و٢ وعبرانيين ١١: ١١
الابنان المذكوران هنا من أب واحد لكنهما مختلفان ومعظم الخلاف قائم بأن أحدهما ابن جارية مولود مجرد ولادة طبيعية والثاني ابن حرة مولود بالوعد.
ٱلَّذِي مِنَ ٱلْجَارِيَةِ أي إسماعيل.
وُلِدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي على أسلوب الشريعة الطبيعية كسائر الأولاد فلم يتعلق به وعد لا قبل الحبل به ولا قبل ميلاده.
ٱلَّذِي مِنَ ٱلْحُرَّ أي إسحاق.
فَبِٱلْمَوْعِدِ أي بقوة الله ومعجزته على وفق الوعد لإبراهيم بدليل قوله «كَمَا قِيلَ: «هٰكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ». وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفاً فِي ٱلإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتاً، إِذْ كَانَ ٱبْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ» (رومية ٤: ١٨ و١٩ انظر أيضاً تكوين ١٧: ١٦ و١٩ و١٨: ١٠ و١١).
٢٤ «وَكُلُّ ذٰلِكَ رَمْزٌ، لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا ٱلْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ ٱلْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، ٱلَّذِي هُوَ هَاجَر».
تثنية ٢٣: ٢
وَكُلُّ ذٰلِكَ رَمْزٌ أي كل الأمور المتعلقة بهذا التاريخ لها معنى روحي غير ظاهر من لفظه والمعنى الروحي مضاف إلى الحرفي غير مانع إياه. والرموز ليست ببراهين لكنها توضح الأمر بعد بيانه وتزينه. وعلى هذا كان كل النظام اليهودي رمزاً إلى المسيح من تاريخ ونبوءة وعبادة ورسوم وأعمال (كولوسي ٢: ١٧ وعبرانيين ٨: ١٥ و٩: ٢٣ و١٠: ١).
هَاتَيْنِ الأُمّين هاجر وسارة اللتين ابناهما ابنا العهدين.
هُمَا ٱلْعَهْدَانِ أي مشيرتان إليهما إشارة الرمز إلى المرموز إليه كما قيل أن «ٱلْحَصَاد هُوَ ٱنْقِضَاءُ ٱلْعَالَمِ. وَٱلْحَصَّادُونَ هُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ» وأن الخبز والخمر في العشاء الرباني هما جسد المسيح ودمه (متى ١٣: ٣٩ و٢٦: ٢٦ - ٢٨). وأن الصخرة التي تبعت بني إسرائيل هي المسيح (١كورنثوس ١٠: ٤). وعبودية الأم الأولى أوجبت عبودية ابنها وحرية الثانية أوجبت حرية ابنها.
أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ أي بداءة أحد العهدين من جبل سينا يوم أُعطي الناموس.
ٱلْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ أي الذي يلد أولاداً في حال العبودية وتلك حالهم منذ ولدوا. وشبه بهم الرسول اليهود وهم تحت العهد القديم الموسوي.
ٱلَّذِي هُوَ هَاجَرُ أي المشار إليه بهاجر في هذا التمثيل.
٢٥ «لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي ٱلْعَرَبِيَّةِ. وَلٰكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ ٱلْحَاضِرَةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا».
في هذه الآية بيّن الرسول علة اتخاذه هاجر رمز إلى سينا وإلى العهد القديم.
لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي ٱلْعَرَبِيَّةِ معنى هذه العبارة غير واضح والأرجح أن معناها أن الجبل الذي سماه اليهود «سينا» سماه قدماء العرب «هاجر». وتسمى اليوم رؤوس ذلك الجبل الثلاثة جبل موسى وجبل الصفصافة وجبل كاترينا. ومعلوم أن الأرض التي هربت إليها هاجر بإسماعيل هي العربية (تكوين ١٦: ٧ و١٤). وأن بعض عرب البادية سموا «بالهاجريين» (مزمور ٨٣: ٧ و١أيام ٥: ١٩). ولم يُعط الناموس على جبل صهيون في أرض الميعاد بل على سينا خارجاً عنها لذلك رأى بولس أن يشير إلى الناموس بهاجر التي هي أجنبية لأنها كانت أَمة مصرية. وهذا مقصود الرسول وإن لم نتيقن معنى بعض الألفاظ.
وَلٰكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ أي يوافق أن نجعله في التمثيل مقابلاً لأورشليم لأن جبل سينا وهاجر والعهد القديم والشعب اليهودي وأورشليم الأرضية مرتبط بعضها ببعض في هذا التمثيل.
ٱلْحَاضِرَةَ أي التي توجد في الوقت الحاضر وكانت يومئذ قصبة مملكة اليهود ومركز دينهم وسياستهم.
فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا أي أورشليم مع شعب اليهود كالأم مع الأولاد مستعبدة للناموس الذي أُعطي في سينا. وكانوا تحت رق الناموس لأنهم التصقوا به واتكلوا عليه وعلى ذبائحه ورسومه وكهنوته بغية أن يتبرروا به.
لم يذكر هنا العهد الثاني بل ترك للقارئ أن يكمل التمثيل بقوله «إن العهد الآخر هو سارة وهي تقابل أورشليم العليا التي هي متحررة مع بنيها».
٢٦ «وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ ٱلْعُلْيَا، ٱلَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعاً، فَهِيَ حُرَّةٌ».
إشعياء ٢: ٢ وعبرانيين ١٢: ٢٢ ورؤيا ٣: ١٢ و٢١: ٢ و١٠
وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ ٱلْعُلْيَا أي الروحية الرفيعة جداً بالنظر إلى المقام لا إلى المكان وهي الكنيسة المسيحية المشار إليها بقوله «قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ ٱلسَّمَاوِيَّةِ» (عبرانيين ١٢: ٢٢). وقول يوحنا «رَأَيْتُ ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ ٱلْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (رؤيا ٢١: ٢). فأورشليم الجديدة الروحية هي قصبة ملكوت المسيح المجيد ومركزه كما كانت أورشليم الأرضية قصبة النظام الموسوي ومركزه وكل مؤمن بالمسيح هو من أهل تلك المدينة الروحية. ولم يقصد الرسول بأورشليم هنا كنيسة المسيح الممجدة بعد بلوغها مسكنها السماوي الأبدي بل الكنيسة المسيحية على الأرض في حال المحاربة للعالم والجسد والشيطان.
أُمُّنَا جَمِيعاً أي أم جميع المؤمنين بالمسيح حيث كانوا فهم كنيسة المسيح الواحدة ولها إنجيل واحد وإيمان واحد ورجاء واحد للخلاص برب واحد هو يسوع المسيح وتضم كل المؤمنين قبل مجيء المسيح وبعده والمجاهدين اليوم على الأرض منهم والمنتصرين الممجدين في السماء. وابتدأت أورشليم العليا بإبراهيم نفسه وبالوعد له وظهرت بظهور المسيح وإنجاز عهد النعمة وستظهر كمال الظهور بمجيئه الثاني.
فَهِيَ حُرَّةٌ وهذه الحرية هي التي تميز أورشليم العليا من أورشليم السفلى ولم يذكر أنها سارة فاكتفى بالإشارة إليها بأنها حرة وأم أولاد الموعد وأنها هي المقصود بالعهد بالجديد الذي هو عهد النعمة (ع ٢٤). لأنها حرة كان كل أولادها أحراراً لأن لهم الحرية الروحية والتحرر من العبودية للناموس والخطية والموت ولأنهم يملكون النعمة ومغفرة الخطايا والبر وراحة الضمير والفرح بالرب وموهبة الروح القدس والحياة الأبدية وذلك على وفق قوله «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ١: ٣).
٢٧ «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: ٱفْرَحِي أَيَّتُهَا ٱلْعَاقِرُ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ. اِهْتِفِي وَٱصْرُخِي أَيَّتُهَا ٱلَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ، فَإِنَّ أَوْلاَدَ ٱلْمُوحِشَةِ أَكْثَرُ مِنَ ٱلَّتِي لَهَا زَوْجٌ».
إشعياء ٥٤: ١
في هذه الآية برهان من النبوءات على صحة قوله في التمثيل أن أورشليم العليا أم كل المؤمنين والدليل مقتبس من (إشعياء ٥٤: ١) على ما في ترجمة السبعين. وكان في أول أمره نبوءة بنجاة بني إسرائيل من عبودية بابل ورجوعهم إلى أورشليم واستقلالهم ونجاحهم حتى تحولت أورشليم من كونها في مثل حال أرملة حزينة إلى كونها في مثل حال أم مسرورة ذات أولاد كثيرة فاستعار بولس ذلك لحال كنيسة المسيح التي هي ملكوته على الأرض إيضاحاً لعظمتها المستقبلة بعد كونها صغيرة مهانة محتقرة.
ٱفْرَحِي أَيَّتُهَا ٱلْعَاقِرُ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ قيل هذا في أورشليم يوم كانت مهدومة وذلك مدة سبي بابل واشبهت يومئذ سارة التي كانت عاقراً في الجسد قبل الموعد بخلاف هاجر التي وُلدت حسب الطبيعة وكانت بمنزلة الناموس على ما في تمثيل الرسول. وشبه سارة بأورشليم العليا الروحية التي لم يكن لها أولاد روحية من الأمم مدة كون إسرائيل تحت الناموس وشبهها أيضاً بالكنيسة المسيحية في أول أمرها وهي مهانة ومضطهدة.
ٱلَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ... ٱلْمُوحِشَةِ قيل هذا أصلاً في أورشليم أيام السبي بالنسبة إلى حالها في أيام داود وسليمان. واتخذه بولس رمزاً إلى سارة التي كانت عاقراً زمناً طويلاً بخلاف هاجر التي ولدت بعد مدة الحمل من زيجتها. واتخذ سارة نفسها رمزاً إلى الكنيسة المسيحية في أول نشأتها وهي صغيرة محتقرة مبغضة مضطهدة.
أَكْثَرُ مِنَ ٱلَّتِي لَهَا زَوْجٌ هذا وصف أورشليم أيام سبي بابل فإنها كانت كالأرملة واتخذها الرسول نبوءة ورمزاً إلى الكنيسة المسيحية التي سيكون أكثر أعضائها من الوثنيين الذين كانوا قبل مجيء المسيح ومدة الناموس غير معاهدين الله وبلا موعد فلم يكونوا يومئذ كنيسة بمنزلة عروس الله بعلها فكان حالها خلاف حال الكنيسة اليهودية التي كان الله بعلها بمقتضى العهد بينه وبينها بدليل قول النبي «لأَنَّ بَعْلَكِ هُوَ صَانِعُكِ، رَبُّ ٱلْجُنُودِ ٱسْمُهُ» (إشعياء ٥٤: ٥ انظر أيضاً إرميا ٢: ٢). كان للكنيسة اليهودية أولاد كثيرة تحت العهد الأول عند الناموس ولكن بمقتضى الوعد تكون أولاد الكنيسة الإنجيلية أكثر من أولاد تلك جداً.
٢٨ «وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ ٱلْمَوْعِدِ».
أعمال ٣: ٢٥ ورومية ٩: ٨ وص ٣: ٢٩
وَأَمَّا نَحْنُ المؤمنون بالمسيح وأعضاء الكنيسة المسيحية الذين لسنا كالكنيسة التي كان لها زوج.
فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ ٱلْمَوْعِدِ لا مجرد أولاد وُلدوا «حسب الجسد» كإسماعيل بل نحن نظير إسحاق في كوننا ولدنا بمقتضى «الموعد» المذكور في الآية الثالثة والعشرين. وهذا على وفق قول الرسول «أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ ٱلْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، بَلْ أَوْلاَدُ ٱلْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً» (رومية ٩: ٨). والموعد هو قوله «بنسلك تتبارك كل قبائل الأرض» ونحن حصلنا عليه وصرنا أولاده بالنعمة والإيمان.
٢٩ «وَلٰكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ ٱلَّذِي وُلِدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ يَضْطَهِدُ ٱلَّذِي حَسَبَ ٱلرُّوحِ، هٰكَذَا ٱلآنَ أَيْضاً».
تكوين ٢١: ٩ ص ٥: ١١ و٦: ١٢
رجع الرسول في هذه الآية إلى تاريخ إسماعيل وإسحاق بعد أن تركه للاستشهاد بنبوءة إشعياء النبي عليه بعض الفوائد. وغايتها بيان أن كوننا أولاد الموعد لا يمنع من أن نُضطهد وأن تصرف إسماعيل مع إسحاق كان رمزاً إلى تصرف اليهود والمائلين إلى ديانتهم من المتنصرين مع المؤمنين.
ٱلَّذِي وُلِدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ إي إسماعيل.
يَضْطَهِدُ ٱلَّذِي حَسَبَ ٱلرُّوحِ أي إسحاق الذي وُلد بقوة إلهية خارقة العادة. وكلامه في الاضطهاد هنا مبني على ما قيل في عمل إسماعيل في (تكوين ٢١: ٩) وفي نسله الذي ظل يتعدئ على الإسرائيليين كما قيل في الهاجريين (١أيام ٥: ١٠ و١٩ ومزمور ٨٣: ٧). وهذا كله رمز إلى الاضطهادات التي أثارتها الكنيسة اليهودية المولودة «حسب الجسد» على الكنيسة المسيحية المولودة «حسب الروح» تصديقاً لقول المسيح «سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ ٱلْمَجَامِعِ، بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلّٰهِ» (يوحنا ١٦: ٢).
هٰكَذَا ٱلآنَ أَيْضاً أي لا يزال اليهود يضطهدون المسيحيين إلى الآن حتى في غلاطية ويساعدهم على ذلك الحزب اليهودي في الكنيسة النصرانية (أعمال ٩: ٢٩ و١٣: ٤٥ و٤٩ و٥٠ و١٤: ١ و٢ و١٩ و١٧: ٥ و١٣ و١٨: ٥ و٦ وص ٥: ١٢ و٦: ١٢ و١٧).
٣٠ «لٰكِنْ مَاذَا يَقُولُ ٱلْكِتَابُ؟ ٱطْرُدِ ٱلْجَارِيَةَ وَٱبْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ٱبْنُ ٱلْجَارِيَةِ مَعَ ٱبْنِ ٱلْحُرَّةِ».
ص ٣: ٨ و٢٢ تكوين ٢١: ١١٠ و١٢ قضاة ١١: ٢ ويوحنا ٨: ٣٥
ٱلْكِتَابُ أي أسفار العهد القديم والكلام مقتبس من سفر التكوين وهو قول سارة لإبراهيم حين رأت إسماعيل يمزح أي يهزأ بإسحاق (تكوين ٢١: ١٠) والله استحصنه وأثبته (تكوين ٢١: ١٢). وكانت النتيجة أنه طُرد إسماعيل من بيت إبراهيم. وعلى هذا بنى الرسول كلامه في استحالة اتفاق الديانة اليهودية والديانة المسيحية أي الناموس والإنجيل واتحاد الناموس والإنجيل معاً سبيلاً إلى التبرير واتفاق عبودية الأول وحرية الثاني والخضوع لرسوم الناموس الذي اجتهد المعلمون الفريسيون في إجبار الغلاطيين عليه ومطالب الإنجيل الذي سمعوه من بولس وقبلوه في أول أمرهم وخلاصة كلامه أن الذين تمسكوا بالناموس كانوا كنسل هاجر مطرودين بعملهم من ميراث الوعد لإبراهيم.
٣١ «إِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ ٱلْحُرَّةِ».
يوحنا ٨: ٣٦ وص ٥: ١ و١٣
إِذاً أي نتيجة ما ذكر.
لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ أي لسنا نحن المؤمنين بالمسيح أولاد أمة يهودية كانت أو وثنية.
بَلْ أَوْلاَدُ ٱلْحُرَّةِ فإذاً نحن أحرار لأننا ورثة كسائر أولاد الحرة بدليل قوله «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (ص ٣: ٢٩). وقوله «إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ٱبْناً، وَإِنْ كُنْتَ ٱبْناً فَوَارِثٌ لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ» (ص ٤: ٧). ولأننا لم نُطرد كإسماعيل بل قبلنا الله أولاداً له بدليل قوله «أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ... لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (ص ٤: ٤ و٥).

