الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس

المقدمة وفيها خمسة فصول


الفصل الأول: في زمان كتابة هذه الرسالة ومكانها


كُتبت هذه الرسالة بعد بضعة أشهر من كتابة الرسالة الأولى لأنه كتبها في أثناء ذهابه من أفسس إلى كورنثوس فقال «أَمْكُثُ فِي أَفَسُسَ إِلَى يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ» وقال «وَسَأَجِيءُ إِلَيْكُمْ مَتَى ٱجْتَزْتُ بِمَكِدُونِيَّةَ، لأَنِّي أَجْتَازُ بِمَكِدُونِيَّةَ. وَرُبَّمَا أَمْكُثُ عِنْدَكُمْ أَوْ أُشَتِّي أَيْضاً» (١كورنثوس ١٦: ٥ - ٨). ولعله ذهب قبل ذلك الوقت لما وقع من السجس هنالك ومكث في ترواس مدة يسيرة رغبة في لقاء تيطس (٢كورنثوس ٢: ١٢). ثم زار كنائس مكدونية المشهورة وكتب هذه الرسالة في إحداها في صيف السنة التي كتب فيها الرسالة الأولى أو في خريفها والأرجح أن تلك السنة سنة ٥٧ ب .م وذهب على أثر ذلك إلى كورنثوس وأقام بها ثلاثة أشهر.

الفصل الثاني: في الداعي إلى كتابة هذه الرسالة


كان بولس في شديد الهم من جهة تأثير رسالته الأولى في الكنيسة لأنه وبخهم فيها على خصوماتهم وعدم إجرائهم التأديب اللازم وعلى ما ارتكبوه من التشويش في العبادة. وكان قد أرسل تيطس إلى كورنثوس لكي يخبره بتأثير الرسالة وأحوال الكنيسة وبعد ما انتهى الشغب في أفسس تركها وذهب إلى ترواس راجياً أن يجد تيطس هناك ولما لم يجده عزم على أن يعبر البحر إلى مكدونية (٢كورنثوس ٢: ١٢). وبقي هناك حزيناً خائفاً إلى أن جاء تيطس وبشره بما عزاه كثيراً وهو إن أكثر الكنيسة قبل نصحه في رسالته وأجرى ما أمر به (ص ١: ١٣ و١٤ و٧: ٩ و١٥ و١٦). وأخبره أيضاً بأنه بقي بعض الكنيسة يرفض سلطانه الرسولي واتهمه بالتقلب وضعف العزم (ص ١: ١٧). واغتابوه وعابوه بحقارة منظره وخطابه وبأنه لا يجسر على إتيان ما أنذرهم به من القصاص (ص ١٣: ٢ و٣) إلى غير ذلك من الطعن والتعريض مما الغاية منه إضعاف تعليمه وإبطال دعواه (ص ١٠: ١ و١٠ و١١: ٢٢). وكان قد قصد أن يرسل تيطس مع غيره لإكمال جمع الإحسان لفقراء كنيسة أورشليم (ص ٨: ١٦ - ٢٢) ولعله هو الذي حمل هذه الرسالة إليهم.

الفصل الثالث: في مضمون هذه الرسالة


لم يجر الرسول في هذه الرسالة على الترتيب الذي راعاه في غيرها من الرسائل فإنه ينتقل فيها من موضوع إلى آخر وقد يرجع إلى ما انتقل عنه. وأعظم المواضيع الذي تكلم فيها ثلاثة:

  • بيان إحساساته من نحوهم مثل أنه يعتبرهم أولاده ويهتم بإصلاحهم ويسر ويشكر الله لتأثير رسالته الأولى مع بيان غايته من كل أتعابه ومشقاته (ص ١ - ص ٧).
  • أمره بجمع الإحسان لفقراء أورشليم مع ذكر الأسباب الموجبة السخاء (ص ٨ وص ٩).
  • محاماته عن نفسه وتبرئتها مما اتمهه به الأعداء مع توبيخه إياهم (ص ١٠ - ص ١٣). ثم التسليم والبركة الرسولية (ص ١٣: ١١ - ١٤).



الفصل الرابع: في فوائد هذه الرسالة


من فوائد هذه الرسالة إننا نعلم منها ما لا نعلمه من غيرها وهو أمور بولس الشخصية من أتعابه وضيقاته وإنكاره لنفسه وهمومه ورقة قلبه وتأمله من تهم المعلمين الكذبة وغيرته على من هداهم إلى المسيح بتبشيره وكثير من أمور حياته لم يذكرها لوقا في تاريخه. من تلك الفوائد المقابلة بين النظام الموسوي والنظام المسيحي ووصفه البيت المعد للمؤمنين غير المصنوع بأيدٍ في السماء وبيان حقيقة الحزن الذي بحسب مشيئة الله والتوبة الحقة وواجبات الرسل والمبشرين وضيقاتهم وتعزياتهم وشرفهم وأحمالهم. ومبادئ السخاء المسيحي وأسبابه وإعلانات وتعزيات ذات شأن وتتمة بعض المواضيع المذكورة في الرسالة الأولى.


اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ


تسليمه على الكنيسة وشكره لله على نجاته من الخطر الشديد وكآبة النفس المرة (ع ١ - ١١). وتبرئته نفسه من الخفة (ع ١٢ - ٢٤).
التسليم والشكر ع ١ إلى ١١


التسليم في بدء هذه الرسالة يختلف قليلاً عن التسليم في الرسالة الأولى (ع ١ و٢). ومقدمتها كمقدمة الأولى بتقديم الشكر والفرق بينهما في الأحوال. وموضوع شكره في هذه التعزيات التي حصل عليها وجعله نفسه وإياهم شخصاً واحداً باعتبار ضيقاته ضيقاتهم وتعزيته تعزيتهم (ع ٣ - ٧). وذكر أن تلك المصائب التي نزلت به في أسيا كانت شديدة جداً حتى يئس من الحياة ثم نجاه الله منها إجابة لطلباته وتيقن أن الله سوف ينجيه (ع ٨ - ١١).
١، ٢ «١ بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ، وَتِيمُوثَاوُسُ ٱلأَخُ، إِلَى كَنِيسَةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ أَجْمَعِينَ ٱلَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ. ٢ نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ١: ١ وأفسس ١: ١ وكولوسي ١: ١ و١تيموثاوس ١: ١ و٢تيموثاوس ١: ١ فيلبي ١: ١ وكولوسي ١: ٢ رومية ١: ٧ و١كورنثوس ١: ٣ وغلاطية ١: ٣ وفيلبي ١: ٢ وكولوسي ١: ٢ و١تسالونيكي ١: ١ و٢تسالونيكي ١: ٢ وفليمون ٣
بُولُسُ، رَسُولُ... بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ سبق تفسير هذا في (١كورنثوس ١: ١).
َ تِيمُوثَاوُسُ ٱلأَخُ (انظر ١تيموثاوس ١: ٢ و١٨ و٢تيموثاوس ٢: ١). قرن الرسول في مقدمة الرسالة الأولى اسم سوستانيس باسمه فرجّحنا أنه هو كاتب تلك الرسالة بمنزلة سوستانيس في تلك. وحين أملى رسالته الأولى كان تيموثاوس في مكدونية متوجهاً إلى كورنثوس (١كورنثوس ٤: ١٧ و١٦: ١٠). والمظنون أنه أكمل قصده لأننا لم نقف على ما يخالف ذلك وأنه لم يمكث فيها وقتاً طويلاً فرجع إلى بولس وكان معه حين كتب هذه الرسالة. وذهب البعض إلى أنه بقي في مكدونية إلى حين وصل بولس إليها ولم يذهب إلى كورنثوس بناء على دعوى أنه لو ذهب إليها ورجع بأنباء أحوالها لم يهتم بولس الاهتمام الشديد بمجيء تيطس بتلك الأنباء.
ٱلَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ هذا يفيد أن هذه الرسالة ليست لمؤمني كورنثوس وحدهم بل لكل مؤمني تلك البلاد التي كورنثوس قاعدتها وهي القسم الجنوبي من قسمَي بلاد اليونان. لم يقل الرسول إلى جميع كنائس أخائية كما قال «إلى جميع كنائس غلاطية» ونستنتج من ذلك أن المؤمنين خارج كورنثوس لم يكونوا كثيرين وأنهم كانوا معدودين جزءاً من كنيسة كورنثوس.
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ الخ يتضمن هذا الدعاء طلب كل فوائد الفدءا إذ الدعاء بالنعمة يتضمن طلب حصولهم على محبة الله الآب والمسيح ابنه. والدعاء بالسلام يتضمن أن يتيقنوا بنفوسهم أنهم حصلوا على نتائج محبة الله وابنه يسوع المسيح. وكان الله أباً لنا لأننا صنع يده كسائر الناس ولكنه أبونا بنوع خاص باعتبار كوننا مؤمنين مولودين ثانية بروحه القدوس فصرنا أولاده بالتبني وورثة ملكوته السماوي. ويسوع المسيح ربنا لأنه الله ذو السلطان المطلق ولأنه اشترانا بدمه الثمين ولأننا وقفنا أنفسنا له حباً وشكراً.
٣ «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَبُو ٱلرَّأْفَةِ وَإِلٰهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ».
أفسس ١: ٣ و١بطرس ١: ٣
مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ هذه إعلان للشكر والحمد وأتى الرسول بمثل هذا في إحدى عشرة رسالة من رسائله.
أَبُو رَبِّنَا نسبة الله إلى المسيح علة أن نحب الله ونشكره «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» وهو يستحق محبتنا بالأولى على أنه إله الفداء (رومية ١٥: ٦ و٢كورنثوس ١١: ٣١ وكولوسي ١: ٣ و١بطرس ١: ٣).
أَبُو ٱلرَّأْفَةِ أي إنه كثير الرأفة وأصل كل المراحم ويسرّ بإظهار الرحمة (مزمور ٨٦: ٥ و١٥ ودانيال ٩: ٩ وميخا ٧: ١٨).
وَإِلٰهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ حقيقة ممكنة فيعزينا بإنقاذنا من الشر وبجعله أحوالنا سارة وبتأثيره في قلوبنا لأنه يسكّن اضطرابها وينشئ فيها السلام والاطمئنان (رومية ١٥: ١٣).
٤ «ٱلَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ ضِيقَةٍ بِٱلتَّعْزِيَةِ ٱلَّتِي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ ٱللّٰهِ».
ٱلَّذِي يُعَزِّينَا نحن الرسل. أراد هنا الرسل عموماً ثم قصر الكلام على نفسه كما يتبيّن مما يأتي فإن الله عزاه في كل ضيقاته وأتعابه فبارك الله لما اختبره من تعزيته.
فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا تضايق الرسول من الجوع والبرد والعري والجلد والسجن وأخطار البر والبحر واللصوص وأعدائه من اليهود والأمم حتى أن حياته كانت موتاً مستمراً. وكان عليه فوق ذلك الاهتمام بكل الكنائس وفوق هذا أنه «أُعطي شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمه» (ص ١١: ٢٤ و٣٠ و١٢: ٧) سنده الله في كل الضيقات وعزاه وقواه حتى استطاع احتمالها والفرح بها بدليل قوله «لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح» فلو لم يكن قلبه مملؤاً من المحبة للمسيح حتى اشتهى أن يمجده ولو بآلامه لما أمكنه أن يفرح بتلك النوازل.
حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ الخ هذا هو السبب الأعظم لا السبب الوحيد لتعزية الله إياه فرضي بولس أن يتألم ليكون أهلاً لتعزية غيره إذ من المعلوم أن لا أحد يستطيع تعزية غيره في ضيقه مثل الذي اختبر نفسه في مثلها والتعزية التي يمنحها الله بكلمته وروحه.
٥ «لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ ٱلْمَسِيحِ فِينَا، كَذٰلِكَ بِٱلْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضاً».
متّى ٢٥: ٤٠ و٤٥ وأعمال ٩: ٤ وص ٤: ١٠ وكولوسي ١: ٢٤
تَكْثُرُ آلاَمُ ٱلْمَسِيحِ فِينَا أي آلام كآلامه وهي الآلام التي يحتملها المسيحيون ليتحدوا به ويشابهوه فهذا كقول المسيح لابني زبدي «أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ» (متّى ٢٠: ٢٣). وقول الرسول «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ» (فيلبي ٣: ١٠). وكقول بطرس للمؤمنين «كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا» (١بطرس ٤: ١٣ انظر ص ٤: ١٠ ورومية ٨: ١٧ وكولوسي ١: ٢٤ وغلاطية ٦: ١٧). وخلاصة هذه الآيات أنه يجب على المؤمنين أن يشتركوا في آلامه ليقدروا أن يشتركوا في مجده.
كَذٰلِكَ أي بهذا المقدار عينه.
تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضاً كان اتحاد بولس بالمسيح على ضيقاته وعلى تعزيته. ومعظم الفرق بين المصابين من المؤمنين والمصابين من أهل العالم أن هؤلاء منفصلون عن المسيح الذي هو أصل كل تعزية حقيقية وأن أولئك متحدون به وبه يتعزون كقوله «إنه في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» يضايَق المؤمنون لكونهم أعضاء المسيح ويُعزون بكونه هو رأسهم. وحين يثير العالم عليهم العداوة والمقاومة يمنح صوت المسيح السلام لقلوبهم. فإن استفانوس حين هجم أعداؤه عليه ليقتلوه رأى السماء مفتوحة ويسوع قائماً عن يمين الله يستقبله.
٦، ٧ «٦ فَإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ، ٱلْعَامِلِ فِي ٱحْتِمَالِ نَفْسِ ٱلآلاَمِ ٱلَّتِي نَتَأَلَّمُ بِهَا نَحْنُ أَيْضاً. أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ. ٧ فَرَجَاؤُنَا مِنْ أَجْلِكُمْ ثَابِتٌ. عَالِمِينَ أَنَّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ شُرَكَاءُ فِي ٱلآلاَمِ، كَذٰلِكَ فِي ٱلتَّعْزِيَةِ أَيْضاً».
ص ٤: ١٥ رومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢
أشار الرسول بما في هاتين الآيتين إلى شدة العلاقة بينه وبينهم فلزم بالضرورة أنهم يشاركونه في ضيقاته وتعزياته. ولنا من ذلك أن الله قصد نفع شعبه بكثير من الفوائد الدينية بواسطة خدمهِ الأمناء فهو يعلم هؤلاء ويسمح بضيقاتهم ويعزيهم لكي يستطيعوا بذلك أن ينفعوا الشعب بخدمتهم بعد الاختبار.
فَإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ يعني أن مصائبه تنفعهم لأنها تؤول إلى تعزيتهم وخلاصهم. وعلة ذلك أنهم وإياه واحد فما ينتفع هو به من مصائبه ينتفعون هم به أيضاً وأن كل الذين يحتملون الأرزاء من أجل اسم يسوع المسيح بمشاركتهم شعبه يعزيهم المسيح ويخلصهم بدليل قوله «إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ (أي مع المسيح) لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ» (رومية ٨: ١٧). نعم إن النوازل لا تنشئ القداسة من تلقاء نفسها أو تستحق الخلاص كذلك لكن المسيح سرّ بأن تكون الآلام التي يقاسيها المسيحيون من أجل اسمه «وسيلة إلى ثقل مجد أبدي» (ص ٤: ١٧).
ٱلْعَامِلِ فِي ٱحْتِمَالِ نَفْسِ ٱلآلاَمِ ٱلَّتِي نَتَأَلَّمُ بِهَا تحقق الرسول أن مؤمني كورنثوس يحصلون من ضيقاته على نفس ما يحصل هو عليه من الفوائد الروحية المتضمنة في قوله «تعزيتكم وخلاصكم». ووقع قوله «العامل» نعتاً للخلاص لتضمنه التعزية وحكم بذلك لأنهم احتملوا بعض ما احتمله من تلك المصائب عينها وأُصيبوا بكل منها لمجرد اسم المسيح ونشر إنجيله كما أُصيب بها هو ولمشاركتهم إياه في ضيقاته الرسولية المختصة به.
واستدلوا «وأصابوا باستدلالهم» على أن مصائبهم ليست دليلاً على غضب الله بأنها كانت مثل مصائب الرسول وأنهم هم خدم الله الذين يبغضهم العالم كما كان الرسول نفسه. وقرنه الفوائد باحتمال الآلام دليل على أن صبره شرط لنيل الفوائد وبرهان عليها وذلك موافق لقول المسيح «الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص» (متى ٢٤: ١٣). وقول يعقوب «طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَحْتَمِلُ ٱلتَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ» ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يعقوب ١: ١٢).
أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ أي إننا كما نشترك في الضيقات نشترك في التعزيات والنجاة فأنتم تتعزون حين ترونني متعزياً ونيلي التعزية يقدرني على تعزيتكم أيضاً. وإجابة الله لصلواتي في كل نوائبكم. كذلك عزّى داود النبي كثيرين بقوله «هٰذَا ٱلْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَٱلرَّبُّ ٱسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ» (مزمور ٣٤: ٦). واختبار بولس صدق مواعيد الله وقوته مكنه من أن يبيّن لغيره حلاوتها وقوتها. وما قاله بولس في شأن مصائبه يصدق على مصائب الرسل فإن قدوتهم باحتمالها بالصبر والتعزيات التي نطق بها للمصابين هي للكنيسة نفع عظيم دائم في كل عصورها.
فَرَجَاؤُنَا مِنْ أَجْلِكُمْ ثَابِتٌ إنكم تحتملون آلامكم بالصبر وتحصلون على التعزية والخلاص المقترنين بها.
عَالِمِينَ الخ أي نحن عالمون أن المؤمنين الذين يشاركون غيرهم في أحزانهم يشاركونهم أيضاً في أفراحهم لأن الله قد رتب أن يكون ذلك وقد عُلم بالاختبار. والكورنثيون شاركوا الرسل في أحزانهم فلا ريب في أنهم يشاركونهم في أفراحهم. ولم يقصد مجرد أنهم يحصلون على هذه التعزية في السماء بل حقق أنهم كانوا في ذلك الوقت عينه حاصلين على شيء منها.
٨ « فَإِنَّنَا لاَ نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ضِيقَتِنَا ٱلَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا، أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدّاً فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ ٱلْحَيَاةِ أَيْضاً».
أعمال ١٩: ٢٣ و١كورنثوس ١٥: ٣٢ و١٦: ٩
فَإِنَّنَا لاَ نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا اعتاد بولس أن يأتي بمثل هذه العبارة مقدمة لأمر ذي شأن كما في (رومية ١: ١٣ و١كورنثوس ١٠: ١ و١٢: ١ و١تسالونيكي ٤: ١٣) ولم يشر بهذه الكلمات إلى أن الكورنثيين كانوا يجهلون نزول الأرزاء بالرسل بل إلى أنهم جهلوا مقدارها. وأومأ في ما سبق إلى تلك المصائب عموماً وأخذ هنا يتكلم على أرزاء خاصة نزلت به حديثاً.
ٱلَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا المراد بآسيا هنا الجزء الغربي من آسيا الصغرى المشتمل على ميسيا وليديا وكاريا وقسم من فريجية. ولم يصرّح بتعيين تلك الضيقات فرأى بعضهم أنها السجس الذي أثاره عليه في أفسس ديمتريوس ورفقاؤه (أعمال ١٩: ٢٣ - ٤١). ويمنع من هذا أنه لم يعرَّض لخطر شخصي لأن الإخوة لم يدعوه أن يدخل المشهد. ورأى آخر أنه أشار بتلك الضيقات إلى مرض شديد اعتراه «بآلام المسيح» ولم نقف قط على ما يدل أن المسيح مرض. والأرجح أنه أشار بها إلى مؤامرات اليهود والأمم على قتله كما ذُكر في (أعمال ١٠: ١٩ و١كورنثوس ١٥: ٣١).
أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدّاً فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ حسب ضيقاته حملاً ثقيلاً لا يستطيع أن يحمله فكاد يسقط تحته.
أَيِسْنَا أي لم نر طريقاً إلى النجاة منها لكثرتها وعظمتها.
٩ «لٰكِنْ كَانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ ٱلْمَوْتِ، لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُقِيمُ ٱلأَمْوَاتَ».
إرميا ١٧: ٥ و٧
كَانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ ٱلْمَوْتِ حسب بالنظر إلى الأخطار المحدقة به أن الله قضى بأنه يبذل حياته وقتئذ في سبيل الإنجيل وكانت كل الأحوال تدل على قرب أجله ومنها ما في قوله «في الميتات مراراً كثيرة» (ص ١١: ٢٣).
لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا هذا يشير إلى أنه قنط من كل وسائل النجاة التي استطاع عقله أن يصورها ويده أن تجريها.
بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ كثيراً ما يسمح الله بأن ينزل بأولاده بلايا شديدة جداً إلى حد يعجز عنده عن دفعها كل يد سوى يده تعالى فيلزمهم أن يعدلوا عن الاتكال على شيء من الوسائط البشرية ويلجأوا إليه وحده ليزيد ثقتهم به حين يخلصهم.
ٱلَّذِي يُقِيمُ ٱلأَمْوَاتَ هذا مما يستحيل على غير الله. إن خطر بولس كان شديداً إلى حد أنه لم يستطع أحد أن ينقذه منه إلا الذي يقدر أن يُحيي الموتى. وجاء بمثل هذا في وصف إيمان إبراهيم فقال «ٱللّٰهِ ٱلَّذِي آمَنَ بِهِ، ٱلَّذِي يُحْيِي ٱلْمَوْتٰى، وَيَدْعُو ٱلأَشْيَاءَ غَيْرَ ٱلْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ» (رومية ٤: ١٧ انظر أيضاً عبرانيين ١١: ١٩).
١٠ «ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هٰذَا، وَهُوَ يُنَجِّي. ٱلَّذِي لَنَا رَجَاءٌ فِيهِ أَنَّهُ سَيُنَجِّي أَيْضاً فِيمَا بَعْدُ».
٢بطرس ٢: ٩
ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هٰذَا هذا يدل على أن ثقة الرسول بالله كانت مبنية على أساس متين وأن الله أنقذه من شدة الأخطار التي حملته على اليأس من الحياة. ومثل ذلك نجاته بعد أن رُجم في لسترة وظُن أنه مات (أعمال ١٤: ١٩) فشعر بذلك أنه مديون لله كأنه أحياه بعد الموت.
وَهُوَ يُنَجِّي... سَيُنَجِّي الخ أي ينقذ اليوم وغداً. ويتضح من هذا أن ضيقات الرسول لم تنته لأن الأعداء الذين ابتغوا قتله لم يزالوا يبتغونه فكان عرضة للاضطهاد والموت في كل موضع أتاه للتبشير. ولكن اختباره عناية الله في ما مضى حقق له أنه لا يزال يحميه إلى أن يكمل السعي الذي قصد الله أن يكمّله.
١١ «وَأَنْتُمْ أَيْضاً مُسَاعِدُونَ بِٱلصَّلاَةِ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يُؤَدَّى شُكْرٌ لأَجْلِنَا مِنْ أَشْخَاصٍ كَثِيرِينَ، عَلَى مَا وُهِبَ لَنَا بِوَاسِطَةِ كَثِيرِينَ».
رومية ١٥: ٣٠ وفيلبي ١: ١٩ وفليمون ٢٢ ص ٤: ١٥
وَأَنْتُمْ أَيْضاً مُسَاعِدُونَ بِٱلصَّلاَةِ لم تكن ثقة الرسول بأمنه في المستقبل مبنية على مجرد اختباره عناية الله بل كانت أيضاً مبنية على تأثير الصلوات التي تقيمها من أجله كنيسة كورنثوس وغيرها من الكنائس المسيحية. رأى بولس أن لصلوات الكنيسة من أجل خدمها فاعلية عظيمة وإلا لم يكثر من طلبها. ومن البينات الكثيرة على ذلك ما في (رومية ١٥: ٣٠ وفيلبي ١: ١٩).
لِكَيْ يُؤَدَّى شُكْرٌ الخ قصد الله أن تشترك كنائس كثيرة في الصلاة من أجل نجاة بولس من الخطر لكي تكون نجاته على شكر وتسبيح عام. وعبّر عن نجاته بقوله «ما وُهب» لأن هذه النجاة علامة رضى الله. وحسب مما لا بد منه أن الذين صلوا من أجله لا يغفلون عن الشكر لله حين تجاب صلواتهم.
إن علاقات شركة المسيحيين المذكورة هنا ثلاث الأولى الحزن والثانية الصلاة للنجاة والثالثة الشكر على الإجابة.

تبرئة بولس نفسه من التهمة بالخفة ع ١٢ إلى ٢٤


أخبر بولس الكورنثيين بقصده أن يذهب إليهم من أفسس رأساً ثم يذهب إلى مكدونية ثم يرجع إليهم أيضاً (ع ١٦) ولكنه لأسباب كافية اضطر أن يغير قصده قبل كتابة رسالته الأولى كما أخبرهم في رسالته الأولى (١كورنثوس ١٦: ١٥) وهذا حمل أعداءه في كورنثوس أن يتهموه بالطيش والخفة في العالميات ثم تطرقوا إلى اتهامهم إياه بذلك في عقائده الدينية فقالوا كيف نثق بتعليم ديني من إنسان متقلب كذلك. فأبان بولس في هذا الفصل أن تغيير قصده لم ينتج عن خفة أو وهن عزم بل من شفقته عليهم.
١٢ «لأَنَّ فَخْرَنَا هُوَ هٰذَا: شَهَادَةُ ضَمِيرِنَا أَنَّنَا فِي بَسَاطَةٍ وَإِخْلاَصِ ٱللّٰهِ، لاَ فِي حِكْمَةٍ جَسَدِيَّةٍ بَلْ فِي نِعْمَةِ ٱللّٰهِ، تَصَرَّفْنَا فِي ٱلْعَالَمِ، وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ».
ص ٢: ١٧ و٤: ٢ و١كورنثوس ٢: ٤ و١٣
لأَنَّ اللام للتعليل والعلاقة بين هذا والذي قبله انتظاره مشاركتهم إياه في ضيقاته وصلاته لأن ضميره شهد بخلوص نيته واستقامته بينهم ولولا ذلك لم يتيقن ثقتهم به لعلمه أنه لا يستحقها.
فَخْرَنَا المراد بالفخر هنا وفرة الفرح المؤدي إلى الشكر فإن بولس حين اتهمه أهل كورنثوس بالخفة والتقلب ولاموه عليهما كان بدلاً من أن يخجل من تصرفه بينهم فرحاً شاكراً.
شَهَادَةُ ضَمِيرِنَا فمن استراح ضميره فرح وإن ذمه الناس ومن تعب ضميره حزن وإن مدحوه. ومثل احتجاجه في مجمع اليهود وهو قوله «إِنِّي بِكُلِّ ضَمِيرٍ صَالِحٍ قَدْ عِشْتُ لِلّٰهِ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (أعمال ٢٣: ١).
فِي بَسَاطَةٍ وَإِخْلاَصِ ٱللّٰهِ هذا تفسير مراده من قوله «شهادة ضميرنا» والبساطة هنا خلو القلب من كل خداع. والإخلاص ترك الرياء واستقامة السيرة. وأُضيف إلى الله لأنه هو منشئه ومارسه بولس باعتبار أن الله فاحص القلوب هو الديّان وصرّح بأن كل تصرفه بينهم كان على هذا السنن.
لاَ فِي حِكْمَةٍ جَسَدِيَّةٍ أي حكمة مصدرها العقل البشري. إن حكمة غير المتجددين من الناس لا بد من أن يخامرها الفساد الملم بطبيعتهم الساقطة وهي ناقصة نفسانية يُراعي بها نيل الغاية بقطع النظر عن جودة الوسائط فلم يطلب بولس بينهم غايات ذاتية من لذة أو شرف أو ربح أو مدح بشري.
بَلْ فِي نِعْمَةِ ٱللّٰهِ أي تأثيرات الروح القدس في القلب وهذا خلاف الحكمة الجسدية.
تَصَرَّفْنَا فِي ٱلْعَالَمِ أي بين الناس عامة.
وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ أي مؤمني كورنثوس. فإنه كان لهم ما ليس لغيرهم من الوسائط لمعرفة بساطة قلب بولس وإخلاصه فبناء على هذه المعرفة تيقن بولس أن لهم ثقة به.
١٣، ١٤ «١٣ فَإِنَّنَا لاَ نَكْتُبُ إِلَيْكُمْ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى مَا تَقْرَأُونَ أَوْ تَعْرِفُونَ. وَأَنَا أَرْجُو أَنَّكُمْ سَتَعْرِفُونَ إِلَى ٱلنِّهَايَةِ أَيْضاً، ١٤ كَمَا عَرَفْتُمُونَا أَيْضاً بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ أَنَّنَا فَخْرُكُمْ، كَمَا أَنَّكُمْ أَيْضاً فَخْرُنَا فِي يَوْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
ص ٥: ١٢ فيلبي ٢: ١٦ و٤: ١ و١تسالونيكي ٢: ١٩ و٢٠
صرّح بولس هنا أنه أتى في رسائله بالإخلاص الذي أتى به في تصرفه فلم يكتب بقلمه خلاف ما قصد بقلبه. ولم يقصد في كتابته لحناً أي كلاماً يفهمه بعضهم ويخفى على الآخر.
لاَ نَكْتُبُ إِلَيْكُمْ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى مَا تَقْرَأُونَ أَوْ تَعْرِفُونَ أي قصدنا في كتابتنا المعنى البسيط الواضح الذي كل قارئ يدركه وهو على وفق ما في قلبي.
وَأَنَا أَرْجُو أَنَّكُمْ سَتَعْرِفُونَ الخ ذهب بعضهم إلى أن هذه الجملة متعلقة بالتي قبلها وأن معناها أنا أومل أن تتخذوا ما أكتبه إليكم على بساطة معناه فلا تخطئوه ولا تحرّفوه. ولكن الأنسب أن نعتبرها جزءاً مما يليها أي «أنكم تعرفوننا إلى النهاية كما عرفتمونا بعض المعرفة» وأن نكون فخركم جميعاً.
كَمَا عَرَفْتُمُونَا أَيْضاً بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ ليس كل مؤمني كورنثوس وثقوا ببولس وسروا لذلك قال «بعض المعرفة» لكنه أمل أن يعرفه كلهم ويثق به كما فعل بعضهم.
أَنَّنَا فَخْرُكُمْ أي موضوع ثقتكم وسروركم.
فِي يَوْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ آمن بولس بأنهم يقفون يوم الرب أي اليوم الآخر أمام الله جميعاً من رسل ومُرسل إليهم ومعلِّمين ومعلَّمين وتُعلن كل الأسرار وخفيات المقاصد وتحقق أنه حينئذ يسر به كل مؤمني كورنثوس باعتبار أنه رسولهم ومعلمهم كما كان يسر بهم يوم كتب إليهم باعتبار أنهم أولاده الروحيون. وكلامه يتضمن أن كثيرين منهم حصلوا على المسرّة به وأنهم سيزيدون مسرّة به في المستقبل حتى تكمل في اليوم الآخر.
١٥، ١٦ «١٥ وَبِهٰذِهِ ٱلثِّقَةِ كُنْتُ أَشَاءُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَوَّلاً، لِتَكُونَ لَكُمْ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ. ١٦ وَأَنْ أَمُرَّ بِكُمْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، وَآتِيَ أَيْضاً مِنْ مَكِدُونِيَّةَ إِلَيْكُمْ، وَأُشَيَّعَ مِنْكُمْ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ».
١كورنثوس ٤: ١٩ رومية ١: ١١ و١كورنثوس ١٦: ٥ و٦
بِهٰذِهِ ٱلثِّقَةِ أي أننا فخركم وأنكم تحققتم بساطتنا وإخلاصنا.
كُنْتُ أَشَاءُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَوَّلاً أي رغبت في أن آتي إلى كورنثوس قبل ذهابي إلى مكدونية غير شاكٍ في أن أكثر الكنيسة يقبلونني بالمحبة والثقة ولم أعدل عن ذلك لريبي فيكم.
لِتَكُونَ لَكُمْ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ بواسطة اجتماعكم بي مرتين مرة في ذهابي إلى مكدونية على طريق كورنثوس ومرة في إيابي إليكم من هناك. وأراد «بالنعمة» هنا الإفادة الروحية كما جاءت بهذا المعنى كثيراً في الإنجيل.
أَمُرَّ بِكُمْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ كانت مكدونية الجزء الشمالي من بلاد اليونان (انظر تفسير أعمال ١٦: ٩). وكان الطريق الأقرب بين أفسس ومكدونية غير المار بكورنثوس.
أُشَيَّعَ مِنْكُمْ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ كانت العادة يومئذ كاليوم أنه إذا مر أحد المسافرين المعتبرين بأصحابه خرجوا معه وساروا بعض الطريق إظهاراً لحبهم وإكرامهم له (أعمال ١٥: ٣ و٢٠: ٣٨). فتوقع بولس ورغب في أن يقبل ذلك علامة إكرام من مؤمني كورنثوس. وكانت غايته من الذهاب إلى اليهودية حمل الإحسان الذي جمعه من الكنائس لفقراء كنيسة أورشليم (١كورنثوس ١٦: ٣).
١٧ «فَإِذْ أَنَا عَازِمٌ عَلَى هٰذَا، أَلَعَلِّي ٱسْتَعْمَلْتُ ٱلْخِفَّةَ، أَمْ أَعْزِمُ عَلَى مَا أَعْزِمُ بِحَسَبِ ٱلْجَسَدِ، كَيْ يَكُونَ عِنْدِي نَعَمْ نَعَمْ وَلاَ لاَ؟».
ص ١٠: ٢
أَلَعَلِّي ٱسْتَعْمَلْتُ ٱلْخِفَّةَ أي عزمت على أمرٍ قبل التأمل فيه بلا قصد إنجازه كما اتهمني أعدائي. نعم إن بولس عدل عن قصده الأول لأنه كان إنساناً ضعيفاً لا يعرف موانع المستقبل عن إنفاذ مقاصده. ولم يتبين كيف عرف الكورنثيون مقصده الأول لأنه حين كتب إليهم الرسالة الأولى كان قد غيّر عزمه واعتمد الذهاب إلى مكدونية أولاً (١كورنثوس ١٦: ٥). ولعلهم عرفوا ذلك من رسالة مفقودة الآن (انظر تفسير ١كورنثوس ٥: ٩) ولعله فوّض إلى تيموثاوس أن يخبرهم به عند ذهابه إلى أفسس قبل كتابة الرسالة الأولى (١كورنثوس ٤: ١٧).
أَمْ أَعْزِمُ... بِحَسَبِ ٱلْجَسَدِ كسائر الناس الذين يقصدون بمقتضى أهواء طبيعتهم الفاسدة وليس لهم إرشاد الروح القدس. فاستفهام بولس في الأمرين إنكاري فلم يكن خفيفاً في العزم ولا ذا غايات شخصية دنيوية.
كَيْ يَكُونَ عِنْدِي نَعَمْ نَعَمْ وَلاَ لاَ نسب أعداء بولس هذا القول إلى خفته. وكرر بعض الكلمات هنا للتوكيد (كما في متى ٥: ٣٧) والمعنى أنه يعد ويخلف أو يوجب وينفي في وقت واحد. ومراد أعدائه بهذا أنه لم يبق سبيلاً إلى الثقة بكلامه وأن ذلك يستلزم أن تبشيره لا يمكن الثقة به أيضاً.
١٨ «لٰكِنْ أَمِينٌ هُوَ ٱللّٰهُ إِنَّ كَلاَمَنَا لَكُمْ لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ».
١كورنثوس ٢: ٢
لٰكِنْ أَمِينٌ هُوَ ٱللّٰهُ استشهد الله الإله الحق على أن ما يقوله حق. وليس في هذا ما ينافي نهي الإنجيل عن الحلف لأن المراد بالنهي عن القسم أن لا يُتخذ اسم الله باطلاً. وفي كلام الرسول إقرار بوجود الله وأنه العالم بكل شيء وأنه إله القداسة والحق وفاحص القلوب والديّان. ومثل كلامه هنا ما تكلم به في (١كورنثوس ١: ٩ و١٠: ١٣ و٢تسالونيكي ٣: ٣).
كَلاَمَنَا لَكُمْ لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ الظاهر إن أعداءه اتهموه بأمرين الأول أنه كاذب في الكلام المعتاد والثاني وهو نتيجة الأول أنه كاذب في التبشير أيضاً فلم يكترث بالتهمة الأولى حتى يكلف نفسه دفعها وأما الثاني فاهتم به كثيراً فدفع التهمة به بقوة. وأراد بقوله «كلامنا» تبشيره بقوله «لم يكن نعم ولا» أنه ليس بكذب ولا يستطيع أحد أن يعتمده ككلام من لفظه «نعم» ومعناه «لا» فأثبت أن كلامه أمين وحق كالله.
إن ثقة بولس بصدق كلامه كانت عظيمة جداً حتى قال للغلاطيين «إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا» (غلاطية ١: ٨). وقال هنا أن ثقته بصدق الإنجيل الذي بشر به كثقته بالله لأنه علم أنه لم يكن سوى آلة تكلم الله بها في كل تبشيره.
١٩ «لأَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ، ٱلَّذِي كُرِزَ بِهِ بَيْنَكُمْ بِوَاسِطَتِنَا، أَنَا وَسِلْوَانُسَ وَتِيمُوثَاوُسَ، لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ، بَلْ قَدْ كَانَ فِيهِ نَعَمْ».
مرقس ١: ١ ولوقا ١: ٢٥ وأعمال ٩: ٢٠ عبرانيين ١٣: ٨
احتجّ بولس على أن تعليمه حقٌّ بأن المسيح حقٌّ فكما أنه لا تناقض بين أقوال المسيح كذلك لا تناقض بين أقوال الرسول في المسيح.
يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ، ٱلَّذِي كُرِزَ بِهِ بَيْنَكُمْ إن المسيح نفسه كان موضوع تعليم بولس لا النبأ بأمره لأنه أعلن بواسطة خدمه أنه ابن الله. فطبيعته كطبيعة الآب فلا بد من أنه حق ثابت إلى الأبد فيستحيل أن يناقض بعض أقواله الآخر. وقد صرّح أولاً أنه «الطريق والحق والحياة» ولم يزل يصرّح بذلك بواسطة رسله وسوف يصرّح به فلا ظل دوران.
بِوَاسِطَتِنَا، أَنَا وَسِلْوَانُسَ وَتِيمُوثَاوُسَ كان هؤلاء الثلاثة معاً في كورنثوس يوم نادوا فيها بالإنجيل أولاً (أعمال ١٨: ٥). وسلوانس في الآية هو سيلا في سفر الأعمال فكانوا آلات أظهر المسيح نفسه بها فلا سبيل للكورنثيين أن يثبتوا أدنى تناقض بين تعاليمهم في المسيح فكلهم نادوا بصوت واحد أن المسيح ابن الله وأنه نبي شعبه وكاهنه وملكه.
لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ، بَلْ قَدْ كَانَ فِيهِ نَعَمْ أي كان كله حقاً لا منافاة فيه فقد تبرهن لهم صدق كل ما ادعاه لنفسه وأنه منجز كل ما وعدهم به. فإذاً كان عند بولس النظر في صدق نفسه أو عدمه من الأمور الزهيدة إنما رغب في أن لا يخامرهم أدنى ريب في صدق المسيح وأنه «هو هو أمس واليوم وإلى الأبد». ولا شك في أن في ذلك تلميحاً إلى أن المسيح الذي هو الحق لم يختر آلات إعلانه البشرية من أهل الخفة والتقلب.
٢٠ «لأَنْ مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ ٱللّٰهِ فَهُوَ فِيهِ ٱلنَّعَمْ وَفِيهِ ٱلآمِينُ، لِمَجْدِ ٱللّٰهِ، بِوَاسِطَتِنَا».
رومية ١٥: ٨ و٩
هذا تقرير لما سبق في (ع ١٨ و١٩) وخلاصته أنه ليس في المسيح ما يوجب الريب لأنه قد أُنجزت به كل مواعيد الله.
مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ ٱللّٰهِ في شأن المسيح الموعود به من جهة تبرير التائبين وتقديس المؤمنين وتعزيتهم ومساعدتهم في الضيقات والإرشاد في الارتباك والأمن والاطمئنان عند الموت.
فَهُوَ فِيهِ ٱلنَّعَمْ وَفِيهِ ٱلآمِينُ أي الحق والإنجاز إذ تمت مواعيده لكل الذين آمنوا به وستتم لمن يؤمنون لأنه الحق (يوحنا ١٤: ٦) «ٱلآمِينُ، ٱلشَّاهِدُ ٱلأَمِينُ ٱلصَّادِقُ» (رؤيا ٣: ١٤).
لِمَجْدِ ٱللّٰهِ، بِوَاسِطَتِنَا إن الرسل كانوا وسائل الله بإعلانهم إياه لكي يؤمن الناس به. واختبار المؤمنين صحة مواعيد الله بالمسيح حملهم على تمجيده واتخاذه إله الحق والنعمة وذلك على وفق قوله «مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ صَادِقٌ» (يوحنا ٣: ٣٣). وقوله «إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ ٱلنَّاسِ فَشَهَادَةُ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ، لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ شَهَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ٱبْنِهِ. مَنْ يُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ فَعِنْدَهُ ٱلشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ. مَنْ لاَ يُصَدِّقُ ٱللّٰهَ فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِباً، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱلشَّهَادَةِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا ٱللّٰهُ عَنِ ٱبْنِهِ» (١يوحنا ٥: ٩ و١٠).
٢١، ٢٢ «٢١ وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ، وَقَدْ مَسَحَنَا، هُوَ ٱللّٰهُ ٢٢ ٱلَّذِي خَتَمَنَا أَيْضاً، وَأَعْطَى عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا».
١يوحنا ٢: ٢٠ و٢٧ أفسس ١: ١٣ و٤: ٣٠ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ ورؤيا ٢: ١٧ ص ٥: ٥ وأفسس ١: ١٤
ذكر الرسول في الآيتين السابقتين المسيح باعتبار كونه موضوع المواعيد الإلهية وركن إيمان المؤمنين. وذكر في هاتين الآيتين الله الآب باعتبار كونه منشئ إيمانهم ومقدرهم على الثبوت فيه وأنه سيمنحهم الخلاص التام الذي وعدهم به وأعطاهم عربونه.
ٱلَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ أي يقدرنا على أن نبقى متمسكين بالمسيح. والمثبتون هم الرسل والذين أُرسلوا هم إليهم أي المعلِّمون والمعلَّمون فنعمة الثبوت لم تُعطَ بعض المؤمنين دون غيرهم بل كل المؤمنين الحقيقيين فتُعطى الكورنثيين كما يُعطاها بولس.
فِي ٱلْمَسِيحِ أي التمسك به موضوعاً لإيمانهم ورجائهم ومحبتهم وطاعتهم واعترافهم وهم متحدون به يحيون بحياته.
وَقَدْ مَسَحَنَا أي أهلّنا للقيام بما فُرض علينا. وكان الأنبياء والكهنة والملوك يمسحون حقيقة حين يعينون لأعمالهم. قال المسيح «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ الخ» (لوقا ٤: ١٨). وقال بطرس «يَسُوعُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ ٱللّٰهُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلْقُوَّةِ» (أعمال ١٠: ٣٨). وقيل في المسيحيين أنهم مُسحوا بتأثيرات روح الله حين وقفوا أنفسهم لخدمته تعالى واستعدوا لها بدليل قول يوحنا الرسول «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ ٱلْقُدُّوسِ» وقوله «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَٱلْمَسْحَةُ ٱلَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هٰذِهِ ٱلْمَسْحَةُ عَيْنُهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ» (١يوحنا ٢: ٢٠ و٢٧).
لم يقتصر بولس الرسول على نسبة هذه المسحة إلى الرسل بل نسبها إلى المؤمنين كلهم بدليل قوله «الذي يثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا» فحكم بالمسيح المشترك كما حكم بالتثبيت المشترك وبدليل أن مسحة الروح واتخاذ عربون الروح ليسا بمقصورين على الرسل. وتأثير تلك المسحة في المؤمنين تيقنهم أن الله منشئ إيمانهم وهو يقدرهم على الثبوت في الإيمان.
هُوَ ٱللّٰهُ أي هو الذي يثبتنا ويمسحنا.
ٱلَّذِي خَتَمَنَا أَيْضاً الغاية من الختم ثلاثة أمور:

  • الأول: بيان أن المختوم ملك صاحب الختم.
  • الثاني: إثبات الصك أو الرسالة.
  • الثالث: حفظ المختوم على حاله. وعمل الروح القدس يُعتبر أحياناً مسحة وأحياناً ختماً فختم الروح القدس للمؤمنين بيان أنه لله وذلك مثل قول يوحنا «وَرَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ طَالِعاً مِنْ مَشْرِقِ ٱلشَّمْسِ مَعَهُ خَتْمُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ» (رؤيا ٧: ٢). ويقرب منه قول بولس «لٰكِنَّ أَسَاسَ ٱللّٰهِ ٱلرَّاسِخَ قَدْ ثَبَتَ، إِذْ لَهُ هٰذَا ٱلْخَتْمُ. يَعْلَمُ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِينَ هُمْ لَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١٩). والروح يشهد لأرواح المؤمنين أنهم أولاد الله ويجعلهم يثمرون أثمار البر لكي يعرفوا أنهم أولاد الله ويجعلهم يثمرون أثمار البر لكي يعرفوا أنهم لله ويعرف غيرهم ذلك ويحفظهم من الارتداد والهلاك ولذلك قال الرسول «لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللّٰهِ ٱلْقُدُّوسَ ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ» (أفسس ٤: ٣٠).


وَأَعْطَى عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا أي إنه بحضوره معنا وعمله فينا يحقق لنا فداءنا. والعربون هنا جزء ثمن الشيء المؤدي سلفاً إثباتاً أنه ستؤدي البقية. فسكنى الروح القدس في قلوب المؤمنين وهم على الأرض علامة تأكيد خلاصهم الأبدي فالذي تحقق سكنى الروح في قلبه لا يبقى له سبيل إلى الخوف من جهة خلاصه بدليل قوله «اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٦ و١٧ انظر أيضاً أفسس ١: ١٤). وما يسمى بعربون الروح أحياناً يسمى أيضاً باكورة (رومية ٨: ٢٣).
والذي نتعلمه من هاتين الآيتين أن الله هو الذي يثبت شعبه في اتحادهم بالمسيح ونيلهم كل فوائد الفداء ويؤكد لهم ذلك بأنه يمسحهم ويختمهم ويعطيهم عربون الروح. وأثمار الروح في المؤمنين هي العلامة الوحيدة لحضوره فيها فالذين يأتون بتلك الأثمار يمكنهم أن يتحققوا خلاصهم والذين يبقون خالين منها لا حق أن يتوقعوا شركة القديسين في السماء فمن ثبت في الإيمان ثبت في القداسة.
ونتيجة تعليم الآية السابعة واضحة وهي أن تعليم بولس لا يمكن أن يكون كذباً كما اتهمه أعداؤه لأن الله مصدره وفحواه المواعيد التي أعطاها الله وأكملها المسيح ولأنه هو التعليم الذي شهد الروح القدس فيه بأنه مسح الرسل والذين آمنوا بواسطتهم وختمهم أيضاً وأعطاهم عربون ميراثهم الأبدي.
٢٣ «وَلٰكِنِّي أَسْتَشْهِدُ ٱللّٰهَ عَلَى نَفْسِي أَنِّي إِشْفَاقاً عَلَيْكُمْ لَمْ آتِ إِلَى كُورِنْثُوسَ».
رومية ١: ٩ وص ١١: ٣١ وغلاطية ١: ٢٠ وفيلبي ١: ٨ ١كورنثوس ٤: ٢١ وص ٢: ٣ و١٣: ٢ و١٠
رجع هنا بولس إلى الموضوع الذي ابتدأ الكلام فيه وهو إبطاؤه في المجيء إلى كورنثوس كما قصد أولاً وعدل عنه في أثناء الخطاب قليلاً ليدفع تهمة أنه لا يوثق به في مناداته بالإنجيل. ولعل علة إبطائه لم تخطر على بالهم ولولا تهمة الأعداء لأخفاها بولس عنهم.
لٰكِنِّي أَسْتَشْهِدُ ٱللّٰهَ بالنظر إلى أنه يعمل كل شيء ويعاقب الكاذبين. قال الكتاب «إِنَّ ٱلنَّاسَ يُقْسِمُونَ بِٱلأَعْظَمِ، وَنِهَايَةُ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ عِنْدَهُمْ لأَجْلِ ٱلتَّثْبِيتِ هِيَ ٱلْقَسَمُ» (عبرانيين ٦: ١٦). فأقسم بولس بالله على أنه يذكر العلة الحقة لعدم مجيئه كما وعد.
عَلَى نَفْسِي أي يعاقبني إن كذبت.
إِشْفَاقاً عَلَيْكُمْ لَمْ آتِ أي لكي لا أسبب لكم حزناً وألماً بتوبيخي الشديد وإجراء التأديب الأليم. وهذا دليل على أن كنيسة كورنثوس كانت يومئذ في سوء حال للزناء الذي ذكره في الأصحاح الخامس من رسالته الأولى إليها فلو أتى لاضطر أن يأتي بالعصا كما قال في (١كورنثوس ٤: ٢١). وللحذر من ذلك ولإعطائهم الفرصة للتوبة ولإصلاح الخلل عدل عن قصده الأول وأرسل إليهم رسالة بدلاً من ذهابه إليهم وتوقع ماذا تكون نتيجة تلك الرسالة.
٢٤ «لَيْسَ أَنَّنَا نَسُودُ عَلَى إِيمَانِكُمْ بَلْ نَحْنُ مُوازِرُونَ لِسُرُورِكُمْ. لأَنَّكُمْ بِٱلإِيمَانِ تَثْبُتُونَ».
١كورنثوس ٣: ٥ و١بطرس ٥: ٣ رومية ١٥: ١٣ رومية ١١: ٢ و١كورنثوس ١٥: ١
لَيْسَ أَنَّنَا نَسُودُ عَلَى إِيمَانِكُمْ قال ذلك تلطفاً وبياناً لقوله «إشفاقاً عليكم» لكي لا يظنوا أنه يأتي إليه بمنزلة قاض أو حاكم في الدينيات. ومراده بقوله «إيمانكم» عقائدهم الروحية فصرّح بولس أنه لم يأخذ على نفسه بالنظر إلى كونه رسولاً الحكم بما يجب أن يؤمنوا به أولاً وأنه أراد أن يتخذوا أساس إيمانهم أقوال الله لا قوله ولا قول غيره من الناس.
وليس في كلام بولس هذا ما ينفي أنه ممن أوحي إليهم أو أنه معصوم في تبليغ الوحي. فمراده أن الإنجيل الذي بشر به هو إنجيل الله وأن سلطة الإنجيل منه تعالى فليس لبولس أن يزيد عليه أو ينقص منه وأنه ليس بسيد الإنجيل بل خادمه مكلف بطاعته كسائر الناس.
نَحْنُ مُوازِرُونَ لِسُرُورِكُمْ أي معنيون فالإنجيل بشارة لهم وله فجعل نفسه كواحد منهم بالنسبة إليه. ومعنى «السرور» هنا الفرح بالإنجيل وكان بولس شريكاً لهم في قبوله والمسرة بمواعيده فرغب في أن يعينهم على زيادة إيمانهم بالإنجيل وسلوكهم بموجبه.
لأَنَّكُمْ بِٱلإِيمَانِ تَثْبُتُونَ قال سابقاً أنه لا يريد أن يسود على إيمانهم وقال هذا أنهم بالنظر إلى عقائد الإيمان ليسوا تحت مسؤولية أحد سوى الله وضمائرهم فلا حق لأحد وإن كان رسولاً أن يدخل بينهم وبين الله في تلك الأمور. نعم أنه باعتبار كونه رسولاً كان له أن ينبئهم بما أوحى الله إليه من التعاليم السماوية وهذا حد سلطته في أمور الإيمان فكان عليهم وعليه أن يطيعوا الإعلان لأنه إعلان الله ولكن مع هذا يجب أن نذكر أن الله منح الرسول سلطاناً على سياسة الكنيسة النظامية وإجراء التأديبات اللازمة وإلى هذا أشار بقوله «إشفاقاً علكيم لم آت».

فوائد



  • إنه في كل ضيقة مصدر التعزية الكافية الحقيقية هو الله. إن كل إنسان على وجه الأرض عرضة للمصائب فتقع عليه في وقت ما من حياته فقد تكون كثيرة شديدة وهو يطلب طبعاً التعزية في وقت مثل هذا فيطلبها بعض الناس بالأقوال الفلسفية وغيرهم يطلبها بلذات العالم لينسوا بها أحزانهم وبعضهم يطلبها من أصدقائهم. وكل ذلك عبث فإن الله هو أبو الرأفة وإله كل تعزية لأنه أبو ربنا يسوع المسيح (ع ٣).
  • إنه على الذين عيّنهم الله مبشرين بالإنجيل ورعاة لكنيسته أن يتوقعوا أن تكون مصائبهم أشد من مصائب سائر الناس. كذا كان شأن بولس وسائر الرسل أبغضهم الأشرار واضطهدوهم لأنهم منعوهم من إجراء مقاصدهم الشريرة ولهذا يثير الشيطان عليهم المقاومات. ويسمح الله بأنهم يمتحنون لكي يختبروا الأحزان فيتعلموا أن يشعروا بأحزان المصابين ويعزوهم ولكي يكونوا أمثلة لغيرهم باحتمال الأرزاء بالصبر. وتقتضي خدمتهم للكنيسة أن يعرفوا من أحزان رعيتهم ما لا يعرفه غيرهم فيشاركوهم في جميعها على وفق قوله «مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ» (ص ١١: ٢٩) (ع ٥).
  • الذين يصابون كثيراً في سبيل الإنجيل لهم أن يتوقعوا عظيم العزاء وعلى قدر اضطهاد الناس لهم يملأ المسيح قلوبهم فرحاً وسلاماً وحين يهينونهم ويطردونهم يتيقنون أن أسماءهم مكتوبة في سفر الحياة. لا أحد يعلم قيمة مواضيع الكتاب وما فيها من التعزية ما لم يكن قد لجأ إليها وقت المصاب.
  • إنه من مقاصد الله بسماحه بنزول النوازل بالمؤمنين أن يؤهلهم لتعزية غيرهم لأنه لا يستطيع أحد أن يفوه بكلمات العزاء للمصابين مثل من أصيب كما أُصيبوا (ع ٤ و٦ و٧).
  • من أفضل التعزيات في الأرزاء أن المسيح يتألم معنا فإنه يعتبر التعييرات والاضطهادات التي تقع علينا من أجل اسمه واقعة عليه (ع ٥).
  • إنه على الذين حصلوا على التعزية في الحزن والمعونة في الضيق أن يفتشوا عن المصابين ويعزوهم كما تعزوا هم وأن يعتبروا ما حصلوا عليه من التعزيات كنزاً ينفقون منه على المحتاجين إليها وعلى هذا قال داود النبي «خير لي أني تذللت» وقال «هذا المسكين صرخ والرب استمعه ومن كل ضيقاته خلصه» وقال بمقتضى اختباره «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب طوبي لجميع المتكلين عليه» (ع ٦ و٧).
  • لا شيء في قرب موت المؤمن مما يخيفه. إن بولس توقع الموت ولم يجد سبيلاً إلى النجاة منه ولكن لم يؤثر ذلك فيه شيئاً سوى إن زاد ثقته بالله. فلجأ إلى المسيح في وقت الأمن وسلم إليه ومن ثم كان خالياً من كل اضطراب في المستقبل (ع ٩).
  • إن على الذين رجعوا إلى الصحة بعد أن أدناهم المرض من القبر والذين خُطفوا من مخالب المنون أن يروا شفاءهم ونجاتهم من الله كأنها إقامة من الموت ويعلموا أنهم مديونون لله ثانية بحياتهم وأنه واجب عليهم الشكر العظيم والحب الشديد والخدمة الصادقة (ع ٩).
  • إن لنا من الفائدة السابقة أنه إذا شُفي لنا من مرض خطير والد أو ولد أو قريب أو صديق وجب أن نعتبر شفاءه هبة من الله وعلامة رحمته وقدرته كأنه أقامه من الموت وأنه يدعونا بذلك إلى محبة جديدة وشكر جديد وثقة شديدة بفاعلية الصلاة (ع ٩).
  • إن لصلوات المؤمنين المشتركة فاعلية عظيمة لنفع الأفراد والكنيسة (ع ١١).
  • إنه يجب على كل المسيحيين أن يسيروا بمقتضى المبادئ التي أوجبها الرسول على نفسه. وهي أن يقاد بنعمة الله وأن يتصرف ببساطة القلب وإخلاص الله وأن يطلب مجد الله وخلاص الناس بتعليمه مجرد الحق الإنجيلي غير محتال بغية أن يخيف الناس من ارتكاب الشر ويجذبهم إلى فعل الخير. إن الله لم يشأ أن يستعمل عبيده الحيل الدنيوية لإقناع الناس وجذبهم إليه (ع ١٢).
  • ما قيل في هذا الأصحاح يبين لنا نفع الضمير الصالح للمؤمن فإنه يهب لفكره راحة وسعادة أكثر من كنوز الذهب وأكاليل الملوك وبه استطاع بولس أن لا يكترث بتهم الناس الكاذبة وبغضهم له وأن لا يخاف ولو كان على نفسه حكم الموت (ع ١٢).
  • إنه يجب على المسيحيين أن يتكلموا أبداً بالصدق لأن المسيح كان يصدق دائماً على الله والله صدق بإنجاز كل مواعيده. فالذي يدّعي أنه تلميذ «الشاهد الأمين» وجب عليه دائماً أن يتكلم بالحق وبكل الحق وأن لا يتكلم بشيء سوى الحق. والمسيحي الذي يعد ولا ينجز ويبالغ في الخير ويحرف الكلام يشين اسم المسيح ودينه فكان عليه ان يتخذ مجرد قوله بمنزلة القسم الأعظم ومجرد وعده كالصك الموقع المختوم (ع ١٨).
  • إن على المسيحيين أن يعتبروا أنفسهم وقفاً لخدمة الله كما كان قدماء الملوك والكهنة والأنبياء يُمسحون لأعمالهم لأنهم بدعوة الله لهم ونذورهم له أوجبوا على أنفسهم أن يعيشوا له أبداً.
  • إن في هذا الأصحاح بيان عظمة بركات المسيحيين لأنهم مسحاء الله خُتموا للسماء ولهم في قلوبهم عربون ميراثهم الأبدي (ع ٢١ و٢٢).
  • إنه على المسيحيين الحذر من أن يحزنوا الروح القدس الذي به مُسحوا وخُتموا وحصلوا على عربون الخلاص. وأنه لا حق لهم أن يمارسوا عملاً من الأعمال أو يخالطوا أصحاباً أو يقرأوا كتاباً أو يتصوروا تصورات عاقبتها طرد الروح القدس من قلوبهم ومنعه من المكث فيها (ع ٢٢).
  • إنه يحسن أن نأخذ كل هذا الأصحاح بياناً لمقدار ما يوجبه الدين المسيحي على تابعيه من المشاركة بعضهم لبعض في الحزن والفرح ومشاركتهم للمسيح في آلامه وأمجاده وفي كونهم أولاداً لله لأنه صرّح بأن الله لنا أبو الرأفة وإله كل تعزية (ع ٣) وإننا شركاء المسيح (ع ٥). وأن الرسل شركاء آلام المسيحيين وأن المسيحيين شركاء آلامهم لكي يشاركوا بعضهم بعضاً في التعزية والأفراح والشكر لله (ع ٦ - ١١). وفي ذكر الرسول أنه مفتقر إلى صلوات الكنيسة (ع ١١). وأن الرسل جميعاً ليسوا سوى مؤازري سرورها (ع ٢٤) وأنها علة افتخاره الآن وفي يوم الدين (ع ١٤).




الأصحاح الثاني


علة عدول الرسول عن الذهاب رأساً إلى كورنثوس (ع ١ - ٤). ما يتعلق بتأديب الكنيسة للزاني المذكور في الرسالة الأولى (ع ٥ - ١١). علة عدم مكثه في ترواس (ع ١٢ و١٣). شكره لله على نجاح الإنجيل (ع ١٤ - ١٧).
موضوع هذا الأصحاح كموضوع الأصحاح الأول ففيه حامى عن نفسه ودفع تهمة الخفة ببيانه أنه تأخر لئلا يأتيهم موبخاً وقاضياً. وزاد على ذلك هنا أنه عزم أن لا يذهب إلى كورنثوس ما دامت أحوال الكنيسة توجب الكدر له ولهم (ع ١ - ٤). وقال إن ذنب الزاني الذي كتب إليهم فيه ليس بعلة حزن له وحده بل للكنيسة أيضاً وأنه راق له تأديب الكنيسة لذلك الزاني وأنه يروق له الآن أن تقبله ثانية في شركة الكنيسة لما أظهره من علامات التوبة (ع ٥ - ١١). وإن شدة رغبته في سمع أخبارهم منعته من البقاء في ترواس لأنه تركها وأتى إلى مكدونية رغبة في أن يتقبل تيطس ويأخذ منه رسائلهم (ع ١٢ و١٣). وأن خبر الكنيسة الذي أتى تيطس به كان ساراً جداً حتى حمله على الشكر والتسبيح (ع ١٤ - ١٧).
علة تغيير قصده ع ١ إلى ٤


١ «وَلٰكِنِّي جَزَمْتُ بِهٰذَا فِي نَفْسِي أَنْ لاَ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَيْضاً فِي حُزْنٍ».
ص ١: ٢٣ و١٢: ٢٠ و٢١ و ١٣: ١٠
لٰكِنِّي جَزَمْتُ بِهٰذَا فِي نَفْسِي سبق قوله أنه أبطأ عن المجيء إليهم من أجلهم لكي لا يحزنهم ويخجلهم ولئلا يظهر أنه يسود على إيمانهم وزاد على ذلك هنا أن علة إبطائه أيضاً من أجل نفسه (انظر الحاشية في الإنجيل ذي الشواهد) فلو جاء إليهم لحزن هو أيضاً فوق حزنهم فعزم أن لا يأتي إليهم إلا متى استطاع الإتيان مسروراً.
لاَ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَيْضاً فِي حُزْنٍ أي محزوناً ومحزناً وقوله «أيضاً في حزن» يشير إلى أنه أتى إليهم قبلاً بالحزن. وهذا الإتيان لا يمكن أن يكون الإتيان الأول إليهم المذكور في (أعمال ١٨: ١). لأن ذلك الوقت كان وقت أول تبشيرهم وإنشاء كنيستهم فلم يكن من سبيل إلى تشويش النظام الموجب الحزن والتوبيخ والتأديب. فنستنتج من ذلك أنه زارهم زيارة أخرى لم يذكرها لوقا في سفر الأعمال. والدليل على هذه الزيارة واضح وهو قوله «هُوَذَا ٱلْمَرَّةُ ٱلثَّالِثَةُ أَنَا مُسْتَعِدٌّ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ» (ص ١٢: ١٤). وقوله «هذه المرة الثالثة أتى إليكم» (ص ١٣: ١).
٢ «لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُحْزِنُكُمْ أَنَا، فَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يُفَرِّحُنِي إِلاَّ ٱلَّذِي أَحْزَنْتُهُ؟».
في هذه الآية بيان إباءته أن يأتي إليهم في حزن.
إِنْ كُنْتُ أُحْزِنُكُمْ أَنَا بإتياني إليكم معنفاً ومؤدباً.
فَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يُفَرِّحُنِي الخ أي يستحيل أن أتوقع التفريح ممن كنت لهم علة حزن لأن زارع الحزن لغيره لا يحصد الفرح منه. و «مَن» في قوله عامة لكل من أفراد الكنيسة لا الزاني المعهود. وخلاصة قوله أنه لا يمكن أن يكن سعيداً ما لم يكونوا هم سعداء.
٣ «وَكَتَبْتُ لَكُمْ هٰذَا عَيْنَهُ حَتَّى إِذَا جِئْتُ لاَ يَكُونُ لِي حُزْنٌ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانَ يَجِبُ أَنْ أَفْرَحَ بِهِمْ، وَاثِقاً بِجَمِيعِكُمْ أَنَّ فَرَحِي هُوَ فَرَحُ جَمِيعِكُمْ».
١كورنثوس ١٦: ٧ وع ١ ص ١٢: ٢١ ص ٧: ١٦ و٨: ٢٢ وغلاطية ٥: ١٠
وَكَتَبْتُ لَكُمْ هٰذَا عَيْنَهُ وهو ما كتبه إليهم في رسالته الأولى في أمر الرجل الزاني أي قوله «ٱعْزِلُوا ٱلْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ» (١كورنثوس ٥: ١٣). فإن بولس لم يذهب يومئذ بنفسه ليصلح الخلل بل أمر الكنيسة في الرسالة أن تصلحه لكي لا يكون مجيئه إليها إلا مجيء سرور له ولهم.
لاَ يَكُونُ لِي حُزْنٌ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانَ يَجِبُ أَنْ أَفْرَحَ بِهِمْ أي كتبت ما كتبته لكي لا يكون لي منكم حزن بدل الفرح الذي أرغب فيه. والخلاصة أنه أراد صرف الأمور المكدرة قبل أن يأتي إليهم.
وَاثِقاً بِجَمِيعِكُمْ أَنَّ فَرَحِي هُوَ فَرَحُ جَمِيعِكُمْ لم يرغب في اعتزال أسباب الخلاف لمجرد راحة فكره كأنه لا يسأل إلا عنها بل لراحتهم أيضاً ولهذا قال «إن فرحي هو فرح جميعكم» أي ما يسركم هو ما يسرني. ومقصوده من ذلك أنه رغب في طاعتهم لأمره وحفظهم طهارة الكنيسة لتيقنه أن ذلك يؤول إلى نجاح الكنيسة وسعادتها. قال «واثقاً بجميعكم» لأن أكثر أعضاء الكنيسة أصدقاؤه فأنزل مبغضيه وهم قليلون منزلة العدم.
٤ «لأَنِّي مِنْ حُزْنٍ كَثِيرٍ وَكَآبَةِ قَلْبٍ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، لاَ لِكَيْ تَحْزَنُوا، بَلْ لِكَيْ تَعْرِفُوا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي عِنْدِي وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ».
ص ٧: ٨ و٩ و١٢
أبان لهم في هذه الآية أن الحامل له على بعض ما كتبه من التوبيخ في الرسالة الأولى إنما هو ابتغاء نفعهم وسعادتهم ودليل ذلك ما اعتراه بتلك الكتابة من الألم القلبي.
مِنْ حُزْنٍ كَثِيرٍ وَكَآبَةِ قَلْبٍ لم يكن هذا الحزن من أحواله الخارجية بل من اضطراب أفكاره من جهتهم. ولعل بعضهم ظن أنه سهل عليه أن يكتب مثل ذلك التوبيخ الشديد فدفع هذا الظن بذكر ما عراه عند كتابته من الحزن والبكاء وكان له أن يقول في الوقت الذي أنفقه في كورنثوس ما قاله في الوقت الذي أنفقه في أفسس «أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَاراً، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ» (أعمال ٢٠: ٣١).
بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ كأب حنون يحب ابنه ومع ذلك يؤدبه لكي يكون أميناً لله وله. فيجب على الكنيسة أن تجري تأديبها للمذنبين فيها إجراء الأب الحنون تأديبه لابنه أي أن يأتوه بغية نفع المؤدَّبين لا تخجيلهم وإحزانهم فلا يزالوا يحبون المذنب ويلتمسوا توبته وهم يعاقبونه على ذنبه.
لاَ لِكَيْ تَحْزَنُوا أي إحزانكم ليس غايتي مما كتبته.
بَلْ لِكَيْ تَعْرِفُوا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي عِنْدِي هذا إحدى غاياته مما كتب ومنها أيضاً أن يقود المذنب إلى الحزن على إثمه (ع ٧) وأن يمتحن طاعتهم له كما في (ع ٩). فذكره هنا كون غايته المحبة لا ينفي أن تكون له غاية أخرى. ودليل أن كتابته لإظهار محبته كون ما أمرهم به ضرورياً لصلاح الكنيسة.
وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ أي محبتي الخاصة لكم. فصرّح بها أن محبته لكنيسة كورنثوس أعظم من محبته لغيرها من الكنائس. ويسهل علينا أن نرى دلائل أُخر على هذا في الرسالتين اللتين كتبهما إلى هذه الكنيسة.

ما يتعلق بتأديب الكنيسة للزاني المذكور في الرسالة الأولى ع ٥ إلى ١١


٥ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ قَدْ أَحْزَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْزِنِّي، بَلْ أَحْزَنَ جَمِيعَكُمْ بَعْضَ ٱلْحُزْنِ لِكَيْ لاَ أُثَقِّلَ».
١كورنثوس ٥: ١ غلاطية ٤: ١٢
ما جاء في هذه الآية وما بعدها إلى الآية الحادية عشرة يختص بالزاني المذكور في (١كورنثوس ص ٥). ومعنى الآية غير واضح كل الوضوح والمرجح أن قصد بولس منها أن يخفف اللوم على المذنب التائب.
إِنْ كَانَ أَحَدٌ لم يذكر اسمه هنا ولا في الآية السابعة فعبّر عنه فيها بلفظة «هذا» وعبّر عنه في الرسالة الأولى «بإنسان»
قَدْ أَحْزَنَ لم يذكر ذنبه الذي كان على الحزن لكن المعروف أنه الزناء «باتخاذه امرأة أبيه زوجة» (١كورنثوس ٥: ١).
لَمْ يُحْزِنِّي أنا وحدي حتى يأسف على ما ضرّني به خصوصاً.
بَلْ أَحْزَنَ جَمِيعَكُمْ أي الكنيسة كلها وأحزنني كواحد منها.
بَعْضَ ٱلْحُزْنِ إذ بقي لكم أمل أن يتوب سريعاً. ولعل معنى ذلك أن بعض الأفراد لم يحزنوا إما لكونهم أقرباء المذنب وإما لكونهم أعداء لبولس.
لِكَيْ لاَ أُثَقِّلَ كما كنت أثقل لو قلت أنه أحزنني خاصة وأنه أحزن جميع الكنيسة كل الحزن. وشاء أن يخفف عن المذنب لتيقنه أنه تاب أو لأنه عرف أن ندم المذنب جاوز الحد.
٦ «مِثْلُ هٰذَا يَكْفِيهِ هٰذَا ٱلْقِصَاصُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلأَكْثَرِينَ».
١كورنثوس ٥: ٤ و٥ و١تيموثاوس ٥: ٢٠
مِثْلُ هٰذَا أي المذنب. ومعنى سائر الآية حكم بولس أن القصاص الذي أجرته الكنيسة على المذنب بأكثرية الأصوات كان كافياً لأنه أنفذ قصده. وكان بولس قد أمر الكنيسة بأن تقطعه من شركتها وهو المراد من قوله «أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هٰذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ ٱلْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ ٱلرُّوحُ» (١كورنثوس ٥: ٤ و٥). ويتبين من الآية التاسعة من هذا الأصحاح أن الكنيسة أطاعت أمره وقطعته من شركتها. ومفاد ما كتبه هنا أنه مقتنع بصحة توبة المذنب فنصح للكنيسة أن تعيده إلى شركتها وما له من الحقوق الأخوية وأن الكنيسة بررت نفسها من مشاركتها له في ذنبه بحكمها عليه وغيرتها على حفظ طهارة الكنيسة والشريعة الإلهية وربحت توبة المذنب.
استنتج بعضهم من قوله «من الأكثرين» إن أعضاء الكنيسة لم تُجمع على تأديبه. وقال آخرون أن الإشارة ليست إلا إلى إعلان قطعه وكثرة معلنيه. وهذا على وفق قوله في إجراء التأديب «بِٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ إِذْ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ... يُسَلَّمَ مِثْلُ هٰذَا» (١كورنثوس ٥: ٤ و٥).
٧ «حَتَّى تَكُونُوا بِٱلْعَكْسِ تُسَامِحُونَهُ بِٱلْحَرِيِّ وَتُعَزُّونَهُ، لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ مِثْلُ هٰذَا مِنَ ٱلْحُزْنِ ٱلْمُفْرِطِ».
غلاطية ٦: ١
حَتَّى تَكُونُوا بِٱلْعَكْسِ أي ترفعوا عن المذنب القصاص بدلاً من إدامة تأديبه ومنعه من شركة الكنيسة ومخالطة الإخوة.
تُسَامِحُونَهُ بِٱلْحَرِيِّ أي تفضلون المسامحة والتعزية على إدامة التأديب لأن كل الفوائد المقصودة من إجراء التأديب قد حصلت وآن للكنيسة أن تظهر للمذنب أنها اعتبرت توبته حقيقية وأنها صدقت أن الله غفر له إثمه وسامحته بكل الحزن والعار اللذين كان سبباً لهما.
وَتُعَزُّونَهُ أي تذكرون له مواعيد الله للتائبين وتعاملونه معاملة أخ وصديق وتعتزلون عتابه.
لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ الخ أي لكي لا ييأس لفرط الحزن والخجل والأسف ويعدل عن كل وسائط النعمة فينتج من ذلك ضرره جسداً وعقلاً ونفساً.
يظهر من هذه الآية أن الرسول جمع الأمانة واللطف إذ لم يذكر اسم المذنب ولا ذنبه فشدد الأمر بتأديبه ما دام عاصياً مستمراً على الذنب وأوجب أن يُغفر له متى اعترف بذنبه وتركه فكان بذلك مقتدياً بسيده الذي قيل فيه «قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ» (متى ١٢: ٢٠).
٨ «لِذٰلِكَ أَطْلُبُ أَنْ تُمَكِّنُوا لَهُ ٱلْمَحَبَّةَ».
لِذٰلِكَ أي لكي لا يبتلع من الحزن المفرط.
أَنْ تُمَكِّنُوا لَهُ ٱلْمَحَبَّةَ أي تثبتوا المحبة له بحكم الكنيسة قانونياً برده إلى شركة الكنيسة وحقوق الإخاء علانية كما كان قطعه علانية.
٩ «لأَنِّي لِهٰذَا كَتَبْتُ لِكَيْ أَعْرِفَ تَزْكِيَتَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ طَائِعُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟».
١كورنثوس ٥ ص ٧: ١٥ و١٠: ٦
لِهٰذَا أي للغاية المذكورة في تتمة الآية وبقي غايات أُخر لم يذكرها هنا.
كَتَبْتُ دون أن آتي. والمراد بما كتبه ما جاء في الرسالة الأولى من الكلام في تأديب الزاني ١كورنثوس ٥: ٧).
لِكَيْ أَعْرِفَ... هَلْ أَنْتُمْ طَائِعُونَ الخ أمر الكنيسة سابقاً أن تقطع المذنب من شركتها امتحاناً لها ليعرف هل هي طائعة للسلطان الذي أخذه المسيح باعتبار أنه هو رسوله (علاوة على رغبته في إزالة العثرة من الكنيسة بتأديب المذنب وفي نفعه بالإتيان إلى التوبة).
إن الطاعة لمن تجب له الطاعة آية التقوى وبعض أثمار الإيمان القلبي وفعل الروح القدس. وأما العصيان والاستبداد والعناد فعلامة عدم الإيمان وعدم تأثير ذلك الروح. إن كنيسة كورنثوس سلمت بسلطانه الرسولي والمذنب تاب فلم يبق من حاجة إلى إدامة التأديب فطلب من الكنيسة أن تُظهر طاعتها له بمسامحتها المذنب كما أظهرتها قبلاً بتأديبه.
١٠ «وَٱلَّذِي تُسَامِحُونَهُ بِشَيْءٍ فَأَنَا أَيْضاً. لأَنِّي أَنَا مَا سَامَحْتُ بِهِ إِنْ كُنْتُ قَدْ سَامَحْتُ بِشَيْءٍ فَمِنْ أَجْلِكُمْ بِحَضْرَةِ ٱلْمَسِيحِ»
ٱلَّذِي تُسَامِحُونَهُ بِشَيْءٍ فَأَنَا أَيْضاً هذا الكلام مطلق يدل على أن الرسول مستعد أن يسامح كل من تسامحه الكنيسة ولكن القرينة تدل على أنه مقيّد بمسامحة الزاني التائب لأنها مدار الكلام.
وحث الكنيسة على مسامحة التائب فقال أنه مستعد أن يشاركهم في مسامحته ورده إلى شركة الكنيسة لأنه كان متيقناً طاعة الكنيسة له وتوبة المذنب.
لأَنِّي أَنَا مَا سَامَحْتُ بِهِ جعل مسامحته للمذنب متوقفة على مسامحتهم له. وما كتبه في أمر المسامحة هنا وفي (ع ٧) إنما كتبه لأجلهم ولم يأخذ على نفسه شيئاً في رد المذنب التائب إلى شركة الكنيسة ما لم تكن هي راضية ذلك من نفسها.
إِنْ كُنْتُ قَدْ سَامَحْتُ بِشَيْءٍ فَمِنْ أَجْلِكُمْ أي إن قال أحد أني سامحت المذنب دون مشورتكم قلت إنما أتيت ذلك من أجلكم. وأكد أن ليس له غاية شخصية في ما كتبه قبلاً في أمر تأديبه ولا في ما كتبه هنا في شأن مسامحته وأنه لا غاية له سوى نفع الكنيسة وصلاحها بحفظ طهارتها ونظامها. وقوله «من أجلكم» لا ينفي قصده نفع المذنب إنما اقتصر على ذكره لكون نفع الكنيسة كلها أفضل من نفع الشخص.
بِحَضْرَةِ ٱلْمَسِيحِ باعتبار كونه حاضراً وناظراً إلينا فمن يحاكم وهو يعتبر أن المسيح الحنون حاضر في المحاكمة فلا بد من أن يكون رفيقاً في حكمه.
من الواضح أن بولس اعتبر أن المذنب بتوبته قد سأل مغفرة الله ونالها وبقي عليه أن يطلب المسامحة من الذين أضرهم بأن كان سبب حزن وعار لهم. ولا حاجة إلى بيان أن ليس لبولس ولا للكنيسة سلطان على مغفرة خطيئة الزناء لأن المغفرة مختصة بالله.
١١ «لِئَلاَّ يَطْمَعَ فِينَا ٱلشَّيْطَانُ، لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ».
لِئَلاَّ متعلق بقوله سامحت أي شاركتكم في المسامحة.
يَطْمَعَ فِينَا ٱلشَّيْطَانُ لم يذكر جهة طمعه فيهم والمعنى المرجّح أنهم إن عدلوا عن المسامحة للمذنب التائب قاده ذلك إلى اليأس والهلاك وكان علة انشقاق في الكنيسة فذكر ذلك بياناً لوجوب المبادرة إلى تلك المسامحة.
كتب لهم في الرسالة الأولى «أن يسلموا مثل هذا للشيطان بتأديبهم إياه لكي تخلص روحه» وكتب إليهم هنا أن يرفعوا عنه التأديب لئلا يكون للشيطان سبيلاً إلى إهلاك نفسه.
لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ أي نوع أفكاره مثل أنها خبيثة وهي معروفة أنها كذلك بشهادة كتاب الله واختبار أعمال الشيطان في العالم. وما قيل هنا دليل واضح على أن الشيطان شخص حقيقي وأن له تأثيراً عظيماً في قلوب الناس وأعمالهم وأنه بكثرة جنوده يقدر أن يجرب كل البشر وأنه لا يفتأ يجتهد في خداع الجميع وإهلاكهم ولذلك وجب على الأفراد والكنائس أن تنتبه لحيله وقوته وتحذرهما.
ولا يبعد عن التسليم أن الشيطان حمل الكنيسة في أول الأمر على إهمال تأديب المذنب ثم أغراها عندما أخذت في التأديب بالقسوة لكي لا يترك سبيلاً لرجوع المذنب بالتوبة.

علة عدم مكثه في ترواس ع ١٢ و١٣


١٢، ١٣ «١٢ وَلٰكِنْ لَمَّا جِئْتُ إِلَى تَرُوَاسَ، لأَجْلِ إِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ وَٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ فِي ٱلرَّبِّ، ١٣ لَمْ تَكُنْ لِي رَاحَةٌ فِي رُوحِي، لأَنِّي لَمْ أَجِدْ تِيطُسَ أَخِي. لٰكِنْ وَدَّعْتُهُمْ فَخَرَجْتُ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ».
أعمال ١٦: ٨ و٢٠: ١ و٢ و٦ و١كورنثوس ١٦: ٥ - ٩ ١كورنثوس ١٦: ٩ ص ٧: ٥ و٦
علة عدم مكثه في ترواس ع ١٢ و١٣
وَلٰكِنْ هذا الاستدراك لتعليق ما قيل هنا بما قيل في الآية الرابعة. والآية الخامسة وما بعدها إلى نهاية الحادية عشرة كلام معترض. فإنه بيّن لهم في الآية الرابعة أن الحزن وكآبة القلب اللذين بهما كتب الرسالة الأولى كانا دليلين على محبته لهم وبيّن هنا دليلاً آخر على تلك المحبة وهو فعله المذكور في هاتين الآيتين.
لَمَّا جِئْتُ إِلَى تَرُوَاس جاء إليها بمروره من أفسس إلى مكدونية. وترواس فرضة ميسيا على البوسفور قرب رسوم مدينة تروادة المشهورة بالحرب التي التظت بينها وبين اليونانيين في العصور القديمة وبقصيدة هوميروس في تلك الحرب. وجعلها أوغسطس قيصر كولونية رومانية وكان لها تجارة واسعة بين مكدونية وأسيا الصغرى. وزارها بولس مرة قبل هذا وفيها رأى حينئذ الرؤيا وهي أنه رأى رجلاً مكدونياً يقول له «اعبر إلينا وأعنا» (أعمال ١٦: ٨) ومكث فيها أسبوعاً وهو راجع من مكدونية (أعمال ٢٠: ٦ - ٣). والأرجح أنه زارها أيضاً قرب نهاية خدمته بعد سجنه الأول في رومية (٢تيموثاوس ٤: ١٣).
لأَجْلِ إِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ أي التبشير بالإنجيل. قصد بولس أن يمكث في ترواس وقتاً للمناداة بكلمة الله في المدينة وضواحيها ولم يقصد مجرد المرور بها بسرعة ليصل إلى مكدونية بأقصر ما يمكنه من الوقت ونسب الإنجيل إلى المسيح لأن المسيح مؤلفه وموضوعه ولهذا عينه سمي أيضاً «إنجيل الله» (رومية ١٥: ١٦). وسمي إنجيل ملكوت الله لأن غايته إنشاء ذلك الملكوت (متى ٤: ٢٣). وإنجيل الخلاص وإنجيل السلام لتأثيره في قلوب المؤمنين (أفسس ١: ١٣ و٦: ١٥). وسماه بولس إنجيله لأنها نادى به (رومية ٢: ٢ و ١٦).
ٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ فِي ٱلرَّبِّ أي وجدت فرصة مناسبة للتبشير إذ كان الناس مائلين إلى سمع الحق وقبوله. وقال مثل هذا في مدينة أفسس (١كورنثوس ١٦: ٩). وقال «في الرب» إشارة إلى كون عمله هنالك روحياً الغاية منه خدمة الرب يسوع.
لَمْ تَكُنْ لِي رَاحَةٌ فِي رُوحِي أي كنت حزيناً مضطرباً جداً.
لأَنِّي لَمْ أَجِدْ تِيطُسَ أَخِي سماه أخاً لكونه مؤمناً مثله وعاملاً معه في المناداة بالإنجيل. وأول ما سمعنا من أمره أنه كان رفيق بولس وبرنابا في أنطاكية (غلاطية ٢: ١). وأنه ممن آمنوا من الوثنيين ولم يستحسن بولس أن يختنه كما ختن تيموثاوس (غلاطية ٢: ٣). كان بولس قد أرسله إلى كورنثوس والأرجح أنه هو الذي حمل رسالته الأولى إليها وتوقع أن يلتقي به في ترواس وهو راجع من كورنثوس ليخبره بصفة قبول الكنيسة لتلك الرسالة. وذكر أنه ممن سعوا في جمع الإحسان لفقراء أورشليم (ص ٧: ٦ و١٦ وص ١٢: ١٨). وكان بعد ذلك مع بولس في كريت (تيطس ١: ٥) والأرجح أن ذلك كان بعد إطلاق بولس من سجنه الأول في رومية. وأقامه بولس قسيساً في كريت ليرتب الأمور التي تركها بولس قبل ترتيبها وكتب إليه رسالة بيّن له فيها واجباته. وأرسله يوم كان في رومية للتبشير في دلماطية (٢تيموثاوس ٤: ١٠). وسأله أن يلاقيه في نيكوبوليس إذ قصد أن يشتي فيها (تيطس ٣: ١٢). ولا نعلم هل تم قصده أو لا إذ الأرجح أنه قُبض عليه في ذلك الوقت وسيق إلى رومية للموت.
وَدَّعْتُهُمْ أي ودع المؤمنين والأصدقاء في ترواس.
فَخَرَجْتُ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ أي عبر البوصفور. وهذا السفر شغل به مرة يومين (أعمال ١٦: ١١) ومرة أخرى خمسة أيام وهو راجع من كورنثوس في هذه الطريق (أعمال ٢٠: ٦). وغايته من هذا الخروج المبادرة إلى الالتقاء بتيطس وهو عائد من كورنثوس. ولم يذكر أي مدن مكدونية سار إليها والمظنون أنه ذهب إلى فيلبي كما ذهب إليها في أول مرات ذهابه إلى مكدونية (أعمال ١٦: ١٢) وأنه التقى بتيطس هناك.

