مقدمة عامة لكل الرسائل وفيها أربعة فصول

الفصل الأول: في نسبة الرسائل إلى البشائر وإلى سفر الأعمال


البشائر إعلان الله الحق للإنسان بيسوع المسيح بذاته وتعليمه وعمله. وسفر أعمال الرسل إنباء بإنشاء الكنيسة المسيحية المؤلفة من المؤمنين بيسوع المسيح التابعين لتعاليمه المستأمنة على ذلك الإعلان الشاهدة للحقائق المتعلقة بيسوع ودينه. وهو يتضمن نمو الكنيسة بعناية الروح القدس وإرشاده. والرسائل شرح الرسل الموحى إليهم كلام المسيح إفادة لمؤمني الكنيسة ليكون موضوع اعتقادهم وقانون سيرتهم. وهذه الثلاثة أي البشائر وسفر الأعمال والرسائل هي مع كتاب العهد القديم إعلان واحد تام مستوف كل ما يحتاج إليه البشر لم يزد عليه ولا يُزاد ولن يُزاد.
واختلف أسلوب تبليغ الرسل تعليمهم للكنيسة عن أسلوب قدماء الأنبياء والمسيح في التبليغ لأن أولئك بلغوا الحق لفظاً غير أن إيليا كتب مرة واحدة رسالة إلى يهورام على ما علمناه من الكتاب (٢أيام ٢١: ١٢).
وأتى الرسل هذا الأسلوب أي التبليغ بكتابة الرسائل لأمرين أحدهما اختياري والآخر اضطراري.
فالأول: أن في هذا الأسلوب حرية البيان وأحكام التأليف وحفظ التعليم وتحريك العواطف بإظهار المودة الأخوية والاستعطاف على أنه مع ما فيه من الحرية لا يخلو من أنه تحت سلطان الوحي.
الثاني: أنه بعد ما انتشرت الكنيسة في كل أقطار المملكة الرومانية وكثرت أعضاؤها لم يمكن الرسل أن يخاطبوا كل أولئك الأعضاء شفاهاً فاضطروا أن يخاطبوهم بالرسائل. وساعدهم على تبليغ تعاليمهم أمران الأول عموم اللغة اليونانية التي كتبت الرسائل بها في تلك الأيام والثاني سهولة إرسال الرسائل إلى كل الجهات بسهولة الطرق التي مهدها الرومانيون والسلام والأمن واتساع التجارة.

الفصل الثاني: في كَتَبَة الرسائل والاتفاق بينهم


كتبة الرسائل خمسة بطرس ويوحنا ويعقوب ويهوذا وبولس. لبطرس رسالتان وليوحنا ثلاث وليعقوب واحدة وليهوذا واحدة ولبولس اربع عشرة على القول بأنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين. فالأربعة الأولون سمعوا تعليم المسيح وهو على الأرض فكان من المنتظر أن يكتبوا أكثر تعاليم الكنيسة لكن معظم تعاليم الكنيسة في رسائل بولس الذي لم يكن تلميذاً للمسيح وهو على الأرض ونسبة ما كتبه أولئك إلى ما كتبه بولس كواحد إلى خمسة لكنه كان أهلاً لذلك وإن لم يكن ممن رافقوا الرب على هذه الأرض لأنه له المجد ظهر له بعد قيامته من السماء وعلمه بلا وسائل بشرية.
وكما أن كتبة البشائر الأربع متّى ومرقس ولوقا ويوحنا اتفقوا كل الاتفاق في بيان سيرة المسيح وتعاليمه كذلك اتفق كتبة الرسائل الخمسة تمام الاتفاق في وضعهم مسيحاً واحداً وإيماناً واحداً ومعمودية واحدة وخلاصاً واحداً ومعزّياً واحداً وكنيسة واحدة.

الفصل الثالث: في ترتيب الرسائل


الظاهر أن الرسائل رُتبت بالنظر إلى الطول والأهمية لا إلى أوقات الكتابة وقدمت رسائل بولس على غيرها.

الفصل الرابع: في أزمنة كتابة الرسائل وأمكنتها


يسهل علينا أن نعرف الازمنة والأمكنة التي كتب فيها بولس أكثر رسائله وأما أزمنة كتابة رسائل الرسل الباقين وأمكنتها فلا نعرفها إلا على سبيل الترجيح ويتضمن ذلك كله الجدول الآتي:




الرسالة إلى الرومانيين

مقدمة الرسالة وفيها خمسة فصول


الفصل الأول: في الكاتب


هو بولس أو شاول وهو اسمه العبراني بقي يُعرف به إلى حين شرع في عمله باعتبار كونه رسول الأمم وحينئذ سُمي بولس وهو الاسم الذي عُرف به بين الأمم واشتهر به في الكتاب يوم آمن بواسطة وعظه الوالي سرجيوس بولس (أعمال ١٣: ١٢).
وُلد في طرسوس قصبة كيليكية واسمها الآن ترسيس وهي ولاية في أسيا الصغرى مجاورة لسورية اشتهرت بمدارسها التي فاقت بها الاسكندرية وأثينا. ولا بد من أن بولس اكتسب بعض العلوم في تلك المدارس لأن ذلك مما ظهر جلياً في احتجاجه من الأدلة المنطقية على أسلوب علماء اليونانيين الخاص وفي ما اقتبسه من شعراء اليونان (أعمال ١٧: ٢٨ و١كورنثوس ١٥: ٣٣ وتيطس ١: ١٢).
ووقت ولادته مجهول والمرجح أنه كان نحو وقت ولادة سيدنا يسوع المسيح وكان أبوه فريسياً من سبط بنيامين (فيلبي ٣: ٥) له حقوق الرومانيين فكانت لبولس أيضاً (أعمال ٢١: ٢٨).
تعلّم صناعة جرياً على إيجاب اليهود أن يتعلم كل منهم صناعة عالماً كان أم جاهلاً لاعتقادهم أنه من لم يعلّم ابنه صناعة علّمه السرقة. وكانت ما تعلّمها صناعة الخيام (أعمال ١٨: ٣). وتعلّم هذه الصناعة لاشتهار كيليكية بجودة منسوجاتها الموافقة للخيام وكانت منسوجة من شعر المعزى الذي لا نظير له في غيرها من البلاد فعال بها نفسه ورفاقه بما كسب منها في المدن التي بشر فيها (أعمال ٢٠: ٣٤ و١كورنثوس ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨).
أُرسل إلى أورشليم في حداثته ليدرس الشريعة اليهودية والعلوم الدينية وكان استاذه الرباني غمالائيل المشهور بين علماء ذلك العصر (أعمال ٥: ٣٤ و٢٢: ٣). والأرجح أنه لم يكن في أورشليم حين كان المسيح فيها لكنا نعلم أنه كان فيها يوم موت استفانوس سنة ٣٦ واشترك في قتله (أعمال ٧: ٥٨). وبذل طاقته في اضطهاد سائر المسيحيين بعد ذلك (أعمال ٩: ١) ولعل الذي غاظه ما نسبوه إلى استفانوس من أنه قال «إِنَّ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ هٰذَا سَيَنْقُضُ هٰذَا ٱلْمَوْضِعَ، وَيُغَيِّرُ ٱلْعَوَائِدَ ٱلَّتِي سَلَّمَنَا إِيَّاهَا مُوسَى» (أعمال ٦: ١٤). وأخذ سلطاناً من رؤساء اليهود على إهلاك المسيحيين في دمشق وفيما هو سائر على طريق تلك المدينة سنة ٣٦ ب. م ظهر له الرب يسوع وتكلم معه ودعاه رسولاً إلى الأمم ومن ذلك الوقت وقف نفسه للمسيح وأخذ يبشر بالدين الذي كان قبلاً يسعى في ملاشاته. فابتدأ التبشير في دمشق ثم انطلق إلى بلاد العرب وشغل نحو ثلاث سنين بالاستعداد ثم رجع إلى دمشق يبشر واضطر أن يهرب منها خوفاً من اليهود وذهب إلى أورشليم متوقعاً أن يقتنع اليهود بشهادته ليسوع لمعرفتهم أنه كان يضطهد أتباعه ويقتلهم لكن اليهود عزموا على قتله فاضطر أن يذهب إلى طرسوس ومن ثم اجتهد في التبشير والتعليم في كيليكية وما جاورها إلى أن دعاه برنابا إلى مساعدته في أنطاكية.
وبقي ما يزيد على عشرين سنة بعد ذلك يجتهد في التبشير بالإنجيل وسافر في تلك الخدمة ثلاثة أسفار منادياً بالإنجيل في مدن أسيا الصغرى وما بعدها إلى أوربا فأسس كنائس من اليهود والأمم في كل المراكز العظيمة بين أورشليم ورومية فكانت نتيجة أعماله نجاحاً عظيماً للدين المسيحي ومقاومة اليهود الشديدة له لأنه نادى بأن يسوع الناصري هو المسيح ولأنه علّم الأمم أنهم يخلصون بمجرد الإيمان بالمسيح بدون أعمال الناموس الرمزية. وكتب فوق تبشيره في تلك المدة ست رسائل لا تزال إلى الآن كنزاً ثميناً للكنيسة المسيحية.
وفي سنة ٥٨ قبض اليهود عليه في هيكل أورشليم بدعوى أنه نجّس الهيكل بإدخاله أحد الأمم إليه ولولا إنقاذ الرومانيين إياه يومئذ قُتل. ثم أخذ إلى قيصرية وحوكم هناك وتبرّأ ولكن بعض ولاة الرومانيين أبقاه في السجن سنتين إكراماً لليهود ثم رفع دعواه إلى قيصر تخلصاً من أن تُسلم إلى اليهود فأُرسل إلى رومية وانكسرت السفينة التي سافر فيها عند جزيرة مالطة وبعد أن شتى هنالك سافر إلى رومية. ثم مضى عليه سنتان قبل المحاكمة كان فيهما أسيراً في بيته وهو يبشر الذين يأتونه من خارج وكان لتعليمه تأثير عظيم في تلك المدينة وما جاورها وكتب في تلك المدة مع ما عليه من التبشير أربع رسائل أخرى مفيدة. وهذا نهاية ما نستطيع أن نتيقنه من خبر بولس والأرجح أنه بعد نهاية السنتين بقليل وقف أمام نيرون للمحاكمة وتبرأ مما أُتهم به وأُطلق من سجنه. وشغل خمس سنين بالتبشير في كريت وأسيا الصغرى ومكدونية ولعله ذهب إلى اسبانيا أيضاً ومبلغ ما كتبه في تلك المدة ثلاثة من رسائله ثم قُبض عليه ثانية وأُخذ إلى رومية وسُجن في السجن العام وهنالك كتب رسالة واحدة. وثم وقف للمحاكمة أيضاً وحُكم عليه بالقتل فمات شهيداً في سنة ٦٨ ب. م.
وامتاز هذا الرسول بأنه كان نشيطاً في العمل حاراً في الروح ثابت العزم شديد الانفعالات قوي الحجة وافر المعرفة شجاعاً خالص النية في تمجيد الله ومحبة المسيح ونفع الناس.
وما جعله أكثر أهلية للتبشير والتأليف ثلاثة أمور:

  • الأول: تدرّبه في العلوم اليونانية إلى حد يستطيع عنده أحسن أساليب الاستدلال وإيضاح المعاني وهذا كان مما يحتاج إليه باعتبار كونه رسول الأمم.
  • الثاني: معرفته الشريعة الموسوية وكل العلوم اليهودية إذ كان استاذه أحسن علمائهم وهذا مكّنه من مناظرة اليهود بمخاطبته إياهم أولاً في كل مكان دخله واتخاذه إقناع بعضهم وسيلة إلى تبشير الأمم.
  • الثالث: مشاهدته المسيح بعد قيامته وتعلّمه منه رأساً حقائق الدين المسيحي بلا واسطة بشرية. والجدول الآتي يتضمن أهم حوادث حياته مع ذكر أماكن حدوثها وأزمنتها المحققة والمرجحة.


سنة ب. م
تنصر بولس أعمال ص ٩ ٣٦
ذهابه إلى العربية ورجوعه منها إلى دمشق (غلاطية ١: ١٧) بعد ثلاث سنين وهربه من دمشق إلى أورشليم (أعمال ٩: ٢٣ - ٢٦) ٣٩
ذهابه من أورشليم إلى طرسوس (أعمال ٩: ٣٠) وشغله بضع سنين بالتبشير في كيليكية وسورية (غلاطية ١: ٢١) والمظنون أنه احتمل في تلك المدة أكثر المشقات المذكورة في (٢كورنثوس ١١: ٢٤ - ٢٦) ومن طرسوس أخذه برنابا إلى أنطاكية وخدما هنالك الإنجيل سنةً ٤٤
ذهابه مع برنابا إلى أورشليم حاملاً الإحسان زمن الجوع ورجوعه إلى أنطاكية ٤٥
سفره الأول للتبشير مع برنابا من أنطاكية إلى قبرس وأنطاكية بيسيدية وأيقونية ولسترة ودربة ورجوعه في الطريق التي أتى فيها ووصوله إلى أنطاكية بعد سنتين من خروجه منها (أعمال ١٣: ١٤) ٤٨
ذهابه ثالثة إلى أورشليم مع برنابا ليحضر المجمع ورجوعه إلى أنطاكية (أعمال ١٥: ٢ - ٣٠) ٥٠
سفره الثاني للتبشير إلى كيليكية ودربة ولسترة وفريجية وغلاطية وترواس وفيلبي وتسالونيكي وبيرية وأثينا وكورنثوس ٥١
مكثه سنة ونصف سنة في كورنثوس ثم ذهابه رابعة إلى أورشليم ورجوعه إلى أنطاكية (أعمال ١٨: ١١ - ٢٢) ٥٤
سفره الثالث للتبشير ومروره بغلاطية وفريجية ووصوله إلى أفسس (أعمال ١٩: ١) ٥٤
ذهابه بعد مكثه سنتين على طريق ترواس ومكدونية إلى كورنثوس (أعمال ٢٠: ١) ٥٧
ذهابه خامسة إلى أورشليم من كورنثوس في طريق فيلبي وترواس وميليتس وبطلمايس وقيصرية (أعمال ٢٠: ٣ - ص ٢١: ١٥) والقبض عليه في أورشليم وإرساله إلى قيصرية ٥٨
إرساله بحراً إلى رومية بعد أسره سنتين في قيصرية وانكسار السفينة التي سافر عليها عند مالطة ومكثه ثلاثة أشهر هناك ثم وصوله إلى رومية ٦١
أسره سنتين في رومية وإطلاقه بعد المحاكمة على ما رُجح ٦٣
ذهابه للتبشير كما ظن بعضهم إلى أسبانيا (رومية ١٥: ٢٤ و٢٨) ثم إلى أفسس ومكدونية (١تيموثاوس ١: ٣) وإلى كريت (تيطس ١: ٥) وإلى أسيا الصغرى (٢تيموثاوس ١: ١٥) وإلى نيكوبوليس (تيطس ٣: ١٢) وأسره ثانية وسجنه في رومية منتظراً الموت (٢تيموثاوس ٢: ٩ و٤: ١٦ - ١٨) واستشهاده هناك ٦٨




الفصل الثاني: في الذين كُتبت هذه الرسالة إليهم


كُتبت هذه الرسالة إلى أهل رومية وهي قاعدة المملكة الرومانية بُنيت على نهر تيبر على أمد ١٥ ميلاً من مصبه في بحر الروم. والأرجح أن عدد أهلها كان يوم كُتبت هذه الرسالة إليها ١٢٠٠٠٠٠ نصفهم أرقّاء. وكان فيها كثيرون من اليهود لأن بمبيوس (Pompeius) القائد الروماني أتى بهم أسرى حين استولى على سورية سنة ٦٣ ق. م وأسكنهم قسماً من المدينة ولم يبقوا زمناً طويلاً أسرى بل تحرروا وكثروا. ومما يدل على كثرتهم أنه لما أتت لجنة من اليهود إلى رومية عند موت هيرودس الكبير ليستعطفوا أوغسطس قيصر خرج لاستقبالهم ثمانية آلاف رجل من أعيان اليهود في رومية. وكانوا في سلام وراحة إلا في بعض زمان ملك طيباريوس سنة ١٩ ب. م وبعض زمان ملك كلوديوس نحو سنة ٤٩ ب. م فإنهما أمرا بنفيهم ولم ينفياهم سوى وقت قصير.
ولم يُعلم بأي واسطة نشأت الديانة المسيحية فيها والأرجح أن بعض الرومانيين «اليهود والدخلاء» الذين كانوا في أورشليم يوم الخمسين وآمنوا مع من آمن (أعمال ٢: ١٠) رجع إلى رومية بتعليم الإنجيل ثم أخذه إليها أيضاً الذين تشتتوا من مسيحيي أورشليم زمن الاضطهاد على أثر موت استفانوس (أعمال ٨: ٤ و١١: ١٩). وبعض الذين سمعوا تعليم بولس في بعض مدن أخائية ومكدونية وأسيا وآمنوا ثم ذهبوا إلى رومية وكانوا جزءاً من الكنيسة هناك. وسلام بولس على كثيرين ذكرهم بأسمائهم يدل على أنهم كانوا من تلاميذه ومعارفه مع أنه لم يكن قد ذهب إلى رومية قبل أن كتب تلك الرسالة.
وظن بعضهم أن مؤسس كنيسة رومية بطرس الرسول سنة ٤١ ب. م وأنه كان أسقفها خمساً وعشرين سنة وهذا لا دليل عليه بل لنا أدلة تنفيه:

  • الأول: قول لوقا ما معناه أن بطرس كان في أورشليم سنة المجمع وهي سنة ٥٠ (أعمال ص ١٥) وأن تلك المدينة كانت وطنه قبل ذلك وكان يخدم الإنجيل مع الرسل والمشائخ فيها.
  • الثاني: أن بطرس كان على ما في (غلاطية ٢: ١١) في أنطاكية في نحو سنة ٥٥ ب. م واجتمع ببولس هناك.
  • الثالث: أنه على ما هو طاهر في الأصحاح الخامس من رسالته الأولى كان في بابل حين كتبها وذلك في نحو سنة ٦٠.
  • الرابع: أنه لو كان قد أسس كنيسة رومية في سنة ٤١ وبقي خادماً لها لم يكن من داع لبولس أن يكتب إليها ويشتهي أن يذهب إليها للتبشير لأنه كان من مبادئه أن لا يبشر حيث «سُمي المسيح لئلا يبني على أساس لآخر» (رومية ١٥: ٢٠).
  • الخامس: أنه لو كان بطرس أسقف رومية لذكره بولس في رسالته وسلّم عليه مع من سلّم عليهم فيها.
  • السادس: إنه لما أتى بولس إلى رومية ذكر أن كثيرين من الإخوة خرجوا ليرحبوا به ولم يذكر بطرس بين هؤلاء.
  • السابع: قول يهود رومية ما يدل على عدم معرفته من أمور الدين المسيحي كونه يقاوم (أعمال ٢٨: ٢٢) وهذا يستلزم أن بطرس لم يكن هنالك منذ ما ينيف على ٢٠ سنة. والظاهر من تلك الرسالة أن المؤمنين كانوا من اليهود والأمم (ص ٢: ١٧ - ٢٤ رومية ص ٧: ١ و٣: ١٩ و١: ١٣ - ١٥ ص ١١: ١٣) وأن أكثرهم من الأمم وأنهم بلغوا حين كتابة الرسالة قدراً عظيماً من معرفة الإنجيل والغيرة له بدليل قول بولس «أَشْكُرُ إِلٰهِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، أَنَّ إِيمَانَكُمْ يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ» (رومية ١:٨).



الفصل الثالث: في مكان كتابتها وزمانها


نعلم من نص الرسالة أن بولس لم يكن حين كتبها في رومية (رومية ١: ١١ - ١٥) لكنه كان يتوقع زيارته إياها وهو سائر إلى اسبانيا (ص ١٥: ٢٣ و٢٤). ونعلم أيضاً أنه كان حين كتابتها على وشك الذهاب إلى أورشليم حاملاً عطايا مسيحيي مكدونية وأخائية إلى فقراء الإخوة في أورشليم (ص ١٥: ٢٥ و٢٦). ونعلم أيضاً أنه كان من رفاقه حين كتب هذه الرسالة تيموثاوس وسوسيباترس وغايس وارستوس (ص ١٦: ٢١ و٢٣). وأنه كان ضيف غايوس (ص ١٦: ٢٣) وكان أرستوس خازن المدينة. وكل ذلك على وفق الفرض أن بولس كان وهو يكتب الرسالة في كورنثوس لأن لوقا أخبرنا في سفر الأعمال (ص ٢٠: ٢ - ٤ و١٦) أن بولس كان في كورنثوس على وشك الذهاب إلى أورشليم وأنه كان معه أربعة أصحاب رافقوه من هناك وهم المذكورون آنفاً. ولنا من (١كورنثوس ١: ١٤) أن غايوس الذي نزل عليه بولس كان من أهل كورنثوس. ولنا من ملحق الرسالة أنها كُتبت من كورنثوس على يد فيبي خادمة كنيسة كنخريا وهي الجزء الشرقي من مدينة كورنثوس وخلاصة كل ما ذُكر أن هذه الرسالة كُتبت في كورنثوس في ربيع سنة ٥٨ ب. م وأنها هي الرسالة السادسة من رسائل بولس.

الفصل الرابع: في غاية هذه الرسالة


كان بولس قد قصد الذهاب إلى رومية منذ زمن طويل لكنه امتنع لأسباب (رومية ١: ١٣) وهو يتوقع المصير إليها بعد قليل فمهد السبيل بكتابة هذه الرسالة ولم يكن من داع إلى أن يكتبها لإزالة الشكوك أو لرفع الخصومات كما كان الداعي إلى ما كتبه إلى كنيسة كورنثوس وكنيسة غلاطية فإنه لعدم معرفته إياهم بسط أمامهم مختصر تعاليمه التي نادى بها في غير رومية وأوضح به مبادئ الإنجيل العظمى الجوهرية مما يجب أن يعتقدوه ويختبروه ويعملوا بموجبه.

الفصل الخامس: في موضوع هذه الرسالة


موضوع معظم هذه الرسالة جواب هذا السؤال كيف يتبرّر الإنسان أمام الله وهي ثلاثة أقسام:

  • الأول: الكلام في التبرير أي بيان افتقار كل الناس إليه وكيفيته ونتائجه وهذا القسم يشغل الأصحاحات الثمانية الأولى.
  • الثاني: دعوة الله الأمم إلى مشاركة اليهود في ذلك التبرير وأن هذا لا يستلزم رفض الله شعبه القديم أو يمنع رحمته عنهم لأنه تعالى لم يرفض إلا من رفض الإيمان وأن المرفوضين ليسوا سوى بعضهم وأن ذلك الرفض وقتيّ وأنهم سوف يرجعون جميعاً ويؤمنون ويخلصون.
  • الثالث: بيان الواجبات المبنيّة على ما سبق من التعليم للحكام والكنيسة والناس أفراداً.