مقابلة ما جاء به بولس بتمثيله في هذا الأصحاح


الديانة اليهودية الديانة المسيحية
الجارية هاجر الحرة سارة
ابن الجارية إسماعيل ابن الحرة إسحاق
العهد القديم العهد الجديد
الناموس الإنجيل
جبل سينا في العربية جبل صهيون في أرض الميعاد
الولادة الطبيعية الولادة الروحية
أورشليم الأرضية أورشليم العليا
المُستعبدة الحرة
الولود العاقر
نسل قليل نسل كثير
مُضطَّهِدَة مُضطّهَدَة
مطرودة وارثة




فوائد



  • إن ميراث المؤمن من خير المواريث فإننا ندخل بيت الله بالإيمان بالمسيح بصفة أولاد في ذلك البيت وأنه فيه الله آب وإله كل تعزية والمسيح أخ بكر بين إخوة كثيرين وهم المفتدون من البشر والمقدسون بالروح القدس والملائكة خدم الله وشركاء سعادتنا وأعوان لنا فيها (ع ٥).
  • إنه يعسر على الخاطئ الذي يشعر بخطيئته وبما يستحقه من غضب الله كل العسر أن يخاطب الله بقوله «يا أبا الآب» لأنه يحتاج إلى أن يرسل الروح القدس إلى قلبه حتى يستطيع ذلك. وتلفظه بهذه العبارة بالإيمان خير من التلفظ بألف صلاة باللسان (ع ٦).
  • إن البرهان الوحيد القاطع على كوننا أولاد الله ورثة البركات المختصة بملكوته هو أن لنا روح البنوة والميل إلى أبينا السماوي أي روح المحبة والتسليم والطاعة المقترن بالإيمان بالمسيح والاتكال عليه للخلاص (ع ٦).
  • إن الولد يكون وارثاً بالنظر إلى ولادته لا بأعماله ولا باستحقاقه. والمسيحيون يحصلون على الميراث السماوي من مغفرة الخطايا والبر والقيامة بالمجد والسعادة الأبدية بلا عمل منهم بل بنعمة الله المجانية بالمسيح (ع ٧).
  • إنه لو تحققنا عظمة البركات المقترنة بكوننا أولاد الله وورثته وشعرنا بها لم نكترث بشيء مما يكترث به العالم من البر الذاتي والحكمة البشرية والقوة والشرف والمال واللذات فإذا خسرنا هذه كلها لم نأسف عليها ولا نحزن شيئاً (ع ٧).
  • إن كثيراً من الحوادث المذكورة في تاريخ العهد القديم يحسن أن تكون مُثلاً تتضح بها حقائق العهد الجديد وقصد الله ان يعلّمنا بها تعاليم ذات شأن. ومن هنا يتبين لنا علة كون ذلك المقدار العظيم من كتاب الوحي تاريخياً. وكلما تأملنا فيه وأدركنا معناه زدنا استفادة بمعرفة الأمور الإلهية (ع ٢٤).
  • إن الله لا يفضل إنساناً على آخر لأجل الولادة الطبيعية فاختار هابيل لا قايين وهو البكر وكذلك فضل يعقوب على عيسو وإفرايم على منسى فكل مؤمن بالمسيح عضو من كنيسة الأبكار في السماء ووارث كل مجدها (ع ٢٨).
  • إن كل إنسان يعلم أن حال الحرية خير من حال العبودية فأعلن الله في كتاب الوحي أن النظام الموسوي برسومه ورموزه بالنظر إلى النظام المسيحي الروحي كحال العبودية بالنسبة إلى حال الحرية. فعلينا أن نشكر الله على نور الإنجيل وحريته ونتحاشى أن نثقل على أنفسنا وعلى غيرنا بما لم يُلزمنا به من الرسوم والعوائد (ع ٣١).




اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ


هذا الأصحاح بداءة القسم العملي من هذه الرسالة وهو حث الغلاطيين على الثبات في الحرية المسيحية وتحذيرهم من العبودية الناموسية التي رغب المعلمون الكاذبون في أن يجذبوهم إليها (ع ١ - ١٢). وتحذيرهم أيضاً من سوء استعمال حريتهم وحثهم على المحبة الأخوية (ع ١٣ - ١٥). والسلوك بالروح وبيان أعمال الجسد وأعمال الروح (ع ١٦ - ٢٦).
حث الرسول الغلاطيين على الثبات في الحرية المسيحية ع ١ إلى ١٢