شكره الله على نجاح الإنجيل ع ١٤ إلى ١٧


١٤ «وَلٰكِنْ شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي ٱلْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ».
كولوسي ٢: ١٥ نشيد الأناشيد ١: ٣
كان المنتظر من بولس هنا أن يخبر بالتقائه بتيطس وبالأنباء التي سمعها منه لكنه انتهز بدلاً من ذلك الفرصة لتقديم الشكر لله على نعمته وبركته ونجاحه في المناداة بالإنجيل. وهذا حمله على مقابلة خدمة الإنجيل بخدمة الشريعة الموسوية. هذا شغل أفكاره وقلمه حتى لم يرجع إلى الموضوع الذي كان يتكلم فيه إلا في الأصحاح السابع وحينئذ أخبر بالتقائه بتيطس وبأفكاره وانفعالاته قبل ذلك وبعده.
والأمر بيّن أن الذي حمل بولس على الشكر لله لنجاحه في التبشير وغلبته على كل الموانع والمقاومات هو السرور بالأخبار السارة التي أتى بها تيطس.
مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ هنا استعارة تمثيلية قابل الرسول بها الانتصار الروحي على نفوسهم بالانتصار الدنيوي على أجسادهم والمستعار منه هو الاحتفال الذي اعتاد القواد الرومانيون إجراءه في رومية عند رجوعهم من الحرب ظافرين محاطين بالجنود المنتصرة وبالأسرى والغنائم. والمراد «بموكب نصرته» في هذه الآية هم جماعة المحتفلين الذين رئيسهم الله وقوادهم الرسل ورفقاؤهم الذين جاهدوا بأمر ذلك الرئيس العظيم.
كان لبولس أعداء مقاومون من اليهود والأمم والإخوة الكذبة في كل مكان دخله للتبشير فتعب كثيراً من كثرتهم وقساوتهم لكن الله أراه انتصار الإنجيل على كل أولئك المقاومين وكان شديد الخوف من الانكسار في كورنثوس لشدة المقاومة فحوّل الله يأسه رجاء وحزنه فرحاً ونوحه ترنيمة شكر فأعطى كل المجد لله.
فِي ٱلْمَسِيحِ نسب نصره إلى المسيح لأنه ظفر بالاتحاد به وهذا يدل على نوع من أنواع النصر وهو نصر المجاهد في سبيل الحق.
رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ في هذا إشارة إلى البخور الذي كان يوقد في الاحتفال بالقواد الرومانيين المنتصرين ولعله شبّه نفسه بحامل بخور في موكب الله القائد الأزلي. وفي قوله «رائحة معرفته» استعارة مكنية شبّه في نفسه معرفة المسيح بالبخور وأثبت لها الرائحة دلالة على ذلك التشبيه. وكانت غاية الرسل والمبشرين نشر هذه الرائحة بأسفارهم وتبشيرهم وآلامهم ومصائبهم وهي رائحة طيبة سارة لله وللناس الذين يقبلونها ومعرفة المسيح مخلصاً وإلهاً متجسداً ووسطياً وملكاً أفضل من كل معرفة وهي غاية الفداء بدليل قوله «ٱلْمَسِيح َأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس ٥: ٢).
فِي كُلِّ مَكَانٍ دخله للتشبير بالإنجيل وذلك كثير بدليل قوله «حَتَّى إِنِّي مِنْ أُورُشَلِيمَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى إِللِّيرِيكُونَ، قَدْ أَكْمَلْتُ ٱلتَّبْشِيرَ بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ١٥: ١٩). وكان يخشى أن تكون كورنثوس مستثناة من نصرة الإنجيل ولكن مجيء تيطس إليه بأخبارها أزال خوفه وأفرحه كثيراً.
١٥ «لأَنَّنَا رَائِحَةُ ٱلْمَسِيحِ ٱلذَّكِيَّةِ لِلّٰهِ، فِي ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي ٱلَّذِينَ يَهْلِكُونَ».
١كورنثوس ١: ١٨ ص ٤: ٣
أَنَّنَا رَائِحَةُ ٱلْمَسِيحِ ٱلذَّكِيَّةِ لِلّٰهِ أي ناشروها فما نسبه في الآية السابقة إلى معرفة المسيح نسبه هنا إلى ناشري تلك المعرفة مجازاً. فالله يحسبهم (وهم يبثون بشرى المسيح) حاملين بخرواً طيّب الرائحة قبل الناس منهم الإنجيل أم لا.
وما نُسب هنا إلى بولس ورفقائه من مسرّة الله بهم لا لمزية خاصة بهم ولا لطهارة سيرتهم وغيرتهم في الخدمة بل للإنجيل الذي نادوا به. فكان الرسل حيث توجهوا للشهادة للمسيح كأنهم يكسرون بينهم قوارير الطيب وكانت ثيابهم كأنها ينتشر منها رائحة المر واللبان.
فِي ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ... يَهْلِكُونَ هما قسمان من الناس بشروا بالإنجيل ويعرف كل إنسان من أي ذينك القسمين هو بمعاملته للإنجيل. فالله يسر بإنجيله والمبشيرين به إن قبله الناس وخلصوا أو رفضوه وهلكوا. وبولس أيضاً سرّ بأن يكون حاملاً الإنجيل مع أنه كان يجهل ما يعلمه الله وحده من تأثيره في قلوب سامعيه. فالإنجيل كضوء الشمس فإن كانت العين سليمة سُرت به وإن كانت رمداء تألمت منه وربما تلفت. وأشار الرسول إلى ذينك القسمين بقوله «إِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١: ١٨ انظر أيضاً متّى ٢١: ٤٤ ولوقا ٢: ٣٤ ويوحنا ٩: ٣٩) فإن كان الرسول قد قصد هنا الإشارة إلى الموكب المذكور في (ع ١٤) فقد أصاب لأن بعض الذين ساروا في ذلك الموكب كانوا ظافرين ذاهبين ليأخذوا الأكاليل والهدايا وبعضهم كانوا أسرى ذاهبين إلى الموت في نهاية الاحتمال.
١٦ «لِهٰؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولٰئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ. وَمَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ؟».
متّى ٢١: ٤٤ ولوقا ٢: ٣٤ ويوحنا ٩: ٣٩ و١بطرس ٢: ٧ و٨ و١كورنثوس ١٥: ١٠ و ص ٣: ٥ و٦
لِهٰؤُلاَءِ الذين يرفضون الإنجيل ويهلكون.
رَائِحَةُ لم بييّن ما الذي أراده بالرائحة ألمسيح هو أم المبشرون به أم إنجيله فإنها تصدق على كل من ذلك لأنها إما واسطة حياة للبعض وإما واسطة موت للآخر. فإن كان المراد بها المسيح فهو على وفق قوله «فَلَكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُؤْمِنُونَ (بالمسيح) ٱلْكَرَامَةُ، وَأَمَّا لِلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ فَٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ، وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ» (١بطرس ٢: ٧ و٨). وإن كان المراد بها المبشرين فهو على وفق قول المسيح في الرسل الاثني عشر «حِينَ تَدْخُلُونَ ٱلْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ٱلْبَيْتُ مُسْتَحِقّاً فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ... اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ» (متّى ١٠: ١٢ - ١٥). وقوله للسبعين في (لوقا ١٠: ٩ - ١٢). وإن كان المراد بها الإنجيل فهو على وفق قوله «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّور... وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ ٱلْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ» (يوحنا ٣: ١٩ و٢١ انظر أيضاً يوحنا ١٥: ٢٢) ولنا من هذا أنه خير للإنسان أن لا يسمع الإنجيل من أن يسمعه ويرفضه.
مَوْتٍ أي مميت. وهو قيد الرائحة لغير المؤمنين فإن الله قصد أنها تكون للحياة لكنهم حولوها إلى سم وهذا كقول الرسول في الشريعة «وُجِدَتِ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلَّتِي لِلْحَيَاةِ هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ» (رومية ٧: ١٠).
وَلأُولٰئِكَ أي المؤمنين.
رَائِحَةُ حَيَاةٍ أي محيٍ وعلة حياة للذين يقبلونه فإنهم عرفوا به أن المسيح هو القيامة والحياة فقبلوه فكان لهم مصدر الحياة الأبدية. وقوله «موت لموت» و «حياة لحياة» إشارة إلى تدرجهم في كل من الأمرين لأن غير المؤمنين بمقاومتهم الحق ينتقلون من الموت الأدبي في الذنوب والخطايا في هذا العالم إلى الموت الأدبي والأبدي الذي هو الموت الثاني في العالم الآتي. ولأن المؤمنين يحيون هنا بالإيمان بالمسيح والاتحاد به فيتقدسون يوماً فيوماً بروحه إلى أن ينالوا الحياة الدائمة في السماء. وما قاله الرسول هنا في الإنجيل قاله الربانيون اليهود في الناموس. وما قيل هنا من أن الإنجيل علة الموت أو الحياة لا ينافي ما قيل في مواضع كثيرة من كتاب الله إن الخطيئة وحدها هي علة الموت وأن المسيح وحده هو علة الخلاص لأن الرسول وصف هنا نتيجة التبشير بالإنجيل حاسباً الناس كلهم خطأة وهالكين بخطاياهم وأبان طريق النجاة لكل الذين هم عرضة للموت فرفضه بعضهم فكان لهم علة زيادة الدينونة وقبله بعضهم فكان لهم علة الحياة الفضلى.
مَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ من استفهامية أي من هو أهل لأن يبشر بالإنجيل كما يجب وهو إما علة الموت الأبدي للسامع وإما علة الحياة الأبدية له. وجواب هذا السؤال قوله «لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا... بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ ٱللّٰهِ» (ص ٣: ٥). وقوله في الآية الآتية ما معناه أنه من الواضح أن المعلمين الكاذبين الذين يفسدون كلام الله لغاياتهم الدنيوية ليسوا بأهلاً للمناداة بالإنجيل. ومع أنه لم يدع أنه هو أهل لذلك من نفسه صرّح بأنّه أهل له بالنظر إلى المعونة السماوية. وخلاصة جوابه «إني بنعمة الله أهل لتلك الخدمة».
١٧ «لأَنَّنَا لَسْنَا كَٱلْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، لٰكِنْ كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ، بَلْ كَمَا مِنَ ٱللّٰهِ نَتَكَلَّمُ أَمَامَ ٱللّٰهِ فِي ٱلْمَسِيحِ».
ص ٤: ٢ و١١: ١٣ و٢بطرس ٢: ٣ ص ١: ١٢ و٤: ٢
لأَنَّنَا هذا تعليل لما سبق وبيان لأهليته بتمييز نفسه عن كذبة المعلمين.
كَٱلْكَثِيرِينَ أشار بهم إلى معهودين من كذبة المعلمين الذين ذكرهم مراراً في هذه الرسالة. ولا يُظن من ذلك أن بولس اعتبر أكثر المبشرين في الكنيسة خادعين لكن أراد أن الخادعين لم يكونوا قليلين وكان بعضهم ممن تمسكوا بالآراء اليهودية والتقاليد الفريسيّة وبعضهم اعتقد صحة بعض آراء الفلاسفة اليونانيين وبعضهم أنكر القيامة.
غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ بمزجها بكلام الناس من آراء فلسفية أو يهودية.
كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ أي كالمخلصين الذين غايتهم خالصة من شوائب الخداع تحتمل أشد الفحص والامتحان ولا يقصدون سوى الحق الصريح المعلن من السماء.
بَلْ كَمَا مِنَ ٱللّٰهِ أي باعتبار كوننا مولودين من الله وهو قد مسحنا وأرسلنا ويقودنا ونحن موقوفون له ومتكلمون بكلامه. وهذا على وفق قول المسيح «اَلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ يَسْمَعُ كَلاَمَ ٱللّٰهِ. لِذٰلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ٨: ٤٧). جاء في نبوة إشعياء ما نصه «تَطَهَّرُوا يَا حَامِلِي آنِيَةِ ٱلرَّبِّ» فوجب على الذين يبشرون باسم الله القدوس أن يكونوا قديسين.
ِنَتَكَلَّمُ أَمَامَ ٱللّٰه نشعر بحضوره وسمعه ومراقبته إيانا وهذا أعظم الموانع من أن يقصد أحد منا بتبشيره الربح الدنيوي ورضى الناس ويلجئه إلى أن يتكلم بالوقار والأمانة والغيرة على مجد سيده.
فِي ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق «بنتكلم» لأن المسيح موضوع كل تعاليم الرسل وهم متحدون به أعضاء جسده ومتعلمون ومنقادون بروحه القدوس. وقد صرّح بولس أنه ورفقاءه أهل لتلك المسؤولية الخطيرة التي هي إما رائحة حياة لحياة السامعين وأو رائحة موت لموتهم لأنهم لم يمزجوا كلام الله بتقاليد أو فلسفة أو غيرهما من التعاليم البشرية طمعاً في الربح الدنيوي أو رضى الناس فهم مخلصون وعبيد الله واقفون في حضرته يتصرفون تصرف المسيحيين الحقيقيين.

فوائد



  • إنه في هذا الأصحاح بيان لرفق بولس ولينه وبالنتيجة وجوب أن يكون ذلك من صفات كل راعٍ مسيحي وأدلة ذلك أربعة:

    • الأول: حذره من أن يأتي بشيء يدل على أنه يقصد إيلام المذنب.
    • الثاني: إنه لم يأمر بشيء من أنواع التأديب إلا ما يقتضيه العدل وحفظ النظام.
    • الثالث: إنه أتى ذلك بدموع كثيرة.
    • الرابع: إنه لم يذكر اسم المذنب ولا ما يدل عليه. ولنا من هذا أن نعرف الأسلوب اللائق في إجراء التأديب الكنسي (ع ١ - ١٠).


  • إنه يجب علينا إذا أذنب أخ ثم تاب أن نغفر له حالاً ولا نترك في قلوبنا شيئاً من الحقد عليه أفراداً وكنيسة (ع ٧ و٨).
  • إن على الكنائس الحذر من أن يطمع الشيطان فيها فإنه لا يفتر أن يجتهد في ذلك بكل الوسائل ولا سيما التأديب الكنسي وذلك بثلاث طرق:

    • الأولى: أن يغري الكنيسة بإهمال التأديب الواجب حين يكون المذنب غنياً أو وجيهاً وله في الكنيسة أصحاب كثيرون يتحزبون له.
    • الثانية: إنه يحملها على القساوة الزائدة في التأديب لأمور زهيدة كالخلاف في الأمور العرضية في العقائد.
    • الثالثة: إن يصوّب لهم عدم قبول المذنب بعد توبته واعترافه (ع ١١).


  • إنه يجب على الأفراد المسيحيين ما يجب على الكنيسة من أن يحذروا أن يطمع الشيطان فيهم وذلك بخمس طرق:

    • الأولى: أن يغريهم بأن يسلكوا سلوك أهل العالم فيشاركوهم في ملاهيهم وأزيائهم.
    • الثانية: أن يحملهم على التراخي في الدين وعلى قبول بعض الضلالات كأنها من العرضيات وبذلك تبطل شهادتهم للحق.
    • الثالثة: أن يلقيهم في اليأس والوسواس فيحمل غير المؤمنين على تجنّب الديانة المسيحية كأنها تمنع أهلها من المسرّات الجائزة.
    • الرابعة: أن يحملهم على الإفراط في التعصب حتى يبغضوا من لا يوافقهم في آرائهم ويضطهدوه.
    • الخامسة: أن يحملهم على الانشقاق والتحزب (ع ١١).


  • إنه على غير المؤمنين أن يحذروا من طمع الشيطان فيهم أكثر من أن يحذر غيرهم من ذلك وهو يحاول ذلك بأربع طرق:

    • الأولى: إنه يجعلهم آمنين من العقاب يوم الدين.
    • الثانية: إنه يجعلهم أن يؤخروا الاستعداد للموت.
    • الثالثة: إنه يضلهم عن مطاليب الدين فيسهل لهم الخلاص تارة ويوعّره عليهم أخرى.
    • الرابعة: إنه يقنع الشيخ بأن قد مضى وقت التوبة وطلب الخلاص والشاب بأن وقته وقت الفرح واللهو لا وقت التقوى فإن وقتها في الشيخوخة (ع ١١).


  • إنه كثيراً ما يرى بعض المبشرين ثمرة تبشيرهم في هذا العالم. فإنه كثرت المصائب على بولس لكن كانت له سبب للمسرة والشكر وهو «إن تعبه ليس باطلاً في الرب» (ع ١٤).
  • إن الراعوية خدمة سارة وكثيراً ما تكون رائحة حياة للحياة. ولا سرور أعظم من سرور خدمة الإنجيل حينما يأتون بكثيرين إلى التوبة والإيمان ويعزون المرضى والمصابين بتعزية الديانة ويهدون الضالين ويرشدون الخطأة إلى حمل الله الرافع خطايا العالم.
  • إن ما قيل هنا يبيّن أهمية عمل المبشرين فإن نتيجته أبدية ونتائج غيره من الأعمال وقتية. والخلاصة إن خلاص النفوس الأبدي متوقف على أمانة المبشرين (ع ١٥ و١٦).
  • إن الخدَمة الأمناء يثابون على أعمالهم بقطع النظر عن نتائجها فإنه تعالى ينظر إلى أمانتهم لا إلى أثمار أعمالهم فهم رائحة زكية لله قبل الناس تبشيرهم أم رفضوه. نعم إن كثيرين يسمعون الإنجيل ويهلكون ولكن علة ذلك رفضهم إياه فلا مدخل فيه للمبشر الأمين ولا للإنجيل (ع ١٥).
  • إن خدمة الراعي كثيراً ما تدعوه إلى الحزن لمعرفته إن بعض الذين يسمعون الإنجيل يهلكون فتكون دينونتهم أعظم من دينونة من لم يسمعوه فلا يكون لهم الإنجيل سوى رائحة موت للموت.
  • إن تأثير الإنجيل في السابع متوقف على السامع نفسه وهذا لا ينافي حث الروح القدس على قوله فله أن يقبل أو يرفض. إن الشمس علة حياة بعض اغصان الشجرة وعلة موت بعضها فإن كان الغصن ثابتاً في شجرته والشجرة ثابتة في منبتها أحيته وإن كان منفصلاً عنها أو كانت مقلوعة أيبسته وأماتته فكذا يكون الإنجيل حياة للبعض وموتاً للآخر (ع ١٦).
  • إن مسؤولية سامعي البشارة عظيمة لأنه على سمعهم تتوقف حالهم الأبدية فإن قبلوها خلصوا وإن رفضوها وأصروا على ذلك هلكوا إلى الأبد. والذي خاطبهم لم يخاطبهم بكلام نفسه بل بكلام الله فالله هو الذي خاطبهم بواسطته (ع ١٦).
  • إنه ينتج مما سبق وجوب أن تصلي الرعية من أجل راعيها وكثيراً ما طلب بولس من الكنائس أن تصلي من أجله. وإذ كان هو قد افتقر إلى تلك الصلاة فبالأولى أن يفتقر إليها المبشرون اليوم. ومما يوجب على الرعية تلك الصلاة أن الراعي ضعيف معرّض لتجارب ومقاومات كسائر المسيحيين ومعرّض فوق ذلك لمقاومات خاصة فإن الشيطان يحاربه أشد مما يحارب غيره باعتبار كونه قائد الجيش الروحي والعمل الموكول إليه أعظم من سائر الأعمال التي وكلت إلى البشر. وكثرة نجاحه أو قلته متوقفة على كثرة صلاة الرعية أو قلتها.
  • إنه على المبشرين أن يحذروا من أن يغشوا كلمة الله وأن يبشروا بها بكل أمانة وإخلاص فلا يمزجوها بفلسفة البشر أو تقاليدهم أو تصوراتهم أو بغير ذلك من البدع المذهبية (ع ١٧).




الأصحاح الثالث


أبان الرسول في هذا الأصحاح أن لا حاجة له إلى أن يمدح نفسه لهم أو أن يمدحوه لأن الله جعله أهلاً لأن يكون خادماً للعهد الجديد الذي يمتاز عن العهد القديم (ع ١ - ١١). وإنه يمارس خدمته بالنظر إلى مطاليب العهد الجديد (ع ١٢ - ١٨).
برهان أن الرسول أهل للتبشير وذكر مطاليب تلك الخدمة ع ١ إلى ١١


صرّح الرسول في نهاية الأصحاح السابق بإخلاصه وأمانته وأبان هنا أنه لم يقصد بذلك مدح نفسه لأنه لا يحتاج إلى أدنى مدح من البشر (ع ١). فإن مؤمني كورنثوس هم شهادة له بالإخلاص في عمله لأنهم ممن علّمهم ونصرّهم وهي شهادة ظاهرة لجميع الناس (ع ٢ و٣). وإن أهليته لعمله من الله لا منه وإنه تعالى منحه كل ما تقتضيه خدمته للعهد الجديد (ع ٤ - ٦). وإن العهد الجديد أفضل من العهد القديم لأن القديم عهد الموت والجديد عهد الحياة والأول للدينونة والثاني للتبرير ومجد الأول زائل ومجد الثاني باق (ع ٧ - ١١).
١ «أَفَنَبْتَدِئُ نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا، أَمْ لَعَلَّنَا نَحْتَاجُ كَقَوْمٍ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ إِلَيْكُمْ، أَوْ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ مِنْكُمْ؟»
ص ٥: ١٢ و١٠: ٨ و١٢ و١٢: ١١ أعمال ١٨: ٢٧
تمتاز هذه الرسالة عن سائر الرسائل التي كتبها بولس بأن أساليبها مختلفة باختلاف انفعالاته عند الكتابة فتارة يكتب مسروراً شاكراً لله لتأمله في محبة الكنيسة له وتوبتها وطاعتها وتارة يكتب وقلبه مملوء غيظاً لتذكره سيرة المعلمين الكاذبين فيها. فأخذ يعلن فرحه وشكره بالنظر إلى ما هو سار في كنيسة كورنثوس وعدل عن ذلك فجأة إذ خطر في باله إن في الكنيسة جماعة يتخذون كل ما كتبه على هذا الأسلوب وسيلة إلى الشكاية والتذمر عليه. وكان بولس لا يشك في أن يتخذ هؤلاء نبأ انتصاره بالمسيح في كل مكان وبيان إخلاصه وأمانته (ص ١: ١٥ - ١٧) وسيلة إلى شكايته «بأنه يمدح نفسه كعادته».
أَفَنَبْتَدِئُ نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا قال «نمدح» بالجمع والقرينة تدل على أنه لم يقصد سوى نفسه وبهذا القول دفع تهمة أعدائه أنه اعتاد أن يمدح نفسه في رسائله وخطبه.
لَعَلَّنَا نَحْتَاجُ كَقَوْمٍ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ الأرجح إن المعلمين المفسدين أتوا إلى كورنثوس بمكاتيب توصية ممن تنصروا من اليهود وهم أعداء لبولس وتعليمه كما صنع غيرهم من أصدقائه كأبلوس (أعمال ١٨: ٢٧) ويظهر من تواريخ الكنيسة الأولى أنه اعتاد الذين يجولون مبشرين والمنفيون من المؤمنين أن يأخذوا رسائل توصية من كنائسهم إلى الكنائس التي يأتون إليها فادعى أعداء بولس أنه لا يستحق ثقة أهل كورنثوس به لأنه لم يأتهم بمثل تلك الرسائل. فدفع بولس دعواهم بأنه ليس بغريب وأنه مشهور ومعروف عندهم بأنه رسول وإن أعماله بينهم تشهد له فلا يحتاج أن يأتيهم برسائل التوصية ولا أن يأخذها منهم إلى غيرهم.
٢ «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ».
١كورنثوس ٩: ٢
أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا لأنكم تنصرتم وآمنتم وتجددتم بواسطتنا. وما فعله المسيح فيكم يشهد لنا بأمانتنا في الخدمة ورضى المسيح بها فلا حاجة لنا إلى غير ذلك.
مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا إن محبة الأم لأبنها أفضل برهان على النسبة بينها وبينه فمحبة بولس لمؤمني كورنثوس برهان كاف على النسبة التي بينه وبينهم. فإنه تحقق محبته لهم من تفكيره فيهم وصلواته من أجلهم وأشواقه إليهم واهتمامه بهم فلم يحتج إلى دليل أقوى من ذلك. وقوله هنا كقوله «إِنَّكُمْ فِي قُلُوبِنَا لِنَمُوتَ مَعَكُمْ وَنَعِيشَ مَعَكُمْ» (ص ٧: ٣).
مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً الخ يستطيع كل الناس أن يروا التغير الناشئ فيهم بواسطة خدمة بولس لهم وأن يروا من ذلك دليلاً على أمانته وعلى أن الله رضي عمله وهذا موافق لقوله «أَنْتُمْ خَتْمُ رِسَالَتِي فِي ٱلرَّبِّ» (١كورنثوس ٩: ٢). فإن كورنثوس كانت من أشهر مدن العالم ولذلك كان ما يحدث فيها يشتهر في الآفاق.
٣ «ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ ٱلْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ».
١كورنثوس ٣: ٥ خروج ٢٤: ١٢ و٣٤: ١ مزمور ٤٠: ٨ وإرميا ٣١: ٣٣ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٦ وعبرانيين ٨: ١٠
ظَاهِرِينَ هذا نتيجة كونهم رسالة معروفة ومقروءة من جميع الناس.
أَنَّكُمْ رِسَالَةُ ٱلْمَسِيحِ أي تأليف المسيح فإنه اختار أن يُعرف في العالم بواسطة سيرة تلاميذه المقدسة فكثيراً ما جاء في الإنجيل أن الذين اشتراهم المسيح بدمه وقدسهم بروحه شهود له.
مَخْدُومَةً مِنَّا إن هداية مؤمني كورنثوس كانت عمل المسيح بواسطة خدمة بولس بمواعظه وآياته فإن حُسبوا رسالة فهم رسالة المسيح أملاها على بولس فكتبها.
مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ هذا بيان لفضل هذه الرسالة المجازية على الرسالة الحقيقية المكتوبة بحبر على ورق الحلفاء أو بالحفر في الحجر. والكتابة بالحبر يستطيعها كل كاتب وهي عرضة لأن تُنقض وأن تُحرّف وأن تُتلف.
بَلْ بِرُوحِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ الكتابة بروح الله لا يستطيعها غير المسيح. ومعنى العبارة إن تجديد مؤمني كورنثوس عمل إلهي خارق العادة دائم مجيد. وفي هذا دليل واضح أن بولس الذي هو آلة ذلك العمل خادم المسيح ووكيله. ونعت روح الله «بالحي» إيماء إلى ما منحهم من الحياة الجديدة الروحية.
ٍلاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّة كألواح الوصايا العشر (خروج ٣١: ١٨).
بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ هذا علامة ثانية لفضل تلك الرسالة المجازية التي أملاها المسيح وكتبها ظاهراً. فإن كتابة الوصايا العشر بإصبع الله على ألواح حجرية أيدت صحة خدمة موسى الذي تسلمها ولكن عمل الله في قلوب الناس أعظم وأقوى تأييداً لصحة خدمة الرسول. وما قيل هنا موافق لقول إرمياء النبي «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ ٱلرَّبُّ. بَلْ هٰذَا هُوَ ٱلْعَهْدُ ٱلَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ يَقُولُ ٱلرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ» (إرميا ٣١ - ٣٣). وقول حزقيال «أَجْعَلُ فِي دَاخِلِكُمْ رُوحاً جَدِيداً، وَأَنْزِعُ قَلْبَ ٱلْحَجَرِ مِنْ لَحْمِهِمْ وَأُعْطِيهِمْ قَلْبَ لَحْمٍ» (حزقيال ١١: ١٩). ولا يخفى ما في آية التفسير من الإشارة إلى التثليث ففيها الله والمسيح وروحه عاملين معاً في قلوب المؤمنين للخلاص.
٤ «وَلٰكِنْ لَنَا ثِقَةٌ مِثْلُ هٰذِهِ بِٱلْمَسِيحِ لَدَى ٱللّٰهِ».
ثِقَةٌ مِثْلُ هٰذِهِ أي كما ذُكر في (ع ٢ و٣ ومن ص ٢: ١٥ - ١٧). وهذه الثقة أقوى من الثقة الممكن تحصيلها من كتب التوصية لأنها شهادة الله بصحة رسوليته وبكونه أهلاً للقيام بفروض الخدمة التي أخذها من الرب يسوع ويمارسها بمراقبة الله. ولم تكن هذه الثقة مبنية على شيء في نفس بولس بل قدرة الله بدليل قوله «مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ» (كولوسي ١: ١١) وقوله «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقَوِّينِي» (فيلبي ٤: ١٣).
بِٱلْمَسِيحِ أي إن الذي دعاه رسولاً هو المسيح وأنه هو الذي منحه نعمة للقيام بما أوجبه عليه من أمور الرسولية.
لَدَى ٱللّٰهِ أي في حضرته باعتبار كونه مراقباً له ليرى أمانته وغيرته.
٥ «لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنْ نَفْتَكِرَ شَيْئاً كَأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِنَا، بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ ٱللّٰهِ».
يوحنا ١٥: ٥ وص ٢: ١٦ ١كورنثوس ١٥: ١٠ وفيلبي ٢: ١٣
صرّح قبلاً بأنه أهل لخدمة الإنجيل إذ قابل نفسه بالمعلمين الكاذبين الذين غشوا كلمة الله وأدّعوا أنه ليس أهلاً لتلك الخدمة وأبان هنا علة نسبته الأهلية إلى نفسه.
لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنْ نَفْتَكِرَ شَيْئاً نفى أنه أهل للخدمة في نفسه وأنه يستطيع أن يفتكر فكراً صالحاً فالأجدر أن لا قوة له على شيء من الأعمال الصالحة. فكونه أهلاً للرسولية لم يكن متوقفاً على معرفته واختباره وأمانته وغيرته أو غير ذلك من صفاته الشخصية.
ِكِفَايَتُنَا مِنَ ٱللّٰه أي ما حصلنا عليه من معرفة الروحيات ومن القداسة والقوة على العمل كلها هبة من الله وهذا كقوله «ولكن بنعمة الله أنا ما أنا» (١كورنثوس ١٥: ١٠).
٦ «ٱلَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ ٱلْحَرْفِ بَلِ ٱلرُّوحِ. لأَنَّ ٱلْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ يُحْيِي».
١كورنثوس ٣: ٥ و١٥: ١٠ وص ٥: ١٨ وأفسس ٣: ٧ وكولوسي ١: ٢٥ و٢٩ و١تيموثاوس ١: ١١ و١٢ و٢تيموثاوس ١: ١١ إرميا ٣١: ٣١ ومتّى ٢٦: ٢٨ وعبرانيين ٨: ٦ و٨ رومية ٢: ٢٧ و٢٩ و٧: ٦ رومية ٣: ٢٠ و٤: ١٥ و٧: ٩ و١٠ وغلاطية ٣: ١٠ يوحنا ٦: ٦٣ ورؤيا ٨: ٢ و١كورنثوس ١٥: ٤٥
في هذه الآية بيان كون كفايته من الله.
ٱلَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً أي إن الله جعلنا كذلك. وهذا برهان قاطع على أنه أهل للخدمة الرسولية.
عَهْدٍ جَدِيدٍ أي الإنجيل أو الدين المسيحي الذي كان بولس يخدمه. ووُصف «بالجديد» تمييزاً له عن العهد القديم الذي هو الناموس الذي أعطاه الله بني إسرائيل في طور سينا على يد موسى. وأشار المسيح إلى ذلك التمييز بقوله في الكأس «هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ» (متى ٢٦: ٢٨). وورد في كلام بولس في غير هذا المكان كذلك (١كورنثوس ١١: ٢٥). وجاء في الرسالة إلى العبرانيين ما نصه «هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ، حِينَ أُكَمِّلُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً الخ» (عبرانيين ٨: ٨ - ١٠ و٩: ١٥). والفرق بين العهد القديم والعهد الجديد إن الأول عهد الأعمال والثاني عهد النعمة وإن شرط الأول الطاعة وشرط الثاني الإيمان وإن المحرك على الطاعة في الأول خوف العقاب على المعصية والمحرك عليها في الثاني المحبة.
لاَ ٱلْحَرْفِ بَلِ ٱلرُّوحِ أي لسنا نحن خدم الحرف بل خدم الروح. والمراد «بالحرف»هنا الناموس و «بالروح» الإنجيل والدليل على ذلك أن الغاية من هذا الفصل مقابلة أحدهما بالآخر. وقد استعمل بولس كلاً منهما بمعناه هنا في مواضع أُخر منها (رومية ٢: ٢٢ و٢٧ - ٢٩ و٧: ٦). وعبر عن الناموس «بالحرف» لأنه كُتب بالحروف. ولم يقصد بذلك مجرد الوصايا العشر بل كل الشريعة الموسوية التي كثيراً ما تسمى «بالكتب» (يوحنا ٥: ٤٧ و٢تيموثاوس ٣: ١٥). والناموس شريعة خارجية عُرضت على الحواس فاستطاعت العين أن تبصرها والأذن أن تسمعها والعقل أن يدركها. ففيه للإنسان مقياس الواجبات لكن ليس فيه قوة على حفظه ولا إرادة لطاعته فلم يبق سوى حروف لا يصدر عنها شيء من الحياة. وأما الإنجيل مع كونه كُتب بحروف فهو روحي وقوة الله (رومية ١: ٦) والأداة التي بها يهب الروح القدس حياة للنفس. فإذا الفرق العظيم بين الناموس والإنجيل إن الأول خارجي والثاني داخلي روحي وإن الأول مجرد وصايا مكتوبة والثاني قوة محيية وإن الأول كُتب على حجر وورق والثاني كُتب على القلب.
ٱلْحَرْفَ يَقْتُلُ هذا تأثير الناموس ويصدق عليه أنه يقتل بثلاثة أمور:

  • الأول: إنه يوجب على الإنسان الطاعة الكاملة فيقول له «اعمل هذا فتحيا» (رومية ١٠: ٥ وغلاطية ٣: ١٢) و «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ» (غلاطية ٣: ١٠). وإذ لم يكن أحد من الناس يحفظ الناموس حفظاً تاماً كان الناموس يدين الإنسان ويحكم عليه بالموت.
  • الثاني: إنه يجعل الخاطئ يشعر بأنه محروم وعرضة لغضب الله والعقاب الذي يستحقه على خطاياه.
  • الثالث: إنه يضع تجاه الخاطئ قانوناً كاملاً للواجبات ولا يمنح شيئاً من القدرة على طاعته ولا شيئاً من الإرادة لها فلا ينشئ في النفس سوى الندم واليأس ويلزم من ذلك أنه يثمر موتاً. وأبان بولس أن الناموس يقتل في (رومية ٧: ٩ - ١١ و٨: ٢ و٣ وغلاطية ٣: ١٠ و٢١). ومن الواضح أن الرسول لم يرد هنا أن يعلم أن الناموس يقتل قتلاً جسدياً لأن ذلك القتل عاقبة الخطيئة حيث الناموس وحيث ليس ناموس.


ٱلرُّوحَ يُحْيِي هذا تأثير الإنجيل بدليل قول المسيح «اَلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا ٦: ٦٣). فالإنجيل يهب ما خلا منه الناموس وهو إرادة الطاعة والقدرة عليها وهو آلة الروح في تجديد القلب وتقديسه ولذلك سمى «خدمة الروح» (ع ٨) والإنجيل يحيي حيث يُبشر به فإنه أحيا آدم بعد سقوطه يوم بُشر بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية وأحيا إبراهيم يوم بُشر بأنه بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض. وأحيا الذين بُشروا به بواسطة الرسوم الموسوية وبإعلانات الأنبياء. وإحياءه الناس بتبشير المسيح والرسل كان أعظم وأظهر من ذلك كثيراً وطرق إحياءه ثلاثة:

  • الأول: إعلانه لنا بر المسيح منسوباً إلينا بالإيمان وهذا كاف لتبريرنا ونجاتنا من الدينونة والموت.
  • الثاني: تأكيده لنا محبة الله وتوقع المجد بدلاً من خوف غضب الله وعقابه.
  • الثالث: قدرته بفعل الروح القدس على تجديد قلوبنا وخلقنا ثانية بصورة الله ونقلنا بذلك من الموت إلى الحياة. والخلاصة إن الإنجيل يهب لنا حياة أدبية في الدنيا وحياة أبدية في الآخرة ويؤيد كل ذلك بقوله «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ». وقوله «إِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ، فَٱلْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَأَمَّا ٱلرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ ٱلْبِرِّ» (رومية ٨: ٢ و١٠ انظر أيضاً رومية ٦: ٤ و١١).


٧، ٨ «٧ ثُمَّ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ ٱلْمَوْتِ، ٱلْمَنْقُوشَةُ بِأَحْرُفٍ فِي حِجَارَةٍ، قَدْ حَصَلَتْ فِي مَجْدٍ، حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى وَجْهِ مُوسَى لِسَبَبِ مَجْدِ وَجْهِهِ ٱلزَّائِلِ، ٨ فَكَيْفَ لاَ تَكُونُ بِٱلأَوْلَى خِدْمَةُ ٱلرُّوحِ فِي مَجْدٍ؟».
رومية ٧: ١٠ خروج ٣٤: ١ و٢٨ وتثنية ١٠: ١ الخ خروج ٣٤: ٢٩ و٣٠ و٣٥ غلاطية ٣: ٥
خِدْمَةُ ٱلْمَوْتِ أي الناموس. عبّر عنه بخدمة الموت لأنه يثبت على الإنسان إثمه ويوجب عليه العقاب الأبدي لأنه عاجز عن القيام بمطاليبه فيقع تحت دينونته وليس للناموس أن يغفر له إذ لا دم كفارة فيه ولا نعمة تقدره على إطاعة الأوامر وليس سوى أن يأمر وينهي ويعاقب المذنب ولكن الله جعله «مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِٱلإِيمَانِ» (غلاطية ٣: ٢٤).
ٱلْمَنْقُوشَةُ بِأَحْرُفٍ فِي حِجَارَةٍ أشار بهذا إلى الوصايا العشر وأراد بها الناموس كله لأنها خلاصته. والمقصود أن الناموس خارجي معروض على حواس الإنسان الظاهرة وبذلك يمتاز عن الإنجيل لأن الإنجيل روحي يخاطب الروح ويحييها. وقد سبق بيان ذلك في الكلام على «الحرف» في تفسير الآية السادسة.
قَدْ حَصَلَتْ فِي مَجْدٍ الضمير في حصلت يرجع إلى «خدمة الموت» التي هي الناموس. ومجد الناموس قائم بأن مصدره الله وهو لائق بعدله تعالى وقداسته وفحواه إلا أن إرادته المقدسة وطريق إعلان الله له على طور سينا مجيدة فإنه أعلنه برعود وبروق وزلازل ونار ولعل معظم إشارة الرسول إلى هذا. فمجد الناموس كمجد الإنجيل إلا أنه أقل منه.
حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَنْظُرُوا هذا أحد الحوادث المقترنة بإعطاء الناموس الدالة على مجده.
وَجْهِ مُوسَى أخذ موسى الناموس من الله وكان وجهه شديد اللمعان حتى لم يستطع الشعب أن يحدق إليه فكان نوره يشبه ما ظهر من آيات حضور الله في قدس الأقداس. وكانت علة عجزهم عن النظر إلى ذلك الوجه الهيبة وشدة النور بدليل قوله «فَنَظَرَ هَارُونُ وَجَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَإِذَا جِلْدُ وَجْهِهِ يَلْمَعُ، فَخَافُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ» (خروج ٣٤: ٣٠).
ٱلزَّائِلِ الوقتي كسائر الظواهر المجيدة المقترنة بإعطاء الناموس.
بِٱلأَوْلَى خِدْمَةُ ٱلرُّوحِ فِي مَجْدٍ يتوقع القارئ أن يقول في الإنجيل هنا «خدمة الحياة» مقابلة لقوله في الناموس «خدمة الموت» لكنه دعاه «خدمة الروح» لأن الروح علة الحياة للذين يقبلونه. والدليل على أن المراد بخدمة الروح الإنجيل إنها جاءت بهذا المعنى في الآية السادسة وإن غاية الرسول هنا كغايته هناك وهي مقابلة الناموس الحرفي بالإنجيل الروحي.
رأى بعضهم أن المراد بالروح هنا الروح القدس ونحن رأينا أن المراد به الإنجيل كما في ع ٦ والمعنى واحد لأن الروح القدس هو الذي أنشأ الإنجيل وجعله آلة فعّالة للخلاص.
وأثبت الرسول أن الإنجيل أولى من الناموس بالمجد بأن الناموس خارجي لأن وصاياه «منقوشة بأحرف في حجارة» وسائر أموره المتعلقة بالخدمة الموسوية محسوس كما في الخيمة والهيكل والرسوم المختلفة وبأن الإنجيل داخلي وبواسطته يسكن الله نفس الإنسان ويُظهر فيها حضوره ونعمته ويكتب تعاليمه على القلب وبأن خدمة الناموس زائلة وأن كل ظواهر الشريعة الموسيّة رمزية وقتيه وأن خدمة الإنجيل باقية إذ لم يبق محل لغيره. وإن الناموس لا يستطيع أن يمنح الحياة للإنسان الساقط بل يوجب عليه الموت وأن الإنجيل يقدر أن يهب للإنسان الحياة المقدسة السعيدة الأبدية.
٩ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ ٱلدَّيْنُونَةِ مَجْداً، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً تَزِيدُ خِدْمَةُ ٱلْبِرِّ فِي مَجْدٍ».
رومية ١: ١٧ و٣: ٢١
هذه الآية إثبات لما سبق من أن خدمة الإنجيل أولى بالمجد من خدمة الناموس لأن خدمة البر أمجد من خدمة الدينونة.
خِدْمَةُ ٱلدَّيْنُونَةِ أي الناموس وسُمي بذلك لأنه يدين الإنسان على خطاياه كما سمي خدمة الموت في الآية السابعة ويأمر الإنسان بالبر الكامل ويحكم عليه بالدينونة لعصيانه فهو قادر على العقاب وعاجز عن الغفران.
مَجْداً لإظهارها قداسة الله وعدله وكرهه للخطيئة وإن كل ظواهر إعلانها في طور سيناء كانت مجيدة.
فَبِٱلأَوْلَى... خِدْمَةُ ٱلْبِرِّ فِي مَجْدٍ عبّر عن الإنجيل بخدمة البر لأنه يُعلن الله الذي به نتبرر وننجو من كل دينونة. فالإنجيل أفضل من الناموس بمقدار ما التصريح بالبر أفضل للإنسان من التصريح بالدينونة أي الحكم عليه بالموت الأبدي. والبر هنا ما يطلبه الناموس من القداسة لا التبرير بل أساسه لأنه بر المسيح الذي يُنسب إلى المؤمن. ومجد الإنجيل إعلان ذلك البر الكامل.
١٠ «فَإِنَّ ٱلْمُمَجَّدَ أَيْضاً لَمْ يُمَجَّدْ مِنْ هٰذَا ٱلْقَبِيلِ لِسَبَبِ ٱلْمَجْدِ ٱلْفَائِقِ».
ع ٩
فَإِنَّ ٱلْمُمَجَّدَ أي الشيء الممّجد والمراد به خدمة موسى والناموس الذي هو خادمه. وقد سبق الكلام على مجده في تفسير (ع ٧ - ٩).
لَمْ يُمَجَّدْ... لِسَبَبِ ٱلْمَجْدِ ٱلْفَائِقِ أي أن مجد الناموس حُجب بزيادة مجد الإنجيل كما أن القمر يفقد ضوءه ويبطل مجده بظهور الشمس.
ظهر موسى وإيليا بالمجد على جبل التجلي نواباً عن الناموس والأنبياء وأما المجد الذي ظهر به ابن الإنسان ففاق مجدهما (قابل ما في متّى ١٦: ١ - ٤ بما في رؤيا ١: ١٣ - ١٦). ومجد الإنجيل قائم بأنه إعلان يسوع المسيح من جهة تجسده واتضاعه وتعليمه ومعجزاته وموته على الصليب والآيات المتعلقة بذلك وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الله وسيطاً. نعم إن الناموس يُعلن مجد الله من جهة كونه قدوساً عادلاً والإنجيل يُعلن مجده من جهة كونه فوق ذلك إله الرحمة والمحبة. ففي الناموس نرى عرش الدينونة وفي الإنجيل نرى عرش النعمة والناموس ينادي بدينونة الخاطئ والإنجيل بالتبرير. والناموس يوجب على الخاطئ العقاب الأبدي والإنجيل يعد المؤمن بالحياة الأبدية.
١١ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلزَّائِلُ فِي مَجْدٍ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً يَكُونُ ٱلدَّائِمُ فِي مَجْدٍ».
في هذه الآية بيان فضل الإنجيل على الناموس بأن الأول دائم والثاني زائل.
ٱلزَّائِلُ اي النظام الموسوي وكل ما يتعلق به فإنه كان استعدادياً رمزياً ناقصاً لم يقصد الله دوامه. وغاية الرسالة إلى الغلاطيين والرسالة إلى العبرانيين بيان زوال الذبائح اليهودية والرسوم الموسوية لأنها كانت تشير إلى المسيح فبطل المشير لما جاء المشار إليه. فجاء في الرسالة إلى العبرانيين في الكلام على مقابلة الإنجيل بالناموس «فَإِذْ قَالَ «جَدِيداً» عَتَّقَ ٱلأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ ٱلٱضْمِحْلاَلِ» (عبرانيين ٨: ١٣).
فِي مَجْدٍ حين أعطاه الله في طور سينا وحين خدمته في الخيمة والهيكل وترتيبها بمقتضى أمر الله على يد موسى وهرون والكهنة وكانت مدة مجده نحو ١٥٠٠ سنة.
ٱلدَّائِمُ أي الإنجيل لأن مدة خدمته منذ مجيء المسيح إلى نهاية العالم فلا محل بينهما لنظام ثالث ولا لمسيح آخر ولا لإعلان آخر لطريق الخلاص لأن أيام الإنجيل هي «الأيام الأخيرة» بمقتضى كتاب الله. وتأثيرات خدمة الإنجيل لا تزول بل تبقى أبداً في الأرض والسماء لمجد الله وسعادة المخلَّصين. وقد سُمي الإنجيل «البشارة الأبدية» (رؤيا ١٤: ٦).

إن الإنجيل الذي بشر بولس به يمتاز عن الناموس بوضوحه وتحريره ع ١٢ إلى ١٨


أشار الرسول آنفاً إلى أن المجد الزائل الذي ظهر في وجه موسى كان رمزاً إلى وقتية مجد خدمته واتخذ هنا تبرقع موسى رمزاً إلى أمرين:
الأول: غموض الإعلان في الناموس الموسوي لأن الحقائق الروحية المقصودة به كانت مستترة برموز العهد القديم وظلاله.
الثاني: غلاظة عقول اليهود التي منعتهم من إدراك المعاني الصحيحة لرسوم ديانتهم (ع ١٢ - ١٥). على أن موسى حين رجع ووقف أمام الرب رفع البرقع عن وجهه كذلك متى رجع اليهود إلى المسيح يزول غموض الناموس عليهم والعماية عن قلوبهم لأن مشاهدة مجد المسيح تجعل المشاهد مثله (ع ١٦ - ١٨).
١٢ «فَإِذْ لَنَا رَجَاءٌ مِثْلُ هٰذَا نَسْتَعْمِلُ مُجَاهَرَةً كَثِيرَةً».
ص ٧: ٤ وأفسس ٦: ١٩
رَجَاءٌ مِثْلُ هٰذَا وهو ما ذُكر في الآية الرابعة من أهمية الإنجيل وخدمته وفضله على الناموس وخدمته. والرسول يتوقع أن يرى الناس كلهم ذلك كما رآه هو. وأشار بقوله «مثل هذا» إلى أن خدمة الإنجيل خدمة الروح (ع ٨) وأن تلك الخدمة تعلن طريق التبرير (ع ٩) وإنها دائمة إلى الأبد (ع ١١).
نَسْتَعْمِلُ مُجَاهَرَةً كَثِيرَةً أي أنه يبشر بالإنجيل كله بكل وضوح وبلا خوف وأتى ذلك لتيقنه أن الإنجيل الذي بشر به هو من الله وأنه الحق وأنه مجيد وهذا مثل قوله لشيوخ أفسس «لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ إِلاَّ وَأَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ جَهْراً» وقوله «لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ مَشُورَةِ ٱللّٰهِ» (أعمال ٢٠: ٢٠ و٢٧). وفعل ذلك مع أن بشارة الإنجيل لليونانيين جهالة ولليهود عثرة. كان من علامات العقائد الفاسدة أن معلميها يخفون كثيراً منها عمداً فإن لرباني اليهود وفلاسفة اليونان أسراراً كثيرة كتموها بحرص عن العامة وكشفوها لبعض مختاريهم. ومجد المبشرين بالإنجيل اليوم لا يزال كما كان في أيام بولس وهو أن ينادوا بكل الحق على أحسن إيضاح لتيقنهم أنه بجملته من الله وأنه مجيد في نفسه وموافق لكل الناس وضروري لخلاصهم. وخلاصة قول بولس هنا أنه لا محل في خدمة الإنجيل لوضع البرقع كما كان لموسى في خدمة الناموس.
١٣ «وَلَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعاً عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ ٱلزَّائِلِ».
خروج ٣٤: ٣٣ و٣٥ ع ٧ و١١
لَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى أتى موسى ذلك بمقتضى الخدمة التي وكلها الله إليه فإنها كانت قائمة بأمثال ورموز وعوائد ونبوءات تشير بها إلى عمل الفداء. وهذا خلاف ما قام به المسيح ورسله في العهد الجديد لأنه بعد ما أتى المسيح المرموز إليه حق أن تزول الرموز والإشارات إليه. مثل قوله في سر المسيح «ٱلَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو ٱلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ ٱلآنَ لِرُسُلِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِٱلرُّوحِ» (أفسس ٣: ٥) ولم يقصد بولس أن يلوم موسى لأنه لم يجاهر مثله في التعليم لأن موسى تصرف كما أمره الله والله قضى بأن يُعلن طريق الفداء تدريجاً من أول وعده بالمخلص لأبوينا الأولين إلى إتمام ذلك الوعد بمجيء المسيح وصلبه وموته وقيامته وارتفاعه فأعلن لإبراهيم أن الفادي يكون من نسله ولموسى أنه يكون نبياً مثله وأن كهنة العهد القديم وذبائحها رموز إلى المسيح وفدائه ولكن ذلك الإعلان التدريجي كان كافياً لخلاص الذين قبلوه مع أنه لم يكن كافياً لأن يدركوا به كل أمور الخلاص. وما قيل هنا موافق لقول المسيح لتلاميذه «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِٱلأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ» (مرقس ٤: ١١).
يَضَعُ بُرْقُعاً عَلَى وَجْهِهِ ليضعف به نور وجهه اللامع لا ليحجبه كل الحجب عن الشعب فاتخذ بولس ذلك رمزاً إلى تعليم موسى الحقائق الروحية فإنه لم يوضحها إلا بعد الإيضاح. ولا يلزم من ذلك أن موسى قصد بوضع البرقع الإشارة إلى إبهام تعليمه وكونه بعض الحق.
لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ... إِلَى نِهَايَةِ ٱلزَّائِلِ المراد «بالزائل» هنا هو المجد الذي علا وجه موسى وقتياً. و «بالنهاية» زوال ذلك المجد شيئاً فشيئاً إلى أن انتهى. إن موسى لم يذكر في سفر الخروج لماذا وضع البرقع على وجهه ولكنّا نستدل من سياق الكلام أنه أتى ذلك ليخفف رهبة الشعب فإن الشعب خاف أن يقترب إليه وينظر نور وجهه بدليل قوله «فَنَظَرَ هَارُونُ وَجَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَإِذَا جِلْدُ وَجْهِهِ يَلْمَعُ، فَخَافُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ... فَإِذَا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ وَجْهَ مُوسَى أَنَّ جِلْدَهُ يَلْمَعُ كَانَ مُوسَى يَرُدُّ ٱلْبُرْقُعَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يَدْخُلَ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ» (خروج ٣٤: ٣٠ و٣٥). وبولس قال إنه كان لموسى غاية أخرى من وضع البرقع وهي ما ذكره في هذه الآية أي أن لا يرى الإسرائيليون بأي سرعة يزول ذلك المجد فيستنتجوا أن خدمة الناموس التي ذلك المجد رمز إليها زائلة أيضاً. ويؤيد هذا قوله في سفر الخروج «لَمَّا فَرَغَ مُوسَى مِنَ ٱلْكَلاَمِ مَعَهُمْ جَعَلَ عَلَى وَجْهِهِ بُرْقُعاً. وَكَانَ مُوسَى عِنْدَ دُخُولِهِ أَمَامَ ٱلرَّبِّ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ يَنْزِعُ ٱلْبُرْقُعَ حَتَّى يَخْرُجَ» (خروج ٣٤: ٣٣ و٣٤). ونستدل من ذلك على أن وجه موسى كان مكشوفاً دائماً وهو يتكلم مع الله مكشوفاً تارة ومبرقعاً أخرى وهو يتكلم مع الشعب وأن غايته من وضع البرقع كان فوق تخفيف رهبة الشعب منعه من مشاهدة زواله. وصرّح بولس بأنه لا يخاف أن يزول مجد الإنجيل حتى يضع برقعاً يستر نهاية زواله.
١٤ «بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى ٱلْيَوْمِ ذٰلِكَ ٱلْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ ٱلْعَهْدِ ٱلْعَتِيقِ بَاقٍ غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، ٱلَّذِي يُبْطَلُ فِي ٱلْمَسِيحِ».
إشعياء ٦: ١٠ ومتّى ١٣: ١١ و١٤ ويوحنا ١٢: ٤٠ وأعمال ٢٨: ٢٦ ورومية ١١: ٧ و٨ و٢٥ وص ٤: ٤
محور كلام الرسول من أول هذا الأصحاح إلى هنا خدمته للإنجيل واستمر عليه في الأصحاح الرابع. وهذه الآية وما بعدها إلى نهاية هذا الأصحاح كلام معترض موضوعه العماية التي ألمت بأذهان اليهود في ما سبق.
بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ صرّح الرسول في ما سبق أنه بذل جهده في إيضاح ما بشر به (ع ١٢). وبيّن هنا علة عدم فهم اليهود كلامه وهي غلاظة أذهانهم. والأذهان جمع ذهن وهو العقل والمراد به هنا كل قوى الإنسان الباطنة وأفكاره وعواطفه والمعنى أن اليهود لم يدركوا فحوى أسفارهم ولم يشعروا بقوتها الروحية ولا بالميل إلى قبولها وهذا كقول المسيح فيهم في (مرقس ٦: ٥٢ و٨: ١٧).
كانت غاية رسوم العهد القديم الإشارة إلى المسيح لكن لظلمة قلوب اليهود وقساوتها لم يدركوا المشار إليه.
حَتَّى ٱلْيَوْمِ أي منذ ١٥٠٠ سنة إلى وقت تسطيره هذه الرسالة.
ذٰلِكَ ٱلْبُرْقُعُ نَفْسُهُ كان وقتئذ على وجه موسى فصار منذ عصره إلى عصر كتابة هذه الرسالة على قلوب اليهود. والمعنى أن المانع واحد فالذي منعهم من رؤية المجد في وجه موسى منعهم من إدراك المعنى في أسفاره. فإن الإسرائيليين في أيام موسى لم يفهموا المعنى الروحي من الناموس الذي أتاهم به. وأولادهم في أيام بولس لم يكونوا أفهم منهم فاكتفوا جميعاً بالرسوم الخارجية في دينهم بدون التفات إلى المشار إليه بها. ولم يعرفوا أن مجد الناموس زائل لأنه تمهيد لإتيان الدائم أي الإنجيل.
عِنْدَ قِرَاءَةِ ٱلْعَهْدِ ٱلْعَتِيقِ أي كتابه الذي سطر هو فيه. والذي كتم معناه عن اليهود هو تعصبهم وكبرياؤهم وتحاملهم واستنادهم على تقاليدهم.
بَاقٍ غَيْرُ مُنْكَشِفٍ أي لم يُرفع فحسب الرسول بقاء البرقع وغلاطة القلب شيئاً واحداً لوحدة النتيجة.
ٱلَّذِي يُبْطَلُ فِي ٱلْمَسِيحِ ولا يبطل إلا به فاليهود رفضوا المسيح فبقوا على ما كانوا عليه من الغلاظة والعماية. فالعهد القديم كتاب ألغاز وأسرار ورموز لا معنى لها لكل من لا يرى أنها إشارات إلى المسيح لأن «غاية الناموس هي المسيح» (رومية ١٠: ٤).
فما يحير العقول السليمة إن كتب اليهود تدل على المسيح أوضح دلالة فكانت ذبائحهم التي لا تحصى تشير إلى ذبيحته الوحيدة على الصليب. وكان أنبياؤهم جميعاً يتنبأون عنه بأجلى بيان. وقد أتى في ملء الزمان وصنع معجزات تفوق كل معجزات رؤسائهم وأنبيائهم ومع ذلك كله «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا ١: ١١).
١٥ «لٰكِنْ حَتَّى ٱلْيَوْمِ، حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، ٱلْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ».
لٰكِنْ أي بدل أن يُرفع البرقع.
حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى أي أسفاره الخمسة. ومثل هذا قوله «لأَنَّ مُوسَى مُنْذُ أَجْيَالٍ قَدِيمَةٍ لَهُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مَنْ يَكْرِزُ بِهِ، إِذْ يُقْرَأُ فِي ٱلْمَجَامِعِ كُلَّ سَبْتٍ» (أعمال ١٥: ٢١).
حَتَّى ٱلْيَوْمِ أي بعد نحو ثمان وثلاثين سنة لموت المسيح وقيامته وصعوده إلى السماء والمناداة به بينهم.
ٱلْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ علة عجزهم عن أن يروا في أسفار موسى الإعلان بالمسيح هي غلاظة قلوبهم لا إبهام أقوالها بدليل قول المسيح «أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ» (لوقا ٢٤: ٢٥ انظر أيضاً أعمال ١٣: ٢٧ - ٢٩). نعم إن الإعلان بالمسيح في العهد القديم غير ظاهر كظهوره في بشائر العهد الجديد ورسائله لكنه كان كافياً لأن يدركه اليهود لو صفت أذهانهم.
١٦ «وَلٰكِنْ عِنْدَمَا يَرْجِعُ إِلَى ٱلرَّبِّ يُرْفَعُ ٱلْبُرْقُعُ».
خروج ٣٤: ٣٤ ورومية ١١: ٢٣ و٢٦ إشعياء ٢٥: ٧
عِنْدَمَا يَرْجِعُ إِلَى ٱلرَّبِّ قلب الشعب أو الشعب نفسه.
يُرْفَعُ ٱلْبُرْقُعُ جاء في سفر الخروج ما نصه «وَكَانَ مُوسَى عِنْدَ دُخُولِهِ أَمَامَ ٱلرَّبِّ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ يَنْزِعُ ٱلْبُرْقُعَ» (خروج ٣٤: ٣٤). وقال بولس مثل ذلك من جهة اليهود وهو أنهم حين يرجعون إلى الرب يسوع يُرفع البرقع الذي يمنعهم من أن يروا أنه هو المسيح الموعود به وحينئذ يفهمون معنى كل الرموز والنبوءات وأنها تشير إلى ابن الله متجسداً وحين يرى بالإيمان الذي رآه موسى وجهاً لوجه في طور سينا ويضيء على اليهود نور الخلاص. وفي هذه الآية إشارة إلى أنه سيأتي وقت يقبل فيه اليهود الدين المسيحي وهذا ما يفيده قوله «يرجع إلى الرب» وفي إشارة إلى أنهم يرجعون أفواجاً لا أفراداً فقط وأنهم يفهمون معنى أسفارهم الصحيح وأن نبوءاتها متفقة في الدليل على أن يسوع هو المسيح.
١٧ «وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَهُوَ ٱلرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ ٱلرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ».
ع ١٦ و١كورنثوس ١٥: ٤٥ وع ٦ رومية ٨: ١٥ وغلاطية ٤: ٧
في هذه الآية نتيجة أخرى من رجوع اليهود إلى الرب غير رفع البرقع وهي نيلهم الحرية.
أَمَّا ٱلرَّبُّ الرب هنا يسوع المسيح وهو متمجد بدليل قوله «ٱلْبُرْقُعُ ٱلَّذِي يُبْطَلُ فِي ٱلْمَسِيحِ» (ع ١٤) وقيل أيضاً أنه يُرفع حين يرجع اليهود إلى الرب (ع ١٦). وغاية احتجاج الرسول في هذا الفصل إثبات أن يسوع المسيح هو الرب يهوه المشار إليه في كل معلنات العهد القديم وهو المرموز إليه بكل رسومها ورموزها وأن كل ما كان غامضاً أو مبهماً قبل اعترافهم به يصير واضحاً بيّناً عند معرفتهم إياه واعترافهم به.
فَهُوَ ٱلرُّوحُ أي أن المسيح هو الروح القدس بمعنى قوله «أنا والآب واحد» (يوحنا ١٠: ٣٠). وهذه الوحدة ليست بوحدة أقنومية بل وحدة جوهرية ووحدة قوة وتأثر فحيث يسوع المسيح هناك الروح القدس وحيث هذا الروح هناك المسيح. كثيراً ما جاء في الكتاب أن الروح القدس مصدر كل حياة وحق وقوة وقداسة وسعادة ومجد وما قيل فيه يصدق على المسيح لأنه هو والروح واحد وحيث يعمل الواحد يعمل الآخر أيضاً والدليل على أن الروح هنا هو الروح القدس تفسيره بروح الرب في بقية الآية.
حَيْثُ رُوحُ ٱلرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ أي أن الذين يرجعون إلى الرب يحصلون على الروح المحيي وحينئذ يتحررون من عبودية الناموس ويصيرون أولاد الله.
إن روح الرب هو الروح القدس ونسبته إلى الابن كنسبته إلى الآب. وقد دُعي «روح المسيح» (رومية ٨: ١٠). و «روح الابن» (غلاطية ٤: ٦) وكما قيل إن الآب يرسل الروح كذلك قيل إن المسيح يرسله (يوحنا ١٦: ٧). والحرية المذكورة هنا هي نتيجة سكنى الروح القدس في قلب المؤمن ونيله الفداء الذي اشتراه المسيح بدمه فهي «حرية مجد أولاد الله» (رومية ٨: ٢١) وهي التي «حرّرنا المسيح بها» (غلاطية ٥: ١). وهي تتضمن ثلاثة أشياء:

  • الأول: التحرير من الناموس الرمزي والأدبي باعتبار كونه واسطة التبرير أي التحرير من عبوديته ودينونته (رومية ٦: ١١٤ و٧: ٤).
  • الثاني: التحرير من سلطة الخطيئة والشيطان (رومية ٧: ٦ وعبرانيين ٦: ١٤ و١٥).
  • الثالث: التحرير من عبودية الفساد الجسدي والروحي (رومية ٨: ٢١ - ٢٣).


١٨ «وَنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ ٱلرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ ٱلصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلرُّوحِ».
ص ٤: ٤ و٦ و١تيموثاوس ١: ١١ و١كورنثوس ١٣: ١٢ رومية ٨: ٢٩ و١كورنثوس ١٥: ٤٩ وكولوسي ٣: ١٠
وَنَحْنُ جَمِيعاً أي المؤمنون الذين قد تحررنا من رسل وغيرهم.
نَاظِرِينَ بعين الإيمان.
مَجْدَ ٱلرَّبِّ أي مجد يسوع المسيح وهو عظمته باعتبار كونه ابن الله وقوته وجمال طبيعته وأنه حل فيه ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي ٢: ٩).
بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ لأنه بإيمانهم بالمسيح يُنزع البرقع ويتبدد كل الظلمة الناتجة عن الجهالة والضلال والكبرياء فأمكنهم أن يروا جلياً ما أعلنه الله لهم فصاروا كموسى حين تكلم مع الله وهذا خلاف حال غير المؤمنين.
كَمَا فِي مِرْآةٍ كانت مرايا القدماء من المعدن المصقول إلى الغاية فأمكنهم أن يروا فيها صور كل الأشياء الموضوعة أمامها فأنزل بولس هنا الإنجيل منزلة المرآة فإنه بقراءته ينظر المؤمن مجد المسيح بمعونة الروح القدس. وأتى بولس مثل هذا التشبيه في (١كورنثوس ١٣: ١٢) بياناً أن ما يُرى بالمرآة إنما يُرى جزئياً لا كلياً لكنه لم يقصد به هنا مثل هذا البيان إنما أراد إننا لم نره رأساً كالذين رأوه حين كان على الأرض ولا كما سنراه في السماء إنما رأيناه بواسطة إنجيله.
نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ ٱلصُّورَةِ عَيْنِهَا أي صورة المسيح فلا ريب أنه في هذا تشبيه بما حدث لموسى حين شاهد مجد الله في الجبل فصار جلد وجهه منيراً بتلك المشاهدة لكن ذلك التغير كان ظاهراً وقتياً ولكن المؤمنين يشاهدون مجد المسيح في الإنجيل فيتغيرون في الباطن أبداً فينتقلون من حال الخطيئة إلى حال القداسة بدليل قوله «إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢). وتلقبهم بالمسيحيين يشير إلى أنهم صاروا مثل المسيح. وهذا التغيّر العظيم لم يقصر على مجرد نفوسهم بل حدث في أجسادهم أيضاً بدليل قوله «كَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ ٱلتُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ ٱلسَّمَاوِيِّ» (١كورنثوس ١٥: ٤٩). وقوله «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١).
مما اختبرناه في هذا العالم إننا نتشبّه بالذين نعاشرهم ونعجب بآرائهم وأفكارهم ونحب ما يحبونه ونكره ما يكرهونه فبالأولى إننا متى أحببنا المسيح وتأملنا في صفاته وكلماته وأعماله واقتربنا إليه في الصلاة صرنا مثله لأن الروح القدس يطبع صورته على قلوبنا كما يتبيّن مما في آخر هذه الآية.
مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ هذا يشير إلى التقدم التدريجي في القداسة والمحبة والغيرة والمماثلة للمسيح. وهذا مثل قول المرنم «يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ. يُرَوْنَ قُدَّامَ ٱللّٰهِ فِي صِهْيَوْنَ» (مزمور ٨٤: ٧). أما مشابهة المؤمن للمسيح فتكون في أول إيمانه قليلة ولكنه بتكرار مشاهدته إياه يوماً فيوماً تزيد مشابهته له حتى يراه في السماء ويكون كاملاً في القداسة ويقف قدام العرش بلا عيب. وهذا أفضل من نتيجة مشاهدة موسى وجه الرب لأنها لم تكن سوى وقتية ولكن نتيجة مشاهدة مجد المسيح باطنة تزيد كل يوم وتبقى إلى الأبد.
كَمَا مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلرُّوحِ أي كما يتوقع من الرب الذي هو الروح القدس فإنه هو المغيّر والنتيجة تليق بذلك الفاعل المجيد. والقول هنا في (ع ١٧) والمعنى هنا كما هنالك أي أن الرب الذي هو والروح واحد متساويان في القوة والمجد لأنه حيث روح الرب هناك الرب نفسه وما يفعله هو يفعله الروح القدس. فالتغير الذي به نصير مثل المسيح هو فعله.

فوائد



  • إن من أجلى البينات على دعوة الله إنساناً إلى خدمة الإنجيل بركته الإلهية على أتعابه. نعم قد يكون المراؤون أو المخدوعون واسطة خير ولكن ذلك نادر جداً كما كان من تنبوء بلعام (ع ١ و٢).
  • إنه يحث للمبشر أن يستدل من تأثير تعليمه على أنه من الله. فإن بولس أثبت صحة تعليمه بتأثيره في كورنثوس فصار حيث علّم السكّير عائفاً والزاني عفيفاً والخادع مخلصاً والمجدّف مصلياً. والأثمار دليل على شجرتها (ع ٢ و٣).
  • إنه يجب أن يكون سلوك الراعي دليلاً على إخلاصه حتى لا يحتاج إلى دليل آخر عليه. فالذي يجتهد في عمل إرادة الله وتخليص النفوس لا يضطر إلى العناية بصيت نفسه بل يتركه لعنايته تعالى (ع ١ و٢).
  • إن الكنيسة المسيحية بمنزلة رسالة كتبها يسوع المسيح ليُري العالم صفاته وإرادته وإنها نائبته على الأرض وشاهدة بحقه ومجتهدة في أن تكون متمثلة به وغايتها غايته من بث بشرى الخلاص (ع ٣).
  • إن مركز الديانة في القلب فلا يكفي أن تكون مسطرة في الكتب بالحبر أو منقوشة على ألواح من الحجر فيجب أن تُطبع على صفحات القلب بروح الله وإلا فلا نفع لصاحبها منها (ع ٣).
  • إنه علينا أن نشعر بافتقارنا إلى الله في كل شيء ولا سيما الإعلان بما يجب من العقائد والأعمال والنجاح في التبشير إذ لا قدرة لأحد غير الله أن يغيّر القلب وإدراك أسرار الوحي والتعبير عنها والحفظ من الأوهام والضلالات الدينية (ع ٥).
  • إن الإنجيل حياة وقوة وهو قائم «بالروح» لا «بالحرف» وبالحقائق لا بالرسوم. فمهما تظاهر الإنسان بشعائر الدين وقلبه خال منها لم ينتفع شيئاً (ع ٦).
  • إن خدمة الإنجيل خدمة شريفة أشرف من خدمة موسى بقدر الإنجيل أمجد من الناموس. فكانت خدمة موسى «خدمة الموت والدينونة» وخدمة الإنجيل خدمة التبرير والتقديس ونتائجها لا تزول كنتائج خدمة الناموس (ع ٧ و٨).
  • إن ما قيل في هذا الأصحاح يبيّن جهل من يطلب التبرير بالناموس وقد أثبت الرسول أن الناموس خدمة الدينونة لأنه يطلب من الإنسان الطاعة الكاملة لله ولا يعد بالمغفرة وليس أحد من البشر قام بكل مطاليب الناموس. فإذاً الناموس لا يصرّح بسوى دينونة كل الناس ولا يخلص أحد من الخطأة إلا بإنجيل المسيح لأنه عهد الفداء (ع ٧ و٩).
  • إن الاستخفاف بالإنجيل إثم عظيم وخطر جسيم إذ ليس في سواه طريق إعلان للخلاص وهو خدمة الروح القدس فمن رفض الإنجيل أحزن ذلك الروح. إنه أُعلنت فيه رأفة الله وصفاته الحسنى أعظم مما أُعلنت في شريعة موسى. فمن استخف به استخف بتجسد المسيح وآلامه وموته التي هي أخص مواضيعه (ع ٨ - ١٠).
  • إنه يتأكد مما قيل في هذا الأصحاح أن اليهود سيرجعون إلى المسيح ويُزال البرقع الذي هو على عيونهم الآن فعلينا أن نؤمن بذلك ونبذل الجهد في طلبه في الصلاة وأن لا نتأخر عن اتخاذ كل الوسائل إلى تنويرهم وإرشادهم إلى النور (ع ١٦).
  • إنه علينا أن نقرأ العهد القديم بنور العهد الجديد لمعرفتنا الغاية من رسومه وذبائحه فيجب أن نعتبر أسفار العهدين سفراً واحداً وأن كلاً منها يوضح ويفسر الآخر وإلا حجبت عنا فوائده كما حجبت عن اليهود (ع ٤ و١٤).
  • إنه يمكن الإنسان أن يحصل على الكتاب المقدس ويقرأه كثيراً ولا يفهمه ولا ينتفع به كما كان من أمر اليهود قديماً. فإن لم نتأمل في حقائقه ونطلب إرشاد الروح القدس إلى معرفته كان ككتاب مختوم (ع ١٨).