الأصحاح الأول


المقدمة ع ١ إلى ١٧

وفيها تعريف وسلام ع ١ إلى ٧ وبيان علّة كتابة هذه الرسالة وموضوعها ع ٨ إلى ١٧


١ «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْمَدْعُوُّ رَسُولاً، ٱلْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ».
فيلبي ١: ١ وتيطس ١: ١ أعمال ٢٢: ٢١ وع ٦ و٧ و١كورنثوس ١: ١ وغلاطية ١: ١ و١تيموثاوس ١: ١١ و٢: ٧ و٢تيموثاوس ١: ١١ ويهوذا ١ أعمال ٩: ١٥ و١٣: ٢ وغلاطية ١: ١٥
بُولُس ابتدأ الكاتب رسالته بذكر اسمه وعمله جرياً على العادة القديمة في الرسائل واسمه العبراني شاول ومعناه مسؤول (أي من الله) (أعمال ١٣: ٩) ولكنه لما شرع في عمله رسولاً إلى الأمم تسمى ببولس اسمه اليوناني لأنه أخف على سمع اليونانيين والرومانيين وعلى ألسنتهم.
عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ كأحد المسيحيين عبدته وخدمه الطائعين (أفسس ٦: ٦) أو كواحد من خدامه المخصوصين بالخدمة الرسولية. وعبّر عن ذلك «بالعبد» جرياً على عادة الأنبياء قديماً فإنهم كانوا يسمون «عبيد الله» (يشوع ١: ١ و٢٤: ٢٩ وإرميا ٢٩: ١٩ وإشعياء ٤٢: ١) وجرياً على سنن يعقوب في قوله «يَعْقُوبُ، عَبْدُ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (يعقوب ١: ١) وبطرس في قوله «سِمْعَانُ بُطْرُسُ عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ» (٢بطرس ١: ١) وأشار بأنه عبد ليسوع إلى الطاعة الكاملة والخضوع باعتبار كون يسوع سيداً وإلهاً له لأنه صرّح بأنه يرفض كل الرفض أن يكون عبداً للناس في الأمور الروحية.
ٱلْمَدْعُوُّ رَسُولاً قال هذا بياناً للسلطان الذي كتب به الرسالة لأنه رسول بدعوة الله وقصد بذلك إيضاح أنه لم يدع نفسه ولم يدعه الناس إلى تلك الخدمة المقدسة. ومعنى «الرسول» لغة مرسل ولكن المسيح اتخذ هذا الاسم بمعنى خاص ليشير إلى الذي اختاره وعيّنه للتبشير باسمه وللشهادة بقيامته كما يظهر من (لوقا ٦: ١٣ ويوحنا ١٥: ٢٦ وأعمال ١: ٢١). ويقتضي كون الإنسان رسولاً أن يكون قد رأى يسوع بعد قيامته (١كورنثوس ٩: ٢) وعرفه وعرف أعماله وتعاليمه من يسوع نفسه. ولما دُعي بولس رسولاً قال له يسوع «ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ» (أعمال ٢٦: ١٦).
وقيام الرسل بتلك الشهادة اقتضى أن يكونوا ملهمين وأن يكونوا معصومين من الغلط في التعاليم الدينية (يوحنا ١٤: ٢٦ و١٦: ٣) وأن يكون لهم سلطان على عمل المعجزات إثباتاً لصحة شهادتهم (متّى ١٠: ٨) وكان لهم أن يعطوا ذلك السلطان لغيرهم بوضع الأيدي (أعمال ٩: ١٥ و١٧ و١٨ و١٩: ٦) وكان لهم سلطان تمييز الأرواح (١كورنثوس ١٢: ١٠) ورسم شيوخ في الكنائس (أعمال ١٤: ٢٣) وتنظيمها مطلقاً (١كورنثوس ٥: ٣ - ٥ و٢كورنثوس ١٠: ٦ و١٨).
ٱلْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ أي المميز عن غيره بالرسولية. وأُفرز بولس أولاً من بطن أمه (غلاطية ١: ١٥). وثانياً يوم إيمانه ففيه دعاه الرب من السماء رسولاً (أعمال ص ٩). وثالثاً في كنيسة أنطاكية حين قال الروح القدس «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ» (أعمال ١٣: ٢).
والمراد بقوله «إنجيل الله» التبشير بالإنجيل أي المناداة عن لسان الله بالأخبار السارة وهي الأنباء بمغفرة الخطايا والمصالحة وتجديد القلب وقيامة الأجساد والحياة الأبدية.
٢ «ٱلَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي ٱلْكُتُبِ ٱلْمُقَدَّسَةِ».
أعمال ١: ٤٣ و١٨: ٢٨ و٢٦: ٦ وص ٣: ٢١ و١٦: ٢٦ وغلاطية ٣: ٨ وتيطس ١: ٢ و١بطرس ١: ١٠ و٢بطرس ١: ١٠
صرّح بولس بأن الإنجيل الذي أُرسل هو للمناداة به ليس بديانة جديدة وأن الذين قبلوه لم يرفضوا موسى والأنبياء لأن موسى والأنبياء أنبأوا بحقائق الإنجيل وأعلنوه بعض الإعلان وكان إثبات ذلك موضوع كثير من خطب بولس ورسائله وأعظم تلك الحقائق يتعلق بالمسيح وصفاته وأعماله والملكوت الذي هو أنشأه وكانت النبوءات المتعلقة بذلك أقوالاً ورموزاً.
٣ «عَنِ ٱبْنِهِ. ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ».
متّى ١: ٦ و١٦ ولوقا ١: ٣٢ ويوحنا ١: ١٤ وأعمال ٢: ٣٠ وغلاطية ٤: ٤ و٢تيموثاوس ٢: ٨
عَنِ ٱبْنِهِ ذكر اسم هذا الابن في الآية الرابعة وهو جوهر مواعيد العهد القديم. والمراد «بالابن» هنا الكلمة المتجسدة في الطبيعتين الإلهية والإنسانية.
ٱلَّذِي صَارَ أي وُلد (وهذا كما قيل في متّى ١: ١) لأنه «أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ» (غلاطية ٤: ٤). من بيت داود الملكي كما أنبأ به العهد القديم واثبت وقوعه العهد الجديد (إشعياء ٩: ٧ و١١: ١ و١٠ وإرميا ٢٣: ٥ ومتّى ٢٢: ٤٥ ويوحنا ٧: ٤٢ وأعمال ١٣: ٢٣).
إن النبوءة صرّحت بأن المسيح الموعود به يكون من نسل داود فاقتضى أن يوضح كتبة الإنجيل بأن يسوع الناصري من ذلك النسل وقد أوضح ذلك في (متّى ١: ٢٠ ولوقا ١: ٢٧ و٣٢ و٣٣ وأعمال ٢: ٣٠ - ٣٢ و١٣: ٢٢ و٢٣).
مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ أي الناسوت تمييزاً عن اللاهوت. ولو كان يسوع مجرد إنسان ما كان من حاجة إلى هذه العبارة وكفى أن يقال أنه من نسل داود فزيدت هذه العبارة ليقصر تناسله من داود على طبيعته البشرية. فمعنى «الجسد» هنا كمعناه في قول يوحنا «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ» (يوحنا ١: ١٤) وقول بولس «الله ظهر في الجسد» (١تيموثاوس ٣: ١٦). وكذا فُسر في قوله «إِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ» (فيلبي ٢: ٨). فاتضح أن معنى الجسد هنا الجسم البشري الحقيقي مع النفس الناطقة.
٤ «وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ: يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا».
أعمال ١٣: ٣٣ عبرانيين ٩: ١٤ ص ١٢: ٣ و١٦: ١٥ و١كورنثوس ١٥: ١٠ وغلاطية ١: ١٥ و٢: ٩ وأفسس ٣: ٨
تَعَيَّنَ أي أُعلن لنا بالدليل القاطع.
ٱبْنَ ٱللّٰهِ هذا هو الأمر المعلن ولم يقل أنه صار ابن الله كما قال صار جسداً لأن بنوته غير محدثة كتجسده فهو كان ابن الله منذ الأزل كما يتضح من (يوحنا ١: ١ - ١٤) حيث جاء الكلمة والابن بمعنى واحد وكما يتضح من (يوحنا ٥: ١٦ - ٣١ و١٠: ٢٩ - ٤٢).
بِقُوَّةٍ متعلّق بتعيّن والمعنى أنه تبين لنا بأدلة يقينية لم يبق معها محل لشيء من الريب.
مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ أي اللاهوت تمييزاً له عن الناسوت وأضاف الروح إلى القداسة لأنها من أسمى صفات اللاهوت. خلاصة الآية الثالثة أن الابن باعتبار أنه إنسان من نسل داود وباعتبار أنه إله هو ابن الله.
بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أولاً بقيامته هو كما يتضح من (أعمال ١٧: ٣١ و١بطرس ١: ٣ وأعمال ١٣: ٣٥ و٢٦: ٢٣ و١كورنثوس ١٥: ٢٠). وثانياً بالقيامة العامة التي قيامة المسيح علتها وباكورتها. وكان الرسل يجمعون غالباً هاتين القيامتين في تبشيرهم (أعمال ٤: ٢ و٢٣: ٦). فإن قيل كيف تكون قيامة المسيح دليلاً على أنه ابن الله قلنا أنه قام بقوة نفسه لأن له «سُلْطَانٌ أَنْ يضَعَهَا وَلِه سُلْطَانٌ أَنْ يأخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا ١٠: ١٨). وأن يسوع كان لا يفتأ مصرّحاً بأنه ابن الله فإقامة الله إياه من الأموات تصديق لدعواه وإلا فلو بقي تحت سلطان الموت لكان ذلك بمنزلة نفي الله أنه ابنه فإقامته إياه إثبات لتلك الدعوى.
يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا يسوع هنا بيان «للابن» المذكور في الآية الثالثة. ولكل من هذه الأسماء معنى ثمين فمعنى يسوع مخلص ( متّى ١: ٢١) ومعنى المسيح الممسوح نبياً وكاهناً وملكاً الموعود به في العهد القديم ومعنى ربنا ذو السلطان المطلق علينا.
٥ «ٱلَّذِي بِهِ، لأَجْلِ ٱسْمِهِ، قَبِلْنَا نِعْمَةً وَرِسَالَةً، لإِطَاعَةِ ٱلإِيمَانِ فِي جَمِيعِ ٱلأُمَمِ».
ص ١٢: ٣ و١٥: ١٥ و١كورنثوس ١٥: ١٠ وغلاطية ١: ١٥ و٢: ٩ وأفسس ٣: ٨ أعمال ٦: ٧ وص ١٦: ٢٦ أعمال ٩: ١٥
جاء بولس بهذه الآية إثباتاً لسلطانه الرسولي وبياناً أنه يحق له أن يكتب بعض الرسائل لهم ولغيرهم من الكنائس التي أسسها والتي لم يؤسسها.
ٱلَّذِي بِهِ أي الرب يسوع الذي أثبت عظمته.
لأَجْلِ ٱسْمِهِ أي إكراماً وتمجيداً لهذا الاسم الذي هو فوق كل اسم.
قَبِلْنَا ما أراد الرسول بضمير المتكلمين غير نفسه جرياً على عادة الكتبة اليونانيين فإنهم عدلوا عن ضمير المفرد في التكلم لما فيه على اصطلاحهم من الإعجاب بالنفس.
نِعْمَةً وَرِسَالَةً كلتيهما في وقت واحد والأولى إعداد للثانية وهذه تشتمل على الوحي والسلطان الديني.
لإِطَاعَةِ ٱلإِيمَانِ أي أن يسوع أرسله مبشراً بالإنجيل لكي يؤمن الكل به ويطيعوه وأضاف الإطاعة إلى الإيمان لأنه أحد أعمالها وأعظمها. وهذا موافق لقول يوحنا الرسول «هٰذِهِ هِيَ وَصِيَّتُهُ: أَنْ نُؤْمِنَ بِٱسْمِ ٱبْنِهِ يَسُوعَ» (١يوحنا ٣: ٢٣). ولقول المسيح نفسه «هٰذَا هُوَ عَمَلُ ٱللّٰهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِٱلَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ» (يوحنا ٦: ٢٨ و٢٩ انظر أعمال ٦: ٧ و٢تسالونيكي ١: ٨ و١بطرس ١: ٢٢). أو أضافها إلى الإيمان لأنها من أثماره.
فِي جَمِيعِ ٱلأُمَمِ أي أن رسوليته لم تكن مقصورة على مدينة أو أمة بل كانت عامة كل أهل الأرض.
٦ «ٱلَّذِينَ بَيْنَهُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً مَدْعُوُّو يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
خاطب بولس بناء على كونه رسولاً إلى جميع الأمم الرومانيين وإن لم يكن منشئ كنيسة رومية.
مَدْعُوُّو يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي الذين دعاهم يسوع للشركة في كل فوائد الفداء فالمدعوون هنا بمعنى المختارين لأن المسيح دعاهم دعوة فعالة. وجاء مثل ذلك في رسالته إلى الكورنثيين حيث يقول «وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ... قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١: ٢٣ و٢٤ انظر أيضاً رومية ٨: ٢٨).
٧ «إِلَى جَمِيعِ ٱلْمَوْجُودِينَ فِي رُومِيَةَ، أَحِبَّاءَ ٱللّٰهِ، مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
ص ٩: ٢٤ و١كورنثوس ١: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٧ و١كورنثوس ١: ٣ و٢كورنثوس ١: ٢ وغلاطية ١: ٣
في هذه الآية خطاب وسلام على أثر تبيينه ماهية رسوليته وعظمتها وهي تابعة للآية الأولى كأنه كتب «بولس عبد يسوع المسيح إلى جميع الموجودين في رومية» وما بين الجملتين معترض.
أَحِبَّاءَ ٱللّٰهِ هذا امتياز للمؤمنين وغبطة لهم «اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٢: ٤ و٥) «وهم مختارو الله المحبوبون» (كولوسي ٣: ١٢) «لأنهم تصالحوا مع الله بموت ابنه» (ص ٥: ٥ و٨: ٣٩).
مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ كما دُعي بولس رسولاً في الآية الأولى والذي دعاهم ودعاه هو الله فإنه تعالى قدوس فيدعو شعبه ليكونوا قديسين أي طاهرين (١بطرس ١: ١٥ و١٦) ويجيء القديس بمعنى المنفصل عن العالم الموقوف لخدمة الله (يوحنا ١٧: ١٩).
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ هذه تحية رسولية فيها نوع من الصلاة. والنعمة علّة في الله والسلام معلولها فينا ومعنى النعمة الإحسان إلى غير المستحق وأعظم مظاهرها خلاص الخطأة وهي تعمّ كل مواهب الله بيسوع المسيح. ولا سيما موهبة الروح القدس. والسلام هنا الاطمئنان والسرور والراحة الناتجات لمن يشعر بالحصول على تلك النعمة.
مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ توجيه بولس الصلاة إلى الآب والابن واعتباره إياهما مصدر النعمة دليل قاطع على أنه اعتقد أن يسوع له حق مساوٍ للآب.
إن الله أبونا لأنه علّة وجودنا ومصدر كل بركة لنا ولأنه صالحنا بيسوع المسيح فيعتبرنا أولاده بالتبني (ص ٨: ١٥ وغلاطية ٤: ٥) وأن يسوع المسيح ربنا أي سيدنا لأنه يجب علينا أن نطيعه وهو الوسيط بيننا وبين الله وبواسطته ننال كل خير في هذه الحياة وفي الحياة الآتية.
٨ «أَوَّلاً، أَشْكُرُ إِلٰهِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، أَنَّ إِيمَانَكُمْ يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ».
١كورنثوس ١: ٤ وفيلبي ١: ٣ وكولوسي ١: ٣ و٤ و١تسالونيكي ١: ٢ وفليمون ٤ ص ١٦: ١٩ و١تسالونيكي ١: ٨
أَوَّلاً، أَشْكُرُ أظهر بولس سروره بوجود كنيسة مسيحية في رومية مشهورة بإيمانها بتقديم الشكر لله الذي هو واهب ذلك الإيمان وكان له أن يقدم لله مثل هذا الشكر من أجل كنيسة تسالونيكي (١تسالونيكي ١: ٨ - ١٠).
إِلٰهِي الذي أنا له وإياه أعبد.
بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ متعلق بأشكر لأننا لا نستطيع أن ندنو من الآب إلا بيسوع وكل طلباتنا تقدم به ولذلك قال لكنيسة أفسس «شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِلّٰهِ وَٱلآبِ» (أفسس ٥: ٢٠ انظر أيضاً أفسس ٧: ٢٥ وكولوسي ٤: ١٧ وعبرانيين ٣: ١٧ وعبرانيين ١٣: ١٥).
أَنَّ إِيمَانَكُمْ... فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ انتشر من قصبة المملكة الرومانية إلى جميع الولايات الخبر بوجود كنيسة مسيحية في رومية وليس ذلك فقط بل أن إيمان تلك الكنيسة كان عظيماً أوجب السرور والمديح لكل من سمع به من المسيحيين وفي ذلك دليل على أن كنيسة رومية كانت قد مر على تأسيسها بضع سنين وعلى أن دين المسيح قد انتشر في أقطار الأرض كلها في ثلاثين سنة تقضت منذ صلب المسيح.
٩ «فَإِنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي أَعْبُدُهُ بِرُوحِي، فِي إِنْجِيلِ ٱبْنِهِ، شَاهِدٌ لِي كَيْفَ بِلاَ ٱنْقِطَاعٍ أَذْكُرُكُمْ».
يوحنا ٤: ٢٣ وأعمال ٢٧: ٢٣ وفيلبي ٣: ٣ و٢تيموثاوس ١: ٣ ص ٩: ١ و٢كورنثوس ١: ٢٣ وفيلبي ١: ٨ و١تسالونيكي ٢: ٥
ما جاء في هذه الآية والتي تليها إثبات لما قاله في سروره وشكره من أجلهم.
ٱلَّذِي أَعْبُدُهُ بِرُوحِي أي بالخلوص والقلب لا بالظاهر فقط وذكر ذلك إثباتاً لصدق كلامه.
فِي إِنْجِيلِ ٱبْنِهِ أشار بهذا إلى حقيقة عبادته ونوعها فإن اللاويين كانوا يعبدون الله في خيمة الاجتماع والهيكل لكن بولس عبده بتبشيره بالإنجيل.
شَاهِدٌ لِي استشهد الرسول بكل وقار الله الفاحص القلوب الموجود في كل مكان العالم كل شيء بصدق ما يقوله. وجاء مثل ذلك في (٢كورنثوس ١: ٢٣ وغلاطية ١: ٢٠ وفيلبي ١: ٨).
بِلاَ ٱنْقِطَاعٍ أَذْكُرُكُمْ بالفكر واللسان كما يتبيّن من الآية التالية وهذا أوضح دليل على اهتمامه بهم وحبه إياهم. فذكر الإنسان غيره بالفكر أو باللسان في معرض الحديث لا يخلو من بيان الاهتمام بالمذكور ولكن ذكره إياه بالصلاة الدليل الأعظم على العناية والمحبة. وبولس صرّح بأنه لم يأت ذلك مرة أو مرتين بل بأنه أتاه دائماً.
١٠ «مُتَضَرِّعاً دَائِماً فِي صَلَوَاتِي عَسَى ٱلآنَ أَنْ يَتَيَسَّرَ لِي مَرَّةً بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ».
١تسالونيكي ٣: ١٠ ص ١٥: ٢٣ و٣٢ و١تسالونيكي ٣: ١٠ ويعقوب ٤: ١٥
بيّن الرسول لهم في هذه الآية إحدى طلباته التي ما فتئ يطلبها في شأنهم. وعبارته هنا تدل على شدة رغبته في زيارتهم كأنها من أحسن المبتغيات وعلى أنه في ريب من إدراكها لعروض موانع ومصاعب تمنع منها وعلى تسليمه كل الأمر لله مع رجائه أنه ينال مراده بعد قليل.
١١ «لأَنِّي مُشْتَاقٌ أَنْ أَرَاكُمْ، لِكَيْ أَمْنَحَكُمْ هِبَةً رُوحِيَّةً لِثَبَاتِكُمْ».
ص ١٥: ٢٩ و٢كورنثوس ١٣: ١٠
أبان الرسول في هذه الآية علّة رغبته في زيارتهم وهي نفعهم لا لذته.
هِبَةً رُوحِيَّةً أي موهبة مصدرها الروح القدس والقرينة تدل على أنه لم يقصد بها هبة المعجزات والتكلم بالألسنة المذكورة في (١كورنثوس ص ١٢) إنما قصد بها ما ذُكر في (غلاطية ٥: ٢٢ و٢٣).
لِثَبَاتِكُمْ هذه القرينة الدالة على ما ذكرناه من مراده بالهبة لأن المعجزات ليست لثبات المؤمنين بل لإقناع غير المؤمنين. ومعنى ثبات المؤمنين زيادة ثقتهم بصدق الإنجيل ورغبتهم في التقوى وحب الله وإطاعتهم للحق.
١٢ «أَيْ لِنَتَعَزَّى بَيْنَكُمْ بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي فِينَا جَمِيعاً، إِيمَانِكُمْ وَإِيمَانِي».
تيطس ١: ٤ و٢بطرس ١: ١
هذه الآية إيضاح للآية التي قبلها وبيان أنه رغب في مشاهدتهم بغية نفعه ونفعهم.
لِنَتَعَزَّى هذا هو النفع المبتغى وهو مشترك. والمراد بالتعزية هنا التنشيط والتشجيع في الجهاد الروحي. وكثيراً ما جاءت التعزية في الإنجيل بمعنى تسكين الحزن في المصائب وهي ليست المقصودة هنا. والروح القدس هو المعزي ومواهبه تقدرنا على العمل بنشاط وسرور كما تقدرنا على احتمال الأرزاء بصبر.
قصد الله أن يعزّي كل من المسيحيين الأُخر لتخفيف الأحزان وتقوية الإيمان وللاجتهاد في الصلاة والنشاط في العمل الروحي حتى أن الرسول الذي علّمه المسيح وعزّاه يمكنه أيضاً أن يتعزى بمسيحيي رومية البسطاء.
١٣ «ثُمَّ لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّنِي مِرَاراً كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ، وَمُنِعْتُ حَتَّى ٱلآنَ، لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ فِيكُمْ أَيْضاً كَمَا فِي سَائِرِ ٱلأُمَمِ».
أعمال ١٩: ٢١ وص ١٥: ٢٣ و٢٤ أعمال ١٦: ٧ و١تسالونيكي ٢: ١٨ فيلبي ٤: ١٧
مِرَاراً كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ (انظر أعمال ١٩: ٢١ و٢٣: ١١). وقوله مراراً كثيرة يلزم منه أن كنيسة رومية كانت قد أُنشئت منذ زمن ليس بقصير.
مُنِعْتُ حَتَّى ٱلآنَ (ص ١٥: ٢٠ - ٢٥) لا نعلم ما هي الموانع ولكن لا نعجب من وقوعها لكثرة ما كان على بولس من الأعمال للكنائس التي أنشأها.
لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ فِيكُمْ هذا الثمر هو إرشاد الضالين وتثبيت المهتدين لخلاص النفوس ومجد المسيح.
كَمَا فِي سَائِرِ ٱلأُمَمِ هذا أوضح دليل على أنه كان أكثر كنيسة رومية من الأمم.
١٤ «إِنِّي مَدْيُونٌ لِلْيُونَانِيِّينَ وَٱلْبَرَابِرَةِ، لِلْحُكَمَاءِ وَٱلْجُهَلاَءِ».
١كورنثوس ٩: ١٦
إِنِّي مَدْيُونٌ هذا بيان علّة اشتياقه إلى أن يراهم ويمنحهم هبة روحية وهي أنه مضطر إلى ذلك وهذا على وفق قوله «ٱلضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ» (١كورنثوس ٩: ١٦). وكان مضطراً أن يبشر الناس من كل صنف ولسان وعلّة هذا الاضطرار إنما هي أمر المسيح (ع ٥ وأعمال ٢٢: ٢١).
لِلْيُونَانِيِّينَ وَٱلْبَرَابِرَةِ أي جميع أهل الأرض باعتبار اللغة لأن بولس كتب هذه الرسالة في بلاد اليونان وجرى على سننهم في اصطلاح الكتابة. واليونانيون يسمون الذين لا يتكلمون بلغتهم برابرة (١كورنثوس ١٤: ١١).
لِلْحُكَمَاءِ وَٱلْجُهَلاَءِ أي جميع أهل العالم باعتبار مقدار معرفتهم. نعم إن أكثر الذين قبلوا الإنجيل من الجهلاء (١كورنثوس ١: ٢٠ و٢٦ - ٢٨) على أن الإنجيل عُرض على الحكماء أيضاً وقبله بعضهم ومن أولئك الحكماء بولس.
إن مدينة رومية كانت كأنها عالَم بنفسه فيه كثيرون من اليونانيين والبرابرة والحكماء والجهلاء الذي اعتقد بولس أنه مديون لأن يبشرهم.
١٥ «فَهٰكَذَا مَا هُوَ لِي مُسْتَعَدٌّ لِتَبْشِيرِكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ فِي رُومِيَةَ أَيْضاً».
فَهٰكَذَا أي بناء على ما سبق.
مَا هُوَ لِي مُسْتَعَدٌّ فإن امتنعت فالمانع ليس مني بل من الله.
١٦ «لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ».
مزمور ٤٠: ٩ و١٠ ومرقس ٨: ٣٨ و٢تيموثاوس ١: ٨ و١كورنثوس ١: ١٨ و١٥: ٢ لوقا ٢: ٣٠ - ٣٢ و٢٤: ٤٧ وأعمال ٣: ١٦ و١٣: ٢٦ و٤٦ وص ٢: ٩
لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ في هذا تلميح إلى أن البعض استحوا بالإنجيل لحقارة من جاء به باعتبار حاله على هذه الأرض ولقلة تابعيه وفقرهم وانخفاض منزلتهم ورفض رؤساء اليهود إيّاه وموته على الصليب كمجرم. والذهاب إلى رومية أم مدن العالم للمناداة بالتعليم الذي هو «لليهود عثرة ولليونانيين جهالة» يقتضي أن يكون المنادي على غاية الشجاعة.
لأَنَّهُ هذا علّة نفي الاستحياء بالإنجيل وهو على ما سيظهر تيقن الرسول قيمته ومجده. وأبان تلك القيمة بخمسة أمور:

  • الأول: مصدر الإنجيل وهو الله بدليل قوله «أنه قوة الله».
  • الثاني: «اسم الإنجيل» ومعناه الخبر السار.
  • الثالث: غايته وهي «خلاص» الهالكين.
  • الرابع: كونه «لكل إنسان» لأن البشر كلهم يحتاجون إليه وهو موافق للكل ومقدم للجميع.
  • الخامس: إن «قوة الله» مرافقة له ومقدّرة له على التأثير.


قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاَصِ في هذه العبارة أمران الأول أن العامل في الإنجيل هو الله وهو يجعله فعالاً. والثاني أن مفعوله الخلاص أي النجاة من الخطيئة وعقابها ونيل الحياة الأبدية والسعادة. أن كل حكمة بشرية عاجزة عن اختراع طريق للخلاص وكل قوة بشرية عاجزة عن إصابته.
لِكُلِّ هذا نص في أن الإنجيل لكل إنسان بلا التفات إلى أُميّه أو حاله أو خطيئته. وهذا التعليم مما كرهه اليهود كثيراً واضطهدوا بولس على مناداته به لأنهم ظنوا الخلاص لليهود فقط.
مَنْ يُؤْمِن فقط. فالخلاص غير متوقف على الولادة أو المعمودية أو الإقرار باللسان بل على إيمان القلب. والإيمان الذي يؤدي إلى الخلاص يستلزم ثلاثة أمور:

  • الأول: معرفة حقائق الإنجيل التي يجب أن يؤمن بها.
  • الثاني: التسليم بصحتها.
  • الثالث: الاتكال على المخلص المعلن في الإنجيل.


لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً بالنظر إلى وقت التبشير. فليس المعنى أن الإنجيل يناسب اليهودي أكثر من غيره أو أن الله يقصد بالإنجيل اليهود أكثر مما يقصد غيرهم بل هو أن بداءة الإنجيل بين اليهود فإن المسيح وُلد منهم وبشرهم وصنع معجزاته فيهم ومات وقام بينهم وبُشر بالإنجيل اليهود أولاً. والذين بشروا الأمم أولاً هم من اليهود.
ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ المراد باليوناني هنا كل فرد من الأمم وخص اليوناني بالذكر لأن اليونان هم الذين خالطهم اليهود وعرفوهم أكثر من سواهم من الأمم.
١٧ «لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ ٱللّٰهِ بِإِيمَانٍ، لإِيمَانٍ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ «أَمَّا ٱلْبَارُّ فَبِٱلإِيمَانِ يَحْيَا».
ص ٣: ٢١ و٢٤ و٢٨ و٣٠ و٤: ٥ و٥: ١ حبقوق ٢: ٤ ويوحنا ٣: ٣٦ وغلاطية ٣: ١١ وفيلبي ٣: ٩ وعبرانيين ١٠: ٣٨
لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ ٱللّٰهِ بِإِيمَانٍ ففاعلية الإنجيل متوقفة على إعلان هذا المبدإ العظيم. وهو موضوع الرسالة. ومعرفة المقصود ببر الله ضرورية للانتفاع منها.
ولنا في هذا البرّ أقوال:

  • أولاً: إنه ليس المراد به هنا صفة من صفات الله كعدله وقداسته كما في (ص ٣: ٥) لأنه متوقف على إيمان الإنسان بدليل قوله أنه برّ الله للإيمان.
  • ثانياً: إنه لا يمكن أن يكون معناه براً مخلوقاً أو مغروساً فينا حتى كأنه منا لأن هذا ينافي كل تعليم الرسالة لتصريحها أنه ليس برنا إنما نُسب إلينا لنيابة غيرنا عنا ولا يمكن أن يكون مكسوباً بأعمالنا لأنه ليس من أعمال الناموس (غلاطية ٣: ٢١ ورومية ٣: ٢٠).
  • ثالثا: إن معناه الجلي البرّ الذي يحسبه الله للإنسان بلا نظر إلى استحقاقه. وقد جاء تفسيره في قول الرسول «لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢كورنثوس ٥: ٢١).
  • رابعاً: أنه دعي برّ الله لأن الله أوجده وأعلنه للناس ووضع كل وسائطه ويتمجد به.


وأشار بقوله «معلن» إلى أن ذلك البرّ لا يعرفه الإنسان إلا من وحي الله لأن العقل البشري لا يتصور براً غير ما يستحقه الإنسان بأعماله الصالحة ولأن أصل برّ الله مجرد رحمته تعالى فيكون مما كُتم في قضاء الله إلى أن استحسن الله أن يظهره للإنسان وقد أعلنه له في إنجيله (ص ١٦: ٢٥).
كانت معلنات العهد القديم جزئيات تمهيدية لمعلنات الإنجيل الكاملة.
بِإِيمَانٍ لإِيمَانٍ هذا يعلمنا ما هي الوسيلة التي نحصل بها على ذلك البرّ وهي الإيمان وهذا الإيمان هو اليد التي بها نأخذ هبة الله. ومعنى قوله «بإيمان لإيمان» أي بالإيمان وحده دون غيره من سائر الوسائل فالمسيحي من أول دقيقة يؤمن فيها إلى آخر نسمة من حياته يُبرّر بالإيمان بيسوع المسيح مصلوباً.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ الخ هذا الكلام مقتبس من نبوءة حبقوق (حبقوق ٤: ٢) وهو تنبأ سنة ٦٢٠ ق. م وموضوع نبوءته المصائب التي تصيب اليهود في سبي بابل وصرّح لهم أن تلك المصائب لا تدوم لأن الذين يتكلون على الله منهم يحيون ويرجعون إلى بلادهم بالراحة والسعادة. والمبدأ الذي بنى عليه النبي كلامه هو أن الإسرائيلي ينجو ويحيا باتكاله على الله لا باستحقاقه وهو كالمبدإ الذي بنى عليه بولس الرسول كلامه وهو أن المسيحي باتكاله على الله (أي بالإيمان) يحيا إلى الأبد.

فوائد



  • الأولى: إن بعض ما قيل هنا على الرسل يصدق على القسوس وهو عدة أمور:

    • إنهم خدَم يسوع وسلطان خدمتهم من المسيح لا من الشعب.
    • إنهم مدعوون لينادوا بالإنجيل وما سوى ذلك من الخدمة الدينية ثانوي ووسيلة إليه.
    • إن غاية دعوتهم أن يأتوا بالناس إلى طاعة الإيمان.
    • إنهم عيُنوا لتبشير كل الأمم.
    • إنه يجب أن تكون خدمتهم كلها إكراماً ليسوع المسيح وتمجيداً لاسمه (ع ١ - ٥).


  • الثانية: إن مبادئ العهد الجديد من مضمون العهد القديم بل هو جوهر تعليمه (ع ٢).
  • الثالثة: إن يسوع المسيح هو الألف والياء في الإنجيل بدليل قوله «عن ابنه» (ع ٣).
  • الرابعة: إن المسيح إله وإنسان معاً لأنه ابن الله وابن داود (ع ٣ و٤).
  • الخامسة: إن يسوع المسيح يستحق أن نوجه صلواتنا إليه وأنه هو مصدر بركاتنا الروحية (ع ٧ و٨).
  • السادسة: إنه على المسيحيين أن يذكروا أنهم «قديسون» منفصلون عن العالم مفروزون عنه فلا يقدرون أن يخدموا العالم وشهواتهم إلا بترك ما يجب عليهم وبإنكار دعوتهم (ع ٧).
  • السابعة: إن القسوس ليسوا بممتازين عن سائر المسيحيين حتى يستغنوا عن مساعدتهم في الروحيات فعليهم أن يتوقعوا الفائدة منهم كما يسعون في إفادتهم (ع ١١ و١٢).
  • الثامنة: إنه يجب على القسوس أن يبشروا الناس بالإنجيل على اختلاف صنوفهم أغنياء وفقراء علماء وجهلاء لأنه يحتاج الجميع إليه (ع ١٤ و١٥).
  • التاسعة: إن الواسطة الوحيدة لخلاص الناس المتضمن مغفرة الخطايا وإصلاح طبيعتهم الأدبي هو الإنجيل. وقد عجزت حكمة البشر مدة أربعة آلاف سنة قبل الميلاد عن استنباط وسيلة للحصول على تينك الغايتين وعجز مثلهم الذين قصدوهما بدون الإنجيل بعد مجيء المسيح (ع ١٦).
  • العاشرة: إن قوة الإنجيل هي في تعليمه بصليب يسوع المسيح أي أن الخاطئ يتبرّر بالإيمان بالفادي المصلوب. لا في جودة تعليمه صفات الله ولا بجودة شريعته الأدبية. فمنكر تعليم التبرير بالإيمان منكر للإنجيل (ع ١٧).