١ «فَٱثْبُتُوا إِذاً فِي ٱلْحُرِّيَّةِ ٱلَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا ٱلْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ».
يوحنا ٨: ٣٢ ورومية ٦: ١٨ و١بطرس ٢: ١٦ أعمال ١٥: ١٠ وص ٢: ٤ و٤: ٩
فَٱثْبُتُوا إِذاً بنى هذا الأمر على ما سبق من احتجاجه على فضل الحرية المسيحية على العبودية اليهودية وهو حثهم على التمسك بالأولى وإعراضهم عن الثانية إذ لا نفع لهم من الحرية التي اشتراها المسيح لهم وتمتعوا بها أولاً ما لم يثبتوا فيها.
فِي ٱلْحُرِّيَّةِ وهي حرية روحية لا جسدية كالتي نالها اليهود بأمر قورش بعد أسرهم سبعين سنة في بابل وهي التحرر من لعنة الناموس وعبوديته والخطية والموت الروحي وقوة إبليس وجهنم وهي تشتمل على الشعور بتمام مغفرة خطايانا والاقتراب إلى عرش النعمة بلا مانع والحصول على كل حقوق الابن في بيت أبيه. فالمسيحي الذي حصل على هذه الحرية يكون شاكراً الله وسعيداً في خدمته تعالى لأنه ملك وابن ملك ولو كان كبولس يوم كان مقيداً في سجن رومية فإنه كان يومئذ حراً أكثر من نيرون الذي سجنه لأن هذا كان عبداً لشر الشهوات وأفظعها.
حَرَّرَنَا ٱلْمَسِيحُ بِهَا كون المسيح أصل هذه الحرية يستلزم كونها ثمينة جداً وخطر الاستخفاف بها وتركها. والمسيح اشتراها لنا بدمه ويهبها لنا بشفاعته فمن المستحيل أن تُنال بالناموس أو ببرنا ولذلك وهبها لنا مجاناً بدليل قوله «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ ٱلٱبْنُ فَبِٱلْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً» (يوحنا ٨: ٣٦). وقيمة هذه الحرية واضحة من أنها لم يهبها لنا ملك من ملوك الأرض ولا نبي ولا رئيس آباء ولا ملاك من السماء بل المسيح ابن الله وفعل ذلك لينقذنا من شر الظالمين وهم الناموس والخطيئة والموت وإبليس فهي تعتق ضمائرنا من خوف غضب الله وهي فضلاً عما تمنحنا من البركات لنفوسنا في الحياة هنا والخلاص بعد الموت تحرر من شوكة القبر أجسادنا التي زُرعت في الفساد والضعف والهوان حتى تقوم في عدم الفساد والقوة والمجد (١كورنثوس ١٥: ٤٢ - ٤٤).
وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ المراد «بنير العبودية» الاتكال على أعمال الناموس للتبرير (ص ٤: ٢٤). وشبه ذلك الاتكال بالنير الذي يحنو الرقبة ويمنع من الحركة لأنه بالناموس يُستعبد النفس والضمير. ووصف بطرس الناموس بما وصفه بولس هنا بقول «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللّٰهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ» (أعمال ١٥: ١٠) وقال «أيضاً» لأنهم لما كانوا وثنيين كانوا متسعبدين للأوثان وعبادتها.
٢ «هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنِ ٱخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ ٱلْمَسِيحُ شَيْئاً!»
أعمال ١٥: ١ و١٦: ٣
حذرهم بهذه الآية من كل تسليم بدعاوي المتهودين لأن التسليم بواحدة يستلزم التسليم بالكل لأنه لا يمكن المؤمن أن يتمسك بكلتي الديانتين المسيحية واليهودية فإذا تمسك بإحداهما ترك الأخرى.
هَا أَنَا بُولُسُ الذي بشرتكم بالإنجيل أولاً وأنا الذي اختتنت وكنت شديد التمسك بضرورية الاختتان وسائر الرسوم الموسوية.
خاطبه الرسول هنا بسلطته الرسولية معتبراً أن مجرد قوله برهان كاف على صحة دعواه وبطلان تعليم المعلمين المتهودين الذين علموا أن الختان ضروري للخلاص.
إِنِ ٱخْتَتَنْتُمْ أي قبلتم الختان باعتبار كونه شرطاً ضرورياً للتبرير والخلاص فذلك علامة قبول الديانة اليهودية والاتكال على الناموس.
لاَ يَنْفَعُكُمُ ٱلْمَسِيحُ شَيْئاً للتبرير أمام الله ولخلاص نفوسكم وذلك لأنكم بقبولكم الختان عدلتم عن طلب الخلاص بالمسيح وطلبتموه بالختان وشهدتهم بذلك أنكم لا تؤمنون بالقدرة على الخلاص بإنجيل النعمة.
أخذ المسيح على نفسه أن يتمم كل رسوم الناموس عنا باعتبار كونه نائبنا ولما كان الختان واحداً منها اختتن (لوقا ٢: ٢١). فالذي يجتهد الآن في أن يتمم الناموس لنفسه بشيء من رسومه يصرح بذلك أن المسيح لم يتممه حتى يتبرر الإنسان بفدائه وأنه رفض الاتكال على المسيح ونعمته باعتبار أنه واسطة التبرير. هذا وقول بولس هنا لا يستلزم أن المختون يمنعه ختانه من أن يكون مسيحياً حقيقياً. فالمراد منه أن الإنسان بعد أن يصير مسيحياً ويسمع مثل ما ذُكر من التعليم والتحذير وطلب الختان معتبراً إياه ضرورياً للخلاص يكون قد ترك المسيح باعتبار كونه كافياً للخلاص.
ولا منافاة بين كلام بولس هنا وختنه لتيموثاوس (أعمال ١٦: ٣) لأنه لم يختنه بغية الخلاص بل بغية أن يسعفه بتبشير اليهود لأنه لم يقدر أن يخاطبهم بلا ختان لكونه ابن يوناني وهم يعتقدون التدنس بمخالطة من لم يختتن.
٣ «لٰكِنْ أَشْهَدُ أَيْضاً لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ ٱلنَّامُوسِ».
ص ٣: ١٠
أَشْهَدُ أَيْضاً هذا ليس مكرر ما في الآية الثانية بل تقرير له. وقال «أشهد» لأنه أقوى من «أقول».
مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ ٱلنَّامُوسِ أي ناموس موسى لأن الختان عند اليهود رسم ابتدائي يلزم المختون بحفظ ذلك الناموس كله كما أن المعمودية تلزم المعمود أن يسلم نفسه كل التسليم للمسيح وأن يؤمن به ويطيعه على وفق ما أعلن في الإنجيل. وقال «لكل إنسان» بياناً لنفي الاستثناء من كلامه.
إن كون الذين تحت الناموس هم تحت لعنة (ص ٣: ١٠) على كافية أن المؤمنين لا يقبلون أقل شيء من رسوم الناموس لأنه يوجب عليهم حفظ الناموس كله ويعرضهم للدينونة به.
٤ «قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ».
رومية ٩: ٣١ و٣٢ وص ٢: ٢١ عبرانيين ١٢: ١٥
قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ قال هذا إثباتاً لقوله آنفاً «لا ينفعكم المسيح شيئاً» (ع ٢). إن التبرير بالناموس والتبرير بالمسيح متنافيان فالذي يطلب الأول يهجر الثاني فكأنه قال إن اختتنتم انقطعت كل علاقاتكم بالمسيح وصرحتم بأنكم تتبررون بأعمالكم ولا ترون من حاجة إلى الاتكال على أعمال غيركم واستحقاقه.
ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ أي تظنون التبرر به ممكناً وتجتهدون في حفظه.
سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ أي عدلتم عن طلب الخلاص بالنعمة إذ طلبتموه بالناموس بناء على استحقاقكم. فالنعمة هي ما يهبه لنا الله مجاناً بدون أن نستحقه. فإذا اعتمد المؤمن على أعماله واستحقاقه للتبرير بعد اتكاله على النعمة لذلك فقد ترك يد الرحمة التي انتشلته من الدينونة والموت وما ذلك سوى سقوط هائل. وبولس لم يقصد أن يصرح بأن مؤمني غلاطية قد بلغوا هذا الحد من الارتداد أي حد السقوط من النعمة بل أراد أن يوضح لهم ما ينتج بالضرورة عن قبولهم تعليم المفسدين والتسليم بوجوب حفظ الرسوم الموسوية. ولا يستلزم ذلك ظن بولس أن الإنسان بعد أن يؤمن الإيمان الحق يسقط من النعمة كل السقوط ويهلك لأن ذلك الاستلزام مناف لكثير من أقواله فمعظم غايته مما قاله هنا أن يُري الناس الخطر العظيم الذي يعرضون أنفسهم له حتى يُعرضوا عنه.
٥ «فَإِنَّنَا بِٱلرُّوحِ مِنَ ٱلإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرٍّ».
رومية ٨: ٢٤ و٢٥ و٢تيموثاوس ٤: ٨
فَإِنَّنَا نحن المؤمنين بالمسيح. أبان في هذه الآية بأي شيء يمتاز المؤمنون عن الذين يطلبون أن يتبرروا ويخلصوا بالناموس.
بِٱلرُّوحِ أي بفعل الروح القدس لأننا به نؤمن الإيمان الحق وننال البر التام. إن البر الذي بالناموس بشري محض لكونه نتيجة مجرد العمل الإنساني وأما البر الذي بالإيمان فهو مجرد هبة الله بواسطة الروح القدس.
نَتَوَقَّعُ بمزيد الرغبة ووافر الصبر حتى ننال المقصود في السماء (انظر رومية ٨: ١٩ و٢٣ و٢٥). فالذين يطلبون البر بالناموس يزعمون أنهم يدركونه في هذه الحياة وأما المسيحي فيتوقع البر الكامل في الحياة الآتية.
رَجَاءَ بِرٍّ أي البر الذي نرجوه وقد وعد الله به فهو يتضمن التبرير ونتائجه. فالمسيحي الذي يقوده الروح القدس ينتظر أن ينال الخلاص التام بالمسيح وحده. فيتبرر حين يؤمن ويتقدس بعض التقدس هنا ويكمل تقدسه حين يبلغ السماء ويتمتع هنالك إلى الأبد بالسعادة والمجد المعد له والموعود هو به على وفق قوله «ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهٰؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً» (رومية ٨: ٣٠) وقوله «مِنْهُ أَنْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ ٱللّٰهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» (١كورنثوس ١: ٣٠).
٦ «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ».
١كورنثوس ٧: ١٩ وص ٣: ٢٨ و٦: ١٥ وكولوسي ٣: ١١ ١تسالونيكي ١: ٣ ويعقوب ٢: ١٨ و٢٠ و٢٢
غاية الرسول من هذه الآية أن المؤمن من اليهود والمؤمن من الأمم سواء قدام الله فختان الأول لا ينفعه شيئاً وعدم ختان الثاني لا يخسره شيئاً فالأمر الضروري هو الاتحاد بالمسيح.
لأَنَّهُ أي علة توقع رجاء البر من الإيمان.
فِي ٱلْمَسِيحِ أي باتحاد المؤمنين بالمسيح بواسطة الإيمان الحي.
لاَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ أي لا فرق بين المختون والأغرل قبل الإيمان في نيل التبرير والقبول إنما الفرق بينهما في الخارجيات العرضية. والله لا ينظر إلى الظاهرات والعرضيات بل ينظر إلى الاتحاد بالمسيح (ص ٦: ١٥ و١كورنثوس ٧: ١٨ - ٢٠). وما صدق من قول بولس على المؤمنين من أهل الختان المؤمنين من أهل الغرلة يصدق على الأحزاب التي انقسمت إليها الكنيسة المسيحية قديماً وحديثاً فلا فرق بين الأسماء التي عُرفوا فيها بين الناس فالضروري أن يؤمن الإنسان بالمسيح ويعترف به علناً ويعبد الله بالروح والحق ويطيع مشيئته تعالى على ما هي معلنة في أسفار وحيه بدليل قوله «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ» (ص ٦: ١٥).
بَلِ ٱلإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ هذا هو الذي ينفع لا الختان ولا الغرلة. والإيمان الحقيقي الذي هو شرط الخلاص من صفته أن يكون عاملاً بالمحبة وبهذه الصفة يمتاز عن الإيمان الفارغ الذي وصفه يعقوب الرسول بكونه «ميتاً» (يعقوب ٢: ١٧ و٢٠). نعم إن الإنسان يتبرر بالإيمان وحده ولكن إيمانه المبرر لا يبقى وحده بل تنشأ فيه حالاً الرغبة في الأعمال الصالحة التي هي مجموعة في أمرين المحبة لله والمحبة للناس. فالإيمان والأعمال مقترنان في المسيحي كالضوء والحرارة في الشمس فالمحبة التي تظهر بالأعمال الصالحة دليل على صحة الإيمان. وهذه الآية بيان للاتفاق بين تعليم بولس وتعليم يعقوب في شأن الإيمان فكل اعتقد صحة الإيمان العامل بالمحبة ونادى به ولم يعتقد أحدهما صحة الإيمان العقيم. وذكر بولس في ١كورنثوس ١٣: ١٢ «الإيمان والرجاء والمحبة» والتي قال عنها «أنها أعظم كل الفضائل» هي المحبة.
٧ «كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَناً. فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ؟»
رومية ٢: ٨ وص ٣: ١
أعلن بولس في هذه الآية والآيات الخمس التي تليها أسفه على انحراف مؤمني غلاطية عن الطريق المستقيمة ولومه للذين أضلوهم.
كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَناً هذا تمثيل مبني على ما يحدث في السباق إلى الغرض إراد به بيان السلوك المسيحي. وقد جاء مثل ذلك في (ص ٢: ٢ وفيلبي ٣: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٢٤ - ٢٧ و٢تيموثاوس ٤: ٧). والسعي في الآية لنيل الحياة الأبدية. والطريق التي يُسعى فيها هي التبرير بالإيمان على ما أُعلن في الإنجيل.
فَمَنْ صَدَّكُمْ الاستفهام هنا للتعجب والأسف كأن أحداً اعترض الساعي وصرفه عن سنن سيره.
حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ المعلن في الإنجيل الذي يعلم أن التبرير بالإيمان. فالصد المذكور في الآية الذي هو علة الانحراف هو عينه تعليم وجوب أن تُخفظ الرسوم الموسوية.
٨ «هٰذِهِ ٱلْمُطَاوَعَةُ لَيْسَتْ مِنَ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ».
ص ١: ٦
هذا جواب منه لسؤاله وأتى به على أسلوبين أسلوب النفي أولاً وأسلوب الإيجاب ثانياً.
هٰذِهِ ٱلْمُطَاوَعَةُ التي سلمتم بها وهي طلب التبرير بأعمال الناموس.
لَيْسَتْ مِنَ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ أي ليست من الله كما يتبين من قوله في أمر الجعالة «أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ لأَجْلِ جِعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي ٣: ١٤). فإنه قد صرّح سابقاً بأن الله دعاهم إلى إنجيل نعمة المسيح ويستحيل أنه تعالى يرضى أن يقبلوا تعليماً فاسداً يعدل بهم عن الطريق التي سيرهم فيها.
٩ «خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ ٱلْعَجِينَ كُلَّهُ».
١كورنثوس ٥: ٦ و١٥: ٣٢
خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ ٱلْعَجِينَ كُلَّهُ هذا مثل مبني على خواص الخميرة المعروفة يشير إلى أن تأثير مبدإ صغير صالح أو شرير ينشئ نتائج عظيمة. وقد جاءت «الخميرة» بمعنى حسن في (متّى ١٣: ٣٣ ولوقا ١٣: ٢١). وجاءت بمعنى رديء هنا وفي (مرقس ٨: ١٥ و١كورنثوس ٥: ٦ انظر أيضاً تفسير الآية الأخيرة من الشاهدين). ومعنى الرسول هنا أن قليلاً من تأثير التعليم الفاسد يفسد الكنيسة كلها. وقصد بتلك «الخميرة الصغيرة» التعليم الفاسد وهو وجوب الختان فإنه يستلزم حفظ كل الرسوم الموسوية ويصرفهم كل الصرف عن الإنجيل والإيمان بالمسيح.
١٠ «وَلٰكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي ٱلرَّبِّ أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئاً آخَرَ. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ ٱلدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ».
٢كورنثوس ٢: ٣ و٨: ٢٢ ص ١: ٧ ٢كورنثوس ١٠: ٦
وَلٰكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ أيها الغلاطيون المؤمنون الذين كانوا يسعون حسناً فإنهم مع انحرافهم عن الحق إلى التمسك ببعض الأضاليل ما فتئ يثق بهم أنهم يصغون إلى تحذيره إياهم من خطر الطريق التي مالوا إليها وإنهم يرجعون إلى الطريق التي سعوا فيها أولاً وهي طريق النعمة والإيمان.
فِي ٱلرَّبِّ يسوع المسيح. كانت ثقته برجوعهم مبنية على ثقته بالمسيح الذي اتحد به وعمل فيه وبه (فيلبي ٢: ٢٤ و٢تسالونيكي ٣: ٤). فإنه وثق أن المسيح يسمع صلواته من أجلهم ويجعل كلامه يؤثر في قلوبهم وأنه يكمل فيهم العمل الصالح الذي ابتدأ فيهم إلى يوم يسوع المسيح كما وثق بمؤمني فيلبي (فيلبي ١: ٦).
أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئاً آخَرَ غير ما علمتكم إياه وأنتم قبلتموه أولاً وأرغب في أن تكونوا كذلك الآن.
ٱلَّذِي يُزْعِجُكُمْ بأن يشكّكم في كون الإيمان بالمسيح كافياً للخلاص وأن يسبب لكم انشقاقاً في كنيستكم. فإنه لم ينسب انحرافهم عن الحق إليهم بل إلى بعض المفسدين من المعلمين المتهودين (ع ١٢ و٢كورنثوس ١١: ٤). وهذا الكلام جوابه على سبيل الإيجاب لسؤاله في الآية السابعة.
سَيَحْمِلُ ٱلدَّيْنُونَةَ أي دينونة الله.
أَيَّ مَنْ كَانَ لم يصرّح باسم المزعج الذي هو علة العثرة بل أشار إلى أن الله يعرفه وأنه تحت مسؤولية ثقيلة وعرضة لدينونة يستحيل عليه أن يهرب منها مهما سما مقامه واعتباره.
١١ «وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِٱلْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ؟ إِذاً عَثْرَةُ ٱلصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ».
كولوسي ١٥: ٣٠ وص ٤: ٢٩ و٦: ١٢ و١٧ و١كورنثوس ١: ٢٣
فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِٱلْخِتَانِ يظهر من هذا أن بعضهم اتهمه بأنه نادى في غير كنيسة غلاطية بوجوب الختان وأتى ذلك بعد تنصره إلى تلك الساعة ولعلهم بنوا تهمتهم على ختنه تيموثاوس في بداءة سفره الثاني للتبشير بالإنجيل (أعمال ١٦: ٣).
فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ أشار إلى الواقع الذي عرفوه وهو أن اليهود لم يفتأوا يضطهدونه وهذا برهان على أنه لم يغيّر كرازته.
إِذاً عَثْرَةُ ٱلصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ كنى الرسول «بالختان» عن كل رسوم الناموس لأن أهل الناموس امتازوا به. وكنى «بالصليب» عن الدين المسيحي لامتياز المسيحيين به. فلو نادى بوجوب الختان لكان كأنه نادى بناموس موسى فقرر أنه يهودي فاستحال أن يضطهده اليهود. ولكن اليهود كانوا لا يزالون يبغضونه ويضطهدونه وهذا دليل قاطع على أنه نادى بأن الإيمان بيسوع المسيح مصلوباً الواسطة الوحيدة للخلاص وهذا أعظم عثرة لليهود.
١٢ «يَا لَيْتَ ٱلَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضاً!».
أعمال ١٥: ١ و٢ و٢٤ يشوع ٧: ٢٥ و١كورنثوس ٥: ١٣ وص ١: ٨ و٩
ظن بعضهم أن الرسول أظهر في هذه الآية رغبته في أن يقطع الذين يوجبون الختان من الكنيسة التي أقلقوها به ولكن ذهب أكثر المفسرين ومذهبهم هو المرجح إلى أنه تمنى أن الذين يحبون الختان ويستحسنونه لا يكتفون به بل يحببون كما فعل بعض عبدة الإلاهة سبيلي التي كان هيكها بينهم في مدينة باسينوس. ولا يخفى على القارئ أن بولس قال ذلك على سبيل التهكم لا أنه رغب فيه حقيقة. والظاهر أن الناس في عصر بولس توسعوا في الكلام أكثر مما يستحسنه مسيحيو هذا العصر.
يُقْلِقُونَكُمْ أي ينتزعون راحتكم وسلامة كنيستكم ويقلق هنا بمعنى يزعج في (ع ١٠).