الأصحاح الرابع


أمانة بولس وإفصاحه في تبشبره ع ١ إلى ٦
كون ضعفه وسيلة إلى أظهار قدرة الله التي جاءت بنتائج عظيمة بوسائط حقيرة (ع ٧ - ١٥)
قوة رجائه في المستقبل لرؤيته الأمور غير المنظورة منظورة (ع ١٦ - ١٨).
رجع الرسول في هذا الأصحاح إلى الكلام على الموضوع الذي تركه في (ص ٣: ١٢) وأبان أنه ليس جباناً ولا خادعاً في خدمة العهد الجديد المُعلن البر والحياة وإنه لم يشك في صدق كلامه ولا في نجاحه بين سامعيه ولذلك لم يمزج تعليم الإنجيل بغيره ولم يخف شيئاً من حقائقه (ع ١ و٢).
علة كتمان الإنجيل عن بعض الناس مع المناداة به بكل وضوح ليست إلا أن إله هذا العالم قد أعمى أذهانهم لأن موضوع الإنجيل المسيح وإعلان الإنجيل به واضح لصدور النور من الظلمة في بدء الخليقة (ع ٣ - ٦).
كون الإنجيل كنزاً في إناء خزفي وأنه مع كونه من الله وكون غايته إنارة العالم سُلم إلى أناس ليسوا بشيء بالنسبة إلى تأثيره لبيان أن قوة الإنجيل هي قوة الله لا قوة المبشرين به لأنهم كانوا مضطربين ومضطهدين وعرضة للموت أبداً ولكن يسوع المسيح كان يفعل بواسطتهم وكان نجاحهم برهاناً على كونه حياً مقتدراً (ع ٧ - ١٢) ولذلك كان إيمان الرسول وثيقاً كإيمان داود فأيقن إن الله الذي أقام المسيح من الموت يحفظه في العالم ويقيمه من الموت بعد وفاته. وكانت غايته من كل ما عمله وما احتمله نفع الكنيسة فتوقع أن يحمد الله كثيرون بواسطة خدمته (ع ١٣ - ١٥).
اتخاذه ما ذُكر على أنه لا يفشل «لأن إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً» (ع ١٦ - ١٨).
أمانة بولس وإفصاحه في تبشيره ع ١ إلى ١٦


١ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ، إِذْ لَنَا هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةُ كَمَا رُحِمْنَا، لاَ نَفْشَلُ».
ص ٣: ٦ ١وكورنثوس ٧: ٢٥ و١تيموثاوس ١: ١٣
مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي بناء على ما سبق من فضل خدمة العهد الجديد على خدمة العهد العتيق.
هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةُ أي خدمة الإنجيل التي هي خدمة «الروح لا الحرف» وخدمة «البر لا الدينونة» وخدمة «الحياة لا الموت» وخدمة المجد لا خدمة الظلال الزائلة ولذلك فاقت خدمة الناموس مجداً.
كَمَا رُحِمْنَا حسب بولس اشتراكه في تلك الخدمة المجيدة ورحمة منه تعالى وهذا كقوله «أَشْكُرُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا ٱلَّذِي قَوَّانِي، أَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِيناً، إِذْ جَعَلَنِي لِلْخِدْمَةِ، أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً» (١تيموثاوس ١: ١٢ و١٣ انظر ايضاً رومية ١٥: ١٥ و١٦ و١كورنثوس ١٥: ٩ و١٠ وأفسس ٣: ٨).
لاَ نَفْشَلُ من تعب أو هول أو يأس حتى نقصّر عن الأمانة والرغبة لأن عظمة تلك الخدمة ومجدها يمنعان الفشل.
٢ «بَلْ قَدْ رَفَضْنَا خَفَايَا ٱلْخِزْيِ، غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ، وَلاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، بَلْ بِإِظْهَارِ ٱلْحَقِّ، مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ قُدَّامَ ٱللّٰهِ».
ص ٢: ١٧ و١تسالونيكي ٢: ٣ و ٥ ص ٦: ٤ و٧ و٧: ١٤ ص ٣: ١ و٥: ١١
في هذه الآية برهان على عدم فشله من تصرفه ولا ريب في أنه وصف بما نفاه عن نفسه المعلمين الكاذبين في كورنثوس.
رَفَضْنَا خَفَايَا ٱلْخِزْيِ أي الطرق الملتوية المستترة المؤدية إلى إدراك الغايات من تكثير الاتباع وتحصيل المدح من الناس وسائر ما يستحي الإنسان من الاعتراف به علناً. فصرّح الرسول بأنه اعتزل كتم الحق في الوعظ واستعمال مبهم الكلام للخداع.
غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ لتحصيل غايتنا فهذا تفسير لقوله «رفضنا خفايا الخزي». إن الشيطان سلك في المكر بغية خداع حوّاء (ص ١١: ٣) وسلك الكتبة فيه ليصطادوا المسيح بكلمة (لوقا ٢٠: ٢٠ و٢٣) وسلك كذلك المعلمون الكاذبون لإضلال الناس (أفسس ٤: ١٤).
لاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ بزيادة أو نقصان أو خلطها بتقاليد يهودية أو فلسفة يوناينة (ص ٢: ١٧). واعتبر الرسول الإنجيل «كلمة الله» لأن الله أوحى به ولأن سلطانه سلطان الله ولأنه تام مستوف. فغاشوا كلمة الله يقتصرون على المناداة بعقائد الإنجيل التي تُرضى الناس وتسكت عما تكرهه أو تستثقله طبيعة الإنسان الساقط.
بِإِظْهَارِ ٱلْحَقِّ كله صافياً كما أعلنه الله في كتابه.
مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ لم يقصد أن يتوصل إلى ثقة الناس ومدحهم بالحيل أو تحريف الحق كما فعل المعلمون الكاذبون لأن الحق تجرد إظهاره شهادة له عند كل ذي ضمير صالح. قال المسيح «ٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا» (لوقا ٧: ٣٥). فتوقع بولس أن يبرره جميع بني الحكمة وإن الأشرار مع بغضهم للحق ومعلميه تشهد ضمائرهم له ولهم لأن الحق من الله وهو خالق الضمائر التي هي شهود داخلية به فتكون أصواتهم على معلمي الحق وضمائرهم معهم.
ِقُدَّامَ ٱللّٰه أثبت إخلاصه في غاياته وتصرفه بأنه أتى كل هذا كأنه في حضرة ذلك الذي سوف يقف أمامه للدينونة وهو الذي يعاقب الخادعين.
٣ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُوماً، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي ٱلْهَالِكِينَ»
١كورنثوس ١: ١٨ وص ٢: ١٥ و٣: ١٤ و٢تسالونيكي ٢: ١٠
من الجلي أن الإنجيل مع كونه مجيداً وبُشر به بكل وضوح لم يزل مكتوماً عن بعض الناس فلم يقبلوه إعلاناً من الله. ولا علة لذلك إلا كونهم من الهالكين كما أنه من البيّن أن الذي لا يرى الشمس عند الظهيرة والجو صاف هو أعمى وذلك على وفق قوله «إِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ» (١كورنثوس ١: ١٨). إن الإنسان الذي يرفض الإنجيل يحكم على نفسه بأنه ميت بالذنوب والخطايا وإنه من جملة الذين دينونتهم محققة وهلاكهم مؤكد. إن الكتاب المقدس أوضح لنا أنه يستحيل على الإنسان أن يدخل السماء بعد أن عُرض الإنجيل عليه ورفضه. قال السيد نفسه «الذي لا يؤمن يدان» (مرقس ١٦: ١٦). وهو ممن قال المسيح لهم «لا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم حياة» (يوحنا ٤: ٤٠). كأن أهل العالم بأسرهم في حال الدينونة عرضة للهلاك بسبب خطاياهم فأعطاهم الله إنجيله ليعلن لهم طريق الخلاص فالذين كُتم عنهم ذلك الإعلان يهلكون بخطاياهم لا محالة.
٤ «ٱلَّذِينَ فِيهِمْ إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ».
يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠ و١٦: ١١ وأفسس ٦: ١٢ إشعياء ٦: ١٠ ويوحنا ١٢: ٤٠ وص ٢: ١٤ ص ٣: ٨ و٩ و١١ و١٨ وع ٦ يوحنا ١: ١٨ و١٢: ٤٥ و١٤: ٩ وفيلبي ٢: ٦ وكولوسي ١: ١٥ وعبرانيين ١: ٣
في هذه الآية بيان علة أن الهالكين لا يرون حق الإنجيل ومجده فهي ليست عدم وضوح الإنجيل ولا عجز عقولهم عن إدراكه بل إعماء الشيطان لأذهانهم.
ٱلَّذِينَ أي الهالكين.
إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ لقب الشيطان بإله هذا الدهر لسلطته على أهل العالم وخضوعهم الاختياري له فجعله بمنزلة إله لهم وإن لم يقصدوا عبادته أو يعرفوا وجوده قال بولس في عبدة الأوثان أنهم يعبدون الشياطين (١كورنثوس ١٠: ٢٠). فالذين يتبعون شهواتهم يعملون إرادة الشيطان كما أن الصالحين يعملون إرادة الله. إن عدم خدمة إله السماء خدمة لإله هذا الدهر فإن لم نختر الله إلهاً لنا اخترنا الشيطان كذلك وبهذا دُعي الشيطان «رئيس هذا العالم» (يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠). وادعى هذه السلطة حين جرب المسيح «وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْمَسْكُونَةِ... وَقَالَ «لَكَ أُعْطِي هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ، لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ، وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ» (لوقا ٤: ٥ و٦).
احتج بهذه الآية أتباع ماني على قولهم بإلهين أزليين أحدهما إله الخير والآخر إله الشر ولا تعني إلا أن بعض الناس أنزل الشيطان منزلة الله كما قيل في بعضهم إن «آلهتهم بطونهم» (فيلبي ٣: ١٩ و١٦: ١٨). وفي الصيدونيين إن عشتروت إلههم. وفي المؤآبيين أن كموش إلههم. وفي بني عمون أن ملكوم إلههم (١ملوك ١١: ٣٣). وفي عقرون أن بعلزبوب إلهها (٢ملوك ١: ٢). وفي ملك أشور أن نسروخ إلهه (٢ملوك ١٩: ٣٧). فاتخاذ أولئك الناس الأوثان آلهة لا يثبت منه أنهم آلهة أزلية واجبة الوجود.
قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ للشيطان من السلطة على عقول هؤلاء ما يتمكن به من أن يمنعهم عن أن يروا مجد إنجيل المسيح وهو لا يفتأ يبذل الجهد في رد الناس من نور الحق إلى ظلمة الباطل ولا عجب مما ذُكر لأن لأشرار الناس سلطة عظيمة على أن يقودوا غيرهم إلى الضلال فبالأولى أن تكون «لجنود الشر الروحية» (أفسس ٦: ١٢). وليس في ذلك ما ينفي حرية «عُمي الأذهان» ومسؤوليتهم بل ما يوجب على كل إنسان من مقاومة الحق لئلا «يسلمه ٱللّٰهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ» (رومية ١: ٢٤ و٢٨). و «غير المؤمنين» في هذه الآية هم «الهالكون» في الآية التي قبلها. ولنا من ذلك أن علة هلاكهم عدم إيمانهم وعلة عدم إيمانهم إعماء الشيطان لأذهانهم. فإن قيل ما علة تسلط الشيطان عليهم قلنا إنها رفضهم النور كما في قول الرسول «أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ» (رومية ١: ٢١). وما في قول المسيح «ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ» (يوحنا ٣: ١٩).
لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ هذا غرض الشيطان من إعماء أذهانهم ونتيجة ذلك الإعماء أيضاً.
إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ دُعي كذلك لأنه يُعلن مجد المسيح الذي هو كل الكمال الإلهي والإنساني. وهذا مثل قوله «مجد الله في وجه يسوع المسيح» (ع ٦). فمجد المسيح قائم بأنه هو الذي يُعلن الله لخلائقه وهو مركز عبادة القديسين في السماوات والأرض وموضوع محبتهم وتسبيحهم. والذين يرون ذلك المجد هم الذين يخلصون لأنهم برؤيتهم إياه يتغيرون إلى صورته (ص ٣: ١٨). فغاية الإنجيل ٰإعلان مجده للناس فيبذل الشيطان كل ما في وسعه لمنع إنارة الإنجيل لأذهانهم لئلا يروا مجد المسيح. فكما لا يرى العميان حقيقة الشمس وهي تضيء بقوتها كذلك لا يستطيع الذين أعمى الشيطان أذهانهم أن يروا مجد المسيح المشرق في إنجيله وعلى هذا قال المسيح في مثَل الزارع «َٱلَّذِينَ عَلَى ٱلطَّرِيقِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ ٱلْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا» (لوقا ٨: ١٢). ولأن المسيح أتى لينقض أعمال إبليس قال لبولس «أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ (أي الأمم) لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال ٢٦: ١٧ و١٨).
ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ أي مظهره لكونه هو الله وقد جاء لهذه الغاية فيصح أن يُقال «من رأى الابن فقد رأى الآب» (يوحنا ١٤: ٩). وهو بالنظر إلى طبيعته الإلهية «بهاء مجد الله ورسم جوهره» (عبرانيين ١: ٣) و «في صورة الله ومعادل له» (فيلبي ٢: ٦). وباعتبار كونه إلهاً متجسداً قيل في هذه الآية إنه هو صورة الله إذ فيه «يحل كل ملء اللاهوت جسدياً» (كولوسي ٢: ٩). ولا يخفى على القارئ ما في قوله من المقابلة بين مجد وجه موسى من مشاهدته الله على الجبل ومجد وجه المسيح الناشئ عن كونه إلهاً وإنساناً معاً وإنارة قلوب المؤمنين بمشاهدتهم مجد المسيح في إنجيله.
٥ «فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلٰكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ».
١كورنثوس ١: ١٣ و٢٣ و١٠: ٣٣ و١كورنثوس ٩: ١٩ وص ١: ٢٤
فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا الفاء سببية فكأنه قال إنجيلنا إنجيل مجد المسيح لأننا نكرز بالمسيح لا بأنفسنا. إن الذين يبشرون بأنفسهم غايتهم من التبشير نفع أنفسهم من مالٍ أو مدح من الناس ليعجبوا بهم ويتبعوهم فهم عرضة لأن يمزجوا آراءهم أو آراء غيرهم من الناس بكلام الله أو يخفوا بعض تعاليم الوحي. فنفى بولس ذلك عن نفسه كل النفي إذ ليس له من غرض شخصي بل كان سفيراً للمسيح وشاهداً بما رأى وسمع من أمره.
بَلْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً صرّح بولس إن غاية كرازته أن يقنع الناس أن يسوع الناصري هو مسيح الله (متّى ١: ١) الذي أنبأ به موسى وسائر الأنبياء وإنه قد أكمل كل ما قيل في النبوءات إنه يكمله وإنه «الرب» الذي سيعترف باسمه كل من في السماء والأرض (مزمور ٢: ٦ وإشعياء ٩: ٦ و٧ ومتّى ٢٨: ١٨ ويوحنا ١٧: ٢ وأفسس ١: ٢٠ وعبرانيين ٢: ٨).
إن الذي كان غاية بولس من التبشير يجب أن يكون غاية سائر المبشرين منه وغير ذلك التبشير «لا ينفع الناس لا دينا ولا أدباً» وهو الواسطة الوحيدة إلى صلاح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
زعم فلاسفة اليونان أنه بتعليمهم الناس مبادئ الحكمة والأدب يجعلونهم حكماء وأتقياء واعتبر بولس حكمتهم جهالة وتعبهم عبثاً فبذل الجهد في أن يحملهم على أن يتخذوا المسيح رباً ويحبوه ويطيعوه ويتكلوا عليه ليكونوا مثله ويخلصوا بواسطته.
إن الذين يحتاج الناس إليه اليوم ليس التعليم بل المعلم السماوي ولا النبوءة بل النبي ولا الشريعة بل الشارع ولا الذبائح بل الذي هو كاهن وذبيحة معاً ولا الخلاص بل المخلص ولا بار من الناس والملائكة بل المبرر الذي هو الإله المتجسد الساكن في قلوبنا والشافع فينا أمام العرش الأعلى والمالك الآن والذي سيملك حتى يضع كل شيء تحت قدميه.
بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ اعتبر بولس يسوع رباً ولكنه لم يعتبر نفسه إلا عبداً. فالعبد لا يتعب لنفع نفسه بل لنفع غيره فإنه لم يسع في خير نفسه بل في خير مؤمني كورنثوس وهذا مثل قوله «فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرّاً مِنَ ٱلْجَمِيعِ، ٱسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ ٱلأَكْثَرِينَ» (١كورنثوس ٩: ١٩).
مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ محبة الرسول للمسيح حملته على وقف نفسه لخدمة مؤمني كورنثوس نعم إن حبه لهم ورغبته في نفعهم مال به إلى ذلك لكن معظم المحرّك له إلى ذلك محبته للمسيح ورغبته في إرضائه وتمجيده. ونحن يجب علينا أن نقف أنفسنا لخدمة إخوتنا في كنيسة المسيح رأسها وسيدها.
٦ «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
تكوين ١: ٣ و٢بطرس ١: ١٩ ع ٤ و١بطرس ٢: ٩
هذه الآية متعلقة بالجملة الأولى من الآية الخامسة وهي بيان على تبشير الرسول بالمسيح فقط فإن غاية الله في إنارة قلوبنا أن نرى مجد المسيح ونعلنه لغيرنا. وفيها خلاف ما في الآية الرابعة وهو منافاة غاية الله لغاية الشيطان فإن غاية الله إنارة القلوب لترى نور مجد المسيح وغاية الشيطان إعماء الأذهان لئلا ترى ذلك النور.
ٱلَّذِي قَالَ... مِنْ ظُلْمَةٍ في هذا إشارة إلى عمل الله في أول أيام الخليقة إذ كانت الظلمة مستولية على كل العالم ولم يكن قد أشرقت شمس أو طلع قمر أو بزغ نجم ثم قال الله «ليكن نور فكان نور» (تكوين ١: ٣). وكانت الأرض خربة خالية فحين ظهر النور ابتدأت الحياة والترتيب والنمو والجمال والمعرفة والسعادة وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله. وهو لم يأت في خلقه إلا أن «قال فكان وأمر فصار» (مزمور ٣٣: ٩).
هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا كان خلق النور الظاهر لإنارة العين رمزاً إلى إنارة النفس بالنور الباطن. وكانت الظلمة التي استولت على العالم رمزاً إلى ظلمة قلوب الناس الخطأة لأن نور الله في النفس أطفأ عندما خطئت. إن عمل الله الأول في اليوم الأول انفصال النور عن الظلمة وأول فعل النعمة في القلب إنارته من العلى وكلاهما عمل الله وكلاهما يحتاج إلى قوة إلهية فالإنسان عاجز بالطبع عن معرفة الله وما يجب عليه والطريق المؤدية إلى السماء كعجزه عن خلق الشمس. لم يكلف الله إيجاد النور الحقيقي في عالم الظلمة سوى كلمة ولكن إيجاد نور الحياة في نفوس الناس كلفه إتيان ابنه إلى العالم وتجسده وموته على الصليب.
كان خلق النور المحسوس إعداداً لما بعده من الترتيب والنمو والجمال وإيجاد النور المعقول في النفس حين تجديدها إعداداً لتبريرها وتقديسها ونموها في المعرفة والمحبة والإيمان والرجاء.
لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ إن الله ينير عقولنا لندرك معرفة مجده الأسنى ونسبحه ونعظمه ونمجده وكل الفضل في ذلك له.
إنه لا ينزع حرية النفس في جذبها إليه إنما يشرق بنوره عليها لترى خطيئتها وخطرها وطريق الخلاص وجمال المرشد السماوي وجودته وإحسانه فإنه هو المنجي من الهلاك الأبدي.
فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لا نستطيع أن نرى وجه الله ونحيا (خروج ٣٣: ٢٠) فيعلن الله نفسه لنا بواسطة ابنه متجسداً وهذا على وفق قوله «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨ انظر أيضاً متّى ١١: ٢٧). وبدون المسيح لا نقدر أن نعرف الله حق معرفته لأنه «كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ ٱلٱبْنَ لَيْسَ لَهُ ٱلآبُ أَيْضاً» (١يوحنا ٢: ٢٣). ولأن يسوع «نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢). وكما أننا لا نستطيع معرفة الله بالمسيح بمجرد عقولنا كذلك لا نقدر أن نعلنه لغيرنا لأن ذلك مما يختص بالله فنحتاج إلى أنه هو يشرق في قلوبنا لمنحنا تلك المعرفة كما هو واضح في هذه الآية وفي (متّى ١٦: ١٧ و٢كورنثوس ١٠: ١٥ وغلاطية ١: ١٦) وفي الآية إشارة إلى مجد الله الذي أشرق من وجه موسى حين نزل من الطور ولم يستطع بنو إسرائيل النظر إليه ولكن ذلك المجد أشرق بأعظم بهاء من وجه يسوع المسيح ولم نحتج إلى برقع بيننا وبينه وإنه فوق هذا لم يكن زائلاً كذلك فهو باق إلى الأبد.
ابتدأ إشراق هذا النور من شخص المسيح وهو طفل في بيت لحم وظل مشرقاً ثلاثاً وثلاثين سنة للذين قدرهم الروح على أن يروه ابناً لله والآن يشرق لنا بإنجيله بمعونة ذلك الروح نفسه.

كون ضعف بولس وسيلة إلى إظهار قدرة الله التي جاءت بنتائج عظيمة بوسائط حقيرة ع ٧ إلى ١٥


٧ «وَلٰكِنْ لَنَا هٰذَا ٱلْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ ٱلْقُوَّةِ لِلّٰهِ لاَ مِنَّا».
ص ٥: ١ و١كورنثوس ٢: ٥ وص ١٢: ٩
هٰذَا ٱلْكَنْزُ لم يُعن بالكنز «إنارة معرفة مجد الله» بل خدمة الإنجيل الذي هو موضوع تعليمه في هذا الفصل ودعاها كنزاً لأنها خدمة الحياة والقوة والمجد وبها تظهر قوة الروح القدس وحياة المسيح. وهي تُعلن أعظم الحقائق وتنتج نتائج غريبة فتحرر الناس من سلطة الخطيئة والدينونة. وبها يتغير الناس إلى صورة المسيح. ويُعتقون من عبودية هذا العالم ويصيرون شركاء الحياة الأبدية. واستحقت أن تُدعى كنزاً بالنظر إلى عظمة قيمة الحقائق التي هي تتضمنها فتنير الكنيسة بها في كل العصور وتُبنى وتُغنى.
فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ أي من الفخار. المرجح أن الرسول اختار هذا التشبيه لأن الملوك والأغنياء القدماء اعتادوا أن يخبأوا كنوزهم من الفضة والذهب والجواهر في آنية من الخزف (انظر إرميا ٣٢: ١٣ و١٤) أو أنه اختاره بياناً لعدم المناسبة بين الجواهر الكريمة والأواني الخزفية التي تُكنز فيها. والمشبه هنا الرسول نفسه وسائر الرسل والمبشرين لأنهم ليسوا ملائكة أطهاراً مقتدرين قوة لكنهم بشر ضعفاء عرضة للآلام والموت. ولم يعنِ أنهم ضعفاء الأجسام فقط بل ضعفاء الأرواح أيضاً وعنى ذلك بياناً لعدم أهليتهم لأن يكونوا آلات لبثّ بشرى الخلاص ووسائل إلى فاعليتها العجيبة. والغاية من كل ذلك إثبات أن قوة الإنجيل من الله لا من الناس.
لِيَكُونَ فَضْلُ ٱلْقُوَّةِ لِلّٰهِ الخ أي ليعرف كل الناس ويعترفوا أن قوة الإنجيل العجيبة من الله لا من الناس المبشرين به. وما قاله بولس في هذا الفصل في ضعف المبشرين يصدق على كل مبشر في كل عصر. ولكن لا ريب في أنه أشار بكلامه إلى نفسه خاصة لأنه عظم في ما مر خدمته للإنجيل وفضلها على خدمة موسى فأبان هنا أنه في نفسه ليس سوى إنسان ضعيف محتقر مضطهد إظهاراً لنعمة الله وقدرته على حفظه إياه من المخاطر المحيطة به وعضده له في آلامه وضعفه ولا سيما وفرة نجاحه في توزيع البشارة بالإنجيل وتقديس الناس وتنويرهم بواسطته.
٨، ٩ «٨ مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لٰكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. ٩ مُضْطَهَدِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ».
ص ٧: ٥ مزمور ٣٧: ٢٤
مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لٰكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ قوله «في كل شيء» قيد للاكتئاب وفي الأصل اليوناني قيد لكل ما ذُكر في الآيتين. والمعنى أن ما ذكره من النوازل كان ملازماً له في كل الأحوال والجهات. وفي «الاكتئاب والضيقة» إشارة إلى ما يحدث في الملاعب اليونانية المشهورة من تزاحم المتصارعين فأحدهما يضغط الآخر في موضع ضيق لا يستطيع فيه الدوران أو التقلب ولا أن يحرك يديه ورجليه. وعنى بذلك الاضطهادات والمصائب التي زحمته لكنها لم تستطع أن تمنعه من الخدمة بالكلية إذ أنها لم تغلبه كما يغلب أحد المتصارعين الآخر فكان قادراً على أن يبشر ويتخذ الوسائل إلى دعوة الناس إلى المسيح.
مُتَحَيِّرِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ كان بولس كثيراً ما يحدث له أنه لا يعرف كيف ينجو من الخطر المحيط به وأي الوسائل إلى تبليغ الناس شهادته بالإنجيل. وكانت علة حيرته عجزه عن دفع الموانع التي صادفها باطناً وظاهراً ومع هذا كله لم يقطع الرجاء والثقة بأن الله يرشده وينجيه ويفتح باباً للإنجيل بواسطته.
مُضْطَهَدِينَ من الناس.
لٰكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ من الله. إن الله أذن للناس أن يضطهدوا رسوله لكنه لم يسلمه إلى مقصدهم فيمنعوه من الخدمة أو ينزعوا حياته.
مَطْرُوحِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ كثيراً ما كان يحدث للمتصارعين عن الناس في الملعب أو للمصارعين الوحوش فيه أن يُطرحوا على الأرض ثم يهلكوا أما بولس فأبان أن أعداءه لم يغلبوه إلى حد لا يقدر أن يقوم عنده بعد طرحه ويجدد الجهاد وأنه لم يزل يشهد للمسيح بقوله وكتابته وسلوكه.
١٠ «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا».
١كورنثوس ١٥: ٣١ وص ١: ٥ و٩ وغلاطية ٦: ١٧ وفيلبي ٣: ١٠ رومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢ و١بطرس ٤: ١٣
أوضح بولس في هذه الآية كثرة ضيقاته وأنها كانت مثل ضيقات المسيح في الشدّة.
حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ يعني أن الناس عاملوه معاملتهم للمسيح يوم كان على الأرض وكان عرضة لأن يميتوه كما أماتوا سيده كما يتبين مما حدث له في أورشليم وأفسس وفيلبي وكورنثوس وغيرها من اليهود والأمم. وهذا كقوله «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ ٱلنَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ» (رومية ٨: ٣٦). وقوله «أني أموت كل يوم» (١كورنثوس ١٥: ٣١ انظر أيضاً ١كورنثوس ٤: ١٠ و٢كورنثوس ١١: ٢٣). إنه كان على جسده آثار الجراح التي اعترته من جلد وضرب ورجم وقيد بدليل قوله «أَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ» (غلاطية ٦: ١٧). فاحتمل كل النوازل من أجل المسيح وآثاره في جسده إمارة على أنه جندي للرب وشريك له في آلامه.
لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً هذا بيان مقصد الله من سماحه للناس باضطهاد الرسول من أن يكون عرضة للموت دائماً. وعلة أنه لم يكل التبشير بالإنجيل إلى ملاك بدلاً من أن يكله إلى إنسان مكتئب متحير مضطهد مطروح وهي أن يتضح بواسطة إنقاذه من الأرزاء وعظمة نجاحه في التبشير أن يسوع المسيح حي وأنه يعتني بعبيده ويرشدهم وينقذهم من الاخطار ويجعل تبشيرهم مؤثراً فعالاً. وهذا مثل قوله «فَإِنَّ ٱلَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ» (غلاطية ٢: ٨).
إن حياة المؤمنين الروحية دليل على حياة المسيح ونتيجتها كما يظهر من قوله «فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (غلاطية ٢: ٢٠). وكذا حياتهم الجسدية حين يظهر أنهم لا يمكنهم النجاة من أعدائهم إلا بقوة إلهية. حسب بولس أن نجاته في أفسس ليست بأقل من قيامة من الموت (ص ٥: ١٤). فكانت نجاته بواسطة المسيح برهاناً له على قيامة المسيح وحياته.
وبقاء بولس في الحياة كونه عرضة للموت دائماً كان دليلاً قاطعاً على أن المسيح حي وعلى أنه مساعد له وأنه سيحيا معه إلى الأبد بدليل قوله «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١١ انظر أيضاً روحية ٦: ٨ و٩ و٨: ١٧ و١بطرس ٤: ١٣ و١٤).
فِي جَسَدِنَا خص الجسد بالذكر لأن موضوع كلامه الآلام الجسدية وتعرضه للموت الجسدي. على أنه من الواضح أن ظهور حياة المسيح لم يُقصر على الجسد لأن الحياة الجديدة التي يشترك المؤمنون فيها يوم القيامة تكون برهاناً أيضاً على أن المسيح حي.
١١ «لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا ٱلْمَائِتِ».
مزمور ٤٤: ٢٢ ورومية ٨: ٣٦ و١كورنثوس ١٥: ٣١ و٤٩ وص ١: ٨ و٩
هذه الآية تثبيت وإيضاح لما سبق من أنه حمل كل حين إماتة الرب يسوع لأنه كان عرضة للموت من أجل المسيح دائماً فحسب أنه حُكم عليه بالقتل فتوقع الموت كل ساعة. وهذا كقوله «أَبْرَزَنَا نَحْنُ ٱلرُّسُلَ آخِرِينَ، كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِٱلْمَوْتِ» (١كورنثوس ٤: ٩).
نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ الذي يقتضيه الطبع أن الموتى وحدهم تحت سلطة الموت وقيل إن الأحياء كذلك فكأن الموت والحياة مع تنافيهما اجتمعا في واحد.
لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ الخ هذه العبارة كعبارته في آخر الآية السابقة إلا أنه زاد هنا وصف الجسد بالمائت لأن غايته أن يشير إلى ضعفه وتعرضه للموت وذلك لا يلزم من لفظة الجسد لأن القديسين بعد القيامة تكون لهم أجساد ولا يكونون ضعفاء ولا مائتين. فقوله «جسدنا المائت» كقوله «لحم ودم» ويقتضي ذلك أنه ضعيف مائت كما شعر من نفسه ولكنه شعر أيضاً أنه يستطيع كل شيء بواسطة يسوع المسيح. فضعف الرسول برهان على قوة المسيح العامل به.
١٢ «إِذاً ٱلْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا، وَلٰكِنِ ٱلْحَيَاةُ فِيكُمْ».
ص ١٣: ٩
إِذاً أي ينتج مما سبق من (ع ٧ - ١١).
ٱلْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا الخ الموت والحياة هنا بمعناهما في (ع ١٠ و١١) فحسب بولس ضيقاته وتعرضه للقتل كالموت كل يوم فكأنه قال علي أنا بولس الخسارة ولكم الربح وأنا أموت دائماً لكن حياة المسيح التي تظهر فيّ تعمل لنفعكم. والمراد «بالحياة» في الآية الحياة الروحية أي حياة يسوع التي يحصلون عليها بتعرض رسوله للأتعاب والآلام والموت وطريق ذلك أنهم يرون قوة المسيح بتقويته إياه وبركة الله على أتعابه فيقوى بهذا إيمانهم ويزيد حبهم للمسيح ويرسخ رجاؤهم للخلاص الذي كان غاية تبشيره. وقد ذكر الرسول ما يُفهم منه أن أعظم نتائج أعماله وآلامه نفع مؤمني كورنثوس ولكن لا يلزم من هذا أنه لم يفرح بأن الله سرّ بعمله وجعله مثمراً.
١٣ «فَإِذْ لَنَا رُوحُ ٱلإِيمَانِ عَيْنُهُ، حَسَبَ ٱلْمَكْتُوبِ «آمَنْتُ لِذٰلِكَ تَكَلَّمْتُ» نَحْنُ أَيْضاً نُؤْمِنُ وَلِذٰلِكَ نَتَكَلَّمُ أَيْضاً» .
رومية ١: ١٢ و٢بطرس ١: ١ مزمور ١١٦: ١٠
إن مقتضى الطبع أن تكون عاقبة ضيقات الرسول وأخطاره ضعف رجائه حتى ييأس ولكنه صرّح أنه لم يقنط قط وكانت ثقته بالله كثقة داود النبي.
رُوحُ ٱلإِيمَانِ عَيْنُهُ أي إيمان داود نفسه حين قال ما قاله والمراد «بروح الإيمان» الإيمان بعينه الذي أنشأه الروح القدس فيه.
حَسَبَ ٱلْمَكْتُوبِ في (مزمور ١١٦: ١٠).
آمَنْتُ لِذٰلِكَ تَكَلَّمْتُ تذلل داود جداً واكتنفته حبال الموت وأصابته شدائد الهاوية وقاسى الضيق والحزن ودعا الرب فاستجابه وخلّصه من ضيقاته وأنقذ نفسه من الموت وعينه من الدمع ورجليه من الزلق فآمن مع اكتئابه وصرّح بثقته بالله. وكان اختبار بولس كاختباره فمع كل شدائده لم يفتأ يتكل على الله وعلى مواعيده.
نَحْنُ أَيْضاً نُؤْمِنُ وَلِذٰلِكَ نَتَكَلَّمُ كانت نتيجة إيمان الرسول كنتيجة إيمان النبي فإنه جعله ينادي بأمانة الله وجودته. فإن تبشيره بالإنجيل عرضه لشديد البلايا ومع هذا ما برح ينادي به بكل يقين لحقه الجلي ونفعه الوافر ورأى فيه أن الله أبوه وأن المسيح مخلّصه وأن السماء موطنه وأن قيامته من الموت ونيله الحياة الأبدية حق فآمن بكل تلك الحقائق ومن فضل قلبه تكلم لسانه.
إن قوة الإيمان تقوي الشهادة دائماً وتجعل الإنسان راسخاً غير متزعزع وتقدّره على أن يتكلم بكل مجاهرة حتى يقنع السامعين بصدق شهادته فلا يسوغ لأحد أن يبشر بالإنجيل ما لم يكن مؤمناً به من كل قلبه وراسخاً فيه.
١٤ «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلَّذِي أَقَامَ ٱلرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ، وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ».
رومية ٨: ١١ و١كورنثوس ٦: ١٤ وأفسس ٢: ٦ وكولوسي ٣: ١ و١تسالونيكي ٥: ١٠ ص ١: ١٤ و١تسالونيكي ٢: ١٩ و٢٠
كانت نجاة الرسول من أخطار كثيرة وميتات متوالية قد حملته على شدة الاطمئنان وتوقعه الانتصار على الموت والقيامة في اليوم الأخير كما ذكر لهم في الأصحاح الخامس عشر من الرسالة الأولى. ولم يشر هنا إلى القيامة الروحية التي حصل عليها (أفسس ٢: ٦) ولا إلى نجاته مراراً من الضيقات حتى كانت كأنها قيامة كما في (ص ١: ٩ و١٠) لكنه أشار إلى قيامته يوم الدين.
عَالِمِينَ أي متيقينين التيقن الكامل كما جاء في (رومية ٥: ٣ و١كورنثوس ١٥: ٥٨).
أَنَّ ٱلَّذِي أَقَامَ ٱلرَّبَّ يَسُوعَ اتخذ قيامة الله ليسوع من الموت قضية مسلمة عند كل المسيحيين.
سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الذي تيقنه بولس هو أن الله يقيمه بيسوع بمقتضى قول يسوع نفسه «مَنْ يَرَى ٱلٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ... أَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ» (يوحنا ٦: ٤٠). وقول الرسول «ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ» (١كورنثوس ١٥: ٢٠ و٢١). وهذا نتيجة اتحاد المؤمن بالمسيح أي كونه عضواً من أعضائه يحيا بحياته (رومية ٨: ٨ - ١١ و١كورنثوس ٦: ١٣ - ٢٠ و٥١: ٢١ و٢٢٩. ويتفرع على ذلك أن جسد المسيحي يكون يوم القيامة نظير جسد المسيح المجيد (فيلبي ٣: ٢) ويحصل على «حرية مجد أولاد الله» (رومية ٨: ٢١) وحينئذ يتم فداؤه. ولهذا كانت القيامة موضوع أشواق المسيحيين الأولين وأحاديثهم ويجب أن تكون كذلك لنا.
وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ على وفق قوله «ٱلْقَادِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ غَيْرَ عَاثِرِينَ، وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي ٱلٱبْتِهَاجِ» (يهوذا ٢٤). فالرسول تحقق مع كونه مضطهداً ومهاناً أن الله الذي أقام يسوع سيقيمه في اليوم الآخر مع سائر المؤمنين ويوقفه في حضرته المجيدة بابتهاج عظيم. وهذا اليقين ملأ قلبه سلاماً وسروراً في أثناء الضيقات وشدده في المواظبة على أتعابه.
ولم يشر الرسول هنا إلى الوقوف في حضرة الله للحساب والجزاء لكنه أتى ذلك في (ص ٥: ١٠). ومما يستحق الملاحظة أن قيامة المسيح اعتُبرت هنا كما اعتُبرت في أماكن أُخر عربوناً لقيامة كل شعبه من ذلك قوله «إِنْ كَانَ رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَٱلَّذِي أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ ٱلْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ ٱلسَّاكِنِ فِيكُمْ» (رومية ٨: ١١ انظر أيضاً يوحنا ١١: ٢٥ و١كورنثوس ٦: ١٤ و١٥: ١٩ - ٢٢ وأفسس ٢: ٦ وكولوسي ٢: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ١٤). فبناء على اتحاد المؤمنين بالمسيح ومواعيد الكتاب الإلهي لنا أن نتيقن أنه كما قام المسيح وظهر لتلاميذه حتى شاهدوه ولمسوه هكذا نتيقن أنه متى جاء المسيح ثانية نقوم نحن أيضاً ونشاركه في الحياة الأبدية. فيجب أن يجعلنا هذا التيقن أمناء في الأتعاب ومسرورين بالشدائد كما جعل الرسول كذلك.
١٥ «لأَنَّ جَمِيعَ ٱلأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَكُونَ ٱلنِّعْمَةُ وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِٱلأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ ٱلشُّكْرَ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ».
١كورنثوس ٣: ٢١ وص ١: ٦ وكولوسي ١: ٢٤ و٢تيموثاوس ٢: ١٠ ص ١: ١١ و٨: ١٩ و٩: ١١ و١٢
لأَنَّ جَمِيعَ ٱلأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ تدل القرينة على أنه عنى هنا «بجميع الأشياء» ما ذكره سابقاً من الخسارة والضيقة والنجاة والثبوت وتيقن صحة الإنجيل والمجاهرة بالوعظ. وتوضح بقية الآية أي كيف تكون كل الأشياء من أجلهم وذلك أنها تحمل الكثيرين على الصلاة من أجله واتفاقهم على الشكر لله لإجابته صلواتهم.
لِكَيْ تَكُونَ ٱلنِّعْمَةُ التي أظهرها الله له بحفظ حياته ونجاته من ضيقاته وتقويته على أتعابه وختم ذلك بالنجاح.
وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِٱلأَكْثَرِينَ اعتقد بولس أن نعمة الله عليه قد زادت كثيراً بواسطة صلوات شعب الله من أجله كما في قوله لمؤمني كورنثوس «وَأَنْتُمْ أَيْضاً مُسَاعِدُونَ بِٱلصَّلاَةِ لأَجْلِنَا» (ص ١: ١١). وقوله لأهل فيلبي «لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطِلْبَتِكُمْ» (فيليي ١: ١٩). قال «بالاكثرين» ولم يقل بالجميع لمعرفته بغض بعضهم له وأنهم لم يصلوا من أجله.
تَزِيدُ ٱلشُّكْرَ الخ اتفق كثيرون على الصلاة من أجل نجاته وتقويته ولذلك اشتركوا في الشكر على النعمة الموهوبة له. إن شكر المؤمنين أفضل التقدمات لله بدليل قوله «ذابح الحمد يمجدني» (مزمور ٥٠: ٢٣). كانت وفرة مصائب الرسول علة وفرة صلوات الشعب لنجاتهم ووفرة الصلوات علة وفرة النعمة التي ظهرت بنجاتهم ووفرة النعمة علة وفرة الشكر وكل ذلك لمجد الله المنعم.

قوة رجاء بولس في المستقبل لرؤيته الأمور غير المنظورة منظورة ع ١٦ إلى ١٨


١٦ «لِذٰلِكَ لاَ نَفْشَلُ. بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا ٱلْخَارِجُ يَفْنَى، فَٱلدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً».
ع ١ رومية ٧: ٢٢ وأفسس ٣: ١٦ وكولوسي ٣: ١٠ و١بطرس ٣: ٤
لِذٰلِكَ أي لتيقنه القيامة المجيدة (ع ١٤) وأن أتعابه وآلامه في الدنيا تؤول لمجد الله (ع ١٥).
لاَ نَفْشَلُ أي لا يضعف رجاؤنا حتى نيأس ونترك العمل. افتتح بهذه العبارة هذا الأصحاح ثم ذكر الأسباب المؤدية إلى الفشل وهي ضعفه وعظمة الخدمة يوماً فيوماً شجاعة وقوة ونشاطاً لأسباب سيبينها.
بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا ٱلْخَارِجُ يَفْنَى أي إن كانت قوانا الجسدية تضعف وتقرب من الانحلال نظراً لشدة الأوجاع والأتعاب المشار إليها بقوله «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ» (ع ١٠) وقوله «نسلم دائماً للموت» (ع ١١). ولا يعجب أحد من أن يفنى جسد بولس عندما عرف جدول مصائبه وأتعابه وهي المذكورة في (ص ١١: ٢٤ - ٢٨).
فَٱلدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً أي أن القوى الروحية تزيد قوة يوماً فيوماً وتلك القوى هي الإيمان والرجاء والغيرة والمحبة والشجاعة والفرح بالرب وتيقن نجاح الإنجيل. وذلك التجدد نتيجة النعمة التي وهبها الروح القدس لنفسه على توالي الأيام واتحاده بالمسيح. فكما أن الجسد يحتاج إلى القوت كل يوم كذلك النفس تحتاج يومياً إلى النعمة والله يهبها لها.
١٧ «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا ٱلْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً».
متّى ٥: ١٢ ورومية ٨: ١٨ و١بطرس ١: ٦ و٥: ١٠
لأَنَّ هذا تعليل لعدم فشله وهو حسبانه مصائبه خفيفة وقتية تنشئ مجداً أبدياً.
خِفَّةَ ضِيقَتِنَا أي ضيقتنا الخفيفة. يختلف الناس في قياس مصائبهم فأكثرهم يرى مصائب بولس ثقيلة جداً وهو يحسبها خفيفة فإنه كان فقيراً يحتاج إلى الكفاف من القوت والكسوة والمأوى وكان ضعيفاً وأعداؤه كثيرين أقوياء. جُلد مراراً ورُجم وسُجن وانكسرت به السفينة وحُسب نفاية وسافر أسفاراً طويلة شاقة لخدمة الإنجيل وكان عليه هموم كثيرة إذ كان يعتني بكل ما أسسه من الكنائس التي كان كذبة المعلمين يحاولون إفساد إيمانها وبقي يقاسي تلك المصائب سنين كثيرة وهي أكثر سني حياته (١كورنثوس ٤: ٩ - ١٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٣ - ٢٩). وبولس نفسه حين كان ينظر إلى تلك الضيقات مجردة يراها في غاية الثقل بدليل قوله «أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدّاً فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ ٱلْحَيَاةِ أَيْضاً» (ص ١: ٨) لأن إحساسه كإحساس غيره من الناس فكان جسده يتألم مثلهم من الجوع والعطش والبرد والحر ونفسه من الإهانة والكفر بالنعمة من الذين خدمهم لكنه قابل تلك الأرزاء «بالمجد العتيد أن يُستعلن» فرآها كلا شيء.
ٱلْوَقْتِيَّة لأن زمنها كلحظة بالنسبة إلى الأبدية ولكنها بالنسبة إلى حياته ليست كذلك لأن تلك الضيقات أحاطت به منذ إيمانه بالمسيح إلى يوم موته شهيداً وذلك معظم زمن عمله. وكان في تلك المدة «يموت كل يوم».
تُنْشِئُ... ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً هذا علة ثالثة لعدم فشله ولتعزيته بأن تلك الضيقات فوق كونها خفيفة ووقتية يعقبها سعادة السماء التي لا حد لعظمتها ولا نهاية لها. وتنشئ تلك البلايا ذلك المجد لا لكونها تستحقه كأجرة بل لأن الله بنعمته وعد أنه يثيب المؤمنين على أتعابهم بأفراح السماء (متى ١٩: ٢٩ ورومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ و١٣ و١بطرس ١: ٦ و٤: ١٣ ورؤيا ٧: ١٤). والمراد «بالمجد» هنا بهاء السماء وسمو السعادة والقداسة ووفرة المسرات. وتنشئ الضيقات ذلك لأنها تزكينا وتعدنا لذلك المجد وتجعلنا نتوق إليه ونسر به أكثر مما نسر بالحصول عليه بلا تعب ولا ألم. وأضاف الثقل إلى المجد للمقابلة بخفة الضيقات ولبيان أهميته وعظمته وإذ لم يبلغ كنه مراده بقوله «ثقل مجدٍ» زاد قبله قوله «أكثر فأكثر». ولا شيء في ما ذُكر منافٍ لكون التبرير بمجرد بر المسيح لأنه بيان لمقدار سعادة المتبررين ببر المسيح. فإن الله سرّ بنعمته أن تكون سعادته السماوية على قدر أتعابهم وآلامهم على الأرض. ولا يلزم من ذلك أن كل ألم ينشئ مجداً فليس من الآلام المنشئة للمجد ما نجنيه منها على أنفسنا لجهل او خطإ ولا ما يكون قصاصاً على الإثم بل هي ما نقاسيه في سبيل المسيح وما ينزلها الله بنا امتحاناً لإيماننا فنحتملها بصبر وتسليم لإرادته تعالى.
وفي هذه الآية عدة مقابلات وهي مقابلة الضيقة بالمجد وخفة الأولى بثقل الثاني والوقتية بالأبدي.
١٨ «وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى ٱلأَشْيَاءِ ٱلَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى ٱلَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ ٱلَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا ٱلَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ».
رومية ٨: ٢٤ وص ٥: ٧ وعبرانيين ١١: ١
وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى ٱلأَشْيَاءِ ٱلَّتِي تُرَى هذا شرط التعزية والتقوية في أثناء الضيقات أن لا نقتصر على التأمل فيها والكلام عليها والحزن بها. وما اشترط في الضيقات يشترط في الأفراح الدنيوية. فلا يحق لنا أن نتوقع «ثقل مجد أبدياً» ونحن نتهافت إلى اللذات العالمية. والمراد «بالنظر» هنا اهتمام القلب لا نظر العين. والمراد «بالأشياء التي تُرى» ما يتعلق بحياتنا الأرضية ويظهر لحواسنا. ومعظم المراد بها هنا الضيقات كالفقر والعوز والعناء والاضطهاد والمرض. ويصح أن نحسب أيضاً من الأشياء التي ترى غنى العالم ولذته ومجده الأوثان الثلاثة التي يعبدها أكثر الناس.
ٱلَّتِي لاَ تُرَى وهي ما يتعلق بالعالم الآتي ولا يُنظر هنا إلا بعين الإيمان وإنما ينظر في السماء ومنها آيات رضى الله ومشاهدة المسيح ومرافقته والرفقاء السماويون من قديسين وملائكة وأفراح السماء وإكليل المجد وميراث القديسين.
ٱلَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ تزول بزوال حياة المتألم والمسرور فإن بلايا لعازر انتهت حين حملت الملائكة نفسه إلى السماء وأفراح الغني الذي كان لعازر جالساً عند باب بيته انتهت عند موته. فبعد مئة سنة لا يهم الإنسان أغنياً كان على الأرض أم فقيراً أو مكرماً أو مهاناً أو مسرواً أم حزيناً. ويصح أن يُقال على كل ما يرى بالباصرة هنا أنه وقتي لأنه يزول بزوال العالم عند مجي المسيح ثانية.
وَأَمَّا ٱلَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ لأن الله أبدي وملكوته وكل ما يتعلق به كذلك. وهي ما ذُكر في تفسير قوله «التي لا تُرى» وما يصدق على أفراح الأبرار في العالم الآتي يصدق أيضاً على أحزان الأشرار فيه. وكل ما يرغبنا في نيل تلك الأفراح يرغبنا في الهرب من تلك الأحزان.

فوائد



  • إنه لا داعي لخدم الإنجيل أن ييأسوا وإن طردهم الناس ورفضوا تعليمهم فلهم العزاء بأن ما بشروا به هو الحق وأنهم أطاعوا أمر الرب بتبشيرهم وأنه يسر بهم إن كانوا أمناء وأنهم إذا طردوهم فقد طردوا ربهم قبلاً وأنهم على قدر ما شاركوه في المشقات يشاركونه في الأفراح (ع ١).
  • إنه يجب على كل الناس أن يسلكوا بموجب ضمائرهم وأن تكون ضمائرهم مستنيرة بنور كلام الله بلا التفات إلى آراء البشر فلا يمكنهم أن يحصلوا على الراحة هنا والسعادة هنالك إلا بإطاعة الضمير والإنجيل معاً (ع ٢).
  • إن هذا العالم عالم الغرور فإن الشيطان خدع أهله وأعمى قلوبهم فرأوا الأشياء على خلاف حقائقها فرغّبهم في الغنى بأن غلّى قيمته وعظمته وفي الرتب الرفيعة كذلك وحسن لهم الشهوات ووعدهم بلذات لم يحصلوا عليها فآثروا الفاني العاجل على الباقي الآجل. وكثيراً ما غش الإنسان من جهة نفسه فصور له أنه صالح وهو شرير وأن التعاليم المتعلقة بالموت والقيامة والسماء وجهنم خرافات لا يقبلها العقلاء (ع ٤).
  • إن معظم جهد الشيطان مبذول في منع الإنجيل من إنارة قلوب الناس لأنه يكره النور وانتشاره في العالم. ومن احتياله على ذلك أنه يُعمي أذهان بعضهم لكي لا يتلفتوا إلى الإنجيل أبداً ويحمل غيرهم على مزج تعاليم الوحي بالبدع القبيحة. ويحوّل أنظار الناس عن الإنجيل بترغيبه إياهم في مطالعة الروايات العشقية والقصص الباطلة والملاعب المجونبة والمراقص المعيبة فيشغل أفكارهم عن كل ما يتعلق بخلاص النفس ليقودهم إلى السجن الأبدي عمياناً (ع ٤).
  • إنه لا حق للأثيم الهالك أن يجعل كل اللوم على الشيطان بأنه خدعه وأضله لأنه هو انخدع بإرادته ولو فتش عن الحق لوجده وأنه غير مجبر على الذهاب إلى الملاهي المحرمة وتفضيل الربح الدنيويي على الربح الروحي. فالشيطان لا يستطيع أن يهلك الناس على رغمهم فمن هلك فهو علة هلاك نفسه بإطاعته العدو الخادع وللشهوات الجسدية (ع ٤).
  • إنه يجب أن تكون غاية المبشرين المناداة بيسوع المسيح لا ربح الاشتهار بالعلم أو الفصاحة أو التأليف فلا يجوز لهم أن يدعوا حب الراحة أو اللذة أو جمع المال يعيقهم عن التبشير الذي دعاهم الله إليه إلى أن تدركهم الوفاة (ع ٥).
  • إنه لولا نور الوحي وإنارة الروح القدس للقلوب لكان الإنسان في شر حال. ودليل ذلك حال البلاد الوثنية التي لم تزل في ظلمة الجهل والضلال. وما أعظم نعمة الله بأنه أمر بإشراق ضوء الإنجيل علينا و «شمس البر والشفاء في أجنحتها» (ع ٦).
  • إن الله قصد أن يكون أسلوب نشر بشارته وسيلة إلى تمجيد اسمه ولذلك لم يكلف الملائكة ولا ملوك العالم أو علماءه التبشير بالإنجيل بل وكله إلى أناس هم عرضة للمرض والموت وأكثرهم من وضيعي العامة منزلة ومعرفة لكنهم أقوياء الإيمان فكان كل النجاح بواسطتهم ظاهراً كل الظهور أنه لم يكن إلا من نعمة الله وقدرته (ع ٧).
  • إنه يتبين هنا ما تكلفه دعاة الدين المسيحي في نشره فتكلف المسيح أتعاباً وأحزاناً وإنكاراً للنفس واضطهادات وآلاماً وموتاً لإدخاله العالم وانتشر بواسطة مشقات الرسل وآلامهم وأُثبت بدم الشهداء وحُفظ وامتد بأتعاب المصلحين وصلواتهم واحتمالهم شديد الاضطهاد وهو الآن يمتد بأتعاب الذين يتركون أوطانهم ويقطعون بروراً وبحوراً ويقاسون حر الأقاليم وبردها وتعديات البرابرة لينادوا لهم بالخلاص فإذا نظرنا إلى ما اقتضاه نشر هذا الدين مما نزل برئيسه وأتباعه رأيناه أثمن الأديان كلها ولا يستطيع أحد من المخلوقات أن يثمنه. وهو يستحق كل تلك النفقة. وأحسن طرق بيان اعتبارنا لقيمته وشكرنا عليه لواضعه وخاتمه بدمه وتذكرنا ما تكلفه الرسل والأنبياء والشهداء أن نبذل الجهد في بث بشرى الإنجيل في العالم (ع ٨ و٩).
  • أنه لو لم يكن الله مع إنجيله والمنادين به لم يثبت ولم يمتد لأن أعداءه كانوا كثيرين وأتباعه قليلين فقاسوا الفقر والجلد والسجن والميتات المختلفة حتى توقع الأعداء ملاشاته. وقد ظن بعضهم أنه أبطله إلى الأبد ولكن الله لم يتركهم بل أعانهم على الجهاد ونصرهم (ع ٨ و٩).
  • إنه على المبشرين الذين أعمالهم كأعمال بولس وأتعابهم كأتعابه أن يتشجعوا ويتعزوا بما تشجع هو به وتعزى ومن ذلك ثلاثة أمور ذكرها هنا:

    • الأول: تيقنه صدق الإنجيل الذي بشر به (ع ١٣).
    • الثاني: تيقنه أن الذي أقام الرب يسوع من الموت يقيمه أيضاً لأن رجاء القيامة كان من أعظم مشجعات بولس ومعزياته في أتعابه ومشقاته (ع ١٤).
    • الثالث: شدة رغبته في زيادة مجد الله وإرشاد الناس إلى تمجيده والاشتراك في نعمته (ع ١٥).


  • إنه يجب على المسيحيين أن يكونوا مستعدين أن يتكلموا في الإنجيل ويشهدوا بحقه وافتقارهم إليه ولا يسطيعون ذلك ما لم يؤمنوا به ويحبوه ويشفقوا على الذين في خطر الهلاك ليرشدوهم إلى خلاصه (ع ١٣).
  • إننا نعلم من هذا الأصحاح كيف نحتمل المصائب ونتعزى في أثنائها فإنه لا بد من أن الإنسان الخارج يفنى لأن الجسد يضعف ويمرض ويتألم إلى أن ينحل والنفس تحل بها الاكتئابات والأحزان وتحتمل الإهانات والاضطهادات لكنا لا نكترث بشيء من ذلك إذا كان الإنسان الداخل يتجدد يوماً فيوماً وإيماننا ورجاءونا يتقويان ونتحول إلى صورة الله ونحن نقابل ما ينزل بنا من خفة الضيقة الوقتية بثقل المجد العتيد أن يستعلن فينا.
    إن الإنسان البالغ قلما يذكر أحزانه في الصغر كذلك نحن ننسى في العالم الآتي كل ما نزل بنا من نوازل هذا العالم (ع ١٦ - ١٨).
  • إنه يجب أن نقيس كل شيء بمقياس الإنجيل ونزنه بميزان السماء وبذلك تظهر لنا أمور العالم زائلة وقتية لا يعبأ بها وأن الأمور ذات الشأن وراء القبر. وكل شيء في الأبدية ثابت باق عظيم. ولا ريب في أن مقياس الأرض غير مقياس السماء ومقياس الناس غير مقياس الله والعاقل لا يحتاج إلى من ينبئه أي الاثنين يُفضل على الآخر (ع ١٧ و١٨).
  • إنه لا سبيل إلى أحد أن يظن كل ضيقة خفيفة وقتية تنشئ لصاحبها ثقل مجد أبدي لأن بعد الموت لبعض الناس أحزاناً ونوازل لا تعد بلايا هذا العالم شيئاً بالنسبة إليها وهي أبدية لا نهاية لها لأن الكتاب يشهد بأن بعض حزن العالم ينشئ موتاً (ص ٧: ١٠) من أنواع الحزن المنشئ الموت ما لا يخضع فيه المحزون لإرادة الله بل يتذمر على عنايته ويزيد قسوة وعصياناً ويلجأ إلى تعزية الفسلفة بدلاً من أن يلجأ إلى تعزية الإنجيل ويجتهد في أن ينسى حزنه بمرافقة الدنيويين والتهافت على الملاهي وكثرة الأعمال وغررو الغنى (ع ١٧).




الأصحاح الخامس


أثبت الرسول في هذا الأصحاح أن تيقنه الذي تكلم عليه في الأصحاح السابق كان مبنياً على أساس راسخ لأنه إذا نُقض مسكنه الأرضي فله مسكن في السماء (ع ١ - ١٠). وأنه لم يقصد مدح نفسه بما قاله بل نفع الكنيسة حباً للمسيح معتبراً أنه سفيره ليدعو الناس إلى مصالحة الله (ع ١١ - ٢١).
حال المؤمنين بعد الموت ع ١ إلى ١٠


لم يفشل بولس بما اعتراه من المصائب لتيقنه أنه إن نُقضت خيمته الوقتية الواهية فله في السماء بيت غير مصنوع بيد بشر أبدي (ع ١). وتوقع حدوث ما لا يُرى هنا لأنينه في هذا الوطن واشتياقه إلى الوطن الأعلى إلا أنه لم يحب خلع جسده الأرضي بل فضل أن يلبس فوقه السماوي (ع ٢ - ٤). ووطد الله رجاءه بأن أعطاه الروح القدس عربوناً لخلاصه (ع ٥). وسكنى الروح القدس فيه جعلته مطمئناً أبداً لاعتقاده أنه متى غاب عن الجسد صار مع الرب (ع ٦ - ٨). وجل مقصده إرضاء ذلك الذي سوف يقف أمام عرشه ليجازي مع سائر الناس حسب أعماله.
١ «لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا ٱلأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ ٱللّٰهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ».
أيوب ٤: ١٩ وص ٤: ٧ و٢بطرس ١: ١٣ و١٤
علاقة هذا الأصحاح بالذي قبله واضحة وهي أن ضيقتنا هنا تنشئ لنا ثقل مجد أبدي لأننا نعلم أنه إن نُقضت خيمتنا الأرضية فلنا بيت من الله أبدي في السماء. ونتج عن ذلك أن رجاءه في السعادة الآتية قدّره على الاستخفاف بالمصائب الحاضرة.
لأَنَّنَا نَعْلَمُ علم اليقين مما أعلنه الله لنا. وهذا عام كل المؤمنين ولكن لا ريب في أن الرسول خص به هنا نفسه ورفاقه المحتاجين إلى التعزية لشدة ضيقاتهم.
إِنْ نُقِضَ أي انحل بالموت كما يتوقع أن يحدث بالنظر إلى المصائب والمشقات المحيطة به أو باستشهاده في سبيل الإنجيل.
بَيْتُ خَيْمَتِنَا ٱلأَرْضِيُّ أي جسده مسكن نفسه على هذه الأرض. شبهه بالخيمة في الوهن والزوال وسهولة النقل. ولا إشارة في هذا إلى سكنى الإسرائيليين في خيم البرية لأن هذا التشبيه شائع في أقوال كل المؤلفين قديماً وحديثاً.
فَلَنَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ شبه مسكن النفس المستقبل بالبناء بياناً لفضله على مسكنها الخيمة الحاضرة في القوة والبقاء. والمراد بهذا البناء جسد القيامة. وقال «لنا» مع أنه ورفاقه لم يزالوا أحياء لأن الله هيأه لهم ووعدهم به فحسبوا أنهم حصلوا عليه لأن المستقبل المتيقن الوقوع كالواقع. وغايته من ذلك بيان أنهم ليسوا بمحزونين ولا خائفين من الفكر في نقض تلك الخيمة لتيقنهم الحصول على ذلك البناء.
ذهب بعضهم إلى أن ذلك البناء هو السماء عينها والذي يثبت أنه جسد القيامة أربعة أشياء:

  • الأول: إن الأمر ظاهر أن بيتنا الأرضي هو الجسد الحاضر فنستنتج طبعاً أن بيتنا السماوي جسد القيامة.
  • الثاني: قوله في هذه الآية إنه «في السماوات» وفي الآية الثانية إنه «من السماء» وهذا دليل بيّن على أنه ليس السماء عينها على أن ليس غرض الرسول بيان أنه منتظر الانتقال من الأرض إلى السماء بل بيان ماذا يكون له في السماء بدلاً من الجسد الذي له هنا.
  • الثالث: إن كونه جسد القيامة. موافق لقوله في شأن الجسد الروحاني لأهل كورنثوس في رسالته الأولى «هٰكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً... وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ ٱلتُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ ٱلسَّمَاوِيِّ» (١كورنثوس ١٥: ٤٢ و٤٣ و٤٤ و٤٩).
  • الرابع: إن هذا التفسير لا منافاة بينه وبين قول الإنجيل في الراقدين أنهم يدخلون السماء على أثر موتهم وينالون سعادتها. ويبين فوق ذلك أنه حين يأتي المسيح ثانية تقوم أجساد القديسين وتشارك أرواحها الممجدة في السعادة. ولم يتعرض الرسول لبيان كل أحوال النفس بين الموت والقيامة أي بعد انفصالها عن الجسد الأرضي وقبل اتصالها بالجسد السماوي وعلة ذلك إما لأن الله لم يستحسن أن يعلنها له وإما لأن عقولنا تعجز عن إدراكه كما تعجز عن إدراك الأرواح المحيطة بنا وعن طريق مخاطبة بعضها بعضاً وسيأتي الكلام على هذا في تفسير الآية الثامنة.


مِنَ ٱللّٰهِ أي منه رأساً دون أن يُدنس بالخطيئة نعم إن الله هو خالق أجسادنا الأرضية أيضاً (١كورنثوس ١٢: ١٨ و٢٤) ولكنه لم يخلقها رأساً بل بوسائط طبيعية وقد تدنست بكونها صارت آلات للخطيئة.
غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ كالأبنية المصنوعة بأيدي الناس التي نسكنها هنا. وكونه من الله يحقق جودته ومجده.
أَبَدِيٌّ بخلاف جسدنا الأرضي المعرّض في كل وقت للموت والفساد.
٢ «فَإِنَّنَا فِي هٰذِهِ أَيْضاً نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
رومية ٨: ٢٣
فَإِنَّنَا هذا بيان علة أنه يتعزى بتوقعه الانتقال من الأرض إلى السماء وأنه ليس بمسرور جداً في حاله الحاضرة حتى يصعب عليه تركها. وفي هذا برهان على علمه أن له بيتاً في السماء وهو شدة شوقه إلى ذلك البيت.
فِي هٰذِهِ أي الخيمة التي شبه الجسد الأرضي بها في (ع ١ و٤).
نَئِنُّ للضعف والألم والتعرض للموت (ص ٤: ١١). وذلك كقوله «نَحْنُ ٱلَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ ٱلرُّوحِ... نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ ٱلتَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا» (رومية ٨: ٢٣). ولشوقه إلى السماء حيث يحصل على جسد لا يقبل الموت ولا الألم ولا التعب. ومعظم علة أنينه هو أنه ما دام مستوطناً في الجسد فهو متغرب عن الرب (ع ٦).
مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ الخ أتى الرسول في كلامه على جسد القيامة هنا مجازين الأول كما سبق وهو البيت الذي تتركه النفس أو تدخله. والثاني الثوب الذي تخلعه أو تلبسه. وصرّح بأنه مشتاق إلى الحلة الباهية التي يلبسها في السماء.
كان مؤلفو قدماء اليونان يشبهون الجسد بثوب للنفس كما كانوا يشبهونه ببيت لها. ومن وجد صعوبة في لبس المسكن فليذكر أن مسكن النفس السماوي لا بد من أن يكون خالياً من أعراض البيت الأرضي المانعة له من أن يكون ثوباً للنفس فهو روحي طاهر غير قابل الفساد.
ومراد الرسول بقوله «فوقها» أنه يجب أن يحصل على جسد القيامة بلا موت كما يلبس الإنسان ثوباً فوق ثوب فاشتهى أن يبلغ ما بلغه أخنوخ وإيليا اللذين انتقلا إلى السماء بلا موت وما يبلغه كل المؤمنين الأحياء على الأرض عند مجيء المسيح ثانية كما في قوله «لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ... فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ ٱلأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ» (١كورنثوس ١٥: ٥١ و٥٢). وما قيل من أن مسكننا «من السماء» يمنع من أنه السماء عينها ويحملنا على تفسيره بجسد القيامة.
٣ «وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً».
١كورنثوس ١٥: ٥٣ ورؤيا ٣: ١٨ و١٦: ١٥
ما قيل هنا عبارة أخرى بمعنى ما قيل في الآية الأولى بتغيير المستعار منه من بيت إلى ثوب. فقوله هنا «إن كنا لابسين» كقوله هناك «لنا في السماء بناء» وقوله هنا «عراة» كقوله هناك «نُقض بيت خيمتنا».
إِنْ كُنَّا «إن» هنا ليست للشك بل للتعليل اليقيني فالمعنى لتحقق إننا نكون.
لاَبِسِينَ ذلك الثوب المجيد الذي أعده الله لنا وهو جسد كجسد المسيح الممجد (١كورنثوس ١٥: ٤٩ وفيلبي ٣: ٢١). وأشار إلى هذا في الآية السابقة بقوله «نلبس... مسكننا الذي من السماء».
لاَ نُوجَدُ عُرَاةً أي بلا أجساد. إن النفس عند الموت تخلع الجسد الأرضي وتتركه للقبر والفساد وترجع إلى الله بدليل قوله «فَيَرْجِعُ ٱلتُّرَابُ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجِعُ ٱلرُّوحُ إِلَى ٱللّٰهِ ٱلَّذِي أَعْطَاهَا» (جامعة ١٢: ٧) لكنها لا تدوم بلا جسد بل تلبس مسكنها الذي من السماء أي بيتاً موافقاً لكل أحوالها هناك بدليل قوله «يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ... وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ ٱلتُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ ٱلسَّمَاوِيِّ» (١كورنثوس ١٥: ٤٤ و٤٩).
وما قيل هنا يصدق أيضاً على الذين يكونون أحياء على الأرض عند مجيء المسيح ثانية فإن أرواحهم لا تترك أجسادهم حتى تكون عراة بل تلبس في الحال أجسادنا المجيدة (١كورنثوس ١٥: ٥١). وعلينا هنا أن نلاحظ أمرين:
الأول: أن الرسول لم يتعرض لوصف حال النفس الوقتي في المدة المحدودة بين الموت والقيامة.
الثاني: إنه لم يلتفت إلى شيء من أمر أجساد الأشرار فكلامه مقصور على حال الصالحين الأبدية.
٤ «فَإِنَّنَا نَحْنُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ ٱلْمَائِتُ مِنَ ٱلْحَيَاةِ».
١كورنثوس ١٥: ٥٣ و٥٤
هذه الآية تقرير وتفسير لقوله في الآية الثانية «نئن مشتاقين أن نلبس» الخ.
فِي ٱلْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ أي في هذا الجسد الضعيف الفاني نئن لأننا مثقّلون. ذكر في الأصحاح السابق شدة آلامه وهمومه وأتعابه التي كان بها متضايقاً جسداً وروحاً (ص ٣: ٧ - ١٠). فبالنظر إلى هذه الأرزاء اشتاق إلى أن يكون في السماء لابساً الجسد الروحي متمتعاً بكل ما يقترن به من المسرّات.
لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا أي أن نموت ونترك هذا الجسد. لم ينفر الرسول من ثقل الجسد لاعتباره إياه سجناً فاشتاق من ضيقته إلى الهرب منه لينال حرية الروح المتجردة عن الجسد فإنه لم يجزع من حمل ما وضعه الله عليه من الأثقال في المدة التي عيّنها له. ولم تكن رغبته في مجرد تخلصه من التعب والعناء في هذه الدنيا بل كان معظمها في أن يكون مع المسيح كما أبان في (ع ٦ و٨).
إن الرسول لم يذهب مذهب قدماء الفلاسفة إلى أن الجسد قيدٌ للنفس يربطها باللذات الدنيوية الدنيئة المانعة لها من الارتقاء إلى الحال السامية التي تليق بها وأن الموت مطلق لها من أسرها لتذهب إلى الآلهة وغيرها من الأرواح السماوية. وهو لم ير شيئاً في الموت يرغبه فيه فالذي رغّبه فيه ما رآه بعد الموت من المجد والسعادة.
نَلْبَسَ فَوْقَهَا الثوب السماوي أو المسكن الذي من السماء. والمعنى أنه يحصل على الجسد الروحي البيت غير المصنوع بيد الأبدي في السماء المشار إليه بقوله «هٰذَا ٱلْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهٰذَا ٱلْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ» (١كورنثوس ١٥: ٥٣).
لِكَيْ يُبْتَلَعَ ٱلْمَائِتُ مِنَ ٱلْحَيَاةِ أراد أن يخلص من كل متعلقات الحياة الحاضرة من ضعف وألم وعناء ويدخل في كل متعلقات الحياة الخالدة في السماء. وهذا كما في قوله «هٰذَا ٱلْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهٰذَا ٱلْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ. وَمَتَى لَبِسَ هٰذَا ٱلْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ هٰذَا ٱلْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ ٱلْكَلِمَةُ ٱلْمَكْتُوبَةُ: «ٱبْتُلِعَ ٱلْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ» (١كورنثوس ١٥: ٥٣ و٥٤).
ولعل في هذه الكلمات إعلان الرسول رغبته في أن لا يموت على الأرض يوم مجيء المسيح ثانية. إن خوف الإنسان الموت من الأمور الطبيعية والرسول كان في ذلك كسائر الناس. وصف الموت «بآخر عدو» (١كورنثوس ١٥: ٢٦) لكن توقعه ما وراء الموت قدره على عدم الاكتراث بذلك الخوف الغريزي. والحق أن الذي يخيف أكثر الناس عند تفكيرهم في الموت ليس الموت نفسه بل توقع الوقوف أمام عرش الديان الأزلي وهذا لم يُخف الرسول شيئاً.
٥ «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي صَنَعَنَا لِهٰذَا عَيْنِهِ هُوَ ٱللّٰهُ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا أَيْضاً عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ».
إشعياء ٢٩: ٢٣ وأفسس ٢: ١٠ رومية ٨: ٢٣ وص ١: ٢٢ وأفسس ١: ١٤ و٤: ٣٠
لِهٰذَا عَيْنِهِ أي لبس جسد القيامة «لكي يُبتلع الميت من الحياة».
لو ادعى الرسول أنه هو الذي أعد نفسه لاحتمال الضيقات والضعف وحلول الأجل ورجاء السعادة الآتية بواسطة تأملاته وشدة عزمه لعُد ذلك من فرط الطمع لكنه صرّح بأن الله أعده لذلك وأنه هو الذي أعطاه الإيمان والرجاء حتى استطاع الانتصار على نوازل هذه الحياة وهول الموت وانتظار المجد في السماء.
أَعْطَانَا أَيْضاً عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ أي أنه فضلاً عن إعداده إياه للمجد المستقبل أعطاه علامة إثبات الوعد وهي سكنى الروح القدس فيه. وهذا مثل قوله في (ص ١: ٢٢ ورومية ٥: ٥ و٨: ١١ و١٦ وأفسس ١: ١٣ و١٤). وخلاصة ذلك أن الله يرسل روحه القدوس ليسكن في المؤمنين وينشئ فيهم الفضائل الروحية المقترنة بالتحديد والتقديس ليعد نفوسهم لدخول السماء على أثر الوفاة وأجسادهم لمشاركة النفوس في السعادة يوم مجيء المسيح ثانية.
إن عمل الروح في المؤمنين على الأرض عربون كل ما وعدهم الله به في المستقبل قبل القيامة وبعدها.
٦ «فَإِذاً نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي ٱلْجَسَدِ فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ ٱلرَّبِّ».
فَإِذاً أي بناء على قبول عربون الروح.
نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ أي قادرون أن نكون مسرورين مطمئنين في أثناء الشدائد متشجعين في أزمنة الخطر صابرين في المشقات والاضطهادات. وهذا يستحيل عليه بغير مساعدة الله.
عَالِمُونَ الذي علمه في الكلام الآتي وهو نتيجة أخرى فوق الثقة من قبول عربون الروح.
مُسْتَوْطِنُونَ فِي ٱلْجَسَدِ أي لم نزل في الجسد الأرضي المسكن الأول بين الأحياء من أهله.
مُتَغَرِّبُونَ عَنِ ٱلرَّبِّ حسب الرسول القرب من الرب يسوع جوهر سعادة السماء ولأنه كان يتوقع أن يكون ذلك عاقبة موته لم يبال بنقض خيمته الأرضية وبقي مسروراً في أثناء أتعابه ومشقاته التي قربت زمان انتقاله من وطنه الأرضي الوقتي إلى وطنه السماوي الأبدي.
٧ «لأَنَّنَا بِٱلإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِٱلْعَيَانِ».
رومية ٨: ٢٤ و٢٥ و١كورنثوس ١٣: ١٢ وص ٤: ١٨ وعبرانيين ١١: ١
ما في هذه الآية كلام معترض بُين به معظم الفرق بين الحياة الحاضرة والحياة المستقبلة وهو إننا في هذه الحياة التي نتغرب فيها عن الرب لم نره لكننا نؤمن بوجوده وفي الحياة الآتية نشاهده مواجهة.
بِٱلإِيمَانِ نَسْلُكُ السلوك هنا يشمل كل أعمال الحياة الحاضرة. وفسر الرسول الإيمان بقوله «وأما الإيمان فهو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى» وهو قانون الحياة المسيحية من جهة الأمور السماوية ما دام المسيحي على الأرض. وتلك الأمور تقتضي أن تكون مواضيع إيمانه ما دامت غائبة عنه. وأحسن ما توصف به حياة المؤمن القول أنها حياة الإيمان لأن كل ما يعتقده في شأن الله والعالم الآتي والقيامة والدينونة يعتقده بالإيمان بما أوحى الله به ويصلي للآب السماوي وهو لم يره قط ولم يسمع صوته ويتكل على ذراعه تعالى للحماية وعلى المسيح للخلاص وعلى الروح القدس للتقديس وكل ذلك مبني على الإيقان بما لا يرى. ومعظم محركاته على تلك الأعمال وتصرفه في العالميات أيضاً هو الإيمان لأنه يعتبر الله رقيباً ويتصور عرش الدينونة منصوباً.
كلام الرسول في هذه الآية عام ولكن القرينة تدل على أن مراده الإشارة إلى كون الحضور مع الرب هو من شأن الإيمان والرجاء لا الاختبار والإصابة. نعم إنه قيل «إننا لبسنا المسيح» (غلاطية ٣: ٢٧) وأن «المسيح حل في قلوبنا» (أفسس ٣: ١٧) لكنه مع ذلك مستتر عنا بخلاف ما يكون في السماء (يوحنا ١٧: ٢٤ ورومية ٨: ١٧ وكولوسي ٣: ٣ و٤ و١تسالونيكي ٤: ١٧).
وقوله هنا «بالإيمان نسلك» كقوله قبلاً «بالرجاء خلصنا» (رومية ٨: ٢٤) لأن الخلاص هناك خير مستقبل يتوقعه لا خير حاضر نتمتع به وكذا الحضور مع الرب.
لاَ بِٱلْعَيَانِ أي أن الأمور التي نؤمن بها ليست ظاهرة لنا بصور أو هيآت حتى تبصرها عيوننا. وبعبارة أخرى أن الأمور السماوية ليست معرضة لعيوننا الجسدية. وبهذا المعنى قال المسيح لليهود في شأن الآب «لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته». وخلاصة الآية كلها أن أمور حياة المسيحي الرئيسية ليست مما يُرى ولكن مما نؤمن بوجوده. فنؤمن بأمجاد السماء وإننا نشاهد المسيح فيها ونأخذ إكليل الحياة من يده ولذلك لا نكترث بما يعتبره الدنيويون من الأمور التي تُرى كالثروة والفخر ولذات هذه الأرض ونحتمل بالصبر والسرور الضيقات والمصائب وحلول الأجل.
٨ «فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِٱلأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ ٱلْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ ٱلرَّبِّ».
فيلبي ١: ٢٣
فَنَثِقُ أي نبقى مطمئنين في الأخطار والآلام وانتظار الموت على توالي الأيام. قال هذا لأن حضوره مع المسيح بعد وفاته لم يكن من أمور الريب ولا من مجرد مشتهياته ولا من الأمل المختلط بالخوف بل كان من اليقينيات. ولم يحصل على ذلك إلا من الله وما وهبه الله له مستعد أن يهبه لكل عبد أمين من عبيده ويجب على كل عبد أن يناله.
وَنُسَرُّ بِٱلأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ الخ أي نموت ونذهب إلى حيث يظهر المسيح لشعبه. وقال ذلك إذ حسب أنه ما دام في الجسد فهو منفي من حضرة المسيح. وهذا مكرر معنى الآية الرابعة وبيان علة أنينه وهو في الجسد ورغبته في أن «يبتلع الميت من الحياة» فاعتبر أن سعادته في السماء متوقفة على حضوره مع المسيح لعلمه أنه «إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢). وهذه المماثلة تكون قبل القيامة روحية فقط ولكنها تكون بعدها حسية أيضاً فيكون جسده مثل جسد المسيح المجيد وحينئذ يكمل عمل الفداء فيه.
ومن البيّن أن الحال التي تكلم فيها الرسول هنا هي ما توقع الرسول المصير إليها عند مفارقة روحه لجسده فهي كالحال التي أشار المسيح بقوله للص «اليوم تكون معي في الفردوس» (لوقا ٢٣: ٤٣). سبق الكلام في تفسير الآية الرابعة أن الكتاب المقدس لا يتعرض لتفصيل حال النفس بين الموت والقيامة بالتدقيق ولكن الذي علمناه من نصوصه أمران:
الأول: أن تلك الحال تكون حال الشعور لا حال السبات إلى يوم الدين وإلا كان وعد المسيح للص بأن يكون معه يوم موته في الفردوس بلا معنى إذ لا يشعر بذلك في يومه ولا في ما بعده إلى القيامة العامة. وكان قول بولس «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي ١: ٢٣). لأنه كان أحب إليه أن يعاشر المسيح وهو على الأرض ويخدمه وشعبه من أن يكون في السماء مع المسيح وهو لا يشعر بحضور المسيح ولا بحضوره هو هناك.
الثاني: إن تلك الحال حال الكون في الوطن بدليل قوله في هذه الآية «نستوطن عند الرب» إن شعب الله نزلاء وغرباء على الأرض (فيلبي ٣: ٢٠ وعبرانيين ١١: ١٣ و١٣: ١٤). معرضون للأتعاب والأرزاء بين الذين يحسبونهم أجانب وأعداء فيكون مختصر تاريخ أحوالهم ما في قوله «من خارج خصومات ومن داخل مخاوف» والوطن الموعود به يشتمل على الراحة والسلام والمسرة التي لا يشوبها شيء من الهموم والأحزان والاجتماع بالأصحاب المحَبين والمحِبين وبذلك لا يفتأون يترنمون في هذا الدار بما معناه:
«أحن اشتياقاً لذاك الوطن»
وتلك الحال ليست سوى مقدمة للمجد الأسمى والسعادة الكاملة اللذين ينالهما المؤمنون يوم القيامة وحينئذ تتحد النفس بالجسد بعد تغييره وتأهيله للسكنى في السماء. وكون المؤمن «مع المسيح» في الوطن الأبدي عند الوفاة يمنع بالضرورة كونه في محل الآلام تطهيراً له من بعض الخطايا.
٩ «لِذٰلِكَ نَحْتَرِصُ أَيْضاً مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ».
لِذٰلِكَ أي لاشتهائنا أن نكون مع المسيح. وهذا الاشتهاء يحملنا على الرغبة في أن نشابهه كما قيل في (١يوحنا ٣: ٣) ويرغبنا في أن نطيع أوامره دائماً لأن ذلك شرط رضاه.
نَحْتَرِصُ يتضمن الحرص الرغبة في الأمر واتخاذ الوسائل إلى نيله وطلبه بلا فتور وجعله غاية كل الأفكار والأعمال كشأن الذي يجري في السباق بغية السبق والذي يحارب بغية الانتصار على الأعداء.
مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أي أحياء أو أمواتاً. ولا فرق بين قولنا «مستوطنين في الجسد أو متغربين عنه» وقولنا «مستوطنين مع المسيح أو متغربين عنه» لأن أحدهما يستلزم الآخر. فكأنه قال في هذا العالم كنا أو في الآتي نرغب في أن نُرضي المسيح وفي أن يرضى بنا.
أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ كثيرون يقولون في صلاتهم «لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض» وقليلون يحسبون أنهم مكلفون هنا بإطاعة إرادة الله كل يوم كإطاعة الملائكة والقديسين هناك وقليلون الذين يجتهدون في تلك الإطاعة. وأما بولس فصرّح بأنها هي موضوع رغبته واجتهاده. وكونه يومئذ متغرباً عن الرب لا يرى المسيح يراقب عمله لم يحمله على الكسل أو طلب اللذات الدنيوية والاستخفاف بالخطيئة وترك إنكار الذات والصلاة ومقاومة التجربة. فكانت منيته كلها ما في قوله «إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رومية ١٤: ٨ انظر ١تسالونيكي ٥: ١٠).
١٠ «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً».
متّى ٢٥: ٣١ و٣٢ ورومية ١٤: ١٠ رومية ٢: ٦ وغلاطية ٦: ٧ وأفسس ٦: ٨ وكولوسي ٣: ٢٤ و٢٥ ورؤيا ٢٢: ١٢
كان معظم كلام الرسول في ما سبق من هذا الأصحاح على نفسه من جهة مشقاته وغاياته وآماله. وبما أنه تكلم باعتبار أنه مسيحي يحق لكل مسيحي أن يتخذ كلام الرسول لنفسه. ولكنه صرّح في هذه الآية أن كلامه موجه إلى كل المسيحيين كما هو موجه إليه وهو موجه أيضاً إلى سائر الناس بلا استثناء. وفيه بيان سبب اجتهاده المذكور في الآية التاسعة وهو أنه يرضي الرب دائماً.
لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً من كل الذين عاشوا على وجه الأرض في كل زمان ومكان. وهذا كما ورد في (رؤيا ٢٠: ١٢).
نُظْهَرُ أي نقف للدينونة معلنين ما نحن عليه في الواقع بلا أدنى سبيل إلى التنكر أو الرياء أو الإخفاء أو الخداع فتظهر كل الأفكار والسرائر كأنها مكتوبة في طرس منشور أو منقوشة على صخر مشهور وهذا كقوله «حَتَّى يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا ٱلظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ ٱلْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ٱلْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ٤: ٥). وقوله «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٤).
أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ كان القضاة الرومانيون يجلسون عند المحاكمة على منابر أو كراسي مرتفعة ليروا ويُروا (متّى ٢٧: ١٩ وأعمال ١٨: ١٢) فاستعار الرسول عمل هؤلاء لعمل المسيح في محاكمته للعالم. ومثل ذلك ما جاء في (متّى ٢٥: ٣١). وجاء مثله في سفر الرؤيا تسعاً وأربعين مرة. وصرّح الكتاب المقدس أن المسيح هو الديان وأن كل الناس يقفون أمامه وأنه يحكم عليهم بمقتضى خفايا قلوبهم وذلك يستلزم أنه إله لأنه لا يعلم كل شيء إلا الله ولا يستطيع أن يدين كذلك إلا هو. وبسط الكلام على كون المسيح ديّان اليوم الأخير في تفسير (متى ٢٥: ٣١ - ٤٥ وأعمال ١٠: ٤٢ و١٧: ٣١) فارجع إليه.
لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ على سبيل الجزاء من ثواب وعقاب بدون محاباة. وهذا مثل قوله «ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ ٱلرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (غلاطية ٦: ٧ و٨ انظر أيضاً ١كورنثوس ٤: ٥ وكولوسي ٣: ٢٥ و٢بطرس ٢: ١٣). فيعاقب الأشرار على أعمالهم فيأخذون الأجرة التي استحقوها ويثاب الأبرار على أعمالهم لكن لا على سبيل الأجرة بل على سبيل النعمة. فيتضح مما قيل هنا وفي (متّى ٢٥: ٣٤ ورومية ٢: ٦) وأماكن أُخر أن مجازاة الأبرار على قدر أعمالهم ولكن نرى من آيات كثيرة أن خطايا المؤمنين مغفورة (رومية ٣: ٢٥) وأن لا شيء عليهم من الدينونة وأن «دَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (١يوحنا ١: ٧). وإن الخلاص كله من النعمة وأن التبرير ببر المسيح لا بالأعمال وإن أحسن أعمال المؤمنين ليس بشيء (لوقا ١٧: ١٠) ولكن بعضهم رأى شبهة التناقض بين قول الرسول هنا وما أوردناه على أثره من الأقوال فحاول دفعها بقوله أن استحقاق المسيح يزيل عن المؤمن خطيئة آدم الأصلية وأنه يُسأل بعد ذلك عن كل عمل من أعماله ويُدان عليه. وقال آخر دفعاً لها أن استحقاق المسيح يمحو خطايا المؤمنين قبل تجديدهم ومعموديتهم ثم يتبررون أو يدانون بسائر أعمالهم وهذا لا يصح لأن الإنجيل يصرّح بأن المؤمنين ليسوا تحت الناموس بل تحت النعمة (رومية ٦: ١٤) وأنهم إن اتكلوا على أعمالهم لم ينفعهم المسيح شيئاً وسقطوا من النعمة (غلاطية ٥: ٤). فإن دان الله بالناموس كل الناس بحسب أعمالهم لم يخلص أحد من المؤمنين ولا من غيرهم. فالذين اتحدوا بالمسيح بالإيمان وسكنى الروح القدس فيهم نالوا مغفرة كل خطاياهم الماضية والحاضرة لأن كفارة المسيح كافية للتكفير عن كل خطايا الناس منذ آدم إلى يوم الدين. فإذا ما ذكرناه من دفع بعضهم لما توهمه من الشبهة لا ينهض. أما نحن فلا نرى في هذا إلا ما يحملنا على الشكر لله على نعمته فإنه فضلاً عن رفعه عنا الدينونة التي نستحقها على خطايانا ونسبته إلينا استحقاق بر المسيح وموته وتأكيده لنا الخلاص ودخول السماء لأجل المسيح يتنازل إلى أن ينظر إلى أعمالنا الصالحة القليلة الناقصة ويثيبنا عليها بعلامات خاصة من محبته لنا لا نعلم ما هي. وقد أشار إلى بعضها المسيح في مثل العشرة الأمناء من أنه أعطى أحد عبيده سلطاناً على عشر مدن وآخر سلطاناً على خمس مدن.
بِٱلْجَسَدِ أي مدة الحياة الأرضية وهي وقت الامتحان وليس ما بعد القبر سوى الثواب أو العقاب. وقال الرسول إن الدينونة على «ما كان بالجسد» لا على أعمال الجسد لأن الجسد ليس سوى آلة للنفس. فالدينونة على الأفكار والغايات والمقاصد والأميال علاوة على الأقوال والأعمال. فأعمال الناس في هذا العالم كنوز لهم في العالم الآتي وهي إما كنوز الرضى والسرور الدائم وإما كنوز النقمة والحزن الأبدي (متى ٦: ٢٠).
بِحَسَبِ مَا صَنَعَ الخ هذا قياس الجزاء يوم الدين فأنصبة الجزاء تختلف باختلاف الأعمال فبعض الأشرار يعذب بضربات كثيرة وبعضهم يعذب بضربات قليلة (لوقا ١٢: ٤٧). وبعضهم (مثل أهل صور وصيداء) لهم حالة أكثر احتمالاً من الذين سمعوا بشرى الخلاص ورفضوها (متى ١١: ٢٢) وكذلك الأبرار يُثاب بعضهم أكثر من غيره فالذي تعب وتألم في خدمة الرب أكثر ممن سواه يسر أكثر منه فمنهم من يخلصون كما بنار وأعمالهم تحترق (١كورنثوس ٣: ١٥). ومنهم من «يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلأَبَدِيِّ» (٢بطرس ١: ١١).