افتقار كل الناس إلى البرّ بالإيمان ص ١: ١٨ - ٣: ٢٠

افتقار جميع الأمم إلى ذلك البرّ ع ١٨ إلى ٣٢


١٨ «لأَنَّ غَضَبَ ٱللّٰهِ مُعْلَنٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ ٱلنَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَحْجِزُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلإِثْمِ».
أعمال ١٧: ٣٠ وأفسس ٥: ٦ وكولوسي ٢: ٦
لأَنَّ أخذ الرسول هنا يبرهن افتقار الإنسان إلى برّ الله فإنه من البيّن محالية أن يكون غير طريقين للتبرير الأولى الطاعة الكاملة لناموس الله والثانية الإيمان يبسوع المسيح وبرهن الرسول افتقار الناس إلى الثانية باستحالة التبرير بالأولى لأن كل الناس قد خطئوا لتعديهم شريعة الله وتعريضهم أنفسهم لغضبه وعقابه.
والعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها هي أنه من اللازم الضروري أن يتبرّر الإنسان بالإيمان لأنه عرضة لوقوع غضب الله عليه.
غَضَبَ ٱللّٰهِ أي إظهار عدله بالعقاب على الإثم. إن الخطيئة تستوجب غضبه لأنها تعد وعصيان وكما أنه تعالى يحب الطهارة لأنه قدوس يبغض الخطيئة لأنه عادل. وكون الله يغضب على الخطأة من أوضح تعاليم الكتاب المقدس وأهولها. وأعلنه الله قبل وقوعه ليحمل الخطأة على الهرب منه إلى الملجإ الذي هو أعدّه. وغاية الفداء إعداد ملجإ من ذلك الغضب بيسوع المسيح ابنه. وغضب الله ليس كغضب الإنسان لأن غضب الإنسان نتيجة حب الذات ولا يخلو من روح البغض والانتقام وهذا كله بعيد عن غضب الله تعالى.
مُعْلَنٌ بسياسته العالم وترتيبه الشقاء على الإثم وبإنذاراته المكتوبة في أسفاره وإنجازه بعضها في هذه الحياة وبحكم الضمير الذي هو نائب الله في الإنسان.
مِنَ ٱلسَّمَاءِ لأنها مسكن الله ومنها يُجري كل مقاصده. وكون ذلك الإعلان من السماء يقتضي أن يكون إلهياً واضحاً ومؤكداً.
فُجُورِ ٱلنَّاسِ هذه إحدى الطرق التي يظهر فيها إثم البشر وهي تعدي الإنسان على حقوق الله كعدم الاكتراث بوجوده تعالى وشرائعه وعيشه بلا محبة ولا خوف ولا شكر ولا عبادة ولا طاعة كأنه ليس من إله.
وَإِثْمِهِمِ هذه طريق ثانية يظهر بها الإنسان خاطئاً وهي تعديه على حقوق بني جنسه فكراً وقولاً وعملاً.
يَحْجِزُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلإِثْمِ المراد «بالحق» هنا كل ما هو صحيح وواجب مما علينا لله وللناس اعتقاداً وعملاً (يوحنا ٣: ٢١ و٨: ٣٢ و٢كورنثوس ٤: ٢ و٢تسالونيكي ٢: ١٢). ومعنى «حجز الحق» هنا منع تأثيره ومقاومته كمعناه في (٢تسالونيكي ٢: ٦ و٧) فالأثمة يصدون حق الله المعلن في ضمائرهم وفي أعماله تعالى وكلامه (قابل بهذا أمثال ٢٠: ٢٧ ومتّى ٦: ٢٢ و٢٣ وأفسس ٤: ١٧ و١٨ وتيطس ١: ١٥).
١٩ «إِذْ مَعْرِفَةُ ٱللّٰهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ ٱللّٰهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ».
أعمال ١٤: ١٧ مزمور ١٩: ١ - ٤
إذا لم يعرف الأمم وجود الله ولا إرادته ولا الواجبات عليهم فلهم عذر عن فعلهم وما قيل في هذه الآية يثبت أنهم بلا عذر.
إِذْ مَعْرِفَةُ ٱللّٰهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ أي معرفة وجوده وصفاته وما يرضيه وما يغيظه من الأعمال. وأراد الرسول بهذه المعرفة ما تستطيع الأمم أن تتوصل إليها بدون أسفار الوحي.
لأَنَّ ٱللّٰهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ بأدلة العقول والضمائر والغرائز الأدبية وبمخاطبته القلوب بروحه.
٢٠ «لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ ٱلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ ٱلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِٱلْمَصْنُوعَاتِ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ».
أعمال ١٧: ٢٤ - ٢٨
لأَنَّ أُمُورُهُ غَيْرُ ٱلْمَنْظُورَةِ أي وجوده وصفاته مثل كونه خالقاً حكيماً كريماً معاقباً على الإثم. وجمع الرسول هذه الصفات في هذه الآية في صفتين قدرته ولاهوته.
تُرَى لا منافاة بين قوله «غير المنظورة» وقوله «تُرى» لأن المراد بغير المنظورة الحقائق الروحية كما ذُكر وهذه لا تراها عين الجسد ولكنها تراها عين الروح. ولم يقل الرسول هنا أن كل الناس يرون تلك الحقائق الروحية بل أنهم يستطيعون ذلك إذا أرادوا. والحق أن أكثرهم لم يكترثوا بها ولم يدركوها لأنهم جسدانيون أغمضوا عيونهم عن نور الحق الروحي.
مُنْذُ خَلْقِ ٱلْعَالَمِ أي منذ بدء الزمان ومنذ وجود المصنوعات الشاهدة لله ووجود أناس يشاهدونها ويدركون شهادتها.
بِٱلْمَصْنُوعَاتِ أي العالم المادي الذي يدركه الإنسان بالحواس الظاهرة وبالعقل ويتعلم منه الحقائق الروحية.
قُدْرَتُهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةُ أول تأثيرات أعمال الله في الإنسان كالبرق والرعد والزلزلة واضطراب البحر والزوبعة تجعله يتيقن أن الله الذي صنعها ويسوسها قدير. ونعت «قدرته السرمدية» لأنه لا يمكن أن تكون قدرة كقدرة الله ما لم تكن أزليّة أبديّة.
لاَهُوتُهُ أي مجموع صفاته تعالى سوى أنه ذو ثلاثة أقانيم لأن هذا من معلنات الوحي وليس بيانه من غاية الرسول هنا.
حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ على عدم معرفتهم الله وعدم عبادتهم وإطاعتهم إياه لأن الله خلق العالم شاهداً له وخلق ضمير الإنسان كذلك فمن جهله فلا عذر له. وقوله هنا كقوله لأهل ليكأونية (أعمال ١٤: ١٦ و١٧) وقوله لأهل أثينا (أعمال ١٧: ٢٧).
وما أبانه الرسول هنا من إمكان الإنسان أن يدرك الله بالأدلة الطبيعية لا يستلزم أن الضال عنه تعالى يمكنه الرجوع إليه ويخلص بمجرد النور الطبيعي.
٢١ «لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ».
٢ملوك ١٧: ١٥ وإرميا ٢: ٥ وأفسس ٤: ١٧ و١٨
أقام الرسول هذه الآية دليلاً على أنه لا عذر للأمم على ما ارتكبوه من الآثام لأنهم خالفوا بذلك شهادة النور الطبيعي المنتشر من مصنوعات الله وعصوا ضمائرهم.
لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ أي استطاعوا أن يعرفوا كما أبان في (ع ١٩ و٢٠).
لَمْ يُمَجِّدُوهُ أي لم يفعلوا بمقتضى معرفتهم لأن صفات الله توجب تمجيده على كل من عرضها لما فيها من الجلال والعظمة.
أَوْ يَشْكُرُوهُ على ما وهب لهم من البركات. وجمع الرسول بالتمجيد والشكر كل ما تشتمل عليه دائرة الواجبات الدينية.
بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ أي فعلوا كمن لا عقل له إذ جهلوا الله وأخطأوا في تصوّرهم إيّاه كما يظهر من تقاليد الوثنيين وخرافاتهم الدينية وتماثيلهم.
وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ أي عميت أذهانهم بتأثير الخطيئة وارتكاب الفواحش وكانت تلك العماية تزيد فيهم تدرجاً فإنهم امتنعوا وهم يعرفون الله عن تأديتهم إياه ما يستحقه من التمجيد والشكر ثم جهلوه وصدقوا تصوراتهم الباطلة وتوغلوا في أودية الغباوة والضلال والخطيئة.
٢٢ «وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ».
إرميا ١٠: ١٤
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ افتخر اليونانيون القدماء بحكمتهم وسمّى علماؤهم أنفسهم فلاسفة (أي محبي الحكمة) بدليل ما جاء في (١كورنثوس ١: ١٩ - ٢٢ و٣: ١٩ و٢كورنثوس ١١: ١٩) ولكن كل حكمتهم لم تكن كافية أن تمنحهم القداسة أو الغبطة وأن تحفظهم من الضلالة عن الله وعن طريق عبادته.
صَارُوا جُهَلاَءَ في وقت ادعائهم الحكمة عينه وما ذلك إلا لأن الخطيئة أعمت أذهانهم ولم يهتدوا بالنور الإلهي وأظهروا جهلهم بآرائهم وأعمالهم كما سيُذكر.
٢٣ «وَأَبْدَلُوا مَجْدَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَفْنَى، وَٱلطُّيُورِ، وَٱلدَّوَابِّ، وَٱلزَّحَّافَاتِ».
تثنية ٤: ١٦ الخ ومزمور ١٠٦: ٢٠ وإشعياء ٤٠: ١٨ و٢٥ وإرميا ٢: ١١ وحزقيال ٨: ١٠ وأعمال ١٧: ٢٩
هذه الآية من الأدلة على جهلهم.
أَبْدَلُوا في عبادتهم.
مَجْدَ ٱللّٰهِ أي الله المجيد.
ٱلَّذِي لاَ يَفْنَى أي لا يزول ولا يتغير.
بِشِبْهِ صُورَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَفْنَى لا ريب في أنه جهل تمثيلهم الروح الأزلي الذي لا يُرى بصورة مادية على أنهم لم يكتفوا في جهلهم بأن يبدلوا الإله الأبدي المجيد بالإنسان الزائل بل اتخذوا بدله شبه الإنسان أي تمثالاً على هيئته لا حس له ولا حياة. ولا ريب في أن الرسول ذكر وهو يكتب هذا كثرة التماثيل التي شاهدها في أثينا حيث كان يلتفت (أعمال ١٧: ٢٠).
وَٱلطُّيُورِ عبد المصريون صنفاً من اللقلق يسمى بالإبس (Ibis) والباشق وعبد الرومانيون النسر.
وَٱلدَّوَابِّ كان من معبودات المصريين الثور باسم أبيس (Apis) ومنها الكلب باسم (Canubis) والتمساح والخنفساء (Scarabaeus).
وَٱلزَّحَّافَاتِ منها الحية من معبودات المصريين.
كان أكثر تماثيل اليونانيين على هيئة الطيور والبهائم. وكانت تماثيل الرومانيين على هيئة ما عبده اليونانيون والمصريون.
اعتبر أكثر الوثنيين تماثيلهم آلهة فعبدوا التماثيل عينها. وادعى بعضهم أنها إشارات إلى الآلهة وأنهم لم يعبدوها وإنما عبدوا المشار إليهم بها. لكن الأسفار المقدسة لم تفرّق بين الفريقين ومنعت عبادة الأصنام على الاعتبارين.
اتخذ بولس تفشي العبادة الوثنية في العالم مع أن الله أظهر للناس وجوده وصفاته بأعماله دليلاً على فجورهم وكونهم عرضة لغضب الله. ثم برهن في سائر هذا الأصحاح إثمهم بارتكابهم أفظع الرذائل وأن ذلك كله عاقبة تركهم الإله الحق.
٢٤ «لِذٰلِكَ أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى ٱلنَّجَاسَةِ، لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ».
مزمور ٨١: ١٢ وأعمال ٧: ٤٢ وأفسس ٤: ١٨ و١٩ و٢تسالونيكي ٢: ١١ و١٢ لاويين ١٨: ٢٢ و١كورنثوس ٦: ١٨ و١تسالونيكي ٤: ٤ و١بطرس ٤: ٣
لِذٰلِكَ أي لأنهم تركوا الإله الحق وعبدوا الأصنام تركهم الله ليرتكبوا ما شاءوا من الرذائل عقاباً لهم على تركهم إياه وبيان ذلك في بقية هذا الأصحاح. ويتضح في ما يأتي أمران:
الأول: إن الإنسان يعمل باختياره وهو يفضّل الخطيئة على البرّ وعبادة الأوثان على عبادة الله بالروح والحق.
الثاني: إن الله يعاقب الإنسان على رفضه الحق بتركه إياه يتمرّغ في حمأة الإثم والرذيلة.
أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ أي لم يمنعهم عن ارتكاب الفظائع. وهذا لا يلزم منه البتة أن الله قادهم إلى الإثم أو أجازه لهم. وإسلامه أياهم لذلك ليس إلا عقاباً لهم على رفضهم الحق. وإمساك الله نعمته عن الإنسان من شر المصائب على الإنسان لأنه الله يتركه بذلك تحت سلطان شهواته. والطرق التي يمنع الله بها الإنسان عن الخطيئة هي أنه يجعل في قلبه الخوف من العواقب قبل أن يخطأ والندامة بعده. وقد يجعل حياءه من الناس وسيلة إلى منعه من الإثم وكثيراً ما يمنعه منه بفعل روحه القدوس. فترك الله استعمال هذه الوسائط هو «الإسلام» المذكور هنا.
فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ أي أميالهم الطبيعية دون كابح من العقل والضمير.
إِلَى ٱلنَّجَاسَةِ التي تقود إليها شهوات القلب بلا رادع من النفس. فترك الله إيّاهم هو فعله وأما النجاسة فهي ثمرة فعلهم. ولا عجب من أنهم صاروا كالبهائم في أعمالهم بعد ما اتخذوا البهائم آلهة لهم.
لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ إن الطهارة إكرام للجسد وسيادة العقل والضمير على الشهوات مما يليق بمن خُلق على صورة الله. وأما النجاسة فهي ذل وضعة وعبودية للأهواء التي يشارك الإنسان فيها البهائم.
ذكر بولس ما ارتكبه الأمم من أضداد الطهارة دون غيره من الآثام كالسرقة والقتل دليلاً على سقوطهم في الخطيئة واحتياجهم إلى الإنجيل والتبرير لثلاثة أسباب:

  • الأول: إن عبادة الأوثان في كل الأمكنة والأزمنة لم تنفك مقترنة بالزنى وكثيراً ما كان جزءاً من العبادة الوثنية وكثيراً ما كانت هياكل الأوثان بيوتاً للعواهر. وكان كثيرون من آلهتهم شهوات جسدية مشخصة. وأكثر تراجم آلهتهم قصص غرامية فيها كثير من تحيُّل أولئك الآلهة توصلاً إلى الفسق. وكل ما تُعّدي به الوصية الأولى والثانية من الوصايا العشر فلا بد من أن يُتعدى به الوصية السابعة.
  • الثاني: إن الخطايا التي هي ارتكاب أضداد الطهارة أشد إذلالاً لمرتكبيها.
  • الثالث: إن تلك الخطايا اشتهر بها الوثنيون وامتازوا بها أكثر مما بغيرها من الآثام بدليل ما قاله مؤرخوهم.


٢٥ «ٱلَّذِينَ ٱسْتَبْدَلُوا حَقَّ ٱللّٰهِ بِٱلْكَذِبِ، وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا ٱلْمَخْلُوقَ دُونَ ٱلْخَالِقِ، ٱلَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ».
١تسالونيكي ١: ٩ و١يوحنا ٥: ٢٠ إشعياء ٤٤: ٢٠ وإرميا ١٠: ١٤ و١٣: ٢٥ وعاموس ٢: ٤
معنى هذه الآية كمعنى الآية الثالثة والعشرين بتغيير اللفظ.
حَقَّ ٱللّٰهِ أي الله الحق.
بِٱلْكَذِبِ أي الآلهة الكاذبة. ومبادئ الوثنية كلها كذب ومنها أنهم صوروا بتماثيلهم من لم يتصور لأنه روح أزلي وعدّدوا الآلهة والله واحد.
اتَّقَوْا وَعَبَدُوا أشار «بالتقوى» إلى خدمة النفس للمعبود في الباطن «وبالعبادة» إلى خدمته في الظاهر بالرسوم والذبائح والصلوات والترنيمات والركوع والسجود وأمثال ذلك.
ٱلْمَخْلُوقَ كالأجرام السماوية والحيوانات والأنهر والعناصر الخ.
دُونَ ٱلْخَالِقِ أي بلا التفات إليه.
ٱلَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ الخ أظهر الرسول بهذا احترامه لله وتنزيهه عن العبادة الوثنية التي يبغضها وما يتعلق بها حتى ذكرها. فكأن إهانة الوثنيين له تعالى دعت عبدته إلى تسبيحه جهاراً. وأتى الرسول مثل هذا في (ص ٩: ٥ و٢كورنثوس ١١: ٣١ وغلاطية ١: ٥).
٢٦، ٢٧ «٢٦ لِذٰلِكَ أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ إِلَى أَهْوَاءِ ٱلْهَوَانِ، لأَنَّ إِنَاثَهُمُ ٱسْتَبْدَلْنَ ٱلٱسْتِعْمَالَ ٱلطَّبِيعِيَّ بِٱلَّذِي عَلَى خِلاَفِ ٱلطَّبِيعَةِ، ٢٧ وَكَذٰلِكَ ٱلذُّكُورُ أَيْضاً تَارِكِينَ ٱسْتِعْمَالَ ٱلأُنْثَى ٱلطَّبِيعِيَّ ٱشْتَعَلُوا بِشَهْوَتِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَاعِلِينَ ٱلْفَحْشَاءَ ذُكُوراً بِذُكُورٍ، وَنَائِلِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ جَزَاءَ ضَلاَلِهِمِ ٱلْمُحِقَّ».
لاويين ١٨: ٢٢ و٢٣ وأفسس ٥: ١٢ ويهوذا ١٠
في هاتين الآيتين بيان ما في الآية الرابعة والعشرين من إهانة أجسادهم وتثبيت له وتكرار لقوله أن ذلك عقاب لهم على كفرهم بالله.
لِذٰلِكَ أي لاستبدالهم حق الله بالكذب.
أَسْلَمَهُمُ هذه مرة ثانية أبان الرسول أن ترك الله الوثنيين لشهواتهم عقاب لهم على تركهم إياه.
إِلَى أَهْوَاءِ ٱلْهَوَانِ أي أفظع الرذائل غير الطبيعية وذكرها الرسول بياناً لحاجة الأمم إلى وسائط التبرير التي ليست في الشرائع الطبيعية.
والبراهين على صحة ما قاله بولس على خطايا الأمم في عصره كثيرة في مؤرخي ذلك العصر ومنها الصور الباقية على جدران مساكنهم التي أُكتشفت حديثاً في آثار هركولانيوم وبمبي في إيطاليا وكانتا مردومتين بما قذف به جبل يزوف سنة ٧٩ ب. م.
لأَنَّ إِنَاثَهُمُ الخ ذكر رذائل النساء أولاً لأن العفة زينة المرأة الخاصة (١تيموثاوس ٢: ٩) ولأن خلوّ المرأة منها حُسب شراً من خلوّ الرجل منها ولأن دناءة المرأة أوضح برهان على الدناءة العامة لأنها هي آخر من تفسد أخلاقه ويفقد عفته.
وَكَذٰلِكَ ٱلذُّكُورُ... فَاعِلِينَ ٱلْفَحْشَاءَ كما فعل أهل سدوم وعمورة اللتين أمطر الله عليهما ناراً من السماء وأهلكهما. وحاكوا الكنعانيين في آثامهم التي قذفت الأرض بهم من أجلها.
نَائِلِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ جَزَاءَ ضَلاَلِهِمِ ٱلْمُحِقَّ هذه مرة ثالثة صرّح الرسول بأن دناءتهم الأدبية نتيجة ابتعادهم عن الله. وكان بعض ذلك الجزاء جسدياً وبعضه عقلياً وبعضه أدبياً وكله ثمر خطيئتهم نفسها.
٢٨ «وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا ٱللّٰهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ».
أفسس ٥: ٤
لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أراد الرسول بذلك أنهم ضلوا وأثموا باختيارهم فلم يكن لهم من عذر.
أَنْ يُبْقُوا ٱللّٰهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ هذا يدل على أنهم كانوا يعرفون الله بمصنوعاته لكنهم أهملوا التأمل في تلك المصنوعات وقبول أدلتها ففقدوا تلك المعرفة باختيارهم وحسبوها بلا نفع ورأوا الدين فضلة وتركها خير من التمسك بها. فنتج من ذلك أن تسليم الله إياهم إلى العماية والعبودية لفواحش الشهوات لم يكن سوى عقاب عادل.
أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ كرّر هذا ثلاثاً وأبان أنهم أسلموا في كل منها إلى حال أدنأ من التي قبلها. ففي ع ٢٤ أن الله أسلمهم لسلطة شهواتهم الطبيعية بلا رادع من العقل. وفي ع ٢٦ أنه أسلمهم لعبودية شهوات غير طبيعية معيبة. وفي هذه الآية أنه أسلمهم إلى فساد العقل والأداب حتى لم يستطيعوا التمييز بين الخير والشر والحق والكذب والحلال والحرام وهذا مفاد قوله.
ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ كخبث المعدن الذي ينفيه الكير ولا منفعة منه.
لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ بالإنسان الذي خلقه الله على صورته. وأمور «ما لا يليق» ذكرها الرسول في الآيات الآتية.
٢٩ «مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَزِناً وَشَرٍّ وَطَمَعٍ وَخُبْثٍ، مَشْحُونِينَ حَسَداً وَقَتْلاً وَخِصَاماً وَمَكْراً وَسُوءاً».
جمع في هذه الآية واللتين بعدها الخطايا التي أظهر الأمم بارتكابها عجزهم عن التبرّر بأعمالهم وافتقارهم إلى تبرير الله بالإيمان. ولم يقصد الرسول بنسبته هذه الخطايا إلى الأمم نفي ارتكاب غير الأمم إياها ولكنه إراد بيان توغلهم فيها وإكثارهم منها وارتكابهم إياها بلا خجل ولا عذر ثم افتخارهم بها ثم تبريرهم مرتكبيها. وما كتبه الرسول من آثامهم ليس إلا بعض ما كتبه المؤرخون اليونانيون والرومانيون منها في عصر بولس.
مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ هذا يدل على أنه لم يبقَ موضع للفضيلة في قلوبهم لأن رذائلهم شغلت كل أفكارهم وقواهم وأعمالهم.
إِثْمٍ هذا يعم كل الخطايا وما بعده تفصيل لها.
زِناً امتاز الأمم بارتكاب هذا الإثم ولم يحسبوه إثماً.
شَرٍّ ميل الإنسان إلى إضرار غيره.
طَمَعٍ اشتهاء الإنسان مال غيره. اشتهر الرومانيون بالطمع وهو علّة أكثر حروبهم استولوا به على أكثر العالم.
خُبْثٍ المسرّة بالشر لمجرد محبة الشر وهو ضد الفضيلة.
حَسَداً حزن الإنسان على خير غيره فيقوده إلى أن يبغضه ويفرح بضرره.
قَتْلاً هذا من نتائج الحسد وكان الرومانيون يستخفون بالحياة الإنسانية ولا يكترثون بمن يقتلون في الحرب ويذبحون من الأسرى. وكانوا يقتلون عبيدهم على أقل سبب. وكانوا يعرضون ربوات كثيرة من الشر في الملعب فيقتل بعضهم بعضاً وتقتل بعضهم الوحوش لمجرد اللهو والمشاهدة. وكانوا كثيراً ما يطرحون أطفالهم في البرية تخلصاً من تعب تربيتهم فيموتون جوعاً أو تأكلهم الوحوش.
خِصَاماً أي استعداداً للخصام في كل وقت وإتيانه لأقل علّة.
مَكْراً المكر هنا الخداع بكل أنواعه. دعا أحد الرومانيين صديقاً له إلى رومية فاعتذر له عن عدم مجيئه بقوله «لا أقدر أن أكذب فكيف يمكنني أن أحيا في رومية» كأن الخداع عام أهلها. ومثل هذا شهادة بأهل كريت (تيطس ١: ١٢).
سُوءاً فساد القلب الحامل على الشرّ.
٣٠ «نَمَّامِينَ مُفْتَرِينَ، مُبْغِضِينَ لِلّٰهِ، ثَالِبِينَ مُتَعَظِّمِينَ مُدَّعِينَ، مُبْتَدِعِينَ شُرُوراً، غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ».
نَمَّامِينَ متكلمين على غيرهم في غيبته بما يضره حين لا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
مُفْتَرِينَ متكلمين كذباً على غيرهم في حضرته.
مُبْغِضِينَ لِلّٰهِ دليل بغض الأمم لله هو تركهم إياه وعبادتهم الأوثان واضطهادهم عبدته المسيحيين وحسب الناس ذلك أصغر الخطايا وهو أكبرها.
ثَالِبِينَ عائبين غيرهم بلا حق ولا حياء.
مُتَعَظِّمِينَ متكبرين محتقرين من سواهم. كان اليونانيون يتعظمون بما أدركوه من العلوم والرومانيون بما أصابوه من السلطان.
مُدَّعِينَ ناسبين إلى أنفسهم ما ليس لهم من الفضائل والصلاح.
مُبْتَدِعِينَ شُرُوراً أي مخترعين ما يلذ لهم من الرذائل وما يضر غيرهم وما يفسد التعاليم الصالحة.
غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ على خلاف النور الطبيعي الحامل الإنسان على طاعة والديه قبل أن يسمع الوحي. وإذا كان ما ذُكر خطايا الكبار فلا عجب من أن تكون هذه من جملة خطايا الصغار. فلم يرتكب صغار الأمم وحدهم تلك الخطيئة بل ارتكبها الكبار أيضاً بطرحهم الشيوخ والعجائز في البرية ليهلكوهم فيستريحوا من خدمتهم.
٣١ «بِلاَ فَهْمٍ وَلاَ عَهْدٍ وَلاَ حُنُوٍّ وَلاَ رِضىً وَلاَ رَحْمَةٍ».
بِلاَ فَهْمٍ غير مستعملين عقولهم ليعرفوا الله وما يجب عليهم له.
وَلاَ عَهْدٍ هذا من أردإ أنواع الكذب وأكثرها إضراراً لما ينسخ من الأمن والسلام.
وَلاَ حُنُوٍّ المراد بالحنو هنا المودة الطبيعية بين الأقارب. وكان الكنعانيون بلا حنو بدليل قول النبي «ذَبَحُوا بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ لِلأَوْثَانِ وَأَهْرَقُوا دَماً زَكِيّاً، دَمَ بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمِ ٱلَّذِينَ ذَبَحُوهُمْ لأَصْنَامِ كَنْعَانَ» (مزمور ١٠٦: ٣٧ و٣٨) وتمثل بهم منسى (٢أيام ٣٣: ٦).
وَلاَ رِضىً أي كانوا شرسين.
وَلاَ رَحْمَةٍ للفقراء والمصابين والأسرى والعبيد بل إنهم لم يرحموا أطفالهم ولا شيوخهم كما ذُكر أنفاً.
٣٢ «ٱلَّذِينَ إِذْ عَرَفُوا حُكْمَ ٱللّٰهِ أَنَّ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ هٰذِهِ يَسْتَوْجِبُونَ ٱلْمَوْتَ، لاَ يَفْعَلُونَهَا فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً يُسَرُّونَ بِٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ!».
ص ٢: ٢ ص ٦: ٢١ مزمور ٥٠: ١٨ وهوشع ٧: ٣
عَرَفُوا حُكْمَ ٱللّٰهِ بشهادة ضمائرهم وبيّنات سياسته للعالم واختبارهم أن الله يعاقب الخطأة على آثامهم. والمراد «بحكم الله» إثابة الأخيار ومعاقبة الأشرار.
يَسْتَوْجِبُونَ ٱلْمَوْتَ صرّح الرسول هنا أن الأمم عرفوا أنهم يستحقون العقاب على خطاياهم وأنهم عرضة لغضب الله عدلاً فلم يبق لهم عذر. والمراد «بالموت» هنا القصاص في الدنيا وفي الآخرة.
لاَ يَفْعَلُونَهَا فَقَطْ حين تشتد التجربة ويهيج الغيظ والشهوة ولا يبقى للعقل من فرصة ليحكم بالصواب فيفعل الإنسان ما يندم عليه.
يُسَرُّونَ بِٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ أي يرتضون بمرتكبي الآثام المذكورة ولا يكتفون بذلك حتى أنهم يمدحونهم على آثامهم ويفرحون بهم وهذا أسفل دركات الشر لأن الشرير يعتذر غالباً عن ذنوبه ويبرّر نفسه لأن شهواته تعمي بصيرته ولكنه لا يزال يحكم بالصواب على غيره ممن فعل مثل فعله ويخطئه ويلومه. فإن بلغ الحد الذي لا يلوم عنده نفسه ولا غيره على شيء من تلك الآثام فقد أضاع كل الطبيعة الأدبية التي خلقها الله فيه فصار عنده الشر خيراً والظلمة نوراً.