تحذير الرسول الغلاطيين من سوء استعمال حريتهم وحثهم على المحبة الأخوية ع ١٣ إلى ١٥


١٣ «فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا ٱلْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِٱلْمَحَبَّةِ ٱخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً».
١كورنثوس ٨: ٩ و١بطرس ٢: ١٦ و٢بطرس ٢: ١٩ ويهوذا ٤ و١كورنثوس ٩: ١٩ وص ٦: ٢
أبان أن المعلمين المفسدين استحقوا كل ما سبق من اللوم لما أضروا به من تعليمهم لأنهم سلبوا حريتهم في المسيح.
دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ إن الذي دعاهم لها هو الله وتلك الحرية هي الخلاص بالنعمة مجاناً بدون حفظ الرسوم الموسوية للتبرير والخلاص وهذا عكس تعليم أولئك المفسدين فهم بذلك ممن قاوموا إرادة الله وقصده (ص ٣: ٢٨ و٤: ٩).
أخذ الرسول هنا ينصح لمؤمني غلاطية وهذا هو القسم الثالث من رسالته.
لاَ تُصَيِّرُوا ٱلْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ رأى الرسول مؤمني الغلاطيين عرضة للسقوط في هوايا الشهوات المحظورة وكانت كل الكنائس المؤلفة من متنصري الأمم عرضة لذلك لاقتران القبائح بعبادة الأوثان في الهياكل. وكان سكان كورنثوس التي كان فيها يوم كتب هذه الرسالة عرضة لذلك السقوط فرأى من الموافق أن يحذر الغلاطيين من سوء استعمال حريتهم كأن يجعلوها حجة للانهمال في اللذات الجسدية لأن للحرية المسيحية حدوداً إنجيلية فلا تبيح للمؤمن أن يفعل ما يشاء (١بطرس ٢: ١٦ و٢بطرس ٢: ١٩).
بَلْ بِٱلْمَحَبَّةِ ٱخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً حذرهم سابقاً من العبودية للرسوم الموسوية والخطيئة والشهوات لأنها شر أنواع العبودية ودعاهم هنا إلى الخدمة الحبية لأنها شريفة ممدوحة لذيذة ولا تنافي الحرية الحقة. فرُبط المحبة ليست بقيود الرق بدليل قوله «فإني إذ كنت حراً من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين».
١٤ «لأَنَّ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ».
متّى ٧: ١٢ و٢٢: ٤٠ ويعقوب ٢: ٨ لاويين ١٩: ١٨ ومتّى ٢٢: ٣٩ ورومية ١٣: ٨ و٩
بعد أن وضع بولس أساس التعليم المسيحي وهو المسيح وبره بنى عليه وجوب الأعمال الصالحة وضمنها كلها في شريعة المحبة.
كُلَّ ٱلنَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ الخ هذا مقتبس من سفر اللاويين (لاويين ١٩: ١٨). والناموس قسمان الأول المحبة غير المحدودة لله والثاني محبة القريب كالنفس. والثاني مبني على الأول ويستحيل دونه كما أبان يوحنا الرسول بقوله «إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ ٱللّٰهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ ٱلَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟ وَلَنَا هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ ٱللّٰهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضاً» (١يوحنا ٤: ٢٠ و٢١). فخلاصة كل الناموس المحبة بدليل قوله «لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ ٱلنَّامُوسَ... وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَى، هِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ: «أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ، فَٱلْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ ٱلنَّامُوسِ» (رومية ١٣: ٨ - ١٠). وكانت المحبة تكميل الناموس لأن وجودها يتكفل بالقيام بكل ما يجب علينا لله وللناس. وهذا على وفق قول المسيح في (متّى ٢٢: ٣٩) وبيّن الرسول ذلك بقوله «اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهٰكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ ٱلْمَسِيحِ» (ص ٦: ٢).
١٥ «فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فَٱنْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً».
هذه الآية بيان للضرر الناتج من عدم الامتثال لوصيته إذا جعلوا الحرية «فرصة للجسد» وخالفوا شريعة المحبة.
إِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً كما تفعل الوحوش الضارية. فإذا لم تحب أخانا حسدناه ثم أبغضناه ثم تآمرنا عليه ثم هجمنا عليه. وأشار بهذا إلى الانقسامات والخصومات التي كانت كنيسة غلاطية عرضة للوقوع فيها بقبولها المعلمين الفريسيين وبدعهم فتُسلب بذلك كل ما فيها من الاتفاق والسلام فيغار البعض على وجوب الختان وحفظ الأيام والأعياد وسائر الرسوم اليهودية ويتحمس البعض عليها ويسعى في إبطالها.
لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لئلا تتلاشى كنيستكم بسبب هذه الخصومات. وحذرهم من هذه العاقبة المحزنة لكي يحترسوا منها ويخدموا بعضهم بعضاً بالمحبة متمسكين بإيمان واحد.
إن تاريخ الكنيسة يشهد بصدق ما أشار إليه بولس هنا من الخطر على نمو الكنيسة من التحزب والخصام ووجوب الاحتراز منهما لأنهما منعا الكنيسة من التقدم والنمو عدداً وتقوى حتى نتج عنهما حروب دموية فني بها أموال الناس وحياتهم. فلا شيء في العالم مما يسلب راحته وسلامه ويهين اسم المسيح ويمنع نجاح الكنيسة وتقوى أعضائها أكثر من الاختلافات الدينية.

السلوك بالروح وبيان أعمال الجسد وأعمال الروح ع ١٦ إلى ٢٦


١٦ «وَإِنَّمَا أَقُولُ: ٱسْلُكُوا بِٱلرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ».
رومية ٦: ١٢ و٨: ١ و٤ و١٢ و١٣: ١٤ وع ٢٥ و١بطرس ٢: ١١
وَإِنَّمَا أَقُولُ تفسير لما قال في (ع ١٣).
ٱسْلُكُوا بِٱلرُّوحِ أي سلموا أنفسكم لإرشاد الروح القدس تحصلوا على حرية مضاعفة أي تتحرروا من الناموس على ما ذُكر في أكثر الرسالة ومن العبودية للشهوات الجسدية التي كلامنا فيها. والسلوك بالروح يكون بمقتضى القانون الذي وضعه الروح القدس لنرشد به ضمائرنا ونقيس عليه أعمالنا. وهذا مثل قوله «بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا ٱلآبُ» (ص ٤: ٦ ومثله ما في ع ١٦ - ١٨ من هذا الأصحاح وما في رومية ٨: ٢ و٥ و١١ و١٣). واستعارة السلوك للحياة المسيحية كثيرة في الإنجيل فجاءت في البشائر ثلاث مرات وفي رسائل بولس ثلاثاً وثلاثين مرة وفي رسائل يوحنا عشر مرات وفي سفر الرؤيا مرة واحدة.
فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ أي شهوة الإنسان الطبيعي بعد السقوط وقبل التجدد لأن كل أفكاره وأعماله نتائج الشهوة البشرية. وجاء «الجسد» بهذا المعنى في (ع ١٣ و١٧ و١٩ ويوحنا ٣: ٦) فإن كلا من الروح والجسد يضاد الآخر فحيث تسلط الواحد لم يبق من قوة للثاني. وطريق أن يتحرر الإنسان من الشهوات الجسدية هي أن يمتلئ بالروح القدس.
١٧ «لأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ، وَهٰذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ».
رومية ٧: ٢٣ و٨: ٦ و٧ رومية ٧: ١٥ و١٩
لأَنَّ هذا تعليل لما أبانه من المضادة بين الجسد والروح ولقوله «اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد».
ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ أي إن أميال الإنسان الرديئة تجعله يرغب في غير ما يحثه الروح القدس على الافتكار فيه والعمل به. ولم يعن «بالجسد» هنا مجرد الشهوات الجسدية المحظورة بل كل العواطف الرديئة التي تستخدم الجسد آلة لها فإن الجسد ليس مركز الشر كما زعم أتباع ماني لأن الكتاب المقدس لم ينسب إليه شيئاً من الشرور الذاتية فإن الله خلقه ليكون مسكن الروح القدس (١كورنثوس ٦: ١٩ و١٠ و٢كورنثوس ٦: ١٦). والمسيح فدى الجسد والنفس معاً.
وَهٰذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ كما يشهد بالاختبار كل مسيحي فحص ضميره. وأطال بولس البيان في كلامه على المحاربة بين الطبيعة العتيقة الخاطئة التي تدعى «الجسد» والطبيعة الجديدة المقودة بروح الله في (رومية ٧: ١٥ - ٢٣ و٢٥). والحرب قائمة في الإنسان دائماً بين العقل والشهوة والضمير والخطيئة والله والشيطان. والشعور بهذه المحاربة والأسف منها برهان قاطع على الولادة الجديدة وفعل الروح القدس في القلب لإماتة الأميال الفاسدة.
حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ لقوة بقايا الطبيعة البشرية التي لم يتم خضوعها لشريعة الله على وفق قول المسيح لتلاميذه «أَمَّا ٱلرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَضَعِيفٌ» (متى ٢٦: ٤١). ولقوة التجربة المحيطة بنا التي جعلت بولس يقول «لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ» (رومية ٧: ١٥) ويصرخ «وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ» (رومية ٧: ٢٤). ولكن الكتاب المقدس يؤكد للمؤمن انتصاره أخيراً على طبيعته الفاسدة بمعونة المسيح وفعل الروح القدس حتى يتمكن من قال أولاً «من ينقذني من جسد هذا الموت» من أن يقول «اشكر الله بيسوع المسيح ربنا».
١٨ «وَلٰكِنْ إِذَا ٱنْقَدْتُمْ بِٱلرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ».
رومية ٦: ١٤ و٨: ٢
إِذَا ٱنْقَدْتُمْ بِٱلرُّوحِ تمام الانقياد أي سلمتم أنفسكم لتعليمه وإرشاده امتثالاً لقوله «اسلكوا بالروح» (ع ١٦).
فَلَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لكي تطيعوه بقوتكم الذاتية رغبة في أن تتبرروا به. إن المؤمنين لكونهم منقادين بروح الله ولكونهم صاروا أبناء الله يفعلون باختيارهم ما يأمر به الناموس ويمتنعون عما ينهي عنه كذلك (رومية ٨: ١٤) ويسلكون في جدة الحياة (رومية ٦: ٤) فالشكر والمحبة يسوقانهم إلى السير في الطريق المستقيم فلا يحتاجون بعد إلى الناموس المكتوب ظاهراً لأن المسيح كتبه على قلوبهم وهو يقدرهم على القيام به (رومية ٦: ١٤ و١٥ و١٨ و١تيموثاوس ١: ١٩) فيجب أن لا يخيف الناموس المؤمن لأنه لا يستطيع أن يحكم عليه لأن المسيح أوفى كل مطاليب الناموس عنه واللابس بره يقف بلا عيب أمام العرش (٢بطرس ٣: ١٤).
١٩ «وَأَعْمَالُ ٱلْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ: ٱلَّتِي هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ».
١كورنثوس ٣: ٣ وأفسس ٥: ٣ وكولوسي ٣: ٥ ويعقوب ٣: ١٤ و١٥
أَعْمَالُ ٱلْجَسَدِ ذكر الرسول أعمال الجسد وأعمال الروح ليبين المضادة التي بينهما على ما أبان في (ع ١٦) فذكر أولاً سبعة عشر من أعمال الجسد (ع ١٩ - ٢١) وثانياً تسعة من أعمال الروح (ع ٢٢ و٢٣) وأراد بقوله «أعمال الجسد» أعمال الذين يسلمون أنفسهم لأميالهم الطبيعية الخاطئة ولا ينقادون بروح الله.
ظَاهِرَةٌ على وفق قول المسيح «من أثمارهم تعرفونهم» (متّى ٧: ١٦). ولم يقصد بولس هنا أن يكتب قائمة كل الخطايا بل الخطايا التي كان الغلاطيون عرضة لارتكابها مما اعتادوه يوم كانوا وثنيين ومن التجارب التي كانت محيطة بهم. ولا حاجة إلى القول إنه لم يتهمهم بارتكاب كل ما ذكره من الخطايا. والتي ذكرها أربعة أنواع:

  • الأول: الرذائل الذاتية التي يخطأ الإنسان بارتكابها إلى جسده.
  • الثاني: الخطايا التي يخطأ بارتكابها إلى الله وهي بارتكابها إلى جسده.
  • الثالث: الخطايا التي يخطأ بارتكابها إلى قريبه.
  • الرابع: الخطايا الناتجة عن تجاوز الحد في المباح.


هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ هذه الأربعة خطايا يرتكبها الإنسان على ذاته وينجس بها جسده الذي قصد الله أن يكون هيلكاً للروح القدس (١كورنثوس ٦: ١٩ - ٢٠) وهي مما اعتاده الوثنيون ولم ينه عنها أحد من فلاسفتهم الأدبيين وأفضلهم كسقراط وأفلاطون وشيشرون وأنهم لم يُحرموا الزنا إلا بكونه تعدياً على حقوق الزوج وكان مقترناً دائماً بعبادة الزهرة وغيرها من الإلاهات وحُسب جزءا من عبادتهن.
٢٠ «عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ».
عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ سِحْرٌ هاتان خطيتان وثنيتان حرمهما الله. ولم يكن المسيحي محتاجاً إلى التحذير من ارتكاب أولاهما عمداً وظاهراً لكن كان معرضاً لها بحضوره الولائم الوثنية في الهياكل والبيوت ليأكل لحم ما قدم للأوثان أو بمجاراة الوثنيين في عوائدهم. وكثيراً ما توغل أهل أسية الصغرى في اعتقاد السحر وممارسته. قيل في متنصري أفسس «كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ ٱلسِّحْرَ يَجْمَعُونَ ٱلْكُتُبَ وَيُحَرِّقُونَهَا أَمَامَ ٱلْجَمِيعِ. وَحَسَبُوا أَثْمَانَهَا فَوَجَدُوهَا خَمْسِينَ أَلْفاً مِنَ ٱلْفِضَّةِ» (أعمال ١٩: ١٩ انظر أيضاً رؤيا ٢١: ٨).
عَدَاوَةٌ خِصَامٌ العداوة البغض الباطن والخصام وهو معلولها إعلانها في الظاهر.
غَيْرَةٌ الغيرة هنا الرغبة في السبق والأفضلية.
سَخَطٌ السخط أول مراتب الغضب ويستعمل غالباً لغضب الإنسان على من هو دونه.
تَحَزُّبٌ أي انضمام أصحاب الرأي الواحد وانفصالهم عن غيرهم.
شِقَاقٌ الخلاف ظاهراً وباطناً بعد الاتفاق (١كورنثوس ٣: ٣).
بِدْعَةٌ ما أُحدث في الدين وخالف الحق (١كورنثوس ١١: ١٩).
٢١ «حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هٰذِهِ ٱلَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هٰذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
١كورنثوس ٦: ٩ وأفسس ٥: ٥ وكولوسي ٣: ٦ ورؤيا ٢٢: ١٥
حَسَدٌ الحزن على نعمة الغير وتمني زوالها عنه.
قَتْلٌ هذا نهاية الخطايا المذكورة التي يرتكبها الإنسان على قريبه وشريها.
سُكْرٌ بَطَرٌ السكر مجاوزة الحد في تناول الخمر وما شاكلها. والبطر مجاوزة الحد في المسرة وكانت الأمم التي الغلاطيون منها مشهورة بالأمرين. وذكرهما الرسول قسماً مستقلاً لأن الشراب والسرور ليسا بمحرّمَين بالذات بل بمجاوزة الحد فيهما.
ٱلَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ أي أقول قبل ارتكابكم إياها وقبل أن تختبروا صدق قولي في يوم الدين.
كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً في زيارته الأولى أو الثانية أو في كلتيهما حين نادى بينهم بالإنجيل الذي ينهي عن كل الفجور ويطلب الاقتداء بالمسيح.
مِثْلَ هٰذِهِ المذكور من الرذائل.
مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ الذي أنشأه المسيح على الأرض وسوف يتم في السماء دار القداسة التي «لَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً» (رؤيا ٢١: ٢٧). فإنه «خَارِجاً ٱلْكِلاَبَ وَٱلسَّحَرَةَ وَٱلزُّنَاةَ وَٱلْقَتَلَةَ وَعَبَدَةَ ٱلأَوْثَانِ، وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ كَذِباً» (رؤيا ٢٢: ١٥). والخلاصة أنه بدون قداسة لا يقدر أحد أن يعاين الرب (عبرانيين ١٢: ١٤). وهذه العبارة مخيفة لكل من لم يتجدد ويتقدس.
٢٢ «وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ».
يوحنا ١٥: ٢ وأفسس ٥: ٩ كولوسي ٣: ١٢ ويعقوب ٣: ١٧ رومية ١٥: ١٤ و١كورنثوس ١٣: ٧
ثَمَرُ ٱلرُّوحِ أي الأعمال الناتجة عن تأثير الروح القدس من الذين يسلمون أنفسهم إلى إرشاده. ودعاها «ثمراً» لأنها نتيجة طبيعية من ذلك المنشئ كما أن الثمر نتيجة طبيعية من النبات وكما أن الأعمال الشريرة تنشأ من قلب الإنسان الشرير طبعاً بدون تأثير من خارج. وبعض الفضائل المذكورة هنا لم يُحسب من الفضائل عند الوثنين وهو المحبة وطول الأناة والفرح والسلام والوداعة. وفي تعبيره عن أعمال الروح بلفظ مفرد هو «الثمر» خلافاً لما عبر به عن الرذائل إشارة إلى أن الفضائل الروحية متحدة وعبر عنها في (ع ١٤) «بالمحبة» وفي موضع آخر «بثمر النور» (أفسس ٥: ٩).
مَحَبَّةٌ هي الفضيلة المسيحية الأساسية وهي تشتمل على كل ما سواها من الفضائل وتحيط بالسموات والأرض.
فَرَحٌ سَلاَمٌ ويجمعهما سعادة المسيحي الداخلية فيكون مبتهجاً مطمئناً أبداً بناء على مغفرة خطاياه والمصالحة مع الله ورجاء السماء.
طُولُ أَنَاةٍ احتمال التعدّيات بالصبر.
لُطْفٌ إظهار ما في القلب من اللين والرفق بالفعل.
صَلاَحٌ الرغبة في نفع القريب والسعي في سبيله.
إِيمَانٌ هو فضيلة جوهرية في الدين المسيحي كما هو ظاهر في البشائر والرسائل ولعل الرسول وضعه مقابلاً لبدعة في قائمة الرذائل التي حذر منها.
٢٣ «وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هٰذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ».
أعمال ٢٤: ٢٥ و٢بطرس ١: ٦ و١تيموثاوس ١: ٩
وَدَاعَةٌ السكون والاستقرار والاطمئنان في كل الأمور ولا سيما وقت التعديات وهي ضد الرئاسة والانتقام. ومدحها المسيح بقوله «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ» (متى ٥: ٥).
تَعَفُّفٌ وهو ضبط النفس عن المحرّمات ومجاوزة الحد في المباحات.
ضِدَّ أَمْثَالِ هٰذِهِ لَيْسَ نَامُوس «هذه» إشارة إلى الفضائل المذكورة ولا يضادها الناموس لأنها الأثمار التي ينشئها روح الله في المنقادين بالروح. والذي يضاده الناموس هو الخطيئة لأنه ينهي عنها. وأما هذه الفضائل فيأمر بها لكن ليس له قوة على أن ينشئها في قلب الإنسان بل له القوة على عقاب مبغضيها.
٢٤ «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ».
رومية ٦: ٦ و١٣: ١٤ وص ٢: ٢ و١بطرس ٢: ١١
ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ أي المتحدين بالمسيح بالإيمان المعتمدين باسمه المنكرين العالم والشهوات والشيطان.
قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ ولذلك يستحيل أن يخالفوا الناموس بأن يخطئوا إلى الله أو أنفسهم أو قريبهم إذ أماتوا كل ميل إلى ارتكاب الخطيئة حين آمنوا بالمسيح المصلوب وسلموا أنفسهم له واتحدوا به.
إن تجديد الخاطئ هو إماتة الإنسان العتيق وشهواته وإقامة الإنسان الجديد. وكنى «بالصليب» عن الموت كما كنى «بالولادة الجديدة» عن القيامة مع المسيح (ص ٢: ٢٠ و٦: ١٤ ورومية ٦: ٤ - ٦ وكولوسي ٣: ٥).
٢٥ «إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِٱلرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضاً بِحَسَبِ ٱلرُّوحِ».
رومية ٨: ٤ و٥ وع ١٦
إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِٱلرُّوحِ أي إن كنا أنا وأنتم نعيش بواسطة الروح الذي ينشئ الحياة الروحية فينا ويحفظها ونستنير به ونقاد لكي نعمل مشيئة الله.
فَلْنَسْلُكْ الخ قال إن ما يفعله الله فينا علة أن نفعل نحن أيضاً مع الله لنأتي بالنتيجة التي يريدها الله.
بِحَسَبِ ٱلرُّوحِ أي نجعل سيرتنا على وفق القانون الذي وضعه الروح القدس وظل يرشدنا به ويقدرنا على مداومة السير بمقتضاه. وذلك السلوك مما يجب على المسيحي كل يوم ما دام حياً.
٢٦ لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضاً».
فيلبي ٢: ٣
لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ أي لنعتزل الكبرياء وهذا كقوله «لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (فيلبي ٢: ٣). حذر الرسول الغلاطيين بهذه الآية مما كانوا عرضة له من الكبرياء والتقلب والاختلاف.
نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَنَحْسِدُ الخ قال ذلك لأن الغلاطيين اشتهروا بحب المباهاة والخصومات ولكن هذه الخصلة لم تكن مما اختصوا به فإنها مما لم تخل منها مدينة أو قرية وهي لا تضر في موضع على وجه الأرض كضررها في الكنيسة إذا كانت في معاملة بعض أعضائها لبعض.

فوائد



  • إن السعي في أمور الدين ممدوح وأما السعي حسناً فأحق منه بالمدح لأنه يؤكد نيل الجعالة فالذي «يسلك بالروح» فلا بد من أن «يسعى حسناً» ولا يستطيع أحد أن يصده عن تقدمه في السعي (ع ٧).
  • إن كلمة الله نهتنا عن أن نثق بالبشر ومع ذلك قال بولس للغلاطيين إنه يثق بهم لكن ثقته بهم لم تبن على شدة عزمهم ووفرة مواعيدهم وما شاهدوه من ثبوتهم بل على قوة الله الساندة لهم ونعمة المسيح الجاذبة لهم وتأثير الروح القدس ليقدسهم (ع ١٠).
  • إنه إذا نادى أحد بدين المسيح على طريق لا تؤدي إلى أن يقاومه أهل العالم واضطهادهم لتابعيه كان ذلك دليلاً قاطعاً على أن مناداته ليست بالإنجيل الحق فالصليب الذي لا يكون عثرة ولا جهالة لأحد ليس بالصليب الذي حمله المسيح على الجلجثة وأمرنا أن نحمله وراءه. فالتبشير بالصليب يعلم أن الخلاص يكون مجاناً بالمسيح وحده ويمنع من الاتكال على الأعمال الصالحة ويجعل الكل خطأة أمام الله على السواء ويوجب التواضع على تابعيه ومساواة بعضهم لبعض. وما دام هو كذلك يبغضه الناس ويبغضون المنادين به ويضطهدونهم ويطلبون ملاشاة تعليمه من الأرض (ع ١١).
  • إن هذا الأصحاح يبين طريق هداية الذين ضلوا عن الحق وذلك يكون بثلاثة أمور:

    • الأول: تذكيرهم محبتهم الأولى وطاعتهم (ع ٧).
    • الثاني: تحذيرهم من الخطر الذي في طريق الضلال (ع ٩ و١٠).
    • الثالث: أن يُسلك أمامهم بالاستقامة والاستمرار في طريق الحق ليقتدوا (ع ١١).


  • إن تحرر المؤمن من الناموس الأدبي باعتبار كونه واسطة للتبرير وعلة للخلاص من الدينونة لا يحرره من وجوب اتخاذه ذلك الناموس قانوناً لحياته فبإيمانه يبدل طاعته للناموس كطاعة العبد لسيده بالخوف والتكلف بطاعته له طاعة الابن لأبيه مختاراً مسروراً (ع ١٣).
  • إنه ليس من مؤمن على الأرض نال من القوة الروحية والقداسة ما به الكفاية حتى لا يشعر بتجارب الجسد وحتى يمكنه أن يغلب تلك التجارب بقدرته الذاتية. وليس من مؤمن ضعيف إلى حد لا يقدر عنده أن يغلب كل التجارب الجسدية بالروح القدس (ع ١٦).
  • إن وجود المحاربة بين الجسد وروح الله في إنسان دليل قاطع على تجدده وهي تمتاز عن المحاربة بين عقل الإنسان وشهواته بأن نتيجة الأولى الانتصار دائماً بعكس الثانية. فمن قال إنه «لا نفع من الاجتهاد في نيل القداسة ودفع الخطيئة لأني مهما اجتهدت لم يمكني إلا أن أفعل ما لا أريد فيأسرني الشيطان وشهواتي» فهو ضال وسيهلك. ولكن الذي يقاوم الخطيئة ويستغيث بقوة من العلى قائلاً «من ينقذني من جسد الموت هذا» يقوده الروح القدس بعد المجاهدة العنيفة إلى النصرة الأخيرة السماوية التامة والسارة (ع ١٧).
  • إنه لا ينجو من سلطة الناموس على أن يدينه ولا من سلطة الفساد على قلبه إلا بتأثير الروح القدس (ع ١٨).
  • إن جرم خطيئة الخاطئ وكونه عرضة للعقاب لا يقومان بمجرد أعماله الخارجية التي تغيظ الله وتضر نفسه وقريبه بل بفساد قلبه الباطن الذي حمله على ارتكاب تلك الأعمال. وهذا الفساد يكرهه الله كثيراً وهو يحقق انفصال الإنسان عنه تعالى. فقول الكتاب «إن الذين يفعلون مثل هذه (الخطايا) لا يرثون ملكوت الله» لا يصدق على الذين يرتكبونها كلها أو يرتكبها مراراً فقط بل على الإنسان الذي يسمح لواحدة منها أن تتسلط عليه ولا يرجع عنها. وإن لم يرتكب الإنسان واحدة منها فعلاً ولكنه أراد أن يرتكبها وامتنع خجلاً من الناس وخيفة من النار فالله الفاحص القلب يدينه (ع ١٩ - ٢١).
  • إن الإنجيل يدعونا إلى فرح فإن فرحنا به كان ذلك دليلاً على أننا اتكلنا على المسيح لمغفرة الخطايا وإننا تحققنا ميراثنا الأبدي وإننا وجدنا نير المسيح هيناً وحمله حفيفاً وإننا وجدنا تعزية عظيمة في مواعيد الكتاب الإلهي باتحادنا بالمسيح وسكنى الروح القدس فينا. وهو شهادة للعالم بأننا لسنا عبيداً نخدم سيداً قاسياً بل سيداً هو خير السادة يمنحنا أفضل التعزية والمعونة وأعد لنا أحسن الثواب (ع ٢٢).
  • إنه لا يكفي أن يمتنع عن أعمال الجسد بل يجب أن نزيد على ذلك ممارسة الفضائل المسيحية. وتلك الفضائل كثيراً ما يمارسها المؤمنون ويخافون من أنهم ليسوا مسيحيين حقيقيين والناس تشاهدهم يمارسونها. وأثمار الروح هذه يأتي بها كل مسيحي بالحق والفرق بين المسيحيين في ذلك أن بعضهم يمتاز بكثرة ممارسة بعضها والآخر بكثرة ممارسة الآخر (ع ٢٢ و٢٣).
  • إنه يسوغ لنا أن نعبر عن الموت للخطيئة بالصلب لأن المصلوب لا يموت دفعة بل تدرجاً من الجوع والعطش وفقدان الدم والألم والالتهاب بجراح الصلب كذلك المسيحي حين يتوب يأخذ في الموت للخطيئة كأنه سُمر على الصليب وقتئذ فتضعف شهواته شيئاً فشيئاً على أثر توبته وسهره وجهاده للخطيئة وندامته عليها ولا يزال يصلب طبيعته الفاسدة إلى أن تنتهي حياته الأرضية فكل قدرته على صلب الجسد ينالها بموت المسيح على الصليب (ع ٢٤).
  • إن علامة وجود الحياة الروحية هي العمل الروحي فالحياة الخارجية تثبت صحة الحياة الداخلية. والسلوك بالروح ضروري لحفظ تلك الحياة وتقويتها ولمداومة صلب الجسد (ع ٢٥).




اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّادِسُ


في هذا الأصحاح نصائح مختلفة منها أن يعامل المؤمن القوي أخاه الضعيف بالرفق (ع ١). وأن يحمل حمل أخيه (ع ٢). وأن يحترس من العجب بنفسه (ع ٣ - ٥). وأن يسخو على معلميه المسيحيين (ع ٦ - ٨). وأن لا يمل من عمل الخير (ع ٩ و١٠). ونصيحة كتبها بيده تحذيراً للغلاطيين من المعلمين الذين رغبوا في تهويدهم (ع ١١ - ١٧). والبركة الرسولية التي اعتادها الرسول (ع ١٨).
نصائح مختلفة ع ١ إلى ١٠


١ «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، إِنِ ٱنْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ ٱلرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هٰذَا بِرُوحِ ٱلْوَدَاعَةِ، نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضاً».
رومية ١٤: ١ و١٥: ١ وعبرانيين ١٢: ١٣ ويعقوب ٥: ١٩ و١كورنثوس ٢: ١٥ و٣: ١ و١كورنثوس ٤: ٢١ و٢تسالونيكي ٣: ١٥ و٢تيموثاوس ٢: ٢٥ و١كورنثوس ٧: ٥ و١٠: ١٢
قال سابقاً أن العيشة بالروح توجب عليهم السلوك بالروح (ص ٥: ٢٥ و١٦). وأبان هنا أن تلك العيشة توجب عليهم أن يرفقوا بإخوتهم ويحلموا عليهم ويعاملوهم بالحب والوداعة.
أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ خاطبهم بولس بكلام المحبة ليستميلهم إلى أعمال المحبة وهذا أقوى من إقامة الأدلة.
إِنِ ٱنْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ أي بغتته التجربة وغلبته نظراً لقوتها وضعفه وعدم استعداده لمقاومتها وسماها «زلة» تمييزاً عن خطيئة العمد التي لا تكون إلا بعد التأمل. فبطرس انسبق وأُخذ في زلة يوم أنكر المسيح ويهوذا سلم ربه عمداً بعد التأمل. وزلة المؤمن تدل على احتياجه إلى مساعدة إخوته الذين هم أقوى منه في الحياة الروحية. وتلطف الرسول كثيراً بفرضه أن الغلاطيين لم يبد منهم سوى الزلات لتجربة بغتية.
فَأَصْلِحُوا لم يقل اغتاظوا منه وعاقبوه بل سألهم أن يتخذوا الوسائل التي تقوده إلى التوبة وحياة التقى. فلا يحسن أن يحملنا بغضنا للخطيئة على أن نبغض الخاطئ بل يجب أن يحملنا على طلب إصلاحه.
أَنْتُمُ ٱلرُّوحَانِيِّينَ دعا المؤمنين روحانيين إشارة إلى ما قاله في الأصحاح السابق من أن المؤمنين يعيشون بالروح ففرض أن ذلك شأن كل مؤمن وهو أن الروح القدس ساكن فيه ويعمل بواسطته ولم يخص بهذا خدم الدين بل وصف به كل أعضاء الكنيسة. والذين وصفهم «بالروحانيين» هنا وصفهم «بالأقوياء» في الرسالة إلى الرومانيين (رومية ١٤: ١).
بِرُوحِ ٱلْوَدَاعَةِ أي بالهدوء والحلم والسكينة وهي من أول الصفات التي يجب على المصلح إظهارها. فإذا انتفخ المصلح وافتخر بأنه لم يزل كما يزل إخوه وأظهر ذلك قولاً وفعلاً استحال عليه أن يصلحه فيجب أن يظهر بكلامه وأعماله أنه يحبه ويشفق عليه ويرغب في رجوعه إلى طريق الحق.
نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ الخ أي يجب أن يتخذ زلة أخيه تنبيهاً له ليحترس من مثلها كقول الرسول «إِذاً مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (١كورنثوس ١٠: ١٢) أو المعنى افعل للأخ الزال كما تريد أن غيرك يفعل لك إذا زللت أي عامله بالرفق إذ لا تعلم أنه يمكن أن تزل بعد قليل مثله.
٢ «اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهٰكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١٥: ١ وص ٥: ١٣ و١تسالونيكي ٥: ١٤ يوحنا ١٣: ١٤ و١٥ و٣٤ و١٥: ١٢ ويعقوب ٢: ٨ و١يوحنا ٤: ٢١
أعلن الرسول في هذه الآية طريقاً أخرى لإظهار المؤمن حبه لأخيه فوق إصلاحه إياه إذا زلّ.
اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ أي ساعدوا الإخوة على أتعابهم وهمومهم وضعفهم وضيقاتهم حاسبين أثقالهم أثقالكم. وهذا مما يوجب علينا المواساة لإخوتنا والصلاة معهم ومن أجلهم ومساعدتهم بالنصائح والمال واليد كما تقتضي الحال.
هٰكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ ٱلْمَسِيحِ أي المحبة لأنها هي ناموس المسيح بدليل قوله «هٰذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ» (يوحنا ١٥: ١٢). وقوله «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (يوحنا ١٣: ٣٤ انظر أيضاً ص ٥: ٤ ورومية ١٣: ٨ و١يوحنا ٣: ٢٣).
٣ «لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئاً، فَإِنَّهُ يَغِشُّ نَفْسَهُ».
رومية ١٢: ٣ و١كورنثوس ٨: ٢ وص ٢: ٦ و٢كورنثوس ٣: ٥ و١٢: ١١
علّم الرسول أن أعظم موانع المواساة هو الإعجاب بالنفس وأن معرفة الإنسان نفسه وضعفه من أحسن ما يحمل على المواساة وطول الأناة فقال ما في هذه الآية.
إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ أي توهم أنه أفضل مما هو في الواقع وأنه أكثر من غيره قوة وحكمة وقداسة. فإن كل إنسان مائل إلى أن يرى نفسه أعظم مما هو كذلك والتواضع من أندر الفضائل. ويصدق على أكثر الناس ما قيل على كنيسة لاودكية «تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ ٱسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلشَّقِيُّ وَٱلْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ» (رؤيا ٣: ١٧)
فَإِنَّهُ يَغِشُّ نَفْسَهُ بأوهامه الباطلة.
٤ «وَلٰكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ ٱلْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ، لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ».
١كورنثوس ١١: ٢٨ و٢كورنثوس ١٣: ٥ لوقا ١٨: ١١
لما كان غش النفس والافتخار الباطل سمّين قاتِلين ذكر الرسول في هذه الآية درياقهما.
لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ اعتبر الرسول كل أعمال الإنسان عملاً واحداً يُعلن حال قلبه فعليه أن يمتحنه بمقابلته بشريعة الله وسيرة المسيح لا بزلات الضعفاء وأن يقابل فضائله الوهمية بالفضائل الحقة المعلنة في الكتاب الإلهي.
ٍوَحِينَئِذ أي بعد امتحانه نفسه ومقابلته عمله بالعمل المطلوب في الإنجيل.
يَكُونُ لَهُ ٱلْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ أي من ضميره المستنير بالروح القدس الذي يشهد له بأن روح الله جدده وجعله في صورة المسيح وحقق له أنه عمل بمقتضى الأمانة والإخلاص لمجد الله ونفع إخوته.
لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ أي لا يفتخر بمقابلته عمله بنقائص غيره وزلاته بناء على أنه خير منه أو لا يفتخر بمدح غيره إياه على أعماله.
٥ «لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ».
رومية ٢: ٦ و١كورنثوس ٣: ٨
ذكر الرسول في هذه الآية الموجب لامتحان الإنسان لنفسه وعدم اعتداده بمدح الناس أو ذمهم إياه. والحمل المذكور فيها غير الحمل المذكور في الآية الثانية فالمذكور هنا هو حمل الإنسان المسؤولية أمام الله والمذكور هناك حمله ضيقات غيره وهمومه.
كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ أي أن الله يدعوه للحساب عن كل أعماله «فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ يَدِينُ ٱللّٰهُ سَرَائِرَ ٱلنَّاسِ» (رومية ٢: ١٦) فلا يستطيع الإنسان أن يحتج لنفسه بذكره خطايا غيره التي هي أعظم من خطاياه وإن دانه الله حينئذ لم يعزه أن الناس مدحوه قبلاً. هذا وإن على كل إنسان في هذا العالم حمل هموم وأحزان وأن اختباره ثقل ذلك الحمل يودي به إلى أن يشفق على المصابين ويساعدهم. فالذين يشعرون بضعفهم ونقصانهم واحتياجهم إلى المغفرة يميلون إلى أن يرحموا من زلوا وسقطوا.
٦ «وَلٰكِنْ لِيُشَارِكِ ٱلَّذِي يَتَعَلَّمُ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ».
رومية ١٥: ٢٧ و١كورنثوس ٩: ١١ و١٤
ذكر الرسول في هذه الآية إحدى طرق حملهم أثقال غيرهم وهي أن يُعطوا المعلمين الروحيين بعض خيراتهم الزمنية.
ٱلَّذِي يَتَعَلَّمُ ٱلْكَلِمَةَ أي يسمع تعليم الإنجيل.
لِيُشَارِكِ... ٱلْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ أي المقتنيات الدنيوية التي يحتاج إليها المعلمون لقيام حياتهم. وفي قوله «ليشارك» إشارة إلى أن نسبة المعلمين إلى الشعب كنسبة الشريك إلى شريكه في أن كلا من الفريقين يحتاج إلى الآخر ويجب أن يشتركا في البركات والمصائب. وبذل الخيرات الزمنية ليست سوى مكافأة زهيدة بالنسبة إلى بذل البركات الروحية. ويستحق المعلمون الروحيون أن يأخذوا نفقتهم من المتعلمين بدليل قول المسيح «إن الفاعل مستحق أجرته» (لوقا ١٠: ٧) وكثيراً ما أبان الرسول وجوب ذلك (١كورنثوس ٩: ١ - ١٤ و١تسالونيكي ٢: ٦ و٩ و٢كورنثوس ١١: ٧ وفيلبي ٤: ١٠ و١تيموثاوس ٥: ١٧ و١٨). ونستنتج من كلامه هنا أنه لم يكن للمعلمين الروحيين في الكنائس الأولى رواتب معينة بل كان الشعب يعطيهم ما يستحسنه ليفرغوا أنفسهم لخدمة الإنجيل.
٧ «لاَ تَضِلُّوا! اَللّٰهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً».
١كورنثوس ٦: ٩ و١٥: ٣٣ أيوب ١٣: ٩ و١يوحنا ١: ٨ و٣: ٧ لوقا ١٦: ٢٥ ورومية ٢: ٦ إلى ١٠ و٢كورنثوس ٩: ٦
الغاية من هذه الآية إثبات وجوب السخاء.
لاَ تَضِلُّوا بزعمكم أنكم قادرون على الامتناع من بذل الصدقات للمعلمين الروحيين وأن الله لا يسأل عن ذلك ولا يغتاظ بسببه.
اَللّٰهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ أي لا يتكبر عليه ولا يهزأ بدون أن يعاقب الشامخ عليه وقد أمر بأن يؤد الشعب نفقة الرعاة. فإذا ادعى إنسان أنه مسيحي وأن يعطي ما أمر به الله لأولئك الخدم فقد شمخ على الله وعرّض نفسه للدينونة ولا سيما الذي يدعي الكرم ويعد بإظهاره ولا يعطي شيئاً. ولعلهم غشوا أنفسهم وغيرهم بحججهم الباطلة لبخلهم ولكنهم لا يستطيعون أن يغشوا الله العالم بكل شيء. إياهم من الضلال ببيانه أن الله وضع قانوناً واحداً وهو أن الإنسان يحصد ما يزرعه في الجسديات والروحيات فإذاً يُثاب الكريم على كرمه ويُعاقب البخيل على بخله.
ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ سبق الكلام على السخاء المسيحي في تفسير (٢كورنثوس ٩: ٦) فارجع إليه. والعبارة هنا مثل استعمله مؤلفو الأمم القدماء وجاء في أقوال أيوب وأتى به بولس بياناً للعلاقة بين أعمالنا في هذا العالم وما يكون لنا من الثواب والعقاب في العالم الآتي فإن الحياة الحاضرة بمنزلة الزرع والحياة المستقبلة بمنزلة زمان الحصاد. ومعنى قوله «إياه يحصد» أنه لا يجمع من ثمر مزروعه إلا مثله فمن زرع حنطة حصد حنطة ومن زرع زواناً حصد زواناً ومثل ذلك يكون في الروحيات لأن الإنسان بمقتضى ترتيب الله يجني من أعماله هنا حزناً أو فرحاً في الآخرة كأنه ثمر تلك الأعمال. فخسارة الأشرار وآلامهم نتيجة طبيعية من أعمالهم ولكن سعادة الأبرار كلها من النعمة على ما اقتضاه وعد الله بالمسيح للمؤمنين الأمناء.
٨ «لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ ٱلرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً».
أيوب ٤: ٨ وأمثال ١١: ١٨ و٢٢: ٨ وهوشع ٨: ٧ و١٠: ١٢ ورومية ٨: ١٣ ويعقوب ٣: ١٨
هذه الآية برهان على صحة الجزء الآخر من الآية السابقة وكلاهما برهان على صحة الجزء الأول منها وهو قوله «الله لا يُشمخ عليه» وغاية الرسول تحذيرهم من أن يمتنعوا عن عمل الخير بناء على رجائهم إن الله لا يعاقبهم على الامتناع عنه.
مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ الزرع الذي يزرعه هو أعماله وزرعه لجسده إتيان الأعمال التي علتها حب الذات وغايتها نفع الذات. وكانت زرعاً للجسد لأنها ترضي الطبيعة البشرية غير المتجددة. ولم يقل يزرع لنفسه لأنه أراد أن يبين نوع أعماله وهي أنها جسدية شهوانية دنيوية لا روحية.
فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً أي تمتعاً وقتياً هنا وهلاكاً أبدياً هناك وهذا كل ما يقدر أن يعطيه الجسد من يزرع له وهو المشاركة له في فساده وذلك خلاصة نتيجة كل الشهوات الجسدية والأعمال الصادرة عنها (رومية ٦: ٢١ و١كورنثوس ٣: ١٧ و٦: ١٣ و٢بطرس ٢: ١٢).
وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ أي من يطلب الأمور الروحية ويجعلها غايته الأولى ويفعل ذلك بإرشاد الروح القدس رغبة في رضاه بمقتضى القانون الذي وضعه الروح نفسه (ع ١٦). وقد أبان في ما سبق افتقار المؤمنين إلى الروح القدس ليستطيعوا أن يحيوا حياة مقدسة (رومية ٨: ١١ و١٥ - ١٦).
يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً الزارع للروح لا سواه. لأن من يزرع زواناً لا يستطيع أن يحصد قمحاً ولا يستطيع الذين يزرعون للجسد أن يحصدوا حياة أبدية (مزمور ١٢٦: ٦ وأمثال ١١: ١٨ و٢٢: ٨ وإشعياء ٣: ١٠ وهوشع ٨: ٧ و١٠: ١٢ ولوقا ١٦: ٢٥ ورومية ٨: ١١ ويعقوب ٥: ٧). والعلاقة بين ما ذُكر هنا من أمور الزرع للجسد والزرع للروح والموضوع الذي هو في صدده أي السخاء المسيحي هي أن الرسول اعتبر إنفاق الإنسان كل ماله على نفسه بلا التفات إلى حاجة المعلمين الروحيين «زرعاً للجسد» واعتبر إنكار الإنسان نفسه ليحصل على ما يبذله في سبيل الإنجيل لمجد الله ولإطاعة أوامره «زرعاً للروح». والمبدأ الذي يصدق على واحدة من الواجبات المسيحية يصدق على جميعها.
٩ «فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ».
١كورنثوس ١٥: ٥٨ و٢تسالونيكي ٣: ١٣ متّى ٢٤: ١٣ وعبرانين ٣: ٦ و١٤ و١٠: ٣٦ و١٢: ٣ و٥ ورؤيا ٢: ١٠
فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ أي الإحسان إلى المحتاجين أو كل عمل يمدحه الله وينفع الناس. ذكر هنا شرطاً ضرورياً لعمل الخير كان الغلاطيون محتاجين إلى التنبيه عليه لشدة ميلهم إلى التقلب السريع وذلك الشرط هو الثبات أو الاستمرار. وذكر هذا الشرط الضروري لأنه كثيراً ما يحدث في الروحيات كما يحدث في الجسديات أن تمضي مدة طويلة بين الزرع والحصاد. ولعل إثابة الأبرار لا تكمل لهم قبل مجيء الرب ثانية بدليل قول يعقوب الرسول «تَأَنَّوْا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّ. هُوَذَا ٱلْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ ٱلأَرْضِ ٱلثَّمِينَ مُتَأَنِّياً عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ ٱلْمَطَرَ ٱلْمُبَكِّرَ وَٱلْمُتَأَخِّرَ. فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ» (يعقوب ٥: ٧ و٨). والمراد بنهيه إياهم عن الفشل تحذيرهم من ان يقودهم طول وقت استمرارهم على عمل الخير دون إثابة إلى الفتور والتواني والشك في نيل الثواب وعدم الاجتهاد في العمل وإنكار النفس. وبواعث الفشل في عمل الخير كثيرة منها إن من طبعنا الميل إلى الكسل ومنها فشل كثيرين حولنا ممن يدعون أنهم مسيحيون وأنها كثرة الموانع والصعوبات وقلة النتائج الظاهرة من أتعابنا ومنها عدم شكر الذين نحسن إليهم.
فِي وَقْتِهِ على حسابه تعالى لا على حسابنا لأن الوقت الذي عيّنه الله للثواب هو الوقت الأنسب.
لاَ نَكِلُّ فإن من فشل باطناً كلّ فعلاً والمعنى النهي عن الكف عن عمل الخير والحث على الاستمرار عليه بالإيمان والغيرة والاجتهاد.
١٠ «فَإِذاً حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ ٱلإِيمَانِ».
يوحنا ٩: ٤ و١٢: ٣٥ ١تسالونيكي ٥: ١٥ و١تيموثاوس ٦: ١٨ وتيطس ٣: ٨ أفسس ٢: ١٩ وعبرانيين ٣: ٦
حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ إن الفرصة لعلم الخير من الله ومتى وُجدت كانت دعوة الله إلى العمل فكأنه يقول للإنسان وقتئذ «اذهب واعمل في كرمي» وإن ظهرت لنا الفرصة صغيرة واحتقرها غيرنا لم يكن ذلك سبباً يثنينا في خدمته ولكل خادم أمين في صرح أو كوخ يقول «نعماً أيها العبد الأمين ادخل إلى فرح سيدك». كثيرون يقفون بطالين يتوقعون فرصاً أعظم من الفرص التي لهم فيأتيهم بغتة الليل الذي لا يكون فيه عمل. وما أحسن هنا قول الجامعة «كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَٱفْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ وَلاَ ٱخْتِرَاعٍ وَلاَ مَعْرِفَةٍ وَلاَ حِكْمَةٍ فِي ٱلْهَاوِيَةِ ٱلَّتِي أَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَيْهَا» (جامعة ٩: ١٠) لأننا إذا لم نغتنم الفرصة حين نُصيبها تمضي عنا ولا ترجع.
فَلْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ إن احتياج الناس إلينا بيان ما يجب علينا لهم ونوع احتياجهم بيان لنوع النفع الذي يجب أن نقوم لهم به خبزاً كان لأجسادهم أو قوتاً سماوياً لأرواحهم. قال بولس «إِنِّي مَدْيُونٌ لِلْيُونَانِيِّينَ وَٱلْبَرَابِرَةِ، لِلْحُكَمَاءِ وَٱلْجُهَلاَءِ» (رومية ١: ١٤) لأنهم كانوا محتاجين إلى مناداته بالإنجيل لخلاص نفوسهم.
وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ ٱلإِيمَانِ يجب على المسيحي أن ينفع كل الناس على قدر الاستطاعة والفرصة فإن لم يستطع أن ينفع كل من أراد نفعهم وجب عليه بمقتضى وصية الرسول أن يخص بما استطاعه المحتاج من إخوته المؤمنين. إن ما يجب علينا لغيرنا يختلف باختلاف قربنا إليه فالإنسان يعتني طبعاً بامرأته وأولاده وذوي قرباه قبل غيرهم وما نعمله طبعاً لمن هم من لحمنا ودمنا يوجب علينا الكتاب المقدس أن نعمله لإخوتنا وإخواننا في المسيح وهم أقرباؤنا بالإيمان (أفسس ٢: ١٩ و١تيموثاوس ٣: ١٥ وعبرانيين ٣: ٦ و١بطرس ٢: ٥ و٤: ١٧).