دفع الرسول اتهام بعضم إياه بأنه يمدح نفسه ع ١١ إلى ٢١


رجع الرسول في هذا الفصل إلى الموضوع الذي تكلم فيه سابقاً وصرّح بأنه لم يبال في كل ما قاله وكتبه إلا بمسؤوليته لله (ع ١١). وإنه لم يمدح نفسه إلا ليدفع عن نفسه الريبة واللوم (ع ١٢). وإن معظم رغبته في أن يرضي وينفع الكنيسة وأن تقوّل عليه الناس الأقاويل (ع ١٣). لأن محبة المسيح حصرته أن يحيا للمسيح لا لنفسه (ع ١٤ و١٥). وإنه ما دام سالكاً في ذلك السنن لا يرى للأمور الحاضرة المنظورة من سلطة عليه. وأنه لا يحكم على الناس بمقتضى الظاهر. وأنه باتحاده بالمسيح صار خليقة جديدة (ع ١٦ و١٧). وإن ذلك التجديد العظيم من الله الذي هو مصدر الفداء. فإنه صالح العالم لنفسه بالمسيح واستخدم عبيده للمناداة بتلك المصالحة. وإنه بمقتضى ذلك وباعتبار كونه سفيراً لله ينادي لكل الناس بأنه قد مُهدت طريق المصالحة مع الله للناس لأنه جعل المسيح خطيئة لأجلنا لنصير نحن بر الله بواسطته (ع ٢٠ و٢١).
١١ «فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ نُقْنِعُ ٱلنَّاسَ. وَأَمَّا ٱللّٰهُ فَقَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ لَهُ، وَأَرْجُو أَنَّنَا قَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ فِي ضَمَائِرِكُمْ أَيْضاً».
أيوب ٣١: ٢٣ وعبرانيين ١٠: ٣١ ويهوذا ٢٣ ص ٤: ٢
عَالِمُونَ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ أي قصده أن يدين العالم في اليوم الآخر ويجازي كلا بمقتضى أعماله.
نُقْنِعُ ٱلنَّاسَ أي نبرهن لهم. ولم يبن ما الذي يبرهنه والذي نراه أنه إما حق الإنجيل ليؤمن الناس بالمسيح لخلاص نفوسهم وذلك أعظم ما رغب فيه من كل تعليمه. وأما خلوصه في التبشير وهذا ما ترجحه القرينة وهو أنه لم يسلك في مكر ولم يغش كلمة الله (ص ٤: ٢) كما يظهر من بقية الآية ومن قوله «رَفَضْنَا خَفَايَا ٱلْخِزْيِ، غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ، وَلاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، بَلْ بِإِظْهَارِ ٱلْحَقِّ، مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ قُدَّامَ ٱللّٰهِ» (ص ٤: ٢) فمخافة الرب باعتبار أنه ديان منعته من الخداع والخيانة.
وَأَمَّا ٱللّٰهُ فَقَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ لَهُ أي أننا لا نحتاج أن نقنع الله بخلوصنا لأن قلوبنا مكشوفة أمامه فهو يعلم أن غايتنا تمجيده وتبيين طريق الخلاص للناس.
وَأَرْجُو أَنَّنَا قَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ الخ علم الرسول أن بعض أهل كورنثوس شك في خلوصه وطعن فيه لكنه رجا أن أكثرهم برروه في قلوبهم مما اتهمه بعضهم به من الرياء والخداع وتيقنوا استقامته وغيرته لبنيانهم في القداسة وأنهم عرفوا سيرته بينهم وإنكار نفسه بغية نفع غيره وأمانته في الوعظ.
١٢ «لأَنَّنَا لَسْنَا نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا أَيْضاً لَدَيْكُمْ، بَلْ نُعْطِيكُمْ فُرْصَةً لِلٱفْتِخَارِ مِنْ جِهَتِنَا، لِيَكُونَ لَكُمْ جَوَابٌ عَلَى ٱلَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِٱلْوَجْهِ لاَ بِٱلْقَلْبِ».
ص ٣: ١ ص ١: ١٤
لَسْنَا نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا أَيْضاً بما قلته من جهة خلوصنا (ع ١١). لم يقصد الرسول الافتخار باستقامته لكنه خشي إن سكت من أن يحسبوا سكوته تسليماً بتهمتهم إياه وبحكمهم أنه لا يستحق أن يكون رسولاً. وزاد قوله «أيضاً» هنا دفعاً لتهمتهم إياه قبلاً بمدحه لنفسه (ص ٣: ١) لأنه لم يرد أن يترك لهم فرصة لمثل ذلك الافتراء.
بَلْ نُعْطِيكُمْ فُرْصَةً لِلٱفْتِخَارِ الخ المراد بالذين يفتخرون بالوجه لا بالقلب هم المعلمون الكاذبون الذين أتوا إلى كورنثوس لإبطال تعليم بولس وإفساد إيمان أهلها. وافتخروا بأنهم من نسل إبراهيم وباختتانهم وحفظهم الرسوم التي أخذوها عن موسى والآباء وبفصاحتهم وعلمهم ومواهبهم. ولعلهم ادعوا أنهم أقدس من غيرهم وتظاهروا بالصوم كثيراً والصلاة طويلاً والورع الزائد وقلوبهم مملوءة رياء وخبثاً. فأراد بولس مما برأ نفسه منه أن يبرهن لهم أنه رسول المسيح حقاً بإتيانه إليهم ببشارة الإنجيل وبتأسيسه كنيستهم وأنه كان أميناً في عمله ولم يعلمهم سوى الحق الذي أخذه عن الرب وأن نيته كانت خالصة في ابتغاء نفعهم وتمجيد الله. وخلاصة الآية أنه أراد أنهم يكونون مستعدين حين يطعن فيه المعلمون الفاسدون لتبرئته والدفع عنه بما تشهد به ضمائرهم من جهة سيرته الحسنة فيهم وتعاليمه الصادقة.
١٣ «لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّٰهِ، أَوْ كُنَّا عَاقِلِينَ فَلَكُمْ».
ص ١١: ١ و١٦ و١٨ و١٢: ٦ و١١
لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّٰهِ لا ريب في أن المعلمين المفسدين ادعوا لأنفسهم الحكمة والرزانة والفطنة واتهموا بولس بالهذيان كما اتهمه فستوس بقوله «أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى ٱلْهَذَيَانِ» (أعمال ٢٦: ٢٤). وكما اتهم بعضهم المسيح بقولهم «أنه مختل» (مرقس ٣: ٢١). ولعل غيرته ورغبته في أن يطوف براً وبحراً لكي يبشر الأمم مما حمل اليهود على أن ينسبوا إليه اختلال العقل. ولا عجب فإن شدة اجتهاد بعض المؤمنين في التبشير بالمسيح واحتمالهم الاضطهاد من أجل اسمه ظهرت لغيرهم أنها من علامات الجنون. فدفع بولس تلك التهمة وأثبت أن حرارته في التبشير وإن ظهرت لهم زائدة لم تكن سوى غيرة مقدسة ونتيجة فرط حبه لله ورغبته في تمجيده.
لم يتبين جلياً علة نسبتهم الاختلال إليه أغيرته للدين هي أم مدحه لنفسه والأرجح أنها الثاني بدليل قوله دفعاً لذلك «قَدْ صِرْتُ غَبِيّاً وَأَنَا أَفْتَخِرُ. أَنْتُمْ أَلْزَمْتُمُونِي! لأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ الخ» (ص ١٢: ١١ انظر أيضاً ص ١١: ١ و١٦).
أَوْ كُنَّا عَاقِلِينَ لا ريب في أن هذا حكم أصحابه فيه فقال لهم إن حسبتموني سليم العقل وسألتموني لماذا أتيت إلى كورنثوس وبشرت فيها فالجواب أن علة ذلك بنيانكم في المعرفة والقداسة. وخلاصة الآية أنه مهما ظن الناس في الرسول أو قالوا عليه فغايته من كل تصرفه تمجيد الله ونفع كنيسته.
١٤ «لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هٰذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ. فَٱلْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا».
رومية ٥: ١٥
أبان هنا العلة العظمى لكل أعماله.
لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا أي محبة المسيح له لا محبته للمسيح ودليل ذلك ما ذكره من علامات حب المسيح لنا في بقية الآية. وهذا كقوله «فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية ٢: ٢٠ انظر أيضاً أفسس ٣: ١٩). ومعنى قوله «تحصرنا» تجبرنا أن نفعل ما فعلناه. فإن بولس من يوم آمن تحقق محبة المسيح له وكان تأثير هذه المحبة محور كل أفكاره ومقاصده وأعماله. والخلاصة أن بولس رأى بما أن المسيح أحبه حتى بذل نفسه من أجله إنه مجبر أن يجعل إرادة المسيح إرادته وتمجيده قانون حياته. فعلى مذهب بولس إن جوهر ما يمتاز به المسيحي عن غيره هو أن يقف نفسه للمسيح ولا يحيا لنفسه أو لعياله أو لنشر العلم أو لنفع جنسه بل لربه على وفق قول ابن الله «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متّى ١٠: ٣٧). وقوله «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لوقا ١٤: ٢٦).
إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هٰذَا قال هذا مقدمة لبيان أنه كيف صارت لمحبة المسيح تلك السلطة عليه وأنه اعتبر منذ آمن بالمسيح إن موت المسيح عن الناس أوجب عليهم أن يقفوا أنفسهم له وحملهم على وقفها له وإن موته عنه هو أجبره على أن يموت عن نفسه ويحيا له. وهذا فحوى الدين المسيحي عنده وعلى هذا المنوال احتضنه.
إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ إن الشرطية هنا مستعملة لليقين. والمراد «بالواحد» هنا هو الرب يسوع المسيح. وغاية الرسول إلى العبرانيين بيان ما ذُكر فهي توضح إن كهنة النظام الموسوي كانوا كثيرين وذبائحهم كثيرة لأن أولئك الكهنة لم يدوموا لسبب الموت لكن يسوع لكونه له حياة أبدية في نفسه يحيا إلى الأبد. وإن الذبائح التي كانوا يقدمونها كانت تكرر كل يوم لأنها لم تكفر عن الخطيئة ولكنها كانت إشارة إلى الذبيحة الكافية للكفارة. والمسيح بتقديم نفسه ذبيحة أكمل إلى الأبد المقدسين ودمه يطهر من كل خطيئة. ومعنى قوله «لأجل الجميع» بدلاً عنهم كمعناه في (رومية ٥: ٦ و٨ و١تسالونيكي ٥: ١٠ وعبرانيين ٢: ٩). ويستحيل أن الذبيحة تنفع الإنسان ما لم تكن بدلاً عنه فمات المسيح بدلاً عنا لكي ينقذنا من الموت ومات عن الجميع لأن الجميع أخطأوا وأعوزهم الخلاص فأحب الله الجميع (يوحنا ٣: ١٦) وهو «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (١تيموثاوس ٢: ٤). وأعد خلاصاً للجميع بالمسيح ابنه وعرضه على الجميع ووهبه لكل الذين قبلوا شرطه وهو الإيمان به.
فَٱلْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا أي ماتوا حين مات هو لأنه كان نائبهم في عهد النعمة كما كان آدم نائبهم في عهد الأعمال (رومية ٦: ٨ - ١١ انظر أيضاً رومية ٥: ١٥ - ١٩). وكان قصد المسيح من موته أن يموت الكل معه عن أنفسهم وعن الخطيئة وأن يحيوا للقداسة وتم ذلك القصد في كل من آمنوا به واتحدوا. إنهم صلبوا مع المسيح (غلاطية ٢: ٢٠) وقاموا معه وسيملكون معه (أفسس ٢: ٥ و٦).
١٥ «وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ».
رومية ٦: ١١ و١٢ و١٤: ٧ و٨ و١كورنثوس ٦: ١٩ وغلاطية ٢: ٢٠ و١تسالونيكي ٥: ١٠ و١بطرس ٤: ٢
هذا مكرر الآية السابقة بالمعنى وإثبات أن نسبة المؤمنين إلى المسيح كما سبق وهو أن المسيح مات عن الخطأة لكي يموتوا معه عن الخطيئة وزاد هنا على ذلك أنه قصد بموته عنهم أن يحيوا معه. ومعنى هذا كمعنى قول بطرس «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ، مُمَاتاً فِي ٱلْجَسَدِ وَلٰكِنْ مُحْيىً فِي ٱلرُّوحِ» (١بطرس ٣: ١٨) وقوله «ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ» (١بطرس ٢: ٢٤ انظر أيضاً تيطس ٢: ١٤).
كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ قصد المسيح بموته عن الناس أمرين الأول الكفارة عن خطاياهم ومصالحتهم مع الله. والثاني ما في هذه الآية وهو أن يكون عبيده واقفين أنفسهم لخدمته ومقتدين به. والأحياء هنا الذين يحيون الحياة الروحية. والمقصود من قوله «فيما بعد» كل ما مر من الزمان بعدما آمنوا بالمسيح وابتدأوا يحيون الحياة الجديدة. ولم يمتنع عليهم أن يحيوا مع المسيح وهم قد ماتوا معه لأن هذا الموت ليس انفصال النفس عن الجسد بل انفصالها عن الخطيئة ومحبة الذات. والحياة هنا ليست الحياة الجسدية المتجددة بل الحياة الروحية وهي وقف النفس لخدمة المسيح. وأشار الرسول إلى تأثير موت المسيح فيهم سلباً بقوله «لا لأنفسهم» لبيان أنهم لم يعيشوا لإتمام مشيئتهم ولا لنيل راحتهم ولذتهم ومجدهم. وهذا كقوله «مع المسيح صلبت» (غلاطية ٢: ٢٠).
بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ هذا بيان تأثير موت المسيح في المؤمنين بطريق الإيجاب والمعنى أنهم يعيشون لخدمة الذي مات عنهم ولأنه مات عنهم. فالذي يمتاز به المسيحي عن غيره بمقتضى هذه الآية شروعه في أن يحيا للمسيح فضلاً عن عدوله عن أن يحيا لنفسه. فلا يكفي العدول عن الحياة للنفس أو لغيرها من المخلوقات دون الحياة للمسيح. فبعض الناس يظن أنه لا يحتاج لخلاصه إلى سوى أن يتكل على المسيح وأنه ليس بمكلف أن يعيش له لكن الإنجيل يصرّح بأن كل الذين يتوقعون أن يكونوا شركاء موت المسيح يجب أن يكونوا شركاء حياته. فكل من تحقق فرط محبة المسيح له من أنه مات عنه وبناء على ذلك اعتمده للخلاص رأى أنه مجبر بقوة تلك المحبة على وقف نفسه له.
وَقَامَ إننا لم نؤمن بمخلص لم يزل ميتاً مدفوناً بعد صلبه ولم نخدم مخلصاً ميتاً بل نؤمن بمخلص «مات من أجل خطايانا وقام لأجل تبريرنا» (رومية ٤: ٢٥). ولأنه قام وجلس عن يمين الله الآب وأخذ منه كل سلطان في السماء وعلى الأرض وهو يحيا إلى الأبد يشفع فينا نقف حياتنا لخدمته وتمجيده (رومية ٦: ٩ - ١١ وأفسس ٢: ٥ - ٧).
١٦ «إِذاً نَحْنُ مِنَ ٱلآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَداً حَسَبَ ٱلْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، لٰكِنِ ٱلآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ».
متّى ١٢: ٥٠ ويوحنا ١٥: ١٤ وغلاطية ٥: ٦ وفيلبي ٣: ٧ وكولوسي ٣: ١١ يوحنا ٦: ٦٣
إِذاً أي بناء على تغيرنا العظيم نحن الذين عشنا قبلاً لأنفسنا وشرعنا الآن أن نحيا للمسيح نقيس كل الأمور بمقياس جديد غير المقياس الذي كنا نقيسها به قبل أن آمنا.
مِنَ ٱلآنَ أي من وقت آمنا وتجددنا.
لاَ نَعْرِفُ أَحَداً حَسَبَ ٱلْجَسَدِ قال بولس هذا برهاناً على خلوصه وبرآته مما اتهمه به أعداؤه وهو يصدق على كل مسيحي بالحق ومراده أنه لم يحكم على الناس بالنظر إلى أحوالهم الخارجية فلم يتلفت إلى كونهم يهوداً مختونين حافظي شريعة موسى أو أمما أغنياء أو فقراء علماء أو جهلاء شرفاء أو أدنياء. وأنه يعرف أن كل من يتكل على موت المسيح للنجاة من الهلاك الأبدي ويعيش خليقة جديدة لخدمة المسيح هو المسيحي المكرم المحبوب. وهذا على وفق ما في قول المسيح في اليهود «أنتم حسب الجسد تدينون» (يوحنا ٨: ١٥). وما في قول الرسول «وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى ٱلْجَسَدِ مَعَ أَنَّ لِي أَنْ أَتَّكِلَ عَلَى ٱلْجَسَدِ أَيْضاً الخ» (فيلبي ٣: ٣ - ٦).
قابل بولس هنا آراءه قبل تجدده بآرائه بعده وقابلها أيضاً بآراء المعلمين الكاذبين الذين علموا وجوب أن يحفظ المسيحيون شريعة موسى.
وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ لا برهان على أن بولس عرف المسيح وهو على الأرض أو أنه رأه قبل أن شاهده على طريق دمشق بعد قيامته وهو لم يشر هنا إلى معرفته في أحواله الظاهرة وهو على الأرض كمعرفة الذين لم يؤمنوا به إياه فإنه بناء على ما سمعه في أمره اعتبره ابن نجار من الناصرة ادعى أنه المسيح ابن الله ولآرائه اليهودية في المسيح الموعود به رفض أن يكون هو المسيح وأهانه وأبغضه.
لٰكِنِ ٱلآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ أي عدلت عن أن أحسبه كما ظهر للناس إنساناً مجرداً بل أتيقن أنه ابن الله الذي أحبني وبذل نفسه عني.
لعل بعض المعلمين الذين قاوموا بولس ادعوا أنهم أفضل منه لأنهم رأوا المسيح على الأرض وسمعوه وتكلموا معه لكن بولس قال إن إدراك ذلك معرفة ناقصة قليلة لا تجدي نفعاً حتى أنه لو حصل عليها لرغب في أن ينساها ويقصر معرفته على ما أدركه بقلبه بعدما آمن.
ولعل هذا يفيد أيضاً أنه لا يكفي أن ننظر إلى المسيح باعتبار كونه يهودياً وملك اليهود لأنه وُلد من نسل داود إتماماً للنبوءات بل يجب أن نعتبره ابن الله ملك كل قبائل الأرض ومخلص العالم.
١٧ «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً».
رومية ٨: ٩ و١٦: ٧ وغلاطية ٥: ٦ و٦: ١٥ إشعياء ٤٣: ١٨ و١٩ و٦٥: ١٧ وأفسس ٢: ١٥ ورؤيا ٢١: ٥
إِذاً أي ينتج مما ذُكر. فلنا أن هذه الآية نتيجة ما سبق وبيان أن تغير آراء الرسول منذ آمن بالمسيح وتحقق عظمته ومجده هو ما يحدث لكل مؤمن.
إِنْ كَانَ أَحَدٌ من الناس أياً كان.
فِي ٱلْمَسِيحِ أي متحداً به كالغصن في الكرمة والعضو في الجسد. ويحصل الإنسان على هذا الاتحاد بعهد النعمة كما حصل على الاتحاد بآدم بالطبع ويحصل عليه أيضاً بسكنى روح المسيح فيه وبالإيمان لأنه به يتمسك بالمسيح ويجعله نصيبه وعلة حياته (رومية ٨: ١ و٩ وغلاطية ٥: ٦).
فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ إن الإنسان باتحاده بالمسيح بواسطة الإيمان يُغير تغييراً عظيماً حتى يصح أن يُدعى خليقة جديدة. وهذا التغيير يليق بالله وهو عمله كإبداعه العالمين من لا شيء فلا يقدر عليه أحد سواه. ودُعي «خليقة» لأنه بدء حياة جديدة في النفس تدوم إلى الأبد وتأتي بالأثمار الروحية. وكثيراً ما جاء «الجديد» في الإنجيل بمعنى الأفضل والأسمى طهارة مثل «الاسم الجديد» و «السماء الجديدة» و «الأرض الجديدة» و «أورشليم الجديدة» و «الإنسان الجديد» و «العهد الجديد». ووصف إشعياء النبي مجيء المسيح بما معناه أنه يصير به كل شيء جديداً ومن ذلك قوله «لاَ تَذْكُرُوا ٱلأَوَّلِيَّاتِ، وَٱلْقَدِيمَاتُ لاَ تَتَأَمَّلُوا بِهَا. هَئَنَذَا صَانِعٌ أَمْراً جَدِيداً» وقوله «هَئَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، فَلاَ تُذْكَرُ ٱلأُولَى وَلاَ تَخْطُرُ عَلَى بَالٍ» (إشعياء ٤٣: ١٨ و١٩ و٦٥: ١٧). ووصف يوحنا الرسول كمال ملكوت المسيح في السماء بقوله «قَالَ ٱلْجَالِسُ عَلَى ٱلْعَرْشِ: هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً» (رؤيا ٢١: ٥). فأشار الرسول إلى أن التغير الناشئ في الإنسان وهو في المسيح «أي وهو متحد به» كالتغير الذي أنبأ به إشعياء النبي في العهد القديم والذي أبان يوحنا الرسول في رؤياه أنه يكمل في نهاية كل شيء. وهذا يستلزم زوال ما في الإنسان من آرائه ومقاصده وشهواته وآماله ومبادئه العتيقة ونشوء آراء جديدة في قيمة النفس وقدر هذا العالم بالنسبة إلى قدر العالم الآتي وفي عظمة المسيح ومحبته ومقاصد جديدة في حبه وخدمته لذلك الفادي.
١٨ «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ»
رومية ٥: ١٠ وأفسس ٢: ١٦ وكولوسي ١: ٢٠ و١يوحنا ٢: ٢
ٱلْكُلّ أي كل ما يتعلق بالخليقة الجديدة التي هي موضوع كلامه وهو التغير الأدبي والروحي في نفس الإنسان.
مِنَ ٱللّٰهِ أي أن الله هو مصدر ذلك التجديد.
ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ هذا بيان للوسيلة التي اتخذها الله إلى إنشاء ما ذُكر من ذلك التغير العظيم وهي أول عمل الفداء. والمقصود بالضمير «نا» كل المؤمنين لأن تلك المصالحة غير مقصورة على بولس. والمراد «بالمصالحة» إزالة العداوى من بين الخصمين وهما هنا الله والبشر وعلتها خطيئة الإنسان. والمصالح هو الله وعلة مصالحته محبته للخطأة. والخاطئ لم يبتدئ المصالحة قط ولم يطلبها ولا سبيل له إلى إجرائها فليس له إلا أن يقبلها. فالذين ذهبوا إلى أن طريق المصالحة هو أن يطلبها الإنسان أولاً إنما ذهبوا إلى ما لم يكون ولا يكون لأنها اقتضت موت ابن الله ومن أين له أن يدعو ابن الله إلى الموت. وقد أوضح ذلك بقوله «إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ» (رومية ٥: ١٠). وقوله «سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ» (كولوسي ١: ١٩ و٢٠). والأمر الجوهري في هذا التعليم أنه كانت العداوة بين الله والإنسان ثم صارت المصالحة وأن منشئ هذه المصالحة هو الله نفسه والواسطة التي اتخذها إلى ذلك موت ابنه كما يأتي.
بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بموته كفارة عنا وتلك الكفارة ولم تغيّر قلب الله لكنها أزالت الموانع من إظهار محبته إيانا ومغفرته لنا وأوفت ما علينا لعدل الله ومهدت السبيل إلى المصالحة لأن المسيح حمل غضب الله ولعنته التي أوجبتها خطايانا علينا. ومصالحة الله لنا بابنه مهدت السبيل لمصالحتنا لله وتجديدنا الذي هو موضوع (ع ٢٠).
وَأَعْطَانَا أي وهب له ولسائر الرسل والمبشرين.
خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ أي المناداة بأنه وقع الصلح بين السماء والأرض بين الله والإنسان أي إن الله مع حقه أن يغتاظ على البشر لخطاياهم أوجد طريقاً هو الكفارة بموت المسيح إلى أن يكون عادلاً مع تبريره للخاطئ الذي يأتي إليه بواسطة ابنه. والمناداة بذلك هي الإنجيل الذي أمر المسيح تلاميذه أن يبشروا به كل الخليقة ويدعوها إلى قبوله والمسرّة به.
١٩ «أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ».
رومية ٣: ٢٤ و٢٥
هذه الآية متعلقة بالجملة الأولى من الآية السابقة وهي قوله «لكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح» فهي تفسير وتقرير لها ومختصر تاريخ الفداء.
ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً أي بواسطة المسيح فهو كقوله «بيسوع المسيح» في الآية السابقة وفي القولين بيان الطريق التي بها صالح الله العالم لنفسه. ومضمون ذلك أن الله لم يصالح الناس بلا واسطة ولا بواسطة ملاك أو خليقة أخرى بل بابنه. فكأنه قال الله حين مات ابنه كان يصالح العالم لنفسه. وهذا ما قصده حين أسلم ابنه إلى الموت وأجراه بموته.
ومعنى «مصالحته العالم لنفسه» هو تقديم ابنه كفارة لخطايا العالم لا تغيير قلوب الناس من جهته حتى يصيروا أصدقاء لأن هذا من نتائج المصالحة لا علتها ولا دليلها. والفرق بين قوله «صالحنا لنفسه» في الآية السابقة وقوله «كان مصالحاً العالم لنفسه» إنه أشار في الأول إلى ما فعله المسيح مرة حين مات على الصليب من أجل الجميع (رومية ٥: ١٠ وعبرانيين ٩: ٢٦). وفي الثاني إلى ما يفعله دائماً كلما سمع خاطئ بتلك المصالحة وقبلها. و «العالم» هنا كل البشر «كالجميع» في (ع ١٤ كولوسي ١: ٢٠).
غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ هذا أحد الدليلين في هذه الآية على أن الله كان مصالحاً العالم لنفسه بموت المسيح وهو أنه غفر لهم. وقوله «غير حاسب لهم خطاياهم» كقوله «مسامحاً لكم بجميع خطاياكم» (كولوسي ٢: ١٣). وقوله «طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً «طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً» (رومية ٤: ٧ و٨) فارجع إلى التفسير هناك.
وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ هذا الدليل الثاني على مصالحة الله للناس ومعنى العبارة أن الله وكل إلى المبشرين بالإنجيل المناداة بأن الله أتم الصلح بينه وبين الناس وأنه مستعد أن يغفر لكل من تاب وآمن وهذا أوضح برهان على أن الله قبل موت المسيح كفارة عن الخطايا كافية كاملة مقبولة. وعبّر الرسول عن توصية الله للمبشرين بقوله «واضعاً فيهم كلمة المصالحة» إشارة إلى أنه وضعها في أفواههم جرياً على سنن الله في قوله لموسى «فَتُكَلِّمُهُ (أي هرون) وَتَضَعُ ٱلْكَلِمَاتِ فِي فَمِهِ، وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَمَعَ فَمِهِ، وَأُعْلِمُكُمَا مَاذَا تَصْنَعَانِ» (خروج ٤: ١٥). أو جرياً على سنن قوله السابق «ولكن لنا هذا الكنز (أي التبشير) في أوان خزفية» باعتبار أن المبشرين آنية خزفية وأن التبشير جواهر كُنزت فيها (ص ٤: ٧).
٢٠ «إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ».
ص ٦: ١
هذه الآية نتيجة ما سبق.
إِذاً أي بناء على قوله تعالى «مصالحاً» وأنه وكل إلى المبشرين المناداة بالمصالحة.
نَسْعَى كَسُفَرَاءَ أي نجتهد نحن المبشرين باعتبار كوننا سفراء في تبليغ المناداة. والسفير رسول الملك ونائبه فهو باعتبار أنه رسوله لا يتكلم باسم نفسه أو سلطانه ولا يصرّح بآرائه أو أوامره فلا أهمية له في ذاته ولا يأتي شيئاً إعلان ما أمره الملك بإعلانه وباعتبار كونه نائبه يتكلم باسمه. ولكلامه سلطان كسلطان كلام الملك كأنه الملك نفسه فالإهانة له إهانة لملكه. فنسبة المبشرين بالإنجيل كنسبة السفراء إلى الملك فإنه هو دعاهم بروحه وأقامهم لخدمته وهم رسله لكي يبلغوا الناس كلامه لا آراءهم ولا عقائدهم. فأهمية كلامهم ليست بالنظر إلى أنفسهم بل بالنطر إلى ربهم ولكونهم نواباً عنه كان رفض كلامهم رفضاً للمسيح كأنه حاضر يتكلم حقيقة والاستخفاف بتبشيرهم استخفافاً به.
عَنِ ٱلْمَسِيحِ أي باسمه وبالنيابة عنه بدليل قوله على الأثر «كأن الله يعظ بنا».
كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا هذا إما متعلق بقوله السابق «نسعى» وإما بقوله اللاحق «نطلب». فإن كان الأول كان المقصود بيان نسبة المبشرين إلى الله وهي أنهم نوابه في التكلم. وإن كان الثاني كان المقصود بيان على طلبهم من الناس قبول مناداتهم فإنهم يطلبون ذلك كأنه تعالى يطلبه بأفواههم.
والذي يستحق الملاحظة هنا أن الإنجيل اعتبر كون المبشرين سفراء عن المسيح أو كونهم هم الذين يعظ الله بهم شيئاً واحداً. فهو يعتبر الفداء عمل الله الآب وعمل الله الابن. وأن الله يصالح العالم لنفسه بالمسيح ويضع فينا كلمة المصالحة فعندما نتكلم كسفراء المسيح نعظ بالنيابة عن الله.
نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ كأنه حاضر يتكلم بما نتكلم به. فإنه حين كان على الأرض طلب من الناس أن يصالحوا الله ولو بقي على الأرض لما برح يطلب ذلك منهم. و «الطلب» جزء من المناداة التي أُمر بها وهو يدل على تنازل الله ومحبته للناس فيحق له أن يأمر الناس بالخضوع وينذرهم بالعقاب على إبائهم إياه. فيا للعجب إن ملك الملوك يتنازل إلى أن يطلب من خلقه وعبيده العصاة أن يقبلوا المصالحة التي أعدها بموت المسيح ويقدمها لهم مجاناً.
تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ أي اقبلوا المصالحة المعروضة عليكم. لأن المسيح أنشأها بموته فبها استطاع الله أن يكون باراً ومبرراً للفاجر. فليس للخطأة إلا أن يقبلوا تلك المصالحة التي أعدت لهم. وهذه الدعوة غير مقصورة على الخطأة قبل إيمانهم فهي موجهة إلى المؤمن أيضاً فكلما شك في قبول الله له لفتوره أو لسقوطه في الخطيئة يحتاج إلى التعزية الناشئة عن هذه الحقيقة وهي أن الله صالحه بدم المسيح لأن الإنجيل لا يعلّم أن استحقاق المسيح يكفر عن خطايا الإنسان قبل إيمانه وتجديده وأن الخاطئ نفسه يكفر عن الخطايا التي يرتكبها بعد ذلك بآلام نفسه أو بإيفاء القوانين بل يعلّم أن المسيح «حي في كل حين ليشفع فينا» وإن دمه «يطهر من كل خطيئة» قبل الإيمان وبعده.
٢١ «لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ».
إشعياء ٥٣: ٦ و٩ و١٢ وغلاطية ٣: ١٣ و١بطرس ٢: ٢٢ و٢٤ و١يوحنا ٣: ٥ رومية ١: ١٧ و٥: ١٩ و٢٠: ٣
هذه الآية إثبات لما سبق وهو قوله «تصالحوا مع الله» فافعلوا ذلك لأنه أعد لكم واسطة كافية مؤكدة لمصالحتكم وقبولكم. وبيّن في هذه الآية ما صنعه الله لتبرير الناس وما هو أساس المصالحة بواسطة المسيح وفيها خلاصة عمل الفداء.
لأَنَّهُ جَعَلَ أي الله فإنه مصدر عمل الفداء. إن موت المسيح لم يجعله يشفق على الخطأة ويخلصهم لكنه من تلقاء نفسه أرسل المسيح ليعد لهم خلاصاً. فوهم الذين ظنوا الله قاسياً منتقماً لا يريد أن يغفر للخاطئ إلا بلجاجة المسيح لأن شهادة الإنجيل أن الله «هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد».
ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً أي المسيح فإن شهادة الله للمسيح إنه كان قدوساً بريئاً من الخطيئة وهذا على وفق قول المسيح لليهود «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ» (يوحنا ٨: ٤٦). وقوله «إِنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يوحنا ١٤: ٣٠). وقول الرسول فيه إنه «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» وإنه «رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هٰذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ» إنه «بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ» (عبرانيين ٤: ١٥ و٧: ٢٦ و٩: ١٤). وقول بطرس الرسول «ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (١بطرس ٢: ٢٢). وقول يوحنا الرسول «وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (١يوحنا ٣: ٥). والخلو من الخطيئة شرط ضروري للتكفير عن الخطأة. وأوجبت شريعة موسى أن تكون الحيوانات المقدمة على المذبح بلا عيب لكي تكون رموزاً إلى تلك الذبيحة العظيمة.
خَطِيَّةً أي أن الله جعل المسيح خطيئة. فسر الفداء أن الله جعل الذي لم يعرف الخطيئة خطيئة وأنه وضع عليه إثم جميعنا (إشعياء ٥٣: ٦) وأنه «صار لعنة لأجلنا» (غلاطية ٣: ١٣) «فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٨: ٣). وجعله الله «خطيئة» حين صلى في جثسيماني وتألم وكان «عرقه كقطرات دم» وحين حوكم في محكمتي قيافا وبيلاطس. وحين سخر به العسكر وبصقوا عليه وجلدوه. وحين عُلق على الصليب وستر الله وجهه عنه حتى أنه صرخ «إلهي إلهي لماذا تركتني» وحين أسلم الروح. وفي وقوع كل هذا على ابن الله البار سر الفداء.
ومعنى قوله «جعلت خطيئة» نسب إليه خطيئة غيره وعمله معاملة خاطئ. فبالمنوال الذي صرنا به بر الله صار هو خطيئة أي أن الله حسبنا أبراراً مع كوننا خطأة وحسب المسيح خطيئة مع كونه بريئاً من الخطيئة. أراد بعضهم أن يقرأ بدل «خطيئة» ذبيحة خطيئة ولكن الذي يمنع من ذلك أن الله لم يكتبها هكذا في كتابه وأنه لا توافق المقابلة في سائر الآية كموافقتها على ما هي في الكتاب.
لأَجْلِنَا أي بدلاً منا كما ذُبح الخروف على المذبح بدلاً ممن قدمه. فإن المسيح باعتبار كونه نائباً عنا ذُبح بدلاً منا. وبقية الآية تدلنا أنه صار خطيئة ودين لكي نتبرر ولا نأتي إلى دينونة.
لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ أي ليحسبنا الله أبراراً كما أنه حسب المسيح خطيئة وهذا غاية الله من جعل «الذي لم يعرف خطيئة خطيئة» وهو لا يشير إلى أن الخطاة صاروا أبراراً بالذات أي أن الله قدس قلوبهم بموت المسيح كما لا يشير إلى أن جعله المسيح خطيئة من أجلنا جعله فاسداً مجرماً متعدياً شريعته. نعم إن التقديس لا ينفك من أن يكون للمؤمن إحدى نتائج موت المسيح لكن لا إشارة إلى ذلك هنا بل إلى ما فعله موت المسيح للجنس البشري مرة واحدة إذ صالح الإنسان مع الله بإيفاء العدل مطاليبه حتى لاق بالله أن يعامله كالبار. وأُضيف البر إلى الله لأنه هو منشئه أي منشئ الطريق الذي به يتبرر الخاطئ أو لأنه يجعلنا بذلك الطريق أبراراً أمامه والقرينة ترجح الثاني.
فِيهِ أي في المسيح فإن الاتحاد به بالإيمان هو الواسطة الوحيدة إلى أن نتبرر أمام الله.
إن الرسول بنى دعوته للناس إلى المصالحة مع الله على ما ذكره في هذه الآية وكان يمكنه أن يبنيها على أمر آخر مثل وجوب أن يصالح الناس ملكهم وخالقهم. وعلى قدرة الله وجودته. وخطر البقاء في العداوة لله وأفراح السماء وأهوال جهنم. لكنه اختار بناءها على أن المسيح صار خطيئة لأجلنا لأنه من أقوى الحاملات على المصالحة مع الله.

فوائد



  • إنه في طاقة كل مسيحي أن يتيقن نيل السماء وأن ذلك مما يجب عليه لأنه يساعده في التجربة ويعزيه في الضيق ويريحه عند الموت. قال بولس إنه هو متيقن ذلك وكذلك يوحنا (١يوحنا ٣: ٢ و١٤) ويمكننا نحن ما أمكنهما. و نتيقن ذلك من كرهنا للخطيئة ومحبتنا لله وشوقنا إلى القداسة ومحبتنا للإخوة (ع ١).
  • إن هذا الجسد لا بد من انحلاله بالموت بعد قليل لأنه يشبه خيمة سهلة الانتقاض لا بيتاً ثابت الأركان وبناء على ذلك يجب أن نتوقع الموت ونستعد له إذ الانتظار له لا يقدمه والغفلة عنه لا تؤخره. والاستعداد للموت يقوم بعضه بإتمام الإنسان واجباته لأهل بيته ككتابته وصية وواجباته لنفسه كتيقنه أن الله يقبله في المنازل الأبدية (ع ١).
  • إن هذه الحياة تعب وشقاء وأنين من الخطيئة والتجارب والمشقات والهموم. وهذا لا يحدث اتفاقاً ولا يكون لبغض الله إيانا ولا لأنه يحسدنا على سرورنا بل لقصده ترغيبنا في عالم أفضل من هذا العالم وميراث أفضل من كل الموراث الأرضية حيث لا هم ولا تعب ولا موت (ع ٢ و٤).
  • إن للمسيحي وطناً دائماً في السماء وهو هنا غريب بين غرباء وهناك وطنيّ بين أصدقاء. وهنا يكون جسده ضعيفاً مريضاً عرضة للموت وهناك يكون صحيحاً خالداً. وهنا يمكن أن يكون فقيراً مهاناً وهناك يكون غنياً مكرماً (ع ١ - ٤).
  • إنه على المسيحي أن يقبل بالرضى والصبر كل ما يضعه الله عليه من الحزن والأمل لأن الله يقصد نفعه بذلك. فإن ذلك ليس إلا وقتياً وهو كل يوم يقرب من سماء الراحة كالسائح الذي لا يكترث بمشقات الطريق ويقول غداً أبلغ بيتي وأستريح (ع ١ - ٤).
  • إنه لا يحسن أن نشتهي الموت لمجرد الخلاص من الألم والعناء فمن الناس من انتحروا هرباً من شدة آلام أجسادهم أو أحزان قلوبهم فجلبوا على أنفسهم شراً مما هربوا منه. فيجب أن نحتمل كل ما عيّنه الله من الأثقال بلا تذمر وأن لا نريد الموت إلا متى أظهر الله إرادته أن نتغرب عن الجسد ونتوطن عنده (ع ٤).
  • إن ظن الإنسان أنه مستعد للموت لعدم خوفه منه ليس ببرهان على صحة استعداده وكذا ظنه أن غيره مستعد له لمجرد قوله واطمئنانه. فربما خدع نفسه بذلك أو خدعه غيره. ولعل اطمئنانه نشأ من جهله أو من تأثير المرض أو الدواء أو الرغبة في النجاة من الألم فكل من رجا السماء بغير المسيح فرجاؤه باطل (ع ٤).
  • إن كل ما للمسيحيين من الآمال والأفراح والسلام والاطمئنان وهم يتوقعون الموت هو من الله لا من أنفسهم وعدم خوفهم الموت ليس من شجاعتهم وقواهم الطبيعية لكنه من نعمته تعالى وتأثير روحه القدوس. فسكنى ذلك الروح فيهم عربون من الله على أن السماء لهم وعلى أنه يجب أن لا يخافوا من الموت أبداً (ع ٥).
  • إنه يجب على المسيحي أن يكون مسروراً أبداً. قال بولس أنه واثق كل حين فكذلك يجب أن نثق نحن. فلا شيء في الدين المسيحي يحمل المؤمن على أن يكون مكتئب الفؤاد عابس الوجه بل ما يحمله على عكس ذلك فلا حق لأحد في العالم أن يسر مثله لأنه يعلم أن كل ما ينزل به هنا يؤول إلى نفعه وأن خطاياه مغفورة وأن الله مصالح له وأن إرثه للسماء محقق وأنه متى غاب عن الجسد حضر مع الرب (ع ٦).
  • إنه يجب أن نشعر دائماً بأننا في حضرة الرب وأن نجتهد أن نرضيه على الأرض كما ننتظر أن نرضيه في السماء. فيجب أن تكون غايتنا الوحيدة أن نكون مقبولين لديه سواء توقعنا طول العمر أم قصره بين الجماعات أم في الانفراد وفي الوطن أم في الغربة وفي البحر أم في البر وفي المرض أم في الصحة وفي الفرج أم في الضيق وفي العز أم في الذل فبهذا التسليم يمتاز المسيحي الحقيقي عن غيره (ع ٩).
  • إنه لا بد من وقوفنا جميعنا أمام عرش الله ومن أن تكون دينونتنا بالعدل بلا محاباة ولا غض نظر عن شيء فإن الله لا يعتبر من الأعمال الصالحة التي تستحق الثواب ما لم يكن ما عُمل بالإيمان بالمسيح وبالغيرة على مجده فيجب الاجتهاد في أن يكون كل ما نعمله مرضياً لديه. وأول الأعمال التي يرضاها االإيمان بابنه الذي أرسله (ع ٩).
  • إنه يجب الاجتهاد في أن ننقذ غيرنا من الهلاك الأبدي وأن نقنعه بالهرب من الغضب الآتي وأن نتوصل إلى ذلك بلجاجتنا ودموعنا وصلواتنا وعدم غفلتنا عن وسيلة من الوسائل إلى ذلك كترغيبه في أفراح السماء وإنذاره من عقاب جهنم وأن نحذر مع ذلك من كل كلمة قاسية أو توبيخ شديد مما يوهمه أننا نسر بعقابه على عدم قبوله لنصحنا وأن نشابه بولس الذي كان ليلاً ونهاراً لا يفتر عن أن ينذر بدموع كثيرة كل واحد بغية أن يأتي به إلى مصالحة الله (ع ١١).
  • إنه يجب عدم الاستغراب من أن ينسب إلينا أحد اختلال العقل على غيرتنا للدين فقد حدث مثل هذا في كل عصر وبلاد. فحسب بعضهم بولس يهذي وحسب بعضهم المسيح مجنوناً والتلميذ ليس أفضل من معلمه والعبد ليس أفضل من سيده فإننا بالنظر إلى قدر السعادة التي نحث الناس على ربحها وشدة الخطر الذي نحثهم على الهرب منه يحق لنا ان نبذل الوسع في تنبيههم إلى حد نظهر به للدنيويين أننا مجانين (ع ١٣).
  • إنه يجب أن يُعلن الإنجيل لكل الناس فإن المسيح مات عن الجميع فيلزم أنه أعد الخلاص للجميع وأنه يعرضه على الجميع مجاناً بلا استثناء فإن رفضوه كان الحق عليهم ووجب أن يعطوا على ذلك حساباً لله (ع ١٤).
  • إن الرسول أوجب على كل الناس أن يعيشوا في ما بعد للمسيح فإن كان المسيح ليس بإله فأمر الرسول بالطاعة وتوجيه العبادة المختصة بالله إليه وهو مخلوق محال وذلك مما يثبت لاهوت المسيح (ع ١٥).
  • إنه لا يجوز أن نقيس الأمور «حسب الجسد» أي بالنظر إلى بهائها الظاهر واعتبار أهل العالم لها بل يجب أن نقيسها بقياس الله ونسبتها إلى الأبدية (ع ١٦).
  • إن الولادة الجديدة أهم ما نحتاج إليه. قال المسيح «ينبغي أن تولدوا من فوق» وهذا لا يكون بمجرد تغيير الاسم والاعتراف باللسان بل بالتغيير الذي يصح أن يعبر عنه بالخليقة الجديدة. فإن الأشياء العتيقة قد مضت هوذا كل شيء قد صار جديداً فعلى كل إنسان أن يمتحن نفسه ليعرف هل حصل على هذا التغيير العظيم أم لا. فإنه من المحال أن يخلص أحد في العالم دون أن يتجدد (ع ١٧).
  • إن التبشير عمل مهم وعمل المبشر عمل ذو شأن لأنه سفير الله ليعلن لعصاة الناس الشروط التي بها يرضي الله عنهم ويقبلهم أولاداً له (ع ١٨ و١٩).
  • إن تنازل الله عظيم جداً في طلبه المصالحة من الناس. فلو عصى الملك أحد رعيته فحُكم عليه بالموت كان تنازلاً عظيماً من الملك إذا رحمه وهو قد اعترف له بذنبه وطلب عفوه. وماذا يقال في ذلك الملك إذا أرسل إلى العاصي رسله على التوالي يسألونه أن يأتي للمصالحة. فإنه تعالى فعل كذلك وفوق ذلك بذل ابنه للموت لكي يصالح العصاة به (ع ٢٠ و٢١).
  • إن الله يرغب كل الرغبة في خلاص الناس. فإنه بذل ابنه من أجلهم وأرسل بشارة الخلاص مع خدمه المبشرين يلح عليهم أن يصالحوه فإن هلك أحد فهلاكه من نفسه لأنه رفض المصالحة.




الأصحاح السادس


تبرئة الرسول نفسه من تهمة أعدائه وإظهار كونه خادماً أميناً للمسيح بشدة طلبه خلاصهم واستقامة سيرته واحتماله المشقات والإهانات من أجل الإنجيل (ع ١ - ١٠). وبيان محبته لمؤمني كورنثوس ونصحه لهم بأن لا يخالطوا غير المؤمنين ولا يتدنسوا بهم.
أمانة الرسول ومحبته ع ١ إلى ١٨


ظل الرسول في هذا الأصحاح على ما كان عليه في الذي قبله من المحاماة عن نفسه وبيّن أنه طلب من الناس باعتبار كونه عاملاً مع الله أن يستفيدوا من نعمته تعالى (ع ١ و٢). وأنه اجتهد في أن لا يعثر أحدا في تبشيره (ع ٣). وثبت أمانته بالمشقات المتنوعة التي احتملها (ع ٤ و٥). وبإظهاره إثمار الروح (ع ٦ و٧) في الشدة والرخاء واللوم والمدح (ع ٨ - ١٠). وإنه فاتح قلبه للكورنثيين ليظهر وفرة حبه لهم (ع ١١ و١٢) وطلب إليهم أن يعاملوه كما عاملهم (ع ١٣). وأن يعتزلوا مخالطة الأشرار (ع ١٤ - ١٨).
١ «فَإِذْ نَحْنُ عَامِلُونَ مَعَهُ نَطْلُبُ أَنْ لاَ تَقْبَلُوا نِعْمَةَ ٱللّٰهِ بَاطِلاً».
١كورنثوس ٣: ٩ ص ٥: ٢٠ عبرانيين ١٢: ١٥
قال في الأصحاح السابق أنه أتاهم كسفير للمسيح وسألهم أن يصالحوا الله. وقال هنا أنه أتاهم عاملاً مع الله وطلب إليهم أن لا يغفلوا عن نعمته.
نَحْنُ عَامِلُونَ مَعَهُ في المناداة بالإنجيل وحث الناس على قبول الخلاص بالمسيح. قال سابقاً أن الله طلب بواسطته المصالحة (ص ٥: ٢٠) وقال هنا أنه هو وسائر المبشرين يطلبون ذلك باعتبار أنهم عاملون مع الله عملاً واحداً. وسبق الرسول إلى مثل هذا في كلامه على نفسه وعلى أبلوس بقوله «نحن عاملان مع الله» (١كورنثوس ٣: ٩). وهذا يفيد أن لله تعالى عملاً يهتم به وهو تخليص العالم بالمسيح لأجل مجده هو ونفع العالم وسعادته الأبدية وأنه يسمح للناس في أن يعملوا معه في هذا الأمر العظيم. ولم يأت ذلك لأنه يحتاج إلى مساعدتهم لأن ذراعه القديرة لا تفتقر إلى مساعدة الناس الواهنة ولكنه يأذن لهم أن يشتركوا في شرف عمل الفداء ومجده والسعادة والثواب الناشئين عنه ولكي يصيروا مثل الآب الذي أنشأ طريقه والمسيح الذي أكمله.
نَطْلُبُ أنا بولس وسائر الرسل والمبشرين بالإنجيل بالاتفاق مع الله من غير المؤمنين أن لا يرفضوا المصالحة لله والخلاص المترتب عليها.
أَنْ لاَ تَقْبَلُوا نِعْمَةَ ٱللّٰهِ بَاطِلاً نعمة الله هنا هي ما تكلم عليه في الأصحاح السابق وهو «جعل الله ابنه خطيئة لأجلنا لكي نصير بر الله فيه». وهذه نعمة فائقة الوصف تظهر بالكفارة التي يحتاج جميع الناس إليها وهي كافية ومناسبة لهم ومقدمة لهم في الإنجيل. وقبولها باطلاً هو رفض الخلاص العظيم المتوقف عليها. وهذا موافق لقوله للغلاطيين «لست أبطل نعمة الله» (غلاطية ٢: ٢١) أي أنه لا يتكل على أعمال الناموس للتبرير مجاناً ولقوله لهم أيضاً «لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ» (غلاطية ٢: ٢١) أي أنه لا يتكل على أعمال الناموس للتبرير وبذلك يرفض الطريق التي أنشأها الله للتبرير مجاناً ولقوله لهم أيضاً «قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ» (غلاطية ٥: ٤). لأنهم رفضوا الخلاص مجاناً فاضطروا إلى حفظ الناموس كله. وقوله لأهل رومية «لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ» (رومية ٦: ١٤). ويتبين أن هذا معنى النعمة من الآية الآتية وهي قوله «هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص». فإذا لا شيء في هذه الآية يدل على إمكان أن يهلك الإنسان بعدما آمن بالمسيح ونال مغفرة خطاياه وتجديد قلبه بدليل صراحة قول الإنجيل «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ» (رومية ٥: ١٠). وقوله «لا شيء يفصلنا عن محبة الله» (رومية ٨: ٣٩). وقوله «ٱلَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهٰؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً» (رومية ٨: ٣٠).
وذهب بعضهم إلى أنه أراد بقوله «لا تقبلوا نعمة الله باطلاً» لا تقبلوا نعمة الله قبولاً بأن تقبلوا كفارة المسيح والمصالحة وتبقوا مع ذلك في الخطيئة. فذلك من أول صنوف المحال لأنه قطع الاتصال بين التبرير والتقديس. ولا يمكن الإنسان أن يحصل على المغفرة وهو يرفض التقديس فترك الإثم أول شروط المصالحة لله أبداً وكيف يبرأ المسموم وهو لا ينقطع عن شرب السمّ.
٢ «لأَنَّهُ يَقُولُ: فِي وَقْتٍ مَقْبُولٍ سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاَصٍ أَعَنْتُكَ. هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ».
إشعياء ٤٩: ٨
في هذه الآية بيان علة أن لا نهمل هذا الخلاص العظيم برفض المصالحة.
لأَنَّهُ يَقُولُ أي الله الآب للمسيح (إشعياء ٤٩: ٨).
ظن بعضهم أن الرسول ذكر هنا كلمات أن الله تكلم في العهد القديم على وقت مقبول ويوم خلاص ورأى أن تلك الكلمات مع كونها موجهة إلى المسيح أصلاً تتضمن وعد الرضى به والمعونة له ونجاة شعبه من مصائبهم وخلاص الأمم وأنها موافقة للتعبير عن مقصوده فاستعارها بإلهام الروح لينذر من قبول نعمة الله باطلاً وإهمال ذلك الخلاص العظيم ولذلك زاد عليها للإيضاح قوله «هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاَص» وإنه جرى في ذلك كما جرى في أخذه قول داود «فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى ٱلْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ» (مزمور ١٩: ٤). وقصد به معنى غير الذي قصده داود فإن داود أشار به إلى شهادة السماوات المنظورة بوجود الله فاستعاره بولس لتبشير التلاميذ بالمسيح (رومية ١٠: ١٨). وذهب بعضهم ومذهبه هو الأرجح أن بولس اقتبس وعد الله للمسيح باعتبار كونه فادياً لأنه رآه أخذاً في التمام على توالي دعوة المسيح خطأة اليهود والأمم بواسطة تلاميذه إلى قبول الخلاص الذي أعده بدليل أنه جزء نبوءة منها قوله «قَلِيلٌ أَنْ تَكُونَ لِي عَبْداً لإِقَامَةِ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ وَرَدِّ مَحْفُوظِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُوراً لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٤٩: ٦). فرأى بولس أن الوقت الموعود به في هذه النبوءة قد حل فصرّح أن الله مستعد أن يظهر رحمته للجميع ويصالحهم.
وعلة إلحاح الرسول على الناس بطلبه إليهم أن يقبلوا الإنجيل حالاً عدم وجود واسطة للخلاص غير التي نادى بها لأن الوقت الذي أعطيه الإنسان لقبول الخلاص محدودة بمدة الحياة ولا يتحقق من هذه المدة سوى زمن الحال ولأن الإنسان كلما أبطأ عن قبول المصالحة قسا قلبه ولأن الروح القدس الذي لا يمكن الخاطئ أن يتوب بدونه ربما حزن وتركه إلى الأبد.
ولا ريب في أن الله يهب لكل أمة وكنيسة وشخص فرصاً لقبول الخير فإن انتهزوها حصلوا على السعادة وإن أهملوها تمر ولا ترجع (عبرانيين ٣: ١٣ و لوقا ١٩: ٤٢).
٣ «وَلَسْنَا نَجْعَلُ عَثْرَةً فِي شَيْءٍ لِئَلاَّ تُلاَمَ ٱلْخِدْمَةُ».
رومية ١٤: ١٣ و١كورنثوس ٩: ١٢ و١٠: ٣٢ أعمال ١: ١٧ وص ٥: ١٨
هذه الآية متعلقة بقوله «نطلب» في الآية الأولى وفيها بيان تصرّفه في التبشير.
لَسْنَا نَجْعَلُ عَثْرَةً اجتهد أن يسير دائماً في طريق يعتزل فيها أن يجد أحد عليه حجة لرفض إنجيله ورغب في إظهار إخلاصه للجميع ومحبته لنفعهم وتجنب كل ما يحملهم على الشك في ذلك على وفق قول المسيح «كُونُوا حُكَمَاءَ كَٱلْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَٱلْحَمَامِ» (متّى ١٠: ١٦). وقوله هو «إِنْ كَانَ طَعَامٌ يُعْثِرُ أَخِي فَلَنْ آكُلَ لَحْماً إِلَى ٱلأَبَدِ، لِئَلاَّ أُعْثِرَ أَخِي» (١كورنثوس ٨: ١٣) وقوله «أَنَا أَيْضاً أُرْضِي ٱلْجَمِيعَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرَ طَالِبٍ مَا يُوافِقُ نَفْسِي، بَلِ ٱلْكَثِيرِينَ، لِكَيْ يَخْلُصُوا» (١كورنثوس ١٠: ٣٣ انظر أيضاً فيلبي ٢: ١٥ و١تسالونيكي ٢: ١٠).
ٱلْخِدْمَةُ أي خدمة التبشير. لم يخش اللوم الشخصي ولكنه لم يرد أن يضعف تأثير التبشير.
٤، ٥ «٤ بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ ٱللّٰهِ، فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ، ٥ فِي ضَرَبَاتٍ، فِي سُجُونٍ، فِي ٱضْطِرَابَاتٍ، فِي أَتْعَابٍ، فِي أَسْهَارٍ، فِي أَصْوَامٍ»
ص ٤: ٢ و١كورنثوس ٤: ١ أعمال ١٦: ٢٣ وص ١١: ٢٣ الخ أعمال ١٣: ٥٠ و١٤: ٥ و١٩ و١٦: ٢٢ و١٧: ٥ و١٨: ١٢ و١٩: ٢٣ إلى ٤١
ذكر الرسول هنا بعض المصائب المتنوعة التي نزلت به وهو مثابر على استقامته واقتصر على تسع منها. ثم ذكر تسع فضائل أبداها في أثناء تلك النوازل امتُحن إخلاصه وثبت (ع ٦ و٧). ثم تسع مقابلات امتُحن بها ذلك الإخلاص وثبت أيضاً (ع ٨ - ١٠).
فِي كُلِّ شَيْءٍ أي في كل الأحوال التي يمكن أن نُمتحن بها.
نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ ٱللّٰهِ أو «نمدح أنفسنا كذلك» على ما يحتمله الأصل اليوناني وعلى ما ذُكر في حاشية الإنجيل ذي الشواهد. والمعنى على الاحتمالين إننا نبرهن إخلاصنا في خدمة الإنجيل.
فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ أي بوفرة الصبر في الأحوال التسع الآتية وبذلك أثبت أمانته لسيده. وهذه الأحوال قسمها الرسول إلى ثلاثة أقسام متساوية:

  • الأول: عام لكل المسيحيين وهو الشدائد والضرورات والضيقات.
  • الثاني: خاص بالرسول وهو الضربات والسجون والاضطرابات.
  • الثالث: اختياري وهو الأتعاب والأسهار والأصوام.


شَدَائِدَ وهي مصائب يصعب احتمالها.
ضَرُورَاتٍ وهي نوازل لا مهرب منها ولا يُعرف وجه التصرف فيها.
ضِيقَاتٍ وهي نوائب تحيط بالإنسان من كل جانب ويعجر عن التخلص منها وعكسها الرحب في قول المرنم «أَخْرَجَنِي إِلَى ٱلرُّحْبِ» وقوله «عَرَفْتَ فِي ٱلشَّدَائِدِ نَفْسِي، وَلَمْ تَحْبِسْنِي فِي يَدِ ٱلْعَدُوِّ، بَلْ أَقَمْتَ فِي ٱلرُّحْبِ رِجْلِي» (مزمور ١٨: ١٩ و٣١: ٧ و٨). فالرسول أظهر الصبر والأناة في هذه الثلاث.
ضَرَبَاتٍ كان بولس حين كتب هذه الرسالة قد ضُرب ثماني مرات خمس منها من اليهود وثلاث من الرومانيين كما يتضح من (ص ١١: ٢٤ و٢٥).
سُجُونٍ لم نعلم كم مرة سُجن الرسول لأن لوقا لم يذكر في الأعمال إلا بعض تاريخه. فنعلم أنه سجن في فيلبي وفي أورشليم وفي قيصرية وفي رومية وكان مقيداً في بعضها بالسلاسل ورجلاه في المقطرة وكان الروح القدس يشهد له في كل مدينة قائلاً إن وثقاً وشدائد تنتظره (أعمال ٢٠: ٢٣).
ٱضْطِرَابَاتٍ أي هياجات وقلاقل عُرّض الرسول لها في أنطاكية بيسيدية (أعمال ١٣: ٥٠) ولسترة (أعمال ١٤: ١٩) وفيلبي (أعمال ١٦: ١٩) وتسالونيكي (أعمال ١٧: ٥) وكورنثوس (أعمال ١٨: ١٢) وأفسس (أعمال ١٩: ٢٩). وأورشليم (أعمال ٢١: ٣). ففي مثل هذه الأحوال تُمتحن شجاعة أشجع الناس فمقاومتها بمنزلة مقاومة الزوبعة وليس للمبشر فيها إلا الصبر والاتكال على الله. وهذه المصائب نزلت بالرسول على رغمه وحمل فوق ذلك بعض المصائب باختياره فكان أجلى برهان على إخلاصه.
أَتْعَابٍ هذه أول المصائب التي حملها الرسول باختياره وأشار بها إلى ما قاسى من المشقات وهو يعمل بيديه ليقوم بحاجاته وحاجات الذين معه حتى يبشر مجاناً وما احتمله في الأسفار والوعظ وخدمة المرضى والفقراء وسد احتياجات الكنائس.
أَسْهَارٍ قاساها في أسفاره ليلاً واعترته من شدة همومه وأتعابه (ص ١: ٢٧).
أَصْوَامٍ الصوم هنا الامتناع من الطعام لكثرة العمل أو لخشية إضاعة فرصة التبشير كما حدث للمسيح وتلاميذه (مرقس ٢: ٢٠ و٦: ٣١). ولا شيء في القرينة يدل على أن تلك الأسهار والأصوام من فروض الدين لأن الصوم الديني لا يُذكر في الإنجيل إلا مقترناً بالصلاة والأصوام هنا ذُكرت مقترنة بالأتعاب.
٦، ٧ «فِي طَهَارَةٍ، فِي عِلْمٍ، فِي أَنَاةٍ، فِي لُطْفٍ، فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، فِي مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ، ٧ فِي كَلاَمِ ٱلْحَقِّ، فِي قُوَّةِ ٱللّٰهِ بِسِلاَحِ ٱلْبِرِّ لِلْيَمِينِ وَلِلْيَسَارِ».
١كورنثوس ١: ٥ و٢: ٦ و١٢: ٨ رومية ٨: ٥ و١تسالونيكي ١: ٥ رومية ١٢: ٩ ص ٤: ٢ و٦: ١٤ و كولوسي ١: ٥ و١كورنثوس ٢: ٤ وص ٤: ٧ ص ١٠: ٤ وأفسس ٦: ١١ و١٣ و٢تيموثاوس ٤: ٧
أبان الرسول بما سبق أمانته وإخلاصه في أثناء الشدائد التسع التي احتملها بالصبر وأخذ في هاتين الآيتين يبينهما أيضاً بما مارسه من الفضائل والمواهب التسع الآتي ذكرها.
طَهَارَةٍ هي نقاوة القلب والسيرة فهي تزيد على العفة بخلو النفس من الهوى (فيلبي ٤: ٨ و١تيموثاوس ٥: ٢٢ و١يوحنا ٣: ٣).
عِلْمٍ هو هنا معرفة أسرار ملكوت الله كما في قوله للأفسسيين «فَكَتَبْتُ بِٱلإِيجَازِ. ٱلَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٣: ٣ و٤). وقوله للغلاطيين «وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ١: ١١ و١٢ انظر أيضاً ١كورنثوس ٢: ٦).
أَنَاةٍ هي احتمال الظلم والاضطهاد بلا تذمر (١كورنثوس ١٣: ٤).
لُطْفٍ هي إظهار الحب للغير بفعل الخير حتى يشبه صاحبه الله الذي ينعم على غير الشاكرين والأشرار (لوقا ٦: ٣٥).
ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ظهور أنه حال في الرسول. وكان الروح القدس في تلك الأيام يعلن حضوره في المؤمنين بمواهب معتادة وغير معتادة فكان يهب للبعض نبوءة وللبعض حكمة وللبعض موهبة التعليم وللبعض صنع المعجزات وما أشبه ذلك (١كورنثوس ١٢: ٧ - ١١). وأشار بولس بياناً لكونه خادماً أميناً لله إلى الفضائل والمواهب التي أنعم الروح القدس بها عليه وإلى القوة الإلهية التي رافقت تبشيره فأمكنه أن يشير إلى المؤمنين بواسطته ويقول لهم «أَنْتُمْ خَتْمُ رِسَالَتِي فِي ٱلرَّبِّ» ١كورنثوس ٩: ٢).
مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ هي المحبة الأخوية المبنية على نسبة المؤمنين إلى المسيح ونسبة بعضهم إلى بعض.
كَلاَمِ ٱلْحَقِّ أي إعلان الحق بوعظه كقوله قبلاً في نفسه وسائر المبشرين «بِإِظْهَارِ ٱلْحَقِّ، مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ قُدَّامَ ٱللّٰهِ» (ص ٤: ٢).
قُوَّةِ ٱللّٰهِ إن الله أظهر قوته بطرق متنوعة في خدمة بولس حسب قوله «فَإِنَّ ٱلَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ» (غلاطية ٢: ٨). ومنها طريق تجديده ومنها طريق إعداده للتبشير ومنها طريق ممارسته خدمته بواسطة المعجزات التي صنعها.
سِلاَحِ ٱلْبِرِّ لِلْيَمِينِ وَلِلْيَسَارِ أي الاستقامة وما فوقها وهو بر المسيح المنسوب إليه للبسه إياه. وأشار إلى هذا السلاح بقوله للأفسسيين «ٱثْبُتُوا ... لاَبِسِينَ دِرْعَ ٱلْبِرِّ» (أفسس ٦: ١٤). وأشار بقوله «لليمين ولليسار» إلى كمال سلاحه للهجوم والدفاع. فالذي له بر المسيح له كل شيء فله ترس الإيمان وخوذة الخلاص وسيف الروح.
٨ - ١٠ «٨ بِمَجْدٍ وَهَوَانٍ. بِصِيتٍ رَدِيءٍ وَصِيتٍ حَسَنٍ. كَمُضِلِّينَ وَنَحْنُ صَادِقُونَ. ٩ كَمَجْهُولِينَ وَنَحْنُ مَعْرُوفُونَ. كَمَائِتِينَ وَهَا نَحْنُ نَحْيَا. كَمُؤَدَّبِينَ وَنَحْنُ غَيْرُ مَقْتُولِينَ. ١٠ كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ. كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ. كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ».
ص ٤: ٢ و٥: ١١ و١١: ٦ و١كورنثوس ٤: ٩ وص ١: ٩ و٤: ١٠ مزمور ١١٩: ١٨ و١كورنثوس ٣: ٢١ و٢٢
صرّح الرسول في هذه الآيات الثلاثة باستقامته في الأحوال المختلفة من أحوال الكرامة والهوان فإنه بقي على اختلاف أحواله سائراً في سنن تقواه غير منحرف عن صحة تعليمه موجباً على المؤمنين الواجبات عينها مدحه الناس أم لاموه فكان كشجاع بغيته الانتصار يسلك في الطريق المؤدية إليه ولا يبالي بما يعترضه من الموانع أو يلحقه من اللوم.
بِمَجْدٍ وَهَوَانٍ أي سلك في سبيل الواجبات في كل من ذينك الأمرين وهذا أول المقابلات التسع. والمراد «بالمجد» هنا الإكرام الذي حصل عليه من محبي الله. و «بالهوان» الاستخفاف الذي وقع عليه من أعدائه وأعداء الله. والخلاصة أنه استمر في طريق ما وجب عليه غير ملتفت إلى ما يظن الناس فيه أو يقولونه (متى ٥: ١١ ولوقا ٦: ٢٢ و١بطرس ٢: ١٤).
بِصِيتٍ رَدِيءٍ وَصِيتٍ حَسَنٍ عنى أنه كان بعضهم ينسب إليه الرياء والإثم والبعض ينسب إليه البر والإخلاص لكنه لم يبال بذلك بل كان يهتم برضى الله ومدحه إياه.
كَمُضِلِّينَ أي كان البعض ينسب إليهم الإضلال. وهذا كقوله بعضهم في المسيح «تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي الخ» (متى ٢٧: ٦٣) فحسبوهم كمن ذُكروا في (١تيموثاوس ٤: ١ و٢ يوحنا ٧).
صَادِقُونَ محبون للحق ومنادون به وهذا شهادة من الرسول لنفسه ولإخوته المبشرين وهي على وفق شهادة المؤمنين لهم.
كَمَجْهُولِينَ أي حسبهم البعض أنهم ممن لا ذكر لهم في الناس ولا اعتبار وبنى على ذلك أنهم لا يستحقون أن يُلتفت إليهم.
مَعْرُوفُونَ عند المؤمنين الحقيقيين وممدوحون ومعتبرون.
كَمَائِتِينَ أي معرضين دائماً للموت كما شهد بولس لنفسه في (ص ٤: ١١ و١كورثوس ١٥: ٣١).
نَحْيَا أي أن الله نجاهم من الهلاك الذي أشرفوا عليه وقواهم على احتمال النوزل التي لولا وقاية الله قتلتهم. ولعل الرسول أشار بقوله «كمائتين» إلى ظن الأعداء أنه وإخوته المبشرين قربوا من الملاشاة فلا يخشى منهم بعد. وبقوله «ها نحن نحيا» إلى انتصارهم ونجاتهم من الخطر على خلاف توقع أولئك الأعداء.
كَمُؤَدَّبِينَ أي كمصابين يظهرون باحتمالهم المصائب بصبر وسرور وقوة نعمة الله فلم تكن قصاصاً لهم بل واسطة لتمجيد الله.
ظن بعضهم أن ذلك في اعتبار أعداء الرسول فإنهم حسبوا مصائبهم آية غضب الله كما قيل في المسيح «نَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً» (إشعياء ٥٣: ٤).
غَيْرُ مَقْتُولِينَ هذا كقول المرنم «تَأْدِيباً أَدَّبَنِي ٱلرَّبُّ وَإِلَى ٱلْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي» (مزمور ١١٨: ١٨). وهو قريب من قوله «مُضْطَهَدِينَ، لٰكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ» (ص ٤: ٩).
حَزَانَى أي حسبونا حزانى لأننا لم نشاركهم في لذاتهم الدنيوية وملاهيهم ولم ينكر الرسول أنه وسائر المبشرين حزانى لأنهم بشر يصيبهم ما يصيب الناس عموماً وأن لهم أسباباً إلى ذلك ليست لغيرهم كالاضطهاد والإهانة وشعور قلوبهم بخطاياهم.
وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ أي انهم يزرعون بالدموع ويحصدون بالابتهاج. فإن الدين المسيحي فضلاً عن أن يعزي المؤمن في الأحزان يملأ قلبه سروراً لتيقنه رضى الله به وتوقعه ثقل المجد الأدبي في العالم الآتي (قابل هذا بما في رومية ٥: ٣ و١٢: ١٢ وفيلبي ٤: ٤ و١تسالونيكي ١: ٦).
كَفُقَرَاءَ لا ريب في أن الرسل كانوا فقراء (أعمال ٣: ٦) فإنهم تركوا كل ما كان لهم يوم تبعوا المسيح وجالوا يبشرون بالإنجيل. ولعل الناس احتقروا بولس لأنه كان يصنع الخيام لتحصيل أسباب المعاش ولقبوله إحسان كنيسة فيلبي (ص ١١: ٨ و٩ وفيلبي ٤: ١٥). وهذا يصدق على أكثر شعب الله على الأرض لأنهم فقراء بالعالميات.
وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ لم يشر بذلك إلى ما جمعه من الإحسان لفقراء كنيسة أورشليم بل إلى ما وزعه على الناس من الغنى الروحي المشار إليه بقوله «غِنَى ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى» (أفسس ٣: ٨ انظر أيضاً ص ٨: ٩ وعبرانيين ١٠: ٣٤ و١١: ٢٦ ويعقوب ٢: ٥).
كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا من الكنوز الأرضية.
وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ حسب قول المسيح «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ» (متّى ٥: ٥) وقوله «كل شيء لكم» (١كورنثوس ٣: ٢١). فإن لهم «كَنْزاً لاَ يَنْفَدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، حَيْثُ لاَ يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلاَ يُبْلِي سُوسٌ» (لوقا ١٢: ٣٣) وهم وارثون مع المسيح فلهم كل شيء (رومية ٨: ١٧).
١١ «فَمُنَا مَفْتُوحٌ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلْكُورِنْثِيُّونَ. قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ».
ما في هذه الآية واللتين تليانها حجة على ما سبق من مدح الرسول لنفسه ومقدمة للنصائح التي بعدها.
فَمُنَا مَفْتُوحٌ معناه أنه كلمهم جهاراً في شأن خدمته للإنجيل بينهم وأراد أن يتخذوا ذلك دليلاً على وفرة محبته لهم وأن تلك المحبة حملته على ما تكلم لأنه من فضل القلب يتكلم اللسان.
قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ يعني مودته لهم وافرة كمحبة الوالد للأولاد فهو كما في (إشعياء ٦٠: ٥). ويعبر أيضاً عن هذا في الكتاب «برحبة القلب» (١ملوك ٤: ٢٩ ومزمور ١١٩: ٣٢). ولعله قال ذلك خشية أن يتوهموا أن ضيقاته وتهم بعضهم له ضيقت قلبه وأغلقته عنهم.
١٢ «لَسْتُمْ مُتَضَيِّقِينَ فِينَا بَلْ مُتَضَيِّقِينَ فِي أَحْشَائِكُمْ».
ص ١٢: ١٥
لَسْتُمْ مُتَضَيِّقِينَ فِينَا كأن ليس لكم سوى محل ضيق في قلوبنا لا يسعكم جميعاً فأبان أن قلبه واسع يمكنه أن يسعهم كلهم أجمعين وأنه لم يغلق أحشاءه عنهم لسبب نقصانهم وزلاتهم بل يعتذر عنهم ويثق بهم في كل حال.
بَلْ مُتَضَيِّقِينَ فِي أَحْشَائِكُمْ أي لم تُظهروا لي المحبة التي يحق لي أن أنتظرها منكم نظراً للخدمة التي خدمتكم إياها بالإنجيل والمحبة التي أحببتكم إياها. والدليل على قلة حبهم له نشوء الأحزاب بينهم حتى كان يقول البعض أنا لبولس والآخر أنا لأبلوس الخ وقبولهم المعلمين الكاذبين وإصغائهم إلى تهمهم له وعدم قبولهم نصائحه بما يجب من الفرح والطاعة. ونتج من تزوير بعضهم وظننهم وسوء فهمهم غايته فقدان ثقتهم به وتيقنهم محبته وخلوصه.
١٣ «فَجَزَاءً لِذٰلِكَ أَقُولُ كَمَا لأَوْلاَدِي: كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مُتَّسِعِينَ!».
١كورنثوس ٤: ١٤
فَجَزَاءً لِذٰلِكَ أي لما سبق من محبته لهم وغيرته لنفعهم.
كَمَا لأَوْلاَدِي كان بولس أباً روحياً لهم (١كورنثوس ٤: ١٥) لأنهم بواسطته عرفوا المسيح ووُلدوا ثانية فحق له أن يحبوه محبة الأولاد للوالد.
كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مُتَّسِعِينَ أي أحبوني كما أحببتكم وأظهروا محبتكم لي بحفظكم نصائحي. وهذا هو الثواب الوحيد الذي ابتغاه على محبته لهم وأتعابه وآلامه في سبيل خدمتهم. لم يرد منهم فضة أو ذهباً بل ثقة بخلوصه وتصديقاً لكلامه.
١٤ «لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ؟».
لاويين ١٩: ١٩ وتثنية ٧: ٢ و٣ و١كورنثوس ٥: ٩ و٨: ٣٩ و١صموئيل ٥: ٢ و٣ و١ملوك ١٨: ٢١ و١كورنثوس ١٠: ٢١ وأفسس ٥: ٨ و١١
في هذه الآية نصيحة لأولاده الروحيين سألهم قبولها إثابة له على محبته لهم.
لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ هذا مجاز مبني على ما يحدث أحياناً من أن الفلاّح يقرن حيوانين مختلفي الجنس تحت نير واحد للحراثة وهذا ممنوع في شريعة موسى بدليل قوله «لاَ تَحْرُثْ عَلَى ثَوْرٍ وَحِمَارٍ مَعاً» (تثنية ٢٢: ١٠). وكانت غاية الله من هذه الوصية وما شاكلها منع شعبه من مخالطة الشعوب الذين حوله. ومعناه «بغير المؤمنين» هنا من حولهم من الوثنيين الذين لم يؤمنوا بالإنجيل كما في (١كورنثوس ٦: ٦). فإنهم كانوا يدعون المؤمنين إلى ولائمهم في الهياكل إكراماً للأوثان (١كورنثوس ص ٨ وص ١٠: ١٤ - ٣٣). فحذرهم الرسول من مشاركتهم لمعارفهم الوثنيين في تلك الولائم. وقوله «لا تكونوا تحت نير الخ» نهي عن مشاركة الوثنيين في ولائمهم الدينية وعن التزوج منهم والتزويج لهم وعن كل مخالطة لهم وتكون وسيلة إلى التجربة والخطيئة.
وما صدق هنا من جهة العلاقات بين المسيحيين والوثنيين يصدق من جهة العلاقات الشديدة الاختيارية بين محبي الله وأعدائه فالمؤمن يزيد خطراً على قدر زيادة قرينه غير المؤمن شراً. وما أحسن قول بعضهم هنا:
واحذر معاشرة اللئيم فإنه يعدي كما يعدي السليم الأجرب
أوليس أفضل للمسيحي أن يختار أعز أصحابه من عبدة المسيح من أن ينتخبهم من عبدة الزهرة. والخلاصة أن الرسول في هذه العبارة نهى عن شدة التصاق المؤمن بالكافر والروحاني بالدنيوي والأخيار بالأشرار وأولاد الله بأولاد إبليس (أفسس ٥: ١١ و١تيموثاوس ٥: ٢٢ و٢يوحنا ١١).
أخذ الرسول على أثر ما ذُكر في خمس مسائل أبان بها مباينة مثل تلك العلاقات اثنتان منها تشيران إلى المنافاة بين الخلاص والهلاك والثالثة تشير إلى المنافاة بين المخلص والمهلك والاثنتنان الباقيتان تشيران إلى المنافاة بين المخلصين والهالكين.
أية خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلإِثْم وصف دين المسيحيين «بالبر» لأن غايته إنشاء القداسة في الإنسان وهي نتيجة اتحاد المؤمن بالمسيح القدوس ولأنه يتوقع من كل مسيحي أن يكون قديساً بدليل قوله «كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلنَّجَاسَةِ وَٱلإِثْمِ لِلإِثْمِ، هٰكَذَا ٱلآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ» (رومية ٦: ١٩). ولأن البر هو الذي يمتاز به المسيحيون من الوثنيين. ووصف الوثنيين «بالإثم» وحق له ذلك بدليل ما جاء من صفاتهم في الأصحاح الأول من الرسالة إلى الرومانيين ويصح أن يوصف به أهل العالم الذين لم يختمروا بخميرة الإنجيل لما ظهر من الظلم والخداع والفساد. وهذا على وفق قول يوحنا الرسول «نَعْلَمُ أَنَّنَا نَحْنُ مِنَ ٱللّٰهِ، وَٱلْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي ٱلشِّرِّيرِ» (١يوحنا ٥: ١٩). والاستفهام في الآية إنكاري الغرض منه بيان استحالة خلطة الذين يجعلون شريعة الله قانون حياتهم للذين يعصون تلك الشريعة.
وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ يُستعار النور للمعرفة والقداسة والسعادة وعليه دُعي المسيحيون أولاد النور (لوقا ١٦: ٨ وأفسس ٥: ٧ و٨ و١تسالونيكي ٥: ٥ و١يوحنا ١: ٦ و٧). وأُرسل بولس «ليرجع الناس من الظلمات إلى النور» (أعمال ٢٦: ١٨). وتُستعار الظلمة للجهل والضلال والخطيئة والشقاء. وعلى ذلك سُمي ملكوت الشيطان ملكوت الظلام وأولاده أولاد الظلمة وسجن الهالكين «الظلمة الخارجية». والاستفهام لنفي الشركة وبيان استحالة أن يبقى المسيحيون في الطهارة والقداسة وهم باختيارهم يشاركون أهل العالم في أعمالهم فاستحالته كاستحالة اجتماع النور والظلمة والقداسة والخطيئة والسعادة والشقاء.
١٥ «وَأَيُّ ٱتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيَّعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِ؟».
١صموئيل ٢: ١٢
أَيُّ ٱتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيَّعَالَ وهما رئيسا مملكتين متضادتين لا يمكن أن تتفقا وبالضرورة يستحيل الاتفاق بين جنود إحداهما وجنود الأخرى. ومعنى «بليعال» في الكتاب البطالون والأشرار (٢ صموئيل ٢٣: ٦). وسُمي الشيطان بليعال لأنه شر الأرواح النجسة.
ومفاد السؤال هنا كمفاد قوله «لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ ٱلرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِينَ» (١كورنثوس ١٠: ٢١). وغايته إظهار استحالة الاتفاق بين خدمة المسيح وخدمة الشيطان.
وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِ من تأثير الإيمان الصحيح أن يغير طبيعة المؤمن كل التغيير حتى تختلف إحساساته وغاياته ومبادئه عنها في غير المؤمن ويستحيل اتحاد أحدهما بالآخر استحالة اتحاد النور بالظلمة والمسيح ببليعال. نعم إن للمؤمن نصيباً مع غير المؤمن في بعض الأمور مثل وحدة الوطن والنسب والمهنة والأهواء الطبيعية لكن حياتهما الباطنة على غاية الخلاف لأن غاية حياة المؤمن رضى المسيح وتمجيده وهذا لا يبالي به الآخر.
١٦ «وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ ٱللّٰهِ مَعَ ٱلأَوْثَانِ؟ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، كَمَا قَالَ ٱللّٰهُ: إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلٰهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً».
١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩ وأفسس ٢: ٢١ و٢٢ وعبرانيين ٣: ٦ خروج ٢٩: ٤٥ ولاويين ٢٥: ١٢ وإرميا ٣١: ٣٣ و٣٢: ٢٨ وحزقيال ١١: ٢٠ و٣٦: ٢٧ و٣٧: ٢٦ الخ وزكريا ٨: ٨ و١٣: ٩
في هذه الآية والتي بعدها خمسة أمور ذات شأن:

  • الاول: مباينة هيكل الله للأوثان.
  • الثاني: علة تلك المباينة وهي أن المؤمنين هيكل الله.
  • الثالث: برهان أن المؤمنين هيكله تعالى.
  • الرابع: ما الذي يوجب ما ذُكر عليهم.
  • الخامس: ما وُعد به الذين هم هيكل الله.


أَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ ٱللّٰهِ مَعَ ٱلأَوْثَانِ الاستفهام إنكاري والمعنى أن المحل الموقوف لعبادة الله ليس بمحل للأوثان لاستحالة اجتماع عبادة الله وعبادة الأوثان. والكتاب المقدس يبيّن أن أشد الإهانات لله عبادة الأوثان. وأرادأ أنواع تلك العبادة أن يُدخل إلى بيت الله الأوثان التي هي مكرهته.
والكورنثيين الذين ادعوا أنهم مسيحيون أهانوا الله بمشاركتهم الوثنيين في عبادتهم. ولا يخلو أهل الله من مثل تلك الإهانة حين يشاركون أهل العالم كل المشاركة في ملاهيهم ولذاتهم وأباطيلهم وإظهارهم مثل رغبتهم فيها.
أَنْتُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ سبق وصف المسيحيين بمثل هذا في (١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩). فراجع التفسير هناك.
إن هيكل الله هو المحل الموقوف له وموضع سكناه وعلى ذلك سكن هيكل أورشليم قديماً وأظهر مجده فيه. وجماعة المؤمنين أي كنيسة المسيح هي هيكل الله لأن الروح القدس ساكن فيها بدليل قوله «أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلّٰهِ فِي ٱلرُّوحِ» (أفسس ٢: ٢٢). وكل مؤمن هيكل له كذلك بدليل قوله «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ» (١كورنثوس ٦: ١٩) وبرهن الرسول أن المؤمنين هيكل الله بما يفهم منه أنه ساكن فيهم.
كَمَا قَالَ ٱللّٰهُ: إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ هذا مضمون ما في (لاويين ٢٦: ١١ و١٢ ومزمور ٦٨: ١٨ وخروج ٣٧: ٢٧). ومثل قوله هنا وعد المسيح لتلاميذه وهو قوله «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا ١٤: ٢٣). ومثل قوله هو «وَإِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ، فَٱلْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَأَمَّا ٱلرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ ٱلْبِرِّ الخ» (رومية ٨: ١ و١١).
وَأَكُونُ لَهُمْ إِلٰهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً كثيراً ما كُرر مثل هذا الوعد في الكتاب ومن مواضعه (تكوين ١٧: ٨ وتثنية ٢٩: ١٣ وإرميا ٣١: ٣٣ وعبرانيين ٨: ١٠). وكونه تعالى إلهاً لهم يتضمن حماية الله للمؤمنين وعنايته بهم ومحبته لهم وأنه يجددهم ليكونوا على صورته في المعرفة والقداسة ويملأهم بملئه. وتسميته إياهم شعباً له بيان أنه يعتبره مقتناه الخاص وأنهم ممتازون بقبولهم نعمه. وكل ذلك يثبت جلياً المباينة العظمى بين المؤمن وغيره ووجوب انفصال الواحد عن الآخر.
١٧ «لِذٰلِكَ ٱخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهِمْ وَٱعْتَزِلُوا، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِساً فَأَقْبَلَكُمْ».
إشعياء ٥٢: ١١ وص ٧: ١ ورؤيا ١٨: ٤
هذه الآية سوى الكلمة الأخيرة منها مقتبسة من إشعياء (إشعياء ٥٢: ١١ و١٢). وهي على وفق العبراني معنى وعلى وفقه إلا قليلاً لفظاً. وغاية القول في العهد الجديد كغايته في العهد القديم وهي حث شعب الله على الانفصال عن الأشرار ولا سيما أشرار الوثنيين. وأما قوله «فأقبلكم» ليس في نبوءة إشعياء إلا أن يكون ترجمة قوله «الرب سائر أمامكم» في الآية الثانية عشرة من الآيتين المقتبستين ولعله مقتبس من نبوءة حزقيال (حزقيال ٢٠: ٣٤) على ما في ترجمة السبعين.
لِذٰلِكَ أي لما سبق من أن الله ألهمهم وأنه هيكله يسكن فيهم فينبغي أنهم يحفظون أنفسهم بلا دنس من العالم.
ٱخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهِمْ... وَلاَ تَمَسُّوا نَجِساً وُجه هذا القول أصلاً إلى اللاويين والكهنة لكي يتركوا بابل التي سبوا إليها ويرجعوا إلى أورشليم. والنجس الذي نُهوا عن مسه هو كل ما يتعلق بأوثان تلك البلاد. فاقتبسه بولس لكي ينهي الكورنثيين عن كل ما يتعلق بعبادة الأوثان في مدينتهم وفيه نهي لكل مؤمن عن محبة العالم وشهواته ومخالطته التي تضر بتقواه وخدمته للمسيح. ويستحيل أن يكون المسيحيون هياكل يسكن فيهم الله ويعتبرهم شعبه ما لم ينفصلوا عن العالم لأنه قيل «لاَ تُحِبُّوا ٱلْعَالَمَ وَلاَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ ٱلْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ ٱلآبِ» (١يوحنا ٢: ١٥). ونصح الرسول مؤمني كورنثوس بنص كتاب الله ليروا أن تعليمه تعليم الله. والوصايا الثلاث في الكلام المقتبس وهي «أخرجوا» و «اعتزلوا» و «لا تمسوا» تشير إلى بداءة انفصال المؤمن عن الأشرار وإلى استمرار هذا الانفصال مع كره الإثم واتقائه والحذر من أدنى اقتراب منه.
إن كل إثم نجس يبغضه الله ويمنع مرتكبه من حضرته القدسية ومن مرافقة الملائكة القديسين ومن السماء المقدسة.
فَأَقْبَلَكُمْ أي أتخذكم أصدقاء وأولاداً. وهذا مقتبس من نبوءة حزقيال (حزقيال ٢٠: ٣٤) على ما في ترجمة السبعين وهو في الأصل العبراني «أجمعكم».
١٨ «وَأَكُونَ لَكُمْ أَباً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ. يَقُولُ ٱلرَّبُّ ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ».
إرميا ٣١: ١ و٩ ورؤيا ٢١: ٧
إن فحوى الآية في آيات كثيرة من كتاب الله ولا نعلم يقيناً أيها اقتبس الرسول منها. ظن بعضهم أنها من قوله تعالى لداود في نسله «أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْناً» (٢صموئيل ٧: ١٤). وظن غيره أنها من قول إشعياء «أَقُولُ لِلشِّمَالِ: أَعْطِ وَلِلْجَنُوبِ: لاَ تَمْنَعْ. اِيتِ بِبَنِيَّ مِنْ بَعِيدٍ وَبِبَنَاتِي مِنْ أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٤٣: ٦). وقول إرميا «لأَنِّي صِرْتُ لإِسْرَائِيلَ أَباً وَأَفْرَايِمُ هُوَ بِكْرِي» (إرميا ٣١: ٩). وقوله «رب الجنود» في العبراني (٢صموئيل ٧: ٨) تُرجم في نسخة السبعين «بالرب القادر على كل شيء».
أَكُونَ لَكُمْ أَباً هذا وعد الله للذين ينفصلون عن العالم والإثم ويتحدون به ومعناه أنه لا ينظر إليهم نظر السيد إلى عبيده بل نظر الآب إلى بنيه وبناته. وفي هذا جواب للقائلين أن الأمر بخروجنا من بين غير ا لمؤمنين والانفصال عنهم ربما اقتضى الانفصال عن أحب أصحابنا حتى آبائنا وأمهاتنا فهو يحقق لهم أنهم إن فقدوا كل مصاحبة وعناية بشرية فالله يعوضهم من ذلك بقيامه بكل ما يحتاجون إليه. وهذا يذكرنا قول المرنم «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي» (مزمور ٢٧: ١٠). وهو كجواب المسيح لبطرس حين قال له «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ» وذلك قوله «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً... إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ ٱلآنَ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ... وَفِي ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ» (مرقس ١٠: ٢٨ - ٣٠). والوعد نفسه يؤكد للمؤمنين الحماية والإرشاد والعناية بهم وتعزيتهم في الضيقات في هذه الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة.
وَتَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ هذا يستلزم أنهم يكونون مشابهين لله في صفاتهم وأن يكونوا ورثة غناه وأمجاد ملكوته فلا يمكن أن يكون للبشر شرف أعظم من أن يُدعوا بنين وبنات للرب القادر على كل شيء لأنهم بذلك يكونون أولاد ملك الملوك و «ملوكاً وكهنة لله وسيملكون معه إلى الأبد».

فوائد



  • إن ليس من إنسان غير مؤمن أو مؤمن لا يحتاج إلى أن يُحث أحياناً على أن لا يقبل نعمة الله باطلاً فيحث غير المؤمن على ذلك خوفاً من الهلاك الأبدي ويحث عليه المؤمن خشية من أن لا يستفيد كما ينبغي من تلك النعمة ولا يفيد غيره. فعلى كل مسيحي أن يستفيد على قدر الطاقة من النعم ويرتقي إلى أعظم ما يمكنه من درجات التقوى والقداسة (ع ١).
  • إن كل فوائد الخلاص تأتينا بشفاعة الرب يسوع المسيح لأن كل رجائنا المغفرة مبني على أن الله يسر بأن يسمع المسيح ولأن المسيح يشفع فينا في وقت مقبول فلو عدل عن الشفاعة فينا كانت صلواتنا كلها عبثاً ومنعت كل مواعيد الخلاص وهلك كل الجنس البشري (ع ٢).
  • إن الله من رحمته وهب للعالم فرصة الخلاص وفتح أبواب السماء لقبول كل من تاب ورجع إليه من الخطأة وهو مستعد لقبول الراجعين وتقبيلهم قبلة المغفرة وإلباسهم ثوب البر وخاتم البنوة (ع ٢).
  • إن الوقت الحاضر عظيم الأهمية للخطأة لأنه لا يعلم أحد علم اليقين أنه يحصل على دقيقة أخرى لنيل المغفرة ويتوقف عليه نتائج مهمة أبدية. إن الخاطئ يمكنه أن يُقبل الآن ويحتمل أن تفوت الفرصة في الدقيقة التالية. الآن معروض عليه السماء والسعادة الدائمة ولعله يُقطع نصيبه في الدقيقة التالية (ع ٢).
  • إنه على المبشرين بالإنجيل أن يحذروا من أن يعثروا أحداً فإنه بمقتضى سيرتهم تكرم خدمة البشارة أو تهان وكذا اعتبار المسيح بين الناس. فما أعظم مسؤوليتهم وكم يجب أن يكونوا قديسين وبلا لوم (ع ٢).
  • إن على كل المسيحيين مبشرين وغيرهم الاستعداد لاحتمال المشقات من أجل المسيح فكان على المسيحيين في أول عصور الكنيسة أن يحتملوا أضرار السجون والضربات في سبيل الإنجيل فلماذا لا نتأهب نحن إلى مثل هذا (ع ٤ و٥).
  • إن الديانة المسيحية لم تصل إلينا إلا بعد نفقات جسيمة ممن سلفونا من أهلها إنها كلفتهم تعباً وأنات ودموعاً واستشهاداً وأفضل رجال العالم سُجنوا وجُلدوا وعُذبوا حتى نحصل على تلك الديانة فعلينا أن نعزها لوفرة نفقتها وأن نبذل الجهد في إيصالها إلى الخلف كما أوصلها إلينا السلف (ع ٤ و٥).
  • إن الله كثيراً ما يمتحن المؤمنين بالنوازل لنفع غيرهم فصدق فيهم قول الشاعر «مصائب قوم عند قوم فوائد» فإن كثيرين من المؤمنين آمنوا بالمسيح بمشاهدتهم ثبوت الشهداء وسرورهم في أثناء العذاب والقتل. فلولا مصائب أيوب لربما ما سمعنا شيئاً من أمره وخسرنا كل فوائد سفره. وكم من رسالة كتبها بولس وهو في السجن. وعندنا كثير من الكتب المفيدة التي كتبها المؤمنون وهم مسجونون من أجل اسم يسوع ومنها سياحة المسيحي الذي ألفه يوحنا بنيان. واختيار المسيحيين أثبت أن «دم الشهداء بذار الكنيسة» فالشيطان الذي هيّج الناس على اضطهاد الكيسة ضرّ مملكته بذلك (ع ٣ - ٥).
  • إن المبشرين لا يستطيعون أن يفيدوا الناس ما لم يكونوا أتقياء فيجب أن يمتازوا عن غيرهم بالطهارة والعلم وكلام الحق وأسلحة البر فإن تأثير السيرة الحسنة كتأثير الشمس والندى والخصوم يعجزون عن دفع شهادتها. نعم أنهم يمكنهم أن يهزئوا بوعظ المبشرين ويضحكوا بإنذارهم ويحرقوا الكتب السماوية ولكنهم لا يمكنهم أن يبطلوا تأثير تلك السيرة كما أنهم لا يستطيعون أن يبطلوا تأثر الشمس من إحياء وإنارة (ع ٦ و٧).
  • إنه يجب على المسيحيين ولا سيما المبشرين أن يتوقعوا الهوان والشتم والخسارة فيلزم من ذلك أنه على الإنسان قبل أن يعترف بالدين المسيحي وقبل أن يتقدم إلى رتبة التبشير أن يحسب النفقة ويرى هل هو مستعد لأحتمال العار والفقر والاضطهاد حتى الموت في سبيل الرب (ع ٨ - ١٠).
  • إن للدين المسيحي قوة على تعزية المؤمن وتشجيعه في أشد الضيقات فلماذا يحزن وأسباب الفرح دائمة. ولماذا يرى أنه فقير وهو قادر أن يغني كثيرين. ولماذا يكتئب بأن لا شيء له والمسيح نصيبه وهو وارث لكل شيء. فله كنز في السماء يفوق كل كنوز الأرض وله هناك ميراث لا يضمحل وإن كان ماله هنا يُسلب منه ويفنى. ولا ريب في أن لفقراء العالم الأغنياء في الإيمان فرحاً لا يعرفه أرباب الثراء في قصورهم. وكثيراً ما يسبّح المسجونون من أجل المسيح في سجونهم ويترنمون فرحاً كبولس وسيلا في سجن فيلبي والذي سجنوهم في اضطراب (ع ١٠).
  • إن أفضل ثواب ينتظره المبشر الأمين على الأرض أن يحبه الذين يخدمهم ويسمعوا كلامه وعلى هذا قال يوحنا الرسول «ليس لي فرح أعظم من هذا أن أسمع عن أولادي أنهم يسلكون بالحق» (ع ١٣).
  • إن شرط نجاح الدين المسيحي في الأرض أن ينفصل المسيحيون عن العالم الشرير عالم اللهو والأباطيل والشرور فإن المسيح قصد أن ينشئ مملكة تختلف عن كل ممالك الأرض ومبادئها وأعمالها تختلف عن مبادئ وأعمال الدنيا. فالذين لا يرضون ذلك الشرط ولا ينفصلون عن رفقائهم الأشرار وعن أباطيل هذه الحياة لا يمكنهم تحقق أنه مسيحيون. ولا يليق بالمسيحي ادعاء الفريسي أنه أقدس من غيره حتى أنه لا يستطيع أن يفيد غيره ولكنه يجب أن يعامله معاملة الجار لجاره والوطني لوطنيه بدون مخالفته مبادئه الروحية لأنه يقدر أن يخالط العالم لأجل إفادته وإصلاحه مع اختياره أحب الأصدقاء إليه من أصدقاء المسيح (ع ١٤ و١٥).
  • إن من جملة الممنوعات بمقتضى هذا الأصحاح ثلاثة أمور:

    • الأول: التساهل بمشاركة الغير في ما نهى الله عنه من رسوم العبادة. إن ألوفاً من المؤمنين في عصور الكنيسة الأولى سلموا نفوسهم للموت ولم يسلّموا بأن يوقدوا شيئاً قليلاً جداً من البخور أمام الوثن.
    • الثاني: مشاركة غيره في تجارة محرمة أو فيها شيء من الحرام كالكذب والغش والعمل في يوم الرب لغير ضرورة وعمل المسكرات أو بيعها وإيجاز بيت للمقامرة أو الدعارة بدليل قول الكتاب «لا تشترك في خطايا الآخرين» (١تيموثاوس ٥: ٢٢).
    • الثالث: كل الملاهي المحرمة والتي ليست محرمة في نفسها ولكنها تقود اللاهي نفسه أو مشاهده إلى الإثم. فلا يجوز للمسيحي أن يدخل منتزهاً لا يدخله المسيح لو كان على الأرض وكل مكان مناظره تمنعه من اللذة بقراءة كتاب الله والصلاة الانفرادية واجتماعات الإخوة الدينية وكل مكان يمتنع عنه الإنسان لو علم أنه يخرج منه إلى الوقوف أمام عرش الديان. وأما مشاركة المؤمن لغير المؤمن في الزواج فكلام الكتاب عليها أوضح من أن يبين (ع ١٤ و١٥).


  • إن المسيحيين هيكل الله القدوس فعليهم أن يحترسوا من تدنيس الخطيئة ويحرصوا على الطهارة ويحفطوا ضمائرهم دائماً بلا عثرة (ع ١٦).
  • إن للمسيحي أن يكون الله أباه وهذا أعظم ما يمكن تصوره من الشرف فإن تركه الناس فالله لا يتركه وإن طردوه فالله يحبه ويعتني به كما يعتني الآب بابنه وابنته. افتخر بعض الناس بكونهم من الأسرة الملكية ولكن للمسيحي فخراً أعظم من هذا لأن شرفه يبقى بعد زوال كل شرف أرضي. والشرف الدنيوي مقصور على قليلين ولكن الشرف السماوي مباح لكل من يريد فيقدر أن يحصل عليه كل إنسان. فكم يرغب الناس في أن يصاهروا الملوك وأن يدخلوا صروحهم ويجلسوا على موائدهم ولكن ما شرف هذا كله بالنسبة إلى أن يكونوا أولاد الله العظيم الأزلي (ع ١٨).




الأصحاح السابع


نصيحة مبنية على ما سبق في (ص ٦ ع ١).
تعزية الرسول بما سمعه من تأثير رسالته الأولى (ع ٢ - ١٦).
وجوب أن يعيش الكورنثيون كما يليق بهم نظراً إلى مواعيد الله التي ذكرها الرسول (ع ١). ووجوب أن يحبوا الرسول كما أحبهم (ع ٢ و٣). وأن لا مانع من جهته عن الاتفاق التام بينه وبينهم لأنه لم يضر أحداً ولم يأت شيئاً من أسباب الانفصال وإن أكثر همومه من أجلهم زال عند مجيء تيطس وشهادته لهم (ع ٤ - ٧). نعم إنه ندم أولاً على ما كتبه في شأن الإنسان الزاني للحزن الذي أنشأه لهم ولكنه فرح أخيراً بما حصل منه من النفع لأنه كان علة لتوبة ذلك الزاني (ع ٨ و٩). وإنه تحقق من نتيجة حزنهم أنه لم يكن من حزن العالم المنشئ موتاً بل من الحزن الذي هو بمشيئة الله (ع ١٠ - ١٢) وإنه سرّ بمسرة تيطس بزيارته كورنثوس وباختباره صدق شهادة بولس بمدح سجاياهم (ع ١٣ - ١٦).
١ «فَإِذْ لَنَا هٰذِهِ ٱلْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ».
ص ٦: ١٧ و١٨ و١يوحنا ٣: ٣
كان يجب أن تكون هذه الآية من آيات الأصحاح السادس لأنها تتمة الكلام الذي فيه.
فَإِذْ لَنَا هٰذِهِ ٱلْمَوَاعِيدُ التي تؤكد لنا سكنى الله فينا واتحاده بنا ومحبته إيانا وإنا بنوه وبناته (ص ٦: ١٦ - ١٨).
لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا هذا الأمر يوجب علينا الاجتهاد في تطهير أنفسنا مما دنسناها بها لا علاوة حفظها طاهرة بتجنب التدنس من خارج. نعم إن الكتاب ينسب التطهير إلى الله (أعمال ١٥: ٩ وافسس ٥: ٢٦) ولكن ذلك لا يمنع وجوب عمل الإنسان فيه لأنه قيل «تمموا خلاصكم» مع قوله «لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا» (فيلبي ٢: ١٣). إن الله لا يطهرنا ونحن لا نشتهي القداسة ولا نجد في طلبها. وبرهان عمله فينا للقداسة هو رغبتنا فيها واتخاذنا الوسائل التي أمر بها.
دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ كل خطيئة تدنيس. وذكر هنا نوعين من الخطايا خطايا الجسد وخطايا الروح فمن الأولى السكر والزنا. وكان الكورنثيون عرضة لهذا النوع أكثر من غيره لاقترانه بالعبادة الوثنية في مدينتهم. ومن الثانية الكبرياء والبخل وحب المال والحسد والبغض. وعدّ الرسول هذين النوعين من أعمال الجسد في رسالته إلى الغلاطيين (غلاطية ٥: ١٩ - ٢١). وعدها من شهوات الجسد في رسالته إلى الأفسسيين (أفسس ٢: ٣). ولا منافاة بين قوله «ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ» (غلاطية ٥: ٢٤). وأمره هنا بالمواظبة على صلب الجسد كذلك لأن التقديس تدريجي فإن الإنسان متى صار خليقة جديدة في المسيح يشرع في إماتة الطبيعة الفاسدة ويبقى على ذلك ما دام حياً إلى أن يكمل قداسة على وفق قوله «إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ... إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ١٣). والتطهير هنا تقديس الإنسان كله وهو هيكل الروح القدس (١كورنثوس ٦: ١٩) أي خلوه من كل أدناس الأفكار والأعمال الشريرة وهذا غير التطهير الرمزي الذي أوجبته شريعة موسى فتلك الأدناس خارجية وربما كانت غير اختيارية وتطهر بوسائط خارجية والتطهير الداخلي هنا لا يكون إلا بواسطة دم يسوع المسيح (١يوحنا ١: ٧).
ومما يستحق الملاحظة هنا أن الرسول حذر المؤمنين قبلاً من التدنس بمخالطة غير المؤمنين (ص ٦: ١٤) وحذرهم في هذه الآية من دنس قلوبهم وأمرهم بالانفصال عن كل ما يدنسها.
مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰه في هذا إشارة إلى كيفية تطهير أنفسنا وهي طلب القداسة الكاملة وعدم الاكتفاء ببعضها. وهذا كقول المسيح «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى ٥: ٤٨). وقول بطرس الرسول «بَلْ نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ» (١بطرس ١: ١٥ و١٦). فيجب على المسيحي أن يطلب الكمال في محبته لله وللمسيح ولإخوته البشر وأن يطلب الكمال في أميال قلبه وأفكاره وعواطفه وأن يطلبه في كلامه ومقاصده وتصرفه بين الناس وأن يطلبه في صلواته وتسابيحه وطاعته لله وخضوعه لإرادته. وقوله «في خوف الله» يشير إلى أنه من أعظم وسائط التقديس أن نشعر بكوننا في حضرة الله القدوس الذي أعطانا شريعة مقدسة قانوناً لحياتنا وأن نتيقنه لأنه يراقب كل أعمالنا ولأننا سوف نقف أمام عرش دينونته. إن حضور إنسان ولو ولداً مع إنسان آخر يمنعه أحياناً من ارتكاب بعض الخطايا فكم بالأولى يمنعه الشعور بحضور الله العالم كل شيء.
٢ «اِقْبَلُونَا. لَمْ نَظْلِمْ أَحَداً. لَمْ نُفْسِدْ أَحَداً. لَمْ نَطْمَعْ فِي أَحَدٍ».
أعمال ٢٠: ٣٣ وص ١٢: ١٧
اِقْبَلُونَا رجع هنا إلى الموضوع الذي كان يتكلم فيه قبلاً بقوله «أَقُولُ كَمَا لأَوْلاَدِي: كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مُتَّسِعِينَ» (ص ٦: ١٣). وقوله «اقبلونا» في الأصل اليوناني «وسعوا قلوبكم لنا» والمعنى أحببوني كما أحبكم. وذكر على أثر ذلك أن لا سبب إلى حرمانه من محبتهم.
لَمْ نَظْلِمْ أَحَداً حين كان بينكم. لا في الجسديات ولا في الروحيات. لعل بعضهم شكاه بأنه ظلم الزاني بما كتب إلى الكنيسة من أمر قطعه من شركتها وتسليمه للشيطان لهلاك الجسد (١كورنثوس ٥: ٥).
لَمْ نُفْسِدْ أَحَداً بسوء تعليم أو سيرة. ولعل هذا من جملة ما اتهمه أعداؤه به.
لَمْ نَطْمَعْ فِي أَحَدٍ أي لم نؤذ لأحد سبيلاً إلى أن ينسب إليه قصد الربح الدنيوي ممن بشّرهم ولذلك كان يعمل بيديه توصلاً إلى ما يقوم بحاجته وحاجات رفاقه (أعمال ٢٠: ٢٤). واحترس من أن يدع سبيلاً لأحد إلى أن يتهمه باختلاس شيء مما جمعه لفقراء أورشليم. ولا ريب في أن أعداءه كانوا مستعدين أن يشكوه بالطمع لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً. ولعله أراد الإشارة إلى أن من رحبوا بهم من المعلمين الكاذبين وقد تظاهروا فيهم كأنهم ملائكة نور (ص ١١: ١٣) ظلموهم وطمعوا فيهم ويرجح ذلك قوله «لأَنَّكُمْ تَحْتَمِلُونَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْبِدُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْكُلُكُمْ... إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ» (ص ١١: ٢٠).
٣ «لاَ أَقُولُ هٰذَا لأَجْلِ دَيْنُونَةٍ، لأَنِّي قَدْ قُلْتُ سَابِقاً إِنَّكُمْ فِي قُلُوبِنَا لِنَمُوتَ مَعَكُمْ وَنَعِيشَ مَعَكُمْ».
ص ٦: ١١ و١٢
لاَ أَقُولُ هٰذَا لأَجْلِ دَيْنُونَةٍ أي ليس غايتي من تبرئة نفسي أن أوقع اللوم عليكم ولم أعن أنكم اتهمتموني بالظلم والفساد والطمع وأن ذلك على عدم حبكم لي. ثم أبان الرسول على أثر هذا أن لا شيء في قلبه يحمله على تلك الدينونة.
قُلْتُ سَابِقاً في المعنى (ص ٦: ١٢) وهو مضمون كلامه في (ص ١: ١٤ و٢: ٤ و٣: ٢).
إِنَّكُمْ فِي قُلُوبِنَا الخ أي نحبكم كثيراً حتى لا شيء في الحياة ولا في الموت يستطيع أن يفصلنا عن محبتكم وإننا مستعدون بناء على تلك المحبة أن نعيش لخدمتكم ونموت من أجلكم. ويظهر من هذه العبارة وأمثالها أن بولس أحب مؤمني كورنثوس حباً غريباً أكثر مما نرى أنهم يستحقون وأكثر من حبهم له فصح قوله فيهم «كُلَّمَا أُحِبُّكُمْ أَكْثَرَ أُحَبُّ أَقَلَّ» (ص ١٢: ١٥).
٤ «لِي ثِقَةٌ كَثِيرَةٌ بِكُمْ. لِي ٱفْتِخَارٌ كَثِيرٌ مِنْ جِهَتِكُمْ. قَدِ ٱمْتَلأْتُ تَعْزِيَةً وَٱزْدَدْتُ فَرَحاً جِدّاً فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا».
ص ٣: ١٢ و١كورنثوس ١: ٤ وص ١: ١٤ ص ١: ٤ وفيلبي ٢: ١٧ وكولوسي ١: ٢٤
في هذه الآية أربعة أدلة على أنه لم يقصد دينونتهم أي ملامتهم.
لِي ثِقَةٌ كَثِيرَةٌ بِكُمْ هذا أول الأدلة على أنه لم يرد أن يدينهم.
لِي ٱفْتِخَارٌ كَثِيرٌ مِنْ جِهَتِكُمْ هذا ثاني الأدلة على عدم قصده دينونتهم. ومعناه أنه يميل إلى مدحهم أمام الناس على تصرفهم الحسن من جهته واستعدادهم لقبول نصائحه في الرسالة الأولى وتأثير نعمة الله فيهم ونموهم الروحي.
ٱمْتَلأْتُ تَعْزِيَةً هذا ثالث الأدلة على أنه لم يشأ دينونتهم. وفرط تعزيته نتيجة تفريج غمه بالأنباء التي أتى بها تيطس من عندهم لأنه قبل ذلك لم تكن له راحة في روحه فكان مضطراً لاضطرابه أن يترك ترواس ويذهب إلى مكدونية (ص ٢: ١٢).
وَٱزْدَدْتُ فَرَحاً جِدّاً فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا الدليل الرابع على أنه لم يقصد دينونتهم وفرة سروره مع كثرة أسباب قلقه إذ زالت همومه من جهتهم لكن نزلت به هموم أخر (ع ٥) إلا أنها لم تكن كافية لمنع ابتهاجه بهم. ولا بدع أن يجتمع الفرح والحزن في قلب واحد لأنه كثيراً ما حدث أن الشهداء وهم يُعذبون في النار رنموا فرحاً من فرط تعزية الله لهم وتوقعهم سعادة السماء.
٥ «لأَنَّنَا لَمَّا أَتَيْنَا إِلَى مَكِدُونِيَّةَ لَمْ يَكُنْ لِجَسَدِنَا شَيْءٌ مِنَ ٱلرَّاحَةِ بَلْ كُنَّا مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ. مِنْ خَارِجٍ خُصُومَاتٌ. مِنْ دَاخِلٍ مَخَاوِفُ».
ص ٢: ١٣ ص ٤: ٨ تثنية ٣٢: ٢٥
في هذه الآية تفسير لقوله «ضيقاتنا».
مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ كان بولس متعباً في ترواس فتركها وأتى إلى مكدونية لكنه لم يستطع أن يهرب من أتعابه فيها. ولا دليل على أنه أشار بذلك إلى أوجاع وأمراض جسدية لكن هموم قلبه كانت عظيمة جداً حتى أثرت في كل جسده كما يحدث للناس أحياناً.
مِنْ خَارِجٍ خُصُومَاتٌ مقاومات اليهود والأمم واضطهادات هيجوها وأخطار أنشأوها.
مِنْ دَاخِلٍ مَخَاوِفُ أكثرها من جهة قبولهم رسالته وبعضها من جهة سائر الكنائس في مكدونية ومنها أضرار المعلمين الكاذبين لهم ديناً وأدباً.
٦ «لٰكِنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي يُعَزِّي ٱلْمُتَّضِعِينَ عَزَّانَا بِمَجِيءِ تِيطُسَ».
لوقا ١: ٢٥ وص ١: ٤ ص ٢: ١٣
ٱللّٰهَ ٱلَّذِي يُعَزِّي ٱلْمُتَّضِعِينَ أي المصابين الذين تدعو أحوالهم إلى الشفقة عليهم (لوقا ١: ٥٢ ويعقوب ١: ٩). وفي هذه العبارة وصف الله بأن أعظم سروره تعزية المتضعين ومثل ذلك قوله في الله «أبو الرأفة وإله كل تعزية» (ص ١: ٣).
عَزَّانَا بِمَجِيءِ تِيطُسَ كان بولس قد أرسل تيطس إلى كورنثوس لينبئه بأحوال الكنيسة فتعزى بمجيئه وإنبائه ولم ينس في أثناء فرحه وتعزيته أن يشكر الله الذي هو مصدر كل ذلك.
٧ «وَلَيْسَ بِمَجِيئِهِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً بِٱلتَّعْزِيَةِ ٱلَّتِي تَعَزَّى بِهَا بِسَبَبِكُمْ وَهُوَ يُخْبِرُنَا بِشَوْقِكُمْ وَنَوْحِكُمْ وَغَيْرَتِكُمْ لأَجْلِي، حَتَّى إِنِّي فَرِحْتُ أَكْثَرَ».
ع ١٣
لَيْسَ بِمَجِيئِهِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً تعزى بمشاهدة تيطس لأنه كان محبوباً إليه وسماه «الابن الصريح بالإيمان» (تيطس ١: ٤). لكنه تعزى أكثر بالبشارة التي أتاه بها وبتعزية تيطس بها. ولنا من ذلك أن تيطس كان مشاركاً لبولس في اضطراباته من جهة أحوال كنيسة كورنثوس وأنه فُرج همه بما شاهده في تلك الكنيسة وسرّ بأن حمل البشارة إلى بولس فكان فرحه كفرحه.
وَهُوَ يُخْبِرُنَا بِشَوْقِكُمْ إلى مشاهدتي والحصول على رضاي.
وَنَوْحِكُمْ على خطاياكم وعلى ما سمعتموه من حزني على تصرفكم وكثرة همومي.
وَغَيْرَتِكُمْ لأَجْلِي أي لمشاهدتي وتطييب قلبي المجروح وإصلاح ما سبق منكم من الخطإ وتقوية سلطتي في الكنيسة وإعراضكم عن المفسدين وإقبالكم إليّ وإبائكم أن تصدقوا ما افتروه عليّ. ومعظم سروره بتلك الغيرة كونها تشتمل على الغيرة للحق والقداسة أيضاً.
حَتَّى إِنِّي فَرِحْتُ أَكْثَرَ من مشاهدته بأنبائه أو أن فرحه زاد بالنسبة إلى فرط حزنه السابق.
٨ «لأَنِّي وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحْزَنْتُكُمْ بِٱلرِّسَالَةِ لَسْتُ أَنْدَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ. فَإِنِّي أَرَى أَنَّ تِلْكَ ٱلرِّسَالَةَ أَحْزَنَتْكُمْ وَلَوْ إِلَى سَاعَةٍ».
ص ٢: ٤
في هذه الآية وما بعدها بيان أسباب فرحه وخلاصة هذه الأسباب أنهم استفادوا من رسالته مع أنها كانت علة حزن وقتي لهم.
وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحْزَنْتُكُمْ أي مع أني أحزنتكم.
بِٱلرِّسَالَةِ أي رسالته الأولى التي كتب فيها الأصحاح الخامس منها ما يتعلق بأمر الزاني.
لَسْتُ أَنْدَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ بلغه أولاً أنهم حزنوا جداً من تلك الرسالة قبل ما بلغه أنهم انتفعوا بها فرق لهم وندم على أنه كتب إليهم بأسلوب محزن لهم ولما بلغه انتفاعهم بها عدل عن الندم. فإن قيل كيف يمكن أن يندم الرسول على ما كتبه بالوحي قلنا أن الروح القدس ألهمه أن يتكلم ويكتب باعتبار أنه رسول الله وهذا لا يمنع من أن يكون الإعلان علة حزن وندم له. فبلعام أوحي إليه أن يتنبأ بما لم يرده وكذا يونان النبي. ولعل بولس كان يتكلم أحياناً بالوحي وهو لا يعلم فيظن أنه يتكلم من نفسه ويندم على ما تكلم وقتياً. ويحتمل أنه ندم على الأسلوب الذي أعلن به فكر الرب إذ خشي من أن يكون فيه شيء من الشدة. فالوحي عصمه من الخطإ في التعليم لكنه لم ينزع منه الحاسات البشرية ولعل وفرة حبه لكنيسة كورنثوس حمله على الندم وقتاً قصيراً على ما تكلم به من الوحي لأنه لم يكن إلا بشراً.
٩ «اَلآنَ أَنَا أَفْرَحُ، لاَ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ، بَلْ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ لِلتَّوْبَةِ. لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ لِكَيْ لاَ تَتَخَسَّرُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ».
رومية ٨: ٢٧
اَلآنَ أَنَا أَفْرَحُ بخلاف ما شعرب به من الندم سابقاً.
لاَ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ، بَلْ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ لِلتَّوْبَةِ علة فرحه منفعة حزنهم لا الحزن عينه فكان مثله مثل الوالد التقي حين يرى ولده يبكي على ذنبه لا يريد أنه يتألم بالحزن ويفرح بما يعلمه من الخير الناتج عن ذلك. والتوبة تأتي أحياناً بمعنى تغيير القصد ومن ذلك قوله في عيسو «لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرِثَ ٱلْبَرَكَةَ رُفِضَ، إِذْ لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَاناً» (عبرانيين ١٢: ١٧). لكنه يغلب مجيئها في الإنجيل بمعنى تثير إحساسات الإنسان ومبادئه تغيراً كلياً كاملاً في كل النفس والحياة ولا سيما من جهة الخطيئة فيحمله على كره الإثم وتركه. وعلة التوبة الحقة شعور الخاطئ بأن إثمه تعدّ على الله القدوس الذي تجب الطاعة له كما كان من داود حين شعر بخطيئته فقال «لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِماً. إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ» (مزمور ٥١: ٣ و٤ انظر أيضاً متّى ٣: ٨ ولوقا ٥: ٣٢ وأعمال ٥: ٣١).
حَزِنْتُمْ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ الدليل على أن حزنهم كان للتوبة قبول الله إياه واستحسانه له فإنه تعالى يعلم علة مثل ذلك الحزن أعن الشعور بالخطيئة هو أم عن مجرد خوف العقاب. والحزن بحسب مشيئة الله يجذب الحزين إلى الله لينال منه المغفرة والتعزية والسلام وهو أفضل استعداد للإتيان إلى المسيح وقبوله إياه رباً ومخلصاً. وكذا كان حزن مؤمني كورنثوس.
لِكَيْ لاَ تَتَخَسَّرُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ أي لكي لا يكون ما أحزنكم من رسالتي علة خسارة لشيء لكم. فإنه بدل من أن يكون علة خسارة وضرر كان علة أفضل ربح وخير روحي.
١٠ «لأَنَّ ٱلْحُزْنَ ٱلَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ، وَأَمَّا حُزْنُ ٱلْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتاً».
٢صموئيل ١٢: ١٣ ومتّى ٢٦: ٧٥ أمثال ١٧: ٢٢
لأَنَّ تعليل بيان أنهم لم يخسروا بحزنهم.
ٱلْحُزْنَ... يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ الحزن نفسه ليس هو توبة وإلا كان حزن إخوة يوسف توبة وهو لم يكن كذلك لأنه لم يمنعهم عن مداومة خداعهم لأبيهم. والندامة نفسها ليست توبة وإلا كانت ندامة يهوذا كذلك فنفعته (متّى ٢٧: ٤ و٥) ومجرد الاعتراف بالخطيئة ولوم النفس كما كان من شاول الملك (١صموئيل ٥: ٢٤) ليس توبة. وكذا إصلاح السيرة ظاهراً كما كان من هيرودس قاتل يوحنا (مرقس ٦: ٢٠). فالحزن المنشئ التوبة هو ما نتج عن كره الخطيئة وتركها وإدراك الخلاص فهو ليس علة الخلاص ولكن لا خلاص بدونه. فلا أحد من الخالصين لم يتب ولا أحد يتوب توبة حقة ويهلك.
بِلاَ نَدَامَةٍ أي الذي يتوب لا يندم وإن كانت توبته علة حزن شديد لأن مثل هذا الحزن يقوده إلى المسيح لنيل المغفرة وراحة الضمير والسلام الأبدي. فالتوبة مثل دواء مرّ يأخذه المريض باختياره لتوقعه النفع العظيم منه.
حُزْنُ ٱلْعَالَمِ أي حزن الدنيويين كما جاء في (يوحنا ٧: ٧ و١٤: ٧ و١كورنثوس ١: ٢٠ وغلاطية ٤: ٣).
فَيُنْشِئُ مَوْتاً أي هلاكاً أبدياً مقابلاً للخلاص الناشئ عن الحزن بحسب مشيئة الله. إن الدنيويين يحزنون على آثامهم لشعورهم بالألم الناتج عنها فينظرون إلى المصاب ولا ينظرون إلى الله الذي أدبهم فيزيدون عصياناً وبغضاً ومناواة لله كما كان من الملك آحاز فإنه «فِي ضِيقِهِ زَادَ خِيَانَةً لِلرَّبِّ» (٢أيام ٢٨: ٢٢). فأخطأ الذين ذهبوا إلى أن نفس الألم والحزن ينفعان النفس لأنهما لا ينفعان ما لم يفعل روح الله معهما لينشئا توبة صحيحة وتسليماً وتواضعاً وصبراً وإيماناً فإن الشرير كلما زاد شقاء زاد شراً بدليل أن الأشرار «كَانُوا يَعَضُّونَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ ٱلْوَجَعِ. وَجَدَّفُوا عَلَى إِلٰهِ ٱلسَّمَاءِ مِنْ أَوْجَاعِهِمْ وَمِنْ قُرُوحِهِمْ، وَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ» (رؤيا ١٦: ١٠ و١١).
١١ «فَإِنَّهُ هُوَذَا حُزْنُكُمْ هٰذَا عَيْنُهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ، كَمْ أَنْشَأَ فِيكُمْ مِنَ ٱلٱجْتِهَادِ، بَلْ مِنَ ٱلٱحْتِجَاجِ، بَلْ مِنَ ٱلْغَيْظِ، بَلْ مِنَ ٱلْخَوْفِ، بَلْ مِنَ ٱلشَّوْقِ، بَلْ مِنَ ٱلْغَيْرَةِ، بَلْ مِنَ ٱلٱنْتِقَامِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَظْهَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ أَبْرِيَاءُ فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ».
وصف الرسول في هذه الآية نتائج حزن الكورنثيين الذي تبيّن أنه كان بحسب مشيئة الله وصار سبباً لفرح الرسول.
هُوَذَا حُزْنُكُمْ هٰذَا عَيْنُهُ أي انتبهوا لهذا الحزن لتعرفوا فوائده.
بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ كما ظهر من نتائجه.
كَمْ أَنْشَأَ فِيكُمْ مِنَ ٱلٱجْتِهَادِ أي أحدث فيكم اجتهاداً كثيراً. والاجتهاد استفراغ الطاقة في تحصيل المطلوب الصعب. إن كنيسة كورنثوس في أول أمرها لم تبال بتأديب الزاني من أعضائها فكأنهم حسبوا ما فعله أمراً زهيداً. فأول حزنهم بحسب مشيئة الله كان الاهتمام بهذا الأمر واستفراغ الوسع في إصلاح الخلل وهذا من تأثير التوبة الحقيقية في كل خاطئ فيعتبر ما كان يحسبه زللاً زهيداً خطيئة عظيمة كافية أن تجلب عليه غضب الله.
بَلْ مِنَ ٱلٱحْتِجَاجِ المراد بالاحتجاج هنا تسليمهم بنقائصهم وإظهار أنهم عدلوا عن سلوكهم السابق وأن أكثر أعضاء الكنيسة لم يستحسنوا ما أساءه ولم يشتركوا فيه وأن من اشترك فيه لا يعود إليه. نعم أن الاحتجاج يكون غالباً للنفس على الغير وأما هنا فكان للغير على النفس.
بَلْ مِنَ ٱلْغَيْظِ أي من غيظهم على أنفسهم لما أتوه من الإساءة إلى الرسول ولما أهملوه من الواجبات فإنهم كانوا غافلين عن سوء تصرفهم في الماضي فانتبهوا حينئذ له. ولعل ذلك الغيظ يشمل الغيظ على وقوع الخطيئة التي سبق الكلام عليها وعلى المذنب وعلى سكوتهم عنه.
بَلْ مِنَ ٱلْخَوْفِ لم يتبيّن أَمن الله هذا الخوف أو من بولس أن يستعمل سلطانه الرسولي بأن يقاصهم على وفق قوله «أبعصا آتي إليكم» (١كورنثوس ٤: ٢١) ولا يبعد من أن يكون من الاثنين.
بَلْ مِنَ ٱلشَّوْقِ إلى إصلاح الخلل أو الحصول على رضى الرسول عنهم وحضوره إليهم. وقد سبقت شهادة تيطس بهذا الشوق (ع ٧).
بَلْ مِنَ ٱلْغَيْرَةِ لله بتطهير الكنيسة مما دنسها بإهمال تأديب الزاني وبإصلاحه إذا أمكن أو بعقابه.
بَلْ مِنَ ٱلٱنْتِقَامِ أي قصد إجراء التأديب اللازم على وفق شريعة الحق والعدل وهو قطع الزاني من شركة الكنيسة.
فِي كُلِّ شَيْءٍ أي في كل جهة نظر منها إلى الأمر المذكور.
أَظْهَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ أَبْرِيَاءُ الخ أي بينتم أنكم سالكون السلوك الواجب في إصلاح الخطإ وهذا لا يستلزم أنهم لم يستحسنوا اللوم على ما مضى لأن معظم غاية الرسالة الأولى توبيخهم على خطإهم في هذا الأمر لكنه صرّح هنا أن سلوكهم الحاضر هو المرضي وأنه رفع عنهم كل أسباب اللوم.
١٢ «إِذاً وَإِنْ كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ، فَلَيْسَ لأَجْلِ ٱلْمُذْنِبِ وَلاَ لأَجْلِ ٱلْمُذْنَبِ إِلَيْهِ، بَلْ لِكَيْ يَظْهَرَ لَكُمْ أَمَامَ ٱللّٰهِ ٱجْتِهَادُنَا لأَجْلِكُمْ».
١كورنثوس ٥: ١ ص ٢: ٤
غاية هذه الآية بيان مقصوده مما كتبه في الرسالة الأولى وهو حصول النتائج المذكورة في الآية السابقة.
إِذاً أي فالرسالة الأولى أنشأت هذه النتائج.
وَإِنْ كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أي مع أني كتبت.
فَلَيْسَ لأَجْلِ ٱلْمُذْنِبِ أي لم يكن معظم قصدي من الرسالة الأولى تأديب الزاني.
وَلاَ لأَجْلِ ٱلْمُذْنَبِ إِلَيْهِ أي الأب الذي أغرى ابنه امرأته وتزوجها (١كورنثوس ٥: ١). وهذا يثبت أن ذلك الأب كان عند كتابة هذه الرسالة حياً.
بَلْ لِكَيْ يَظْهَرَ لَكُمْ أَمَامَ ٱللّٰهِ الخ صرّح الرسول أن معظم غايته من تلك الرسالة إثبات عنايته بكل الكنيسة لا بشخص أو شخصين منها ولم يرد أن تُضر الكنيسة كلها لخطايا بعضها بامتناعهم عن التأديب اللازم كما أصيبت جماعة إسرائيل كلها بخطيئة عاخان. ووصف اجتهاده بظهوره أمام الله لثقته أنه مما يستحسنه الله الناظر إلى كل شيء والديان للجميع.
١٣ «مِنْ أَجْلِ هٰذَا قَدْ تَعَزَّيْنَا بِتَعْزِيَتِكُمْ. وَلٰكِنْ فَرِحْنَا أَكْثَرَ جِدّاً بِسَبَبِ فَرَحِ تِيطُسَ، لأَنَّ رُوحَهُ قَدِ ٱسْتَرَاحَتْ بِكُمْ جَمِيعاً».
رومية ١٥: ٣٢
بِتَعْزِيَتِكُمْ إياي بتوبتكم وغيرتكم وطاعتكم إلى آخر ما ذُكر في (ع ١١). قال في الآية السادسة أنه تعزّى بمجيء تيطس وقال هنا أنه تعزى بما أتاه به من أخبارهم.
وَلٰكِنْ فَرِحْنَا أَكْثَرَ الخ لا ريب في أنه سرّ لما رأى تيطس مسروراً لأنه صديقه. ومعظم علة فرحه تأكده من مسرّة تيطس حسن تأثير رسالته وتيقنه أن تعزيته بُنيت على أساس متين لما نظره بعينه من تأثيراتها الحسنة كما أبان في (ع ٧).
١٤ «فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ ٱفْتَخَرْتُ شَيْئاً لَدَيْهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَمْ أُخْجَلْ، بَلْ كَمَا كَلَّمْنَاكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ بِٱلصِّدْقِ، كَذٰلِكَ ٱفْتِخَارُنَا أَيْضاً لَدَى تِيطُسَ صَارَ صَادِقاً».
إِنْ كُنْتُ ٱفْتَخَرْتُ أي مع أني افتخرت وذلك الافتخار مدحه إياهم لتيطس قبل ذهابه إليه فإنه كان قد حقق له أنه يجدهم محبين له (أي لبولس نفسه) مستعدين لإطاعة أمره ولإصلاح الخلل الذي أمرهم بإصلاحه فلو أبوا ذلك لخجل بولس وخاب أمله لعدم صحة افتخاره بهم. لكن تيطس وجد مدح بولس لهم في محله ولما رجع وأخبر بولس بما رأى سر سروراً عظيماً.
كَلَّمْنَاكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ بِٱلصِّدْقِ هذا يشير إلى تبشيره إياهم بالإنجيل مدة إقامته عندهم. وهذا تصريح بأن كل تعليمه الإنجيلي حقّ.
كَذٰلِكَ ٱفْتِخَارُنَا... صَادِقاً لعل ما ألجأه إلى هذه العبارة تهمة أعدائه إياه بأنه لم يعلم الحق. ولذلك قال أنه تكلم بالحق في المسيح وهو بينهم وبالحق فيهم وهو غائب عنهم يشهد لهم أمام غيرهم. فمن مدح غيره في غيبته أثبت بذلك خلوص حبه له وإبانته هذا للكورنثيين معظم الغاية من هذه الرسالة.
١٥ «وَأَحْشَاؤُهُ هِيَ نَحْوَكُمْ بِٱلزِّيَادَةِ، مُتَذَكِّراً طَاعَةَ جَمِيعِكُمْ، كَيْفَ قَبِلْتُمُوهُ بِخَوْفٍ وَرَعْدَةٍ».
ص ٦: ١٢ ص ٢: ٩ وفيلبي ٢: ١٢
أَحْشَاؤُهُ هِيَ نَحْوَكُمْ بِٱلزِّيَادَةِ، مُتَذَكِّراً أكد الرسول لهم أن حب تيطس إياهم زاد كثيراً بزيارته لهم وأنه يزيد على توالي ذكره إحسانهم إليه وحسن تصرفهم.
طَاعَةَ جَمِيعِكُمْ أي طاعتكم لأوامري التي حملها تيطس إليكم.
كَيْفَ قَبِلْتُمُوهُ بِخَوْفٍ وَرَعْدَةٍ دل قبولهم إياه كذلك على رغبة شديدة في رضى الرسول وفي إصلاحهم خطأهم وكان خوفهم ورعدتهم من أن يقصروا عن الطاعة الواجبة عليهم للرسول والإكرام الواجب عليهم لمرسله تيطس. ولعل تيطس كان قد خشي من أن لا يقبلوه كذلك ومن أن يقابلوه بالعناد والمقاومة.
١٦ «أَنَا أَفْرَحُ إِذاً أَنِّي أَثِقُ بِكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ».
٢تسالونيكي ٣: ٤ وفليمون ٨ و٢١
هذه الآية خلاصة معظم الكلام في ما مرّ من هذه الرسالة وهو سبعة أصحاحات. كانت أفكاره قبل ذلك مضطربة كثيراً وكان يخشى عدم ثبوت مؤمني كورنثوس في الإيمان والطاعة له ومن تعليم المعلمين الكاذبين ولكن زالت خشيته وتوطدت ثقته بمحبتهم وطاعتهم له وإيمانهم بالله وتقواهم في سبيله.
فوائد



  • إنه على كل مؤمن أن يجتهد في تحصيل طهارة القلب والسيرة على وفق قول المسيح «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ» (متّى ٥: ٨). فلا يجوز لأحد أن يتخذ مواعيد الله سبيلاً إلى الاستمرار على الخطيئة لأنها تؤكد نيله المغفرة متى طلبها فيجب أن تجعله بالحري أن يبذل الوسع في سنن القداسة بناء على ما تضمنته من محبة الله. فالذي يأمل قبول الله إياه وهو غير مجتهد في أن يطهر نفسه كما أن الرب طاهر فأمله باطل (ع ١).
  • إنه على كل مسيحي أن يسعى وراء الكمال ويتم له ذلك باستعمال وسائط النعمة ولا سيما الصلاة وتلاوة كتابه تعالى وأن لا يفتر عن ذلك ما بقي في قيد الحياة لأنه ما دام على الأرض لا يقدر أن يقول آمناً «إني بلغت الكمال فلا أحتاج إلى السعي بعد» فإن بولس نفسه لم يدع مثل ذلك بل قال «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلٰكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضاً ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ» (فيلبي ٣: ١٢) (ع ١).
  • إنه يجب على كل خدم الدين أن يسلكوا بالاستقامة حتى يمكنهم أن يقولوا قول بولس في هذا الأصحاح «لم نظلم أحداً .لم نفسد أحداً. لم نطمع في أحد» وقوله «أُشْهِدُكُمُ ٱلْيَوْمَ هٰذَا أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ ٱلْجَمِيعِ» (أعمال ٢٠: ٢٦). وعلى الرعية أن يقبلوا بالمحبة الإكرام كل خدم الدين الذين سيرتهم وتعليمهم على وفق الإنجيل لئلا يغيظوا الذي أرسلهم (ع ٢).
  • إنه يجب علينا أن نرى يد الرب في تعزيتنا في ضيقاتنا وإن استخدم وسائط بشرية لها كمحادثة الأتقياء أو كتابتهم وما يحصل من الأحزان من النتائج النافعة (ع ٦).
  • إن ملائكة السماء تفرح بتوبة خاطئ واحد وكذا شعب الله يفرح ولا سيما المبشرون بالإنجيل متى رجع الخطأة عن طرقهم الرديئة معترفين بخطاياهم بالصلاة والدموع سائلين الرحمة الإلهية. والأتقياء لا يسرون بما يرونها من إمارات حزن هؤلاء وآلامهم بل بتوقعهم أثمار التوبة التي يعرفون أنها مباركة (ع ٨).
  • إنه من أصعب الأشياء على الإنسان أن يوبخ على خطيئته إذا خطئ إلينا واغتظنا منه لكن التوبيخ يندر أن يفيد إذا كان بالخشونة والغيظ وكثيراً ما يزيد التمادي في الإثم. وكان بولس مثالاً لنا في أنه مع أمانته في توبيخ الكورنثيين على خطاياهم لم يوبخهم إلا بكل رقة ورأفة وكلفه ذلك كثير من الآلام (ع ٨).
  • إنه إذا أردنا أن نحمل الخطأة على التوبة والالتجاء إلى المسيح لم يكف أن نُعلن عموماً شر الخطيئة التي ورثناها من آدم واشترك فيها كل الجنس البشري بل يجب فوق ذلك أن نذكر الخطايا الخاصة التي ارتكبها المخاطب وكيف يكرهها الله ويعاقب عليها لأن الاعتراف بخطيئة آدم وخطايا كل نسله ليس بالتوبة الكاملة الواجبة على كل خاطئ (ع ٨ و٩).
  • إنه إذا أردنا تحقق صحة توبتنا فلنقابلها بعلامات التوبة المذكورة في الآية الحادية عشرة. وأفضل تلك العلامات ترك الخطيئة والتمسك بالمسيح للغفران والنعمة للثبوت في القداسة (ع ١١).
  • إنه من رحمة الله جعل أحزان الناس وسيلة إلى إصلاحهم حتى خلاصهم فلولا تعليم الدين المسيحي أن الله يحول الشر خيراً لكان هذا العالم عالم الظلام والخوف واليأس لأن الخطيئة لا تأثير لها إلى شفاء مرتكبها حين ينتبه الضمير لما يستحقه الأثيم على إثمه لكن مواعيد كتاب الله للتائبين المنسحقي القلوب بلسم لجراح قلوبهم وترنيم في ليالي بلائهم (ع ١٠ و١١).
  • إن المقصود من التأديب الكنسي هو نفع الكنيسة كلها حفظاً لطهارتها وصيتها لا مجرد إثبات خطيئة هذا وبر ذاك فلذلك يجب أن يُراعي في إجرائه تمجيد المسيح. فلا يقدم أحد للكنيسة شكاية إلى أخيه لغاية شخصية إثباتاً لحقه أو شفاء لغيظه. إن السكوت عما يضر طهارة الكنيسة وحسن صيتها خطاء وقد يكون التكلم فيه خطاء إذا كانت الغاية منه نفعاً شخصياً وانتقاماً (ع ١٢).
  • إنه يجب علينا أن نتخذ أحزاننا آلة امتحان لمعرفة أحوالنا أمام الله وأن نبحث عن معظم علل تلك الأحزان لنعلم أعلى خسائرنا المالية أم على وقوعنا في الخطيئة أو لأضرار أصابتنا أم لأضرار وقعت على الكنيسة أو لعدم إكرام الناس إيانا أم لعدم إكرامهم للمسيح. وبمثل هذه المسائل نقدر أن نعلم هل نحن دنيويون من الذين أحزانهم تنشئ موتاً أو روحيون ممن أحزانهم تنشئ خلاصاً (ع ١١).




الأصحاح الثامن


سخاء كنائس مكدونية (ع ١ - ٦). وحث كنيسة كورنثوس على الاقتداء بهم (ع ٧ - ١٥). مدح تيطس والإخوة الذين معه لاجتهادهم في جمع الإحسان لفقراء كنيسة أورشليم عدد ١٦ - ٢٤.
وجوب السخاء على الفقراء


هذا الموضوع يشغل هذا الأصحاح وما يليه. أخذ الرسول أولاً في مدح كنائس مكدونية على سخائها مع ضيقاتها الشديدة وفقرها المدقع فإنها بذلت ما فوق طاقتها في مساعدة فقراء المؤمنين في أورشليم (ع ١ - ٣). وإنها لم تفعل ذلك كرهاً ولا طوعاً لإلحاح الرسول بل هي ألحت عليه أن يقبل إحسانها ويبعث به إلى أولئك الفقراء (ع ٤). وما اكتفوه بإعطاء الرب أموالهم فأعطوه أنفسهم أيضاً (ع ٥). وسأل تيطس أن يحث الكورنثيين على الاقتداء بإخوتهم المكدونيين في السخاء وأن يكملوا الجمع الذي ابتدأوه (ع ٦). ثم سأل مؤمني كورنثوس وسألهم ذلك بطريق النصح لا الأمر لأنه رغب في أن يظهروا خلوص محبتهم وأن يتمثلوا بالمسيح في إنكار نفسه لنفع غيره (ع ٨ و٩). ولأنه تيقن أن السخاء ينفعهم (ع ١٠ و١١). وأبان أن الأمر الجوهري نشاط المعطي لا وفرة العطية (ع ١٢). وكان غرض الرسول من ذلك أن يكون في المؤمنين شيء من المساواة في الماديات وهو أن يسد فضل الغني عوز الفقير (ع ١٣ - ١٥). وشكر الله في هذا على أنه أنشأ في تيطس رغبة واجتهاداً في هذا الأمر (ع ١٦ و١٧). وأرسل مع تيطس أخاً ممدوحاً من كل الكنائس عُيّن مساعداً للرسول بأن يتسلم مال الإحسان (ع ١٨ و١٩). وهذا كان على وفق سؤاله أن يُقام آخرون معه وكلاء على الحسنات (ع ٢٠ و٢١). وأرسل أخاً آخر مع تيطس وذاك وكان هذا مشهوراً بحسن الصيت والاجتهاد (ع ٢٢). وأوصى بتيطس ورفيقيه وسأل الكنيسة أن تظهر محبتها لهم وصحة افتخاره بها (ع ٢٣ و٢٤).
١ «ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ».
ثم من العلامات التي اعتادها الرسول في الانتقال من موضوع إلى آخر.
نُعَرِّفُكُمْ... نِعْمَةَ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ سألهم الرسول في رسالته الأولى أن يجمعوا الإحسان للقديسين (١كورنثوس ١٦: ١). وزاد هنا على ذلك بيان ما فعلته كنائس مكدونية في هذا الشأن ترغيباً لهم في السخاء. ونسب سخاء المكدونيين إلى الله الذي هو منشئ كل فضيلة في نفس الإنسان لا إلى كرم طبيعتهم ولا إلى رغبتهم في إرضاء الرسول. ونعمة الله هذه لم تنف حريتهم ولا نسبة السخاء إليه ولا استحقاقهم الإثابة عليه فكانوا يقادون بروح الله ولا يشعرون به لموافقة إرادتهم لإرادته.
ومكدونية هي القسم الشمالي من قسمي بلاد اليونان في عصر الرومانيين ومن أشهر كنائسها التي أسسها بولس كنيسة فيلبي وتسالونيكي وبيرية. ومدح الرسول في موضع آخر سخاء بعضهم (ص ١١: ٥ وفيلبي ٢: ٢٥ و٤: ١٥ و١٨). ولعل من جملة ما حمله على نسبته سخاء المكدونيين إلى الله خشيته أن يلحق أهل كورنثوس الحسد من مدحه كنائس مكدونية بالعطاء أكثر منهم وبيان على تلك الفضيلة لكي يطلبوها من الله وينالوها. وهذا موافق لقول داود الملك في المال الذي جمعه لبناء الهيكل «مَنْ أَنَا وَمَنْ هُوَ شَعْبِي حَتَّى نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَبَرَّعَ هٰكَذَا، لأَنَّ مِنْكَ ٱلْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ» (١أيام ٢٩: ١٤).
٢ «أَنَّهُ فِي ٱخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ ٱلْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ».
مرقس ١٢: ٤٤ رومية ١٢: ٨ وص ٩: ١١
ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ الأرجح أن هذه الضيقة نتيجة الاضطهاد الذي وقع عليهم من أجل الإنجيل. ونستنتج مما اختبره بولس في مكدونية من المقاومة (أعمال ١٦: ١٩ و٢٠ و١٧: ٥ و٦ و١٣) ما كان يصيب التلاميذ منها. وذكر الرسول في رسالته إلى أهل تسالونيكي الاضطهادات والضيقات التي أصابتهم في سبيل الدين المسيحي (١تسالونيكي ٢: ١٤ و٢تسالونيكي ١: ٤).
وُفُورُ فَرَحِهِمْ بتعزية مواعيد الإنجيل وشعورهم بمغفرة خطاياهم ورضى الله عنهم. ومثل هذا الفرح يسمى في الإنجيل «بفرح الروح القدس» (١تسالونيكي ١: ٦). وهذا الفرح زاد على حزنهم من ضيقهم وجعلهم يسخون على إخوتهم إعلاناً لشكرهم الله على ما منحهم من البركات الروحية.
فَقْرِهِمِ ٱلْعَمِيقِ من علل هذا الفقر اضطهاد الناس وبغضهم إياهم ومنعهم لهم من وسائل المعاش لأجل دينهم وأحوال بلاد مكدونية فإن كان أهل مكدونية صاروا يومئذ أسرى الفقر لأن بلادهم أخذت تخرب منذ استولى عليها الرومانيون ولم تتخلص من ذلك. وكانت قد مر عليها ثلاث حروب شديدة الأولى بين يوليوس قيصر وبمبيوس والثانية بين الدولة الرومانية وبروتس وكاشيوس. والثالثة بين أوغسطس وأنطونيوس. فهبطت البلاد إلى هاوية الفقر حتى سألت أرباب الحكومة الرومانية أن يرفعوا عنهم بعض الجزية فرأى أولئك الحكام أن طلبها في محله فأجابوها إلى ما سألت فما كان يستغرب أن يعتذر أهل كنائس مكدونية بعميق فقرهم عن الإحسان على فقراء أورشليم لكنهم لم يتعذروا شيئاً.
لِغِنَى سَخَائِهِمْ أي لكثرة عطائهم وهذا متعلق بقوله «فاض». وفاض وفور فرحهم لغنى سخائهم لأن وفور فرح المسيحي حملهم على كثرة العطاء. وفاض وفور فقرهم لغنى ذلك السخاء بمقابلة الأول بالثاني ولهذا السبب عينه مدح المسيح الأرملة الفقيرة التي ألقت الفلسين في الحزانة وقال أنها أعطت أكثر من الأغنياء الذين ألقوا فيها من فضلاتهم تقدمات ثمينة لأنها أعطت من إعوازها. والخلاصة أن من نظر إلى عمق فقر المكدونيين وكثرة عطائهم تحقق أنهم من أول الأسخياء.
٣ - ٥ «٣ لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ ٱلطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ ٱلطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، ٤ مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ ٱلنِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ ٱلْخِدْمَةِ ٱلَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ. ٥ وَلَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا، بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ، وَلَنَا، بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ».
أعمال ١١: ٢٩ و٢٤: ١٧ ورومية ١٥: ٢٥ و٢٦ و١كورنثوس ١٦: ١ - ٤ وص ٩: ١
لأَنَّهُمْ اللام للتعليل وما بعدها إثبات لما سبق في الآية الثانية من الكلام على سخاء الكنائس المكدونية.
أَعْطَوْا ما أعطوه هو ما جمعوه إحساناً إلى فقراء المؤمنين في أورشليم. وذكر الرسول أربعة أمور من متعلقات ذلك العطاء:

  • الأول: إنه كان فوق طاقتهم.
  • الثاني: إنه كان تبرعاً.
  • الثالث: إنهم استأذنوا في أن يعطوا.
  • الرابع: إنهم فوق إعطائهم أعطوا ما لم يتوقعه الرسول وهو أنفسهم.


فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ هذا أول برهان على غنى سخائهم. وقال الرسول هذا عن اختبار لأنه جال بينهم وعرف عمق فقرهم.
مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فكانوا بذلك مثلاً لمؤمني كورنثوس فإن هؤلاء لم يجمعوا شيئاً من مال الإحسان إلا بعد أن سألهم إياه في الرسالة الأولى. ومع الرسالة الثانية أرسل إليهم أناساً يلحون عليه بذلك. ولم يكن لهم عذر في الإمساك كما كان لمؤمني مكدونية لو أرادوا الاعتذار لأن كورنثوس كانت في أحسن حال من الأحوال. وقوله «من تلقاء أنفسهم» تلميح إلى مثل كان شائعاً وهو «المعطي تبرعاً يعطي مضاعفاً». وإلى قول الوحي «ٱلْمُعْطِيَ ٱلْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ ٱللّٰهُ» (ص ٩: ٧). ولا منافاة بين قوله هنا وقوله «لأَنِّي أَعْلَمُ نَشَاطَكُمُ ٱلَّذِي أَفْتَخِرُ بِهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَدَى ٱلْمَكِدُونِيِّينَ... وَغَيْرَتُكُمْ قَدْ حَرَّضَتِ ٱلأَكْثَرِينَ» (ص ٩: ٢ و٣). لأن مدحه سخاء الكورنثيين للمكدونيين لم يتضمن شيئاً من طلب الإحسان منهم أو حثهم عليه مع أن المكدونيين اتخذوه حثاً على ذلك.
مُلْتَمِسِينَ... ٱلنِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ ٱلْخِدْمَةِ الخ أي أنهم ألحوا على الرسول بأن يأذن لهم في مشاركة سائر الكنائس في مساعدة إخوتهم المحتاجين. ولفظتا «أن نقبل» ليستا في الأصل اليوناني فإن أضفناهما إلى الأصل كان معنى «النعمة» العطية أو المال المجموع» وإن قطعنا النظر عنهما كان معنى «النعمة» المنة كما تُرجمت في (أعمال ٢٥: ٣). والمراد بها منة الاشتراك في الإحسان. ولا بد لاضطرارهم إلى التماس ذلك من بولس من علة والمرجح أنها شفقته عليهم لفقرهم لأنهم أعطوا ما فوق طاقتهم.
لَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا توقع بولس من المكدونيين تقدمة مالية على قدر طاقتهم.
بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ وَلَنَا فإنهم وقفوا أنفسهم وكل مالهم للرب بدون استثناء وللرسول أيضاً في ما يليق به كالامتثال له بالقيام بما يجب عليهم من الإيمان والعمل. والرسول لم يعجب من وقفهم أنفسهم للمسيح لأن ذلك مما يجب على كل مؤمن لكن الذي عجب منه شمول ذلك الوقف لأموالهم وأوقاتهم وأفكارهم وأقوالهم وأعمالهم واقترانه بسخائهم في العطاء. والأولية في قوله «أولاً» الأولية في الأهمية لا في الزمان. وهذه الآية دليل قاطع على نفع السخاء في سبيل المسيح فإنه يجعل المؤمن مشابهاً لله المعطي الكريم وللمسيح الذي بذل نفسه مجاناً عن جميع البشر. فكان هيناً على المسيح أن يعطي المال لكنه لم يلتفت إلى ذلك بل أعطى نفسه. فمتى ابتدأنا نذوق لذة العطاء في سبيل المسيح حباً له لم ننته إلا وقد أعطيناه أنفسنا وكل مالنا.
بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ أي أنهم وقفوا أنفسهم لله وذلك ما اقتضته مشيئته فإنه هو الذي وهب لهم نعمة مكنتهم من أن يشاءوا ما يشاء.
٦ «حَتَّى إِنَّنَا طَلَبْنَا مِنْ تِيطُسَ أَنَّهُ كَمَا سَبَقَ فَٱبْتَدَأَ، كَذٰلِكَ يُتَمِّمُ لَكُمْ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةَ أَيْضاً».
ع ١٧ وص ١٢: ١٨
حَتَّى أي بناء على ما رأينا من سخاء كنائس مكدونية الوافر. وهذا رغب بولس في أن يحث كنيسة كورنثوس على مثله.
طَلَبْنَا مِنْ تِيطُسَ كتب بولس إلى مؤمني كورنثوس في رسالته الأولى أن يجمعوا الإحسان لفقراء أورشليم ويظهر أن تيطس لما ذهب إلى كورنثوس بعد كتابة تلك الرسالة شرع في جمع ذلك الإحسان ونجح بعض النجاح ووقف عنه حين ذهب إلى مكدونية للقاء الرسول وبعدما سمع الرسول منه ما أتاه من ذلك في كورنثوس سأله أن يرجع سريعاً ويتمم الجمع.
كَمَا سَبَقَ فَٱبْتَدَأَ قبل أن ترك كورنثوس لملاقاة بولس في مكدونية. ولعل المراد أنه أخذ يجمع الإحسان في كورنثوس قبل أن شرع المكدونيين في الجمع.
هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةَ أي فعل النعمة وهو جمع الصدقات كما جاء في (ع ١). فحسب الرسول السخاء المسيحي من جملة الفضائل والنعم كالإيمان والمحبة.

وجوب السخاء المسيحي ع ٧ إلى ١٥


موضوع الرسول في هذا الفصل إثبات وجوب السخاء وأثبت ذلك بخمسة أدلة:

  • الأول: إنه ضروري لكمال الفضائل المسيحية.
  • الثاني: علامة أن المعطي مخلص الإيمان المسيحي.
  • الثالث: الاقتداء بالمسيح الذي افتقر لأجلنا وهو الغني.
  • الرابع: إنه يؤول إلى نفع المعطي.
  • الخامس: إن ما طُلب منهم من السخاء كان لائقاً بهم.


٧ «لٰكِنْ كَمَا تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: فِي ٱلإِيمَانِ وَٱلْكَلاَمِ وَٱلْعِلْمِ وَكُلِّ ٱجْتِهَادٍ وَمَحَبَّتِكُمْ لَنَا، لَيْتَكُمْ تَزْدَادُونَ فِي هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ أَيْضاً».
مدحهم بولس على ما أدركوه من الفضائل ترغيباً لهم في ممارسة غيرها.
كَمَا تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ الكاف متعلقة بتزدادون بعد قوله «ليتكم». وقوله «كل شيء» مقيد بالقرينة وبما يأتي. وسبق مثل هذا المدح لهم في الرسالة الأولى (١كورنثوس ١: ٥ - ٧). ويجب أن نعتبر هنا أن هذا الكلام موجه إلى أكثر أعضاء كنيسة كورنثوس لا جميعهم لأننا نرى من بعض كلامه أن بعض أولئك الأعضاء ولا سيا بعض المعلمين كانوا مستحقين شديد الملام.
فِي ٱلإِيمَانِ بدل من قوله «في كل شيء» بإعادة الجار. والإيمان هنا كما في (ص ١: ٢٤) الثقة التامة بصدق الإنجيل والتمسك به على الدوام. ووُضع في أول قائمة الفضائل لأن الازدياد فيه يؤكد النشاط والاجتهاد والثبات في الحياة الروحية.
ٱلْكَلاَمِ وَٱلْعِلْمِ (١كورنثوس ١: ٥). المراد «بالكلام» هنا الحق المعلن به للإنسان لإفادة غيره «والعلم» الحق الذي أدركه لإفادة نفسه.
كُلِّ ٱجْتِهَادٍ أي بذل كل ما في الطاقة في القيام بالواجبات وممارسة الفضائل المسيحية.
مَحَبَّتِكُمْ لَنَا ذكر محبتهم له لأنها عزيزة عنده ولأنه مزمع أن يمتحنها بقبولهم نصحه في جمع الإحسان.
فِي هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ أي السخاء. عبّر عنه بالنعمة لا بالفضيلة دلالة على أنه هبة من الله لا من الصفات البشرية.
٨ «لَسْتُ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ ٱلأَمْرِ، بَلْ بِٱجْتِهَادِ آخَرِينَ، مُخْتَبِراً إِخْلاَصَ مَحَبَّتِكُمْ أَيْضاً».
١كورنثوس ٧: ٦
لَسْتُ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ ٱلأَمْرِ أبان الرسول مراده بطريق السلب أولاً كعادته وهو أنه لا يريد أن يعطوا الصدقات لمجرد طلبه لأن العطاء إطاعة للأمر ليس بسخاء فشرط السخاء الحق أن يكون تبرعاً. وهذا لا يمنع من إيراد الأسباب الموجبة للعطاء كاحتياج المتصدق عليه ومدح الأسخياء للاقتداء بهم. وقوله «لست أقول» الخ لا يفيد أنه لم ينطق به عن الوحي لأنه يمكن الروح أن يوحي بالنصح كما يوحي بالأمر.
بَلْ بِٱجْتِهَادِ آخَرِينَ أي أنه عدل عن الأمر بالعطاء إلى ذكر اجتهاد المكدونيين في السخاء.
مُخْتَبِراً إِخْلاَصَ مَحَبَّتِكُمْ إخلاص المحبة لا يختبر بالأقوال بل بالأعمال فبرهان إخلاص المحبة لله هو إطاعة أوامره وبرهان المحبة للإخوة هو مساعدتهم في ضيقاتهم وبرهان محبتهم للرسول قبولهم نصح لهم أن يعطوا بسخاء.
إن المحبة جوهر الدين المسيحي فمن أول مطاليبه أن نعمل الخير لجميع الناس بقدر ما لنا من الفرص فنظهر إخلاص محبتنا للمسيح ولكنيسته بأن ننكر نفوسنا ونبذل مالنا وخدمتنا في سبيل إسعاد غيرنا وإنقاذهم الأبدي.
٩ «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ».
متى ٨: ٢٠ ولوقا ٩: ٥٨ وفيلبي ٢: ٦ و٧
هذه الآية معترضة بين (ع ٨ و١٠) غايتها البيان مما فعله المسيح أن إنكار النفس برهان المحبة وإننا مكلفون بالإحسان إلى غيرنا شكراً للمسيح واقتداء به. ذكر لهم المكدونيين أولاً مثالاً في عمل الخير وذكر لهم هنا مثالاً أعظم منهم جداً في ذلك.
تَعْرِفُونَ ذكرهم الرسول بمحبة المسيح التي عرفوها قبلاً لكي ينتبهوا كل الانتباه لها ولما توجبه علينا تلك المحبة.
نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي محبته الخالصة التي لا يستحقها الإنسان وهي غير محدودة. ودعا المسيح رباً إشارة إلى عظمته ومجده وأنه ملك نحن وكل ما لنا له. وأظهر أدلة هذه النعمة في باقي الآية. وقال إنه «ربنا» إشارة إلى كونه مستعداً أن يتخذ قدرته العظيمة للاعتناء بنا.
وذكر أنه «يسوع المسيح» ليدل على أن ذلك الرب القدير هو مخلصنا أيضاً وأن الله مسحه لعمل الفداء وأعطاه كل سلطان في السماء وعلى الأرض. والمجد الذي له من حقوقه باعتبار كونه الأقنوم الثاني في اللاهوت. وقال الإنجيل «قد أعطي المجد باعتبار كونه إلهاً متجسداً» (فيلبي ٢: ٩ - ١١ وعبرانيين ١: ٢).
أَجْلِكُمُ أي حباً لكم. قال ذلك للكورنثيين لكي يجعلهم يشعرون بما عليهم من الشكر للمسيح والمحبة له. نعم إن المسيح مات عن كل الناس لكن هذا لا يؤثر فينا مثل أن يقال مات عنا. وقد مات عنا ونحن خطأة وأعداء (رومية ٥: ٨ و١٠) لأنه رآنا تحت سلطة الخطيئة (رومية ٧: ٤) وتحت الدينونة (رومية ٥: ١٨) و «اللعنة» (غلاطية ٣: ١٣) وعرضة للهلاك (يوحنا ٣: ١٦).
ٱفْتَقَرَ بتجسده لأنه مع كونه «مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ» (فيلبي ٢: ٦ و٧). وترك مجد لاهوته الأسنى وظهر «في شبه جسد الخطية» (رومية ٨: ٣). وتخلى عن استعمال معظم قدرته الإلهية وعن كل استعمال لها في ما يختص بنفسه وعاش عيشة فقير بين الناس. وخدم الناس كعبد كما أنه أخذ صورة عبد. فكان بالنسبة إلى أموال العالم وأملاكه فقيراً إذ وًُضع في مذود وربي في بيت نجار. وقال في شأن نفسه «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متى ٨: ٢٠). وحين مات مات موت عبد مجرم ودُفن في قبر غيره. وافتقر في الأصدقاء إذ لم يكن منهم سوى اثني عشر تلميذاً خانه واحد منهم وأنكره آخر وكلهم تركوه وهربوا عند ضيقته. وأبوه السماوي صرف وجهه عنه حتى صرخ قائلاً «إلهي إلهي لماذا تركتني» (متى ٢٧: ٤٦). وافتقر في الصيت إذ أبى الناس أن يدعوه ابن الله فدعوه ابن النجار وخليل العشارين والخطأة وبعلزبول. وكان «مجرباً في كل شيء مثلنا» (عبرانيين ٤: ١٥) حتى أنه عُرض لتجربة الروح النجس وما أثقل ذلك على طبيعته المقدسة. ومن أعظم أمور فقره أنه وُضع عليه دين كل العالم فإنه كان «رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ... لٰكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا... وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا... وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء ٥٣: ٣ - ٦). ففقر المسيح لا نظير له ونتبين عظمته بمقابلته بغناه قبل تجسده. وكان ذلك الفقر الشديد اختيارياً بدليل قوله «أَضَعُ نَفْسِي... لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا ١٠: ١٧ و١٨).
وَهُوَ غَنِيٌّ كان غنياً قبل أن أتى إلى هذا العالم فادياً. وكان غناه قائماً بأن له كل الصفات الإلهية وكان غنياً في المجد الذي كان له عند الآب قبل كون العالم (يوحنا ١٧: ٥). وكان غنياً في محبة الآب إياه وعبادة جنود السموات له وفي كمال السعادة. وظهرت وفرة نعمته على الناس بأنه مع هذا الغنى العظيم افتقر شديد الافتقار اختياراً من أجلنا.
لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ هذا غاية اتضاع المسيح. اقتنى المؤمنين به كل الغنى الذي كان له في السماء وأخلى نفسه منه حين نزل إلى الأرض فادياً لأنهم نالوا الفداء بدمه ومغفرة خطاياهم والسلام مع الله وجدة الحياة والانتصار على العالم والشهوات والشيطان فيحصلون على المجد الذي له (يوحنا ١٧: ٢٢). وصاروا شركاء الطبيعة الإلهية (٢بطرس ١: ٤). وسيملكون مع المسيح (رؤيا ٥: ١٠). وورثة الله وارثين مع المسيح (رومية ٨: ١٧) وكل شيء لهم (١كورنثوس ٣: ٢٢ و٢٣). وكل هذا الغنى حصلوا عليه بفقر المسيح. فلو لم يُخضع نفسه لاتضاع التجسد والألم والإهانة والموت بقينا فقراء إلى الأبد خالين من القداسة والسعادة والمجد.
وأورد بولس ذلك بياناً لوجوب أن ننكر أنفسنا ونسخو بأموالنا لنفع غيرنا فهو كقول يوحنا «مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ ٱلْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجاً، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِيهِ» (١يوحنا ٣: ١٧). وأبان عظمة نعمة ربنا يسوع المسيح بأربعة أشياء:

  • الأول: سمو شأن المنعم.
  • الثاني: دناءة المنعم عليهم.
  • الثالث: ما تكلفه المنعم من النفقة العظيمة ليرفع المنعم عليهم من دناءتهم إلى شركة عظمته.
  • الرابع: نفاسة الفوائد التي حصلوا عليها.