فوائد



  • إن الله لم يترك نفسه قط بلا شاهد للمخلوقات العاقلة بأمور طبيعته وإرادته وهو مصنوعاته والضمائر فلم يكن للوثنيين من عذر على عبادتهم الأوثان وتوغلهم في الرذائل (ع ١٩ و٢٠ و٣٢).
  • إن أصل الضلال الديني فساد القلب فعلّة جهل الناس الله وواجباتهم عدم إرادتهم أن يُبقوا الله في معرفتهم (ع ٢١ و٢٨).
  • إنه إن كان الوثنيون بلا عذر أمام الله وقد استوجبوا القصاص على خطاياهم لمخالفتهم الشريعة الطبيعية الضعيفة فكم يستوجب الذين يخالفون شريعة الوحي القوية الكاملة من الدينونة والعقاب (ع ٢٠).
  • إنه قد تحقق أن النور الطبيعي غير كاف لإرشاد الوثنيين إلى معرفة الله وإلى القداسة فوجب أن نهتم كل الاهتمام بإرسالنا إليهم أسفار الوحي التي استؤمنا عليها (ع ٢٠ - ٢٣).
  • إن الذي يقينا السقوط في أفظع الخطايا هو الله لا حكمتنا ولا قوتنا ولا عزمنا فيجب علينا أن نعتبر نزع الروح القدس منا من أعظم المصاب وأشد العقاب (ع ٢٤ - ٢٨).
  • إنه كما أن السرور بالصالحين وأعمالهم يزيدنا قداسة كذلك السرور بالأشرار وأفعالهم يجعلنا مثلهم بل شراً منهم (ع ٣٢).




الأصحاح الثاني


افتقار اليهود إلى برّ الإيمان ع ١ إلى ٢٩

مقدمة


غاية بولس من هذا الأصحاح أن يبرهن في أمر اليهود ما برهنه في أمر الأمم وهو أنهم لا يستطيعون أن يتبرّروا بأعمالهم وأنهم عرضة لغضب الله على خطاياهم وأنهم مفتقرون إلى التبرّر ببرّ الله. وفيه ثلاثة فصول:

  • الأول: بيان مبادئ العدل التي بها يُدان جميع الناس (ع ١ إلى ١٦).
  • الثاني: نسبة تلك المبادئ إلى اليهود (ع ١٧ - ٢٤).
  • الثالث: بيان أن ختان اليهود لا يمنع إجراء تلك المبادئ عليهم (ع ٢٥ - ٣٩).



مبادئ العدل التي بها يُدان جميع الناس ع ١ إلى ١٦


هذه المبادئ ستة:

  • الأول: إن الذين يدينون غيرهم على خطايا يرتكبون هم مثلها يدينون أنفسهم وهم بلا عذر (ع ١).
  • الثاني: إن كل إنسان يُدان بما يستحقه (ع ٢).
  • الثالث: إن لطف الله إن لم يمنع الناس عن الإثم ولم يُقدهم إلى التوبة زادهم إثماً (ع ٥).
  • الرابع: إن مقياس الدينونة عمل الإنسان نفسه لا عمل سواه (ع ٦).
  • الخامس: إن الله يحكم على عمل الإنسان بمقتضى علمه (ع ١٢).
  • السادس: إن المتبرّرين أمام الله هم العاملون بالناموس لا سامعوه (ع ١٣).


١ «لِذٰلِكَ أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ، كُلُّ مَنْ يَدِينُ. لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ. لأَنَّكَ أَنْتَ ٱلَّذِي تَدِينُ تَفْعَلُ تِلْكَ ٱلأُمُورَ بِعَيْنِهَا!».
ص ١: ٢٠ و٢صموئيل ١٢: ٥ و٦ و٧ ومتّى ٧: ١ و٢ ويوحنا ٨: ٩
لِذٰلِكَ أي لما ذُكر من أن الأمم لارتكابهم الخطايا المذكورة مذنبون وبلا عذر وعرضة لغضبه تعالى (ص ١: ١٨ - ٣٣).
أَنْتَ الخطاب لليهودي بدليل القرينة. خاطب بولس اليهودي على تسليم أنه نظر إلى آثام الأمم وحكم عليهم بأنهم أثمة أُوجب عليهم الهلاك لارتكابهم الآثام.
بِلاَ عُذْرٍ كالأمم (ص ١: ٢٠) فلذلك أنت مثلهم في كونك إثيماً وعرضة لغضب الله.
كُلُّ مَنْ يَدِينُ الأمم «كل» بدل من «الإنسان» المراد به اليهودي. وكون من دينوا أمماً يستلزم أن يكون من دانهم من غير الأمم أي اليهود. وكل إنسان يميل طبعاً إلى أن يدين غيره ولا سيما اليهودي لإعجابه بنفسه ولحصوله على أسفار الوحي علاوة على النور الطبيعي.
لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ هذا كقول المسيح «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِٱلدَّيْنُونَةِ ٱلَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ» (متّى ٧: ١ و٢). والمعنى أن حكم اليهودي على الأمم بالخطيئة يستلزم حكمه على نفسه بذلك لأن العمل علّة الحكم بقطع النظر عن العامل من اليهود كان أم من الأمم.
لأَنَّكَ... تَفْعَلُ تِلْكَ ٱلأُمُورَ بِعَيْنِهَا يعني أن اليهود يرتكبون الخطايا التي يرتكبها الأمم فبدينونتهم الأمم يدينون أنفسهم. وهذا لا يستلزم أن كل يهودي يرتكب كلاً من آثام الأمم ولا أن اليهود ارتكبوها جهاراً كالأمم. فالمراد أن الأمة اليهودية كانت كسائر الأمم في فساد القلب الخفي ومثلهم في الاستهانة بالله والخضوع للشهوات وتعدّيهم شريعة الله وحقوق البشر. وفي تاريخ فيلو الاسكندري ويوسيفوس أن آداب اليهود كانت في ذلك الوقت على غاية الفساد وأن ما أتت به أُسرة هيرودس (من هيرودس الكبير إلى أغريباس الثاني) رجالاً ونساء ليس بأقل فظاعة من رذائل الملوك الرومانيين.
٢ «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ دَيْنُونَةَ ٱللّٰهِ هِيَ حَسَبُ ٱلْحَقِّ عَلَى ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هٰذِهِ».
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أي كل عاقل من الناس يعلم.
أَنَّ دَيْنُونَةَ ٱللّٰهِ الخ هذا القول يشتمل على أمرين:
الأول: إن الله سيدين الذين يرتكبون الآثام المذكورة في الأصحاح السابق ويعاقبهم. وأن عقابه واقع مهما اختلفوا من الأعذار على ما ارتكبوه بغية تبرير أنفسهم. ولا شيء في قوله هنا مناف لكون المسيح هو الديّان كما قيل في (متّى ١٦: ٢٧ ويوحنا ٥: ٢٢ و٢٣ ورؤيا ٢٢: ١٢) لأن الله يدينهم بواسطة المسيح.
الثاني: إن تلك الدينونة «حسب الحق» أي بلا غلط ولا محاباة. إن الله لا يدين بمتقضى ظاهر الإنسان أو إقراره اللساني أو حكم الناس في أمره بل حسب ما يستحقه حقاً وأنه يعاقب على الخطايا السريّة كما يعقاب على الخطايا الظاهرة.
زعم اليهود أن الله يدينهم على قياس غير قاس الحق أي أنه لا يدينهم أفراداً بل إجمالاً باعتبار أنهم أمته المختارة وسلالة إبراهيم خليله وأنهم مستثنون من غيرهم باختتانهم وممارستهم غيرهم من الرسوم الموسوية (متّى ٣: ٧ و٩).
٣ «أَفَتَظُنُّ هٰذَا أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي تَدِينُ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هٰذِهِ، وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا، أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ ٱللّٰهِ؟».
أَفَتَظُنُّ دعاه بولس إلى أن يحكم بمقتضى العقل السليم الفاصل بين الحق والباطل.
أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي تَدِينُ... وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا معنى هذا أنه إذا كان اليهودي وهو خاطئ قليل المعرفة يحكم بالإثم على الأمم الذين ارتكبوا تلك الرذائل وبأنهم بلا عذر ويبيّن بذلك أنه يعرف طريق الصواب وأن الخطايا توجب العقاب فبالأولى أن الله الطاهر العالم كل شيء يخطئ اليهودي المرتكب ما يرتكبه الأمم.
أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ ٱللّٰهِ يوم يدين سائر الناس بناء على كونك يهودياً أي أتظن أنه لا يدينك شيئاً أو يدينك على قياس غير القياس الذي يدين عليه سائر الأمم لزعمك أن إثم اليهودي عند الله أخف من إثم غيره. والاستفهام هنا إنكاري والمعنى أن الله لا يترك خاطئاً بلا دينونة وأنه يبغض الخطايا مطلقاً. والخلاصة أن الإنسان إذا كان لا ينجو من دينونة نفسه فكيف ينجو من دينونة الله.
وخطأ انتظار النجاة بطريق ما من الدينونة التي توجبها الآثام غير مقصور على اليهودي فهو خطأ عام في كل عصر فإن الشيطان يقول لكل إنسان لن تموت كما قال لحواء «لن تموتا» (تكوين ٣: ٤) فيصدقه.
٤ «أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ ٱللّٰهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ؟».
ص ٩: ٢٣ وأفسس ١: ٧ و٢: ٤ و٧ ص ٣: ٢٥ خروج ٣٤: ٦ إشعياء ٣٠: ١٨ و٢بطرس ٣: ٩ و١٥
أَمْ تَسْتَهِينُ بذلك الظن الفاسد (المذكور في ع ٣). حسب الرسول توقع اليهود نجاتهم من العقاب على آثامهم بناء على جودة الله عليهم إهانة له تعالى.
بِغِنَى أي كثرة. واستعمال الغنى بهذا المعنى مختص ببولس أتاه اثنتي عشرة مرة في رسائله.
لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ عبّر عن جودة الله بهذه الكلمات الثلاث. والمراد «باللطف» هنا الميل إلى المعروف بغية سرور الناس. «وبالإمهال» الإبطاء عن إجراء العقاب على مستحقيه في أول ارتكابهم الخطيئة. «وبطول الأناة» طول الصبر وبطوء الغضب.
غَيْرَ عَالِمٍ أي غير منتبه لقصد الله من حلمه فجهل الإنسان ذلك اختياري وخطيئة. وقد اتخذ اليهود ذلك الحلم دليلاً على أنهم ليسوا بخطأة أو علامة أن الله لا يعاقبهم على آثامهم فأثموا بجسارة وزعموا أنهم في أمن فصدق عليهم قول سليمان «لأَنَّ ٱلْقَضَاءَ عَلَى ٱلْعَمَلِ ٱلرَّدِيءِ لاَ يُجْرَى سَرِيعاً، فَلِذٰلِكَ قَدِ ٱمْتَلأَ قَلْبُ بَنِي ٱلْبَشَرِ فِيهِمْ لِفَعْلِ ٱلشَّرِّ» (جامعة ٨: ١١ انظر أيضاً ٢بطرس ٣: ٣ و٤).
لُطْفَ ٱللّٰهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ أي أن الله قصد بذلك بلطفه كما قصده بإنذاره. فغايته أن يأتي بهم إلى الندم على الخطيئة وإلى تركها. وتأثير لطفه هو تبيينه شر التعدّي على سيد لطيف جوّاد. وتليينه قلب الخاطئ كما يُقسي القصاص قلبه. وإيضاحه للخاطئ وجوب الطاعة والمحبة لله المحسن إليه على الدوام. وإظهاره أن الله مستعد أن يقبل الخاطئ إذا رجع إليه وأن يغفر له. وأشار الرسول بقوله «يقتاد» أن الله يريد أن يرجع الخطأة إليه مختارين لا مجبرين. وخلاصة الآية كلها أن اليهود أهانوا الله بعدم توبتهم وإصرارهم على الخطيئة.
٥ «وَلٰكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ ٱلتَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَباً فِي يَوْمِ ٱلْغَضَبِ وَٱسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعَادِلَةِ».
تثنية ٣٢: ٣٤ ويعقوب ٥: ٣
لٰكِنَّكَ أتيت ما ينافي ما قصده الله بلطفه ويخالف ما وجب عليك.
قَسَاوَتِكَ هذه صفة القلب الذي لا يؤثر لطف الله فيه ليأتي به إلى التوبة. قال حزقيال النبي في مثل هذا القلب أنه «قلب حجر» (حزقيال ١١: ١٩).
غَيْرِ ٱلتَّائِبِ أي العاجز عن التوبة لأنه لا يريدها.
تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَباً هذا كما في (تثنية ٣٢: ٣٤ و٣٥ و٢بطرس ٣: ٧) ومفاده أن الأشرار يكنزون كل يوم نقمة لنفوسهم مدة تمتعهم ببركات الله وهم مصرون على آثامهم. وما يكنزوه على التوالي يقع عليهم دفعة. زعم اليهود أن إمهال الله إياهم دليل على مسرّته بهم أو على أنه متغاض عن خطاياهم أبداً وهو زعم باطل.
أنبأ المسيح تلاميذه بأنه يمكنهم أن «يكنزوا كنزاً صالحاً في السماء» (متّى ٦: ٢٠). وهنا علّم الروح القدس أنه يمكن الإنسان أن «يكنز لنفسه غضباً».
وقوله «تذخر لنفسك» خطاب لكل إنسان ويلزم منه أن لا أحد يذخر لغيره. ولنا من هذا أن مصائب الأشرار في هذا العالم لا توازي ما عليهم من العقاب فأكثره مخزون لهم يأخذونه في عالم آخر وويل لمن ليس له سوى كنز الغضب.
يَوْمِ ٱلْغَضَبِ أي يوم وقوع غضب الله على الأشرار وهو يأتي في نهاية يوم الرحمة ويسمى أيضاً اليوم الأخير ويوم الدين واليوم العظيم المخوف جداً (لوقا ١٧: ٣٠ وأعمال ٢: ٢٠ و١كورنثوس ١: ٨ و٢كورنثوس ١: ١٤ و١تسالونيكي ٥: ٢ و٤ و٢تسالونيكي ٢: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠ و١٢ ورؤيا ٦: ١٧ و١٦: ١٤).
ٱسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ ٱللّٰهِ اليوم الذي هو يوم غضب بالنسبة إلى الأشرار هو بالنسبة إلى جميع الناس أخياراً وأشراراً يوم استعلان عدل الله الذي كان مكتوماً عنهم قبلاً.
٦ «ٱلَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ».
أيوب ٣٤: ١١ ومزمور ٦٢: ١٢ وأمثال ٢٤: ١٢ وإرميا ١٧: ١٠ و٣٢: ١٩ ومتّى ١٦: ٢٧ وص ١٤: ١٢ و١كورنثوس ٣: ٨ و٢كورنثوس ٥: ١٠ ورؤيا ٢: ٢٣ و٢٠: ١٢ و٢٢: ١٢
هذا القول قاله الله قبلاً في (أمثال ٢٤: ١٢) وهو مما يتوقع منه لأنه الديّان العادل. والمجازاة هنا هي مجازاة اليوم الأخير والمجازون هم اليهود والأمم فاليهودي لا ينجو من الدينونة بكونه يهودياً وهذا ما قصد الرسول إثباته هنا. وكل أعمال الناس تُذكر وتُعلن ويُحاسب عليها في ذلك اليوم (متّى ١٦: ٢٧ و٢٥: ٣١ - ٤٦ و٢كورنثوس ٥: ١٠ وغلاطية ٦: ٨ وكولوسي ٣: ٢٤ ورؤيا ٢: ٢٣ و٢٠: ١٢ و٢٢: ١٢). ويلزم من هذا أنه لا اعتبار لنسب الإنسان أو حسبه بل لعمله وأن لا شيء من المحاباة أو النظر إلى الوجوه. والمقياس الذي تُقاس به تلك الأعمال يومئذ هو الشريعة الأدبية المكتوبة وغير المكتوبة.
وغاية الرسول هنا تبيين افتقار الإنسان إلى التبرير بالإيمان ولذلك لم يُذكر هنا حال المؤمن بالمسيح إنما تكلم على كل الناس بالنظر إلى كونهم تحت شريعة العدل لا تحت شريعة النعمة على أنه يصح أن يُقال أن المؤمن يجازى على حسب أعماله لا لما يستحقه بتلك الأعمال بل لأن أعماله برهان على صحة إيمانه وهي العلامة الوحيدة التي يمكن أن تُعرض على جموع يوم الدين. هذا وأن الآية لم تقل أن الله يجازي لأجل الأعمال بل حسب العمل (تيطس ٣: ٥).
٧ «أَمَّا ٱلَّذِينَ بِصَبْرٍ فِي ٱلْعَمَلِ ٱلصَّالِحِ يَطْلُبُونَ ٱلْمَجْدَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْبَقَاءَ، فَبِٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ».
بِصَبْرٍ الصبر هنا الاستمرار على ما هو عسر. فالمواظية على العمل الصالح برهان قاطع على صحة الصلاح (قابل بهذا ما في لوقا ٨: ١٣ و١٤).
فِي ٱلْعَمَلِ ٱلصَّالِحِ عمل الإنسان لله دليل على أخلاقه ومقاصده. وغاية الرسول هنا بيان ما تطلبه شريعة الله الأدبية من الإنسان لا بيان استطاعته على القيام به على أنه أثبت بعد هذا أنه عاجز عنه ومفتقر إلى التبرير بالإيمان.
ٱلْمَجْدَ أي مدح الله في يوم الحساب كقوله تعالى لكل من أهل اليمين «نعماً أيها العبد الصالح» وما يطلبه الإنسان دليل على أخلاقه فان الروحيات فهو صالح وأن الجسديات فهو شرير.
ٱلْكَرَامَةَ هي نتيجة رضى الله عن الإنسان وجعالة الظافر (١كورنثوس ٩: ٢٥ وفيلبي ٣: ١٤ و٢تيموثاوس ٤: ٨ ويعقوب ١: ١٢ و١بطرس ٥: ٤) وميراث الله (ص ٨: ١٧).
ٱلْبَقَاءَ أي الدوام. وقيمة السعادة تتوقف عليه (١كورنثوس ١٥: ٤٣ و٥٠ و٥٣ وفيلبي ٣: ١١).
فَبِٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ هي مجازاة الأخيار المذكورة آنفاً وتتضمن مطلوبهم أي المجد لبهائها والكرامة لشرفها والبقاء لدوامها وهي خلاصة سعادة السماء كما أن الموت الأبدي خلاصة شقاء جهنم وهي للنفس والجسد بعد تمجيده ونعتها «بالأبدية» يثبت حقيقتها وكمالها وخلودها. فقول الرسول هنا كقول المسيح للشاب الغني إذ قال له «أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (متّى ١٩: ١٦). وقوله للناموسي إذ قال «مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ» (لوقا ١٠: ٢٥). وقول الرسول في ع ١٣ أن «ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِٱلنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ» فقد وضح أن الرسول يتكلم هنا على الإنسان باعتبار كونه تحت الناموس لا تحت النعمة.
٨ «وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ ٱلتَّحَزُّبِ، وَلاَ يُطَاوِعُونَ لِلْحَقِّ بَلْ يُطَاوِعُونَ لِلإِثْمِ، فَسَخَطٌ وَغَضَبٌ».
أيوب ٢٤: ١٣ وص ١: ١٨ و٢تسالونيكي ١: ٨
وصف الرسول هنا الأشرار بثلاث صفات:
مِنْ أَهْلِ ٱلتَّحَزُّبِ هذه الصفة الأولى وهي صفة أكثر اليهود لأن غيرتهم المذهبية ليست لله ولا للحق. وغاية غيرتهم لحزبهم المجد الشخصي. وما تُرجم «بالتحزب» يحتمل في أصله اليوناني المقاومة لله والتحزب معاً لما في التحزب من الانفصال عن الله وشعبه.
لاَ يُطَاوِعُونَ لِلْحَقِّ هذه الصفة الثانية وهي ناتجة عن الأولى لأن الغيرة الدينية المبنية على التحزب لا يمكن تحسب طاعة للحق لأنها خالية من محبة الله وإكرامه. والمراد «بالحق» في هذه العبارة ما يعلنه الله للإنسان بحكم الضمير ونور الطبيعة. فيتضمن ما يخيب على الإنسان أن يعتقده ويعمله. وواضح أن الذين ينكرون الحق الذي أعلنه الله ويأبون طاعته خطيئتهم عظيمة. وما ينتج من الطاعة للإثم مفصل في (ص ١: ١٨ - ٣٢). وهذه الصفة وما قبلها مما اختبره بولس من اليهود وهو يبشر بينهم بالإنجيل في أماكن مختلفة.
يُطَاوِعُونَ لِلإِثْمِ هذه الصفة الثالثة ومعناها أنهم صاروا عبيداً للإثم باختيارهم فالذين لا يطاوعون للحق لا يمكن إلا أن يطاوعوا للإثم إذ يقودهم إلى إطاعته شهواتهم الباطنة وتجاربهم الظاهرة.
فَسَخَطٌ وَغَضَبٌ هذا جزاء الأشرار كما أن الحياة الأبدية جزاء الأخيار. والمقصود من الأمرين معنى واحد وعطف أحدهما على الثاني للتوكيد. وظن بعضهم أن المراد «بالسخط» في الأصل اليوناني الغيظ الوقتي «وبالغضب» الغيظ الدائم. وظن بعضهم أن الغضب في ذلك الأصل السخط مع الانتقام.
وكل ما في الآيتين السابعة والثامنة إيضاح لما في الآية السادسة من أن الله يدين كل إنسان حسب أعماله بلا نظر إلى نسبه وإقراره.
٩، ١٠ «٩ شِدَّةٌ وَضِيقٌ، عَلَى كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ ٱلشَّرَّ، ٱلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ ٱلْيُونَانِيِّ. ١٠ وَمَجْدٌ وَكَرَامَةٌ وَسَلاَمٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ ٱلصَّلاَحَ، ٱلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ ٱلْيُونَانِيِّ».
عاموس ٣: ٢ ولوقا ١٢: ٤٧ و٤٨ و١بطرس ٤: ١٧ و١بطرس ١: ٧
ما في هاتين الآيتين مكرّر ما في الآيات السادسة والسابعة والثامنة للتقرير.
شِدَّةٌ وَضِيقٌ أحب الرسول قرن هاتين الكلمتين ليشير إلى غاية المصاب كما في (ص ٨: ٣٥ و٢كورنثوس ٦: ٤). وبقوله «شدة» صوّر الإنسان واقعاً تحت حمل ثقيل من الأرزاء. وبقوله «ضيق» صوّره محاطاً بها من كل جهة حتى لم يبق له مهرب منها. وكلاهما عقاب على الخطيئة وعلامة سخط الله وغضبه.
كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ ٱلشَّرَّ أي كل خاطئ وإن كان قد قصد شيئاً زائداً بذكر النفس فهو بيان أن معظم العقاب عليها لا على الحسد.
ٱلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً بعد أن أبان الرسول مبدأ الجزاء وهو مجازاة الله كل إنسان حسب عمله ذكر من هو مفعول ذلك المبدإ فقال «اليهودي أولاً» أي يقع عليه قبل غيره أو يظهر بأكثر وضوح فيه. وذلك لعلتين الأولى معرفته الواجبات أكثر من سواه فمسؤوليته أعظم. والثانية أن ذلك المبدأ كان بين يديه وهو معلن في الناموس والأنبياء فاستحسن الله أن يكون هو الأول فيُثاب إن كان أميناً ويُعاقب إن كان خائناً.
ثُمَّ ٱلْيُونَانِيِّ أي كل من ليس بيهودي وبيان هذا الحكم في (ع ١٢ - ١٦).
مَجْدٌ وَكَرَامَةٌ (انظر شرح ع ٧).
سَلاَمٌ الشعور برضى الله وراحة الضمير وهما سعادة الأبرار (انظر يوحنا ١٤: ٢٧ و١٦: ٣٣) ومجموع الثلاثة المجد والكرامة والسلام الحياة الأبدية لأنها بهيّة شريفة ومملوءة سلاماً.
١١ «لأَنْ لَيْسَ عِنْدَ ٱللّٰهِ مُحَابَاةٌ».
تثنية ١٠: ١٧ و٢أيام ١٩: ٧ وأيوب ٣٤: ١٩ وأعمال ١٠: ٣٤ وغلاطية ٢: ٦ وأفسس ٦: ٩ وكولوسي ٣: ٢٥ و١بطرس ١: ١٧
في هذه الآية علّة قوله أن الله يجازي اليهودي واليوناني حسب أعمالهما وهي أنّه ديّان عادل لينظر إلى أعمال الإنسان لا إلى شخصه. وهذا خلاف ما زعم اليهودي وخلاف ما يبني عليه رجاءه الخلاص. ومعنى «المحاباة» الانحراف عن الحق في الحكم لغايات كمراعاة النسب أو الغنى أو المقام وهو محظور على القضاة في العهد القديم (لاويين ١٩: ١٥ وتثنية ١٠: ١٧) وبيّن في الإنجيل أنها مستحيلة في الباري تعالى (أفسس ٦: ٩ وكولوسي ٣: ٢٥) وأنها حرام على الناس (يعقوب ٢: ١).
وما قيل هنا يشير إلى مجرد معاملة الله الناس بالنظر إلى كونه ديّاناً يجازي كل إنسان كما يستحق وهذا لا ينافي تعليم القضاء والاختيار الذي لا التفات فيه إلى استحقاق البشر.
١٢ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ فَبِدُونِ ٱلنَّامُوسِ يَهْلِكُ، وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي ٱلنَّامُوسِ فَبِٱلنَّامُوسِ يُدَانُ».
سبق الكلام أن الله يدين كل إنسان حسب عمله (ع ٦) وبلا محاباة (ع ١١) وزيد هنا من بيّنات عدله أنه يدين كل إنسان حسب معرفته. فعلّة المحاكمة العمل ومقياسها المعرفة.
لأَنَّ هذا تعليل لقوله «أن الله يدين بلا محاباة» والبرهان هنا.
مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ أي دون معرفة الناموس. والمراد «بالناموس» هنا شريعة الله المكتوبة وهي أسفار الوحي فالذين خطئوا كذلك هم الوثنيون.
فَبِدُونِ ٱلنَّامُوسِ يَهْلِكُ الهلاك هنا العقاب على الخطيئة كما فُسر في شرح (متّى ١٠: ٢٨ ولوقا ٤: ٣٤) وهو مقابل الحياة الأبدية المذكورة في (ع ٧). ومعنى قوله «فبدون الناموس» أنهم لا يحاكمون على تعدّيهم الشريعة المكتوبة التي عند اليهود وليست عندهم ولا يعقابون بمقتضى تلك الشريعة على ما فعلوا. وهذا كقول المسيح «وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيراً. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً» (لوقا ١٢: ٤٧ و٤٨). وخلاصته أن الخطأة الذين لم يحصلوا على أسفار الوحي يُعاقبون بأقل صرامة من الخطأة الذين استناروا بالوحي وأن دينونتهم الهلاك.
لم يخطئ الوثنيون ويهلكوا بلا ناموس فكان لهم ناموس الله غير المكتوب وهو المشار إليه في (ص ١: ١٨) وهو مطبوع على ضمائرهم يميزون به الحلال من الحرام فكان عليهم أن يعيشوا بمقتضاه فتعدّوه وهلكوا.
مَنْ أَخْطَأَ فِي ٱلنَّامُوسِ أي الناموس المكتوب وهو أسفار الوحي. والذين يخطأون كذلك هم اليهود ووسائط معرفتهم الحق أكثر مما لغيرهم فمسوؤليتهم أعظم.
فَبِٱلنَّامُوسِ يُدَانُ بموجب الشريعة الواضحة التي بين يديه. هذا قانون لا يقدر اليهودي أن يعترض على صحته فيلزم منه أن الخاطئ اليهودي يهلك كالخاطئ الوثني. واستحسن الرسول أن اليهودي يستنتج لنفسه أنه يهلك دون أن يصرّح بهلاكه.
١٣ «لأَنْ لَيْسَ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ، بَلِ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِٱلنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ».
متّى ٧: ٢١ - ٢٧ ويعقوب ١: ٢٢ - ٢٥ و١يوحنا ٣: ٧
ما قيل هنا يوافق ما قيل في (متّى ٧: ٢١ و٢٤ ولوقا ٦: ٤٧ ويعقوب ١: ٢٢) وفيه بيان علّة دينونة اليهود بمقتضى الناموس إذا سمعوه ولم يطيعوه.
لَيْسَ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ تُلي الناموس في المجامع على مسمع اليهود فسمعوه بانتباه ووقار وافتخروا بمعرفتهم به ومجرد ذلك غير كاف لتبريرهم.
ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِٱلنَّامُوسِ الخ أي الذين يطيعونه طاعة كاملة. وهذا ما يطلبه الناموس ويصدقه العقل السليم (تثنية ٤: ١ ولاويين ١٨: ٥). وهو قانون لكل خلائق الله الناطقة.
توقع اليهود أن يتبرّروا بمجرد كونهم يهوداً بأن عندهم الناموس فصرّح بولس هنا أن توقعهم باطل لأن الناموس يبرّر الذين يطيعونه طاعة كاملة لا غيرهم وهذا مستحيل عليهم وعلى سائر الناس كما أوضح الرسول بعد ذلك.
١٤ «لأَنَّهُ ٱلأُمَمُ ٱلَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ ٱلنَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِٱلطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي ٱلنَّامُوسِ، فَهٰؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ ٱلنَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ».
هذا متعلق بما قيل في الآية الثانية عشرة في شأن اليهودي صاحب الوحي واليوناني الذي لا وحي له وصرّح بأن للأمم ناموساً به يحاكمون فالله عادل بمحاكمتهم.
لَيْسَ عِنْدَهُمُ ٱلنَّامُوسُ أي أسفار الوحي التي لليهود.
فَعَلُوا بِٱلطَّبِيعَةِ بغريزتهم الأدبية واستعمالهم ضمائرهم وعقولهم واختبارهم سياسة الله لخلائقه وسائر ما لهم من الوسائل الطبيعية.
مَا هُوَ فِي ٱلنَّامُوسِ أي بعض الأفعال التي يوجبها الناموس كإيفاء الدين والتكلم بالصدق وإكرام الوالدين والإحسان إلى الفقراء والامتناع عن القتل والسرقة. ولا يلزم من قوله «فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس» أنهم أطاعوه الإطاعة الكاملة المبرّرة المشار إليها في (ع ١٣) لأن الرسول قال في (ع ١٥) أن ضمائرهم «مشتكية عليهم» ولو قاموا بالطاعة الكاملة ما اشتكت عليهم وهذا يبرهن أيضاً من (ص ٣: ٩ - ١٢ و٢٠).
هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ معنى ذلك أن صوت العقل والضمير الطبيعي الباطن يبيّن للإنسان الحلال ويأمره به والحرام وينهاه عنه فكان بذلك بمنزلة الناموس لأن له سلطان الأمر والنهي وإثابة الطائع وعقاب العاصي بالندامة.
١٥ «ٱلَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ ٱلنَّامُوسِ مَكْتُوباً فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِداً أَيْضاً ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً».
ٱلَّذِينَ يُظْهِرُونَ بأفعالهم إطاعة الناموس لأنهم كلما سمعوا صوت الضمير ولم يطيعوه «اشتكت» عليهم ضمائرهم وكلما سمعوا ذلك الصوت وقاوموا التجربة «احتّجت» لهم.
عَمَلَ ٱلنَّامُوسِ أي العمل المقصود من الناموس وهو التمييز بين الحلال والحرام والأمر بالأول والنهي عن الثاني. وهذا هو قصد الناموس المطلق مكتوباً أو غير مكتوب.
مَكْتُوباً فِي قُلُوبِهِمْ طبعاً بشيء من الوضوح وفي التوراة بوضوح عظيم وفي الإنجيل بوضوح أعظم والحقائق واحدة والكاتب واحد هو الله.
شَاهِداً أَيْضاً يشهد الضمير بأن الناموس مكتوب عليه وأن ما كتب عليه عدل وحق. وأشار بقوله «أيضاً» إلى أن تلك الشهادة هي أمر زائد على شهادة أعمالهم بوجود ذلك الناموس.
ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ هاتان الكلمتان تعمان كل قوى الإنسان الأدبية والعقلية وأمياله أيضاً. مثّل الرسول الضمير والأفكار بأعضاء مجلس في نفس الإنسان اجتمعت للمشاورة في ما يجب أن تعمله فبعضها حثّ على الحلال وبعضها على الحرام فبعضها دان النفس على ما فعلت وبعضها صوّبها.
فِيمَا بَيْنَهَا لا بين إنسان وإنسان وإلا كان الصوت هو المشتكي والمحتجّ لا الضمير والأفكار.
مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً باعتبار الأفعال فتشتكي على الإنسان أي تلومه حين يعصي ضميره وتحتج له أي تمدحه حين يطيعه. ولا يمكن أن يشتكي الضمير على صاحبه ما لم يكن قد حذّره قبلاً ولا يمكن أن يحتج له ما لم يكن قد أمره كذلك.
وأشار بولس بقوله «أفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة» إلى الحرب الباطنية بين القوى العليا والقوى الدنيا والسرور الذي يناله الإنسان بإطاعة ضميره والحزن الشديد والندامة على مخالفة الضمير. وأشار جماعة من شعراء اليونان ببعض ما نظموا إلى تلك الحرب وعواقبها بأفصح العبارات المؤثرة في القلوب ومثلوه أمام الجموع في مشاهدهم.
١٦ «فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ يَدِينُ ٱللّٰهُ سَرَائِرَ ٱلنَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
جامعة ١٢: ١٤ ومتّى ٢٥: ٣١ ويوحنا ١٢: ٤٨ وص ٣: ٦ و١كورنثوس ٤: ٥ ورؤيا ٢٠: ١٢ ص ١٦: ٢٥ و٢تيموثاوس ٢: ٨ يوحنا ٥: ٢٢ وأعمال ١٠: ٤٢ و١٧: ٣١ و٢تيموثاوس ٤: ١ و٨ و١بطرس ٤: ٥
هذه الآية متعلقة بما قيل من (ع ٦ - ١٠) في شأن الدينونة العامة وفيها بيان وقت الدينونة والعقاب لكل من اليهود والأمم بمقتضى الناموس الذي حصل عليه.
فِي ٱلْيَوْمِ أي يوم الدين العظيم.
فِيهِ يَدِينُ ٱللّٰهُ كون الله هو الديّان ذُكر مراراً في الكتاب المقدس (انظر تثنية ٣٢: ٣٦ و١صموئيل ٢: ١٠ ومزمور ٥٠: ٤ وجامعة ٣: ١٧ ورومية ٣: ٦ وعبرانيين ١٣: ٤) وهذا لا ينافي قول الكتاب في غير هذا الموضع أن الله يدين العالم بواسطة المسيح.
سَرَائِرَ ٱلنَّاسِ علاوة على أعمالهم المعنلة «لأَنَّ ٱللّٰهَ يُحْضِرُ كُلَّ عَمَلٍ إِلَى ٱلدَّيْنُونَةِ، عَلَى كُلِّ خَفِيٍّ، إِنْ كَانَ خَيْراً أَوْ شَرّاً» (جامعة ١٢: ١٤) «حَتَّى يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا ٱلظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ ٱلْقُلُوبِ» (١كورنثوس ٤: ٥ انظر أيضاً متّى ١٠: ٢٦ ولوقا ٨: ١٧). وينتج مما ذُكر أن الدينونة تكون مدققة حتى أنها تبلغ أفكار الناس ومحرّكاتهم على أفعالهم وأنها تكون مخيفة لأنه يُكشف يومئذ أمام العالم ما رغب الناس فيه وأخفوه على غيرهم ويخجل مرتكبوها من بيانها وأن تلك الدينونة تكون عادلة لأنها تحكم على الأفعال بحسب حقائقها لا ظواهرها. ولا يُعتبر يومئذ ما يدعيه الإنسان من الفضائل فتلك الدينونة مختلفة كل الاختلاف عن كل ما جرى في محكمة بشرية.
حَسَبَ إِنْجِيلِي أي الإنجيل الذي نادى به بولس باعتبار كونه رسول الله وسفيره كما نادى شفاهاً في أثينا (أعمال ١٧: ٣١) وكما نادى كتابة (٢تيموثاوس ٤: ١).
بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق بقوله «يدين» وهو على وفق قول المسيح نفسه «ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلٱبْنِ، وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأَنَّهُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا ٥: ٢٢ و٢٧).