خاتمة الرسالة التي كتبها الرسول بيده تحذيراً من المعلمين المفسدين ع ١١ إلى ١٦


١١ «اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ ٱلأَحْرُفَ ٱلَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي!».
اُنْظُرُوا دعا سامعي قراءة رسالته إلى أن ينظروا بعيونهم ما بقي من سطور رسالته وأن يعتبروا كبر أحرفها دليلاً على أنه كتبها بيده. لكن ذهب بعض المفسرين إلى أن بولس كتب كل هذه الرسالة بيده خلافاً لعادته فإن الرسول اعتاد أن يستخدم كاتباً يملي عليه ما يريد إرساله فيكتبه وهو يكتب اسمه بيده شهادة لصحته (رومية ١٦: ٢٥ - ٢٧ و١كورنثوس ١٦: ٢١ - ٢٤ وكولوسي ٤: ١٨ و٢تسالونيكي ٢: ٢ و٣: ١٧ و١٨). ولم يكتف في هذه الرسالة بمجرد تسطير اسمه بل كتب فصلاً بناء على أهمية ما فيه وهو تحذيرهم من المعلمين الذي قصدوا تهويدهم. ولا نعلم لماذا كتب بحروف أكبر من حروف الكاتب وظن بعضهم أن علة ذلك ضعف نظره وأيدوا ظنهم بما قيل في (ص ٤: ١٥).
١٢ «جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَراً حَسَناً فِي ٱلْجَسَدِ، هٰؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا، لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ فَقَطْ».
ص ٢: ٣ و١٤ ص ٥: ١١ فيلبي ٣: ١٨
يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَراً حَسَناً فِي ٱلْجَسَدِ لكي يشتهروا بالغيرة للرسوم الدينية الخارجية وغايتهم من ذلك أن يظهروا للناس إنهم أتقياء كما كان من أمر الفريسيين «فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ» (متّى ٦: ٥).
يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا لكي يمدحهم يهود وطنهم على أنهم هودوا كثيرين من الأمم.
لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا الخ لأنهم لو قبلوهم في الكنيسة بلا ختان لعرضوا أنفسهم لاضطهاد اليهود على تبشيرهم بأن الخلاص بمجرد الإيمان بفداء المسيح المصلوب دون أعمال الناموس (ص ٥: ١١ و١كورنثوس ١: ٢٤).
١٣ «لأَنَّ ٱلَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لاَ يَحْفَظُونَ ٱلنَّامُوسَ، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ».
معنى هذه الآية أن المعلمين المتهودين لم يلزموهم بالختان عن إخلاص بل للتخلص من الاضطهاد والحصول على المدح لكسبهم دخلاء كثيرين تمثلاً بفريسي أورشليم الذين كانوا «يَطُوفُونَ ٱلْبَحْرَ وَٱلْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً» (متّى ٢٣: ١٥) لأنهم بختنهم متنصري الأمم جعلوهم دخلاء اليهود وهذا كاف ليصرف عنهم غضب اليهود.
١٤ «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ».
فيلبي ٣: ٣ و٧ و٨ رومية ٦: ٦ وص ٢: ٢٠
قابل هنا موضوع افتخاره وهو صليب المسيح بموضوع افتخار المعلمين المفسدين الذين افتخروا بالختان وغيره من الرسوم اليهودية وخافوا من الاضطهاد من أجل ذلك الصليب وحسبوه عثرة.
فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ أي أنزّه نفسي عن الافتخار بشيء من رسوليتي أو أعمالي أو الرسوم الخارجية.
إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي إلا بموت المسيح على الصليب تكفيراً لخطايانا بالنظر إلى كون ذلك أساس إيمانه ورجائه ومصالحته لله وكونه موضوع وعظه وغاية أتعابه وذكر مع اسم المسيح ألقابه تعظيماً لشأنه.
بِهِ أي بالصليب لكونه آلة صلبه وكان أولاً آية العار لأنه من أدوات قتل الأشرار لكنه بعد ما عُلق المسيح عليه كان أعظم آيات الافتخار لأنه كان يشير إلى الكفارة التي تمت عليه فداء للعالم.
صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي قال هذا لأنه بالصليب زالت سلطة العالم عليه. كان قبلاً متمسكاً بالعالم ولكنه لما آمن بالمسيح مصلوباً اتحد به واشترك في كل ما أصابه حتى صار العالم كمصلوب له وميت عنه ولا قوة له عليه ولا جمال له في عينيه. واعتبر العالم هنا منفصلاً عن الله بالنظر إلى كونه مركز الأباطيل والشهوات المحرمة. ولا ريب في أنه أطلق العالم على كل الأمور الخارجية المحسوسة التي هي تجارب تقود إلى الخطيئة وكذلك كل رسوم الديانة من الختان وأشكاله مما يميل الإنسان إلى الاتكال عليه بغية التبرير والخلاص. ونظر بولس إلى آلام المسيح على الصليب باعتبار كونها آية محبته وواسطة فدائه وإلى المواعيد المبنية على ما احتمله على الصليب وإلى الميراث الذي اقتناه به فنال قوة على رفض العالم من أجله.
إن الإنسان الطبيعي يميل إلى الافتخار بكل ما سوى الصليب من صيت ونجاح دنيوي وغنىً ومقام فلا يريد أن يصلب العالم له لأنه مشهد إعلان عظمته ومصدر لذاته.
وَأَنَا لِلْعَالَمِ أي وأنا صلبت للعالم. قال ذلك لأن الصليب أنشأ فيه أعظم الاتضاع أمام الله وأشد الشعور بالخطيئة لأنها لا تكفر عنه إلا بموت ابن الله عليه. و «صُلب للعالم» لأن أهله من اليهود والأمم احتقروه وأبغضوه لتبشيره بالصليب واعتباره إياه العلة الوحيدة للخلاص. فالعالم في عيني المسيحي بلا رونق ولا جاذبية والمسيحي فقد كل شوق إلى العالم ولذة به فإذا مات كل منهما عن الآخر فالأشياء العتيقة قد مضت والمسيح صار الكل وفي الكل. والمسيحي ربح بالصليب أكثر مما خسره بتركه العالم فكان ذلك عوضاً من احتقار العالم له وبغضه إياه. وفي هذه الآية ثلاثة أنواع من الصلب.