١٠ «أُعْطِي رَأْياً فِي هٰذَا أَيْضاً، لأَنَّ هٰذَا يَنْفَعُكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ سَبَقْتُمْ فَٱبْتَدَأْتُمْ مُنْذُ ٱلْعَامِ ٱلْمَاضِي، لَيْسَ أَنْ تَفْعَلُوا فَقَطْ بَلْ أَنْ تُرِيدُوا أَيْضاً».
١كورنثوس ٧: ٢٥ أمثال ١٩: ١٧ ومتّى ١٠: ٤٢ و١تيموثاوس ٦: ١٨ و١٩ وعبرانيين ١٣: ١٦ ص ٩: ٢
هذه الآية متعلقة بالآية الثامنة.
أُعْطِي رَأْياً فِي هٰذَا أي في الذي لم يستحسن أن يأمر به وهو جمع الإحسان. ،هذا يشبه قوله في (١كورنثوس ٧: ٦).
لأَنَّ هٰذَا يَنْفَعُكُمْ هذا علة نصحه لهم أن يجمعوا الإحسان. ومعناه أن فعل الخير ينفع فاعله لأنه يؤول إلى النمو في الفضيلة وهو مما يجب على المسيحي فإنه إذا عزم على عمل صالح وشرع فيه ثم عدل عنه لغير علة كافية كان ذلك مما يضره.
سَبَقْتُمْ فَٱبْتَدَأْتُمْ الخ أي أنكم أيها الكرونثيون قد سبقتم المكدونيين في الجمع (ع ٦) وقصدكم إياه. والمعنى أنهم افتكروا فيه قبل أن خطر على بال المكدونيين فغار المكدونيين منهم بدليل قوله «غَيْرَتُكُمْ قَدْ حَرَّضَتِ ٱلأَكْثَرِينَ» (ص ٩: ٢) فذكرهم لهم ذلك لكي لا ينثنوا عنه قبل إكماله. وقوله «منذ العام الماضي» لا يستلزم أنه مر على ذلك سنة كاملة فإن حساب بولس كان حساب اليهود طبعاً وأول السنة عندهم شهر تشرين الأول فإذا حسبنا أنه كتب الرسالة الأولى التي أخبرهم فيها بجمع الإحسان في الربيع وأنه كتب الرسالة الثانية في الخريف حق له أن يعبر عن وقت الأولى بالعام الماضي مع أنه لم يكن بين الكتابتين سوى نحو ستة أشهر.
١١ «وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَمِّمُوا ٱلْعَمَلَ أَيْضاً، حَتَّى إِنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلنَّشَاطَ لِلإِرَادَةِ، كَذٰلِكَ يَكُونُ ٱلتَّتْمِيمُ أَيْضاً حَسَبَ مَا لَكُمْ».
تَمِّمُوا ٱلْعَمَلَ أي جمع الإحسان كما ابتدأتم فيه عملاً وعزماً.
حَتَّى إِنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلنَّشَاطَ... يَكُونُ ٱلتَّتْمِيمُ بنى هذا على أن اللياقة توجب عليهم أن يتمموا ما قصدوه وأعلنوه لغيرهم دفعاً لضرر صيتهم وضمائرهم فإن اقتدارهم لم يتغير وكذلك احتياج فقراء أورشليم فلم يبق من حجة لهم على عدم التتميم أي جمع الإحسان وإن كان ذلك وجب قبلاً فلم يزل واجباً أخيراً.
حَسَبَ مَا لَكُمْ أي على قدر استطاعتكم. لم يُرد أن يعطوا على خلاف إرادتهم وفوق وسعهم بل أن يعطوا تبرعاً بالنسبة إلى طاقتهم.
١٢ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلنَّشَاطُ مَوْجُوداً فَهُوَ مَقْبُولٌ عَلَى حَسَبِ مَا لِلإِنْسَانِ، لاَ عَلَى حَسَبِ مَا لَيْسَ لَهُ».
مرقس ١٢: ٤٣ و٤٤ ولوقا ٢١: ٣
هذه الآية متعلقة بالكلمتين اللتين في آخر الآية الحادية عشرة وهي بيان لقياس العطاء وهو أن يكون على قدر الإمكان وهذا موافق لتعليم المسيح في (مرقس ١٢: ٤٢ - ٤٤ ولوقا ٢١: ١ - ٤ انظر أيضاً خروج ٢٥: ٢ و٣٥: ٥ و١أيام ٢٩: ٩). وخلاصة هذه الآية أن الله ينظر إلى ميل المعطي لا إلى مقدار العطية ويدين كل إنسان بمقتضى مكنته من العطاء فكثيراً ما تكون العطية القليلة من إنسان دلالة على كونه أسخى من ذي العطية الكثيرة. فإذا وُجد النشاط للعطاء ولم يكن الإمكان كان ذلك عند الله كالعطية ولكن إذا وُجد الإمكان لا تُقبل دعوى النشاط مجردة عن العطاء.
١٣ «فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكَيْ يَكُونَ لِلآخَرِينَ رَاحَةٌ وَلَكُمْ ضِيقٌ».
في هذه الآية علة أن الرسول لم يرد أنهم يعطون فوق ما يستطيعون. وما جاء هنا على طريق السلب جاء في الآية التالية على طريق الإيجاب فقال هنا أنه لم يرد أن يثقل على أهل كنيسة كورنثوس ويخفف عن غيرهم وليس هذا الغير أهل كنائس مكدونية أو غيرها من الكنائس المسيحية التي كانوا يجمعون الإحسان منها بل هو على ما تقتضي القرينة فقراء المسيحين في أورشليم الذين جمعوه لهم. فإنه ما ابتغى أن يرفع عن كنيسة أورشليم حمل الفقر ويضعه على كنيسة كورنثوس بإعطائها إياهم أكثر مما تستطيع حتى أنها تفتقر. فالله لم يطلب من الأغنياء أن يجعلوا أنفسهم فقراء لكي يكون الفقراء أغنياء.
١٤ «بَلْ بِحَسَبِ ٱلْمُسَاوَاةِ. لِكَيْ تَكُونَ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ فُضَالَتُكُمْ لإِعْوَازِهِمْ، كَيْ تَصِيرَ فُضَالَتُهُمْ لإِعْوَازِكُمْ، حَتَّى تَحْصُلَ ٱلْمُسَاوَاةُ».
بِحَسَبِ ٱلْمُسَاوَاةِ يحمل ثقل الفقر. فالرسول لم يعلم هنا أن يشترك المسيحيون في المقتنيات حتى أنه يجب على كل منهم أن يقسم ماله على الذين أفقر منه فإن الإحسان بمقتضى الإنجيل يجب أن يكون بحسب الاختيار ومال كل إنسان له فله أن يحفظه وأن يوزعه حسب ما يرشده إليه ضميره (أعمال ٥: ٤). فالذي يعطي الفقير بعطيه حباً لله ولقريبه والذي يأبى أن يعطي الفقير من ماله يدل على عدم محبته لله ولقريبه (١يوحنا ٣: ١٧). فرغب الرسول إلى مؤمني كورنثوس أن يحملوا بعض أثقال إخوتهم فقراء أورشليم حتى لا يكون حمل الفقر أثقل على هذا من ذاك.
لِكَيْ تَكُونَ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ فُضَالَتُكُمْ لإِعْوَازِهِمْ أي فضلتكم يا أهل كورنثوس لحاجة مؤمني أورشليم. رأى الرسول كنيسة كورنثوس حين كتب هذا بالنسبة إلى غيرها من الكنائس في غنى ويسر في الأمور الدنيوية. يفضلان عنهم وعلم أن الكنائس اليهودية في فقر وعسر وعوز فرغب في أن أولئك يسدون من فضالتهم إعواز هؤلاء.
فُضَالَتُهُمْ لإِعْوَازِكُمْ أي فضلة مؤمني أورشليم لحاجتكم يا مؤمني كورنثوس وقال هذا لأنه حسب ضيقة مؤمني أورشليم وقتية ورأى احتمال تغير الأحوال في المستقبل حتى تفتقر كنيسة كورنثوس الغنية وتستغني كنيسة أورشليم الفقيرة وحينئذ تساعد هذه تلك.
حَتَّى تَحْصُلَ ٱلْمُسَاوَاةُ في الدنيويات أي لكي لا يكون كل الفقر على قوم في مدينة وكل الغنى لقوم في أخرى بل يكون ثقل الفقر مشتركاً بسخاء المنعمين وهذا قريب من قوله «فَإِذاً حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ» (غلاطية ٦: ١٠).
ولا شيء في ها مما يغري بالكسل والتسوّل لقوله في موضع آخر «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً» وقوله «نُوصِيهِمْ... أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهُدُوءٍ، وَيَأْكُلُوا خُبْزَ أَنْفُسِهِمْ» (٢تسالونيكي ٣: ١٠ و١٢). ولا شيء فيه من الدلالة على أنه يمكن أن يؤخذ في الروحيات من فضلات بعض المسيحيين لسد نقصان غيره لأنه ليس لأحد فضل قدام الله وأفضلهم ليس سوى عبد بطال (لوقا ١٧: ١٠).
١٥ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: ٱلَّذِي جَمَعَ كَثِيراً لَمْ يُفْضِلْ، وَٱلَّذِي جَمَعَ قَلِيلاً لَمْ يُنْقِصْ».
خروج ١٦: ١٨
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في (خروج ١٦: ١٨) على ما في ترجمة السبعين. وقيل هذا في المن الذي كان يقع حول محلة الإسرائيليين ويشتركون في جمعه صباحاً فيتفق أن القوي يجمع أكثر من المفروض والضعيف يجمع أثفل منه ولكن كل واحد كان يأخذ من المجموع المفروض كاملاً وهو كيل يُعرف عندهم بالعمر كان كفافاً للشخص الواحد فلا يستفيد شيئاً مما زاد عليه لأنه لا يقدر أن يأكله وإذا خزنه فسد في يومه. وضرب بولس هذا مثلاً لبيان أنه يجب على الأقوياء أن يشاركوا الضعفاء في مقومات المعاش. والمعنى أنه يجب على الكورنثيين الأغنياء أن يشاركوا إخوتهم الفقراء كما شارك أقوياء الإسرائيليين ضعفاءهم في المن لأن الغنى كالمن في كونه عطية الله وكذلك الصحة والفرصة لتحصيل المال. وكما أن المن إذا خُزن ولم يؤكل فسد وأضر خازنه (خروج ١٦: ٢٠) كذلك المال إذا لم يُنفق في وقت الحاجة أضر خازنه بدليل قول الحكيم «يُوجَدُ مَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ ٱللاَّئِقِ وَإِنَّمَا إِلَى ٱلْفَقْرِ» (أمثال ١١: ٢٤). وقول الرسول «غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ، وَثِيَابُكُمْ قَدْ أَكَلَهَا ٱلْعُثُّ. ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا، وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ، وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ» (يعقوب ٥: ٢ و٤).

توصية بتيطس والأخوين اللذين معه ع ٢٦ إلى ٢٤


١٦ «وَلٰكِنْ شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي جَعَلَ هٰذَا ٱلٱجْتِهَادَ عَيْنَهُ لأَجْلِكُمْ فِي قَلْبِ تِيطُسَ».
في هذه الآية وما يليها إلى آخر الأصحاح توصية بتيطس والأخوين اللذين أرسلهما بولس معه في رجوعه إلى كورنثوس لكي يكمّلوا جمع الإحسان لفقراء أورشليم.
شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي جَعَلَ هٰذَا ٱلٱجْتِهَادَ اعتبر أن الله مصدر كل شفقة على المحتاجين وكل رغبة وسعي في نفعهم نفساً وجسداً وأنه وضع في قلب تيطس شديد الرغبة في إفادتهم فشكره على ذلك مع أنه اعتبر حاسات تيطس اختيارية وأنه مستحق المدح والإثابة عليها. وهذا من أسرار الحياة المسيحية فإن الله بروحه يقدر أن يجعلهم يقصدون ويعملون أعمالاً مقدسة دون معارضة اختيارهم ومسؤوليتهم.
عَيْنَهُ أي نفس الاجتهاد الذي كان لبولس في طلب منفعتهم الروحية ونموهم في النعمة وفي كل الفضائل المسيحية. ويتضح من ذلك أن بولس وتيطس كليهما عدا جمع الإحسان لإخوتهما في أورشليم بركة للكورنثيين فضلاً عن كونه إسعاداً للإخوة المحتاجين. وهذا على وفق قول الكتاب «ٱلنَّفْسُ ٱلسَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ، وَٱلْمُرْوِي هُوَ أَيْضاً يُرْوَى» (أمثال ١١: ٢٥). وقوله «مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ» (أعمال ٢٠: ٢٥) وأنهما منّا على الكورنثيين بأن أعطياهم فرصة للإحسان. فيجب علينا أن نكون ممنونين لمن يرشدوننا إلى وسائل عمل الخير.
١٧ «لأَنَّهُ قَبِلَ ٱلطِّلْبَةَ. وَإِذْ كَانَ أَكْثَرَ ٱجْتِهَاداً مَضَى إِلَيْكُمْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ».
ع ٦
ٱلطِّلْبَةَ المذكورة في (ع ٦) وهي أن يذهب إلى كورنثوس ويتمم جمع الإحسان. طلبها بولس وقبلها تيطس.
إِذْ كَانَ أَكْثَرَ ٱجْتِهَاداً لم يقل تيطس لبولس «ارسلني» لأن تواضعه منعه من ذلك ولكنه لما سُئل الذهاب أظهر أنه لم يحتج إلى إلحاح بل كان أكثر غيرة في الخدمة من بولس في سؤاله إياها.
مَضَى إِلَيْكُمْ أي عزم على المضي عزماً شديداً حتى كأنه مضى. والأرجح أن تيطس هو الذي حمل هذه الرسالة إلى كورنثوس فيكون عند إبلاغهم إياها وتلاوتهم لها قد مضى إليهم حقيقة.
مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أي حين سألته وجدته مستعداً لذلك تبرعاً.
١٨ «وَأَرْسَلْنَا مَعَهُ ٱلأَخَ ٱلَّذِي مَدْحُهُ فِي ٱلإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ».
أعمال ٢٠: ٤ وص ١٢: ١٨
وَأَرْسَلْنَا مَعَهُ ٱلأَخَ لم نعلم من هو ولا يهمنا أن نعلم لكن ذهب بعضهم إلى أنه لوقا وبعضهم إلى أنه مرقس وغيرهما إلى أنه تروفيموس أو غايوس ولكن الأرجح أنه لوقا لأن وصفه يدل على كونه مبشراً بالإنجيل في أنطاكية وترواس وفيلبي وأنه كان مع بولس في فيلبي قرب الزمان الذي كُتبت فيه هذه الرسالة (أعمال ١٦: ١٠ و١١ و١٥ و٢٠: ٥). وإنه ذهب مع بولس إلى أورشليم بالصدقات إلى الفقراء بدليل أن لوقا استعمل ضمير المتكلمين في نبإ هذا السفر (أعمال ٢٠: ٦ و٢١: ١ و١٥).
مَدْحُهُ فِي ٱلإِنْجِيلِ على غيرته في بث البشرى.
فِي جَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ الأرجح أن بولس عنى كنائس مكدونية التي كان فيها. وذكر ثقة غيرها من الكنائس بهذا الأخ بغية أن يثق الكورنثيون به.
١٩ «وَلَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ، بَلْ هُوَ مُنْتَخَبٌ أَيْضاً مِنَ ٱلْكَنَائِسِ رَفِيقاً لَنَا فِي ٱلسَّفَرِ، مَعَ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلْمَخْدُومَةِ مِنَّا لِمَجْدِ ذَاتِ ٱلرَّبِّ ٱلْوَاحِدِ، وَلِنَشَاطِكُمْ».
١كورنثوس ١٦: ٣ و٤ وع ١ ع ٤ و٦ و٧ وص ٩: ٨ ص ٤: ١٥
أبان في هذه الآية أن ذلك الأخ مستحق أن يثقوا به وأن يسلموه المال بكل اطمئنان لأنه منتخب من كل الكنائس شريكاً لبولس في تسليم تلك الصدقات فضلاً على ما ذكره من صيته الحسن في الآية السابقة.
مِنَ ٱلْكَنَائِسِ أي كنائس مكدونية على الأرجح.
هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ الصدقات المجموعة وسماها «نعمة» لأنها علامة محبة المتصدقين.
ٱلْمَخْدُومَةِ مِنَّا أي المتكفل بحملها أنا ورفقائي من مؤمني الأمم إلى مؤمني اليهود (١كورنثوس ١٦: ٣ و٤).
لِمَجْدِ ذَاتِ ٱلرَّبِّ الخ هذا متعلق «بالنعمة» لا «بالمخدومة» والمعنى أن تلك الصدقات كانت مؤدية إلى تمجيد الرب لأنها أثمار دينه وشاهدة بغيرة المؤمنين في عمل الخير لإخوتهم الفقراء.
٢٠ «مُتَجَنِّبِينَ هٰذَا أَنْ يَلُومَنَا أَحَدٌ فِي جَسَامَةِ هٰذِهِ ٱلْمَخْدُومَةِ مِنَّا».
ذكر هنا علة إرسال هذا الأخ مع تيطس للقيام بهذه الخدمة وعلة رغبته في تعيينه من الكنائس رفيقاً له لأجل حمل الإحسان وتوزيعه.
مُتَجَنِّبِينَ هٰذَا أي محترسين منه كل الاحتراس.
أَنْ يَلُومَنَا أَحَدٌ هذا بيان لقوله «هذا» والمعنى أنه لم يرد أن يترك لأحد سبيلاً إلى أن يتهمه باختلاس شيء من المال وإنفاقه على نفسه.
فِي جَسَامَةِ هٰذِهِ ٱلْمَخْدُومَةِ مِنَّا نستدل من قوله «جسامة» على وفرة ما جُمع من إحسان الكنائس. فاحتراس الرسول من تهمة الاختلاس في ذلك كان في محله لعلمه أن أعداءه لا يتأخرون عن أن يتهموه بالخيانة أو الطمع في ما ذُكر لأقل سبب (بدليل قوله في ص ١٢: ١٧ و١٨) ولعلمه أيضاً أن الريبة في استقامته ضرر لاسم المسيح والدين الذي بشر به وأنه لا يستطيع أن ينفع الناس بالروحيات وهم يظنونه غير أمين في الجسديات. ومثل هذا الاحتراس يجب على كل خدم الدين اليوم.
٢١ «مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ، لَيْسَ قُدَّامَ ٱلرَّبِّ فَقَطْ، بَلْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أَيْضاً».
رومية ١٢: ١٧ وفيلبي ٤: ٨ و١بطرس ٢: ١٢
هذا مبدأه العام في كل أموره فإنه كان يسير في طريق يستحسنها الله الذي يرى القلب ويعلم كل شيء ويتحقق الناس استقامته بها. ولم يكتف بعمل الصلاح بل رغب أيضاً في إظهاره للناس. وهذا مثل قوله للرومانيين «مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (رومية ١٢: ١٧). ولو أراد أن يرضي الله وضميره فقط كان يمكنه الانفراد بحمل ذلك المال إلى أورشليم وتوزيعه حسبما يشاء لكنه أبى ذلك دفعاً للشك.
مُعْتَنِينَ أو لأننا نعتني (كما في حاشية الإنجيل ذي الشواهد).
بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ أي ممدوحة. إن المؤمنين ولا سيما خدم الدين بمنزلة مدينة موضوعة على جبل يراقبهم الناس دائماً ويتوقعون الفرصة للقدح فيهم فوجب عليهم فوق احتراسهم من الشر أن يحترسوا من كل شبه شر.
٢٢ «وَأَرْسَلْنَا مَعَهُمَا أَخَانَا، ٱلَّذِي ٱخْتَبَرْنَا مِرَاراً فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ، وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ أَشَدُّ ٱجْتِهَاداً كَثِيراً بِٱلثِّقَةِ ٱلْكَثِيرَةِ بِكُمْ».
أعمال ٢٠: ٤
أَخَانَا في المسيح. لا نعلم من هو هذا الأخ الذي أرسله بولس ليرافق تيطس ورفيقه إلى كورنثوس إذ لا دليل على تعيينه سوى الظن أنه من رفقائه السبعة في سفره إلى أورشليم على ما ذُكر في (أعمال ٢٠: ٤). وظن بعضهم أنه تيخيكس لأنه من أولئك السبعة ولأنه مدحه هنا كما مدح تيخيكس في (أفسس ٦: ٢١ وكولوسي ٤: ٧). ولأنه ممن أرسلهم بولس إلى الكنائس بعد هذا (٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢).
ٱلَّذِي ٱخْتَبَرْنَا... أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ هذه شهادة قوية بأمانته وبيان أنه كان رفيقاً لبولس في أسفاره وعاملاً معه في الإنجيل وأنه وثق به كل الثقة.
ٱلآنَ أَشَدُّ ٱجْتِهَاداً كَثِيراً بِٱلثِّقَةِ الخ كانت ثقته بسخاء الكورنثيين وبنجاح عمله بينهم وثيقة جداً بناء على شهادة تيطس لهم حتى رغب في المداخلة في تلك الخدمة أكثر مما رغب في سواها.
٢٣ «أَمَّا مِنْ جِهَةِ تِيطُسَ فَهُوَ شَرِيكٌ لِي وَعَامِلٌ مَعِي لأَجْلِكُمْ. وَأَمَّا أَخَوَانَا فَهُمَا رَسُولاَ ٱلْكَنَائِسِ، وَمَجْدُ ٱلْمَسِيحِ».
أعمال ١٤: ١٤ وفيلبي ٢: ٢٥ و١تسالونيكي ٢: ٦
هذه الآية خلاصة كل ما قاله في تيطس ورفيقيه.
تِيطُسَ فَهُوَ شَرِيكٌ لِي ذكره هنا باعتبار نسبته إليه لأنه كان رفيقاً في التبشير بالإنجيل ومعيناً له على تأسيس الكنائس وتنظيمها كما جاء في (تيطس ١: ٥).
وَعَامِلٌ مَعِي لأَجْلِكُمْ هذا باعتبار نسبته إلى الكورنثيين.
وَأَمَّا أَخَوَانَا الاثنان اللذان رافقا تيطس إلى كورنثوس.
فَهُمَا رَسُولاَ ٱلْكَنَائِسِ أي مرسلان انتخبتهما الكنائس لتلك الخدمة وكذا سُمي أبفروديتس الذي أرسلته كنيسة فيلبي إلى رومية ليخدم بولس رسولاً (فيلبي ٢: ٢٥). فليس معنى الرسول هنا من له رتبة أحد الرسل الاثني عشر فإن هؤلاء رسل اختارهم المسيح لتأسيس الكنائس لكن أولئك رسل اختارتهم الكنائس لحمل الإحسان وتوزيعه.
وَمَجْدُ ٱلْمَسِيحِ أي معلناً مجده لأن كل عبيد المسيح الأمناء يمجدونه بأن يروا العالم جودة سيدهم وحسن دينه. وكانت تقوى هذين الأخوين وغيرتهما للإنجيل وللكنيسة شهادة بمجد المسيح لا يستطيع أحد إنكارها. واستحقاقها لهذا المدح العظيم دليل قاطع على استحقاقهما المحبة والكرامة والثقة من كنيسة كورنثوس.
٢٤ «فَبَيِّنُوا لَهُمْ، وَقُدَّامَ ٱلْكَنَائِسِ، بَيِّنَةَ مَحَبَّتِكُمْ، وَٱفْتِخَارِنَا مِنْ جِهَتِكُمْ».
ص ٧: ١٤ و٩: ٢
بَيِّنُوا بوفرة سخائكم.
لَهُمْ، وَقُدَّامَ ٱلْكَنَائِسِ لأنهم وكلاء الكنائس المكدونية ولأن هذه الكنائس كانت تراقبهم ليروا ماذا يُعطون.
بَيِّنَةَ مَحَبَّتِكُمْ لهؤلاء المرسلين الذين مدحتهم وأبنت استحقاقهم لذلك ولي أنا رسولكم الذي أرغب في إظهار سخائكم لإخوتكم المحتاجين في أورشليم وللمسيح الذي افتقر لأجلكم وهو غني.
وَٱفْتِخَارِنَا مِنْ جِهَتِكُمْ هذا معطوف على «محبتكم» فإن بولس كان قد مدح سخاءهم (ص ٧: ١٤) فرجا أنهم يبرهنون بعطاياهم استحقاقهم لمدحه.

فوائد



  • إن أنفاق المال موضوع أصحاحين كاملين من هذه الرسالة وهذا يدل على أهمية ذلك الإنفاق عند الرسول. وكل كتاب الله يشهد بأهميته عنده تعالى. فالعطاء جزءٌ من العبادة كالصلاة والترنم بالأغاني الروحية. فيجب أن نعتبر أن ذاك الذي جلس منظوراً تجاه الخزانة في هيكل أورشليم ينظر إلى المحسنين من أغنياء وفقراء لم يزل ينظر إلى المحسنين اليوم غير منظور وهو يراقب ما يعطونه فيحكم بكرمهم أو بخلهم ويجازي كل واحد حسب أمانته (ع ١).
  • إن السخاء هبة من الله فقلب البشر يميل طبعاً إلى حب الذات ويكره الإحسان إلى غيره. ونعمة الله تغلب الطمع البشري وتحث على السخاء. فعلينا أن نطلب تلك النعمة في الصلاة كما نطلب غيرها من النعم. فوجود السخاء في الكنيسة من أعظم البركات والأدلة على حلول روح الله وعلى توطيد المبادئ المسيحية (ع ١).
  • إننا كثيراً ما نرى أن الأسخياء في الكنيسة غير الممتازين بالثروة والمسرّات. فإن النجاح في العالميات يحمل صاحبه على الالتفات إلى نفعه الذاتي وعدم الشعور بأحزان المحتاجين ولكن الذي اختبر الضيقة والحزن تعلم أن يواسي غيره من الفقراء والمصابين وأن يفتح يده وقلبه لإعانتهم (ع ٢).
  • إن أول الممكنات من السخاء الحق وقف الإنسان نفسه لله فإن من فعل ذلك يجد ألف علة للإحسان والمسرّة به فلو وقف كل مدّع أنه مسيحي نفسه لله ما احتجنا أن نحث أحداً على إعانة الفقراء أو بذل بعض ماله في سبيل بشرى الخلاص في الوطن أو في الخارج. فيندر أن ترى من يعطون على قدر طاقتهم لأنهم لا يقتصدون في النفقات على أنفسهم ليبقوا شيئاً للفقراء. وأندر منهم هم الذين يعطون فوق طاقتهم وأندر من هؤلاء الذين يعطون أنفسهم مع إعطائهم ما فوق طاقتهم. قال بعض القدماء «يفرح الناس حين يرون الأغنياء يحسنون إلى الفقراء ولكن يفرح الملائكة حين يرون فقيراً يحسن إلى أفقر منه» (ع ٥).
  • إنه يحسن بنا أن نتخذ كنائس مكدونية مثالاً في العطاء فإن مؤمني تلك الكنائس كانوا فقراء ومتضايقين ومع ذلك أعطوا حسب الطاقة وفوق الطاقة من تلقاء أنفسهم فمن منا يقتدي بهم (٢ ٢ - ٥).
  • إنه يمتنع أن نقبل جزءاً من الدين المسيحي ونترك الباقي كأن نقبل ما أوضحه من العقائد ونرفض ما أوجبه من الأعمال وأن نمارس بعض فضائله ونهمل بعضها وأن نقف أنفسنا لله ونبقى أموالنا لنا (ع ٧).
  • إن قياس محبتنا لغيرنا ما نأتيه بغية نفعه من إنكار أنفسنا وهو قياس محبة الله لنا بدليل قوله تعالى «هكذا أحب الله العالم حتى بذلك ابنه الحبيب الخ» وقياس محبة المسيح لنا أيضاً بدليل قول الرسول «أحبنا وبذل نفسه لأجلنا». فلا نستيطع أن نبين محبتا لله أو للناس إلا بما نعطي من مالنا وننكر من أنفسنا (ع ٨).
  • إنه يجب أن نقتدي بيسوع المسيح فإنه لم يكن أحد أغنى منه وهو في السماء وقليلون كانوا أفقر منه وهو على الأرض. وكان ذلك التنازل العجيب باختياره لأجلنا فالاقتداء به يجعلنا مثله في السعادة ونفع الغير. فالذي يكون في أعظم منصب على الأرض مكلف بأن يضع نفسه لأصغر إخوته من البشر بغية خلاص نفسه امتثالاً بربه (ع ٩).
  • إن ما يناسب قول الرسول هنا قول يوحنا فم الذهب «إنك تذهب إلى بيت الله لكي تنال الرحمة فعليك أولاً أن تظهر الرحمة. وبدل أن تضع مالك في يد الصراف بغية الرباء ضعه في يد الله بناء على قوله «من يرحم الفقير يقرض الرب وعن معروفه يجازيه». فباطلاً ترفعون أيديكم إلى السماء تلتمسون البركات من العلى إن لم تمدوها قبلاً إلى من حولكم من الفقراء فإنكم وأنتم تمدون أيديكم إلى المساكين تبلغ قبة السماء حيث يسوع الذي قال «بما أنكم فعلتموه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم» (ع ٨).
  • إن شروط العطاء المذكورة هنا ثلاثة:

    • الأول: أن يكون اختيارياً إجابة لدعوة الشفقة وامتثالاً بفعل المسيح وشكراً له بدون التفات إلى داعي البخل الطبيعي.
    • الثاني: أن يكون حسب الطاقة والله قد ترك المسؤولية في ذلك على كل نفس وهو يحاسبها في اليوم الآخر.
    • الثالث: أن يكون لأجل المسيح لا لغاية شخصية أو لمجرد الشفقة على المسكين أو لحياء من الناس أو للاقتداء بالغير أو لمقتضى المقام (ع ٩ - ١٢).


  • إن الله يحكم بالعدل فلا يمكن أن يكون قانون أكثر عدلاً من هذا وأن يطالب الإنسان على حسب ما له. فأي عاقل يستطيع أن يعترض على هذا الحكم. فإن الله لم يقصر عمل الخير على بعض الناس دون بعض حتى أن الواحد يقدر أن يكنز كنزاً في السماء دون الآخر. إنما يطلب أمراً واحداً من ملك وعبد وغني وفقير وفيلسوف وولد وهو أن يكون له نشاط الإرادة لخدمته تعالى ونفع قريبه وتتميم ذلك حسب ما له (ع ١١ و١٢).
  • إن حسد الفقراء للأغنياء كثير وكثيراً ما يحملهم على بغضهم وعلى التذمر عليه تعالى عندما يرون الاختلاف بين أحوالهم وأحوال أولئك ويزال كثير من ذلك بأن يقتصد أغنياء المؤمنين في النفقات على بيوتهم وملبوساتهم وينفقوا ما فضل عنهم على فقراء الكنيسة وغيرهم إظهاراً لمحبتهم إخوتهم البشر وشفقتهم عليهم لمصائبهم واقتداء بسيدهم الذي أتى ليس ليُخدم بل ليَخدم ويبذل نفسه دون الجميع (ع ١٣ و١٤).
  • إن الفقر في نفسه ليس بفضيلة ولا دليل في الإنجيل على أن نذر الفقر الاختياري يرضي الله وأن الذي يعيش بصدقات الناس يُحب في السماء وأن له حقوقاً ممتازة هناك يستطيع أن يهبها لمن أحسن إليه. إن المسيح لم يفتقر لأنه رأى حال الفقر أقدس من حال الغنى بل لإرادته أن يتضع إلى أدنى البشر ليرفعه إلى مجده الأصلي في السماء ولم يستطع ذلك إلا بأن افتقر. ولم نقرأ قط أن المسيح تسوّل فالذين يدعون أنهم مثل المسيح لمعيشتهم اختياراً بصدقات الناس يخدعون أنفسهم بشبه التقوى لا بحقيقتها. وأما الذين يحتملون بالصبر الفقر والمصيبة اللذين يرسلهما الله ويقعان عليهم في سبيل بشرى الخلاص سوف يثابون. وأما الفقر الاختياري والإماتة الجسدية فيؤديان إلى الكبرياء الروحية والاتكال على الأعمال الصالحة دون الاتكال على بر المسيح (ع ١٤).
  • إن المساواة التي يوجبها الإنجيل ليست في المقام ولا في الأموال لأن ذلك من المحال فلو تساوينا اليوم اختلفنا غداً. وليست هي إجبارية بأمر الحكام بتقسيم الأموال على السواء. ولا باغتصاب الفقراء أموال الأعنياء. بل أن تُقسم اختياراً الأحمال التي وضعها الله على الناس وجعلها لهذه الغاية وهي أن يتعلم بعضهم الرحمة بتخفيف أثقال بعض (ع ١٤).
  • إن الله أوجب على الكنائس المسيحية أن تنفق النفس والنفيس على خدمته تعالى وهي القيام بحاجات خدَمها والمبشرين المرسلين وطبع الكتب المقدسة وتوزيعها وفتح المدارس وإعانة الأرامل واليتامى والمصابين دون أن تستثقل ذلك بل تحسبه مما يجب عليها كمن يعطي الخبز لأولاده (ع ١٣ - ١٥).
  • إن الاعتناء بأوقاف الكنيسة وتسلم تقدماتها وتوزيعها مما يقتضي حكمة عظيمة وأمانة كاملة ممن وكلت إليهم لكي لا يدينهم الله بأنهم سلبوه واحتراساً شديداً من أن يظهر الأمناء على ذلك خائنين ويهان بذلك اسم المسيح ويمتنع الناس من الإعطاء لله لريبهم في المؤتمنين عليها (ع ٢٠ و ٢١).
  • إنه يجب على كل مسيحي أن يكون مجد المسيح قولاً وفعلاً ويكون كذلك متى حل المسيح في قلبه وأتى كل أعماله طوعاً لأمره. فإذا كان الضوء داخل البيت ظهرت أشعته من النوافذ (ع ٢٣).




الأصحاح التاسع


حث الرسول الكورنثيين على السخاء لكي لا يجعل افتخاره بهم باطلاً (ع ١ - ٥). وعلى أن يعطوا بوفرة وسرور (ع ٦ - ١٥).
يشتمل هذا الأصحاح على ما في الذي قبله من أمر الجمع لفقراء المؤمنين فسألهم الرسول أن يسرعوا في إكمال جمع ما قصدوا جمعه لئلا يجدهم عند وصوله مع بعض الإخوة المكدونيين غير مستعدين فينخجل بذلك (ع ١ - ٤). فإنه كان قد أرسل بعض الإخوة حثاً لهم على أنجاز الجمع بسرعة ومسرّة (ع ٥). لأن الله لا يسر بالعطاء كرهاً (ع ٦ و٧). فإنهم إذا شاءوا مشيئته بإحسانهم منحهم كل ما يحتاجون إليه من البركات الجسدية والروحية (ع ٨ - ١٠). وإنه فضلاً عن رغبته في أن يحصل الفقراء على المساعدة رغب في أن الله يتمجد بشكر أولئك المساعدين وزيادة محبة بعض المؤمنين لبعض وإظهار الفضائل المسيحية (ع ١١ - ١٤). وإن كل العطايا ليست شيئاً بالنسبة إلى عطية الله وهي بذله المسيح عنا (ع ١٥).
١ «فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ ٱلْخِدْمَةِ لِلْقِدِّيسِينَ هُوَ فُضُولٌ مِنِّي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ».
أعمال ١١: ٢٩ ورومية ١٥: ٢٦ و١كورنثوس ١٦: ١ وص ٨: ٤ وغلاطية ٢: ١٠
موضوع هذا الأصحاح كموضوع الأصحاح الذي قبله فكان الأوفق لو جُعلا واحداً. وفي هذه الآية أبان الرسول عدم حاجته إلى حثهم على السخاء اكتفاء بما قاله لهم في آخر آيات الأصحاح السابق. وهو أن يقبلوا الإخوة بالثقة ويرحبوا بهم.
مِنْ جِهَةِ ٱلْخِدْمَةِ المراد «بالخدمة» هنا جمع الإحسان وتوزيعه كما في (أعمال ٦: ١ و١٢: ٢٥ ورومية ١٥: ٣١). وقد يراد بها في غير هذا الموضع التبشير وقد مرّ بعضها.
لِلْقِدِّيسِينَ هذا لقب للمؤمنين لأنهم مفروزون من العالم وموقوفون لله ولأنهم مجددون ومقدسون بالروح القدس (أعمال ٩: ١٣ ورومية ١: ٧ و٨: ٢٧). ويحق لنا أن نلقب به من توفوا منهم ونالوا السعادة الكاملة في السماء ومن لم يزالوا أحياء على الأرض وهم ساعون في نيل القداسة التامة وقد حصلوا على بعضها. ومن قصدهم بولس هنا هم فقراء المسيحيين في أورشليم الذين طلب الرسول الإحسان إليهم في (١كورنثوس ١٦: ١ و٣).
هُوَ فُضُولٌ الخ الفضول هنا ما لا حاجة إليه قال ذلك لأنهم كانوا يعرفون ضيق أولئك المساكين ويرغبون في التفريج عنهم بالعطاء فلم يرد أن يتوهموا من حثه إياهم على سرعة الجمع أنه ظنهم يأبون كل عطاء.
٢ «لأَنِّي أَعْلَمُ نَشَاطَكُمُ ٱلَّذِي أَفْتَخِرُ بِهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَدَى ٱلْمَكِدُونِيِّينَ، أَنَّ أَخَائِيَةَ مُسْتَعِدَّةٌ مُنْذُ ٱلْعَامِ ٱلْمَاضِي. وَغَيْرَتُكُمْ قَدْ حَرَّضَتِ ٱلأَكْثَرِينَ».
ص ٨: ١٩ ص ٨: ٢٤ ص ٨: ١
نَشَاطَكُمُ أي طيبة نفسكم للعطاء.
ٱلَّذِي أَفْتَخِرُ بِهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَدَى ٱلْمَكِدُونِيِّينَ لأنه أخبر المكدونيين بما علم من نشاطهم ومدحهم لديهم.
أَنَّ أَخَائِيَةَ أراد بها كورنثوس وسماها بذلك لأنها عاصمة البلاد المسماة بآخائيه كما تسمى دمشق بالشام والقاهرة بمصر.
مُسْتَعِدَّةٌ مُنْذُ ٱلْعَامِ ٱلْمَاضِي قصداً واختياراً على عزم أن يقوموا بالمطلوب فعلاً. لم يرد بهذا أنه أخبر المكدونيين بأن أهل كورنثوس جمعوا مال الإحسان في ذلك العام ولكن أنبأهم بأنه عرض عليهم هذا الأمر وأنهم أظهروا كل الاستعداد للقيام به.
غَيْرَتُكُمْ قَدْ حَرَّضَتِ ٱلأَكْثَرِينَ أظهروا رغبتهم في الإحسان باستحسانهم إياه ووعدهم أن يأتوه في وقت مناسب فكان ذلك وسيلة إلى حث كنائس مكدونية على مثله عند تبليغ بولس المكدونيين إياه.
٣ «وَلٰكِنْ أَرْسَلْتُ ٱلإِخْوَةَ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ ٱفْتِخَارُنَا مِنْ جِهَتِكُمْ مِنْ هٰذَا ٱلْقَبِيلِ، كَيْ تَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ كَمَا قُلْتُ».
ص ٨: ٦ و١٧ و١٨ و٢٢ ع ٢
لٰكِنْ أَرْسَلْتُ ٱلإِخْوَةَ أي تيطس ورفيقيه.
لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ ٱفْتِخَارُنَا الخ كان قد أخبر المكدونيين بأن الكورنثيين عزموا على الإحسان وإنهم شرعوا في الجمع (ص ٨: ١٠) وهنا أرسل الإخوة إليهم لكي ينجزوا الجمع بأسرع ما يمكنهم ليكون ذلك آية ظاهرة على صدق الرسول بافتخاره بهم عند المكدونيين يوم إتيان بعضهم معه.
٤ «حَتَّى إِذَا جَاءَ مَعِي مَكِدُونِيُّونَ وَوَجَدُوكُمْ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لاَ نُخْجَلُ نَحْنُ حَتَّى لاَ أَقُولُ أَنْتُمْ فِي جَسَارَةِ ٱلٱفْتِخَارِ هٰذِهِ».
ص ١١: ١٧
إِذَا جَاءَ مَعِي مَكِدُونِيُّونَ اعتادت الكنائس الأولى التي كان بولس يزورها أن يذهب معه بعض أعضائها من مدينة إلى أخرى إكراماً وإسعاداً له (أعمال ١٧: ١٤ و١٥ ورومية ١٥: ٢٤ و١كورنثوس ١٦: ٦). وقد كتب هذا الكلام من مكدونية متوقعاً أن يصحبه بعض الإخوة فيها إلى كورنثوس حسب العادة.
وَوَجَدُوكُمْ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لإنجاز وعدكم العام الماضي بالإحسان.
لاَ نُخْجَلُ نَحْنُ لا ريب في أن عدم إنجاز وعد الكورنثيين يكون على خجل للكورنثيين أنفسهم ولكن الرسول قصر ذلك على نفسه تلطفاً ونسب ذلك إلى نفسه لأنه افتخر بهم لأمر لم ينجزوه ولأن ذلك الافتخار حمل غيرهم على الإحسان (ص ٨: ١ و٤). ولعلهم يتهمونه بأنه خدعهم بغية أن يحملهم على العطاء أو بأنه وعد بما لم يفوّض إليه.
٥ «فَرَأَيْتُ لاَزِماً أَنْ أَطْلُبَ إِلَى ٱلإِخْوَةِ أَنْ يَسْبِقُوا إِلَيْكُمْ، وَيُهَيِّئُوا قَبْلاً بَرَكَتَكُمُ ٱلَّتِي سَبَقَ ٱلتَّخْبِيرُ بِهَا، لِتَكُونَ هِيَ مُعَدَّةً هٰكَذَا كَأَنَّهَا بَرَكَةٌ، لاَ كَأَنَّهَا بُخْلٌ».
تكوين ٣٣: ١١ وقضاة ١: ١٥ و١صموئيل ٢٥: ٢٧ و٢ملوك ٥: ١٥ ع ٢
فَرَأَيْتُ الفاء سببية فكأنه قال رأيت كذا لئلا أخيب وأخجل.
إِلَى ٱلإِخْوَةِ تيطس ورفيقيه.
أَنْ يَسْبِقُوا أي يسبقوه والإخوة الذين يصحبونه من مكدونية.
بَرَكَتَكُمُ لهذه الكلمة معنيان في الكتاب المقدس الأول سؤال النعمة. والثاني النعمة نفسها والمقصود هنا الثاني هو العطية لفقراء أورشليم.
ٱلَّتِي سَبَقَ ٱلتَّخْبِيرُ بِهَا وهي جمع الإحسان الذي شرع الكورنثيون فيه وأخبر الرسول به كنائس مكدونية وغيرها.
كَأَنَّهَا بَرَكَةٌ أي مستحقة بأن تدعى بهذا الاسم ولا تكون كذلك ما لم تُعط عن محبة وسرور وسخاء وآخرها الأولى بالمقصود. ومثل هذا العطاء لا ريب في كونه بركة للمُعطي وللمُعطى كليهما.
لاَ كَأَنَّهَا بُخْلٌ كما لو كانت قليلة ممن يستطيعون أن يكثروها وحاصلة بإلحاح طالبها. ومثل هذه دليل قاطع على بخل المعطي.
٦ «هٰذَا وَإِنَّ مَنْ يَزْرَعُ بِٱلشُّحِّ فَبِٱلشُّحِّ أَيْضاً يَحْصُدُ، وَمَنْ يَزْرَعُ بِٱلْبَرَكَاتِ فَبِٱلْبَرَكَاتِ أَيْضاً يَحْصُدُ».
أمثال ١١: ٢٤ و١٩: ١٧ و٢٢: ٩ وغلاطية ٦: ٧ و٩
ما في هذه الآية على حسب قول الحكيم «يُوجَدُ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَزْدَادُ أَيْضاً، وَمَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ ٱللاَّئِقِ وَإِنَّمَا إِلَى ٱلْفَقْرِ» (أمثال ١١: ٢٤). وقوله في (جامعة ١١: ١). وقول المسيح في (متّى ١٠: ٤١ ولوقا ٦: ٣٨). وقول الرسول في (غلاطية ٦: ٧) ومثل ذلك كثير في الكتاب.
القانون المسلم به عند كل الناس في زرع الحبوب يصدق في الروحيات فالذي يزرع قليلاً من القمح لا يحصد إلا قليلاً منه. والذي ينفق المال في سبيل الله كإطعامة الجياع وتوزيعه بشرى الخلاص يثيبه الله على قدر إنكاره ذاته في إنفاق طعامه وتعاليمه وماله وهذه الإثابة تكون في هذا العالم أو في العالم الثاني أو في كليهما. وهذا القانون علة السخاء في العطاء لأنه يبين أنه ينفع المعطي كما ينفع المعطى. ولا يستلزم ذلك أن الله يثيب الإنسان على ما ينفقه لغايات نفسانية لكنه يثيبه على ما ينفقه لوجه الله ونفع القريب. فالصالح لا يعمل الخير بغية الثواب وهو لا يستحقه مهما عمل من الصالحات لأنه مما يجب عليه ولكن الله أعلن لنا أنه ينظر إلى كل أعمال الناس وأنه قصد رحمة منه أن يثيب الذين يطيعونه ويطلبون مجده ونفع الناس.
٧ «كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ، لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أَوِ ٱضْطِرَارٍ. لأَنَّ ٱلْمُعْطِيَ ٱلْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ ٱللّٰهُ».
تثنية ١٥: ٧ خروج ٢٥: ٢ و٤٥: ٥ وأمثال ١١: ٢٥ ورومية ١٢: ٨ وص ٨: ١٢
مراده مما سبق في الآية السادسة أن يعطوا بسخاء ومراده من هذه الآية أن يعطوا عن مسرة وأختيار. وما صدق هنا على بذل المال للفقراء يصدق على كل ما يأتيه الإنسان من النافعات كالقيام بالواجبات البيتية وعيادة المرضى والقراءة للعمي والمواساة للمحزونين والنصح للمحتاجين إليه. والخلاصة أن مجرد العطاء ليس بفضيلة فمن يعطي مكرهاً أو بغية الثواب لا يرضي الله وكذلك لا يقبل هباتنا إن أتيناها رغبة في الصيت والشرف. فالإنسان المخلص من أعطى على وفق عواطف قلبه.
ومعنى الآية السادسة الإعطاء بسخاء ومعنى هذه الآية الإعطاء بسرور.
لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أي عن غير إرادة حتى يأسف على خسارة ما بذله.
أَوِ ٱضْطِرَارٍ نظراً لمقتضيات الأحوال خوفاً من تعيير الناس أو توبيخ الضمير وهذا مما يفسد ثواب العطاء فيكون كبخور بلا رائحة.
لأَنَّ ٱلْمُعْطِيَ ٱلْمَسْرُورَ الخ هذه العبارة مقتبسة من (أمثال ٢٢: ٩) على ما في ترجمة السبعين.
٨ «وَٱللّٰهُ قَادِرٌ أَنْ يَزِيدَكُمْ كُلَّ نِعْمَةٍ، لِكَيْ تَكُونُوا وَلَكُمْ كُلُّ ٱكْتِفَاءٍ كُلَّ حِينٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ».
أمثال ١١: ٢٤ و٢٥ و٢٨: ٢٧ وفيلبي ٤: ١٩
صرّح الرسول في هذه الآية وما بعدها إلى الآية الحادية عشرة بأن المعطي بسخاء لا يزال ذا وفر ينفق منه على نفسه وعلى غيره.
وَٱللّٰهُ قَادِرٌ كثيراً ما يورد كتبة الأسفار الإلهية قدرة الله أساساً لثقة شعبه (رومية ١٦: ٢٥ وأفسس ٣: ٢٠ ويهوذا ٢٤). ولا سيما حين يدعوننا إلى التصديق ما لا يتوقع طبعاً فإن العطاء بمقتضى الطبع ينقص المال لا يزيده. ولكن الكتاب المقدس يصرّح بأن البذل يزيد القنية وتصديق هذا يقتضي الإيمان بقوة الله وعنايته ومواعيده فإنه قادر على إجراء ما يثبت صحة قوله «يوجد من يفرق فيزداد أيضاً».
أَنْ يَزِيدَكُمْ كُلَّ نِعْمَةٍ القرينة هنا تدل على أن المراد بهذه النعمة الخير الجسدي الذي يمكن المعطي من السخاء. وخلاصة ذلك أن الله يقدر أن يزيد ثروتكم لا لكي تخزنوا الأموال أو تنفقوها بإسراف على شهواتكم بل لتستمروا على فعل الخير.
وَلَكُمْ كُلُّ ٱكْتِفَاءٍ كُلَّ حِينٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ أي أن الله قادر أن يغنيكم لتكتفوا بكل ما تحتاجون إليه أبداً في كل الأحوال.
تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ أي تحصلون على أكثر مما تحتاجون إليه لكي يفضل عنكم حتى تعطوا غيركم.
٩ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: فَرَّقَ. أَعْطَى ٱلْمَسَاكِينَ. بِرُّهُ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ».
مزمور ١١٢: ٩
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في (مزمور ١١٢: ٩). معناه أن الإنسان الصالح الكريم لا يفتقر بسبب بذله المال على المساكين. واقتبس الآية إثباتاً لما سبق من الكلام على هذا الموضوع. وأتى المسيح ما يوافق ذلك بقوله «لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ ٱلآنَ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ الخ» (مرقس ١٠: ٢٩ و٣٠). ويجب أن نعلم أن هذا لا يتم دائماً على ظاهره وإننا نستفيد منه ثلاثة أمور:

  • الأول: إنه يغلب أن يكون من عمل الخير الحصول على البركة كما يغلب أن يكون من فعل الشر الحصول على اللعنة.
  • الثاني: إن ذلك القانون يجري الله عليه بعنايته فإنه يبارك المجتهد البار غالباً.
  • الثالث: إن البار أسعد من الشرير غالباً في هذا العالم وإن أصابه ما أصاب الشرير من الفقر والمرض والخسارة وغير ذلك من الأرزاء بقي خيراً منه لما له من التعزية الإلهية.


بِرُّهُ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ أي حسناته أو صدقاته تدوم ولا تنقطع ما دام حياً كما سبق في الآية الثامنة ليكون قادراً على عمل الخير.
١٠ « وَٱلَّذِي يُقَدِّمُ بِذَاراً لِلزَّارِعِ وَخُبْزاً لِلأَكْلِ، سَيُقَدِّمُ وَيُكَثِّرُ بِذَارَكُمْ وَيُنْمِي غَلاَّتِ بِرِّكُمْ».
إشعياء ٥٥: ١٠ هوشع ١٠: ١٢ ومتى ٦: ١
ما في هذه الآية توكيد لما سبق. وإن الذي يهب كل الخيرات هو الله وفي ذلك وصف لصفات الله وعمله وأن يفعل كذلك في الجسديات (إشعياء ٥٥: ١٠) والروحيات (هوشع ١٠: ١٢ وعاموس ٦: ١٢). وغاية الرسول في هذا أن يؤكد للكورنثيين أنه لا يمكن أن يفتقر أحد منهم بسخائه في سبيل الله وأثبت ذلك بوعده تعالى في الآية السابقة وأكدّه في هذه الآية من صفاته ووجوه عنايته ببني البشر. والمقصود «بالبذار» هنا المال الذي يوزع بعمل الخير توزيع الفلاح للبذار والله الذي يعطي الفلاح بذاراً للزرع يُعطي أموالاً للتوزيع.
غَلاَّتِ بِرِّكُمْ ليس المعنى الإثابة على بركم بل وسائل فعل الخير كما ذُكر في الآية التاسعة وهو معنى قوله «بره يبقى إلى الأبد».
١١ «مُسْتَغْنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ سَخَاءٍ يُنْشِئُ بِنَا شُكْراً لِلّٰهِ».
ص ١: ١١ و٤: ١٥
مُسْتَغْنِينَ حال مقدرة أي لتكونوا مستغنين والمقصود هنا الغنى الدنيوي لا الغنى الروحي.
لِكُلِّ سَخَاءٍ أي إن الله إذا كنتم كرماء يزيدكم خيراً حتى تستغنوا بغية عمل البر فاللام في «الكل» للغاية وهي الإعطاء بسخاء لا الخزن ولا الإنفاق على الشهوات.
يُنْشِئُ بِنَا شُكْراً لِلّٰهِ أي بواسطتي أنا بولس لأنه كان يحث الكورنثيين على بذل المال في سبيل فقراء أورشليم فحق له أن يقول إن ما نشأ من الشكر لله كان بواسطته. فتبين من ذلك أن فائدة جمع الإحسان لإخوتهم فقراء أورشليم لم تكن مقصورة على إسعادهم في شدة الضيق بل كانت فوق ذلك علة شكر لله. وما بقي من هذا الأصحاح بيان لما ذُكر هنا.
١٢ «لأَنَّ ٱفْتِعَالَ هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةِ لَيْسَ يَسُدُّ إِعْوَازَ ٱلْقِدِّيسِينَ فَقَطْ، بَلْ يَزِيدُ بِشُكْرٍ كَثِيرٍ لِلّٰهِ»
ص ٨: ١٤
ٱفْتِعَالَ هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةِ أي القيام بها. والكلمة اليونانية المترجمة بالخدمة مختصة بالخدمة الدينية كخدمة الكهنة في الهيكل (وكذا جاءت في لوقا ١: ٢٣ وعبرانيين ٨: ٦ و٩: ٢١) وصحّ أن يسمى جمع الإحسان بذلك لأنه مقدّم لله ولشعبه.
يَزِيدُ بِشُكْرٍ كَثِيرٍ لِلّٰهِ أي يزيد نفع القيام بهذه الخدمة بسبب كثرة الشكر لله علاوة على سد إعواز فقراء المؤمنين. ومن الواضح إن كلام بولس هنا على النتيجة المتوقعة من ذلك الجمع لا الحاصلة إذ لم يكن الإحسان قد تمّ جمعه ولا أُرسل ولا وُزع.
١٣ «إِذْ هُمْ بِٱخْتِبَارِ هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةِ يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ عَلَى طَاعَةِ ٱعْتِرَافِكُمْ لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، وَسَخَاءِ ٱلتَّوْزِيعِ لَهُمْ وَلِلْجَمِيعِ».
متى ٥: ١٦ عبرانيين ١٣: ١٦
ما في هذه الآية أيضاً مما كان يتوقع من نتيجة الإحسان.
هُمْ هذا الضمير يرجع إلى القديسين في الآية الثانية عشرة.
بِٱخْتِبَارِ أي بواسطة الاختبار المتوقع. والمعنى أن أولئك القديسين متى حصلوا على إحسانكم يا مؤمني كورنثوس شكروا الله ومجّدوه لما يعلمونه يقيناً من طاعتكم للمسيح ومؤاساتكم لإخوتكم.
طَاعَةِ ٱعْتِرَافِكُمْ أي كطاعتكم لما اعترفتم به من الإيمان.
لإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ هذا تفسير للاعتراف وهو أنه كان بما يختص بالإنجيل.
وَسَخَاءِ ٱلتَّوْزِيع أي سخائكم في التوزيع وهذا سبب ثان لتمجيدهم لله وليس المراد بالسخاء مجرد وفرة المبذول بل إظهار شركة المؤمنين أيضاً وهم بعيد بعضهم عن بعض مكاناً وجنساً لكنهم صاروا جسداً واحداً في المسيح. وكان هذا من أسباب التمجيد لله كما تبين من قوله «وللجميع» في آخر الآية. فمؤمنوا كورنثوس أبانوا بتلك الخدمة محبتهم لجميع الإخوة حيث كانوا ومن أي جنس كان.
١٤ «وَبِدُعَائِهِمْ لأَجْلِكُمْ، مُشْتَاقِينَ إِلَيْكُمْ مِنْ أَجْلِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْفَائِقَةِ لَدَيْكُمْ».
ص ٨: ١
وَبِدُعَائِهِمْ لأَجْلِكُمْ يصحّ أن تتعلق الباء هنا بقوله «يزيد» في الآية الثانية عشرة والمعنى أن سخاءكم يزيد نفعه بشكر الكثيرين وصلاتهم لله من أجلكم. وهذا جزاء حسن لأن دعاء الفقراء ومباركتهم للأغنياء المحسنين إليهم يكونان كندى حرمون ويصح أن يتعلق بقوله «يمجدون» في الآية الثالثة عشرة فيكون المعنى أنهم يمجدون الله على طاعة اعترافكم وبدعائهم لأجلكم وهذا هو المرجح.
مُشْتَاقِينَ إِلَيْكُمْ حباً وشكراً لهم على إحسانهم.
مِنْ أَجْلِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ التي ظهرت بسخائهم وحبهم للمؤمنين بالمسيح ونسبوا ذلك إلى نعمة الله لا لمجرد عواطفهم الكريمة.
١٥ «فَشُكْراً لِلّٰهِ عَلَى عَطِيَّتِهِ ٱلَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا».
رومية ٨: ٣٢ ويعقوب ١: ١٧
ظن بعضهم أن العطية هنا التي شكر الرسول الله عليها هي «نعمة السخاء» في الآية السابقة لأن بولس لتيقنه أن الكورنثيين يجمعون مقداراً وافراً من مال الإحسان وأن سخاءهم ينشئ شكراً كثيراً من إخوتهم البائسين وأن ذلك يشدد رُبط المحبة بين المؤمنين المسيحيين من اليهود والأمم أخذ يسبح الله ويحمده على تلك النتيجة المحمودة.
وظن غيرهم أن تلك العطية هي الروح القدس كما ورد في (أعمال ٢: ٣٨ و٨: ٢٠ و١٠: ٤٥). ورأى آخر أنها البر على ما في (رومية ٥: ١٥ و١٧). والأرجح أنها يسوع المسيح كما جاء في (أفسس ٤: ٧ و٥: ١ ويوحنا ٤: ٠١). لأن ابن الله هو العطية العظمى وتشتمل على سائر العطايا. وكان مثل هذه العبارة مما اعتاده بولس عند ذكره محبة بعض المسيحيين لبعض وإحسان بعضهم إلى بعض لأنه يقابل بهذا محبة الله غير المحدودة وهبته المسيح لنا (ص ٨: ٩). ومما اعتاده أن يختم كلامه على الموضوع بمثل هذا الشكر (رومية ١: ٢٥ و٩: ٥ و١كورنثوس ١٥: ١٧ و١تيموثاوس ١: ١٧). واتفق أكثر مسيحيي العالم على أن هذه الآية إعلان الشكر لله على إعطائه إيانا ابنه.
فوائد



  • إن في هذا الأصحاح وما قبله أوضح ما في الكتاب من وجوب الإحسان إلى فقراء المؤمنين في الزمنيات. ولنا منه أن الله يحسب ذلك الوجوب من ضروريات الدين كالصلاة والترنم وتلاوة الكتاب المقدس. ومما يوجب على المؤمنين الاجتهاد في هذه الفضيلة هو أن الفرصة لتمجيد الله بها لا تكون إلا في حياتنا على الأرض فإن لم ننتهزها هنا فاتتنا إلى الأبد (ع ١).
  • إنه يجب على رعاة الكنائس أن يقتدوا ببولس في حث رعاياهم على وجوب السخاء المسيحي وتوجيه أفكارهم إلى المبادئ التي أبان الرسول أن تلك الفضيلة مبنية عليها وأن يماثلوا الرسول في ما أظهره من اللطف والحكمة في حث مؤمني كورنثوس على الكرم (ع ٥ الخ).
  • إن الرسول ذكر هنا ثلاثة شروط للعطاء:

    • الأول: أن يكون بسخاء (ع ٦).
    • الثاني: أن يكون عن تأمل لا عن غير فكر (ع ٧).
    • الثالث: أن يكون بسرور لا دفعاً للجاجة السائل ولا حياء من المشاهدين ولا تسكيناً لتوبيخ الضمير. فالذي يعطي متبسماً مع كلام اللطف يُعطي مضاعفاً (ع ٧).


  • الكريم القلب كريم اليد غنياً كان أو فقيراً. وفي الكتاب المقدس أمثلة حسنة في الكرم وكذا في تاريخ الكنيسة فإن الله تمجد بفلسي الأرملة الملقَيين في خزانته وبالقبر المنحوت والعقاقير التي قدمها يوسف الرامي لدفن سيده فالحمد لله على أنه يقبل عطية الغني وعطية الفقير على السواء إن كان كل يعطي على قدر طاقته بغية تمجيده تعالى ويثيب كلا منها أكثر مما يستحق (ع ٦).
  • إنه لا يتجدد أحد من الناس حق التجدد ما لم يؤثر تجدده في ماله فعلى كل مسيحي أن يحترس من البخل الذي هو عبادة أوثان. فيجب أن نحذر من أن نخدع أنفسنا في هذا الأمر لأن الله يحكم في شأن العطاء كما يحكم في شأن الإيمان فيعتبرنا جميعاً وكلاء أمواله لا أربابها. ولا بد من أن يحاسبنا على تصرفنا بمال سيدنا لقوله «مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا» (ع ٧).
  • إن الإنسان أسير عوائده فالعادة طبيعة ثانية فمن اعتاد أن يحسن إلى الفقراء كل يوم اعتاد بذل ماله في سبيل الله واستأصل البخل وحب الذات من قلبه ورأى الكرم سهلاً ومسّرة (ع ٩).
  • إن المسيحي لا يخسر ما ينفقه في سبيل الله فكما أن الفلاح يأخذ من الغلة أضعاف ما بذره في الخريف كذلك نحصد في السماء كل ما زرعناه على الأرض بإطعام الجياع وكسوة العراة وخدمة المرضى والمضطهدين والإنجيل ولقد أصاب من قال وهو يحتضر «ما أنفقت من مالي كان لي وما خزنته خسرته وما بذلته في سبيل البر والإحسان باق لي وسيبقى إلى الأبد» (ع ١٠).
  • إن نجاح المسيحيين الروحي لا يمكن أن ينفك عن الكرم المسيحي فإن الله قادر أن يزيدنا كل نعمة وهو يحب المعطي المسرور فيسكب عليه تلك النعمة بوفرة (ع ١١).
  • إن فوائد السخاء كثيرة منها نفع المعطي بأنه يزيده تقى ويعد له ثواباً في السماء (ع ١١). وإن يشهد بصحة الدين الإنجيلي لأمره به. وأنه يربط قلوب بعض المؤمنين ببعض برباط المحبة ولو كانوا متفرقين في البلاد مختلفي الصنوف. ويحملهم على أن يصلي كل من أجل الآخر (ع ١٤). وإنه يمجد الله لإنشائه الشكر لاسمه بإعطائه القدرة على السخاء والمسرّة به. هذا فضلاً عن نفعه المحتاج (ع ١٢ - ١٤). فالمحبة بلا عمل اسم بلا مسمى ليس لها مدح من الناس ولا ثواب من الله.
  • إن المسيح أفضل عطايا الله للإنسان فالإنسان لا يستحقه ولا يمكنه أن يشتريه فلا يحصل عليه إلا بأن يقبله هبة. فهو العطية التي لا يعبر عنها لأننا لا نقدر أن ندرك شدة احتياجنا التي أُنقذنا منها بواسطته ولا عظمة ما نحصل عليه من الغنى به ولأنه يتضمن سائر مواهب الله الحاضرة والمستقبلة الزمنية والأبدية. وتلك لا يعبر عنها لأنها آية محبة الله غير المحدودة ولأننا لا نستطيع إدراك كل ما تكفل الآب به في بذل ابنه ولا إدراك كل ما احتمله الابن في تسليم نفسه عنا.
    إن الحصول على تلك العطية هو موضوع رجائنا بغفران خطايانا هنا ونيل سعادتنا الأبدية في السماء. وعلى هذا يجب على كل قلب أن يفيض شكراً لله وكل لسان أن يترنم سروراً وحمداً له (ع ١٥).
  • إنه لا طريق لنا إلى إظهار شكرنا لله على بذله ابنه لأجلنا إلا أننا ننكر ذواتنا لكي نوصل الإنجيل إلى الذين يهلكون بدونه. فالذي بذل ابنه من أجلنا يحق له أن يطلب منا أن نبذل مالنا لنفع بني جنسنا (ع ١٥).
  • إن كل الأسباب التي ذكرها بولس لوجوب سخاء مؤمني كورنثوس وقتئذ لا تزال اليوم تحثنا على مثل سخائهم وأكثر منه لأننا نعرف أكثر مما عرفوا من احتياجات الناس نفساً وجسداً وأن لنا ما ليس لهم من الغنى في الروحيات والجسديات للإحسان وأن لنا وسائل لإرساله إلى المحتاجين لم تخطر على بال أولئك ونعلم ما لم يستطيعوا أن يعلموه من أمر وجوب السخاء والثواب عليه من الله.




الأصحاح العاشر


إظهار الرسول عدم إرادته أن يتصرف بمقتضى سلطته الرسولية وأن يعاقب المعاندين (ع ١ - ٦). تصريحه بأن له سلطة من الله (ع ٧ - ١١). وإنه لا يدّعيها على من ليس تحت إرادته (ع ١٢ - ١٨).
لا يخفى على القارئ ما أتاه الرسول هنا إلى نهاية الأصحاح الثالث عشر من تغيير أسلوب كتابته إلى الكورنثيين فذهب البعض إلى أن هذا الجزء رسالة أخرى إليهم لكن لا داعي إلى هذا المذهب لأنه يكفي سبباً لهذا التغيير أن يكون من خاطبهم هنا غير الذي خاطبهم قبلاً لأنه خاطب في ما مر الأمناء المطيعين وأخذ هنا يخاطب المقاومين له وهم كذبة المعلمين وأتباعهم الذين احتقروه وأبوا طاعته ورفضوا الإنجيل الذي نادى به وحذّرهم من أن يطمعوا به لطول أناته لأن له قوة على أن يعاقبهم مع أنه كان متواضعاً لديهم حتى أنهم استخفوا به فقال أنه يصبر ايضاً عليهم ويمتحنهم (ع ١ - ٦). وأنه لا يحسن أن يحكموا بأموره بمقتضى ما ظهر منه لأنهم مهما ادعوا من السلطة فله أعظم منها حقيقة (ع ٧ و٨). فان له أن يظهر جسارته وهو حاضر بينهم لو أراد (ع ٩ - ١١). وإنهم تحت إدارته لأن بلادهم مما وُكل تبشيرها إليه (ع ١٢ - ١٦) وأن ثقته ليست بنفسه بل بالرب (ع ١٧ و١٨).
١ «ثُمَّ أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ بِوَدَاعَةِ ٱلْمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا نَفْسِي بُولُسُ ٱلَّذِي فِي ٱلْحَضْرَةِ ذَلِيلٌ بَيْنَكُمْ، وَأَمَّا فِي ٱلْغَيْبَةِ فَمُتَجَاسِرٌ عَلَيْكُمْ».
رومية ١٢: ١ ع ١٠ وص ١٢: ٥ و٧ و٩
أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ بِوَدَاعَةِ ٱلْمَسِيحِ وَحِلْمِهِ أي متمثلاً بالمسيح الذي كان وديعاً متواضعاً حليماً وأمر تلاميذه أن يقتدوا به في ذلك (متى ١١: ٢٩ انظر أيضاً إشعياء ٥٣: ٧). وأشار إلى وجوب ذلك بقوله «طوبى للودعاء» (متّى ٥: ٥). والمراد بالوداعة هو حلم الإنسان مع اعتزاله طلب الحقوق حين يتعدى غيره عليه. واقتداؤه بالمسيح في ذلك كان على صبره على أعدائه وامتناعه عن معاقبتهم.
ولعل في العبارة تعريضاً بقلة حلم المقاومين ووداعتهم كما أن فيه تصريحاً بوداعة المسيح وحلمه وهو على الأرض.
أَنَا نَفْسِي بُولُسُ اعتاد الرسول هذه العبارة في مقدمة كلامه على ما هو ذو شأن عنده (غلاطية ٥: ٢ وأفسس ٣: ١ وفليمون ١٩) وغُلب أن يستعمل صيغة الجمع لكنه استعمل هنا المفرد فكأنه قال أن الإنسان المخاطب لكم هو الرجل الذي احتقرتموه نفسه.
ٱلَّذِي فِي ٱلْحَضْرَةِ ذَلِيلٌ لا ريب في أن هذا حكاية قولهم عليه كما علم من تيطس وغيره (انظر ع ١٠) ومفاده أنه جبان في الحضرة شجاع في الغيبة.
وَأَمَّا فِي ٱلْغَيْبَةِ فَمُتَجَاسِرٌ نسب إليه أعداؤه الجسارة وهو بعيد عنهم وعن مقاومتهم له وتخطئتهم إياه ولعلهم بنوا هذه التهمة على إبطائه عن مواجهتهم حسبما وعدهم. والحق الصريح أن بولس لم يكن جباناً لكنه كان شجاعاً ثابتاً في الحق والمناداة به على رغم كثرة مقاوميه وثروتهم وسطوتهم وأنه عرّض نفسه لكل أنواع الأخطار والمصائب في التبشير بالإنجيل فكان تاريخ حياته شهادة بصدق قوله «إِنِّي مُسْتَعِدٌّ لَيْسَ أَنْ أُرْبَطَ فَقَطْ، بَلْ أَنْ أَمُوتَ أَيْضاً... لأَجْلِ ٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ» (أعمال ٢١: ١٣).
٢ «وَلٰكِنْ أَطْلُبُ أَنْ لاَ أَتَجَاسَرَ وَأَنَا حَاضِرٌ بِٱلثِّقَةِ ٱلَّتِي بِهَا أَرَى أَنِّي سَأَجْتَرِئُ عَلَى قَوْمٍ يَحْسِبُونَنَا كَأَنَّنَا نَسْلُكُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ».
١كورنثوس ٤: ٢١ وص ١٣: ٢ و١٠
أَطْلُبُ هذا مكرّر قوله في الآية الأولى بعد كلام معترض لبيان العلاقة بين الكلامين. ولا بد من أن في هذا الطلب شيئاً من التحذير مما سيكون إذا رُفض الطلب.
أَنْ لاَ أَتَجَاسَرَ وَأَنَا حَاضِرٌ بِٱلثِّقَةِ لم يرد أنهم يجبرونه على تغيير أسلوبه السابق من الحلم واللطف وأن يظهر لهم الشدة والشجاعة التي تحمله أمانته للحق على إظهارها والتي هو واثق أنه يظهرها لهم عندما يلاقيهم وجهاً لوجه خلافاً لزعمهم.
ٱلَّتِي بِهَا أَرَى أَنِّي سَأَجْتَرِئُ أي أعزم أن أتصرف غير ناظر إلى ما يقوله أو يفعله المقاومون إن لم يرجعوا عن افترائهم.
عَلَى قَوْمٍ يَحْسِبُونَنَا الخ هؤلاء القوم هم المعلمون الكاذبون الذين نسبوا إلى بولس الخداع والتقلب وحب الذات والغايات النفسانية العالمية. أتى في الإنجيل «السلوك بحسب الجسد» بمعنى الضعف الذي هو من خواص الجسد. وأتى بمعنى الطبيعة الفاسدة الظاهرة في كل آراء أهل العالم وأعمالهم وهذا هو المقصود هنا.
٣ «لأَنَّنَا وَإِنْ كُنَّا نَسْلُكُ فِي ٱلْجَسَدِ، لَسْنَا حَسَبَ ٱلْجَسَدِ نُحَارِبُ».
وَإِنْ كُنَّا نَسْلُكُ فِي ٱلْجَسَدِ أي إن كانت حياتنا حياة بشرية بما فيها من الضعف والألم ولا إشارة هنا إلى خطيئة الجسد كما يفيده ذلك السلوك أحياناً.
لَسْنَا حَسَبَ ٱلْجَسَدِ نُحَارِبُ أي في محاربتنا الخطيئة لا نتكل على وسائط بشرية يتخذها الناس في حروبهم كالقوة الإجبارية والرشوة والتمليق والفلسفة العقلية والأدلة السفسطية والغش والخداع.
٤ «إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِٱللّٰهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ».
أفسس ٦: ١٣ و١تسالونيكي ٥: ٨ و١تيموثاوس ١: ١٨ و٢تيموثاوس ٢: ٣ أعمال ٧: ٢٢ و١كورنثوس ٢: ٥ وص ٦: ٧ و١٣: ٣ و٤ إرميا ١: ١٠
أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا أي الوسائط التي اتخذها للمحاماة عن الحق ومقاومة الضلال وهي ما ذُكرت في (أفسس ٦: ١١ - ١٦) و١تسالونيكي ٥: ٨). والأسلحة التي استعملها تدل على أنه لم يحارب حسب الجسد.
لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً أي ليست مما يستعملها البعض من الفصاحة والفنون والحيل المعتادة في الحروب. فأسلحة الرسول كانت من الروح القدس ويجب على كل المبشرين بالإنجيل أن يتسلحوا به كما تسلّح.
بَلْ قَادِرَةٌ بِٱللّٰهِ أي أن الله يجعلها فعالة بقدرة يده المقارنة إياها.
عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ هذه من العبارات العسكرية أشار بها الرسول إلى ما أتاه في مقاومة الخطيئة. والمراد «بالحصون» هنا قلب الإنسان وجهله وضلاله وعصيانه وشره عموماً وهذا كله ظاهر أوضح ظهور في عبادة الأوثان وفساد الآداب في مدينة كورنثوس وسائر المدن اليونانية والرومانية. وتلك الضلالات انتظمت بقوة حكام الممالك وتوطدت بعظمة الهياكل الفاخرة ورسومها واحتفالاتها.
٥ «هَادِمِينَ ظُنُوناً وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ ٱللّٰهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ ٱلْمَسِيحِ»،
١كورنثوس ١: ١٩ و٣: ١٩
في هذه الآية ذكر بعض الحصون التي تيقن الرسول أنه قادر على هدمها بأسلحة الإنجيل.
ظُنُوناً آراء الذين فضلوا استدلال عقولهم على أقوال الله (قابل هذا ما في ١كورنثوس ١: ١١ - ٣١ ورومية ١: ٢١ - ٢٣).
وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ ٱللّٰهِ أي علو ما كانت تبنى عليه الحصون لأنها كانت في القديم تبنى على عاليات الآكام وشواهق الصخور. واستعاره الرسول لكبرياء الفلاسفة وكل الذين يفضلون أحكام عقولهم على أحكام الوحي ويقيسون كل الأمور بمقياس النواميس والمبادئ الطبيعية وهذا فنده الرسول بقوله «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ حَكِيمٌ بَيْنَكُمْ فِي هٰذَا ٱلدَّهْرِ، فَلْيَصِرْ جَاهِلاً لِكَيْ يَصِيرَ حَكِيماً! لأَنَّ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ هِيَ جَهَالَةٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ٣: ١٨ و١٩). وأشار الرسول بهذه العبارة إلى الحرب العظيمة الدائمة بين الحق والباطل وبين حكمة الله وحكمة العالم وبين دين المسيح والأديان التي اخترعها البشر وهي الحرب التي كان الرسول يجاهد فيها ولم تزل تتلظى إلى الآن وستبقى إلى أن ينتصر الإنجيل على كل ما سواه لأن فعل روح الله مع إنجيله وقوته أعظم من قوة كل برهان وفصاحة بشرية.
مُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ ٱلْمَسِيحِ أنزل طاعة المسيح في منزلة حصن ساق إليه الأسرى المأخوذين من حصون الضلال التي هدمها المسيح. وأراد بقوله «كل فكر» كل إنسان لأن الإنسان كفكره. وهذا على وفق قول الحكيم «لأَنَّهُ كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هٰكَذَا هُوَ» (أمثال ٢٣: ٧). فيجب علينا بمقتضى هذا التعليم أن نترك كل اتكال على مجرد الاستدلال العقلي وأن نخضع لتعليم المسيح إذا شئنا أن نكون مسيحيين حقيقيين وهذا كقوله «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ حَكِيمٌ بَيْنَكُمْ فِي هٰذَا ٱلدَّهْرِ، فَلْيَصِرْ جَاهِلاً لِكَيْ يَصِيرَ حَكِيماً» (١كورنثوس ٣: ١٨).
إن المسيح لا يريد أن تخضع أعمالنا وحدها له بل يريد أن تخضع له أفكارنا أيضاً.
٦ «وَمُسْتَعِدِّينَ لأَنْ نَنْتَقِمَ عَلَى كُلِّ عِصْيَانٍ، مَتَى كَمَلَتْ طَاعَتُكُمْ».
مُسْتَعِدِّينَ لأَنْ نَنْتَقِمَ عَلَى كُلِّ عِصْيَانٍ من المعلمين الكاذبين. علم الرسول أن له قدرة على ذلك وقد عزم على إجرائه إن بقوا على مقاومتهم للإنجيل وأنه لا بد من انتصار الإنجيل فإن المسيح عثرة للبعض ورأس الزاوية لآخرين. ولم يذكر حقيقة الانتقام الذي عزم على إجرائه ولعله مجرد القطع من الكنيسة أو من المصائب الجسدية التي كان للرسل سلطة على أن يضربوا بها (١كورنثوس ٥: ٥ و١تيموثاوس ١: ٢٠).
مَتَى كَمَلَتْ طَاعَتُكُمْ أي طاعة الذين قبلوا نصحه وسلموا بسلطته. قصد الرسول أن يتخذ كل الوسائل الممكنة ليحملهم على الخضوع له قبل أن يعاقب المعاندين والعصاة.
٧ «أَتَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ حَسَبَ ٱلْحَضْرَةِ؟ إِنْ وَثِقَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلْمَسِيحِ، فَلْيَحْسِبْ هٰذَا أَيْضاً مِنْ نَفْسِهِ: أَنَّهُ كَمَا هُوَ لِلْمَسِيحِ، كَذٰلِكَ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمَسِيحِ!»
يوحنا ٧: ٢٤ وص ٥: ١٢ و١١: ١٨ وع ١ ١كورنثوس ٢٤: ٣٧ و١يوحنا ٤: ٦ و١كورنثوس ٣: ٢٣ و٩: ١ وص ١١: ٢٣
خاطب الرسول بهذه الآية الذين أنكروا سلطته ودعاهم إلى بيان سبب إنكارهم التسليم بحقوقه وجاء ذلك بياناً لعدم حجتهم بإثبات سلطته الرسولية وحقه أن يحكم على كنيسة كورنثوس. وبهذا شغل قلمه في هذا الأصحاح إلى الآية الثامنة عشرة من الأصحاح الثاني عشر. وهذا كله كلام معترض رجع بعده إلى الموضوع الذي تكلم عليه في أول هذا الأصحاح وهو بيان ما يقصد إجراءه في كورنثوس عند وصوله إليها.
أَتَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ حَسَبَ ٱلْحَضْرَةِ أي أتقصرون توجيه أفكاركم إلى ما يظهر من أمري كالهيئة وأسلوب التصرف والكلام وعليه تستخفون بي.
إِنْ وَثِقَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلْمَسِيحِ لم يقصد شخصاً معيناً بهذا بل أراد صنفاً من الناس الذين استهانوا بسلطته (١كورنثوس ١: ١٠) إن بعض مسيحيي كورنثوس ادعوا أن لهم تقرباً من المسيح ليس لغيرهم من سائر المؤمنين والمبشرين لقرابة أهلية أو لكونهم قد شاهدوا المسيح في الجسد. ولعل دعوى المشار إليهم في هذه الآية بأنهم «للمسيح» كدعوى أولئك.
فَلْيَحْسِبْ هٰذَا الخ معنى الرسول أنه لا يحتاج هؤلاء المدّعون إلى سوى التأمل للاقتناع بأن ليس لهم فضل عليه بما يدعونه فإنه هو وإياهم بمنزلة واحدة فيه.
٨ «فَإِنِّي وَإِنِ ٱفْتَخَرْتُ شَيْئاً أَكْثَرَ بِسُلْطَانِنَا ٱلَّذِي أَعْطَانَا إِيَّاهُ ٱلرَّبُّ لِبُنْيَانِكُمْ لاَ لِهَدْمِكُمْ، لاَ أُخْجَلُ».
ص ١٣: ١٠ ص ٧: ١٤ و١٢: ٦
لم يدع الرسول في الآية السابقة إلا المساواة لأولئك المدعين ولكنه صرّح في هذه الآية بأنه أفضل منهم لأن له سلطة وقوة بالنظر إلى رتبته ليستا لهم فلو أراد أن يبسط الكلام في حقوقه لم يخجل لأنه يقدر أن يُثبت كل دعاويه بأدلة أفعاله.
وَإِنِ ٱفْتَخَرْتُ إن هنا وصلية فهي للتأكيد لا للشك.
شَيْئاً أَكْثَرَ بِسُلْطَانِنَا من دعواهم. فإنهم قالوا إنهم للمسيح فقال إن له حقاً بهذا أكثر مما لهم كما يتبيّن مما أعطاه المسيح من السلطة في سياسة الكنيسة وأن يثبت تلك السلطة بعقاب المذنبين.
إن بولس أخذ هذه السلطة من الرب يسوع حين دعاه إلى أن يكون رسولاً وأنه كان له فوقها موهبة الروح القدس التي جعلته معلماً معصوماً من الغلط وقادراً على إتيان أعمال خارقة العادة.
ٱلَّذِي أَعْطَانَا إِيَّاهُ ٱلرَّبُّ لِبُنْيَانِكُمْ الرب هنا هو يسوع المسيح والمواهب التي أعطاها بولس تدل على كونه إلهاً إذ لا يقدر أن يعطيها إلا الله وهو أعطاها رسوله لا لرفعه شأنه ولا لغاية أخرى من الغايات البشرية ولا لإذلال أعدائه بالذات بل لأجل بنيان الكنيسة بالقداسة والسلام والحق.
لاَ أُخْجَلُ هذا خبر أن في أول الآية. وعلة عدم خجله قدرته على إثبات دعواه بأعماله.
٩ «لِئَلاَّ أَظْهَرَ كَأَنِّي أُخِيفُكُمْ بِٱلرَّسَائِلِ».
الكلام في هذه الآية متعلق بالآية السابقة ولإيضاح المعنى يلزم أن نضيف إلى أوله «هذا أقوله» أو ما أشبهه. وغايته منه أن يدفع عن نفسه تهمة كذبة المعلمين أنه يهددهم برسائله لكي يخيفهم فيطيعوا. ويفعل ذلك ولا قوة له ولا عزم على إجرائه.
١٠ «لأَنَّهُ يَقُولُ: ٱلرَّسَائِلُ ثَقِيلَةٌ وَقَوِيَّةٌ، وَأَمَّا حُضُورُ ٱلْجَسَدِ فَضَعِيفٌ وَٱلْكَلاَمُ حَقِيرٌ».
ع ٧ و١١ ١كورنثوس ٢: ٣ و٤ وع ١ وص ١٢: ٥ و٧ و٩ وغلاطية ٤: ١٣ ١كورنثوس ١: ١٧ ٢: ١ و٤ وص ١١: ٦
لم يُرد أن يتظاهر أنه يبتغي إخافتهم برسائله كما افتروا عليه.
ٱلرَّسَائِلُ ثَقِيلَةٌ وَقَوِيَّةٌ فتدل على كون كاتبها نشيطاً ذا سلطة وشدة غريبة.
وَأَمَّا حُضُورُ ٱلْجَسَدِ فَضَعِيفٌ الخ هذا افتراء أعدائه إذ لا شيء يشير إلى أن بولس كان ضعيفاً في البنية الجسدية وأنه كان قصير القامة فإن كثرة أسفاره وطولها وما قاساه من الأتعاب والآلام دليل قاطع على أنه لم يكن ضعيف الجسد. والخلاصة أنه لا وجه لهم إلى إثبات تهمتهم إلا ما قاله على أحواله حين أتى كورنثوس من أثينا وشعر بثقل انتظاره دخول الإنجيل تلك المدينة ذات الشر والكبرياء كما يظهر من قوله «أَنَا كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ. وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلإِنْسَانِيَّةِ» (١كورنثوس ٢: ٣ و٤). فإنه لم يأتهم المعلمين العالميين والفلاسفة مستنداً على فصاحة الكلام ولم يفتخر بما أتاه في غيرها من المدن وبما سيفعله بينهم.
١١ «مِثْلُ هٰذَا فَلْيَحْسِبْ أَنَّنَا كَمَا نَحْنُ فِي ٱلْكَلاَمِ بِٱلرَّسَائِلِ وَنَحْنُ غَائِبُونَ، هٰكَذَا نَكُونُ أَيْضاً بِٱلْفِعْلِ وَنَحْنُ حَاضِرُونَ».
لم يقصد بهذا الكلام شخصاً بعينه بل قصد كل فرد ممن يقاومونه فإنهم سلموا بأن رسائله قوية فحقق لهم هنا أن أعماله لا تكون أقل قوة منها وأنه قادر على إجراء كل ما ادعاه من القدرة على المعاقبة فلا يكون قوله افتخاراً باطلاً.
١٢ «لأَنَّنَا لاَ نَجْتَرِئُ أَنْ نَعُدَّ أَنْفُسَنَا بَيْنَ قَوْمٍ مِنَ ٱلَّذِينَ يَمْدَحُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَلاَ أَنْ نُقَابِلَ أَنْفُسَنَا بِهِمْ. بَلْ هُمْ إِذْ يَقِيسُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيُقَابِلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، لاَ يَفْهَمُونَ».
ص ٣: ١ و٥: ١٢
لأَنَّنَا لاَ نَجْتَرِئُ لم يكن بولس كالمعلمين الكاذبين الذين يفتخرون بقوتهم وتأثيرهم ولا قدرة لهم على إثبات شيء من دعواهم. فمعنى قوله «لا تجترئ» هو أن ضميره لا يسمح له أن يدّعي ما ليس له من القوة.
إِذْ يَقِيسُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إن أولئك المعلمين الكاذبين الذين مدحوا أنفسهم واحتقروا غيرهم نظروا إلى مجرد عظمتهم وقاسوا ذواتهم بما تصوروه لأنفسهم ولم يقابلوا أنفسهم بأولئك الذين سبقوهم وهم أعظم منهم. وتعدوا عليهم بأن دخلوا على أتعابهم غير مكترثين بما لهم من التعليم والعمل. وبهذا امتازوا عن بولس الذي لم يفتخر بنفسه شيئا بل اتكل على الله ونسب كل نجاحه إلى نعمته ولم يدخل على تعب غيره ويدّعي أنه تعبه.
لاَ يَفْهَمُونَ أي جهلوا فضلوا بقياسهم.
١٣ «وَلٰكِنْ نَحْنُ لاَ نَفْتَخِرُ إِلَى مَا لاَ يُقَاسُ، بَلْ حَسَبَ قِيَاسِ ٱلْقَانُونِ ٱلَّذِي قَسَمَهُ لَنَا ٱللّٰهُ، قِيَاساً لِلْبُلُوغِ إِلَيْكُمْ أَيْضاً».
ع ١٥
لاَ نَفْتَخِرُ إِلَى مَا لاَ يُقَاسُ أي لا تجاوز حدود الحق بأقوالنا. إن الرسول لم يدع موهبة وسلطة لم يهبها الله له ولم ينسب إلى نفسه عملاً لم يعمله. ولم يدع أنه أرشد إلى المسيح من أرشده غيره إليه. وبهذا امتاز كل الامتياز عن أولئك الخادعين الذين لم يكن لادعائهم وافتخارهم حد ولم توافق أعمالهم أقوالهم.
قِيَاسِ ٱلْقَانُونِ ٱلَّذِي قَسَمَهُ لَنَا ٱللّٰهُ أي القاعدة التي وضعها الله في شأن المواهب التي عيّنها له في التبشير بالإنجيل وبولس لم يخترها ولم يتعرض لتعيينها. نعم أنه صرح بأن قصده المناداة بالإنجيل حيث لم يُسمّ المسيح حتى لا يبني على أساس غيره (رومية ١٥: ٢٠). فاعتبر أن المسيح عيّنه مبشراً للأمم بالأولى كما عيّن كلا من بطرس ويوحنا ويعقوب مبشرين لليهود كذلك (غلاطية ٢: ٩). ولكن ليس من دليل على أن سلطة الرسول مقصورة على مدينة ما أو بلاد ما فإن إلهام الروح القدس عصمهم وأهلّهم أن يعملوا أعمالاً خارقة العادة إثباتاً لتعاليمهم لمن يشاءون من كنيسة أو أمة.
لِلْبُلُوغِ إِلَيْكُمْ أَيْضاً اعتبر الرسول مدينة كورنثوس ضمن الدائرة المعيّنة لتبشيره فإنه أسس الكنيسة في تلك المدينة (١كورنثوس ٣: ١٠) وأن مؤمنيها عمله في الرب (١كورنثوس ٩: ١).
١٤ «لأَنَّنَا لاَ نُمَدِّدُ أَنْفُسَنَا كَأَنَّنَا لَسْنَا نَبْلُغُ إِلَيْكُمْ. إِذْ قَدْ وَصَلْنَا إِلَيْكُمْ أَيْضاً فِي إِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ٣: ٥ و١٠ و٤: ١٥ و٩: ١
إِلَيْكُمْ أيها الكورنثيون. قال إن سلطته تصل إليهم وأنه وصل إليهم بتبشيره بالإنجيل وكان أول مبشر لهم فكورنثوس ضمن ما افتتحه من البلاد بالبشرى فقد بلغها في أسفاره وقصد الاجتياز بها بعد قليل (ع ١٦).
فِي إِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ أي في المناداة به.
١٥ «غَيْرَ مُفْتَخِرِينَ إِلَى مَا لاَ يُقَاسُ فِي أَتْعَابِ آخَرِينَ، بَلْ رَاجِينَ إِذَا نَمَا إِيمَانُكُمْ أَنْ نَتَعَظَّمَ بَيْنَكُمْ حَسَبَ قَانُونِنَا بِزِيَادَةٍ».
رومية ١٥: ٢
غَيْرَ مُفْتَخِرِينَ إِلَى مَا لاَ يُقَاسُ كرر هنا من جهة أتعابه ما قاله في (ع ١٣) من جهة مواهبه ودائرة عمله. فلم يفتخر بتعب سواه من المبشرين بأن ادعى أن النتيجة نتيجة خدمته. فواضح أنه قصد توبيخ المعلمين الكاذبين على دعواهم أنهم فعلوا ذلك لأنهم أتوا إلى كورنثوس بعدما أُنشئت كنيسة وادعائهم سلطة لا حق لهم فيها. فاجتهدوا أن يبطلوا تأثير بولس في تلك الكنيسة فيبطلوا رجاءها الخلاص بالإنجيل الذي بشر به.
رَاجِينَ الخ رجا بولس أن يبشر بالإنجيل في البلاد التي أبعد منهم عن أورشليم التي هي مبتدأ تبشيره حسب قانونه أن ينادي حيث لم يسم المسيح (رومية ١٥: ٢٠) أول ما تسمح بذلك أحوال كنيستهم.
١٦ «لِنُبَشِّرَ إِلَى مَا وَرَاءَكُمْ. لاَ لِنَفْتَخِرَ بِٱلأُمُورِ ٱلْمُعَدَّةِ فِي قَانُونِ غَيْرِنَا».
هذا متعلق بقوله «راجين» في (ع ١٥) فإنه توقع أن يبشر الأماكن التي وراء كورنثوس حيث لم يدخل الإنجيل.
مَا وَرَاءَكُمْ أي غربي كورنثوس وهو رومية (في إيطاليا) وأسبانيا كما ذُكر في (رومية ١٥: ٢٢ - ٢٤).
فِي قَانُونِ غَيْرِنَا أراد بذلك دائرة التبشير التي سبقه إليها وتلمذ فيها أناساً وأنشأ كنائس بغية أن لا ينسب إلى نفسه أثمار تعب سواه.
١٧ «وَأَمَّا مَنِ ٱفْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِٱلرَّبِّ».
إشعياء ٦٥: ١٦ وإرميا ٩: ٢٤ و١كورنثوس ١: ٣١ و١٥: ١٠
الافتخار بالرب هو اعتبار أنه مصدر كل ثقة ونعمة وقوة ونجاح في التبشير بالإنجيل (١كورنثوس ١٥: ١٠) والسرور بمدح الله لخادمه إثابة له على أتعابه. ولعل آخر هذه الأمور هو ما قصده الرسول هنا فلا يحسن أن يسر المسيحي بالنظر في وفرة مواهبه وعظمة أتعابه والانتفاخ بمدح الناس إياه بل عليه أن يكتفي بمسرّة الله به ولا يكتفي إلا بتلك المسرة.
١٨ «لأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ ٱلْمُزَكَّى، بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ ٱلرَّبُّ».
أمثال ٢٧: ٢ رومية ٢: ٢٩ و١كورنثوس ٤: ٥
إن الإنسان مهما أعجب بنفسه ومدح الناس إياه لا يكون مستحقاً المدح ما لم يمدحه الله ولذلك كان بولس يرى حكمه لنفسه أمراً زهيداً وكذا حكم غيره له (١كورنثوس ٤: ٣). إنما سرّ بأن الله أظهر رضاه عنه بأن اختاره ليكون آلة التبشير بإنجيله وجعل ختم رضاه هداية الذين بشرهم والكنائس التي أنشأها واكتفى بذلك (ص ٣: ١ - ٣).
فوائد



  • إنه إن كان لأحد جراءة على أن يظهر آراءه أمام الصغار والكبار وقوة على أن يوبخ الخطأة بصرامة لكي يرجعوا فخير له أن يظهر لهم الوداعة والحلم من أن يظهر الجراءة والصرامة (ع ١).
  • إن تلميذ المسيح الذي يذكر وداعة معلمه وحلمه معه لا خوف عليه من أن يكون منتقداً مندداً مع إخوته (ع ١).
  • إن سلوك المسيح كان قانون بولس فوجب أن يكون قانون كلّ منّا. إنه هيّن على الناس أن يمدحوا الحلم والوداعة وإنكار النفس لكن مجرد المدح قليل التأثير ولكن إتيان ذلك فعلاً أشد إثباتاً للمدح وتأثيراً في الوعظ (ع ١).
  • إنه على كل مسيحي على الأرض أن يحارب الخطيئة في نفسه وفي غيره من الناس والشياطين فمن المحال أن تكون حياته هنا حياة راحة وسلام فلا راحة تامة إلا في السماء فإنه «هُنَاكَ يَكُفُّ ٱلْمُنَافِقُونَ عَنِ ٱلشَّغَبِ وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ ٱلْمُتْعَبُون» (أيوب ٣: ١٧) (ع ٣).
  • إن قوة الدين المسيحي على هدم الباطل وبناء الحق ليست بعدد تابعيه ولا بغناهم ولا بكون بعضهم ملوكاً وشرفاء أو فلاسفة وسياسيين ولا بجودة نظام عقائده ولا ببهاء رسومه واحتفالاته بل بتقوى تابعيه ومواظبتهم على الصلاة والتواضع والإيمان ورغبتهم في نفع غيرهم وفي تمجيد الله فذلك هو الذي يأتي إليهم بقوة ذراع الله غير المحدودة (ع ٤).
  • إنه يجب على المسيحي أن يتوكل على الله في كل مجاهداته إذ لا يمكن الانتصار إلا به تعالى ولا قوة للحق بدون أن يجعله روح الله مؤثراً فمن كان الله معه كان من المنتصرين لا محالة (ع ٤).
  • إن محبة الإنسان لذاته أصل العداوة لله فيجب أن يطرد وثن حب الذات من عرش القلب ويجلس الله عليه فأعظم انتصار ينتصره الإنسان دفعه حب الذات عن ذلك العرش وتمليك إرادة الله موضعه (ع ٥).
  • إن النظر إلى خارج الإنسان باطل لأن الإنسان «كما شعر في نفسه هكذا هو» فالله لا يحاسبه على اعتراف لسانه بل على نوايا قلبه (ع ٧).
  • إن الناس ينظرون إلى أعمال من حولهم ويلاحظون المبادئ التي يجرون عليها ويتخذونها المقياس الحق الذي به يجب أن يقيسوا سيرتهم فيحكمون بكون الأمر حلالاً أو حراماً بالقوانين التي يمارسها أهل العالم في الاجتماعات والمعاملات وكثيراً ما تكون تلك القوانين ملتوية أو فاسدة تضل الذين يسلكون بمقتضاها (ع ١٢).
  • إنه يغلط الذين يقابلون أنفسهم بالناس الذين حولهم لأنه مثلهم في كونهم جهلاء وضعفاء وخطأة فينتفخون بعلمهم ومواهبهم وتقواهم بلا حق. ويصيب الذين يقابلون أنفسهم بشريعة الله وبسيرة المسيح فيحسبون أنهم أطفال في المعرفة وأنهم أول الخطأة (ع ١٢).
  • إن نقصان إيمان المسيحيين في كورنثوس منع وقتياً امتداد الإنجيل بين الذين جهلوا طريق الخلاص يومئذ كذلك نقصان إيمان المسيحيين اليوم من أعظم الموانع من بث بشرى الخلاص بين الأمم الذين لا يزالون في الظلمة وظلال الموت (ع ١٥).
  • إن شديد الرغبة في التبشير بالمسيح حيث لم يُسم والمستعد أن يحتمل المشقة والألم في سبيل ذلك له خير دليل على أنه خليفة حق لأفضل الرسل (ع ١٦).
  • إنه على كل مسيحي أن يجتهد في بث بشرى الخلاص «للذين وراءه» أي الذين لم يبلغهم نور الإنجيل. فلا يعرف قوة دين المسيحي حق المعرفة من اكتفى بقوله «الحمد لله على أني خلصت عرفت المسيح وأنه فداني» فلو أصاب مثل هذا في مبدإه لكان للمسيح أن يبقى سعيداً في السماء مكتفياً بمحبة الآب له وعبادة الملائكة إياه. لكنه لم يفعل ذلك بل شفق على جنس البشر الهالكين وترك السماء ليخلصه. فهكذا يجب علينا أن ننكر أنفسنا لنكون وسيلة إلى تخليص غيرنا (ع ١٤ - ١٦).
  • إن الناس يفتخرون بحسن النظر وقوة الجسد والعلم والأولاد والفصاحة والاختراع والنباهة في كسب المال وحفظه والبيوت والخدم غافلين عن الحقيقة وهي أن الله هو الذي أعطاهم كل ما هو لهم وأنه قادر أن يأخذه منهم بأقل من لمحة طرف وعن أنهم لا بد من أن يعطوا حساباً لله عن طريق تصرفهم بكل من تلك المواهب فلا حق لهم أن يفتخروا إلا بالرب ولنا حق الافتخار به لعظمته وحكمته وجودته واستحقاقه لثقتنا ومحبتنا لتنازله إلى أن ندعوه أباً ولدعوته إيانا إلى المصالحة بواسطة ابنه وأنه وعدنا فوق ما نتمتع به هنا بكنوز وافرة دائمة في السماء «ليس لنا يا رب ليس لنا لكن لاسمك اعطِ مجداً» (ع ١٧).
  • إن الذي يديننا في اليوم الأخير هو الله فمن أهم الأمور أن تكون أعمالنا مرضية له الآن ومن أقل الأمور إن كانت مرضية لنا أو لغيرنا من الناس. فالذي يهب لنا كل ما لنا من المواهب والنجاح بها يجب أن يكون كل المجد لله والحمد عليها (ع ١٨).
  • إنه من المحقق أن المقياس الذي يقيس الله أعمال العالم به يوم الدين غير المقياس الذي يقيس الناس أعمالهم به. فكثيرون ممن يدانون هنا يمدحون وكثيرون ممن يمدحون هنا يدانون هنالك. فلنجتهد في أن تكون أعمالنا على وفق إرادة الله ونحن متحدون بالمسيح حتى لا تدان مع الأشرار والذين يبررون أنفسهم بل مع مفديي الرب المتبررين ببره (ع ١٧ و١٨).