فوائد


لنا مما مرّ في هذه الفصل ١٣ فائدة:

  • إن المبادئ المذكورة في هذا الفصل يصدقها كل عاقل وقف عليها ولكن ألوفاً وربوات من الناس يأملون الخلاص بما ينافيها (انظر المبادئ الستة في مقدمة هذا الأصحاح).
  • إنه من رجا الخلاص بمجرد اتكاله على مجمعه أو كنيسته أو ختانه أو معموديته فرجاؤه باطل لأن الله ينظر إلى أفعاله وصفاته (ع ٢ و٣).
  • إن خداع القلب البشري ظاهر في أن الناس يبيحون لأنفسهم ما يحظرونه على غيرهم وأنه كثيراً ما حدث أن من زاد لوماً لغيره على الإثم زاد إثماً (ع ١ و٣).
  • إنه من لم يليّنه لطف الله قساه كالشمس تليّن الشمع وتقسّي الطين (ع ٤).
  • إن الندامة الناشئة عن النظر إلى عدل الله تنشئ يأساً وموتاً والندامة الناشئة عن لطف الله تنشئ رجاء وحياة (ع ٤).
  • إن طلب الإنسان المجد والكرامة والبقاء بمواظبته على فعل الخير هو ما يستحسنه الكتاب المقدس لأنه طلب غاية محمودة بوسائط ممدوحة (ع ٧).
  • إن وسائل الناس إلى معرفة الواجبات مختلفة فتختلف مسؤوليتهم باختلافها في هذا العالم وإثابتهم أو عقابهم في العالم الآتي.
  • إن الأمم لا يدانون على مخالفة ناموس لم يسمعوه إنما يحاكمون بمقتضى إرشاد الخليقة والضمير ولا يتبرّرون به فهم يحتاجون إلى الفادي كما يحتاج إليه أهل الوحي الذين لا يتبرّرون بالناموس الموحى به (ع ١٢).
  • إن التمييز بين الحلال والحرام طبيعي لا كسبي (ع ١٤).
  • إنه من يرجُ الخلاص بناء على أن الله لا يجازيه حسب أعماله وأن ما كتم عن الناس من آثامه يبقى مكتوماً يوم الدين فرجاؤه باطل (ع ٦ - ١٠ و١٦).
  • إن الذي مات لأجل خطايا الناس هو الذي يدين الخطأة فأي رجاء للذين يرفضون رحمته وتبريره ويتكلون على برّ أنفسهم (ع ١٦).
  • إن الذي يدين سرائر جميع الناس ينبغي أن يكون علمه غير محدود وأن يكون إلهاً فإذاً يسوع المسيح هو الله (ع ١٦).
  • إن الله لكونه عادلاً وكل إنسان خاطئ لا ينجو إنسان من غضبه العادل إلا بالطريق الذي هو أوجده للنجاة فإذا لم يكن لنا برّ ذاتي وجب أن نلجأ إلى برّ يسوع البار (ع ١ - ١٦).



نسبة تلك المبادئ إلى اليهود ع ١٧ إلى ٢٤


١٧ «هُوَذَا أَنْتَ تُسَمَّى يَهُودِيّاً، وَتَتَّكِلُ عَلَى ٱلنَّامُوسِ، وَتَفْتَخِرُ بِٱللّٰهِ».
متّى ٣: ٩ ويوحنا ٨: ٣٣ وص ٩: ٦ و٧ و٢كورنثوس ١١: ٢٢ ميخا ٣: ١١ وص ٩: ٤ إشعياء ٤٥: ٢٥ و٤٨: ٢ ويوحنا ٨: ٤١
أخذ الرسول في هذا الفصل يثبّت على اليهودي إثمه لمخالفته المبدأ الذي هو أن سامع الكلمة لا يتبرّر بل العامل بها.
يَهُودِيّاً أصل معناه أنه أحد المتسلسلين من يهوذا ثم أُطلق على كل الإسرائيليين لنسبتهم إلى اليهودية لأنها كانت أكبر أقسام الأرض المقدسة وأشرفها. وكان اليهودي لقب شرف باعتبار أصله فإن معناه محمود (تكوين ٤٩: ٨) وباعتبار اتخاذه بمعنى أنه أحد شعب الله أي الشعب الذي اختاره الله لنفسه وقطع له عهده وجعله كنيسته. وبنى اليهود معظم رجائهم الخلاص على مضمون هذا اللقب.
تَتَّكِلُ عَلَى ٱلنَّامُوسِ معنى «الناموس» هنا كل النظام الموسوي في السياسة والدين. وثق اليهود بتبرّرهم بما في ذلك الناموس من رسوم وذبائح وتطهيرات وكهنة معتقدين أن كل من هو ضمن دائرة هذا النظام هو في أمن وسلام وأن كل من هو خارجه هالك.
وَتَفْتَخِرُ بِٱللّٰهِ افتخر اليهودي بالله لاعتقاده أنه صاحب أمته دون غيرها وأنه يحبها ويكرمها ويعتبر من سواها أعداء له.
١٨ «وَتَعْرِفُ مَشِيئَتَهُ، وَتُمَيِّزُ ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ، مُتَعَلِّماً مِنَ ٱلنَّامُوسِ».
تثنية ٤: ٨ ومزمور ٤٧: ١٩ و٢٠ فيلبي ١: ١٠
تَعْرِفُ مَشِيئَتَهُ ادّعى اليهود أنهم يعرفون إرادة الله بما لهم من الإعلان السماوي أي أسفار الوحي معرفة لم يصل إليها غيرهم ودعواهم حق لكنهم استنتجوا منه ما ليس الحق وهو أن تلك المعرفة تبرّرهم مهما فعلوا. وغفلوا عن أنها تعظم المسؤولية عليهم بالطاعة والقداسة وتعظم دينونتهم إذا لم يسلكوا بمقتضاها. وكثيراً ما يتكل الناس في هذه الأيام على وفرة ما لهم من المعرفة ووسائل الخلاص دون أن يستفيدوا منها.
تُمَيِّزُ ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ أي الحلال من الحرام والممدوح من المذموم وما يجب أن تعمله مما يجب أن تعتزله.
مُتَعَلِّماً مِنَ ٱلنَّامُوسِ أي من أسفار الوحي. وفي هذا إشارة إلى أن تلك الأسفار كانت تُقرأ في المجامع ويفسرها الكتبة. وكل ما ادّعاه اليهودي في هاتين الآيتين حق لأن وسائط معرفته كانت أكثر من وسائط معرفة غيره فأوجبت عليه زيادة المحبة والطاعة لله لكنها لم تكن علّة للثقة بأنه مهما ارتكب من الآثام يخلص.
١٩، ٢٠ «وَتَثِقُ أَنَّكَ قَائِدٌ لِلْعُمْيَانِ، وَنُورٌ لِلَّذِينَ فِي ٱلظُّلْمَةِ، ٢٠ وَمُهَذِّبٌ لِلأَغْبِيَاءِ، وَمُعَلِّمٌ لِلأَطْفَالِ، وَلَكَ صُورَةُ ٱلْعِلْمِ وَٱلْحَقِّ فِي ٱلنَّامُوسِ».
متّى ١٥: ١٤ و٢٣: ١٦ و١٧ و١٩ و٢٤ ويوحنا ٩: ٣٤ و٤٠ و٤١ ص ٦: ١٧ و٢تيموثاوس ١: ١٣ و٣: ٥
ذكر الرسول في هاتين الآيتين ما أثرته تلك الوسائط في اليهود وهو الافتخار بعلمهم وتيقنهم أنهم أفضل من الأمم وكان يجب أن يكون تأثيرها زيادة القداسة والطاعة. وأشار إلى الأمم بقوله «العميان» و «الذين في الظلمة» و «الأغنياء» و «الأطفال» بمعنى أنهم جهلاء بالنظر إلى اعتبار اليهود إياهم. واعتبر اليهودي نفسه بالنسبة إلى من هو من الأمم أنه «قائد للعميان» و «نور» و «مهذب» و «معلم» وبنى ذلك كله على زيادة معرفته بواسطة الأسفار المقدسة.
لَكَ صُورَةُ ٱلْعِلْمِ وَٱلْحَقِّ فِي ٱلنَّامُوسِ هذا ما جعله يعتبر نفسه أفضل من الأمم.
والفرق بين العلم والحق أن الأول ما يعرفه الإنسان من الثاني وأن الأول محدود والثاني غير محدود. والمراد «بصورة العلم والحق» هنا إمارتهما أو ما يُستدل به عليهما وعلى هذا كانت الوصايا العشر صورة المبادئ الأدبية. ومعنى «الناموس» هنا الأسفار المقدسة.
٢١، ٢٢ «٢١ فَأَنْتَ إِذاً ٱلَّذِي تُعَلِّمُ غَيْرَكَ، أَلَسْتَ تُعَلِّمُ نَفْسَكَ؟ ٱلَّذِي تَكْرِزُ أَنْ لاَ يُسْرَقَ، أَتَسْرِقُ؟ ٢٢ ٱلَّذِي تَقُولُ أَنْ لاَ يُزْنَى، أَتَزْنِي؟ ٱلَّذِي تَسْتَكْرِهُ ٱلأَوْثَانَ، أَتَسْرِقُ ٱلْهَيَاكِلَ؟».
مزمور ٥٠: ١٦ الخ ومتّى ٢٣: ٣ الخ ملاخي ٣: ٨
الاستفهام هنا للتوبيخ لا لطلب الفهم المقتضي الجواب وهو ألطف من التوبيخ الصريح وغايته بيان المنافاة الكلية بين سيرة اليهودي وما أوجبته عليه معرفته والنتيجة إظهار أنه سمع الكلمة ولم يعمل بها.
أَنْتَ إِذاً ٱلَّذِي تُعَلِّمُ غَيْرَكَ، أَلَسْتَ تُعَلِّمُ نَفْسَكَ؟ صرّح الرسول بذلك أن اليهودي الذي هو من شعب الله الخاص ومتعلم من الناموس إن تصرف كأنه جاهل كل الحقائق التي علّم غيره إياها عرّض نفسه بمخالفته شريعة الله وبارتكابه ما دان غيره على ارتكابه لدينونة ذاك الذي «يجازي كل إنسان حسب أعماله».
أَتَسْرِقُ؟ أثبت يعقوب الرسول هذا الذنب على اليهود بمعاملتهم الفعلة (يعقوب ٥: ٤) كما أثبت داود على اليهودي في أيامه بقوله «إِذَا رَأَيْتَ سَارِقاً وَافَقْتَهُ» (مزمور ٥٠: ١٨).
إن السارق مذنب وأما الذي ينادي بتحريم السرقة ويلوم السارقين ثم يسرق فذنبه مضاعف لأنه زاد على السرقة رياء ووقاحة. واليهود بإتيانهم مثل ذلك أغاظوا الله أكثر مما أغاظه الأمم.
أَتَزْنِي؟ عنّف يسوع اليهود على الزناء (متّى ١٢: ٣٩ و١٦: ٤ ومرقس ٨: ٣٨) وعنّفهم الأنبياء عليه كثيراً (إرميا ٥: ٧ و٧: ٩ و١٦: ٤ وملاخي ٣: ٥) والذي زاد جرمهم في السرقة زاد جرمهم في الزناء فكانوا يصرخون على الزناة ويزنون ولذلك قال لهم يسوع إن العشارين والزواني أقرب إلى ملكوت الله منهم.
ٱلَّذِي تَسْتَكْرِهُ ٱلأَوْثَانَ، أَتَسْرِقُ ٱلْهَيَاكِلَ معلوم أن اليهود بعد رجوعهم من سبي بابل كرهوا الأوثان لكنه غير معلوم أنهم سرقوا هياكلها. وظن البعض أن الرسول أشار بهذا إلى ما نهى الله عنه في قوله «وَتَمَاثِيلَ آلِهَتِهِمْ تُحْرِقُونَ بِٱلنَّارِ. لاَ تَشْتَهِ فِضَّةً وَلاَ ذَهَباً مِمَّا عَلَيْهَا لِتَأْخُذَ لَكَ» (تثنية ٧: ٢٥) وأن بولس علم أنهم خالفوا ذلك بما لم نعلمه. على أنه إن كان قد وقع منهم فهو نادر. ولم يحسب اليهود ذلك خطيئة كبيرة لاعتقادهم أن الوثن ليس شيئاً فلم يحسبوا أخذ فضتها أو ذهبها تعدياً على الله. وسؤال بولس هنا يشير إلى ارتكاب إثم هو شر من عبادة الأوثان فيلزم أن المراد أن سرقة الهياكل ليست أقل من سلب الله حقوقه بدليل ما أشار إليه النبي بقوله «أَيَسْلُبُ ٱلإِنْسَانُ ٱللّٰهَ؟ فَإِنَّكُمْ سَلَبْتُمُونِي» (ملاخي ٣: ٨). وما أشار إليه المسيح بقوله «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ ٱلصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ» (متّى ٢١: ١٣ ويوحنا ٢: ١٦) فيكون معنى العبارة أن الاستخفاف بالله وبالأمور المقدسة الدال عليه الامتناع عن إعطاء العشور وعن الذبائح والتقدمات المفروضة يعد كسرقة هيكله.
٢٣، ٢٤ «٢٣ ٱلَّذِي تَفْتَخِرُ بِٱلنَّامُوسِ، أَبِتَعَدِّي ٱلنَّامُوسِ تُهِينُ ٱللّٰهَ؟ ٢٤ لأَنَّ ٱسْمَ ٱللّٰهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ».
ع ١٧ و٢صموئيل ١٢: ١٤ وإشعياء ٥٢: ٥ وحزقيال ٣٦: ٢٠ و٢٣
أبان الرسول في هاتين الآيتين المنافاة بين دعوى اليهود وفعلهم.
تَفْتَخِرُ بِٱلنَّامُوسِ الافتخار بالناموس يلزم منه الإكرام والطاعة للناموس.
تُهِينُ ٱللّٰهَ أي تكون علّة إهانة له لأنك تعديت الناموس إلى حد جعلت عنده الأمم يحتقرون الله الذي أوحى بالناموس لأنهم قاسوا صفاته على صفات الذين يعبدونه.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ (انظر ٢صموئيل ١٢:١٤ ونحميا ٥: ٩ وإشعياء ٥٢: ٥ وحزقيال ٣٦: ٢٠ و٢٣).
٢٥ «فَإِنَّ ٱلْخِتَانَ يَنْفَعُ إِنْ عَمِلْتَ بِٱلنَّامُوسِ. وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتَ مُتَعَدِّياً ٱلنَّامُوسَ، فَقَدْ صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً!».
غلاطية ٥: ٣
أثبت بولس على اليهود من (ع ١٨ - ٢٤) أنهم تعدّوا الناموس كالأمم فلزم من ذلك أنهم لا يستطيعون أن يتبرّروا به. وما قاله في هذه الآية دفع لاحتجاجهم أنهم إن لم يتبرّروا بحفظ الناموس تبرّروا بالختان.
ٱلْخِتَانَ يَنْفَعُ إِنْ عَمِلْتَ بِٱلنَّامُوسِ أوضح الرسول هذه القضية في (ص ٣: ١ و٢ و٤: ١١) فنفع الختان كونه ختم العهد بين الله وشعبه وعلامة أن الله يتمم كل ما في ذلك العهد من الشروط الزمنية والروحية. فكان لليهودي التقي كما كان لإبراهيم علامة كونه وارث البرّ الذي بالإيمان وهو عهد أبدي روحي لكل من يؤمن كإيمان إبراهيم (وهذا العهد باقٍ إلا أنه بُدلت علامته بالمعمودية).
رأى اليهود أن الختان نافع بالذات للخلاص قال الرباني مناحيم «قال ربانيّونا لا يرى جهنم مختون» وجاء في كتاب لليهود اسمه (Jalhut Rubeni) «الختان يحمي من جهنم». وفي كتاب آخر اسمه (Medrasch Tillim) حلف الله لإبراهيم أنه لا يرسل مختون إلى جهنم. وفي آخر اسمه (Akedath Jizehak) «يجلس إبراهيم تجاه باب جهنم ولا يسمح بأن يدخله يهودي مختون» ولكن بولس أنكر أن ذلك الرسم ينفع شيئاً بالذات بدليل قوله «لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ» (غلاطية ٦: ١٥) لكنه صرّح بنفعه باعتبار كونه علامة عهد الله لشعبه وختمه وبأن شرط نفعه حفظ الناموس. وهذا على وفق قول موسى للإسرائيليين «قَدْ وَاعَدْتَ ٱلرَّبَّ ٱلْيَوْمَ أَنْ يَكُونَ لَكَ إِلٰهاً، وَأَنْ تَسْلُكَ فِي طُرُقِهِ وَتَحْفَظَ فَرَائِضَهُ وَوَصَايَاهُ وَأَحْكَامَهُ وَتَسْمَعَ لِصَوْتِهِ. وَوَاعَدَكَ ٱلرَّبُّ ٱلْيَوْمَ أَنْ تَكُونَ لَهُ شَعْباً خَاصّاً، كَمَا قَالَ لَكَ، وَتَحْفَظَ جَمِيعَ وَصَايَاهُ» (تثنية ٢٦: ١٧ و١٨) وهذا الشرط لا يتم إلا بتمام حفظ الناموس بدليل قول الرسول «لٰكِنْ أَشْهَدُ أَيْضاً لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية ٥: ٣). ولكن لم يقم بذلك أحد من اليهود فلا يستطيع أحد منهم أن يخلص به.
صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً أي لا نفع منه فلا ينال به بركات العهد ولا نجاة من عقاب الإثم. إن الله يعاقب الخاطئ المختتن كما يعاقب الخاطئ الأغرل.
٢٦ «إِذاً إِنْ كَانَ ٱلأَغْرَلُ يَحْفَظُ أَحْكَامَ ٱلنَّامُوسِ، أَفَمَا تُحْسَبُ غُرْلَتُهُ خِتَاناً؟».
أعمال ١٠: ٣٤ و٣٥
إِنْ كَانَ ٱلأَغْرَلُ يَحْفَظُ هذا نتيجة الآية الخامسة والعشرين وهو يفيد أن اليهودي المختتن إن تعدّى الناموس يُدان أي أن الله يعامله كأنه أغرل. وينتج من ذلك ما في هذه الآية وهو إن كان الأغرل طائعاً للناموس تبرّر به لأن الله يعامله معاملة اليهودي الطائع.
أَحْكَامَ ٱلنَّامُوسِ أي وصاياه.
أَفَمَا تُحْسَبُ غُرْلَتُهُ خِتَاناً أي أن غرلته تحسب ختاناً فإذاً وجود العلامة لا تبرّر المذنب وعدم وجودها لا يخطئ البار. والخلاصة أن الأمر الجوهري عند الله هو الطاعة وأما الختان فأمر عرضي. وما قيل هنا فرض لا يستلزم أن أحداً من الأمم أطاع الناموس الإطاعة الكاملة وإلا خالف قول الرسول في اليهود والأمم «ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (ص ٣: ١٢).
٢٧ «وَتَكُونُ ٱلْغُرْلَةُ ٱلَّتِي مِنَ ٱلطَّبِيعَةِ، وَهِيَ تُكَمِّلُ ٱلنَّامُوسَ، تَدِينُكَ أَنْتَ ٱلَّذِي فِي ٱلْكِتَابِ وَٱلْخِتَانِ تَتَعَدَّى ٱلنَّامُوسَ؟»
متّى ١٢: ٤١ و٤٢
هذه الآية تتضمن جواب الآية السادسة والعشرين ومفادها «نعم أن غرلته تُحسب ختاناً» وتفيد وفق ذلك أن اليوناني الطائع يدين بفعله اليهودي غير الطائع.
ٱلْغُرْلَةُ أي الإنسان الأغرل.
ٱلَّتِي مِنَ ٱلطَّبِيعَةِ أي في الحال التي وُلد عليها.
وَهِيَ تُكَمِّلُ ٱلنَّامُوسَ أي والأغرل يكمل الناموس على ما فُرض في (ع ٢٦).
تَدِينُكَ بالمعنى الذي أراده المسيح بقوله «رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا» (متّى ١٢: ٤١). والمعنى أن عمل الأغرل إذا قوبل بعمل اليهودي أوجب على اليهودي الخجل وأشد العقاب.
فِي ٱلْكِتَابِ وَٱلْخِتَانِ أي مع وجود الناموس المكتوب بين يديك وعلامة عهد الله فيك. والمعنى أن لليهودي واسطتين ليستا للوثني وهما الكتاب الذي يعلن له ما يجب عليه حسن إعلان والختان الذي عهد به على نفسه حفظ الناموس. ومع ذلك لم يستفد فتكون دينونته أعظم من دينونة الوثني.
٢٨، ٢٩ «٢٨ لأَنَّ ٱلْيَهُودِيَّ فِي ٱلظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً، وَلاَ ٱلْخِتَانُ ٱلَّذِي فِي ٱلظَّاهِرِ فِي ٱللَّحْمِ خِتَاناً، ٢٩ بَلِ ٱلْيَهُودِيُّ فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ ٱلْيَهُودِيُّ، وَخِتَانُ ٱلْقَلْبِ بِٱلرُّوحِ لاَ بِٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْخِتَانُ، ٱلَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ ٱلنَّاسِ بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ».
متّى ٣: ٩ ويوحنا ٨: ٣٩ وص ٩: ٦ و٧ وغلاطية ٦: ١٥ ورؤيا ٢: ٩ و١بطرس ٣: ٤ فيلبي ٣: ٣ وكولوسي ٢: ١١ ص ٧: ٦ و٢كورنثوس ٣: ٦ و١كورنثوس ٤: ٥ و٢كورنثوس ١٠: ١٨ و١تسالونيكي ٢: ٤
برهن الرسول في هاتين الآيتين صحة ما قيل في الآيتين السابقتين.
ٱلْيَهُودِيَّ فِي ٱلظَّاهِرِ الذي ليست له سوى العلامات الخارجية على كونه من شعب الله مثل كونه من نسل إبراهيم وكونه مختوناً وكون كتاب الوحي بين يديه وما شاكل ذلك من رسوم الناموس.
لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً بالحقيقة كما قصد الله أن يكون باختياره إياه لنفسه وقطعه العهد معه ووضع كتابه بين يديه.
وَلاَ ٱلْخِتَانُ الخ أي أن الختان الذي طلبه الله هو علامة وقف النفس له وعلامة الطهارة. وقصد الله به فصل اليهودي عن الوثنيين لكي لا يتدنس بخطاياهم وغايته تعالى أن يكون شعبه شعباً مقدساً قلباً وسيرة لا مجرد أن يمتاز عن سائر الأمم بعلامة خارجية.
ٱلْيَهُودِيُّ فِي ٱلْخَفَاءِ المراد «بالخفاء» هنا ما حُجب عن الناس من انفعالات النفس وظهر لله وحده وهو ما يحكم الله بموجبه.
هُوَ ٱلْيَهُودِيُّ أي هو الذي يُسر الله به ويحسبه من خاصته.
خِتَانُ ٱلْقَلْبِ أي تجديده وتطهيره وتقديسه حتى يقدر على الطاعة الروحية.
بِٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي هو المانح للإنسان الختان القلبي أي التقديس وهذا كقول المسيح لنيقوديموس «إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله».
لاَ بِٱلْكِتَابِ أي لا بإنشاء الناموس فإن الناموس يأمر ويمدح ويذم لكنه لا يستطيع أن يمنح الطاعة فإن حصل الإنسان به على الطاعة الظاهرة له فهذا غير كاف عند الله الذي يطلب المحبة والطاعة القلبية.
ٱلَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ ٱلنَّاسِ أي ليس من اليهود فإنهم افتخروا بناموسهم وختانهم وبكونهم من نسل إبراهيم وبأن لهم أسفار الوحي الإلهي وكانت غايتهم من صدقاتهم وصلواتهم وممارستهم رسوم الديانة أن يمدحهم الناس.
بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ كانت غاية الله من إعطاء الختان وسائر فروض الناموس ما ذُكر آنفاً وهو مثل قوله «وَيَخْتِنُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا» (تثنية ٣٠: ٦ انظر أيضاً تثنية ٦: ٥ و١٠: ١٦ وإرميا ٤: ٤). وسمى الله الأشرار «غلف القلوب» (إرميا ٩: ٢٦ وحزقيال ٤٤: ٩ وأعمال ٧: ٥٦).