  • الأول: صلب الرب يسوع المسيح القربان العظيم الذي بدونه لا قيمة لإنكار الذات ولا إمكان له ولذلك قال الرسول «حاشا لي أن أفتخر إلا بصليبه».
  • الثاني: صلب العالم المجرب المحتال الذي يجتهد أن ينزع من النفس كل طهارة وإيمان. وقدرته على الخداع والاضرار تبرهنت بإهلاك ألوف وربوات كثيرة من الناس وقوة أباطيله وشهواته الجاذبة أُبطلت بالصليب كأنه عُلق عليه ومات. وهذا ما دل عليه قوله «به صُلب العالم لي».
  • الثالث: صلب الرسول للعالم بدليل قوله «وأنا للعالم» إشارة إلى كونه قد انقطع عن الاكتراث بالمدح البشري واللذة الدنيوية والمكاسب المحرمة وعن كنز الكنوز في الأرض. وفي كل ما قاله في افتخاره بالصليب وحده أظهر رغبته في أن يقتدي به متنصرو غلاطية فيجعلوا الصليب موضوع افتخارهم


١٥ «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ».
١كورنثوس ٧: ١٩ وص ٥: ٦ وكولسي ٣: ١١ و٢كورنثوس ٥: ١٧
هذه الآية تعليل للأية السابقة وبيان لعدم افتخاره برسوم الدين الخارجية كالختان وأشباهه واعتبارها كلا شيء ولافتخاره بصليب المسيح وحده واعتباره الولادة الجديدة بالروح القدس جوهر كل الديانة.
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي في إنجيله أو في الإنسان المتحد به بالإيمان.
لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ أتى الرسول بهذه العبارة ثلاث مرات في (ص ٥: ٦) ومرة هنا ومرة في (١كورنثوس ٧: ١٩) وكملها في كل منها بما يختلف عما يكملها في الآخرى فكملها في الأولى بقوله «بل الإيمان العامل بالمحبة» وفي الثانية بقوله «بل الخليقة الجديدة» وفي الثالثة بقوله «بل حفط وصايا الله» فبدل أمرين ليسا بشيء في الدين بثلاثة أشياء جوهرية به.

  • الأول: «الإيمان» لكونه الآلة التي بها نتمسك بالمسيح.
  • الثاني: «الخليقة الجديدة» التي هي نتيجة التمسك بالمسيح بالإيمان.
  • الثالث: «حفظ وصايا الله» الذي هو علامة ظاهرة تدل على الإيمان والتجديد.


ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ هي نتيجة موت الإنسان العتيق بالصليب وابتداء حياة جديدة والإيمان والاتحاد بالمسيح الذي قام من الموت ويحيا إلى الأبد. وعنى «بالخليقة الجديدة» الإنسان الذي خلقه الله جديداً بدليل قوله «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (٢كورنثوس ٥: ١٧ انظر أيضاً أفسس ٢: ١٠ و١٥ و٤: ٢٤).
إن اليهود كانو يسلمون بأن الغرلة لا تنفع شيئاً لكنهم اغتاظوا كثيراً من قول بولس ذلك على الختان فإنه صرّح بعدم نفع كل من هما على السواء لنيل البر أمام الله. وما قاله عليهما يصدق على كل الرسوم الخارجية في الدين إذا نظرنا إليها بالذات فلا ينفع الختان ولا الغرلة شيئاً في التبرير والخلاص ولا أكل اللحم أو الامتناع عن أكله ولا حفظ الأعياد الدينية ولا عدم حفظها ولا الصوم ولا الإفطار ولا الزيجة ولا البتولية. نعم إن العالم بكل رسومه وشرائعه وبره لا ينفع شيئاً في الخلاص أو التبرير إنما الذي ينفع هو الخليقة الجديدة أي ولادة الإنسان ثانية بقوة الروح القدس حين ينظر بالإيمان إلى المسيح المصلوب.
١٦ «فَكُلُّ ٱلَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هٰذَا ٱلْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلَ ٱللّٰهِ».
مزمور ١٢٥: ٥ وفيلبي ٣: ١٦ رومية ٢: ٢٩ و٤: ١٢ و٩: ٦ إلى ٨ وص ٣: ٧ و٩ و٢٩ وفيلبي ٣: ٣
يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هٰذَا ٱلْقَانُونِ أي يؤمنون بالمسيح ويسلكون بمقتضى الإيمان على وفق القاعدة المذكورة في (ع ١٥) وهذه القاعدة موضوع كل هذه الرسالة. وفحواها التبرير بالإيمان وحده بدون اتكال على الرسوم الخارجية اليهودية. والذين يقبلون تلك القاعدة ويسلكون بمقتضاها جرياً على ما سبق من تعليمه طلب لهم أعظم البركات.
عَلَيْهِمْ من الله.
سَلاَمٌ بينهم وبين الله وفي قلوبهم وضمائرهم (أفسس ٢: ١٤ - ١٧). وهذا ثمرة كفارة المسيح والتبرير بالإيمان بدليل قوله «إِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ» (رومية ٥: ١). وهو من أفضل البركات التي نلناها بالمسيح ولا يمكن العالم أن يمنحه لنا ولا أن ينزعه منا (يوحنا ١٤: ٢٧).
وَرَحْمَةٌ اقترنت أيضاً الرحمة بالسلام في (١تيموثاوس ١: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٢ و٢يوحنا ٣). وعبر عنها بالنعمة في (ص ١: ٣) فراجع التفسير هناك وتفسير (رومية ١: ٧).
وَعَلَى إِسْرَائِيلَ ٱللّٰهِ هذا وصف ثان للذين «يسلكون بهذا القانون» وهم إسرائيل الروحي لا «إسرائيل حسب الجسد» (١كورنثوس ١٠: ١٨) بل الذين إيمانهم كإيمان إبراهيم (ص ٣: ٧ - ٩ و١٤ و١٩ ورومية ٤: ١١ و١٢ و٩: ٦ - ٨).
١٧ «فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَاباً، لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
٢كورنثوس ١: ٥ و٤: ١٠ و١١: ٢٣ وص ٥: ١١ وكولوسي ١: ٢٤
فِي مَا بَعْدُ أي في كل المستقبل.
لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَاباً سواء كان من المفسدين أو المؤمنين. حسب ما مضى من الزمان كافياً لاضطرابه باجتهاد المعلمين المفسدين في أن يرفعوا عليه الشكايات الباطلة ويبثوا التعاليم الضارة ورجا أن المؤمنين من الغلاطيين لا يزعجونه بعصيانهم لتعليمه وإنكارهم سلطته الرسولية لأن كل دعاويه ثبتت بعلامات ظاهرة.
لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ وهي آثار الجراح الباقية في جسده من الرجم والجلد وسائر الاضطهادات التي احتملها في خدمة الإنجيل على ما أبان بقوله «مِنَ ٱلْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِٱلْعِصِيِّ. مَرَّةً رُجِمْتُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ٱنْكَسَرَتْ بِيَ ٱلسَّفِينَةُ» (٢كورنثوس ١١: ٢٤ و٢٥). كان الناس قديماً يكوون العبيد على خدودهم أو جباههم أو أذرعهم بحديد حام يُعرف بآثارها أنهم عبيد سيد أو هيكل وثني خاصة (رؤيا ٧: ٣ و١٣: ١٦). فحسب بولس آثار جراحاته كتلك الآثار في أنها تدل الناس على أنه عبد ليسوع المسيح ملك الملوك خاصة وأنه يستحيل أن يقنعوه بتملق أو تهديد بأن يغير ثقته به أو أن يغير التعليم الذي أمره سيده أن ينادي به.
١٨ نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ. آمِينَ».
٢تيموثاوس ٤: ٢٢ وفليمون ٢٥
هذه خاتمة الرسالة التي عظم بها الرسول نعمة الله المجانية الغفرانية والإيمان باعتبار كونه الطريق الوحيد للتبرير. وأبان فيها شدة رغبته في ثبوتهم في التعليم الصحيح والسلوك التقوي ختمها بكلمات المحبة وطلب البركة. وتلك البركة وهي أن تنال روحهم من العلى النعمة التي تبررهم وتقدسهم وتسعدهم إلى الأبد.

فوائد



  • إن الله أمر شعبه في الأيام القديمة أن يعينوا عشر دخلهم نفقة للكهنة واللاويين الذين يخدمون في الهيكل ولكن في أيام الإنجيل لم يعين المقدار المالي الذي يجب على المسيحيين أن يبذلوه للنفقة على قسوسهم ومعلميهم في الدين لكن الواضح من كلامه أنه توقع من المؤمنين أن يعطوا طوعاً بسخاء ما يحتاج إليه أولئك القسوس والمعلمين لكي يقوموا بعملهم مطمئنين (ع ٦).
  • إن تعليم الإنجيل كون كل أعمالنا بمنزلة الزرع الذي نحصد منه بعد زرعه سعادة أو شقاء يجعل حياتنا في هذه الدنيا ذات شأن عظيم لأن حالنا الأبدية متوقفة على سلوكنا في الوقت القصير الذي يتقضى علينا هنا ولأن أعمالنا الصغيرة لها نتائج دائمة كأعمالنا الكبيرة كما أن صغار البزور تأتي بأثمارها كالكبيرة ولأن تلك لا تنفك تؤثر في غيرنا بعد موتنا لأن كل ما نفعله يأتي بثمر كثير يُزرع كل منه ويثمر أيضاً وهلم جراً حتى ينتفع بعمل الواحد أو يُضر بلاد واسعة. وكذا تكون النتيجة من كتبه أو تعاليمه بعد فنائه في قبره. فإذا هدى أحد خاطئاً إلى التوبة والإيمان بالمسيح فربما هدا هذا المهدي كثيرين إلى ذلك وهؤلاء يهدون غيرهم حتى يصير المؤمنون بواسطته جيشاً كبيراً وإذا أضل غيره اتسع الضلال كما اتسع الهدى.
    ولنا من ذلك أنه لا يحق لأحد إن هلك أن يتذمر على الله من أجل هلاكه أو مرارته لأن كل آلام الخطأة ليس إلا أكل ثمر أعمالهم.
    ولنا منه أيضاً أن لا يحق لأحد أن ينتظر السعادة في العالم الآخر ما لم يتخذ وسائل نيلها هنا فالذي يريد أن يحصد بالابتهاج يجب أن يزرع بالدموع فالتوبة والإيمان والمحبة والسخاء هي الزرع الذي منه نجني أثمار الفرح في جنة الله (ع ٨).
  • إن تطوع الإنسان في جيش الرب أبدي فيجب على المتطوع أن لا يكل في الجهاد أو يرجع عنه مهما عظمت الموانع أو كثرت وعليه أن يجاهد في الحداثة وهو قوي والكهولة وهو قد حصل على الحكمة والعلم والاختبار وفي الشيخوخة ما دام قادراً أن يشهد للحق الذي آمن به ولجودة القائد الذي تجند له (ع ٩).
  • إننا مكلفون بأن ننفع جميع الذين لنا فرصة أن ننفعهم بقطع النظر عن كونهم من جنسنا أو طائفتنا أو مقامنا. فإن أمكننا أن ننفع الذين في أقاصي الأرض بمالنا أو تعليمنا لم يجز لنا أن نمتنع عن ذلك (ع ١٠).
  • إن أحد الأمور التي تمتاز بها حياتنا هنا عن حياتنا في الآخرة هو أنه لنا فرصة هنا لإنكار أنفسنا نفعاً لغيرنا وبذلك نكنز كنزاً في السماء. وهذه الفرصة مقصورة على ما ذكر وعلى شهادتنا للمسيح قدام الناس وشهادتنا بحق إنجيله لكي نقود الضالين إليه (ع ١٠).
  • إنه يحق أن يكون الصليب موضوع افتخار لكل مسيحي لأسباب كثيرة نذكر ثمانية منها.

    • الأول: عظمة ذاك الذي صُلب عليه.
    • الثاني: طهارة الذي مات عليه وهو البار لأجل الأثمة.
    • الثالث: إن الصليب كان واسطة إكرام الناموس لله وإظهاراً لعدله وحقه تعالى.
    • الرابع: إنه به عظمت محبة الآب الذي بذل ابنه الوحيد عن الخطأة ومحبة الابن الذي رضي أن يموت عنهم.
    • الخامس: إنه به كانت المصالحة بين الله والإنسان التي لا يمكن أن تُنال بغير هذا القربان.
    • السادس: إننا به نموت للعالم ونحيا لله.
    • السابع: إننا به نتعزى في كل ضيقاتنا وفي ساعة الموت.
    • الثامن: إننا به نفوز بدخول السماء والمشاركة للمسيح في كل اتحادها (ع ١٤).


  • إنه يجب أن يكون لنا علامات تدل على أننا للمسيح وذلك لا يكون بأثواب مخصوصة كالمسوح وأمثالها أو صورة الصليب تطبع على لحمنا أو تناط بأعناقنا ولا بعبوس الوجه بل بسلوك طاهر وإنكار الذات والغيرة للحق والتواضع والسخاء والصبر في الضيقات والمحبة الأخوية (ع ١٧).
  • إن الكنيسة المسيحية في هذا العصر لا تفتقر إلى هذه الرسالة للحذر من الرجوع إلى ممارسة الختان وسائر الرسوم اليهودية والاتكال عليها بغية التبرير لكنها تحتاج إليها للحذر من كل اتكال على البر الذاتي والرسوم الخارجية وتثبيتها في العقيدة الجوهرية وهي أن الإنسان يجب أن يؤمن بالمسيح لكي يتبرر وأن يُصلب مع المسيح لكي يتقدس. وفي هذه الرسالة عُظمت النعمة التي بها يخلص الخطأة ويحفظ المؤمنون.



Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D - 70007
Stuttgart
Germany