الأصحاح الحادي عشر


اعتذار بولس على مدحه نفسه بأنه اضطر إليه على رغمه ومقابلته نفسه بالمعلمين الكاذبين وأتعابه بأتعابهم.
ما حمل الرسول على مدحه نفسه ع ١ إلى ١٥


سبق كلام الرسول في عدم لياقة أن يمدح الإنسان نفسه لكنه اضطر إليه لافتراء أعدائه عليه لأنهم أفسدوا ثقة مؤمني كورنثوس به وصرفوهم عن المسيح كما نادى به عندهم. وهذا ألجأه إلى إقامة البراهين لإثبات سلطته الرسولية عليهم وفضله على مدحه نفسه (ع ١). ولم يأت ذلك إلا حباً لهم واهتماماً بنفعهم (ع ٢ و٣). وعلى أنه يحق له أن يهتم بأمرهم لأنهم أصغوا طوعاً للذين نادوا لهم بإنجيل آخر (ع ٤). وقال ذلك لأنه مساوٍ لأحسن الرسل وليس أقل في شيء من الذين ادعوا أنهم أفضل منه (ع ٥). وقال إن سلمتم أن لأولئك فصاحة الكلام لا تستطيعوا أن تنكروا مما علمتم ورأيتهم مني أن لي معرفة في الأمور الروحية وأن لي كل ما يختص بالرسولية وذلك ليس لهم (ع ٦). وإباؤه أن يقبل نفقة من الذين بشرهم بالإنجيل مما يحق له ليس بضار لهم ولا يناف كونه رسولاً (ع ٧ - ٩) وإن علة إبائه ذلك من مسيحي أخائية أمران الأول أن لا تكون عثرة لمن ظنوا أنه لم يبشر إلا لربح دنيوي والثاني امتحان المعلمين الكاذبين هل يأتون بمثل هذا البرهان على إخلاصهم (ع ١٠ - ١٢). إن أولئك المعلمين ادعوا أنهم رسل لكنهم لم يكن حق في ذلك أكثر من أن يكون للشيطان حق في أن يدعي ملاك نور.
١ «لَيْتَكُمْ تَحْتَمِلُونَ غَبَاوَتِي قَلِيلاً! بَلْ أَنْتُمْ مُحْتَمِلِيَّ».
ص ٥: ١٣ و ع ١٦ و١٧ و٢١
غَبَاوَتِي مدح المعلمون المفسدون أنفسهم من إعجابهم بذواتهم ومدح الرسول نفسه لتبرئتها فالغاية مختلفة والأمر واحد وهو مدح النفس ولذلك سماه الرسول «غباوة» لأنه من صفات الجهلاء غالباً.
بَلْ أَنْتُمْ مُحْتَمِلِيّ لم ير من الضرورة أن يطلب احتمالهم إياه لعلمه أنهم يميلون إليه أو لأنه وجدهم في ما مضى مستعدين لذلك فاكتفى أن يطلب إليهم المثابرة على ما عهده منهم.
٢ «فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ ٱللّٰهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ».
غلاطية ٤: ١٧ و١٨ وهوشع ٢: ١٩ و٢٠ لاويين ٢١: ١٣ كولوسي ١: ٢٨
أبان في هذه الآية على وجوب أن يحتملوه على مدح نفسه وهي حسن غايته منه.
أَغَارُ عَلَيْكُمْ كما يفعل الرجل الذي يحب زوجته خيفة من أن تحب سواه. وكثيراً ما يعبر الكتاب عن النسبة التي بين الله وشعبه بالنسبة بين الرجل وامرأته وأن الله غيور أي يغتاظ كثيراً من أن يحب شعبه سواه من الآلهة ويعبده (إشعياء ٥٤: ٥ و٦٢: ٥ وحزقيال ص ١٦ وهوشع ص ٢٩).
غَيْرَةَ ٱللّٰهِ أي الغيرة التي أنشأها الله فيه وكانت غايته منها حفظ حقه تعالى ومجده لا الغيرة النفسانية فهي كغيرة الله على كنيسته.
لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ يحق لبولس أن يغار عليهم لأنه كان وسيلة إيمانهم بالمسيح واقترانهم به (١كورنثوس ٤: ١٥ و٩: ١). ولعله أراد ما أراده يوحنا المعمدان أن بتسمية نفسه «بصديق العريس» (يوحنا ٣: ٢٩). وعلى هذا حسب ربانيو اليهود موسى «صديق العريس» بالنظر إلى الإسرائيليين لأنه أتى بهم إلى معاهدة الله. فاهتم بولس بحسن نسبة كنيسة كورنثوس إلى المسيح حتى أنه كان شديد الرغبة في أن تكون تلك الكنيسة أمينة في حبها للمسيح وطاعتها له واتكالها عليه.
لِرَجُلٍ وَاحِدٍ على وفق ما رسمه الله في الزيجة الأولى وهو أن تكون امرأة واحدة لرجل واحد. كذلك على الكنيسة المسيحية أن تقترن بالمسيح بعلاً وسيداً ولا تكون إلا له.
لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ الخ عند مجيئه ثانية ومعناه هنا كمعنى قوله «لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (أفسس ٥: ٢٧) رغب بولس في أن تبقى كنيسة كورنثوس أمينة في عهودها ليقدمها «كعروس مزينة لرجلها» (رؤيا ٢١: ٢) فلا تُرفض كمن خانت بعهدها.
٣ «وَلٰكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ ٱلْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هٰكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ ٱلْبَسَاطَةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ».
تكوين ٣: ٤ ويوحنا ٨: ٤٤ أفسس ٦: ٢٤ وكولوسي ٢: ٤ و٨ و١٨ و١تيموثاوس ١: ٣ و٤: ١ وعبرانيين ١٣: ٩ و٢بطرس ٣: ١٧
أَخَافُ لم يزل بولس يخاطب كنيسة كورنثوس كعذراء مخطوبة كما في الآية السابقة خائفاً من أن توجه عواطفها إلى غير المسيح فكان خوفه علة ما ذُكر من غيرته. فإنه لم يعتبرها أنها أعرضت عن المسيح بل أنها على غاية الخطر من ذلك نظراً لتجاربها.
كَمَا خَدَعَتِ ٱلْحَيَّةُ حَوَّاءَ هذا أعظم مثل في تاريخ العالم ثبوت القلب البشري والنتائج الهائلة من الإعراض عن الله. إن حواء خُلقت طاهرة وكانت في الفردوس لها كل الدواعي التي نستطيع تصورها إلى أن تبقى أمينة لله لكنها سقطت بحيلة المجرب. والمقصود من الحية هنا ما ذكره موسى في الأصحاح الثاني من سفر التكوين. والمجرب هو الشيطان في صورة الحية (انظر ١تيموثاوس ٢: ١٤ ورؤيا ١٢: ٩ و١٥). فإن الشيطان خدع حواء بأن حملها على الشك في الحق والتصديق للباطل بأن أنشأ في قلبها أن تشتهي ما نهى الله عنه. فخاف بولس من أن المعلمين الكاذبين الذين هم آلات الشيطان يخدعون مؤمني كورنثوس.
تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ إفساداً أدبياً في أفكارهم وأشواقهم وأميالهم.
عَنِ ٱلْبَسَاطَةِ الخ هذا تأثير الفساد وهو أن يتحولوا عن خلوص حبهم للمسيح وطاعتهم له بالاتكال على غيره كما تُفسد محبة العروس لزوجها.
٤ «فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلآتِي يَكْرِزُ بِيَسُوعٍ آخَرَ لَمْ نَكْرِزْ بِهِ، أَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَ رُوحاً آخَرَ لَمْ تَأْخُذُوهُ، أَوْ إِنْجِيلاً آخَرَ لَمْ تَقْبَلُوهُ، فَحَسَناً كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ».
ما في هذه الآية مرتبط بالآية الأولى ومعناها ليس واضحاً كل الوضوح فلعله أراد احتملوني على جهالة افتخاري لأنه إذا أتاكم علم كاذب ونادى بمسيح جديد كاذب وروح آخر كاذب وإنجيل مزور على وفق قوله «إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هٰكَذَا سَرِيعاً عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ ٱلْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ» (غلاطية ١: ٦) احتملتم افتخاره بنفسه وبتعليمه. أو معناها لو أمكن أن يأتيكم مناد بمسيح آخر حق أو روح آخر غير الروح الذي فعل فيكم وبشرناكم به لكان لكم حق أن ترحبوا به وتصغوا له.
ٱلآتِي لا معلم كاذب بعينه بل صنف المعلمين الكاذبين.
يَكْرِزُ بِيَسُوعٍ آخَرَ أي غير يسوع الناصري ابن مريم الذي هو المسيح المخلص.
تَأْخُذُونَ رُوحاً آخَرَ لَمْ تَأْخُذُوهُ حين آمنتم. إنهم نالوا بإيمانهم بيسوع المسيح الروح القدس فكان حلوله على المؤمنين والمواهب العجيبة التي أعطوها برهاناً على صحة إنجيل المسيح (غلاطية ٣: ٢ وعبرانيين ٢: ٤) ففرض الرسول هنا المستحيل ممكن الوقوع وهو أنه متى أتى المعلمون الكاذبون يكرزون بمسيح آخر غير يسوع الناصري أثبتوا تعاليمهم بروح آخر أعطاهم آيات أخرى لم يهبها الروح القدس الذي شهد لتبشير بولس.
أَوْ إِنْجِيلاً آخَرَ لَمْ تَقْبَلُوهُ كان إنجيل بولس أن يسوع الناصري هو المسيح الحقيقي مخلص العالم وهم قبلوه بإيمانهم به ففرض أن المعلمين الكاذبين أتوا بمسيح آخر مخلصاً وبشروط للخلاص غير الشرط الذي أعلنه لهم وهو الإيمان.
فَحَسَناً كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ أي كان لكم عذر كاف في ما فعلتم أو في احتمالكم ذلك الصنف من المعلمين ولا يخفى ما في كلام الرسول هنا من التهكم لأنه من المحال أن يأتي أحد بمسيح خير من المسيح الذي بشر به بولس وروح أعظم من الروح الذي أعلنه وإنجيل جديد أفضل من الإنجيل الذي نادى به ومع ذلك ظهر من فعل الكورنثيين إن ما فرضه كان صحيحاً عندهم فإنهم قبلوا أولئك المعلمين الكاذبين بل فضلوهم عليه.
٥ «لأَنِّي أَحْسِبُ أَنِّي لَمْ أَنْقُصْ شَيْئاً عَنْ فَائِقِي ٱلرُّسُلِ».
١كورنثوس ١٥: ١٠ وع ١٣ وص ١٢: ١١ وغلاطية ٢: ٦
هذه الآية أيضاً متصلة بالآية الأولى ومعناها «احتملوني لأني أحسب الخ» لا ريب في أن أعداء بولس قابلوه بسائر الرسل وادعوا أنه دونهم وخاصة لأنه فتح باب الكنيسة للأمم الغلف.
فَائِقِي ٱلرُّسُلِ أي بطرس ويعقوب ويوحنا (غلاطية ٢: ٩) وهذا تصريح من بولس بأنه مثل أعظم الرسل في المواهب والأتعاب والنجاح وذلك دليل قاطع على أن المسيح اختاره رسولاً وبناء على ذلك كان يستحق ما استحقه الرسل من الاعتبار والطاعة.
ذهب بعضهم إلى أنه قصد «بفائقي الرسل» المعلمين الكاذبين نظراً إلى عظمة دعواهم التي بها أعلنوا أنهم فوق الرسل بناء على قولهم أنهم نواب كنيسة أورشليم التي هي أم الكنائس وأنهم نظروا المسيح وسمعوه وهو على الأرض في الجسد.
٦ «وَإِنْ كُنْتُ عَامِّيّاً فِي ٱلْكَلاَمِ فَلَسْتُ فِي ٱلْعِلْمِ، بَلْ نَحْنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُونَ لَكُمْ بَيْنَ ٱلْجَمِيعِ».
١كورنثوس ١: ١٧ و٢: ١ و١٣ وص ١٠: ١٠ أفسس ٣: ٤ ص ٤: ٢ و٥: ١١ و١٢: ١٢
عَامِّيّاً فِي ٱلْكَلاَمِ كان بولس قد درس العلوم في كلية طرسوس المشهورة لكنه لم يدرس الفلسفة والمنطق والبيان والفصاحة في المدارس اليونانية حتى يستحق أن يُدعى خطيباً منطقياً ولهذا قال «ٱلْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ بَلْ لأُبَشِّرَ لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ صَلِيبُ ٱلْمَسِيحِ» (١كورنثوس ١: ١٧). ولكنه اتكل على قوة الروح القدس لكي يجعل كلامه مؤثراً (١كورنثوس ١: ٢٤). فكان يتكلم باللغة اليونانية كما كان يتكلم عامة اليهود بها. ولعل بعض خصومه افتخروا بأنهم كانوا أفصح منه في اليونانية ولذلك احتقروه.
فَلَسْتُ فِي ٱلْعِلْمِ لأنه تعلم من المسيح رأساً (غلاطية ١: ١٢) وعرف حق المعرفة كل ما وُكل إلى الرسل من التعاليم كما يتبين من قوله «نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ ٱلدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ» (١كورنثوس ٢: ٧ و٨ انظر أيضاً أفسس ٣: ٤ و ٥).
فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُونَ لَكُمْ يوم كان يبشر ويعلم بينهم فكان لهم فرصة أن يعرفوا معرفته بكل ما يتعلق برتبته الرسولية فلا حاجة إلى أن يبسط لهم الكلام على ذلك. وكانت حجته كحجة المسيح تجاه حنّان رئيس الكهنة (يوحنا ١٨: ٢٠).
٧ «أَمْ أَخْطَأْتُ خَطِيَّةً إِذْ أَذْلَلْتُ نَفْسِي كَيْ تَرْتَفِعُوا أَنْتُمْ، لأَنِّي بَشَّرْتُكُمْ مَجَّاناً بِإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ؟».
أعمال ١٨: ٣ و١كورنثوس ٩: ٦ و١٢ وص ١٠: ١
استفهم الرسول هنا عن أنه هل كان إباؤه أن يطلب حقه الرسولي وهو أن يأخذ النفقة من الكنائس التي خدمها دليلاً على أنه ليس برسول.
أَمْ أَخْطَأْتُ خَطِيَّةً حتى أنكرتم علي الرسولية.
إِذْ أَذْلَلْتُ نَفْسِي بتركي الحق المختص بالرسل (١كورنثوس ٩: ١٣ و١٤). وقيامي بحاجات نفسي بتعب يديّ.
ادعى خصومه أنه اعترف بكونه ليس برسول لأنه بعدما صرّح أن للرسول حق أخذ نفقته من الكنائس لم يأخذ لنفسه النفقة منها.
كَيْ تَرْتَفِعُوا أَنْتُمْ أي تنتفعوا بالفوائد الروحية فترغبوا في قبول الإنجيل مني أكثر مما كنتم ترغبون فيه لو أخذت منكم النفقة.
لأَنِّي بَشَّرْتُكُمْ مَجَّاناً هذا تفسير ما سبق من كلامه وهو أن أعداءه اتخذوا ذلك دليلاً على أنه ليس برسول كما يبين من (١كورنثوس ص ٩). فسألهم هنا هل وافقوه أعداءه على هذا الاستدلال الباطل ونسوا أن ليس لهم وجه آخر يحتجون به عليه.
٨ «سَلَبْتُ كَنَائِسَ أُخْرَى آخِذاً أُجْرَةً لأَجْلِ خِدْمَتِكُمْ، وَإِذْ كُنْتُ حَاضِراً عِنْدَكُمْ وَٱحْتَجْتُ، لَمْ أُثَقِّلْ عَلَى أَحَدٍ».
أعمال ٢٠: ٣٣ وص ١٢: ١٣ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨ و٩
سَلَبْتُ كَنَائِسَ أُخْرَى ليس للسلب هنا سوى معنى واحد وهو أنه أخذ من كنائس مكدونية ولا سيما كنيسة فيلبي ما كان يحق له أن يأخذه من مؤمني كورنثوس. إنه أخذ منها ما احتاج إليه للنفقة علاوة على ما استطاع تحصيله من عمل يديه. ولم يأخذ من كنائس مكدونية إلا ما أعطوه تبرعاً بسرور.
لأَجْلِ خِدْمَتِكُمْ كانت غايته الوحيدة في قبول المساعدة من الكنائس الأخرى أن يخدم كنيسة كورنثوس ويأتي بمن لم يؤمنوا هنالك إلى المسيح.
٩ «لأَنَّ ٱحْتِيَاجِي سَدَّهُ ٱلإِخْوَةُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا مِنْ مَكِدُونِيَّةَ. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ حَفِظْتُ نَفْسِي غَيْرَ ثَقِيلٍ عَلَيْكُمْ، وَسَأَحْفَظُهَا».
أعمال ١٨: ٥ وفيلبي ٤: ١٠ و١٥ و١٦ ص ١٢: ١٤ و١٦
يتبين مما قيل هنا أن بولس حين أتى كورنثوس للتبشير كان معه بعض الدراهم مما أخذه من كنائس أخرى وبذلك وبما حصله من تعب يديه سد احتياجاته بعض الوقت ولمّا نفد كل ما عنده أخذ ما احتاج إليه من الإخوة المكدونيين فلم يستحسن أن ينبئهم بأنه حصّل بعض أسباب معاشه من تعب يديه فاقتصر على أنه أبان لهم أنه أخذ حين الحاجة من كنائس أخرى النفقة التي امتنع أن يأخذها منهم.
فالظاهر أن الرسول لم يسلك على قانون واحد في هذا الأمر. قال للأفسسيين «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ» (أعمال ٢٠: ٣٤). وقال للتسالونيكيين «إِنَّكُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ تَعَبَنَا وَكَدَّنَا، إِذْ كُنَّا نَكْرِزُ لَكُمْ بِإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ، وَنَحْنُ عَامِلُونَ لَيْلاً وَنَهَاراً كَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ» (١تسالونيكي ٢: ٩). وقال أيضاً «وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزاً مَجَّاناً مِنْ أَحَدٍ، بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلاً وَنَهَاراً، لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ» (٢تسالونيكي ٣: ٨). وقال لوقا «لِكَوْنِهِ (أي كون بولس) مِنْ صِنَاعَتِهِمَا (أي أكيلا وبريسكلا) أَقَامَ عِنْدَهُمَا وَكَانَ يَعْمَلُ، لأَنَّهُمَا كَانَا فِي صِنَاعَتِهِمَا خِيَامِيَّيْنِ» (أعمال ١٨: ٣) وأخذ من فيلبي هدايا مراراً وهو يجول (فيلبي ٤: ١٦). وحين كان مسجوناً في رومية أرسل الفيلبيون إليه نفقات على يد أبفروديتس (فيلبي ٤: ١٨) فكان مستعداً أن يأخذ النفقات التي يستحقها باعتبار كونه رسولاً (١كورنثوس ٩: ١٤) إلا إذا رأى أخذها عثرة للإنجيل. وكذا رأى الحال في كورنثوس وعليه قال ما في هذه الآية وخلاصته أنه لم يرد أن يكون تحت حمل الممنونية لهم البتة. ومع أن هذا صعب على بعض الإخوة واستدلوا به على عدم ثقته بهم وعدم حبه لهم لم يزل ثابتاً على عزمه أن لا يأخذ منهم شيئاً كما سيجيء في الآية التالية.
١٠ «حَقُّ ٱلْمَسِيحِ فِيَّ. إِنَّ هٰذَا ٱلٱفْتِخَارَ لاَ يُسَدُّ عَنِّي فِي أَقَالِيمِ أَخَائِيَةَ».
رومية ٩: ١ و١كورنثوس ٩: ١٥
أكد لهم بموجب الصدق الذي اشتهر به المسيح وتعلمه هو منه أنه لا يأتي شيئاً يمنعه من أن يقول أنه لم يأخذ شيئاً من كل كورة أخائية التي كانت كورنثوس عاصمتها. وذكر في الآية الآتية علة عدم أخذه منهم مثل ما أخذ من كنائس مكدونية.
١١، ١٢ «١١ لِمَاذَا؟ أَلأَنِّي لاَ أُحِبُّكُمْ؟ اَللّٰهُ يَعْلَمُ. ١٢ وَلٰكِنْ مَا أَفْعَلُهُ سَأَفْعَلُهُ لأَقْطَعَ فُرْصَةَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ فُرْصَةً كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضاً فِي مَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ».
ص ٦: ١١ و٧: ٣ و١٢: ١٥ ١كورنثوس ٩: ١٢ ع ١٨ الخ
أَلأَنِّي لاَ أُحِبُّكُمْ لعل هذا ما ظنه بعضهم لكنه نفى هذا الظن بقوله «الله يعلم» فأكد صدقه باستشهاده الذي يفحص القلوب ويعلم كل شيء.
سَأَفْعَلُهُ لأَقْطَعَ فُرْصَةَ أي سأظل مثابراً على ذلك لكي لا أبقي حجة للذين يستعدون أبداً لأن يتهموني بأني أبشر بالإنجيل بغية الربح الدنيوي. وأوضح ذلك كل الإيضاح في ما سبق (١كورنثوس ٩: ١٥ - ١٨) وقال إنه يفضّل أن يموت على أن ينزع أحد منه الحق وهو أن يقيم هذا الدليل على خلوص غايته من التبشير.
كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضاً فِي مَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ المقصود هنا المعلمون الكاذبون. وامتنع أن يأخذ النفقة من الكورنثيين ليلزمهم إذا افتخروا مثله أن يعملوا مثله ويعدلوا عن أن يربحوا لأنفسهم الدنيويات بالمناداة بالإنجيل.
ذهب بعض المفسرين أن المعلمين الكاذبين علّموا بلا نفقة فجاراهم بولس في ذلك. والذي يبطل هذا المذهب ما قيل في (ع ١٠ و١كورنثوس ٩: ١٢) و غير ذلك من الأماكن مما يؤكد أنهم أخذوا النفقات الطائلة من الكنائس التي بشروا فيها بدلاً من أن يعلموا مجاناً. ويتضح من رسالته الأولى أن غايته من التبشير مجاناً بيان خلوص قصده من التبشير بالإنجيل لا أن يمنع أعداءه من الافتخار بأنهم كانوا مثله في ذلك. وهم لم يتفخروا بما ذُكر بل اتهموا بولس بأنه خادع لا رسول. وظن آخر أن معنى قوله «ما يفتخرون به» في (ع ١٨) هو أنهم «يفتخرون حسب الجسد» وأن بولس مستعد أن يقابلهم بما يُفتخر به من الجسديات على سنن الحق.
١٣ «لأَنَّ مِثْلَ هٰؤُلاَءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ ٱلْمَسِيحِ».
أعمال ١٥: ٢٤ ورومية ١٦: ١٨ وع ٥ وغلاطية ١: ٧ و٦: ١٢ وفيلبي ١: ١٥ و٢بطرس ٢: ١ و١يوحنا ٤: ١ ورؤيا ٢: ٢ ص ٢: ١٧ وفيلبي ٣: ٢ وتيطس ١: ١٠ و١١
أبان في هذه الآية أن على رغبته في قطع فرصة أعدائه للافتخار هي نفعهم.
رُسُلٌ كَذَبَةٌ ادعوا أنهم رسل فسماهم باسمهم الحقيقي نسبة إلى معلمهم المذكور في الآية التالية.
إن المسيح أنبأ بأنه يقوم مسحاء كذبة (متّى ٢٤: ٢٤) فيكون الرسول الحقيقي هو ما عيّنه المسيح شاهداً شهادة عين بما يختص به وعصمه من الغلط في التعليم وأعطاه قوة على صنع المعجزات إثباتاً لرسوليته. أما الرسل الكذبة فهم الذين قاموا في عصر الكنيسة الأول وما بعده من العصور مدعين ما ليس لهم من الوحي والمواهب والسلطة.
فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ أي غايتهم خداع الناس وإفساد ضمائرهم ويسمون «فعلة الشر» أيضاً (فيلبي ٣: ٢). وشر مكرهم دعواهم أنهم يخدمون الإنجيل مع أنهم كانوا يخدمون أنفسهم فقط.
مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ الخ أي ادعوا كذباً أنهم رسل المسيح فلم تكن غايتهم بناء ملكوت المسيح وتمجيده والمسيح لم يرسل لذلك لكنهم ادعوا أنهم رسله وخدمه وأنهم أقرب إليه من بولس وأنهم أوفر أمانة منه.
١٤ «وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ ٱلشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ!».
مزمور ١٠٤: ٤ وأعمال ١٢: ٧ وغلاطية ١: ٨
لاَ عَجَبَ من أن أشرار الناس يدعون أنهم رسل لأن شر المخلوقات يتخذ صورة خير المخلوقات وأقدسها.
مَلاَكِ نُورٍ إن الله نور ويسكن النور وملائكته محاطون بالنور (مزمور ١٠٤: ٤). أما الشيطان فهو رئيس ملكوت الظلمة (لوقا ٢٢: ٥٣ و٢بطرس ٢: ١٧ ويهوذا ٦) وغايته أن يلقي الناس في ظلام الضلال (٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٦: ١٢ وكولوسي ١: ١٣) ولكي يخدعهم يُلبس كذبه ثياب الصدق ويتزيا بملاك النور لأن الملاك الذي يلبس ثياب النور يتوقع أنه يكون طاهراً مقدساً سامياً. وهل أشار بولس إلى حادثة مخصوصة هنا كظهور الشيطان مع ملائكة الله يوم مُثلوا أمامه تعالى (أيوب ١: ٦) وللمسيح يوم جربه (متّى ٤: ٣) أو بنى ذلك على عموم ما قيل على الشيطان في الكتاب المقدس من أنه لا ينفك يتظاهر بما ليس فيه بغية الخداع ذلك لا نعلمه.
١٥ «فَلَيْسَ عَظِيماً إِنْ كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضاً يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ. ٱلَّذِينَ نِهَايَتُهُمْ تَكُونُ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ».
ص ٣: ٩ فيلبي ٣: ١٩
معنى هذه الآية هو إن كان الشيطان قادراً أن يغير شكله التغيير المذكور فلا عجب من أن قدر خدامه على مثل ذلك فإذا أمكن الملاك النجس أن يظهر بهيئة الملاك الطاهر فلا مانع أن الإنسان الشرير يتظاهر بصفات الإنسان الصالح.
خُدَّامُهُ أي المعلمون الكاذبون وحق أن يسموا «بخدام الشيطان» لأنه كذاب وأبو الكذاب (يوحنا ٨: ٤٤) وهو يحثهم ويسوسهم ويعلمهم فتكون أعمالهم وسيلة إلى توسيع ملكوته أي ملكوت الضلال والشر. والقاعدة العامة في ذلك أن الشيطان قائد جميع معلمي الضلال.
كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ أي البر الذي يعلمه الله أبداً وقد أعلنه لنا (متّى ٦: ٣٣ ورومية ١: ١٧). وهؤلاء الكذبة تظاهروا بأنهم أتقياء مستقيمون وأن نتيجة تعليمهم وعملهم توطيد البر. إن الشيطان لا يجرّب الناس وهو في ظاهر هيئته الشيطانية وكذا الخطيئة لا تُعرض علينا بصورة الخطيئة بل بصورة الفضيلة وكذلك معلمي الإثم يتظاهرون بصورة خدام البر.
ٱلَّذِينَ نِهَايَتُهُمْ أي أن عاقبتهم في اليوم الأخير لا تكون على مقتضى تظاهرهم بل تكون بمقتضى حكم الله لأنه يدين الشيطان وكل المعلمين الكاذبين بحسب الواقع لا بحسب الدعوى و التظاهر (غلاطية ٦: ٧ ورومية ٦: ٢١ وفيلبي ٣: ١٩).
حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ خص الأعمال بالذكر لأنها مقياس الحكم دون شهادة الإنسان لنفسه أو حكم غيره له فالله ينظر إلى ما فعل الإنسان ألبنيان ملكوت الحق هو أم لبنيان ملكوت الضلال والخطيئة. فإن كان الأول حسبه خادمه وأثابه عليه وإن كان الثاني حسبه خادم الشيطان وعاقبه عليه.

اعتذار الرسول عن مدحه لنفسه ع ١٦ إلى ٢١


١٦ «أَقُولُ أَيْضاً: لاَ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنِّي غَبِيٌّ. وَإِلاَّ فَٱقْبَلُونِي وَلَوْ كَغَبِيٍّ، لأَفْتَخِرَ أَنَا أَيْضاً قَلِيلاً».
ع ١ وص ١٢: ٦ و١١
أَقُولُ أَيْضاً هذا رجع إلى ما في الآية الأولى وطلب في سائر الآية أمرين الأول أن لا يعتبروا مدحه لنفسه جهلاً. والثاني بيان أنهم إن حسبوه جاهلاً فليأذنوا له في ما يأذن الحكماء فيه للجهلاء وهو أن يتكلموا بمقتضى أفكارهم دون أن يعاتبوهم. وهو لم يسلم بأنه جاهل مع أن مدح الإنسان لنفسه لغير موجب جهل لا محالة لأن غايته من ذلك المدح المحاماة عن نفسه والنفع لهم. ومعنى قوله «لأفتخر أنا أيضاً قليلاً» إنكم سمحتهم لأعدائي أن يتفخروا كثيراً بما ادعوا أنهم فعلوه فاسمحوا لي أيضاً أن أتكلم قليلاً في ما فعلته وتألمت به.
١٧ «ٱلَّذِي أَتَكَلَّمُ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ بِحَسَبِ ٱلرَّبِّ، بَلْ كَأَنَّهُ فِي غَبَاوَةٍ، فِي جَسَارَةِ ٱلٱفْتِخَارِ هٰذِهِ».
١كورنثوس ٧: ٦ و١٢ ص ٩: ٤
ٱلَّذِي أَتَكَلَّمُ بِهِ مدحاً لنفسي.
لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ بِحَسَبِ ٱلرَّبِّ هذا بمعنى ما في (١كورنثوس ٧: ٢٠) والمعنى أنه لم يتمثل بالرب يسوع المسيح في ذلك لأنه لم يفتخر قط بنفسه فلا يليق بتلاميذه أن يتفخروا بأنفسهم إلا للضرورة. ولا يلزم من هذا شيء يدل على أنه لم يتكلم هنا بالوحي أو أنه خطئ بافتخاره فأظهر تواضعه بأنه أُكره على مدحه لنفسه بأنه ليس «بحسب الرب» كوصفه إياه بأنه «غباوة». والمعنى إذا نظرت إلى ذلك مجرداً عما ألجأه إليه كان غباوة وغير لائق بالذي يقتدي بالرب ولا مما يحث الروح القدس عليه ولكن إذا نظرت إليه باعتبار الاضطرار إليه محاماة عن الحق وإثباتاً للدين فهو واجب.
كَأَنَّهُ فِي غَبَاوَةٍ أي ظاهره غباوة دون باطنه ولولا الغاية والضرورة لكان غباوة حقيقية.
فِي جَسَارَةِ ٱلٱفْتِخَارِ هٰذِهِ والمعنى أنه تجاسر على أن يأتي لغاية محمودة ما يستحق أن يأتي بدونها. وهذا تفسير لتسميته لافتخاره غباوة.
١٨ «بِمَا أَنَّ كَثِيرِينَ يَفْتَخِرُونَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أَفْتَخِرُ أَنَا أَيْضاً».
فيلبي ٣: ٣ و٤
علة افتخاره بنفسه أن أعداءه عظموا أنفسهم وأتعابهم وحقروا الرسول فاضطر أن يقيم البراهين على إثبات دعواه ليثق الناس به حتى لا يكون الإنجيل الذي نادى به بينهم بلا تأثير.
بِمَا أَنَّ كَثِيرِينَ يتبين من هذا أن المقاومة له في كورنثوس لم تكن من إنسان واحد بل من جماعة المعلمين الكاذبين. والكلام الآتي يبين أنهم مع اعترافهم بالمسيح لا يزالون يهوداً بأنهم يميلون كل الميل إلى الرسوم الموسوية فكانت يهوديتهم أكثر من مسيحيتهم.
حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي في الأمور الخارجية ككونهم عبرانيين مختونين حافظي رسوم الشريعة الموسوية (ع ٢٢ وغلاطية ٦: ١٣ وفيلبي ٣: ٤).
أَفْتَخِرُ أَنَا أَيْضاً أي أن ما يفعلونه لمقاصد رديئة كالإعجاب ومحبة المدح يفعله هو لمقاصد جيدة أي لإثبات حق الإنجيل الذي نادى به ونفع الذين بشرهم.
١٩ «فَإِنَّكُمْ بِسُرُورٍ تَحْتَمِلُونَ ٱلأَغْبِيَاءَ، إِذْ أَنْتُمْ عُقَلاَءُ!».
١كورنثوس ٤: ٨ و١٠
تَحْتَمِلُونَ ٱلأَغْبِيَاءَ أذن مؤمنو كورنثوس للمعلمين الكاذبين أن يؤثروا فيهم بإصغائهم إلى افتخارهم فكان يحسن بهم أن يأذنوا لبولس في مثل ذلك والإصغاء إليه بالحلم والأناة.
إِذْ أَنْتُمْ عُقَلاَءُ لا يخفى ما في هذا من التهكم فهو كقوله «إِنَّكُمْ قَدْ شَبِعْتُمْ! قَدِ ٱسْتَغْنَيْتُمْ! مَلَكْتُمْ بِدُونِنَا» (١كورنثوس ٤: ٨). فكأنه قال على من تحققوا أنهم عقلاء أن يحتملوا من حسبوهم جهلاً إذ لا خطر على العاقل أن يؤثر فيهم الجاهل فأوجب عليهم أن يحتملوه لاعتبارهم إياه غبياً. وغايته من هذا التهكم أن يلومهم على ما أظهروا من المناقضة بين دعواهم وعملهم فإنهم ادعوا أنهم عقلاء قادون أن يميزوا بين الجهلاء والحكماء ومع ذلك احتملوا المتفخرين باطلاً بمواهب ليست لهم.
٢٠ «لأَنَّكُمْ تَحْتَمِلُونَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْبِدُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْكُلُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْخُذُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَرْتَفِعُ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ!».
غلاطية ٢: ٤ و٤: ٩ إشعياء ٩: ١٢ ومتّى ٢٣: ١٣ و١٤ ص ١٢: ١٦
نسب هنا إلى المعلمين الكذبة الظلمة والاغتصاب والوقاحة والزور. وهم كالمعلمين المفسدين الذين أزعجوا كنيسة غلاطية (غلاطية ١: ٧) وكالذين وصفهم بطرس بأنهم ممن «يسودون على الأنصبة» (١بطرس ٥: ٣). ولم يكتفوا بأن يستعبدوا المسيحيين لشريعة الأعمال بل استعبدوهم لأنفسهم أيضاً. وخلاصة احتجاجه هو أنه يجب أن تحتملوا غباوتي على مدحي لنفسي لأنكم احتملتم أكثر من ذلك من غيري.
يَسْتَعْبِدُكُمْ لرسوم الشريعة الموسوية التي حررهم المسيح منها باعتبار كونها وسيلة إلى التبرير ولأنفسهم باعتبار أنهم خدمها.
يَأْكُلُكُمْ أي يأخذ مالكم بحجة الدين وهذا كقول المسيح للفريسيين «تأكلون بيوت الأرامل» (متّى ٢٣: ١٤).
يَأْخُذُكُمْ كما يأخذ الصياد فريسته بالفخ أو الشبكة. وفي هذا تعريض بحيل أولئك المعلمين وبساطة مسيحيي كورنثوس.
يَرْتَفِعُ أي يتصرف بينهم بالكبرياء والقحة.
يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ هذا من أعظم علامات الاستخفاف والإهانة (١ملوك ٢٢: ٢٤ ولوقا ٢٢: ٦٤ وأعمال ٢٣: ٢). فصرّح هنا أن المعلمين الكاذين عاملوا أهل كنيسة كورنثوس بما ذُكروا وأن الكنيسة احتملت جورهم طوعاً. ولا يلزم أن نتخذ العبارة على حقيقة ظاهرها بل أن نفهم أنهم عاملوهم بالوقاحة كأنهم ضربوهم غير مكترثين بآرائهم وانفعالاتهم.
٢١ «عَلَى سَبِيلِ ٱلْهَوَانِ أَقُولُ كَيْفَ أَنَّنَا كُنَّا ضُعَفَاءَ. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَجْتَرِئُ فِيهِ أَحَدٌ، أَقُولُ فِي غَبَاوَةٍ: أَنَا أَيْضاً أَجْتَرِئُ فِيهِ».
ص ١٠: ١٠ و١٣: ٩ فيلبي ٣: ٤
عَلَى سَبِيلِ ٱلْهَوَانِ أَقُولُ أي على سبيل هوان نفسي فإنه أهان نفسه كأن ما قاله أعداؤه عليه صحيح.
كَيْفَ أَنَّنَا كُنَّا ضُعَفَاءَ فإن أعداءه قالوا فيه «حضور الجسد ضعيف» وقال هو على نفسه تواضعاً «أَنَا كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ» (١كورنثوس ٢: ٣). لأنه لما أتى إليهم لم يكن له ثقة بنفسه إنه قادر على أن يقنع الناس بحق الإنجيل ويهديهم فكان كل اتكاله على روح الله. ومثلما تكلم على نفسه أنه ضعيف تكلم عليهم أنهم أقوياء حقيقة كما حسبوا أنفسهم. وخلاصة كلامه أنا كنت أتكلم على نفسي كأني ضعيف وفيكم كأنكم أقوياء وعلى نفسي كأني حقير وفيكم كأنكم عظماء. ومما يأتي يتبين أنه لم يعد إلى مثل هذا الأسلوب.
وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَجْتَرِئُ فِيهِ أَحَدٌ... أَنَا أَيْضاً أَجْتَرِئُ فِيهِ أي ما يفتخر به أحد من المعلمين الكاذبين من الحقوق والمواهب والأتعاب والآلام في سبيل الإنجيل فإنا أولى بالافتخار به لأني أقيم البراهين القاطعة على كل ما ادعيه وأما هم فليس لهم سوى الدعوى. وبهذا توصل إلى الأنباء ببعض حوادث تاريخه التي حدثت في مدة خمس عشرة سنة أو عشرين سنة من بداءة خدمته الرسولية إلى وقت كتابة هذه الرسالة أي سنة ٥٧ للميلاد. وهذه الحوادث لا نعرف إلا قليلاً من أمر بعضها علاوة على ما ذُكر هنا والبعض الآخر لم نعرف من أمره شيئاً سوى ما في هذا الأصحاح. ولا حاجة إلى القول أن لا مناقضة بين ما ذكره لوقا في أعمال الرسل من حوادث بولس وما قاله بولس هنا وإن ذكر ما لم يذكره لوقا لأن لوقا لم يدع أنه كتب كل ما يتعلق ببولس وعدم ذكر الحادث لا يستلزم عدم حدوثه. فلوقا ذكر أن بولس ضُرب مرة فهذا لا يمنع ممن أن يكون ضُرب خمس مرات أو أكثر.
أَقُولُ فِي غَبَاوَةٍ هذا كلام معترض أظهر به بولس كرهه لمدح نفسه وأنه لم يأته إلا على رغمه فكان كالغباوة ولأنه لو فعله اختيارياً لكان غباوة حقيقية.
٢٢ «أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضاً. أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضاً. أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَأَنَا أَيْضاً».
أعمال ٢٢: ٣ ورومية ١١: ١ وفيلبي ٣: ٥
ابتدأ بولس في هذه الآية يبرهن أنه ليس دون أعدائه في شيء وذكر فيها ثلاث نسب تميز بها شعب الله القديم وافتخر بها. فصرّح بأن كلا من تلك النسب صادقة عليه كما صدقت عليهم فالأولى منها جنسيتهم والثانية نسبتهم إلى الله والثالثة نسبتهم إلى المسيح الموعود به لإبراهيم. والمسائل في هذه الآية تدل على أن أعداءه كانوا يهوداً تظاهروا بأنهم مسيحيون لا من متنصري الأمم.
أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ كانت هذه النسبة لإبراهيم أولاً (تكوين ١٤: ١٣) ثم كانت لكل نسله من اليهود. والعبراني إما نسبة إلى عابر أحد أسلاف إبراهيم أو إلى العبر مصدر عبر النهر لأنه عبر نهر الفرات وهو آت من الشرق إلى أرض كنعان.
فَأَنَا أَيْضاً لعل أعداءه أنكروا أنه عبراني لأنه وُلد في طرسوس لا في اليهودية مولدهم. وقد صرّح في موضع آخر بأنه عبراني من العبرانيين أي من والدين عبرانيين وأنه من سبط بنيامين وأنه فريسي وأنه خُتن في اليوم المعين للختان في الناموس (فيلبي ٣: ٥).
أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ هذا اسم لليهود كالأول إلا أنه نسبة إلى إسرائيل أي يعقوب الذي سمى إسرائيل لأنه جاهد مع الله واقتدر (تكوين ٣٢: ٢٨ وهوشع ١٢: ٤). ونُسب اليهود إلى إسرائيل أولاً في (خروج ٣: ١٦). ووقع الإجماع على أن تسمية اليهود بالإسرائيليين تبيين لنسبتهم إلى الله باعتبار أنهم شعبه المختار على وفق قول بولس فيهم «ٱلَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ ٱلتَّبَنِّي وَٱلْمَجْدُ وَٱلْعُهُودُ وَٱلٱشْتِرَاعُ الخ» (رومية ٩: ٤).
أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ أي ورثة المواعيد التي كانت لإبراهيم ولا سيما المواعيد المتعلقة بالمسيح (تكوين ١٢: ٣ و١٧: ٧ و٨ و٢٢: ١٧ و١٨ وغلاطية ٣: ٨). وحسب اليهود نسبتهم إلى إبراهيم أعظم مجد وبركة (متى ٣: ٩ ويوحنا ٨: ٣٩) فصرّح بولس أن له كل ما لأعدائه من تلك النسب.
٢٣ «أَهُمْ خُدَّامُ ٱلْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ ٱلْعَقْلِ: فَأَنَا أَفْضَلُ. فِي ٱلأَتْعَابِ أَكْثَرُ. فِي ٱلضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ. فِي ٱلسُّجُونِ أَكْثَرُ. فِي ٱلْمِيتَاتِ مِرَاراً كَثِيرَةً».
١كورنثوس ١٥: ١٠ أعمال ٩: ١٦ و٢٠: ٢٣ و٢١: ١١ وص ٦: ٤ و٥ و١كورنثوس ١٥: ٣٠ - ٣٢ وص ١: ٩ و١٠ و٤: ١١ و٦: ٩
أَهُمْ خُدَّامُ ٱلْمَسِيحِ لعلهم ادعوا أنهم كذلك بمعنى خاص وهم ممن قال كلا منهم «أنا المسيح» (١كورنثوس ١: ١٢). قال بولس في شأن النسب السابقة إنه مثلهم وأما من جهة نسبته إلى المسيح والعمل في سبيله فقال أنه يفوقهم جميعاً.
أَقُولُ كَمُخْتَلِّ ٱلْعَقْلِ قال ذلك اعتذاراً عن افتخاره الذي اضطر إليه هنا لأنه اعتبر أنه لا شيء وأحب أن يعطي كل المجد لله في كل ما صار إليه وفعله.
فَأَنَا أَفْضَلُ إن أعداءه ادعوا أنهم خدم المسيح بمجرد الدعوى وأما هو فأثبت أنه خادم المسيح بالقول والفعل. وليس مراده أنه أفضل من رسول إذ ليس من رتبة أعظم من الرسولية عنده بل أنه أفضل من أولئك المدعين في الطاعة للمسيح والاجتهاد وإنكار النفس في خدمته وتفصيل بيان أفضليته في هذه الآية وفي الآيات الست الآتية.
فِي ٱلأَتْعَابِ أَكْثَرُة قاسيتها في التبشير بالإنجيل ولا ريب في أنه خدم الإنجيل زماناً أطول من الزمان الذي خدموه فيه وغار له أكثر منهم وأنكر نفسه كذلك وشغلت أنباء أتعابه أكثر من نصف سفر الأعمال.
فِي ٱلضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ منهم عدداً وشدة.
فِي ٱلسُّجُونِ أَكْثَرُ مراراً لشهادته بالحق وذكر ذلك قبلاً (ص ٦: ٥) وأتى بتفصيله في الآية الآتية. ولم يذكر لوقا سوى سجنه في فيلبي مما أصابه قبل أن كتب هذه الرسالة (أعمال ١٦: ٢٤).
فِي ٱلْمِيتَاتِ قال في موضع آخر «إِنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ» (ص ٤: ١١). وأشار بذلك إلى أنه كثيراً ما كان عرضة للموت حتى أنه يئس من الحياة ومن ذلك ما وقع عليه في دمشق (أعمال ٩: ٢٣). وفي أنطاكية بيسيدية (أعمال ١٣: ٥٠). وفي إيقونية (أعمال ١٤: ٥ و٦). وفي لسترة (أعمال ١٤: ١٩). وفي فيلبي (أعمال ١٦: ٢٣٩. وفي تسالونيكي (أعمال ١٧: ٥). وفي بيرية (أعمال ١٧: ١٣).
٢٤، ٢٥ «٢٤ مِنَ ٱلْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ٢٥ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِٱلْعِصِيِّ. مَرَّةً رُجِمْتُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ٱنْكَسَرَتْ بِيَ ٱلسَّفِينَةُ. لَيْلاً وَنَهَاراً قَضَيْتُ فِي ٱلْعُمْقِ».
تثنية ٢٥: ٣ أعمال ١٦: ٢٢ أعمال ١٤: ١٩ أعمال ٢٧: ٤١
ما في هاتين الآيتين كلام معترض لتفسير ما في (ع ٢٣) وبيان أنه تعب وتألم أكثر من أعدائه. إنه حين كتب هذه الرسالة كان قد ضُرب ثماني مرات خمساً من اليهود وثلاثاً من الرومانيين فالذي أصابه من أهل وطنه لم يُذكر في سفر الأعمال. ولم يُذكر فيه مما أصابه من الرومانيين سوى واحدة في فيلبي (أعمال ١٦: ٢٢). ولعل ما ذُكر في هاتين الآيتين وقع أكثره في زمان أتعابه في كيليكية ولم يعترض لوقا لذكرها (أعمال ١٥: ٤١).
أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً نهت شريعة موسى عن ضرب المذنب أكثر من أربعين ضربة (تثنية ٢٥: ٣). فحذراً من الزيادة على ذلك اعتادوا أن لا يضربوا سوى تسع وثلاثين. ومما مُيز به بولس هنا الضربات بالجلد والضربات بالعصي فإن الأولى من اليهود والثانية من الأمم. قال أحد الربانيين إن آلة الجلد عنده مثلثة حتى تُعد كل ضربة ثلاث جلدات فثلاث عشرة منها تمام المفروض من الجلد.
مَرَّةً رُجِمْتُ وذلك في لسترة (أعمال ١٤: ١٩) وظن راجموه حينئذ أنه قُتل فإذاً كان قد غاب عن الوجدان لإصابة الحجارة رأسه.
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ٱنْكَسَرَتْ بِيَ ٱلسَّفِينَةُ لا ذكر لهذا في أعمال الرسل. وأما انكسار السفينة به وهو ذاهب إلى رومية فكان بعد كتابة هذه الرسالة والأرجح أنها حدثت له في الأسفار الآتية أو غيرها وهي سفره من أورشليم إلى طرسوس وسفره من طرسوس إلى أنطاكية ليساعد برنابا (أعمال ٣٩: ١١ و٢٦). وسفره إلى أثينا (أعمال ١٥: ١٥). وسفره من أفسس إلى قيصرية (أعمال ١٨: ٢٢).
لَيْلاً وَنَهَاراً أي أربعاً وعشرين ساعة.
فِي ٱلْعُمْقِ أي بين الأمواج وهو متمسك بقطعة من خشب السفينة المكسورة ولا ريب في أنه كان حينئذ على غاية القرب من الموت.
٢٦ «بِأَسْفَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. بِأَخْطَارِ سُيُولٍ. بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ. بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي. بِأَخْطَارٍ مِنَ ٱلأُمَمِ. بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْمَدِينَةِ. بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ. بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْبَحْرِ. بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ».
أعمال ٩: ٢٣ و١٣: ٥٠ و١٤: ٥ و١٧: ٥ و٢٠: ٣ و٢١: ٣١ و٢٣: ١٠ و١١ و٢٥: ٣ أعمال ١٤: ٥ و١٩: ٢٣
عرّض الرسول نفسه باختياره للأخطار المذكورة في هذه الآية وهذا دليل على أن له الحق الأول في دعوى كونه خادماً أميناً للمسيح.
بِأَسْفَارٍ عرّض فيها للتعب والخطر.
بِأَخْطَارِ سُيُولٍ بعبوره الأنهر العميقة التي لا جسور لها.
لُصُوصٍ وكانوا كثيرين في عصره بالبلدان التي جال فيها ولا سيما مضايق الجبال في كيليكية.
مِنْ جِنْسِي أي اليهود في دمشق (أعمال ٩: ٢٣) وأورشليم (أعمال ٩: ٢٩) وأنطاكية بيسيدية (أعمال ١٣: ٥٠) وفي إيقونية (أعمال ١٤: ٢) وفي كورنثوس (أعمال ١٨: ١٢). ولأنه كان أقوى المحامين عن دين المسيح والمبطلون لرسوم الشريعة الموسوية.
مِنَ ٱلأُمَمِ أي الوثنيين الذين هيّج بعضهم عليه متعصبو اليهود كما حدث في فيلبي (أعمال ١٦: ٢٠) وفي تسالونيكي (أعمال ١٧: ٥ و٦). والذين خافوا على أرباحهم كما حدث في أفسس (أعمال ١٩: ٢٣).
بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْمَدِينَةِ أي المدن ومنها ما ذُكر آنفاً.
فِي ٱلْبَرِّيَّةِ يحتمل أنها «العربية» المذكورة في (غلاطية ١: ١٧) والصحاري الواسعة في أسيا الصغرى أي الأناضول.
بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْبَحْرِ انظر (ع ٢٥).
مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ وهم ممن أرادوا أن يحافظ متنصرو الأمم على الرسوم الموسوية وكان هؤلاء من أشد أعدائه وشرّهم (غلاطية ٢: ٤).
٢٧ «فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ. فِي أَسْهَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ. فِي أَصْوَامٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ».
أعمال ٢٠: ٣١ وص ٦: ٥ ١كورنثوس ٤: ١١
فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ قاساهما بالتبشير بالإنجيل وبقيامه مع هذا بنفقة نفسه فأدى به ذلك إلى الإعياء. وهذا وما ذُكر قبله دليل قاطع أنه كان خادماً أميناً للمسيح كما ادّعى.
فِي أَسْهَارٍ اضطر إليها من كثرة أعماله وهمومه وآلامه.
فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ. فِي أَصْوَامٍ تعرّض لها بأسفاره في الأبحار والفلوات. والمرجّح أنه أراد «بالجوع والعطش» قلة تناول الطعام والشراب و «بالأصوام» الانقطاع عنهما. وكانت تلك الأصوام اضطرارية ولو كانت اختيارية ما ذكرها من جملة ما اعتراه من المصائب لأجل المسيح. ولعل الفريسيين الذين صاموا مرتين في الأسبوع صاموا أكثر منه من الأصوام الاختيارية.
فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ عُرّض لهما بسفره على الجبال بين سورية وكيليكية وبين كيليكية وأسيا الصغرى وبهذا ختم جدول مصائبه الجسدية. وإذا تأملنا في هذا الجدول نقدر أن نمثل أمامنا رسول الأمم الذي لم يكن أعظم منه وآثار الضرب مراراً كثيرة على ظهره وآثار الجراح في رأسه من الرجم وجسده ضاوٍ نحيل من الجوع والعطش والتعرّض للبرد والحر والعري مضطهداً من اليهود والأمم مطروداً من موضع إلى آخر ولا مأوى له يهجم عليه أحياناً أدنى الناس وأحياناً الولاة. وإذا طُرد من مكان لأجل التبشير ذهب إلى الآخر للمناداة بالإنجيل الذي نادى به في الأول متوقعاً أن يقع عليه الاضطهاد في كل موضع دخله. وتقدر أسيا وأوربا أن تشهدا بكثرة جولانه فيهما من أجل المسيح وعنائه بقطع رحالهما ومياه أنهرهما السريعة العميقة والأمواج تحمله على توالي الساعات وهو يبذل جهده في العوم عليها. والبحر يكسر سفينته أحياناً ويقذف بها إلى البر والبر يسلمه أحياناً إلى البحر وهو يبغي فتحاً جديداً للإنجيل ولم يكف قط عن العمل فنراه أوقاتاً يحاج اليهود في المجمع وأوقاتاً يحيك شعر المعزى خياماً وأحياناً يسبح الله في السجن في منتصف الليل وأحياناً يناظر فلاسفة أريوس باغوس في أثينا والأفسسين في مدرسة تيرانس والكورنثيين في بيت يستس وموضوع واحد على شفتيه وهو يسوع مصلوباً.
٢٨ «عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذٰلِكَ: ٱلتَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ. ٱلٱهْتِمَامُ بِجَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ».
أعمال ٢٠: ١٨ الخ ورومية ١: ١٤
عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذٰلِكَ أي بقي مصائب أخرى لم يذكرها فلم يكمل جدول نوازله من الأنواع المذكورة فتقدم إلى بيان نوع آخر من أتعابه وهو ما نزل به من جهة أفكاره وشعوره الباطن.
ٱلتَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ أي اجتماع الناس إليه وازدحامهم عليه لغايات مختلفة وكثرة الأعمال.
ٱلٱهْتِمَامُ بِجَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ هذا بعض علل ذلك التراكم. ويتضح اهتمام بولس بالكنائس الكثيرة التي أسسها من الرسائل التي كتبها إليهم غائباً والأتعاب التي احتملها بينهم. فكان الناس يأتون إليه أفواجاً بعضهم ليسألوه عن طريق الخلاص وبعضهم ليجادلوه في جوهريات الدين وبعضهم بغية الاستراحة مما أتعبتهم ضمائرهم الضعيفة المضطربة وبعضهم لالتماسهم منه أن يتوسط في فض الخصومات وبعضهم ليطلبوا إليه التعزية والمشورة والمساعدة في مصائبهم. وكان عليه أن يتلو الرُقم التي ترسل إليه من الكنائس البعيدة ويجيب عليها وممن يرسله من قبله للتبشير. وكان عليه أن يوبخ الضالين ويشجع الضعفاء ويمدح الثابتين والمجتهدين. وهذه الأعمال وإن كان راضياً أن يحملها كانت حملاً ثقيلاً على ذهنه وقلبه.
٢٩ «مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟».
١كورنثوس ٨: ١٣ و٩: ٢٢
واسى الرسول إخوته المسيحيين حتى جعل أحزانهم أحزانه جرياً على القانون العام «إِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ» (١كورنثوس ١٢: ٢٦). وكان له فوق ذلك نسبة خاصة إلى أعضاء ما أسسه من الكنائس كنسبة الآب إلى أولاده ويؤيد ذلك قوله «أنا ولدتكم في المسيح» (١كورنثوس ٤: ١٥).
مَنْ يَضْعُفُ في الجسد أو الإيمان.
وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ أي لا أشفق كثيراً. شفق الرسول على الذين هم ضعفاء الأجساد لرقة قلبه ولأنه علم بالاختبار ألم الضعف وعلى الذين خامرتهم الشكوك في الدين وضعفت ضمائرهم وارتابوا في ما يجب أن يعملوه أو ينتهوا عنه فاحتمل جهلهم وغوايتهم ولم يحتقرهم لذلك ويستخف بهم بل كان مثل المسيح الذي «قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ». وهذا على وفق قوله «صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ ٱلضُّعَفَاءَ» (١كورنثوس ٩: ٢٢).
مَنْ يَعْثُرُ من الإخوة فإنهم ضلوا عن الإيمان لتجارب الشيطان أو عوامل شهواتهم أو سوء سيرة بعضهم وفساد تعليمهم.
وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ أسفاً على الساقطين وغضباً على الذين أضلوهم.
٣٠ «إِنْ كَانَ يَجِبُ ٱلٱفْتِخَارُ، فَسَأَفْتَخِرُ بِأُمُورِ ضَعْفِي».
ص ١٢: ٥ و٩ و١٠
امتاز بولس عن المعلمين الكاذبين بموضوع افتخاره كما امتاز عنهم بغايته. فإن كان موضوع افتخارهم استحقاقهم بالذات وعلمهم وفصاحتهم وغير ذلك من مواهبهم الشخصية. وأما هو فلم يفتخر إلا بما ذكره من الاضطهادات والفقر والجلد والجوع والعطش وغير ذلك مما يدل على الضعف والاحتياج وهو مما ليس من شأن أهل العالم الافتخار به وقبول المدح عليه. كان له أن يفتخر بما عمل لكنه افتخر بما احتمل. وكان له أن يفتخر بنجاحه فافتخر بضعفه. اتهمه أعداؤه بضعفاته فرأى فيها علة الافتخار أكثر مما رأوا منها في كل عظمتهم.
٣١ «اَللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى ٱلأَبَدِ، يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ».
رومية ١: ٩ و٩: ١ وص ١: ٢٣ وغلاطية ١: ٢٠ و١تسالونيكي ٢: ٥ رومية ٩: ٥
استشهد الله بصدق ما قاله في ما سبق من كلامه في هذا الأصحاح وبأنه لم يأت بشيء من المبالغة في بيان أتعابه وآلامه وأتى مثل هذا في (ع ١٠ وفي رومية ٩: ١). ولكي يثبت ذلك الاستشهاد عبّر عن الله بنسبته الخاصة إلى المؤمنين كأنها أعظم من كونه خالقهم والمعتني بهم. وفي عبارته هنا أشار إلى الله باعتبار كونه أصل الفداء بابنه الأزلي. وأشار إلى الرب يسوع المسيح باعتبار كونه ذا طبيعتين إنسانية وإلهية.
اَللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا... هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى ٱلأَبَدِ هذا تسبيح اعتاد بولس الإتيان بمثله كثيراً حين كان يذكر بالوقار اسم الله والمسيح (انظر رومية ١١: ٢٣ و٢كورنثوس ٩: ١٥) ومثل ذلك كثير.
٣٢ «فِي دِمَشْقَ وَالِي ٱلْحَارِثِ ٱلْمَلِكِ كَانَ يَحْرُسُ مدِينَةَ ٱلدِّمَشْقِيِّينَ يُرِيدُ أَنْ يُمْسِكَنِي».
لا نعلم لماذا ذكر بولس هذه الحادثة وحدها ولم يجعلها من جملة حوادث جدول مصائبه السابق ولعلها خطرت على باله هنا فذكرها أو لعله كان حينئذ في غاية الخطر حتى لم يكن مثلها في سائر مصائبه فأفردها بالذكر. وأنباؤه بهذه الحادثة موافق لنبإ لوقا في سفر الأعمال (أعمال ٩: ٢٤ و٢٥). إلا أن لوقا نسب قصد القبض عليه إلى اليهود ولم يذكر اسم الوالي وقصده وأما بولس فنسبه إلى الوالي نفسه. والموفق بين النبأين هو أن اليهود هيّجوا الوالي على القبض عليه إذ ليس له ما يحمله على الانتقام منه.
دِمَشْقَ مدينة قديمة في سورية ذهب بولس إليها ليضطهد المسيحيين وهناك تنصر (أعمال ص ٥).
وَالِي الحاكم بأمر الملك.
ٱلْحَارِثِ ٱلْمَلِكِ كان الحارث اسماً لكثيرين من ملوك العرب كما كان فرعون لملوك مصر. والحارث المذكور هنا هو حموّ هيرودس أنتيباس الذي طرد امرأته ابنة الحارث لكي يتزوج هيروديا امرأة أخيه فيلبس (متى ١٤: ٣). فحاربه الحارث وكسره كسراً هائلاً فقصد الانتقام منه فيتليوس الوالي الروماني ولكن منعه من ذلك وهو يشرع في الحمل عليه موت الأمبراطور طيباريوس. وغلب رأي المفسرين أنه في ذلك الحين نفسه استولى الملك الحارث على دمشق وكان يومئذ ملك العربية الصخرية.
يَحْرُسُ مدِينَةَ ٱلدِّمَشْقِيِّينَ أي يراقب رجاله أبواب مدينة دمشق لكي يقبضوا على بولس وهو يبغي الخروج منها ويقتلوه (انظر أعمال ٨: ٢٤).
٣٣ «فَتَدَلَّيْتُ مِنْ طَاقَةٍ فِي زَنْبِيلٍ مِنَ ٱلسُّورِ، وَنَجَوْتُ مِنْ يَدَيْهِ».
أعمال ٩: ٢٤ و٢٥
الأرجح أن البيت الذي كان فيه وقتئذ وتدلى من كوته كان على سور المدينة. وعلى مثل هذا الأسلوب كانت نجاة الجاسوسين اللذين أرسلهما يشوع (يشوع ٢: ١٥) ونجاة داود من يد شاول الملك (١صموئيل ٢: ١٢). والأرجح أن الزنبيل الذي دُلي بولس به كان كبيراً مما استخدمه الناس يومئذ لحفظ الحبوب وما شاكلها.

فوائد



  • إن الافتخار بالمقتنيات والأعمال كثيراً ما يكون جهلاً وعلامة الكبرياء ولكنه قد يكون واجباً ضرورياً لوقاية الصيت وإنشاء المجد لله. فيجب أن يكون السلوك في هذا كالسلوك في إعطاء الصدقات وقانونها أن تُعطى في الخفاء حتى أن اليد اليسرى لا تدري بما تفعله اليمنى ولكن قد يجب أن نظهر الصدقة لكي تحث غيرنا على بذل أموالهم في سبيل الله (ع ١).
  • إنه يجب أن تكون الكنيسة المسيحية طاهرة لأنها عروس الحمل الذي بلا دنس وهي ستتمثل أمامه. فكم يجب أن تجتهد في أن تتجنب كل شرّ وشبه الشرّ وأن لا تتدنس بالعالم كالملائكة الذين يأتون إلى هذا العالم الخدمة المحبة أو النقمة ولا يلحق بهم شيء من دنسه (ع ٢).
  • إنه من شديد الأخطار أن يُخدع المسيحي حتى يترك بساطة إيمانه بالمسيح واستقامة سيرته فإن الشيطان يرغب في إهلاكه فلا يترك شيئاً من الوسائل إلى زرع الشكوك في قلوب المؤمنين من جهة كلام الله وحملهم أن يزيدوا على ما أمر به المسيح من شأن عبادته أو ينقصوا منه أو حملهم على مشاكلة العالم في ملاهيه وأزيائه (ع ٣).
  • إننا نتعلم مما احتمل بولس وأمثاله في سبيل الإنجيل وفرة ما أنفقوا من دمهم وأتعابهم ودموعهم علاوة على ما احتمله سيدهم لإثبات ديننا. أفلا يجب علينا أن نعتبر هذا الكنز كل الاعتبار بالنظر إلى ما قام به سلفاؤنا لكي يوصلوه إلينا وأن نحفظه على ما هو من الطهارة والكمال ونوصله كذلك إلى غيرنا ولو اقتضت الحال أن نخاطر بأنفسنا بغية كل ذلك. فهل يجوز أن نمسك مالنا عن بث بشرى الخلاص وألوف وربوات بذلوا حياتهم في سبيلها (ع ٢٣ - ٣٣).
  • إن ما عمله واحتمله بولس لأجل الدين المسيحي من أقوى الأدلة على صحة هذا الدين إذ لم تكن له غاية من أن يترك كل شرفه ورجائه في المذهب اليهودي ويتمسك بالمذهب المسيحي ويشغل السنين الكثيرة بأشد الأتعاب والآلام لكي يشهد بصحته للعالم سوى أنه اقتنع بأنه حق خالص (ع ٢٣ - ٣٣).
  • إنه لو رغب كل مسيحي اليوم أن يتعب كما تعب بولس في سبيل الإنجيل وأن يحتمل ما احتمله لما شك أحد في أنه كانت معرفة الفداء بيسوع المسيح تبلغ كل أقاصي الأرض. فلا أحد يقدر أن يثبت أنه عمل أكثر مما يجب أن يعمله أو احتمل أكثر مما يجب أن يحتمله. فيجب أن نعمل ما عمله بولس لأن العالم اليوم في نفس الاحتياج الذي كان في أيامه إلى معرفة الخلاص بالمسيح. والإنجيل لم يزل إلى الآن قوة الله للخلاص كما كان يومئذ وثواب الخدمة بالأمانة لا يزال كما كان (ع ٢٣ - ٣٣).
  • إنه إذا جرب خادم المسيح اليوم بأن يتذمر من وفرة أتعابه وهمومه وكفر الذين يخدمهم بمعروفه ومن المصائب التي تنزل به فليقرأ جدول مصائب بولس في هذا الأصحاح ويتعلم القناعة والشكر لله (ع ٢٣ - ٣٣).
  • إن الله يعلم كل أتعاب عبيده وضيقاتهم وهذا تعزية لهم بأن يستشهدوه بخلوص غايتهم وجودة مقاصدهم وأمانتهم في أعمالهم. وبأن يتحققوا مع إهانة الناس لهم واضطهادهم أو قتلهم إياهم إنه يذكرهم يوم يجمع قديسيه ويعترف بهم قدام الملائكة والعالم ويثيبهم بقوله لكل منهم «نعماً أيها العبد الصالح ادخل إلى فرح سيدك» (ع ٣١).




الأصحاح الثاني عشر


رؤيا بولس العظيمة وبراهينه على صحة رسوليته وبيان غايته من ممارستها


قال بولس في هذا الأصحاح إنه لا يفتخر بعد ما فعله واحتمله لأن ذلك على خلاف ذوقه وميله وأنه يأتي إلى ما فعله الله من إعلاناته له فإنه خُطف إلى السماء الثالثة وسمع ما لا يؤذن في إعلانه فهذا له ولكل مصدقيه أقوى برهان على مسرة الله به من كل ما سبق من البراهين (ع ١ - ٦). وأن الله مع أنه أبان مسرته به أصابه ببلية جسدية مؤلمة لم يستحسن أن ينقذه منها لكي يحفظه متواضعاً (ع ٧ - ١٠) وإنه كان يصعب عليه أن يفتخر لكن أعداءه ألجأوه إليه لأنهم لم يقتنعوا بالأدلة الخارجية (ع ١١ و١٢). وإن كنيسة كورنثوس نفسها دليل قاطع على كونه رسول الحق لأنه هو أسس تلك الكنيسة وهي لم تنقص شيئاً من المواهب التي كانت في ما أسسها غيره من الرسل وأنها إن كانت ناقصة شيئاً فذلك الشيء الوحيد هو إباؤه أن يأخذ نفقة منها وإنه لا يزال يأبى ذلك (ع ١٣ - ١٨). وأن تبرئته لنفسه كان من زهيد الأمور عنده فلا يهمه ما يفتكره الناس فيه أو يقولونه إنما أهم الأمور عنده ما يفتكره الله فيه لأنه هو الديّان الأخير. والرسول خاف أنه يضطر عند إتيانه إلى كورنثوس أن يأتي في صورة ديّان وموبخ (ع ١٩ - ٢١).