فوائد



  • إن العضوية في كنيسة المسيح الظاهرة لا تتكفل لنا برضى الله والخلاص لأن اليهود قبل ميلاد المسيح كانوا أعضاء الكنيسة الوحيدة الظاهرة ومع ذلك أبان لنا الرسول أنهم لم يكونوا مرضين لله ولا ورثة الملكوت السماوي (ع ١٧).
  • إن معرفة الروحيات مجردة لا تنفع شيئاً أمام الله فلا تقدس القلب ولا تجعل الإنسان نافعاً لغيره وكثيراً ما تكون علّة الرجاء الباطل والافتخار بالذات (ع ١٨ - ٢٠).
  • إن زيادة المعرفة تزيد المسؤولية وخطيئة المتمرد وتؤكد شدة عقابه فإذاً الذين يعتقدون أن مجرد انتشار العلم يصلح الناس أدبياً هم مخطئون (ع ١٧ - ٢٠).
  • إن خطايا الذين يدّعون أنهم شعب الله تغيظ الله أكثر من خطايا غيرهم وهي أكثر إضراراً للناس (ع ٢٢ - ٢٤).
  • إن الله عادل ولذلك لا يسأل يوم الدين أحداً هل هو يهودي أو يوناني أو عالم أو جاهل أو حر إو عبد إنما يسأل عن صفاته وأعماله أصالحة هي أم شريرة (١٧ - ٢٤).
  • إن أسرار الكنيسة بمقتضى تعليم الرسول لا نفع لها في ذاتها وليست علّة ضرورية للنعمة لكنها علامات وختوم غايتها ثتبيت الإيمان بصحة عهد الله وتوضيح الحقائق الروحية المشار بها إليها (ع ٢٥).
  • إنه على قدر ضعف الروحيات في الناس زادت غيرتهم في رسوم الدين الخارجية. فاليهود لما فقدوا روح الديانة توهموا أنهم يخلصون بالختان. أفليس كثيرون من المسيحيين اليوم يتكلون على أسرار الكنيسة اتكال اليهود على الختان (ع ٢٥).
  • إنه كا يضل الذين يعتقدون أن جوهر الدين ممارسة أسرار الكنيسة يضل الذين يستخفون بتلك الأسرار التي رسمها الله. فإنه لم يقل الرسول أن الختان لا ينفع مطلقاً بل صرّح بنفعه إذا مورس على شرطه. وكذا المعمودية والعشاء الرباني فإن لهما أهمية عظيمة إذا اقترنا بالإيمان. فالذين لا يكترثون بهما يرتكبون إثماً عظيماً (ع ٢٦).
  • إن شروط قبول العبادة هو أن تكون قلبية فالعبادة في الظاهر فقط ليست شيئاً (ع ٢٨ و٢٩).
  • إنه إذا كان القلب مستقيماً أمام الله لم يُعتد بما يحكم به الناس وإذا رضي الناس عنّا فرضاهم لا يغنينا عن رضى الله شيئاً.




الأصحاح الثالث


اعتراضات يهودية على تعليم بولس ودفعه إياها ع ١ إلى ٨


١ «إِذاً مَا هُوَ فَضْلُ ٱلْيَهُودِيِّ، أَوْ مَا هُوَ نَفْعُ ٱلْخِتَانِ؟».
في هذه الآية الاعتراض الأول على تعليم الرسول في الأصحاح الثاني وخلاصته استحالة دينونة اليهود على أعمالهم كالأمم لأن ذلك يقتضي أن لا فضل لليهود عليهم.
إِذاً أي ينتج مما سبق.
مَا هُوَ فَضْلُ ٱلْيَهُودِيِّ أي على الأممي. والاستفهام هنا أنكاري والمعنى أن القول بأن الختان الحقيقي هو ختان القلب وأن الأغرل الطائع متبرّر يستلزم أنه لا نفع من الختان وسائر الرسوم الناموسية وأن اختيار الله إسرائيل شعباً خاصاً له وعنايته به وكل ما ميّزه به مما هو معلوم ومقرر عند الجميع بلا فائدة لأنها لا تبرّر ولا تخلص. وهذا الاعتراض كاعتراض كثيرين في هذه الأيام وهو قولهم أي نفع من حفظ الشريعة الأدبية والرسوم الإنجيلية إن لم نخلص بها.
مَا هُوَ نَفْعُ ٱلْخِتَانِ عبّر بالختان عن كل بركات عهد الله لإبراهيم ونسله لأن الختان كان علامة لها. والمعنى أنه لا نفع له إن كان الله لا يقبل سوى ختان القلب. فوجب هنا على الرسول دفع ذلك الاعتراض لئلا يكون مانعاً لليهود من قبول الإنجيل.
٢ «كَثِيرٌ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ! أَمَّا أَوَّلاً فَلأَنَّهُمُ ٱسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ ٱللّٰهِ».
تثنية ٤: ٧ و٨ ومزمور ١٤٧: ١٩ و٢٠ وص ٢: ١٨ و٩: ٤
كَثِيرٌ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ معنى ذلك أن استنتاجهم ذلك الاعتراض من تعليمه خطأ فإنه صرّح بأن نفع الدين اليهودي كثير في كل الأحوال الروحية.
أَمَّا أَوَّلاً اقتصر هنا على الأول لأنه الأهم وذكر الباقي في (ص ٩: ٤ و٥).
ٱسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ ٱللّٰهِ أي ميّزهم الله بإعطائه إياهم الوحي دون غيرهم وفيه إعلان بما يجب على الإنسان أن يعمله إرضاء لله. وفيه مواعيده تعالى ولا سيما المواعيد المتعلقة بالمسيح. وفيه وحده بيان طريق المغفرة وتحقق خلود النفس. وهذا مبني على كون معرفة هذه الحقائق الروحية فضلاً عظيماً ودل على ذلك بقوله «استؤمنوا» مبيناً أن الوحي كان وديعة ثمينة استودعهم إياها. وتسميته أسفار العهد القديم «أقوال الله» نص على أنها ليست أقوال الناس وإن كانوا قد كتبوها بل هي أقواله تعالى ولهذا هي ذات سلطان وتستحق الثقة التامة فاستئمانهم عليها شرف ومزية. وقول بولس هنا كقول استفانوس أمام مجلس السبعين (أعمال ٧: ٣٨ انظر أيضاً مزمور ١١٩: ١٠٣ و١بطرس ٤: ١١).
٣ «فَمَاذَا إِنْ كَانَ قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ؟ أَفَلَعَلَّ عَدَمَ أَمَانَتِهِمْ يُبْطِلُ أَمَانَةَ ٱللّٰهِ؟».
ص ١٠: ١٦ وعبرانيين ٤: ٢ عدد ٢٣: ١٩ وص ٩: ٦ و١١: ٢٩ و٢تيموثاوس ٢: ١٣
ما قيل في هذه الآية إما تثبيت الرسول قوله أن استئمانهم على أقوال الله لم يزل بركة عظيمة لهم وإن كان بعضهم لم يصدقوها ورفضوا المسيح الموعود به فيها لأن الله أمين سوف يُجري كل مقاصد نعمته وإما هو اعتراض يهودي ثاني وهذا هو الأرجح. وعلى هذا يكون اعتراض اليهودي إن كنا غير أمناء فهل يبطل ذلك أمانة الله في إنجاز مواعيده لإبراهيم ونسله. ألم يقطع معه عهداً وهو أن يهب لشعبه كل فوائد ملكوت المسيح على شرط الختان وحفظ الرسوم الموسوية. فإذاً من المحال أن يعاملنا الله معاملة الوثنيين وإن كنا أشراراً.
فَمَاذَا هذا مقدمة إيراد اعتراض بغية دفعه على أثر ذكره.
إِنْ كَانَ قَوْمٌ أي فريق من اليهود. أطلق الرسول في الأصحاح الثاني الدينونة على كل اليهود لكن المعترض قصرها على بعضهم فرضاً واحتمالاً.
لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ أي لم يقوموا بما وجب عليهم من استئمانهم أقوال الله أي أنهم لم يسلكوا في طريق الرب ولم يصدقوا المواعيد بمعانيها الروحية.
أَفَلَعَلَّ عَدَمَ أَمَانَتِهِمْ يُبْطِلُ أَمَانَةَ ٱللّٰهِ أي خيانتهم لا تمنع الله من إنجاز مواعيده.
ظن اليهود نسبتهم إلى الله ليست لغيرهم من البشر وأن اختيار الله إبراهيم ونسله خاصة له ومنحه إياهم علامة الختان والرسوم الموسوية ثبتت لهم بعض الحقوق على شرط حفظها ظاهراً فيستحيل أن يدينهم كما يدين الأمم في يوم القضاء. ويتضح أنهم ظنوا ذلك من قول يوحنا المعمدان لليهود «وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً» (متّى ٣: ٩). ومن قول أحد علمائهم «ارتكب اليهودي كل نوع من أنواع الخطايا حُسب بين الإسرائيليين الخطأة وعوقب بمقتضى خطاياه لكن مع ذلك كله يبقى له نصيب في الحياة الأبدية» وكثيراً ما يوجد في كتبهم «أن لكل إسرائيلي نصيباً في النعيم الأبدي» وعلى هذا الظن ظهر لهم قول بولس أنهم «يدانون كالوثنيين» تهمة لله بإخلاف الوعد. فكأنهم قالوا أن نكث بعض اليهود عهدهم مع الله كما قلت يا بولس فهل ينكث الله عهده مع كل شعبه المختار.
٤ «حَاشَا! بَلْ لِيَكُنِ ٱللّٰهُ صَادِقاً وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِباً. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي كَلاَمِكَ، وَتَغْلِبَ مَتَى حُوكِمْتَ».
أيوب ٤: ٨ يوحنا ٣: ٣٣ مزمور ٦٢: ٩ و١١٦: ١١ مزمور ٥١: ٤
حَاشَا! تنزيه لتقوية النفي جاء بهذا المعنى عشر مرات في هذه الرسالة. كأن الرسول هنا اقشعرّ مما نسبوه إليه من القدح في أمانة الله وصدقه بإخلاف وعده فنفى ما نسبوه إليه نفياً شديداً بتنزيهه تعالى. ومراد الرسول بذلك أن الله لا يخلف الميعاد إن دان خطأة اليهود لأن فوائد العهد لم تزل لسائرهم. وأن كل تلك المواعيد تُنجز لكل الذين يقومون بشروطها. وهذا على وفق قوله «إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِيناً، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١٣ انظر أيضاً ١كورنثوس ١: ٩ و١٠: ١٣). وقد برهن بولس في ص ٩ - ص ١١ أن لا مخالفة لوعد الله بدينونته لليهود.
بَلْ لِيَكُنِ ٱللّٰهُ صَادِقاً وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِباً أي لو سلمت أن استنتاجكم صحيح لرفضت حالاً ما استلزمه من قولي. فكأنه قال لنعترف بصدق الله وأمانته في وعده مهما نتج عن اعترافنا بذلك من تكذيب أنفسنا وسائر البشر على وجه الأرض. وقوله «ليكن» الخ إما مبدأ عام وإما مقصور على عهد الله لإسرائيل. والمعنى على هذا أن الله صادق الوعد وإن ظهر أن كل يهود الأرض (لا قوم منهم) كاذبين بنكثهم عهدهم مع الله.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ هذا مقتبس من (مزمور ٥١: ٤) كتبه داود بعد ما أرسل الله إليه ناثان ليوبخه (٢ صموئيل ١٢: ١ - ١٤). والعبارة منقولة من ترجمة السبعين كأكثر المقتبسات في الإنجيل والفرق بينها وبين العبارة العبرانية في اللفظ دون المعنى. واعترف داود في ذلك المزمور بأنه خاطئ وأن الله بار بتخطيئته وعقابه كما أراد. واتخذ الرسول كلامه دليلاً على وجوب أن نبرّر الله مهما دنّا أنفسنا كما أن داود برّر الله ودان نفسه.
لِكَيْ تَتَبَرَّرَ لكي يعرف الناس أنك بار ويصرّحوا ببرك.
فِي كَلاَمِكَ أي الذي أُرسل إليه بفم ناثان وهو كلام دينونة له.
تَغْلِبَ وفي الأصل العبراني تزكو فما ذُكر هنا لازم معناه فإنه إذا تحاكم اثنان في المحكمة الشرعية قيل لمن يزكو منهما أنه الغالب. فتصوّر داود في المزمور أنه هو والله يتحاكمان فغلبه الله بكونه زكياً وعادلاً بدينونته إياه على خطيئته.
مَتَى حُوكِمْتَ في الأصل العبراني «بقضائك» أي حكمك والمعنى واحد وهو وجوب الاعتراف بعدل الله إذا اعتبرنا الله حاكماً علينا أو نظرنا إلى أعماله وحكمنا فيها. ونتيجة ذلك كله أن خطيئة الإنسان لا تبطل أمانة الله وصدقه بل تثبتها بدينونة الخاطئ.
٥ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ إِثْمُنَا يُبَيِّنُ بِرَّ ٱللّٰهِ، فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي يَجْلِبُ ٱلْغَضَبَ ظَالِمٌ؟ أَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ».
ص ٦: ١٩ وغلاطية ٣: ١٥
في هذه الآية اعتراض ثالث مبني على ما قيل في الآية الرابعة غايته دفع قول بولس أن اليهود تحت الدينونة فإنه قال في الآية الرابعة «إن الله أظهر حقه وعدله بمراقبته خطيئة داود ومعاقبته له عليها» ولمح إلى أن يكون مثل هذه النتيجة من مراقبة الله خطايا اليهود ومعاقبته لهم عليها.
إِثْمُنَا يُبَيِّنُ بِرَّ ٱللّٰهِ أثبت الرسول في الأصحاح الثاني على اليهود أنهم ارتكبوا آثاماً كثيرة وأنهم عرّضوا أنفسهم بذلك لغضب الله وعقابه فكان من ذلك هذا الاعتراض وهو إذا كانت خطايانا وسيلة إلى تمجيد الله فكيف يحق له تعالى أن يديننا ويعقابنا على الخطايا التي آلت إلى تمجيده.
فَمَاذَا نَقُولُ أي ما الذي نستنتجه من ذلك.
أَلَعَلَّ أي هل نسلّم بصدق النتيجة.
ٱلَّذِي يَجْلِبُ ٱلْغَضَبَ على الخاطئ لخطيئته.
ظَالِمٌ نتج من خطايا اليهود ومعاقبة الله إيّاهم عليها تمجيد لاسمه فلولا خطاياهم لم يكن من سبيل لإظهار قداسته تعالى وكراهته للخطيئة وصدقه في إجراء وعيده. فقصد المعترض باعتراضه أنه ليس من العدل العقاب على ما نتيجته تمجيد الله. ويستحيل أن يكون الله ظالماً فتعليم الرسول ليس بصحيح واليهود ليسوا بعرضة للغضب والدينونة.
أَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ يظهر من ذلك أن بولس كان في ريب من جواز ذكر اعتراض فيه نسبة الظلم إلى الله وأنه أراد أن ذلك ليس مما يورده هو باعتبار كونه رسولاً أو مسيحياً ولكن مما أورده أكثر الناس الذين رغبوا في أن يبرّروا أنفسهم بوضع الذنب على غيرهم حتى عليه تعالى.
٦ «حَاشَا! فَكَيْفَ يَدِينُ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ إِذْ ذَاكَ؟».
تكوين ١٨: ٢٥ وأيوب ٨: ٣ و٣٤: ١٧
حَاشَا تنزيه لتشديد النفي كما في (ع ٤) وهو جواب على المعترض.
فَكَيْفَ يَدِينُ ٱللّٰهُ الخ هذا يثبت صحة جوابه فإن صدق الاعتراض من جهة الخاطئ من اليهود صدق على كل خطأة العالم فإن كان عقاب الله الخاطئ اليهودي على خطيئته ظلماً لأن عقابه يؤول إلى مجد الله فمن الظلم أن يدين أحداً من خطأة العالم وهذا إبطال للدينونة كلها. وما شأنه كذلك من الاعتراضات فهو باطل في نفسه.
٧ «فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ ٱللّٰهِ قَدِ ٱزْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟».
في هذه الآية الاعتراض الذي في الآية الخامسة عينه بتغيير الألفاظ وهو مما يحق لكل خاطئ أن يقوله لو كان صحيحاً.
فَإِنَّهُ الفاء للتعليل والمعنى لأنه لو صحّ اعتراض اليهودي حق للخاطئ أن يقول ما يأتي.
صِدْقُ ٱللّٰهِ في وعده ووعيده وهذا نُسب إليه تعالى في الآية الرابعة.
ٱزْدَادَ أي صار أوضح من ذي قبل.
بِكَذِبِي نوع من الإثم المذكور في الآية الخامسة الذي بُيّن به «برّ الله».
ِلِمَجْدِه أي لكي يتمجّد فإنه كل ما أعلن صفاته فهو آئل لمجده وبعقاب الكذاب أُعلن صدق الله وبرّه.
فَلِمَاذَا أُدَانُ كَخَاطِئٍ المراد بهذا السؤال أن معاملة الخاطئ على هذا الأسلوب أي عقابه على كذبه الذي كان وسيلة إلى تمجيد الله ليست سوى ظلم ويلزم منها محالية أن يعاقبه الله كذلك.
٨ «أَمَا كَمَا يُفْتَرَى عَلَيْنَا، وَكَمَا يَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّنَا نَقُولُ: لِنَفْعَلِ ٱلسَّيِّآتِ لِكَيْ تَأْتِيَ ٱلْخَيْرَاتُ. ٱلَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ عَادِلَةٌ».
ص ٥: ٢٠ و٦: ١ و١٥
أكثر هذه الآية تكملة الآية السابقة وهي ما يحق للخاطئ أن يقوله على فرض الاعتراض في الآية الخامسة وهو لماذا لا يحق لي أن أفعل الشر للحصول على الخير وعليه تكون الخطيئة فضيلة.
أَمَا كَمَا يُفْتَرَى أي كما يتهموننا كذباً. الظاهر من هذا أن أعداء الإنجيل اتهموا بولس باعتقاده جواز ارتكاب السيآت بغية الخيرات.
عَلَيْنَا نحن الرسل خاصة والمسيحيين عامة.
كَمَا يَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّنَا نَقُولُ الظاهر أن بعض الناس خُدعوا بتهمة اليهود فصدقوا أن ما يأتي هو من المبادئ الإنجيلية التي علّمها الرسل فاستغنم بولس هذه الفرصة لنفي هذا المبدإ وإنكار أنه تفوّه به.
لِنَفْعَلِ ٱلسَّيِّآتِ لِكَيْ تَأْتِيَ ٱلْخَيْرَاتُ هذا هو المبدأ المُفترى. والاعتراض في الآية الخامسة لو صحّ لأثبت هذا المبدأ الفاسد المُبطل كل صدق وبر. وأصل هذا المبدإ أن الإثم وسيلة إلى إظهار مجد الله. ولذلك لا يجوز عقاب الأثيم. فكلما زاد إثم الناس زاد مجد الله. وهذا يحمل الناس على الخطإ عمداً ويكون عذراً وحجة لهم. ومن البيّن أن الاعتراض الذي نتيجته كهذه باطل بالضرورة.
ٱلَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ عَادِلَةٌ أي كل من يصدق ذلك المبدأ ويسلك بمقتضاه. وهذا تصريح بأن هؤلاء يستحقون اللوم والعقاب. وقد أظهر بولس بكلامه هنا كراهته هذا المبدأ وتحريمه إياه. فمبدأ الرسول عكس هذا المبدإ وهو أنه لا يجوز أبداً أن نفعل الشر توصلاً إلى الخير لا لنفع أنفسنا ولا لنفع أصحابنا ولا لنفع الكنيسة ولا لتمجيد الله. فليس لأحد أن يتوقع نجاح عمله وبركة الله عليه إلا بأن يسلك طريق الحق والاستقامة.

فوائد



  • أنه إذا وفرت وعظمت فوائد اليهود من عضويتهم في الكنيسة تحت النظام الموسوي فكم تعزّ وتعظم فوائد عضوية الذين تحت النظام المسيحي وأعظم تلك الفوائد حصولهم على أسفار العهدين كلها ولكن كلما زادت فوائدنا زادت مسؤوليتنا (ع ١ و٢).
  • إن أعظم البركات التي امتازت بها الممالك المسيحية على الممالك الوثنية هو حصولهم على الكتاب المقدس والوسائط لإدراك معانيه الثمينة (ع ٢).
  • إن الأسفار التي اعتقد يهود عصر المسيح والرسل أنها وحي الله هي وحيه حقاً (ع ٢).
  • إنه ليس لأحد أن يفسر عهداً من عهوده تعالى بما يلزم منه العفو من الدينونة والعقاب مع الاستمرار على الإثم. ولا أمن للأثيم المستمر على إثمه من ذلك بعضويته في الكنيسة واشتراكه في أسرارها (ع ٣ و٤).
  • إنه باطل رجاء الشرير النجاة من الهلاك بناء على توهّمه أن الله لا يدين العالم (ع ٥ و٦).
  • إن أقوى برهان على فساد تعليم ما هو أنه ينفي التمييز بين الخير والشر. وأوضح دليل على شر إنسان وعدل عقابه أنه «يفعل السيآت لكي تأتي الخيرات» ويغلب اقتران هذا الإثم بالرياء والخداع.



انه لا فضل لليهودي على الوثني في تبرّره أمام الله ودليل ذلك من الوحي ع ٩ - ٢٠


٩ «فَمَاذَا إِذاً؟ أَنَحْنُ أَفْضَلُ؟ كَلاَّ ٱلْبَتَّةَ! لأَنَّنَا قَدْ شَكَوْنَا أَنَّ ٱلْيَهُودَ وَٱلْيُونَانِيِّينَ أَجْمَعِينَ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ».
ع ٢٣ وغلاطية ٣: ٢٢
فَمَاذَا إِذاً؟ أي نتيجة وصلنا إليها في هذا البحث.
أَنَحْنُ أَفْضَلُ؟ اي هل نحن اليهود أفضل من الأمم. سبق إلى القول أن اليهود امتازوا ببعض الأمور (ع ٢) وهنا سأل هل هم أفضل منهم أدباً وفضيلة وبراً واستحقاقاً أمامه تعالى.
كَلاَّ ٱلْبَتَّةَ! بقوله هذا قطع كل ثقة اليهود بأفضليتهم.
لأَنَّنَا قَدْ شَكَوْنَا في الأصحاح الأول والثاني من هذه الرسالة. وضمير الجمع موضع المفرد لأن بولس جمع قرّاء الرسالة معه.
أَنَّ ٱلْيَهُودَ وَٱلْيُونَانِيِّينَ أَجْمَعِينَ أي بلا استثناء ولا فرق.
تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ أي تحت سلطتها وتدنيسها ودينونتها.
١٠ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ».
مزمور ١٤: ١ و٢ و٣ و٥٣: ١
ما في هذه الآية إلى الآية الثامنة عشرة الإثبات من كتاب الله أن اليهود والأمم سيّان في الخطيئة.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في مزمور ١٤:١ والاقتباس من ترجمة السبعين والاختلاف بينه وبين العبرانية في اللفظ دون المعنى.
لَيْسَ بَارٌّ وفي العبراني «ليس من يعمل صلاحاً» وهذا يثبت أن جميع الناس خطأة (مزمور ١٤: ٣).
١١ «لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ ٱللّٰهَ».
هذا مقتبس من (مزمور ١٤: ٢) من ترجمة السبعين وما جاء فيها سلباً وهو قوله «ليس من يفهم ليس من يطلب الله». جاء في العبراني استفهاماً إنكارياً وهو «هل من فاهم طالب الله» فلا فرق في المعنى. أثبت الله على جميع الناس الخطيئة لأنهم جهلوه باختيارهم وأهملوه. وكثيراً ما جاء «الفهم» في الكتاب المقدس بمعنى تقوى الله وعدمه بمعنى عدمها. وطلب الإنسان الله عبارة عن الشوق إليه والطاعة والعبادة له وهذا من لوازم الفهم الروحي.
١٢ «ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ».
هذه الآية من (مزمور ١٤: ٣) لفظاً ومعنى وفيها بيان النتيجة من ترك الناس لله وطرقه فإنهم اختاروا طريق الضلال والدنس الأدبي وهذا مما أثبته الكتاب المقدس على كل الناس بلا استثناء.
١٣، ١٤ «١٣ حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سُمُّ ٱلأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. ١٤ وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً».
مزمور ٥: ٩ وإرميا ٥: ١٦ مومور ١٤٠: ٣ مزمور ١٠: ٧
في هاتين الآيتين إثبات أن الناس أشرار بدليل كلامهم.
حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ هذا مقتبس من (مزمور ٥: ٩) من ترجمة السبعين وفي العبراني «حلقهم» موضع حنجرتهم. وكليهما آلة التكلم. ووجه الشبه بين حناجر الناس والقبور المفتوحة الكراهة والضرر فرائحة القبور خبيثة ومفسدة وكذلك أقوال الأشرار. أو عدم الشفقة والاكتفاء فإن القبر لا يشفق ولا يشبع وكذا أفواه الأشرار لا تنفك تؤذي كل من تطعن فيه.
بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا هذا ما ترجمه السبعون عن العبرانية وهو فيها «ألسنتهم صقلوها» فالأصل مجاز والترجمة حقيقة فاللسان المصقول هو المملق والتمليق ضرب من المكر.
سُمُّ ٱلأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ هذا مقتبس من ترجمة السبعين من (مزمور ١٤٠: ٣) وهو في الأصل العبراني «حمة الأفعوان تحت شفاههم» والمعنى واحد لأن كل من الأفعوان والصل سام والمترجمون السبعون اعتبروا السم هو الجوهري في الآية لا نوع الحية السامة. والمعنى أنهم يضرون بخبثهم ومكرهم كما يضر السم بالأجساد (قابل بهذا ما في يعقوب ٣: ٦).
فَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً هذا من ترجمة السبعين أيضاً من (مزمور ١٠: ٧). وفي العبرانية «فمهم مملوء لعنة وغشاً» والمراد بذلك شدة البغض فإن مرارة القلب علّة لعنة الشفتين (قابل هذا بما في أفسس ٤: ٣١ ويعقوب ٣: ١٤).
١٥ - ١٧ «١٥ أَرْجُلُهُمْ سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ ٱلدَّمِ. ١٦ فِي طُرُقِهِمِ ٱغْتِصَابٌ وَسَحْقٌ. ١٧ وَطَرِيقُ ٱلسَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ».
أمثال ١: ١٦ وإشعياء ٥٩: ٧ و٨ ومزمور ٣٦: ١
في هذه الآيات إثبات أن الناس أشرار بدليل أفعالهم. وهي مقتبسة من (إشعياء ٥٩: ٧ و٨) بشيء من الاختصار.
أَرْجُلُهُمْ سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ ٱلدَّمِ أي يقتلون إخوتهم البشر لأدنى سبب. وفي العبراني وصف «الدم» بالزكي وتركه بولس اختصاراً.
فِي طُرُقِهِمِ ٱغْتِصَابٌ وَسَحْقٌ (ع ١٦) أي يسلبون ويقتلون.
طَرِيقُ ٱلسَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ (ع ١٧) المراد بطريق السلام ما يؤدي إلى الراحة والخير لهم ولغيرهم. ومعنى قوله «لم يعرفوه» لم يستحسنوه ولم يسلكوا فيه لأنهم كانوا يعدلون عنه أبداً إلى طريق الاغتصاب والسحق. وذكر الرسول هذه الأفعال بياناً لفساد طبيعة الإنسان لأنه لا بد من أن تكون الشجرة ذات الاثمار الرديئة رديئة.
١٨ «لَيْسَ خَوْفُ ٱللّٰهِ قُدَّامَ عُيُونِهِمْ».
مزمور ٣٦: ١
هذه الآية من (مزمور ٣٦: ١) على ما في ترجمة السبعين وفي الأصل العبراني عبّر داود عن شعور قلبه حين مشاهدته أعمال الأشرار وحكمه بمقتضى ذلك الشعور. واقتبس بولس قوله دليلاً على أن الأشرار خالون من خوف الله أي لأنهم لا يتقون الله ولا يخشون نقمته فكأنهم لا يؤمنون به ولا يلزمهم أن يطيعوه ولا أن يخافوا بأسه وعقابه على معاصيهم.
١٩ «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ ٱلنَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّامُوسِ، لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ ٱللّٰهِ».
يوحنا ١٠: ٣٤ و١٥: ٢٥ أيوب ٥: ١٦ ومزمور ١٠٧: ٤٢ وحزقيال ١٦: ٦٣ وص ١: ٢٠ و٢: ١ ص ٢: ٢ وع ٩ و٢٣
نَحْنُ نَعْلَمُ أي الأمر جلي للجميع كما في (ص ٢: ٢).
ٱلنَّامُوسُ هو ما أعلن الله فيه واجبات الإنسان إما بالعقل والضمير وإما بما كُتبت في الوصايا العشر أو الأسفار الخمسة أو غيرها من الكتاب المقدس ولكن القرينة هنا تدل على أن الرسول أراد به كتب المزامير والأنبياء لأنها هي التي اقتبس منها هنا.
يُكَلِّمُ بِهِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّامُوسِ أي الذين بلغهم إعلان إرادته تعالى. والذين كتب الناموس على ضمائرهم فهم مسؤولون بمقتضى ذلك الناموس الطبيعي. والذين بلغهم كتاب الوحي مسؤولون بمقتضاه. وأسفار العهد القديم أُعلنت لليهود فهم مكلفون أن يتخذوها دستور حياتهم وتصرفهم وأن يقيسوا أعمالهم بها. وتلك الأسفار صرّحت بأن يسلّموا بصدقه على أنفسهم كما يسلّمون به على الأمم.
لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ قصد الله بأقواله التي اقتبسها الرسول في هذا الأصحاح أن يوضح أحسن إيضاح أن كل الناس أشرار حتى لا يبقى لأحد من سبيل للريب أو الإنكار أو الاعتذار ويضطر ان يسلّم بصدق ذلك بصمته (قابل هذا بما في أيوب ٥: ١٦ ومزمور ١٠٧: ٤٢).
كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ أي كل الناس عرضة للعقاب بسبب خطاياهم.
مِنَ ٱللّٰهِ رب الشريعة الديّان الذي عليه تعدّى الخاطئ.
٢٠ «لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِٱلنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ ٱلْخَطِيَّةِ».
مزمور ١٤٣: ٢ وأعمال ١٣: ٣٩ وغلاطية ٢: ١٦ و٣: ١١ وأفسس ٢: ٨ و٩ وتيطس ٣: ٥ ص ٧: ٧
ما يأتي نتيجة الآية التاسعة عشرة وذلك أنه لكون كل العالم خطأة وعرضة للغضب والعقاب لا يمكن أحداً أن يتبرّر بأعماله. وغاية بولس مما كتب من (ص ١: ١٨) إلى هذه الآية هو الوصول إلى هذه النتيجة (انظر شرح ص ١: ١٨).
بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أي كل الأعمال التي يأمر بها الناموس رمزية أو أدبية صنعها الإنسان قبل التجديد أو بعده إطاعة للناموس الطبيعي أو ناموس الوحي.
والدليل على أن هذا هو المراد من الناموس هنا:
(١) إن الناموس المشار إليه على كل الناس وأن تعديه يجعلهم مذنبين أمام الله (ع ١٩).
(٢) إن الناموس الذي على جميع الناس لا بد من أن يكون روحياً ينظر إلى عواطف القلب لا مجرد الاعمال الظاهرة. وأعمال المؤمنين الصالحة لا تبرّرهم لأن أفضلها ناقص وعلى ما قيل في (يعقوب ٢: ١٠) إن الطاعة الناقصة ليست بمقتضى الناموس طاعة.
كُلُّ ذِي جَسَدٍ أي كل إنسان. وصف الإنسان بذي الجسد لكونه ضعيفاً مائلاً إلى السقوط.
لاَ يَتَبَرَّرُ ولن يتبرّر لأنه تعدّى الناموس. وهذا على وفق قوله «لاَ تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ» (مزمور ١٤٣: ٢). ومعنى التبرير التصريح بالبر أو أن الإنسان يُحسب باراً لانه ليس للناموس شيء عليه. ويفرق عن المغفرة بأن المغفرة قد تكون تبريراً ومن المحتمل أن الملك الأرضي يرضى عن المجرم ويُكرمه لكن ذلك ليس تبريراً له. وليس المراد بهذا التبرير أن الله يجعل الشرير باراً بتغيير صفاته لأن ذلك تقديس. والتبرير في الاصطلاح الشرعي التصريح بأن المشكو بار يمقتضى الشريعة غير مستحق العقاب.
وخلاصة هذا التعليم أنه من المحال أن الله يعتبر أحداً من الناس باراً لعمله بمقتضى الناموس لأن الناموس يطلب الطاعة الكاملة. فلو استطاع الإنسان ذلك قلباً وعملاً لتبرّر به (ص ٢: ١٣) ولكن قد برهن الرسول في الأصحاح الثاني والأصحاح الثالث أن كل الناس يهوداً وأمماً خالفوا الناموس فأثبت تعليمه افتقار الإنسان إلى التبرير بالنعمة على أساس وطيد.
أَمَامَهُ أي أمام الله حين يحكم عليه بمقتضى أعماله سواء كان ذلك يوم الدين أم قبله.
لأَنَّ بِٱلنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ ٱلْخَطِيَّةِ المراد بالناموس هنا الناموس الأدبي مكتوباً أو غير مكتوب. والمراد «بمعرفة الخطية» شعور الإنسان واقتناعه بأنه خاطئ. ويكون الناموس علّة ذلك لأنه يُظهر للإنسان ما يجب عليه من الطاعة الكاملة لله والقداسة فالإنسان بمقابلته قلبه وسيرته بالناموس يتحقق أنه خاطئ لأنه لم يُطع الناموس الطاعة الواجبة فيدينه الناموس لا يبرّره.
وهذا القول يصدق على اليهود أولاً لأن لهم المعرفة الكاملة بواسطة الناموس المكتوب بالوحي ويصدق أيضاً على الأمم لأن الناموس مكتوب على قلوبهم وضمائرهم شاهدة عليهم (ص ٢: ١٤ و١٥) وبذلك لهم معرفة الخطيئة.
لم يعط الله الخطأة ناموسه لكي يتبرّروا به بل ليكتشف للإنسان إثمه حتى يترك اتكاله على برّ نفسه فيتكل على برّ يسوع المسيح لأنه الوسيلة الواحدة الكافية إلى قبوله أمامه تعالى.
وقول الرسول «إن بالناموس معرفة الخطيئة» يتضمن أن هذا كل ما يستطيعه الناموس.

فوائد



  • إن الناس مهما اختلف بعضهم عن بعض في العلم والمقام والغنى والامتيازات المدنية أو الدينية فهم جميعاً أمام الله سواء في كونهم خطأة وعرضة للهلاك فإذاً ليس لأحد من الناس أن يفتخر على غيره بالفضل الأدبي (ع ٩).
  • إن ما وُصف به الناس في العهد القديم قبل ميلاد المسيح يصدق عليهم في كل عصر وقطر لأنه وصف الطبيعة البشرية بعد السقوط. وهو يصدق على كل فرد من البشر فإذاً على كل فرد أن ينسبه إلى نفسه. وكذلك مواعيد الكتاب للمؤمنين التائبين هي للجميع فيجب على كل إنسان أن يتخذها لنفسه (ع ١٠ - ١٨).
  • إنه لا يمكن الناموس أن يبرّر ولا أن يقدس إنما يثبت علينا الإثم ويوجب الهلاك ولا يمنحنا شيئاً من رجاء الخلاص بالطاعة له (ع ٢٠).
  • أفضل استعداد لقبول بشارة الإنجيل هو الاقتناع بأنّا خطأة أذلاّء لا حجة لنا نفتح بها أفواهنا وإنّا عاجزون عن القيام بمطاليب الشريعة وأن خلاصنا متوقف على برٍّ غير برّنا (ع ٢٠).



التبرير الذي أعلنه الله في الإنجيل ع ٢١ إلى ٣١

فحوى هذا الفصل


يُقسم هذا الفصل إلى أربعة أقسام الأول في صفات التبرير والثاني في أساسه والثالث في غايته والرابع في نتائجه.
أما صفات التبرير فهي على ما بيّنها الرسول:

  • إنه بالإيمان لا بالأعمال (ع ٢١ و٢٢).
  • إنه مدعو إليه كل الناس يهوداً وأمماً (ع ٢٢ و٢٣).
  • إنه يعطى مجاناً (ع ٢٤).


وأما أساسه فهو الفداء بيسوع المسيح أي موته كفّارة عنا (ع ٢٤ و٢٥).
وأما غايته فهي إظهار صفات الله المجيدة وموافقة عدله لرحمته في العفو عن الخاطئ (ع ٢٦).
وأما نتائجه فهي:

  • وضع الإنسان بنفي كل وسيلة إلى افتخاره (ع ٢٧ و٢٨).
  • بيان أبوة الله لكل إنسان يهودياً كان أم يونانياً.
  • إثبات الناموس (ع ٢٩ و٣٠).


٢١ «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ».
أعمال ١٥: ١١ وص ١: ١٧ وفيلبي ٣: ٩ وعبرانيين ١١: ٤ الخ يوحنا ٥: ٤٦ وأعمال ٢٦: ٢٢ ص ١: ٢ و١بطرس ١: ١٠
ٱلآنَ يراد «بالآن» هنا إما العصر الإنجيلي وإما الأحوال التي ذكرها الرسول في ما سبق من هذه الرسالة.
فَقَدْ ظَهَرَ أي أُعلن من الله والأصل اليوناني يفيد أنه أُعلن إعلاناً خارق العادة. وما أُعلن الآن كذلك أُعلن بعض الإعلان سابقاً بواسطة رسوم ونبوآت.
بِرُّ ٱللّٰهِ سبق تفسيره في شرح (ص ١: ١٧) وهو الطريق الذي أوجده الله لتبرير الإنسان ونُسب إلى الله لأنه تعالى هو منشئه والمبرّر به.
بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ أي أنه ليس بنتيجة الناموس وغير مبني على إطاعة الإنسان للناموس وهذا على وفق قوله «إن الإنسان لا يتبرّر بأعمال الناموس» (غلاطية ٢: ١٦). وليس المراد من ذلك أن المؤمن غير مكلف بإطاعة الناموس الأدبي بل المراد أن تلك الطاعة ليست بعلة التبرير لنقصانها.
مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ زاد بولس هذا على وصف برّ الله ليبيّن أنه لا منافاة بينه وبين الناموس أي أنه لا ينافي البتة حقوق الناموس وأنه ليس بتعليم جديد لم يكن معلوماً في العهد القديم. وإعلانه بعض الإعلان في العهد القديم تميهد لإعلانه كل الإعلان في العهد الجديد.
المفهوم «بالناموس» عند اليهود أسفار موسى «وبالأنبياء» سائر أسفار الكتاب المقدس (قابل هذا بما في متّى ٥: ١٧ و٧: ١٢ ولوقا ١٦: ٣١ وأعمال ١٣: ١٥). وخلاصة العبارة أن العهد القديم علّم بواسطة رموزه ونبوآته التبرير بلا أعمال الناموس. ثم أوضح الرسول هذا المبدأ أكثر إيضاح في (ص ٤).
٢٢ «بِرُّ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ».
ص ٤ كله ص ١٠: ١٢ وغلاطية ٣: ٢٨ وكولوسي ٣: ١١
بِرُّ ٱللّٰهِ أي الطريق الذي به يتبرّر الخاطئ وهو من منشآت الله التي رضي بها وأعلنها أحسن إعلان في الإنجيل.
بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذه الصفة الأولى لبر الله وهذا الإيمان شرط ذلك البرّ لا علته. وهو ليس الإيمان العام بالله بوجوده وصفاته تعالى ولا تصديق كلام الوحي إنما هو الاتكال على يسوع وقبول أنه المسيح ابن الله وأنه هو الذي أحبنا وبذل نفسه دوننا (انظر يوحنا ١: ١٢ و٣: ١٤ و١٦ و٨: ٢٤ ورومية ٩: ٣٣ وغلاطية ٢: ١٦ و٢٠ و٣: ٢٤ وأفسس ٣: ١٢).
إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ يهوداً وأمماً أغنياء وفقراء علماء وجهلاء داخل الكنيسة المنظورة وخارجها فالشرط الوحيد الإيمان بالمسيح.
لاَ فَرْقَ في احتياجهم إلى الخلاص لأنهم كلهم خطأة وعرضة للهلاك الأبدي وعاجزون عن تبرير أنفسهم بأعمالهم ولا فرق في شرط النجاة لأنهم كلهم مدعوون إلى أن يؤمنوا ويخلصوا. نعم يوجد فرق بين الناس في فظاعة الآثام وعددها ولكن لا فرق في شرط الخلاص بين أحسنهم وأردإهم إذ لا طريق إلى خلاص الأحسن إلا الإيمان بيسوع والأردأ لا يحتاج إلا إلى هذا. وخلاصة هذه الآية أن الخاطئ ينال برّ الله المعلن في الإنجيل بالإيمان لا بالأعمال ولا بالولادة ولا برسم ديني ولا بعضوية الكنيسة المنظورة وأنه موافق لكل البشر وكاف للجميع ومعلن لهم ومعروض عليهم مجاناً.
٢٣ «إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ».
ع ٩ وص ١١: ٣٢ وغلاطية ٣: ٢٢
إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا هذا علّة قوله في الآية السابقة «لا فرق» والمعنى أن كل فرد من أفراد البشر خاطئ أمام الله ويلزم من ذلك أن كل إنسان مفتقر إلى برّ الله وهذا هو الصفة الثانية لذلك البر. أثبت الرسول ذلك على اليهود والأمم في ما سبق من هذه الرسالة بدليل ما ارتكبوا من الأعمال الشريرة وأثبته أيضاً في (ص ٥) منها بدليل نسبة الجنس البشري إلى آدم وأن فساد الطبيعة نتيجة تلك النسبة (ص ٥: ١٢).
وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ معنى المجد هنا الكرامة التي يحصل عليها الإنسان برضى الله عليه ومدحه إياه أو هو مجرد رضاه تعالى كما جاء في (يوحنا ٥: ٤٤ و١٢: ٤٣) وهو قوله «لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله» وهذا نتيجة ما سبق فالناس إذا خالفوا شريعة الله تعالى لم يستطيعوا أن يحصلوا على رضاه لا الآن ولا يوم الدين. وإذا أعوزهم رضى الله كانوا عرضة لغضبه فلزم من ذلك أنهم افتقروا إلى التبرير بغير أعمالهم. ويصدق هذا على الناس مهما تقدموا في التمدن والعلم والآداب.
٢٤ «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
ص ٤: ١٦ وأفسس ٢: ٨ وتيطس ٣: ٥ و٧ متّى ٢٠: ٢٨ وأفسس ١: ٧ وكولوسي ١: ١٤ و١تيموثاوس ٢: ٦ وعبرانيين ٩: ١٢ و١بطرس ١: ١٨ و١٩
في هذه الآية الصفة الثالثة لبر الله وهي أنه يُعطى مجاناً ويلزم أن يكون هبة من الله لأن الذين ينالونه لا يستحقونها كما ظهر من الآية السابقة.
مَجَّاناً بلا استحقاق المؤمن (متّى ١٠: ٨ ويوحنا ١٥: ٢٥ ورومية ٥: ١٧ وأفسس ٢: ٨ و٢تسالونيكي ٣: ٨) لأن البرّ «بلا فضة ولا ثمن» (إشعياء ٥٥: ١).
بِنِعْمَتِهِ هذا مضمون قوله «مجاناً» لأنه بالنظر إلينا مأخوذ مجاناً وبالنظر إلى الله مُعطى من نعمته. والنعمة ما قُصد به الإحسان والنفع لا لغرض ولا لعوض. والمراد هنا إظهار الله محبته للخاطئ غير المستحق وهذه النعمة علّة الفداء الأصلية.
بِٱلْفِدَاءِ إن البرّ الذي يناله المؤمن مجاناً اشتراه له يسوع المسيح بثمن عظيم (متّى ٢٠: ٢٢ و١كورثنوس ٦: ٢٠ و١بطرس ١: ١٨ و١٩). والفداء هو الواسطة التي ظهرت بها النعمة ووهبت. والفداء مأخوذ من فك الأسير من العبودية والشقاء والخطر بتأدية مال عنه فاستعمله الإنجيل لإنقاذ الخاطئ مما عليه للعدل والشريعة بواسطة آلام وموت يسوع المسيح بدليل قوله «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس ١: ٧ انظر أيضاً ١كورنثوس ٦: ٢٠ و٧: ٢٣ وغلاطية ٣: ١٣ و١تيموثاوس ٢: ٦ وتيطس ٢: ١٤ وعبرانيين ٩: ١ و١بطرس ١: ١٨). وهذا الفداء إنقاذ من غضب الله الذي استحقه الخطأة بخطاياهم وثمنه دم يسوع المسيح. ولم يذكر الإنجيل قط أن الفداء بتعليم المسيح أو بقدوته أو بسلطته.
ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بموته عوضاً عنّا فالفداء عمله وهو الفادي والمخلص.
٢٥ «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ».
لاويين ١٦: ١٥ و١يوحنا ٢: ٢ و٤: ١٠ كولوسي ١: ٢٠ أعمال ١٣: ٣٨ و٣٩ و١٧: ٣٠ و١تيموثاوس ١: ١٥ وعبرانيين ٩: ١٥
في هذه الآية بيان القسم الثاني من هذا الفصل وهو أن أساس البرّ الفداء بيسوع المسيح وهو الطريق الذي به ننجو من لعنة الشريعة وننال رضى الله بدون منافاة عدله وحقه وشريعته المقدسة.
ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ أي أن الآب قدم يسوع المسيح أمام الملائكة والبشر. وأشار بقوله «قدّمه» إلى كل ما أعلن الله عن ابنه للعالم ولا سيما تسليمه إياه للموت موت الصليب. ولا يخرج عن ذلك ما أعلنه بتجسده ومعجزاته واتضاعه وإقامته.
كَفَّارَةً معناها في الأصل الغطاء من كفّر في العبرانية أي غطى والمراد بها هنا ذبيحة المسيح عن الخطأة ليوفي العدل حقه ويغطي الإثم ويجعل الله يرضى عن الخاطئ فهي تغطي الخطيئة ولا تغيّر قلب مرتكبها.
بِٱلإِيمَانِ الإيمان هو الوسيلة التي عيّنها الله للخاطئ للحصول على تلك الكفارة فهي ليست لكل خاطئ بل لكل من يؤمن من الخطأة. فالإيمان لا يزيد قيمة الكفارة لأن قيمتها غير محدودة وإنما هو الشرط الذي وضعه الله للحصول عليها وبدونه لا تنفع الخاطئ شيئاً.
بِدَمِهِ أي بموت يسوع المسيح على الصليب ذبيحة عن الخطيئة. ودم المسيح هو جوهر الكفارة فعليه يسند المؤمن إيمانه للتبرير. وهو مفسر معنى ما سلف من الذبائح الدموية التي قُدمت نحو أربعة آلاف سنة قبل هذه الكفارة العظمى وكانت تلك الذبائح رموزاً إلى ذبيحة المسيح.
لإِظْهَارِ بِرِّهِ إن الله قدّم المسيح على الصليب ذبيحة عن الخطيئة ليبيّن عدله باعتبار كونه واضع الشريعة وقاضيها وليظهر أنه يبغض الإثم ويعتبر الشريعة حين يعفو عن الأثيم. وهذه الغاية الأولى من موت المسيح لكنه تعالى قصد به فوق ذلك أن يُعلن «حكمته» (أفسس ٣: ١٠ و١١) «ومحبته» (يوحنا ٣: ١٦) «وليطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة» (تيطس ٢: ١٤) «وليرفع الحاجز بين اليهود والأمم» (أفسس ٢: ١٥) «وَيُصَالِحَ ٱلاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ بِٱلصَّلِيبِ، قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ» (أفسس ٢: ١٦). «ولينقذنا من العالم الحاضر الشرير» (غلاطية ١: ٤). «وليحصّل لنا غفران الخطايا» (أفسس ١: ٧). وهذه الغايات متفقة كل الاتفاق.
وعلّة أن الله لم يجر كل عقاب الناموس على آدم حين خطئ وعلى كل خاطئ بعده كذلك إلى أيام المسيح هي أنه كان قد أعد الطريق التي بها يمكنه أن يغفر الخطيئة ويبقى باراً.
مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ إن الصفح عن الخطايا أي مغفرتها هو الداعي إلى أن يظهر الله بره لأنه عَدَل عن قصاص الإنسان على خطاياه كما يستحق وبذلك ظهر كأنه غفل سبحانه وتعالى عن مطاليب عدله وحقه فقصد بموت المسيح أن يرفع تلك الشبهة. وبيّن أن علّة عفوه عنه هي تلك الكفارة التي قصد أن تقدم في ملء الزمان وقد أشار إليها بكل ذبائح العهد القديم التي كانت رمزاً إلى الكفارة لا الكفارة عينها.
ِعَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَة أي التي ارتُكبت قبل ميلاد المسيح كما يظهر من مقابلة هذا بالآية التالية التي ذكر فيها عصر المسيح بقوله «الزمان الحاضر». وهذا موافق لقوله «إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَهْدِ ٱلأَوَّلِ» (عبرانيين ٩: ١٥) وسُميت تلك الأزمنة التي قبل الميلاد «بأزمنة الجهل» (أعمال ١٧: ٣٠) «والأجيال الماضية» (أعمال ١٤: ١٦).
بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ أي طول أناته وعدوله عن عقاب الأثيم كما استحق وهذا علّة الصفح المذكور آنفاً ولولا كفارة المسيح التي قصد الله أن يُجريها بعد لظهر أنه منافٍ لعدله.
٢٦ «لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ».
لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ المراد «بالزمان الحاضر» عصر الإنجيل وهو ما بعد ميلاد المسيح. قد صرّح الرسول في الآية السابقة أن تقديم الله المسيح كفارة أظهر برّه مع أنه أمهل عقاب الخطأة قبل العصر الإنجيلي. وصرّح في هذه الآية بمثل ذلك من جهة الخطايا بعد مجيئه فثبت برّ الله بصفحه عن الخطأة في كل عصور العالم لأنه وضع على المسيح عقاب الجميع.
لِيَكُونَ بَارّاً إن غاية الله من تقديم المسيح كفارة عن الإثم بيان كونه عادلاً معطياً الشريعة حقوقها والخطيئة عقابها مع أنه يبرّر كل خاطئ يؤمن بالمسيح أي يعامله كأنه بار إكراماً للمسيح.
إن الله أثبت عدله في معاملته الخاطئ المؤمن مع أنه مسلَّم ومعروف أن الإنسان لا يتبرّر بصلاح أعماله ولا يحسن صفاته والله لا يغض النظر عن مطاليب الناموس في الصفح عن الخطايا لأنه استوفى كل حقوق شريعته بطاعة المسيح وموته عن الخاطئ باعتبار أنه نائب عن الخطأة وبذلك اتفق العدل والرحمة في تبرير الخاطئ. ولم يزل العدل عدلاً عندما ظهرت الرحمة ولم تزل الرحمة رحمة عندما استوفى العدل حقوقه فموت المسيح هو ركن التبرير.
وَيُبَرِّرَ الواو بين «باراً» و «يبرّر» بمنزلة «مع أنه» وفي ذلك تلميح إلى أنه بين كون الله باراً ومبرّراً الخاطئ منافاة طبعاً وأن المسيح أزال تلك المنافاة بحمله العقاب عن الخاطئ.
إن عقاب الأثيم على إثمه هو إجراء العدل فقط.
وإن تبرير الخاطئ بلا كفارة رحمة تدوس حقوق العدل.
وتبرير الخاطئ بطاعة المسيح وموته تعظيم للرحمة والعدل معاً وموفق بينهما.
مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ أي ممن يؤمنون بموت يسوع على الصليب كفارة عن الخطيئة ويتخذونه نائباً عنهم فينالون كل فوائد طاعته وموته كأنهم استحقوا ما استحق.
٢٧ «فَأَيْنَ ٱلافْتِخَارُ؟ قَدِ ٱنْتَفَى! بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ ٱلأَعْمَالِ؟ كَلاَّ! بَلْ بِنَامُوسِ ٱلإِيمَانِ».
ص ٢: ١٧ و٢٣ و٤: ٢ و١كورنثوس ١: ٢٩ و٣١ وأفسس ٢: ٩
في هذه الآية وسائر آيات هذه الأصحاح ذكر بعض نتائج التبرير بالإيمان أولهما في هذه الآية وهو أن التبرير يمنع من الافتخار (قابل بهذا ١كورنثوس ١: ٢٠).
فَأَيْنَ ٱلافْتِخَارُ؟ أي لم يبق موضع لافتخار الخاطئ المتبرّر بالإيمان أمام الله ولا أمام الناس كما افتخر اليهود بحفظهم الناموس وبرّهم الذاتي ويفضلهم على الأمم. وفي ذلك إيماء إلى أنه لو تبرّر الإنسان بأعماله لكان له وجه لمدح نفسه والإعجاب بها.
قَدِ ٱنْتَفَى! تعليم الإنجيل أن التبرير بيسوع المسيح لم يترك سبيلاً إلى الافتخار بالنفس أو الإعجاب بها لأن هذا التعليم ينسب خلاص الخاطئ إلى استحقاق المسيح ويوجب عليه أن يعترف بعدم استحقاقه الخلاص وبافتقاره إلى برّ غيره ويجعل كل الناس سواء في أنهم مذنبون مستحقون غضب الله.
بِأَيِّ نَامُوسٍ أي بناء على أي مبدإ.
أَبِنَامُوسِ ٱلأَعْمَالِ أي هل نفى الافتخار الناموس الذي يطلب الطاعة الكاملة لأوامر الله بغية الحصول على التبرير.
كَلاَّ! لأن التبرير بالطاعة الكاملة للناموس يعطي الإنسان حق الإعجاب بنفسه والسرور بمدح غيره إيّاه فإذاً ناموس الأعمال لا ينفي الافتخار.
بَلْ بِنَامُوسِ ٱلإِيمَانِ أي المبدإ الذي يطلب الإيمان بدم يسوع المسيح ويعلم أن ليس لنا شيء من الاستحقاق وأننا خطأة هالكون لا نتبرّر إلا بالإيمان بالمسيح والاتكال على استحقاقه. وهذا الناموس وهو الإنجيل يعطي كل المجد لله.
ويحق أن يعبّر عن الإيمان بالناموس لأن به إعلان مشيئة الله كما أعلن مشيئته في العهد القديم بناموس الرسوم الموسوية.
٢٨ «إِذاً نَحْسِبُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِٱلإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ».
أعمال ١٣: ٣٨ و٣٩ وع ٢٠ - ٢٢ وص ٨: ٣ وغلاطية ٢: ١٦
إِذاً ما في هذه الآية خلاصة ما سبق اتخذه الرسول إثباتاً لما قاله في (ع ٢٧) وبرهاناً أن الإنجيل ينفي افتخار البشر.
نَحْسِبُ أي نتيقن كما في (ص ٨: ١٨ و٢كورنثوس ١١: ٥).
ٱلإِنْسَانَ كل من يتبرّر من أفراد البشر يهودياً كان أم يونانياً.
يَتَبَرَّرُ يُعتبر باراً ويعامل معاملة بار كما سبق في (ص ٣: ٢٠).
بِٱلإِيمَانِ بدم يسوع المسيح كما في (ع ٢٥) فالإيمان يبرّر الإنسان كما يغذيه الأكل. نعم أن الطعام هو الذي يغذيه لكن ذلك لا يكون بدون الأكل لأنه هو الوسيلة إلى التغذية. كذلك موت المسيح ينجي الخاطئ من الدينونة لا إيمانه (كأنه عمل يستحق الثواب) لكن بالإيمان يحصل على فوائد ذلك الموت.
بِدُونِ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ المعنى أن تلك الأعمال لم تكن قط علّة لتبرير الخاطئ. والمراد «بأعمال الناموس» الأعمال التي يطلبها الناموس. والناموس هنا هو الناموس الأدبي لأنه مكلف به الأمم كاليهود.
أثبت الرسول بما سبق أن لا أحد من اليهود ولا من الأمم أطاع الناموس الطاعة الكاملة لكي يتبرّر به. وصرّح هنا بأن عمل الخاطئ بعض الأعمال الصالحة ليس بعلّة لنجاته من العقاب على أعماله الشريرة لأن ما أتاه من الأعمال الصالحة ليس بمنزلة الفداء عما أتاه من الأعمال الشريرة وليس فيه «سفك الدم الذي بدونه لا تحصل مغفرة» (عبرانيين ٩: ٢٢).
ليس معنى الرسول مما ذُكر أن المتبرّر بالإيمان لا يفعل أفعالاً صالحة لأنه مكلف بها وأن يبذل كل جهده في فعلها ولكنها مهما فعل منها لا تكون علّة تبريره بل تكون ثمرة إيمانه ونتيجة تبريره.
٢٩، ٣٠ «٢٩ أَمِ ٱللّٰهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضاً؟ بَلَى لِلأُمَمِ أَيْضاً؟ ٣٠ لأَنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ، هُوَ ٱلَّذِي سَيُبَرِّرُ ٱلْخِتَانَ بِٱلإِيمَانِ وَٱلْغُرْلَةَ بِٱلإِيمَانِ».
ص ١٠: ١٢ و١٣ وغلاطية ٣: ٨ و٢٠ و٢٨
ذكر الرسول في هاتين الآيتين نتيجة ثانية من تبرير الله الخاطئ وهي أن الله يظهر به أنه إله الأمم كما أنه إله اليهود وأعلن ذلك بسؤال وجواب.
أَمِ ٱللّٰهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ رأى اليهود أن الله لهم وحدهم وأنه قصر عليهم ميراث الخلاص وكذا رأى بولس قبل أن أناره الروح القدس.
بَلَى لِلأُمَمِ أَيْضاً فاليهود والأمم سواء في هذا كما أنهم سواء في الخطيئة والتعرض لغضب الله ودينونته والاحتياج إلى التبرير كما بيّن الرسول سابقاً.
لأَنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ يلزم من كون الله واحداً أنه يعامل كل خلقه معاملة واحدة مثل أنه يعرض التبرير والخلاص للجميع بشرط واحد وهو الإيمان. وفرض معاملتين لليهود واحدة وللأمم واحدة يقتضي فرض وجود إلهين.
هُوَ ٱلَّذِي سَيُبَرِّرُ الخ في هذا العالم وفي يوم الدين. والمراد «بالختان» أهله أي اليهود «وبالغرلة» أهلها أي الأمم.
٣١ «أَفَنُبْطِلُ ٱلنَّامُوسَ بِٱلإِيمَانِ؟ حَاشَا! بَلْ نُثَبِّتُ ٱلنَّامُوسَ».
في هذه الآية نتيجة ثالثة من التبرير. والأولى في (ع ٢٧) والثانية في (ع ٢٩). ويصح أن تكون هذه الآية موضوع الكلام في الأصحاح الرابع وأن تكون نتيجة ما سبق. فعلى الأول يحسن أن تكون أول الأصحاح الرابع وعلى الثاني أن تكون كما هي هنا خاتمة الأصحاح الثالث.
أَفَنُبْطِلُ ٱلنَّامُوسَ بِٱلإِيمَانِ؟ أي أينافي تعليم التبرير بالإيمان الناموس. والظاهر أن بعض اليهود اعترض على الرسول بذلك فقال ما معناه إن كان الإيمان شرط التبرير لجميع الناس مختونين وغرلاً فقد عُزل الناموس وأُبطل.
بَلْ نُثَبِّتُ ٱلنَّامُوسَ قانوناً للحياة لا وسيلة إلى التبرير. وما يأتي في الأصحاح الرابع إيضاح لهذا وهو مما يتعلق بنبإ إبراهيم. ولم يتضح ما أراد الرسول بالناموس هنا فإنه استعمله في هذه الرسالة بمعان مختلفة وهو بكل من تلك المعاني يثبته تعليم التبرير بالإيمان فإن كان معناه أسفار العهد القديم صح قوله لأنه هذا التعليم لا يخالف قولاً ولا مبدأ ولا وعداً لكنه موافق لكل منها ومثبت له.
وإن كان معناه الرموز الموسوية كما يظن كثيرون فهي ظل والمسيح الحقيقة. فإن زالت تلك الرموز فذلك لأن المسيح قد أكملها فإنه حصّل بعمله كل غاياتها وقد سبق بيان ذلك في شرح (متّى ٥: ١٧). وإن كان معناه الناموس الأدبي وهو الأرجح فالتعليم الإنجيلي يثبته لأن الدواعي إلى الطاعة لمشيئة الله وإلى طهارة السيرة هي في الإنجيل أقوى منها في الناموس. وكل وعيد الناموس تم في المسيح الذي حمل خطايانا على الصبيب بجسده. فلا حادثة في السماء أو الأرض أو جهنم عظمت الناموس كما عظمه المسيح بموته على الصليب لكي يوفي مطاليبه عن الخاطئ. فبالصليب انتصر العدل والرحمة معاً.
إن الناموس والإنجيل كليهما من الله فيستحيل أن ينافي أحدهما الآخر بل كل منهما يوافق الثاني ويثبّته.