رؤيا بولس العظيمة ع ١ إلى ٦


١ «إِنَّهُ لاَ يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ. فَإِنِّي آتِي إِلَى مَنَاظِرِ ٱلرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ».
ع ٧
لاَ يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ لأن ذلك مناف لميله ولما يُنتظر من المسيحي ولكن أجبره عليه أعداؤه بافترائهم ولهذا دعاه «غباوة» في ما سبق وكف عنه هنا اكتفاء بما مضى. ولعل بين هذه العبارة وبين العبارة من كلامه كلام مضمر تقديره «وعدلت عن الافتخار».
آتِي أي نظراً لما ذُكر آتي إلى موضوع آخر غير الافتخار لا عمل لي فيه ولا مدح لنفسي وهو مجرد ما فعله الله.
مَنَاظِرِ ٱلرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِه المناظر «وهي الرؤى» أعمّ من الإعلانات لا مكان الأولى بلا الثانية. والإعلانات أعظم لأنها تفسر معنى المناظر. ونسب كليها إلى الرب (أي الرب يسوع المسيح) لكونه منشئها لا لكونه موضوعها فاعتبره حياً مؤثراً في أفكاره وأحوال نفسه. وذُكر في سفر الأعمال رؤى أُخر رآها بولس (أعمال ٩: ٤ - ٦ و١٦: ٩ و١٨: ٩ و٢٢: ١٧ و١٨ و٢٣: ١١ و٢٧: ٢٣) وذُكرت رؤيا في (غلاطية ٢: ٢).
٢ «أَعْرِفُ إِنْسَاناً فِي ٱلْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةً. أَفِي ٱلْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ ٱلْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. ٱللّٰهُ يَعْلَمُ. ٱخْتُطِفَ هٰذَا إِلَى ٱلسَّمَاءِ ٱلثَّالِثَةِ».
رومية ١٦: ٧ وص ٥: ١٧ وغلاطية ١: ٢٢ أعمال ١٤: ١٩ و٢٢: ١٧
أَعْرِفُ إِنْسَاناً أراد بالإنسان نفسه ولا نعلم لماذا اختار الغيبة على التكلم والأرجح أتى ذلك تواضعاً لأنه شعر بضعفه وعدم استحقاقه فلم ير من اللائق أن يقول كانت لي أنا هذه الرؤيا المجيدة. أو لعله رأى أنه في هذه الرؤيا مثل شاهد لا فاعل.
فِي ٱلْمَسِيحِ هذا وصف اعتيد أن يوصف به المؤمن لاتحاده بالمسيح بواسطة الإيمان اتحاداً يحيا به حياة جديدة بمجرد حياة المسيح.
قَبْلَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةً هذا وقت حدوث الرؤيا. كتب هذه الرسالة إلى أهل كورنثوس سنة ٥٧ فيكون وقت حدوث الرؤيا سنة ٤٣ وكان يومئذ في طرسوس أو ما جاورها في كيليكية قُبيل أن سأله برنابا أن يأتي إليه ويساعده على التبشير في أنطاكية (أعمال ٩: ٣٠) فإذا لم تكن تلك الرؤيا هي التي رآها على طريق دمشق زمن تنصره فإن تلك كانت قبل هذه بنحو ست سنين أي سنة ٣٨. وكانت رؤياه حينئذ وهو على الأرض وكانت هذه وهو في السماء إذ خُطف إليها. وأسلوب الكلام يدل على أنه لم يذكر تلك الرؤيا لأحد قبل كتابة نبإها هنا. وذكر تاريخها بالتدقيق بياناً لشأنها عنده.
أَفِي ٱلْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ ٱلْجَسَدِ لا شيء في هذا من الشك في حدوث الرؤيا أو في اختطافه إلى السماء بل في حاله حينئذ وهي كون نفسه منفصلة عن جسده أو كونها لا تزال فيه. فالسماء محل كما أنها حال فجسد المسيح الممجد يحتاج إلى محل.
ٱخْتُطِفَ أي اختطفه آخر فلا فعل له في ذلك (١ملوك ١٨: ١٢ و أعمال ٨: ٣٩ و١تسالونيكي ٤: ١٧). وما حدث لحزقيال النبي (حزفيال ٨: ٣ و١١: ١) يختلف عما حدث لبولس بكونه نُقل في الرؤيا من بابل إلى أورشليم ولم يخطف حقيقة.
ٱلسَّمَاءِ ٱلثَّالِثَةِ ويعبر عنها بسماء السموات. فالسماء الأولى سماء السحب والطيور. والسماء الثانية سماء الكواكب. والثالثة سماء مظهر المجد الإلهي ومسكن المسيح بالجسد والملائكة والقديسين.
٣ «وَأَعْرِفُ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ. أَفِي ٱلْجَسَدِ أَمْ خَارِجَ ٱلْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. ٱللّٰهُ يَعْلَمُ».
هذه الآية مكرر الآية الثانية للتقرير.
٤ «أَنَّهُ ٱخْتُطِفَ إِلَى ٱلْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا».
لوقا ٢٣: ٤٣ ورؤيا ٢: ٧
ٱخْتُطِفَ إِلَى ٱلْفِرْدَوْسِ ذكر الفردوس هنا بدلاً من السماء الثالثة في الآية الثانية يدل على وحدة معنييهما. والفردوس فارسي الأصل ومعناه جنة وعبّر به اليهود عن جنة عدن أولاً ثم عن مسكن المتوفين من الأتقياء. وهو الذي يجري فيه نهر الحياة خارجاً من عرش الله وفيه شجر الحياة (رؤيا ٢: ٧ و٢٢: ١ و٢).
كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا تفسير هذه العبارة في العبارة التي تليها.
لاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا أي لم يؤذن الله بإعلانها للبشر فكانت لتعزية الرسول وتنشيطه. وما قصد الله أن يعرفه كل الناس من أمور السماء أعلنه في كتابه وخلاصته هو أن القديسين فيها كاملو القداسة والسعادة.
٥ «مِنْ جِهَةِ هٰذَا أَفْتَخِرُ. وَلٰكِنْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِي لاَ أَفْتَخِرُ إِلاَّ بِضَعَفَاتِي».
ص ١١: ٣٠
مِنْ جِهَةِ هٰذَا أَفْتَخِرُ الإشارة بهذا إلى الإنسان الذي ذكره منذ أربع عشرة سنة قبل كتابة هذه الرسالة وذلك الإنسان هو هو نفسه لكنه تكلم عليه كأنه غيره دفعاً للتصريح بنسبة الافتخار إلى نفسه. وكأنه صعب عليه أن يعتبر أنه منذ تلك المدة بعد كل ما مضى عليه من المصائب والمشقات والأتعاب وغير ذلك من النوازل هو صاحب هذه الرؤيا. وساغ له أن يفتخر بما حدث له حينئذ لأنه حصل عليه من نعمة الله وإحسانه لا من فعله ولا من استحقاقه.
مِنْ جِهَةِ نَفْسِي لاَ أَفْتَخِرُ أي من الصفات والأعمال الشخصية التي يمكن الإنسان أن يفتخر بها.
إِلاَّ بِضَعَفَاتِي رجع إلى صيغة التكلم لما رجع إلى بيان ضعفه فقال إن الموضوع الوحيد الذي يرضى الافتخار به هو ما بين ضعفه ونقصانه وذكر من تلك الضعفات واحدة مثالاً لسائرها في الآية السابعة.
٦ «فَإِنِّي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَفْتَخِرَ لاَ أَكُونُ غَبِيّاً، لأَنِّي أَقُولُ ٱلْحَقَّ. وَلٰكِنِّي أَتَحَاشَى لِئَلاَّ يَظُنَّ أَحَدٌ مِنْ جِهَتِي فَوْقَ مَا يَرَانِي أَوْ يَسْمَعُ مِنِّي».
ص ١٠: ٨ و١١: ١٦
إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَفْتَخِرَ لاَ أَكُونُ غَبِيّاً لأن الحق يكون معي فلا أفتخر باطلاً.
وَلٰكِنِّي أَتَحَاشَى الخ لم يرد أن يعتبره أحد بمقتضى ما قاله في نفسه من المدح بل بمقتضى ما رآه فيه وسمعه من تعليمه. فكره أن يصل إلى كورنثوس والناس يعظمونه في تصوراتهم بناء على ما قاله في نفسه ويجدونه دون ما تصوروه.

براهين بولس على صحة رسوليته وبيان غايته من ممارستها ع ٧ إلى ٢١


٧ «وَلِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ ٱلإِعْلاَنَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي ٱلْجَسَدِ، مَلاَكَ ٱلشَّيْطَانِ، لِيَلْطِمَنِي لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ».
حزقيال ٢٨: ٢٤ وغلاطية ٤: ١٣ و١٤ أيوب ٢: ٧ ولوقا ١٣: ١٦
ذكر الرسول في الآية السادسة ما عزم عليه لكيلا يظنه الناس فوق منزلته. وذكر في هذه الآية ما فعله الله معه لئلا يعتبر نفسه فوق منزلتها لأنه من المعلوم أن الناس عرضة للخطر من أن يتخذوا اعتبار العظماء لهم سبيلاً إلى تعظمهم في أعين نفوسهم. وكان الرسول عرضة لخطر الكبرياء الروحية بعلامات رضى الله الخاصة.
لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ ٱلإِعْلاَنَاتِ أي الرؤى والإعلان الذي ذكره هنا وغيره من أمثاله حين كشف له الله من كنوز علمه ما كتمه على غيره من الناس.
أُعْطِيتُ من الله فإنه هو الذي أنزل المصاب الذي طلب بولس النجاة منه.
شَوْكَةً فِي ٱلْجَسَدِ أي نازلة جسدية مؤلمة جداً إيلام شوكة أُدخلت في الجسد بعنف. وعبر عنها في رسالته إلى غلاطية بتجربته التي في جسده (غلاطية ٤: ١٤). وتعيين كونها في الجسد يمنع من التسليم بالآراء المختلفة مثل كونها وسواساً شريراً ألقاه الشيطان في ذهنه أو عدواً خاصاً لا ينفك يقاومه أو شيئاً آخر مما ذكره في جدول مصائبه (ص ١١: ٢٢ - ٣٢). أو تأنيباً له من ضميره على ما صدر منه وهو يضطهد المسيح وكنيتسه. أو خوفاً من أن الله لا يغفر له وأنه يهلك هلاكاً أبدياً. وظن بعضهم أن تلك الشوكة مرض مؤلم في عينيه والذي يقوى هذا الرأي قوله في مؤمني غلاطية أنهم كانوا على استعداد أن يقلعوا عيونهم لو أمكنهم ذلك ويعطوه إياها (غلاطية ٤: ١٥). وأنه كان يستخدم دائماً من يكتب له. وكان حين يختم الرسالة بخط يده يكبر الحروف (غلاطية ٦: ١١) ولكن بعد مراجعة كل الآراء في ذلك والتأمل فيها نضطر إلى أن نعترف بعدم معرفتنا الرأي الصحيح.
مَلاَكَ ٱلشَّيْطَانِ كثيراً ما ذكر الكتاب المقدس أن مسبب الأمراض الجسدية الشيطان فإذاً يصح أن يُعبر عن المرض بملاك الشيطان أي رسوله ومن أمثال ذلك قروح أيوب (أيوب ٢: ٧). وروح الضعف الذي انحنت به إحدى النساء ثماني عشرة سنة (لوقا ١٣: ١٦). ويؤيد هذا قول بولس أن الشيطان عاقه مراراً عن سفره (١تسالونيكي ٢: ١٨). وتسليمه بعض الناس للشيطان لهلاك أجسادهم وخلاص نفسهم (١كورنثوس ٥: ٥ و١تيموثاوس ١: ٢٠). وتعبير بطرس الرسول عن شفاء المسيح المرضى بأنه كان «يَشْفِي جَمِيعَ ٱلْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ» (أعمال ١٠: ٣٨).
إن الشيطان مستعد أبداً لإيذاء الناس فأعطاه بولس شوكة في جسده لا يحتاج إلا إلى أن يأذن الله لعدو البشر في أن يفعل ما يرغب في فعله دائماً.
لِيَلْطِمَنِي أي يضرب خديّ. وكنى بذلك عن إيذاء الشيطان إياه.
لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ أي لئلا أتكبر ولأبقى متواضعاً وهذا كما قال في أول الآية وهو غاية الله من سماحه بإيلام رسوله. ولنا من ذلك أن مصيبة الرسول كانت دائمة ونتعلم منه أن الله قادر على أن يجعل الآلام الجسدية واسطة تقديس للمؤمنين وأن الكبرياء يكرهها الله كثيراً وأن كل مسيحي عرضة لها فيعلمه الله بواسطة الوجع ضعفه وافتقاره إليه تعالى والخضوع له والصبر والتواضع.
٨، ٩ «٨ مِنْ جِهَةِ هٰذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. ٩ فَقَالَ لِي: تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي ٱلضَّعْفِ تُكْمَلُ. فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِٱلْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحُلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ ٱلْمَسِيحِ».
ص ١١: ٣٠ ١بطرس ٤: ١٤
مِنْ جِهَةِ هٰذَا تَضَرَّعْتُ أي أن مصابه ألجأه إلى الصلاة.
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كما صلى المسيح ثلاثاً بغية أن تعبر عنه كأس الآلام فكان الجواب ليس المطلوب نفسه بل المساعدة على الاحتمال (متى ٢٦: ٣٦ ولوقا ٢٢: ٤٢ - ٥٤). وليس المراد أنه كرر الطلب ثلاثاً في وقت واحد بل أنه جعل ذلك موضوع ثلاث صلوات.
أَنْ يُفَارِقَنِي أي المصاب الذي كان بمنزلة ملاك الشيطان.
فَقَالَ لِي أي في الصلاة الثالثة. فقول الرب له حيئنذ بمعنى قوله تعالى لموسى لما سأله أن يدخل أرض الميعاد مع الإسرائيليين «كَفَاكَ! لاَ تَعُدْ تُكَلِّمُنِي أَيْضاً فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ» (تثنية ٣: ٢٦). ولم يخبرنا الرسول بأي طريق كلمه الرب لكنه اقتنع بأن المتكلم هو المسيح.
تَكْفِيكَ نِعْمَتِي أبى الله إزالة وجعه لكنه وهب له بركة أعظم منها فأكد حبه إياه وهذا يشمل كل البركات فكأنه قال يكفيك أني أحبك فخذ هذا التوكيد فإنه خير لك من إزالة تلك الشوكة لأن في رضى الله حياة ورحمته أفضل من الحياة (مزمور ٣٠: ٥ و٦٣: ٣).
لأَنَّ قُوَّتِي فِي ٱلضَّعْفِ تُكْمَلُ أي أن الله وعده أن يجعل ضعفه هذا مصدر قوة لأن شعور الإنسان بضعفه شرط لإظهار الله قوته. وهكذا شعورنا بجهلنا يجعلنا أهلاً لقبول تعليم المسيح. فإن عجز الطفل يدعو أمه إلى الحنو عليه وأباه إلى العناية به. وكذا ضعفنا يحمل المخلص القادر على كل شيء أن يساعدنا. ولعل من أعظم الأسباب التي ألجأت بولس إلى طلبته إزالة الشوكة ظنه أنها تمنعه من أن ينفع غيره لكن الله رأى خلاف ذلك فالطبيب أدرى من العليل بما ينفعه وبما يضره والله أعلم من بولس فاختار أن يعطيه ما تقضتيه حكمته لا ما اقتضاه إلحاح رسوله.
أَفْتَخِرُ بِٱلْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي أراد بالضعفات شوكته وسائر ما يماثلها من المصائب ففضل بقاءها فيه على النجاة منها إذ كانت وسيلة هبة المسيح له نعمته وقوته.
لِكَيْ تَحُلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ ٱلْمَسِيحِ سر الرسول بالمصائب التي تبيّن له ضعفه وافتقاره إلى المسيح لأنها كانت وسيلة إلى حلول قوة المسيح عليه. حسب كثيرون فضيلة عظيمة لهم أن يحتملوا المصائب بالصبر لكي تحل قوة المسيح عليهم. وأما بولس فزاد عليهم بأنه سرّ وافتخر بضعفاته معتبراً أن المسيح يتمجّد بها. ويتمجّد المسيح بضعفات شعبه لأن ليس لهم قوة في أنفسهم على فعل ما يطلب منهم فيضع كنز البشارة في الآنية الخزفية ليكون كل المجد له فبجهالة البشرى يخلص المؤمنين. فإنه بواسطة اثني عشر من عامة الناس الذين لا غنى لهم ولا سطوة ولا جيوش أسس كنيسته في العالم ونشر دينه في أقطار المسكونة يومئذ. وبواسطة أناس ضعفاء قليلي العدد بث إنجيله في العالم كله وترك بعض الأمم الوثنية عبادة الأوثان وتمسكت بعبادة الإله الحق.
١٠ «لِذٰلِكَ أُسَرُّ بِٱلضَّعَفَاتِ وَٱلشَّتَائِمِ وَٱلضَّرُورَاتِ وَٱلٱضْطِهَادَاتِ وَٱلضِّيقَاتِ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ».
رومية ٥: ٣ وص ٧: ٤ ص ١٣: ٤
أُسَرُّ بِٱلضَّعَفَاتِ قال سابقاً «أفتخر بضعفاتي» والفرق بينهما أن الافتخار الإعلان ظاهراً لما يُسرّ به باطناً. وسُرّ بها بالنظر إلى نتائجها لا إلى ذواتها. وأشار «بالضعفات» هنا إلى ما ذكره في (ص ١١) من النوازل التي ألمت بطبيعته الجسدية وطبيعته الروحية وظهر بها ضعفه وجمع إليها «الشوكة» المذكورة التي قال فيها أحد اللاهوتيين لعل بولس رآها في السماء مضفورة في إكليل مجده.
وَٱلشَّتَائِمِ التي بها طعن فيه أعداءه كما مرّ في (ص ١: ١٧ و٣: ١ و٧: ٨ و٨: ٢ و١٠: ١٠ و١١: ٦ و٨ و١٦).
ٱلضَّرُورَاتِ... وَٱلضِّيقَاتِ كما ذُكر في (ص ١١).
لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ هذا علة سروره بمصائبه لأنها نزلت به باعتبار كونه خادم المسيح ولأنه اعتبر أن المسيح سمح بنزولها به وتيقن أن المسيح يتمجد باحتماله إياها وأنها تكون وسيلة نيله النعمة والقوة من المسيح. فلم يبتهج بالمصائب من حيث أنها مصائب لأن الألم لا يلذ لبولس كما لا يلذ لغيره ولم يسرّ بما جلبه هو من الآلام على نفسه اختياراً ولا بما نتجت عن جهله وخطيته بل بما وقع عليه في خدمة سيده. فعلى كل مسيحي حقيقي أن يقول مع المسيح «الكأس التي أعطانيها الآب ألا أشربها».
حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ الخ أي شعوره بضعفه جعله يتمسك بذراع المسيح القوية وجعل المسيح يأخذ بيده. فالذين يشعرون بضعفهم هم أهل أن يقبلوا قوة من العلى فحين نشعر بالعجز عن تغيير قلوبنا وتكفير خطايانا وأمانة شهوات قلوبنا الرديئة ومقاومة الشيطان والعالم وتبرير أنفسنا بأعمالنا وجعل غيرنا صالحاً ونعترف بذلك العجز ونستعين بالله حينئذ يظهر الله قوته فينا ولنا.
١١ «قَدْ صِرْتُ غَبِيّاً وَأَنَا أَفْتَخِرُ. أَنْتُمْ أَلْزَمْتُمُونِي! لأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ، إِذْ لَمْ أَنْقُصْ شَيْئاً عَنْ فَائِقِي ٱلرُّسُلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيْئاً».
ص ١١: ١ و١٦ و١٧ ص ١١: ٥ وغلاطية ٢: ٦ إلى ٨ ١كورنثوس ٣: ٧ و١٥: ٨ و٩ وأفسس ٣: ٨
صِرْتُ غَبِيّاً وَأَنَا أَفْتَخِرُ لأني أعتقد أن كل افتخار غباوة ولا يوافق دعوتي مسيحياً ورسولاً وينافي انفعالاتي وعوائدي.
أَنْتُمْ أَلْزَمْتُمُونِي ولذلك جاز لي أن أفتخر والذين ألزموه مسيحيو كورنثوس فكان يجب عليهم أن يحاموا عن الرسول ولا يصغوا إلى طعن أعدائه فيه.
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ أي أنهم لو فعلوا ما يجب عليهم من المحاماة عن الرسول وحمايته من افتراء المعلمين الكاذبين عليه ما احتاج إلى المحاماة عن نفسه. فكل الذي يقدرون أن يحاموا عن الأتقياء عند الافتراء عليهم مكلفون بالمحاماة عنهم فيجب أن يدفعوا عن صيتهم كما يدفعون اللصوص عن أموالهم والقتلة عن حياتهم. فسكوتنا عن قدح الناس فيهم بما نعلم أنه كذب يجعلنا شركاءهم في ذلك. وأذنب مؤمنو كورنثوس في أمر الرسول لأن لهم براهين كافية على صحة دعواه أنه رسول وصحة أمانته.
لَمْ أَنْقُصْ شَيْئاً عَنْ فَائِقِي ٱلرُّسُلِ بطرس ويعقوب ويوحنا الذي سموا أعمدة (غلاطية ٢: ٩). فإن أولئك الرسل لم يعطوا الكنائس التي أسسوها من مواهب الروح القدس ما لم يُعط بولس كنيسة كورنثوس. ونجاحهم في التبشير بالإنجيل لم يكن أكثر من نجاح بولس وبيناتهم على رسوليتهم بما عملوا من المعجزات لم تكن أكثر من بيناته كما يظهر من الآية الآتية. فعدم محاماة مؤمني كورنثوس عن رسولهم كفرٌ بإحسانه وجبن وظلم منهم.
وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيْئاً في عيني نفسي. إن بولس اعتبر أن ما كان له كان من نعمة الله أي هبته المجانية فلم يبق موضع للإعجاب بنفسه ولا للكبرياء (١كورنثوس ٤: ٧). إنه شعر بعجزه وعدم استحقاقه أمام الله وعظم قوة الروح القدس الذي وهب له المعرفة والنعمة والقدرة. وهذا موافق لقوله قبلاً «بنعمة الله أنا ما أنا الخ» (١كورنثوس ١٥: ٨ - ١٠).
١٢ «إِنَّ عَلاَمَاتِ ٱلرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ».
رومية ١٥: ١٨ و١٩ و١كورنثوس ٩: ٢ وص ٤: ٢ و٦: ٤ و١١: ٦
إِنَّ توكيد للجملة ما بعدها وهي بيان كونه ليس بأقل من فائقي الرسل.
عَلاَمَاتِ ٱلرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ أي المعجزات التي صنعها هو وهي بينات أن الله أرسله وشهادات الله له وخطئ الذين شاهدوها وأبوا الاعتراف برسولية صانعها. وكذلك يخطأ الذين يدعون أنهم رسل أو خلفاء الرسل ولم يأتوا بمثل تلك البيّنات ومثلهم الذين يقفون بهم (ص ١١: ١٣ - ١٥ ورؤيا ٢: ٢).
وعلامات رسولية الرسل بمقتضى الإنجيل متنوعة منها المعرفة الكاملة بحقائق الإنجيل بواسطة إعلان المسيح (غلاطية ١: ١٢ و١كورنثوس ١٥: ٣) ووحي الروح القدس الذي جعلهم معصومين من الغلط في تبليغ الحق (١كورنثوس ٢: ١٠ - ١٣ و١٢: ٨ و٢٨ و١٤: ٣٧) وتأثيرات خاصة من الله تثبت دعواهم أنهم رسل (غلاطية ١: ٨) وأمانتهم للحق (غلاطية ١: ٨ و٩) ونجاحهم في التبشير (١كورنثوس ٩: ٢ وص ٣: ٢ و٣) وقوة منح الروح القدس لمن يضعون أيديهم عليه (أعمال ٨: ١٧ و١٨ و١٩: ٦). وقوة عمل المعجزات (كما ذكر في هذه الآية وفي (رومية ١٥: ١٨ و١٩ وعبرانيين ٢: ٤ ومرقس ٤: ٢٠ وأعمال ٥: ١٢).
فِي كُلِّ صَبْرٍ لم يحسب احتماله الضيقات من علامات كونه رسولاً فصرّح بأنه عمل أمامهم المعجزات وهو في أحوال ضيق أوجبت عليه شديد الصبر.
بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ هذه الكلمات الثلاث تصدق على شيء واحد وهو المعجزات فإن المعجزة آية بالنظر إلى غايتها وهي إثبات دعوى صانعها وعجيبة بالنظر إلى تأثيرها في المشاهدين وقوة بالنظر إلى ظهور قوة الله بها.
١٣ «لأَنَّهُ مَا هُوَ ٱلَّذِي نَقَصْتُمْ عَنْ سَائِرِ ٱلْكَنَائِسِ، إِلاَّ أَنِّي أَنَا لَمْ أُثَقِّلْ عَلَيْكُمْ؟ سَامِحُونِي بِهٰذَا ٱلظُّلْمِ».
١كورنثوس ١: ٧ و١كورنثوس ٩: ١٢ وص ١١: ٩ ص ١١: ٧
مَا هُوَ ٱلَّذِي نَقَصْتُمْ عَنْ سَائِرِ ٱلْكَنَائِسِ هذا استفهام إنكاري متعلق بالآية الحادية عشرة وبيان أنه ليس أنقص من سائر الرسل لأنهم لم ينقصوا شيئاً عن سائر الكنائس المسيحية.
إن الكنائس التي أسّسها بولس ليست أقل عدداً ومعرفة ونعمة من الكنائس التي أسّسها غيره من الرسل فإذا هو معادل لهم. وهذا كقوله «فَإِنَّ ٱلَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ» (غلاطية ٢: ٨ انظر ١كورنثوس ١: ٥ - ٧).
إِلاَّ أَنِّي أَنَا لَمْ أُثَقِّلْ عَلَيْكُمْ بأخذ النفقة.
سَامِحُونِي بِهٰذَا ٱلظُّلْمِ دعا ذلك ظلماً لكونه في الظاهر نتيجة عدم الثقة بهم كأنه شك في كرمهم ومحبتهم إذ أخذ من غيرهم ما أبى أن يأخذه منهم لكنه أبان في الأصحاح السابق أن ذلك لم يكن ناتجاً عن عدم ثقته بهم ومحبته لهم بل لأسباب ذكرها.
١٤ «هُوَذَا ٱلْمَرَّةُ ٱلثَّالِثَةُ أَنَا مُسْتَعِدٌّ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ وَلاَ أُثَقِّلَ عَلَيْكُمْ. لأَنِّي لَسْتُ أَطْلُبُ مَا هُوَ لَكُمْ بَلْ إِيَّاكُمْ. لأَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلأَوْلاَدَ يَذْخَرُونَ لِلْوَالِدِينَ بَلِ ٱلْوَالِدُونَ لِلأَوْلاَدِ».
ص ١٣: ١ أعمال ٢٠: ٣٣ و١كورنثوس ١٠: ٣٣ و١كورنثوس ٤: ١٤ و١٥
هُوَذَا ٱلْمَرَّةُ ٱلثَّالِثَةُ لم يذكر لوقا في سفر الأعمال من زيارات بولس لكورنثوس قبل كتابة هذه الرسالة سوى زيارة واحدة (أعمال ص ١٨) لكن ما ذكره بولس هنا وفي (ص ٢: ١ و١٣: ١ و٢) يؤكد أنه زارهم مرتين قبل ذلك. والأرجح أن الزيارة الثانية كانت في أثناء السنين الثلاث التي تقضت عليه في أفسس (أعمال ص ١٩).
لاَ أُثَقِّلَ عَلَيْكُمْ بأخذ النفقة كما سبق مرتين واعتمد أنه لا يأخذ منهم شيئاً للسببين الآتيين.
لأَنِّي لَسْتُ أَطْلُبُ مَا هُوَ لَكُمْ بَلْ إِيَّاكُمْ هذا السبب الأول. والمعنى أنه لا غاية شخصية له يجتهد في إدراكها لكنه يبتغي أن يربح نفوسهم للمسيح لا أموالهم لنفسه إذ تيقن أن ربحه نفوسهم بترك النفقة أكثر منه بأخذها.
لأَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلأَوْلاَدَ يَذْخَرُونَ الخ هذا السبب الثاني ومفاده أنه بمنزلة أب لهم (١كورنثوس ٤: ١٤ و١٥) وليس من الترتيب الطبيعي أن الأولاد ينفقون على الوالدين بل منه أن الوالدين ينفقون على الأولاد. فسألهم أن يأذنوا له أن يجري معهم مجرى الوالد مع الأولاد وأن لا يصعب عليهم إباؤه أن يأخذ منهم شيئاً منن أسباب المعاش.
ولا شيء مما قاله الرسول هنا يستلزم أن الأولاد غير مكلفين بالنفقة على والديهم إذا افتقروا أو احتاجوا ولكن هذا نادر بالنسبة إلى ما نراه في كل العالم من أن الوالدين يعتنون بالأولاد.
١٥ «وَأَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ كُنْتُ كُلَّمَا أُحِبُّكُمْ أَكْثَرَ أُحَبُّ أَقَلَّ!».
فيلبي ٢: ١٧ و١تسالونيكي ٢: ٨ يوحنا ١٠: ١١ وص ١: ٦ وكولوسي ١: ٢٤ و٢تيموثاوس ٢: ١٠ ص ٦: ١٢ و١٣
ما ذُكر في هذه الآية من أعظم بيّنات المحبة وهو إنكار الذات في سبيل نفع المحبوبين وهذا ما يأتيه الوالد المحب في الاعتناء بأولاده. ومثل هذه المحبة تحمل الوالدين على مداومة الاعتناء بالأولاد وإن شك الأولاد فيها وعدلوا عن محبتهم. فصرّح بولس هنا بأن محبته لمؤمني كورنثوس مثل تلك المحبة.
فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ أي مستعد أن أنفق مالي عليكم بلا مجازاة.
وَأُنْفَقُ أي تُبذل حياتي وقوتي في طريق منفعتكم فأكون بمنزلة ذبيحة عنكم بلا مكافأة.
كُلَّمَا أُحِبُّكُمْ أَكْثَرَ ولذلك استمرّ على أن لا أقبل منكم شيئاً من النفقة.
أُحَبُّ أَقَلَّ شككتم أيها الكورنثيون فيّ فضعفت محبتكم لي. ولا يخفى ما في هذا القول من التوبيخ اللطيف على أنهم لم يلتفتوا حق الالتفات إلى عظمة حبه إيّاهم وشدة تعبه وإنكاره نفسه لأجلهم فيثيبوه على محبته لهم بمثلها. فما كابده من الحزن بمعاملتهم إيّاه كما ذُكر مما جعله «ينفق» بأكثر سرعة.
١٦ «فَلْيَكُنْ. أَنَا لَمْ أُثَقِّلْ عَلَيْكُمْ. لٰكِنْ إِذْ كُنْتُ مُحْتَالاً أَخَذْتُكُمْ بِمَكْرٍ!».
ص ١١: ٩
في هذه الآية اعتراض من المعلمين الكاذبين عَلمَ بولس أنهم مستعدون إلى التصريح به فسبقهم إلى بيانه ودفعه وهو أن عدم قبوله النفقة بنفسه صحيح ولكنه أخذها بواسطة غيره.
فَلْيَكُنْ أي نعم نعم أني لم آخذ شيئاً من النفقة بيدي.
لٰكِنْ إِذْ كُنْتُ مُحْتَالاً الخ (كما يفعل الصيّاد بغية الصيد) على ما سيقول أعدائي والمعنى أنهم سيقولون أنه أخذ بواسطة غيره ما أبى أن يأخذه بيده أي حوّل إليهم أصحابه فربح بواسطتهم. وأرسل بعضهم ليجمعوا منهم إحساناً لفقراء أورشليم ومن يعلم ماذا أخذوا منها. وإذ علم أن ذلك في نفوسهم سبقهم إلى التصريح به ليدفعه قبل أن يخدعوا مؤمني كورنثوس به.
١٧، ١٨ «١٧ هَلْ طَمِعْتُ فِيكُمْ بِأَحَدٍ مِنَ ٱلَّذِينَ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَيْكُمْ؟ ١٨ طَلَبْتُ إِلَى تِيطُسَ وَأَرْسَلْتُ مَعَهُ ٱلأَخَ. هَلْ طَمِعَ فِيكُمْ تِيطُسُ؟ أَمَا سَلَكْنَا بِذَاتِ ٱلرُّوحِ ٱلْوَاحِدِ؟ أَمَا بِذَاتِ ٱلْخَطَوَاتِ ٱلْوَاحِدَةِ؟».
ص ٧: ٢ ص ٨: ٦ و١٦ و٢٢ ص ٨: ١٨
ذكر هنا الواقع لكي يبرهن بواسطته أنه لم يأخذ بمكر ما أبى أخذه جهاراً فإن مؤمني كورنثوس علموا أن لا أحد ممن أرسلهم أخذ منهم شيئاً من النفقة لأنفسهم واستشهدهم بالمسائل الآتية.
هَلْ طَمِعْتُ فِيكُمْ الخ (ع ١٧) هذا استفهام إنكاري بياناً أنه لم يرسل أحداً إليهم طمعاً في شيء من أموالهم كما هم يعملون يقيناً.
تِيطُسَ كان هذا وكيلاً لبولس ونائباً عنه فلو أراد أن يأخذ بواسطة أحد من أصحابه لكان تيطس الأولى. وإرساله تيطس إليهم ذُكر في (ص ٧: ٦ و٧ و١٣ و١٤). وعلى أثر هذا ذهب إلى مكدونية وأخبر بولس هناك بتوبتهم.
ٱلأَخَ لم يذكر اسمه ولعله ممن ذكرهم أنهم سيذهبون إليهم في (ص ٨: ١٨).
هَلْ طَمِعَ فِيكُمْ تِيطُسُ استشهدهم بهذا السؤال بياناً أنه لم يأخذ منهم شيئاً بواسطة «الأخ».
أَمَا سَلَكْنَا بِذَاتِ ٱلرُّوحِ ٱلْوَاحِدِ أي أما اشتركنا في روح إنكار النفس وكراهة الربح منكم أولم يكونوا مرشدين بالروح القدس مثلي. فأعمالهم جميعاً بيّنة على إخلاصهم واستقامتهم ومحبتهم وخلوهم من الطمع.
أَمَا بِذَاتِ ٱلْخَطَوَاتِ ٱلْوَاحِدَةِ أي أنه هو وكل الذين أرسلهم كانوا يسلكون في طريق واحد على أثر المسيح الذي ترك لنا مثالاً للسلوك.
١٩ «أَتَظُنُّونَ أَيْضاً أَنَّنَا نَحْتَجُّ لَكُمْ؟ أَمَامَ ٱللّٰهِ فِي ٱلْمَسِيحِ نَتَكَلَّمُ. وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ لأَجْلِ بُنْيَانِكُمْ».
ص ٥: ١٢ رومية ٩: ١ وص ١١: ٣١ و١كورنثوس ١٠: ٣٣
أَتَظُنُّونَ أَيْضاً أَنَّنَا نَحْتَجُّ لَكُمْ قال «أيضاً» لأنه احتجّ قبلاً (ص ٣: ١ و٥: ١٢) فأراد أن يدفع عنه في هذه الآية ظنين الأول أنه مسؤول لهم والثاني أن غايته نفسانية. والمعنى هل تظنون أني قلت ما قلته لمجرد أن أرضيكم وأحصل على مدحكم وأني اعتبرتكم قضاة ووقفت أمامكم للمحاكمة فأحتجّ لكي تبرروني.
أَمَامَ ٱللّٰهِ نَتَكَلَّمُ لا أمامكم فإنا تحت سلطته والمسؤولية له وقد تكلمنا كأننا في حضرته.
فِي ٱلْمَسِيحِ أي متحداً به باعتبار أني مؤمن به ورسول له.
لأَجْلِ بُنْيَانِكُمْ أي نفعكم الروحي بتثبيت إيمانكم ومحبتكم لا لغاية شخصية كانتشار الصيت والربح المالي. وهذا دفع ثان للظنين المذكورَين في تفسير أول هذه الآية.
٢٠ «لأَنِّي أَخَافُ إِذَا جِئْتُ أَنْ لاَ أَجِدَكُمْ كَمَا أُرِيدُ، وَأُوجَدَ مِنْكُمْ كَمَا لاَ تُرِيدُونَ. أَنْ تُوجَدَ خُصُومَاتٌ وَمُحَاسَدَاتٌ وَسَخَطَاتٌ وَتَحَزُّبَاتٌ وَمَذَمَّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وَتَكَبُّرَاتٌ وَتَشْوِيشَاتٌ».
١كورنثوس ٤: ٢١ وص ١٠: ٢ و١٣: ٢ و١٠
لاَ أَجِدَكُمْ كَمَا أُرِيدُ، وَأُوجَدَ مِنْكُمْ كَمَا لاَ تُرِيدُونَ أبان بهذه العبارة أنهم محتاجون إلى البنيان الذي ذكره في الآية السابقة لأنه خاف أن يجدهم عند مجيئه على غير ما يرغب فيه مستوجبين التوبيخ والتأديب وأن يجدوه هم على غير ما يرغبون فيه من أن يكون موبخاً ومؤدباً. وهذا الخوف منعه من المجيء إليه قبلاً (ص ١: ٢٣ و١كورنثوس ٤: ٢١).
خُصُومَاتٌ أي اختلافات نتج عنها تحزب الكنيسة فكان بعضهم يقول «أَنَا لِبُولُسَ، وَأَنَا لأَبُلُّوسَ، وَأَنَا لِصَفَا» (١كورنثوس ١: ١٢)
مُحَاسَدَاتٌ وهي المحاسد التي تقترن غالباً بالتحزب والانشقاق.
وَسَخَطَاتٌ أي غضبات لا تنفك عن الخصام والحسد.
وَتَحَزُّبَاتٌ أي تفرق الكنيسة أحزاباً وهي نتيجة الخصومات وذُكر من تلك الأحزاب أربعة في (١كورنثوس ١: ١٢).
مَذَمَّاتٌ من طعن وهجو وسبّ. وعنها نهى يعقوب الرسول (يعقوب ٤: ١١) وبطرس (١بطرس ٢: ١).
نَمِيمَاتٌ السعي بين المتآلفين بكلام الذم لإيقاع الوحشة بينهم.
تَكَبُّرَاتٌ وهذه مما مالت إليه كنيسة كورنثوس كثيراً (١كورنثوس ٤: ٦ و١٨ و١٩ و٥: ٢ و٨: ١ و١٣: ٤).
تَشْوِيشَاتٌ اختلاطات وعدم ترتيب في الكنيسة والهيئة الاجتماعية والمدنية. ومما يدل على تشويشاتهم أنه حذرهم منها قبلاً بقوله «لأَنَّ ٱللّٰهَ لَيْسَ إِلٰهَ تَشْوِيشٍ» (١كورنثوس ١٤: ٣٣). ولا تخفى الصعوبة في التوفيق بين كثرة هذه الشرور التي خشي أن يجدها عند مجيئه في كنيسة كورنثوس وما قيل في (ص ٧) في شأن توبتهم وطاعتهم.
ذهب بعضهم إلى أنه مرّ وقت طويل بين بداءة كتابته لهذه الرسالة وإتمامها فكتب إلى نهاية الأصحاح التاسع ثم توقف عن الكتابة وبعد ذلك بلغه أن إصلاحهم لم يكن كما رجا. والمرجّح أن أكثر أعضاء الكنيسة كانوا قد تابوا وأطاعوا واستمروا على ذلك وسائرهم بقي على ما كان عليه من الشر والعناد فمدح الأولين في بداءة الرسالة وذم الآخرين ووبخهم هنا.
٢١ «أَنْ يُذِلَّنِي إِلٰهِي عِنْدَكُمْ، إِذَا جِئْتُ أَيْضاً وَأَنُوحُ عَلَى كَثِيرِينَ مِنَ ٱلَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَتُوبُوا عَنِ ٱلنَّجَاسَةِ وَٱلزِّنَا وَٱلْعَهَارَةِ ٱلَّتِي فَعَلُوهَا».
ص ٢: ١ و٤ ص ١٣: ٢ و١كورنثوس ٥: ١
أَنْ يُذِلَّنِي إِلٰهِي عِنْدَكُمْ هذا معطوف على «أن لا أحد الخ» في الآية السابقة فهو من مفاعيل خوفه. أن ما ملأ قلوب الرسل سروراً هو أن رأوا الكنائس التي أسسوها ثابتة في الإيمان والطاعة للحق والذي أحزنهم وأذلهم هو أن رأوها جائرة عن طريق الحق والقداسة فخاف بولس أن يجد علة للحزن والذل حين يأتي إليهم إذ لا يشاهد فيهم ما توقعه من أثمار أتعابه وصلواته.
إِذَا جِئْتُ أَيْضاً أي زرتكم ثالثة.
عَلَى كَثِيرِينَ الخ هم كثيرون بالنظر إلى أنفسهم وقليلون بالنسبة إلى الذين تابوا ومدحهم في (ص ٧). والخطايا المذكورة هنا هي ما كانت شائعة في مدينة كورنثوس لتعلقها بعبادة الأوثان فيها (انظر تفسير ١كورنثوس ٥: ١ و٦: ١٨). والكنيسة التي تألفت في تلك المدينة من متنصري الوثنيين كانت عرضة للسقوط في تلك الخطايا ولم يزل ذلك شأن الكنائس المؤلفة ممن كانوا عبدة أوثان.

فوائد



  • إنه حدث لبولس ما لم يستطع إيضاحه فاكتفى بأن يذكر الحادثة بدون أن يحاول بيانها تاركاً لله أن يبينها متى شاء فلو فعل كل اللاهوتيين كذلك لنجوا من بدع وضلالات وخصومات كثيرة. فلو تركوا لله الأسرار في مثل التثليث والتجسد وقيامة الأجساد لأراحوا أنفسهم والكنيسة. إن المعلنات لنا والسرائر للرب إلهنا فمتى شاء جعل السرائر معلنات (ع ٢).
  • إنه يجب علينا أن نشكر الله على ما أعلنه من أسرار السماء وأمجادها ليرينا الطريق إليها ويعزينا ونحن في مضايق هذه الحياة بأن يبين لنا أن السماء عالم الراحة والقداسة التي لا نهاية لها وأن نكتفي بما استحسن الله إعلانه لنا وأن لا نحاول كشف الحجاب بين العالَمين وأن لا نصدق الذين يدعون المخاطبة والمخالطة لأرواح الموتى ومعرفة ما لا يعرفه غيرهم من الأحياء بواسطة ذلك. إن موسى وإيليا رجعا من السماء إلى الأرض وشاهدهما الرسل ولكنهما لم يخبراهم بشيء من مشاهد السماء (يوحنا ٩: ٣١). ولعازر بقي ميتاً أربعة أيام ثم أحياه المسيح ولم يخبر بشيء (يوحنا ص ١١). وما سمعنا شيئاً من الموتى الذين قاموا يوم موت المسيح (متى ٢٧: ٥٢). فإن كنا لم نتعلم شيئاً من هؤلاء فمن العبث أن نتوقع الإفاداة من العرّافين اليوم.
  • إن بولس بقي ساكتاً نحو أربع عشرة سنة عن رؤياه العجيبة ولم ينبئ بها بعدئذ إلا اضطراراً. فيجب أن نتعلم من ذلك أن لا نفتخر بزيادة معرفتنا وتيقّننا خلاصنا وما حصلنا عليه من القداسة وغرائب استجابات صلواتنا بغية أن يعتبرنا الناس كثيراً عليها فالأولى أن نطلب أن يعتبرونا لما يروا فينا من حسن السيرة والاقتداء بالمسيح (ع ٦).
  • إن الله رأى المختار عرضة للكبرياء الروحية ولو من إعلاناته له فاستحسن أن يصيبه بمصاب مؤلم إماتة للكبرياء. أفليس المسيحي اليوم عرضة لمثل تلك التجربة ولا سيان إذا اشتهر بالمعرفة أو الفصاحة أو الاقتدار في الصلاة. أَ ولا يجب على كل واحد منا الآن أن يسهر ويصلي لكي لا يسقط في فخ الكبرياء القبيح. أَ ولا يجب عليه أن يحتمل بالصبر المصائب التي يرسلها الله عليه وأن يعتبرها رسل محبة لتحفظه متواضعاً (ع ٧).
  • إن الله يكره الكبرياء ولا سيما في المسيحيين ولكن هذا الشر متأصل في طبيعة البشر واستئصاله صعب جداً فالناس يتخذون علامات رضى الله بهم وسيلة إلى الافتخار والانتفاخ فيرى الله أنه ضروري لهم أن يقرن مراحمه الخاصة بمصائب خاصة دفعاً لذلك ولا يزيل عنهم تلك المصائب مهما طلبوا ذلك إلا متى رأى أنهم حصلوا على الغاية المطلوبة ومشوا بسكوت أمام الله (١ملوك ٢١: ٢٧) (ع ٧).
  • إن عدم استجابة الله لبعض صلواتنا ليس برهان أنه لم يسمعنا أو أنه لا يحبنا لأنه تعالى قد يُظهر حبه لنا بمسكه عنا المطلوب كما يظهره بإعطائه إيّانا. فهو مثل الوالد يمنع ابنه من النار حين يريد أن يلعب بها والطبيب الماهر يمنع المريض مما يشتهيه من الطعام الضار. وقد يمنعنا من البركة التي نطلبها لقصد أن ينعم علينا بأحسن منها فيمنع البركة الزمنية ليهب الروحية والبركة التي لا يهبها واحدة ألف مما يهبه. نعم أنه أبى أن يجيب صلاة موسى (تثنية ٣: ٢٣ - ٢٦) وصلاة داود (٢صموئيل ١٣: ١٦ و١٩) وصلاة ابني زبدي (مرقس ١٠: ٣٥ - ٤٠) وصلاة بولس هنا. ومثلما منع مطلوب هؤلاء منع مطلوب ابنه (متى ٢٦: ٣٩ - ٤٤) ومع هذا كله لم تزل صلاة البار الحارة تقتدر كثيراً (ع ٨ و٩).
  • إننا نستنتج مما قيل هنا أنه يحق لنا إذا أصبنا بمصاب ما أن نطلب إزالته بالحرارة والمواظبة ونستنتج أيضاً أنه لا بد من حد لمثل ذلك الطلب. فسيدنا يسوع طلب مراده ثلاثاً وبولس كذلك وكل منهما ترك الأمر حينئذ لمشيئة الله وعدل عن طلبته. ولا يلزم من ذلك أن لا نطلب الشيء الواحد من مثل ذلك إلا ثلاثاً بل أنه متى أعلن الله أنه لا يشاء الإجابة وجب علينا أن نخضع بسرور لإرادة الله ونسكت ومثال ذلك إذا طلبنا شفاء مريض أو إزالة عماء أو طرش من الآفات فيجب في مثل هذا أن نقول «لتكن مشيتئك» (ع ٨).
  • إنه لم يحدث قط أن يخسر المؤمن بالآلام والضيق لكنه يربح دائماً بدليل قول داود «خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ... قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا ٱلآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ» (مزمور ١١٩: ٧١ و٦٧). فعليه أن يحسب المصائب من جملة المراحم لأن الله يتخذها وسائل إلى إعداده لسكنى السماء وهي تجعل راحة السماء أشهى وأحب إليه حين يدركها. وعليه أن يسهر لئلا يخسر بجزعه المنفعة التي قصدها الله له (ع ٩).
  • إن شعور الإنسان بقدرته يجعله يتكل على نفسه وعرضة للسقوط كبطرس يوم قال «إن شك فيك الجميع فأنا لا اشك أبداً». وشعوره بضعفه يلجئه إلى أن يصرخ إلى الله ويتكل عليه. كان خطر الغرق على بطرس بعد أن أخذ يغرق وصرخ إلى المسيح ومسك المسيح بيده أقل منه حين نزل من السفينة ومشى على الماء متكلاً على نفسه (ع ٩).
  • إنه ليس من دين يقدر الإنسان على أن يقول «أسر بالضعفات» إلا الدين المسيحي فالفلسفة تقدره على أن يقول احتمل الضيقات بلا تذمر لأنها مقدرة على كل بشر والكفر يتركه يتذمر وييأس ولذة العالم ليست بكفء لتعلو الحزن ولا أن تنير وادي ظل الموت ولكن الدين المسيحي يقدره أن يترنم في السجن الداخلي (أعمال ١٦: ٢٥) ويبتسم عندما يدعوه الموت (ع ١٠).
  • إن أقدس الناس يمتازون بفرط تواضعهم وأقربهم من الله ينوحون لبعدهم عنه فالذي أعد له الله أسمى منزل في السماء يشعر بأنه لا يستحق أدنى منزل فيها (ع ١١).
  • يتبين أن بولس اعتبر إنفاق المال على خدم الإنجيل مما يجب أن يرغب فيه المسيحيون فيجب علينا أن نعتبره كذلك ولا نستثقله ولا نرهب منه (ع ١٣).
  • إنه يتضح مما قاله بولس وجوب أن نتعب نفعاً لغيرنا وإن لم يجازونا بسوى إنكار المعروف فإن غايتنا من السعي في نفعهم الطاعة لله شكروا أو لم يشكروا وأحبوا أو أبغضوا وبذلك نتمثل بالله الذي «يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ» (متى ٥: ٤٥) (ع ١٥).
  • إن من أعظم المحزنات التي تصيب المبشرين أن يروا الذين ظهر لهم أنهم دخلوا طريق الحياة وصاروا أتباع المسيح وتوقعوا أن يكونوا أكاليل سرورهم في اليوم الأخير يرتدون عن المسيح والسماء ويخطأون إلى الله وضمائرهم ويهبطون إلى هاوية الهلاك الأبدي. فويل للعالم من العثرات (ع ٢١).




الأصحاح الثالث عشر


إنذار المعاندين غير التائبين وحثهم على امتحان أنفهسم وختام الرسالة


اعتماد الرسول بعد التنبيه والتحذير أن يظهر سلطته الرسولية بعقاب المذنبين (ع ١ و٢). وأن يريهم وهم طالبون برهان رسوليته أنه وإن كان ضعيفاً في الجسد أخذ قوة فائقة الطبيعة من المسيح. فالمسيح ظهر أنه ضعيف بموته ومع ذلك كان ذا قوة إلهية كما تبرهن بقيامته من الموت وكذا الرسول كان من جهة ضعيفاً ومن جهة أخرى قوياً (ع ٣ و٤) ونصح لهم أن يمتحنوا أنفسهم بدلاً من أن يعرضوها للقصاص (ع ٥) ورجأ أن يقبلوه رسولاً لأنه رغب في بنيانهم وأنه لم يأخذ السلطة ولا يمارسها إلا لإثبات الحق. وأنه سرّ بضعفه وبنجاح كنيسة كورنثوس. وغايته من هذا الإنذار تجنب ممارسة السلطة على التأديب التي أعطاه إياها المسيح (ع ٨ - ١٠) النصيحة الأخيرة والبركة الرسولية (ع ١١ - ١٣).
١ «هٰذِهِ ٱلْمَرَّةُ ٱلثَّالِثَةُ آتِي إِلَيْكُمْ. عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ وَثَلاَثَةٍ تَقُومُ كُلُّ كَلِمَةٍ».
ص ١٢: ١٤ عدد ٣٥: ٣٠ وتثنية ١٧: ٦ و١٩: ١٥ ومتّى ١٨: ١٦ ويوحنا ٨: ١٧ وعبرانيين ١٠: ٢٨
هٰذِهِ ٱلْمَرَّةُ ٱلثَّالِثَةُ آتِي إِلَيْكُمْ وكانت هذه سنة ٥٧ وكانت الأولى سنة ٥٣ في سفره الثاني للتبشير وذُكرت في (أعمال ١٨: ١ - ١٨). والمرة الثانية لم يذكرها لوقا في سفر الأعمال والمرجح أنها كانت قصيرة وكانت نحو سنة ٥٥ أو ٥٦ في أثناء إقامته بأفسس وأشار إليها بولس في (ص ١: ١ و١٢: ١٤). ولا عجب من أنها لم تُذكر في سفر الأعمال لأن لوقا لم يقصد أن يذكر كل ما يتعلق ببولس من الأسفار والأتعاب والآلام. وكان بولس لما كتب هذه الآية في إحدى مدن مكدونية.
عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ الخ هذا قانون العهد القديم (عدد ٣٥: ٣٠ وتثنية ١٧: ٦ و١٩: ٥). وذكره المسيح في الإنجيل قانوناً للمحاكمة الكنسية فقال «إِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضاً وَاحِداً أَوِ ٱثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ» (متّى ١٨: ١٦ انظر أيضاً يوحنا ٨: ١٧ و١تيموثاوس ٥: ١٩ وعبرانيين ١٠: ٢٨).
رضي الله بنجاة المذنب من القصاص لعدم وجود العدد الكافي من الشهود لكي لا يُعرض البريء لخطر المحاكمة بشهادة زور من شاهد واحد. (وهذا القانون ليس قانوناً كل المحاكمات السياسية في الأرض) وصرّح بولس أنه يتبع في المحاكمة التي اعتمدها في كنيسة كورنثوس القانون المعيّن في الكتاب وذلك أنه لا يؤدب المدعى عليه بشهادة الفرد بل بشهادة اثنين أو ثلاثة.
ذهب بعض المفسرين أنه أخذ كل زيارة من زياراته الثلاث بمنزلة شاهد ولكن يصعب تصور كون الزيارة شاهداً وكون زيارته مرتين أو ثلاث مرات تبرهن ذنبهم أو برائتهم. ومعنى قوله «تقوم» تثبت شرعً ويُقتنع بها. ومعنى «كلمة» هنا شكوى وقد وردت بهذا المعنى في (متى ٥: ١١ و١٨: ١٦ و٢٧: ١٤).
٢ «قَدْ سَبَقْتُ فَقُلْتُ، وَأَسْبِقُ فَأَقُولُ كَمَا وَأَنَا حَاضِرٌ ٱلْمَرَّةَ ٱلثَّانِيَةَ، وَأَنَا غَائِبٌ ٱلآنَ، أَكْتُبُ لِلَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ، وَلِجَمِيعِ ٱلْبَاقِينَ: أَنِّي إِذَا جِئْتُ أَيْضاً لاَ أُشْفِقُ».
ص ١٠: ٢ ص ١٢: ٢١ ص ١: ٢٣
قَدْ سَبَقْتُ فَقُلْتُ، وَأَسْبِقُ فَأَقُولُ كرر عليهم الرسول هنا الإنذار الذي أنذرهم إياه وهو عندهم في كورنثوس أيام زيارته الثانية. وهذا الإنذار موجه إلى العنيدين العصاة معروفين أو غير معروفين.
لِلَّذِينَ أَخْطَأُوا ظاهراً ولم يتوبوا وأصروا على العناد والمعصية.
لجَمِيعِ ٱلْبَاقِينَ أي الذين خطئوا ولكن لم يظهر إثمهم ولكنه سيتبيّن بالمحاكمة أو لم يخطأوا ولكنهم في خطر من ذلك فيحتاجون إلى الإنذار.
لاَ أُشْفِقُ أي أودّب لأني رأيت أنه لم ينفع الوعظ ولا النصح. والمرجّح أن ذلك التأديب هو التسليم للشيطان فضلاً عن القطع من شركة الكنيسة كما تبيّن من (١كورنثوس ٥: ٥ و١تيموثاوس ١: ٢٠) وذلك هو نوع من الآلام الجسدية.
ولنا من هذه الآية شيئان الأول وجوب أن تقطع الكنيسة من شركتها المذنبين حسب قول الرسول في (١كورنثوس ٥: ٥). والثاني أن بولس باعتبار كونه رسولاً كان يحق له أن يقطع المذنبين وأن يضربهم بمصائب جسدية بقوة خارقة العادة لكنه لم يدّعِ أنّ له قوة على معرفة ما في قلوب الناس بالوحي ولم يعتمد أن يحكم عليهم من تلقاء نفسه إذ ذلك ليس من مقتضيات الرسولية فكان الرسل عرضة لأن يخدعوا كما كان من أمر سيمون الساحر (أعمال ٨: ١٣ و٢١) فقصد أن تكون محاكمة قانونية ليُعرف بواسطة الشهادة الكافية المذنب من البريء ويُعاقب من ثبت الذنب عليه فلا يدين ويعاقب بمجرد حكمته.
٣ «إِذْ أَنْتُمْ تَطْلُبُونَ بُرْهَانَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْمُتَكَلِّمِ فِيَّ، ٱلَّذِي لَيْسَ ضَعِيفاً لَكُمْ بَلْ قَوِيٌّ فِيكُمْ».
متّى ١٠: ٢ و١كورنثوس ٥: ٤ وص ٢: ١٠ و١كورنثوس ٩: ٢
إِذْ أَنْتُمْ تَطْلُبُونَ بُرْهَانَ هذا متعلق بقوله «لا أشفق» في الآية السابقة فإنهم طلبوا من بولس البرهان على كونه رسولاً فقال إنه مستعد أن يبيّنه بعقاب المذنبين دون شفقته المعتادة.
ٱلْمَسِيحِ ٱلْمُتَكَلِّمِ فِيَّ أنكر المعلمون الكاذبون أن المسيح تكلم بفم بولس أي نفوا أنه رسول المسيح وطلبوا منه البرهان على ادعائه ذلك فقال إنه يقيم لهم برهاناً لا يقدرون على إبطاله أو مقاومته.
ٱلَّذِي لَيْسَ ضَعِيفاً لَكُمْ هذا نعت للمسيح بدليل قوله على الأثر «قد صُلب» (ع ٤). والمعنى أنه لا يمكنهم أن يقاوموا رسول المسيح بلا خطر لأن مرسله قوي جداً كما ظهر من عمله فيهم أي هدايته لهم من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الحق والمعجزات التي صُنعت بينهم ومواهب الروح القدس التي أعطوها وكل ذلك حجة قاطعة على أنه «ليس ضعيفاً... بل قوي».
٤ «لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِبَ مِنْ ضَعْفٍ لٰكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ. فَنَحْنُ أَيْضاً ضُعَفَاءُ فِيهِ، لٰكِنَّنَا سَنَحْيَا مَعَهُ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ مِنْ جِهَتِكُمْ».
فيلبي ٢: ٧ و٨ و١بطرس ٣: ١٨ رومية ٦: ٤ و٨: ١١ وأفسس ١: ٢٠ وفيلبي ٢: ٩ ص ١٠: ٣ و٤
معنى هذه الآية أن المسيح وإن كان قد مات لكونه إنساناً يحيا لكونه إلهاً. إنه كان ذا طبيعة بشرية اتخذها للقيام بفداء البشر وذا طبيعة إلهية قدر بها على كل شيء فكان رسله أيضاً من جهة ضعفاء ومن جهة أقوياء.
قَدْ صُلِبَ مِنْ ضَعْفٍ كان من مقتضيات صلب ابن الله الأزلي ليكفر خطايا البشر أن يتخذ طبيعة بشرية قابلة الصلب والموت فكان ضعيفاً بالنظر إلى كونه قابل الموت وموته برهان على حقيقة ذلك الضعف. ولكن ذلك الضعف كان اختيارياً كما يتبين من قول الرسول فيه «أخلى نفسه» (فيلبي ٢: ٧ و٨ انظر أيضاً عبرانيين ٢: ١٤ و١٥).
حَيٌّ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ أي ذاك الذي مات هو الآن حي لأن له طبيعتين بشرية وإلهية متحدتين بلا اختلاط في أقنوم واحد حي الآن ويحيا إلى الأبد وسيُظهر القوة الإلهية التي صرّح الرسول بها. وقيامة المسيح التي برهنت حياته الإلهية وقوته نُسبت أحياناً إلى الله (رومية ٦: ٤ وأفسس ١: ٢٠ وفيلبي ٢: ٩). ونُسبت أحياناً إلى المسيح نفسه (متّى ٢٦: ٦١ ومرقس ١٤: ٥٨ ويوحنا ٢: ١٩ و١٠: ١٨) فنُسبت إليهما كما نسب عمل الخليقة وعمل العناية أحياناً إلى الآب وأحياناً إلى الابن بناء على كونهما جوهراً واحداً وأقنومين فيجوز أن ننسب فعل أحدهما إلى الآخر. وليس غاية الرسول أن يعلن بقوة أي الأقنومين قام المسيح بل أن يصرح بالحقيقة التي هي أن المسيح حي الآن متسربل بالقوة غير المحدودة.
فَنَحْنُ أَيْضاً ضُعَفَاءُ فِيهِ أي نُظهر أننا كذلك باختيارنا لتوقفنا عن ممارسة قوتنا على العقاب. وليس من غرض الرسول هنا أن يشير إلى ضعفاته الحقيقية التي أوضحها في الأصحاح الحادي عشر بل يشير إلى الضعف الذي أظهره مع وجود القوة التي كتمها كما أن المسيح أظهر اختباراً أنه ضعيف وهو بين أيدي أعدائه وهم يقودونه إلى الصلب مع أنه كان ذا قوة مكتومة غير محدودة. اختار الرسول أن يكون بينهم وديعاً متواضعاً طويل الأناة وأن لا يستعمل القوة الفائقة الطبيعة التي أخذها من الذي قام من الأموات.
لٰكِنَّنَا سَنَحْيَا مَعَهُ إن حياة المسيح بعد القيامة أظهرت قوته باعتبار كونه ابن الله فصرّح بولس أنه متى رجع إلى كورنثوس تكون حياته كالحياة التي أظهرها المسيح بعد قيامته لا كالحياة التي أظهرها مدة اتضاعه فظنه الكورنثيون كميت لفرط تواضعه وحلمه لكنه أبان أنهم سيجدونه حياً قادراً على أن ينفذ أوامره ويعقاب المعاندين. ومعنى قوله «سنحيا معه» نحيا مثله متحدين به.
لم يشر الرسول هنا إلى القوة التي تكون له بحياته المستقبلة في السماء وإن كانت حقاً إذ لا داعي إلى ذكرها هنا.
بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ هذه القوة هي مصدر قوة بولس فلم يدع أن له قوة ذاتية ولم يمارسها كأنها له فالقوة التي أظهرها كانت قوة الله العاملة بواسطته.
مِنْ جِهَتِكُمْ أي ممارسة قوتنا الرسولية فيكم أو بالنظر إليكم.
٥ «جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ فِي ٱلإِيمَانِ؟ ٱمْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ. أَمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنْفُسَكُمْ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ فِيكُمْ، إِنْ لَمْ تَكُونُوا مَرْفُوضِينَ؟».
١كورنثوس ١١: ٢٨ رومية ٨: ١٠ وغلاطية ٤: ١٩ و١كورنثوس ٩: ٢٧
جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ العلاقة بين هذه الآية والتي قبلها غير واضحة فمن المحتمل أن المعنى صرتم تجربونني لكي تجاهدوا برهاناً على كون المسيح يتكلم فيّ لكنني أخبركم بما هو أولى من ذلك وهو أن تجربوا أنفسكم لتروا هل المسيح فيكم أي بدلاً من أن تجربوني جربوا أنفسكم. والأرجح أن المعنى أنكم ستجدون برهاناً قاطعاً على أن المسيح عامل فيّ إذا امتحنتم أنفسكم ووجدتم أن المسيح حي فيكم وأن أعضاء جسده وذلك برهان على صحة رسوليتي. وهذا على وفق قوله «أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ عَمَلِي فِي ٱلرَّبِّ» (١كورنثوس ٩: ١). وقوله «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا... مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (٢كورنثوس ٣: ٢).
هَلْ أَنْتُمْ فِي ٱلإِيمَانِ أي أمؤمنون أنتم بالحق أم بالاسم فقط. يتضح من ذلك أن من له إيمان يقدر أن يتحققه بالفحص وهو يكون إما بالوجدان وإما بالأثمار. ويتضح أيضاً أن الإنسان قد يكون مؤمناً حقيقياً وهو في ريب من إيمانه إلا بعد الامتحان والمعنى أن تيقن الخلاص ليس من لوازم الإيمان الضرورية لأن ما لا يظهر إلا بالتجربة لا بد من أن يسبقه الشك.
ٱمْتَحِنُوا أي جربوا فكرر المعنى للتوكيد.
أَمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنْفُسَكُمْ أي ألستم تشعرون بما في أنفسكم بالوجدان.
هُوَ فِيكُمْ أي مقيم بقلوبكم بروحه القدوس وهذا مثل قوله في نفسه «أَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية ٢: ٢٠ انظر ايضاً رومية ٨: ١٠ وغلاطية ٤: ١٩ وأفسس ٣: ١٧ وكولوسي ١: ٢٧). فوجود الروح القدس في الإنسان يستلزم وجود المسيح فيه فهو يسكن في الكنيسة كلها وفي كل من أعضائها حتى إذا كان أحدهم ليس للمسيح لم يكن منها (رومية ٨: ٩).
إِنْ لَمْ تَكُونُوا مَرْفُوضِينَ المرفوضون هم الذين وُجدوا بالامتحان ناقصين والمراد بهم هنا الذين وُجدوا بعد التجربة أن المسيح ليس فيهم وأنهم ليسوا مؤمنين بسوى الاسم.
٦ «لٰكِنَّنِي أَرْجُو أَنَّكُمْ سَتَعْرِفُونَ أَنَّنَا نَحْنُ لَسْنَا مَرْفُوضِينَ».
طلب أهل كنيسة كورنثوس البرهان على أن يسوع في بولس باعتبار أنه رسول فنصح لهم أن يمتحنوا أنفسهم ليروا هل المسيح فيهم باعتبار كونهم مؤمنين فإن كانوا قد وُجدوا عند الفحص مرفوضين فهو على يقين من أنهم لا يجدونه مرفوضاً أي غير قادر على احتمال الامتحان. فالبرهان الذي استعد لإقامته على أن المسيح يتكلم به هو إظهار سلطته الرسولية وهي حجة لا تدفع على حلول المسيح فيه لكنه ما أحب أن يورد تلك الحجة ولذلك قال ما في الآية الآتية.
٧ «وَأُصَلِّي إِلَى ٱللّٰهِ أَنَّكُمْ لاَ تَعْمَلُونَ شَيْئاً رَدِيّاً، لَيْسَ لِكَيْ نَظْهَرَ نَحْنُ مُزَكَّيْنَ، بَلْ لِكَيْ تَصْنَعُوا أَنْتُمْ حَسَناً، وَنَكُونَ نَحْنُ كَأَنَّنَا مَرْفُوضُونَ».
ص ٦: ٩
أُصَلِّي... أَنَّكُمْ لاَ تَعْمَلُونَ شَيْئاً رَدِيّاً أي أن تكونوا أتقياء. أبان الرسول علتين لتقديمه الصلاة الأولى سلبية وهي أنه لم يطلب قداستهم لغاية شخصية وهي أن يثبت بذلك أن المسيح فيه بموجب القياس الذي ذكره في الآية الخامسة.
مُزَكَّيْنَ المراد «بالمزكين» هنا ضد المرفوضين في الآية السابقة والمقصود أن بولس احتمل الامتحان فوُجد رسولاً حقاً للمسيح.
تَصْنَعُوا أَنْتُمْ حَسَناً هذا هو العلة الثانية وهي إيجابية لأنها رغبته في أن يعملوا حسناً لنفع أنفسهم «والحسن» هنا الجميل الواجب المستقيم المرضي لله.
وَنَكُونَ نَحْنُ كَأَنَّنَا مَرْفُوضُونَ أي يمنزلة المرفوضين. طلب قداستهم وإن كانت نتيجة طلبه إياها فوات الفرصة لبيان ما أشار إليه من البرهان على أن المسيح ساكن فيه.
إن إظهار بولس لسلطته الرسولية كان أمراً زهيداً في عينيه بالنسبة إلى تقواهم لفرط اهتمامه بها.
٨ «لأَنَّنَا لاَ نَسْتَطِيعُ شَيْئاً ضِدَّ ٱلْحَقِّ بَلْ لأَجْلِ ٱلْحَقِّ».
لاَ نَسْتَطِيعُ شَيْئاً ضِدَّ ٱلْحَقِّ أي إن فعلتم ما هو حق حسن فلا سبيل لي أن أظهر سلطتي الرسولية فيكم لأن الله لم يهب لي سلطة ضد الحق أو تابعيه.
بَلْ لأَجْلِ ٱلْحَقِّ أي أن سلطة الرسول الخارقة العادة مقيّدة بما رسمه الله لإثبات الحق وتوطيد الإنجيل وإقناع الناس به وقبولهم إياه وطاعتهم له. وينتج من ذلك إن وعد المسيح للكنيسة بما في قوله «كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء الخ» مقيّد بأن لا يكون حكمها إلا بموجب الحق.
٩ «لأَنَّنَا نَفْرَحُ حِينَمَا نَكُونُ نَحْنُ ضُعَفَاءَ وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ أَقْوِيَاءَ. وَهٰذَا أَيْضاً نَطْلُبُهُ كَمَا لَكُمْ».
١كورنثوس ٤: ١٠ وص ١١: ٣٠ و١٢: ٥ و٩ و١٠ و١تسالونيكي ٣: ١٠
هذه الآية متعلقة بالآية السابعة والمعنى نريد أن تعملوا حسناً وإن خسرنا برهان التزكية وهي إثبات للآية الثامنة.
نَفْرَحُ حِينَمَا نَكُونُ نَحْنُ ضُعَفَاءَ أي حين لا نجد فرصة لممارسة قوتنا بقصاص المذنبين بينكم ولتثبيت صحتها. فقوله «ضعفاء» هنا كقوله «مرفوضون» في الآيتين السادسة والسابعة.
وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ أَقْوِيَاءَ بأنكم تصنعون حسناً سالكين بالإيمان والحق حتى لا تعرضوا أنفسكم لقصاصي. رضي بولس أن يظهر لهم كأنه ضعيف ويفرح ناظراً ترتيبهم ومتانة إيمانهم في المسيح (كولوسي ٢: ٥).
وَهٰذَا أَيْضاً نَطْلُبُهُ كَمَا لَكُمْ أي نطلب أيضاً تمامكم. وفي قوله «أيضاً» إشارة إلى رغبته في زيادة كمالهم على نجاتهم من القصاص. والكمال المطلوب إصلاح كل ما فيهم من الخلل كالتحزب والتشويش والفجور على ما ذكر في الرسالتين حتى يكونوا بلا عيب قدام الله والناس.
١٠ «لِذٰلِكَ أَكْتُبُ بِهٰذَا وَأَنَا غَائِبٌ، لِكَيْ لاَ أَسْتَعْمِلَ جَزْماً وَأَنَا حَاضِرٌ، حَسَبَ ٱلسُّلْطَانِ ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهُ ٱلرَّبُّ لِلْبُنْيَانِ لاَ لِلْهَدْمِ».
١كورنثوس ٤: ٢١ وص ٢: ٣ و١٠: ٢ و١٢: ٢٠ و٢١ تيطس ١: ١٣ ص ١٠: ٨
لِذٰلِكَ أي لإرادتي كمالكم وتفضيلي إصلاحكم التام على تثبيت رسوليتي بإجراء القصاص بمقتضى قوتي على المذنبين منكم.
بِهٰذَا أي ما سبق من النصائح والتنبيهات والتحذيرات.
وَأَنَا غَائِبٌ كان الرسول في مكدونية حين كتابته هذه الرسالة.
لِكَيْ لاَ أَسْتَعْمِلَ جَزْماً بقصاص المذنبين المعاندين إما بالقطع من الشركة الكنسية وإما بالضرب بالمصائب الجسدية.
وَأَنَا حَاضِرٌ أي في أفسس.
حَسَبَ ٱلسُّلْطَانِ الرسولي المذكور في (ص ١٢: ١٢) وبعضه في (١كورنثوس ٥: ٥).
ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهُ ٱلرَّبُّ لم يدعِ بولس قط سلطاناً أو قوة من نفسه بل اعتقد أن ذلك هبة من الرب وهو يسوع المسيح الذي نسب إليه كل الصفات الإلهية والحضور في كل مكان وكمال المعرفة والسلطة وكونه مصدر كل نعمة وقوة وتعزية وأنه موضوع أشواقنا الروحية وعبادتنا.
لِلْبُنْيَانِ أي بنيان كنيسة المسيح ونشر ملكوته في العالم وهذا بيان الغاية التي لأجلها أعطى المسيح رسله السلطان وبيان حدود استعماله فإنه لم يكن للرسول أن يضرب قديساً بالعمى ولا أن يسلم أحداً من أولاد الله للشيطان.
لاَ لِلْهَدْمِ أي لا لخراب الكنيسة أو إضرار الصالحين فيها فلم يكن الرسول يريد استعمال قوته كذلك ولم يعطه المسيح اقتدراً على الهدم. وهذا موافق لقول بطرس «فَمَنْ يُؤْذِيكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِٱلْخَيْرِ» (١بطرس ٣: ١٣).
١١ «أَخِيراً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱفْرَحُوا. اِكْمَلُوا. تَعَزَّوْا. اِهْتَمُّوا ٱهْتِمَاماً وَاحِداً. عِيشُوا بِٱلسَّلاَمِ، وَإِلٰهُ ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ».
رومية ١٢: ١٦ و١٨ و١٥: ٥ و١كورنثوس ١: ١٩ وفيلبي ٢: ٢ و٣: ١٦ و١بطرس ٣: ٨ رومية ١٥: ٣٣
كان الرسول قد اضطرّ أن يوبخ ويهدّد بشدّة في الفصول الأخيرة من هذه الرسالة ولكنه ختمها بعبارات الحنو واللطف والمحبة كما يليق به باعتبار كونه أباً روحياً لهم ورسولاً إليهم.
أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أي يا أهل بيت الله وأعضاء جسد المسيح معي.
ٱفْرَحُوا بالرب (فيلبي ٣: ١ و٤: ٤ و١تسالونيكي ٥: ١٦). فيجب على المسيحيين أن يفرحوا بالمسيح على فدائهم واتحادهم به واتحاد بعضهم ببعض وبرجائهم السماء. فلا يحسن بهم أن يقبلوا البركات التي لا تثمن بلا ابتهاج بها. إن أهل السماء كلهم يفرحون فكلما فرحنا فرحاً مقدساً نتمثل بالقديسين والملائكة ونجعل بذلك الأرض كالسماء.
اِكْمَلُوا أي اصلحوا كل الإصلاح الخلل الذي فيكم نظاماً وسيرة فالكمال كالكمال في الآية التاسعة.
تَعَزَّوْا لأنكم مفتقرون إلى التعزية لكثرة ضيقاتكم من أعدائكم (ص ١: ٥ - ٧) ولأنكم حزنتم بشديداً على خطاياكم (ص ٧: ١١). إن الإنجيل مملوء تعزية للحزانى والله إله كل تعزية (ص ١: ٣).
اِهْتَمُّوا ٱهْتِمَاماً وَاحِداً أي اتحدوا بالإيمان وبرئيسكم الوحيد الرب يسوع المسيح باعتبار أنكم إخوة.
عِيشُوا بِٱلسَّلاَمِ معتزلين التحزب والانقسام الذي حدث في كنيستكم فكان من أعظم موانع النمو (١كورنثوس ١: ١١ و٢كورنثوس ١٢: ٢٠). إنه كان من غايات الرسالتين الأولى والثانية إنشاء السلام في تلك الكنيسة المعرضة للانشقاق بكون بعضها من متنصري اليهود وبعضها من متنصري الأمم ولأن بينهم معلمين يحبون الرئاسة ولذلك اتخذوا أحزاباً فيها ولوجود المعلمين الكذبة فيهم فإن غايتهم كانت أن يردوهم إلى الرسوم ويفسدوا إيمانهم بالمسيح وثقتهم برسوله.
إِلٰهُ ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلسَّلاَمِ الخ هاتنا الصفتان من أسمى الصفات الإلهية فيحب الله أن يراهما في الناس فوجودهما في الكنيسة شرط ضروري لحضوره فيها فإنه يمكث في الذين حصلوا عليهما ويبتعد ممن قلوبهم مملؤة بغضاً وانتقاماً وممن ينشأ بينهم التحزب والخصومات الجدلية. فإن السلام يحل في بيت ابن السلام (لوقا ١٠: ٦). وإن الله يهب المحبة والسلام ويمكث حيث يُقبلان ويحفظان فعلينا أن نقبلهما ونجتهد في أن نحفظهما ونبذل المجهود في نشرهما بين أهل الأرض وبذلك نتمثل بالله ونُحسب من صانعي السلام وممن يدعون أبناء الله. فمن العبث أن نصلي لله ونسأله أن يسكن فينا وفي قلوبنا البغض والحسد والحقد.
١٢ «سَلِّمُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ».
رومية ٦: ١٦ و١كورنثوس ١٦: ٢٠ و١تسالونيكي ٥: ٢٦ و١بطرس ٥: ١٤
سَلِّمُوا الخ جرياً على عادة العصر والبلاد بإظهار المحبة الأخوية في الاجتماعات الدينية ولا سيما بعد تناول العشاء الرباني فكانت العادة أن يقبّل الرجال الرجال والنساء النساء. وبقيت تلك العادة في الكنيسة عموماً إلى قرب القرن الثالث عشر ولا تزال الآن في قليل من الكنائس. ووُصفت «القبلة» هنا «بالمقدسة» لأنها علامة الاتحاد المقدس. ولا يلزم من ذلك أنه واجب علينا أن نجري على تلك العادة بعد تغير العوائد ومرور الأزمنة إنما الضروري المحبة المدلول عليها سواء كانت الدلالة قبلة أو مصافحة أو حنو الرأس أو ابتساماً أو كلمة تحية.
١٣ «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ ٱلْقِدِّيسِينَ».
المتعارف بين الناس اليوم أن القديسين هم الكاملوا القداسة في السماء ولكن الإنجيل يعني بهم المؤمنين على الأرض بالنظر إلى صفاتهم وامتيازهم عن سائر الناس. ولا يقصد بهم فريقاً من المؤمنين لأنهم أقدس من سائرهم بل يقصد بهم الجميع. ولا يصرّح بكونهم كاملين ما داموا أحياء هنا بل بكونهم بالنسبة إلى سائر الناس أطهاراً في الغايات والأشواق وممتازين عن غيرهم بمشتهياتهم وأعمالهم وقوانين حياتهم فهم قديسون لكونهم موقوفين لعبادة الله وخدمته ولكونهم له وكونهم مطهرين من جرم الخطيئة ومحررين من سلطتها وكل مسيحيي العالم مكلفون بأن يكونوا قديسين.
وأراد «بجميع القديسين» المؤمنين الذين كانوا معه في مكدونية حيث كتب هذه الرسالة. وقال في الرسالة الأولى «يسلم عليكم كنائس أسيا» لأنه كتبها في أفسس قصبة أسيا.
١٤ «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللّٰهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ».
رومية ١٦: ٢٤ فيلبي ٢: ١
ختم الرسالة بالبركة الرسولية وامتازت هذه البركة هنا عن البركة في سائر الرسائل بأن ذُكر فيها كل من أقانيم الثالوث ولذلك اتخذتها الكنائس المسيحية منذ سنيها الأولى إلى الآن خاتمة للعبادة الجمهورية وهي تشتمل على كل فوائد الفداء وهي طلبة إتيان النعم المذكورة على الكنيسة من الإله الواحد المثلث الأقانيم وهي من البراهين على صحة التثليث وتساوي الأقانيم الإلهية.
نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ يعبر الإنجيل بهذه الكلمات عن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية فهو بالنظر إلى الطبيعة الإلهية «ربنا» وبالنظر إلى الطبيعة البشرية «يسوع» وفي كلتيهما هو مسيح الله الفادي الموعود به. والمراد «بنعمته» هنا رضاه ومحبته المنقذة التي لا نستحقها ولكن نفتقر إليها لكوننا خطأة عاجزين هالكين فالمسيح باعتبار كونه وسيطنا وكفارتنا هو رأس الكنيسة وله كل سلطان في السماء والأرض وهو الآن شفيعنا في السماء. فمنح هذا الفادي العظيم ابن الله وابن الإنسان نعمته لنا يحقق الأمن الآن والخلاص أخيراً.
مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ إن الله الآب هو أصل عمل الفداء فأظهر محبته بإعطائه إيانا ابنه يسوع المسيح على وفق قول الرسول «ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية ٥: ٨). وقول المسيح نفسه «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ» الخ (يوحنا ٣: ١٦). وجعل الله إظهار محبته لنا بالمغفرة والتقديس والخلاص متوقفاً على عمل المسيح «فتصحالنا مع الله بموت ابنه» وموته على الصليب ضروري لمغفرة خطايانا ونيلنا محبته تعالى. وقدم الرسول نعمة المسيح بالذكر على محبة الله لكونها الشرط الذي بدونه لا سبيل إلى التمتع بمحبة الله.
وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ إن موت المسيح حصّل لنا موعد الروح (غلاطية ٣: ١٤). فالروح القدس يوصل إلينا كل فوائد الفداء ويقدرنا أن نؤمن بالفادي وأن تمسك به للخلاص. وعطية الروح القدس سُميت هنا وفي رسالة فيلبي (فيلبي ٢: ١) «شركة» لأنها أُعطيت كل شعب الله فكانت ملكاً مشتركاً وبها صاروا جسداً واحداً في المسيح واشترك فيها كل القديسين في كل عصر ومكان في السماء وعلى الأرض وتلك الشركة اتحاد عام كامل دائم.
إن استعمال هذه البركة في أكثر لغات العالم وفي قرون كثيرة من ألوف وربوات لا تُحصى من المسيحيين المجتمعين للعبادة تذكرهم دائماً أنهم اشتُروا بدم واحد ودُعوا من أبٍ واحد وقُدسوا بروح واحد فيجب أن يتحدوا بعضهم ببعض وبرأسهم الإلهي.
لا نعلم كيف كان تأثير هذه الرسالة وزيارة الرسول على أثرها في كورنثوس. لكننا نعلم أنه في أثناء كونه هناك كتب الرسالة إلى رومية. وليس فيها شيء من علامات اليأس والأسف من سوء أحوال مؤمنيها وهو بينهم. وأنه كان ضيفاً مكرماً فيها (رومية ١٦: ٢٣) وأنه سرّ بما جمعوا من مال الإحسان كما سرّ بما جُمع منه في مكدونية (رومية ١٥: ٢٦).

فوائد



  • إن رسول المسيح وهو ملهم من الروح القدس حذّر خطأة كنيسة كورنثوس بعدما أنذرهم مراراً بالمحبة بأنه يؤدبهم شديداً إذا أصّروا على عنادهم ومعصيتهم كذلك يحذّرنا الله بأنه لا يحتملنا إلى الأبد إذا بقينا في الخطيئة بل ينتقم ممن لا يصغون إلى دعوة الرحمة على وفق قوله «اَلْكَثِيرُ ٱلتَّوَبُّخِ، ٱلْمُقَسِّي عُنُقَهُ، بَغْتَةً يُكَسَّرُ وَلاَ شِفَاءَ» (أمثال ٢٩: ١) (ع ٢).
  • إن أحسن الواعظين هو من لا يطلب أن يظهر علمه وفصاحته في مواعظه بل يعتبر أنه آلة في يد الله للمناداة بكلمته وأن الشرف الأعظم له أن يتكلم المسيح فيه وبه (ع ٣).
  • إن امتحان النفس أحد الواجبات المسيحية والقياس الذي يجب أن نمتحن به أنفسنا هو كتاب الله. وأحسن برهان على أن الإنسان مسيحي حقيقي لا مرفوض هو أن المسيح يحيا في قلبه ويتكلم بشفتيه ويسير بسيرته (ع ٥).
  • إن أفضل الوقايات للناس هو أن يحفظهم الله من ارتكاب الأشياء الرديئة ولذلك طلبه بولس لمؤمني كورنثوس فيجب علينا أن نطلبه لأنفسنا. ولم يطلب الرسول أن يحفظهم الله من الاضطهاد والفقر والمرض والموت بل من الذي هو شر الشرور الزمنية. ونحن لا نقدر أن نحفظ أنفسنا من الخطيئة ولذلك يجب أن نطلب حفظ الله بلجاجة إكراماً للمسيح ونفعاً لأنفسنا (ع ٧).
  • طلب الرسول لتلاميذه الكمال وكل الرعاة الأمناء يرغبون في ذلك لرعاياهم فيجب علينا أن نرغب فيه لأنفسنا وأن نجتهد في أن ننمو يوماً فيوماً في المعرفة والنعمة لكي نناله. ومن أعظم موانع الكمال توهمنا إنا حصلنا عليه فعدلنا عن طلبه. وسنشبع حين نستيقظ في شبه المسيح يوم القيامة ولا يحسن أن نشبع بشيء أقل من ذلك قبل ذلك الاستيقاظ (ع ٩).
  • إننا اعتمدنا باسم كل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس. فيجب أن نشتهي الحصول على بركة خاصة من كل أقنوم منهم أي أن ننال النعمة من المسيح فادينا وآيات محبة الآب الذي أرسله وتأثيرات الروح القدس التي هي نتائج تلك النعمة والمحبة ونشتهي أن يشاركنا في هذه البركات التي لا تُثمن كل المفديين في هذا العالم والعالم الآتي (ع ١٤).
  • إن البركة الرسولية صلاة وهي موجهة إلى الابن والروح القدس كما هي موجهة إلى الآب. فلنا من ذلك وجوب أن نعبد الرب يسوع المسيح والروح القدس كما نعبد الآب. وأن هؤلاء الثلاثة في لاهوت واحد وإلا فما جُمعا كذلك. ولا يسلم العقل أن بولس الرسول الموحى إليه يطلب في صلاته بنفس واحد نعمة مخلوق إنسان أو ملاك ومحبة الله الآب. ولنا منه ايضاً أن الروح القدس أقنوم متميز لا صفة من صفات الله ولا مجرد تأثير إلهي وإلا فكيف نتوجه الصلاة إلى صفة أو تأثير. وأن للروح القدس بركات خاصة يهبها للذين يطلبونها وهي غير البركات التي نتوقعها من الابن والآب. والخلاصة أن هذه البركة دليل قاطع على أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم ممتازة وأن الرب يسوع معادل للآب وأن الروح القدس كذلك وأنه ذات فاعل محيٍ.



Call of Hope
P.O.Box 10 08 27
D - 70007
Stuttgart
Germany