فوائد



  • إن تعليم التبرير بالإيمان غير مقصور على الإنجيل فهو في العهد القديم أيضاً (ع ٢١).
  • إن التبرير هو التصريح بأن الإنسان بار ومعامتله باراً وهو مبني على أن الناموس استوفى كل ما له من الحقوق على الإنسان (ع ٢٤ - ٢٦).
  • الموضوع المهم في الكتاب المقدس هو التبرير بالإيمان. والأمر المهم في حياة الإنسان هو قبوله المسيح نائباً عنه لكي يتبرّر ببره (ع ٢٥).
  • إن الفائدة السابقة تستلزم أنه يجب على المبشر أن يدعو الناس إلى الإيمان بيسوع المسيح لكون ذلك من أهم مواضيع وعظه وأن يبيّن لهم أن دينونتهم عادلة بسبب خطاياهم وأن كفارة المسيح كافية لدفع هذه الدينونة ومنح الخلاص وأن لا واسطة للخلاص سواها (ع ٢٥).
  • إن تبريرنا غير متوقف على استحقاقنا ولا على إيماننا ولا على طاعتنا ولا على عمل المسيح فينا للتقديس بل على ما عمل من أجلنا من أنه «أطاع حتى الموت» (ع ٢٥).
  • إن التبرير مجان إذا نظرنا إلى الإنسان المتبرّر لأنه لا يفعل شيئاً يستحق التبرير ولكنه ليس مجاناً إذا نظرنا إلى ما فعل المسيح لتحصيله للخاطئ أو إلى ما استوفاه الناموس من حقوقه (ع ٢٤ و٢٦).
  • إن بيان مجد الله هو غايته تعالى من كل أعماله ويجب أن يكون أول غايات لنا (ع ٢٥).
  • إنّا نستفيد من تعليم التبرير بالإيمان ما قصد الله أن يفيدنا إياه إذا تحققنا به أنه عادل وأنه مع ذلك رحيم إلى غير النهاية وأنه ليس لنا أن نفتخر أمامه وأن الخلاص مباح لكل مؤمن وأنه قد زادت بواسطة هذا التعليم البواعث على المحبة والقداسة والطاعة (ع ٢٥ - ٣١).
  • إن الدين الحق يحمل أهله على التواضع فالذي يحمل على الكبرياء فليس بحق (ع ٢٧).
  • إن الناس إخوة لأنه تعالى أب لجميع الناس. وهذا هو تعليم الإنجيل ولذلك يليق أن يكون دين الإنجيل هو الدين العام (ع ٢٩ و٣٠).
  • إن الله لا يتغير فإذاً مطاليب شريعته لا تتغير والعقاب الذي أُنذر به في الناموس لا بد من إجرائه على الخاطئ أو على نائبه. فمعنى قوله «إن المسيح حمل خطايانا وصار لعنة من أجلنا» أنه أوفى كل مطاليب الشريعة حتى صح أن يغفر الله للخاطئ إكراماً للمسيح. وليس معناه أن المسيح احتمل كل نوع من القصاص الذي كان على الخاطئ من توبيخ الضمير وغيره. فالمسيح بموته حمل قصاص الخاطئ وأوفى الشريعة حقوقها وبيّن برّ الله وأنه بار ويبرّر.
  • إن الإنجيل وفق بين أمور ظهرت أنها من المتناقضات فوفق بين عدل الله ورحمته وتحرير الإنسان من الناموس وشدة التزامه بطاعته.
  • إن صليب يسوع المسيح عظم مجد شريعة الله وأظهر أن مطاليبها أبدية لا تتغير لأنه بواسطة الصليب أظهر ابن الله ما كان راضياً أن يحمله لكي لا يشين مجد الشريعة البتة (ع ٣١).




الأصحاح الرابع


غاية ما في هذه الأصحاح إثبات تعليم التبرير بالإيمان وهو قسمان القسم الأول برهاني (ع ١ - ١٧) والثاني تمثيلي (ع ١٨ - ٢٥).
القسم البرهاني ع ١ إلى ١٧


١ «فَمَاذَا نَقُولُ إِنَّ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَدْ وَجَدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ؟».
إشعياء ٥١: ٢ ومتّى ٣: ٩ ويوحنا ٨: ٣٣ و٣٩ و٢كورنثوس ١١: ٢٢
أخذ الرسول يبيّن أن البعض تبرّروا بواسطة الإيمان قبل مجيء المسيح ومنهم إبراهيم نفسه وهو أبو اليهود فاتضح من ذلك أنه لم يأت بتعليم جديد بمناداته بالتبرير بالإيمان.
فَمَاذَا نَقُولُ اصطلح الرسول على هذه العبارة حين الاحتجاج (ص ٣: ٥ و٦: ١ و٧: ٧ و٨: ٣١ و٩: ١٤) وهي في الغالب بداءة كلام جديد. وهذا ينافي قول البعض بأن أول هذا الأصحاح آخر آية من الأصحاح الثالث.
إِنَّ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ عدّ الرسول نفسه مع سائر اليهود وذكر إبراهيم باعتبار كونه أصل الأمة اليهودية.
قَدْ وَجَدَ أي نال من التبرير وذكر إبراهيم هنا لأنه من المسلم عند الجميع أنه قد تبرّر فإذا تحققنا كيف نال التبرير اتضح كيف يمكن غيره أن يناله.
حَسَبَ ٱلْجَسَدِ هذا متعلق بقوله «وجد» فسر بعضهم هذه العبارة بقوله من تلقاء نفسه وبعضهم بمعنى طبيعته البشرية وغيره بأعماله وهذا هو الصحيح بدليل قوله على أثر ذلك «فإن كان قد تبرّر بالأعمال فله فخر» فأشار الرسول بلفظة «جسد» إلى كل خارجيات الرسوم الدينية كما أشار بها إلى ذلك بقوله في غلاطية ٣: ٣ «أَبَعْدَمَا ٱبْتَدَأْتُمْ بِٱلرُّوحِ تُكَمِّلُونَ ٱلآنَ بِٱلْجَسَدِ» ومثله في (غلاطية ٦: ١٣ وفيلبي ٣: ٣ و٤) وفيه طوى تحت لفظة «الجسد» التسلسل من العبرانيين والختان وكونه فريسياً والتمسك بالشريعة الموسوية إلى الغاية. وكل هذه الأمور حسبها من أعمال الناموس التي افتخر قبل ذلك بها. وعلّة تعبيره عنها بلفظة «الجسد» هو أن الجسد الجزء من طبيعتنا الذي تقوم به الأعمال وينشأ منها الاتكال عليها بخلاف جزء طبيعتنا الروحي الذي يُنسب إليه الإيمان. وظن بعضهم أنه أشار بلفظة الجسد إلى الختان واقتصر عليه من سائر أعمال الناموس الرسمي لكونه أولها وأعظمها والنتيجة واحدة وهي ماذا وجد إبراهيم من التبرير بأعماله. والاستفهام إنكاري أي أنه لم يجد شيئاً من التبرير بالجسد أو من تلقاء نفسه أو أعماله الدينية.
٢ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ تَبَرَّرَ بِٱلأَعْمَالِ فَلَهُ فَخْرٌ وَلٰكِنْ لَيْسَ لَدَى ٱللّٰهِ».
ص ٣: ٢٠ و٢٧ و٢٨
لأَنَّهُ إِنْ... تَبَرَّرَ بِٱلأَعْمَالِ كما زعم اليهود فالظاهر أن بولس ترك للاختصار كلاماً تقديره لا نقدر أن نقول أن إبراهيم وجد التبرير حسب الجسد (أي بالأعمال) لأن ذلك يستلزم ما ذُكر في هذه الآية وهو محال. وقوله هنا «بالأعمال» تفسير لقوله في الآية السابقة «حسب الجسد» لأنها وقعت موقعه.
فَلَهُ فَخْرٌ أي أن إبراهيم لو تبرّر بأعمال الجسد لحق له أن يفتخر وهذا يصدق على كل إنسان كما صدق على إبراهيم.
وَلٰكِنْ هنا كلام مقدّر مفاده مهما يقل الناس في إبراهيم من أنه حفظ الناموس حفظاً تاماً.
لَيْسَ لَدَى ٱللّٰهِ أي لم يكن لإبراهيم حق أن يفتخر أمام الله فإذاً لم يتبرّر بأعماله فغيره كذلك لأنه إن أمكن أحداً أن يتبرّر بالأعمال فإبراهيم أولى بذلك لأنه اشتهر بالبرّ وكان خليل الله ورأس شعب إسرائيل وأبا المؤمنين وبنسله تتبارك كل قبائل الأرض. وبنى الرسول هذا على المبدإ العام (وهو أنه ليس لبشر أن يقف أمامه تعالى ويفتخر ببرّ نفسه) أو على البراهين الآتية المستمدّة من الوحي.
٣ «لأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ ٱلْكِتَابُ؟ فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللّٰهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً».
تكوين ١٥: ٦ وغلاطية ٣: ٦ ويعقوب ٢: ٢٣
أثبت الرسول هنا من الوحي ما قاله في إبراهيم من أنه لم يكن له أن يفتخر وينتج من ذلك أنه لم يتبرّر بأعماله.
مَاذَا يَقُولُ ٱلْكِتَابُ؟ أي ماذا يقول الله في كتابه. وهنا كلام مقدّر معناه هل يقول الكتاب أن إبراهيم تبرّر بأعماله والجواب لا بل قال إنّه تبرّر بالإيمان. والرسول اعتبر كلام كتاب الله الحجّة القاطعة.
فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللّٰهِ هذا مقتبس من (تكوين ١٥: ٦) واقتبس أيضاً في (غلاطية ٣: ٦ ويعقوب ٢: ٢٣). والذي آمن به إبراهيم هو وعد الله المذكور في (ع ١٧ - ٢٢) من هذا الأصحاح فإنه صدّق الله في وعده وتوقع الإنجاز. وقوله «آمن» الخ جواب السؤال قبله وهو ما معناه كيف تبرّر إبراهيم أمام الله. وخلاصته أن إبراهيم تبرّر بإيمانه لا بأعماله وهو على وفق ما سبق في (ص ٣: ٢٨).
فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً أي فحُسب إيمانه الخ والمعنى أن الله اعتبره باراً لإيمانه وعامله معامة البار. وهذا:

  • أولاً: أنه لا يفيد أن إبراهيم تغيّر من خاطئ إلى قديس لأن المراد به أنه لم يبقَ عليه شيء من مطاليب الناموس أو عدل الله فكان في موقفه أمام القاضي العادل مثل بار.
  • ثانياً: إنه لا يفيد أن إيمان إبراهيم كان فعلاً مقدساً قَبِله الله بدل الطاعة الكاملة لأن إيمانه لا يستحق الأجر أكثر من صلواته أو صدقاته أو محبته. ولو قُبل ثمناً للتبرير لكان قد تبرّر بأعماله. وهذا ضد قول الرسول أنه تبرّر بالإيمان وحده دون الأعمال.
  • ثالثاً: إن قوله «حُسب له الإيمان براً» معناه أن الله قبل إيمانه بدل البرّ ولم يذكر علّة ذلك. ومن الواضح أن الإيمان ليس ما طلبه الناموس لأن الناموس يطلب الطاعة الكاملة كما أبان في موضع آخر وأن على التبرير استحقاق المسيح وأن الإنسان لم يطع تمام الطاعة.


٤، ٥ «٤ أَمَّا ٱلَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ ٱلأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. ٥ وَأَمَّا ٱلَّذِي لاَ يَعْمَلُ، وَلٰكِنْ يُؤْمِنُ بِٱلَّذِي يُبَرِّرُ ٱلْفَاجِرَ، فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً».
ص ١١: ٦ يشوع ٢٤: ٢ وص ١: ١٨
غاية الرسول في هاتين الآيتين أن معنى قوله في (ع ٣) «إيمان إبراهيم حُسب له براً» أنه لم يتبرّر بأعماله وأن معنى القول «تبرّر بالإيمان» أنه تبرّر مجاناً. فكل ما في الكتاب من الآيات التي تفيد أن الله قبِل الخاطئ مجاناً يفيد القول بالتبرير بالإيمان.
أَمَّا ٱلَّذِي يَعْمَلُ كل أعمال الناموس عملاً تاماً بغية الأجرة باعتبار كونه أجيراً. والكلام هنا عام يصدق على كل إنسان.
ٱلأُجْرَةُ هي ما يستحقه الفاعل على فعله ويحق له أن يطلبه.
سَبِيلِ نِعْمَةٍ أي هبة أو صدقة من المعطي مع قبول المعطى إياها كذلك.
سَبِيلِ دَيْنٍ أي ما للفاعل حق أن يطلبه بمقتضى العدل فمثل ذلك مثل أنه لو ثبت آدم في قداسته وأطاع الله طاعة كاملة لكان الثواب الذي وعده الله به مما حق له أن يطلبه كدَين. وأما الطاعة الكاملة التي يطلبها الناموس لم يقم آدم بها ولا أحد من نسله على ما أبان الرسول.
ٱلَّذِي لاَ يَعْمَلُ أي لم يعمل شيئاً يستحق أن يثاب عليه باعتبار أنه فاعل يعمل بغية الأجرة فهو لا يحسب أنه مستحق شيئاً ولا يتكل على عمله. وهذا يصدق على إبراهيم وغيره من الناس ومن الواضح أن الله لا يحسب عملاً من أعمال الإنسان مستحقاً الثواب كأجرة ما لم يكن كاملاً بمقتضى الشريعة. وأفضل أعمال المؤمنين ناقصة ولذلك لا يمكن أن يُعتبر «عل سبيل دين» يوفي به الناموس حقوقه ويستحيل أن يكون الباري تعالى مديوناً للإنسان الخاطئ. وهكذا علّم المسيح في (لوقا ١٧: ٧ - ١٠).
وَلٰكِنْ يُؤْمِنُ هذا مقابل لقوله «الذي يعمل» في (ع ٤) ويتوقع الخلاص بأعماله الصالحة وأما الذي يؤمن فيطرح نفسه على رحمة الله بالتواضع والاتكال. وهذا الإيمان يزيد على تصديق العقائد الدينية بالاتكال عليه تعالى للتبرير أي أن يبرّره الله مع كونه خاطئاً. والكلام عام بصيغة المفرد للدلالة على أنه يجب على كل إنسان أن يؤمن لنفسه لكي يتبّرر بنفسه.
بِٱلَّذِي يُبَرِّرُ ٱلْفَاجِرَ أي بالله. لم يقصد الرسول «بالفاجر» إبراهيم وحده لكونه كان في أول أمره وثنياً بل كل إنسان (ص ٥: ٦) في عيني الله. وجاء الفاجر مفرداً لأنه تعالى لا يبرّر الناس جماهير بل أفراداً. وقول الرسول «يبرّر الفاجر» يدل:

  • أولاً: على أنّ الله لا يقدّس الإنسان ثم يبرّره لكنه يقبله كما هو ويغفر خطاياه مجاناً ويحسبه باراً. نعم أن الذي يبرّره الله يقدّسه أيضاً لكن التبرير ليس هو التقديس.
  • ثانياً: يدل على أن الله حين يبرّر المؤمن لا يرى فيه شيئاً يستحق أن يبرّر من أجله.
  • ثالثاً: إنه يجب على المؤمن لكي يتبرّر أن يشعر ويعترف بأنه فاجر لا يستحق شيئاً من الثواب. والجملة كلها إثبات لقوة الإيمان فإنه لا يبرّر البار ولا الذي يكاد أن يكون باراً بل الفاجر.


فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً هذا ما قيل على إبراهيم في (ع ٣) وقد برهن الرسول في هاتين الآيتين ما يستلزم أنه لم يتبرّر إبراهيم «على سبيل دين» أي ليس هو بفاعل تبرّر بأعماله. فإذا قد تبرّر مجاناً لأنه بُرّر بلا أعمال.
٦ «كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ أَيْضاً فِي تَطْوِيبِ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَحْسِبُ لَهُ ٱللّٰهُ بِرّاً بِدُونِ أَعْمَالٍ».
كَمَا أي ما قيل في تبرير إبراهيم بلا أعمال ثابت بشهادة داود. وتلك الشهادة ذات شأن عند اليهود لأن داود عندهم نبي عظيم محترم. فمعنى الآية الخامسة أن المؤمن يبرّر مجاناً وهذا مضمون داود في كلامه على غبطة الإنسان الذي يعتبره الله باراً ويعامله معاملة الأبرار وهو لا يستحق ذلك. وغاية الرسول من إيراد هذه الشهادة تبيين أن ما ذكره من تبرير إبراهيم مجاناً ليس هو المثال الوحيد لذلك ثم عاد إلى ذكر إبراهيم في (ع ٩).
يَحْسِبُ لَهُ ٱللّٰهُ بِرّاً الخ أي يعتبره باراً ويعامله معاملة الأبرار مع أنه ليس باراً. وقوله «يحسب له براً» كقوله «تبريره» والخلاصة أن التبرير على سبيل النعمة لا على سبيل دَين كما سبق في (ع ٤).
٧، ٨ «٧ طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. ٨ طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً».
مزمور ٣٢: ١ و٢
هذا مقتبس من (مزمور ٣٢: ١ و٢) وهو شرح غبطة الإنسان الذي مع أنه خاطئ يعتبره الله باراً ويعامله معاملة البار لأن نيل المغفرة يتضمن رضى الله وهما معاً التبرير. والعبارات الثلاث مغفرة الآثام وستر الخطايا وعدم حسبان الخطيئة بمعنى واحد وهو جوهر التبرير لأن الذي غُفرت آثامه رُفع عنه عقابها والذي سُترت خطيئته بطل أن تكون شاهدة عليه أو محسوبة.
٩ «أَفَهٰذَا ٱلتَّطْوِيبُ هُوَ عَلَى ٱلْخِتَانِ فَقَطْ أَمْ عَلَى ٱلْغُرْلَةِ أَيْضاً؟ لأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهُ حُسِبَ لإِبْرَاهِيمَ ٱلإِيمَانُ بِرّاً».
برهن الرسول في ما سبق أن المؤمن لا يتبرّر بأعماله الصالحة وأخذ هنا يبرهن على أن التبرير لا يكون بالختان. والآيات من التاسعة إلى الثانية عشرة بيان أن الختان ليس بعلة للتبرير ودليل ذلك أن إبراهيم تبرّر قبلما اختتن.
أَفَهٰذَا ٱلتَّطْوِيبُ الذي ذكره داود على المغفرة والتبرير.
هُوَ عَلَى ٱلْخِتَانِ أي أهل الختان لكونهم مختونين وهل كان اختتانهم ضرورياً لنيل غبطة التبرير.
أَمْ عَلَى ٱلْغُرْلَةِ أَيْضاً؟ أي هل لأهل الغيرة نصيب في ذلك التطويب كما لأهل الختان.
أورد الرسول هذا السؤال وجوابه لئلا يظن أحد أن التطويب على التبرير مقصور على أولاد العهد المختونين بختمه وأن شهادة داود لا تفيد أن تبرير الله بالإيمان معروض على جميع الناس. وإذ لم يكن في المزمور دفع لهذا الظن رجع الرسول إلى الكلام على تبرير إبراهيم.
لأَنَّنَا نَقُولُ هذا تعليل لقول محذوف تقديره «هذا التطويب ليس على الختان فقط».
إِنَّهُ حُسِبَ لإِبْرَاهِيمَ الخ هذا مكرر قوله في الآية الثالثة ليبين حال إبراهيم حين قيل ذلك فيه وهو يمنع أن يكون ختانه علّة تبريره.
١٠ «فَكَيْفَ حُسِبَ؟ أَوَهُوَ فِي ٱلْخِتَانِ أَمْ فِي ٱلْغُرْلَةِ؟ لَيْسَ فِي ٱلْخِتَانِ، بَلْ فِي ٱلْغُرْلَةِ!».
كان إبراهيم المبرَّر في حالين الأولى حال الغرلة والثانية حال الختان والسؤال هنا في أي الحالين نال التبرير.
لَيْسَ فِي ٱلْخِتَانِ الخ كُتب نبأ إيمان إبراهيم وتبريره في (ص ١٥) من سفر التكوين ونبأ ختانه في (ص ١٧) منه وحوادث ص ١٧ كانت بعد حوادث (ص ١٥) بنحو ١٣ سنة. قابل ما في (تكوين ١٥: ٣ و٦ بما في تكوين ١٧: ٢٥ و٢٦). فاتضح من ذلك أن إيمانه حُسب له براً قبل أن وُلد له إسماعيل وهو لم يختتن إلا بعد أن بلغ إسماعيل السنة الثالثة عشرة فتبين جلياً أن الختان ليس شرط التبرير ولا علتّه.
١١ «وَأَخَذَ عَلاَمَةَ ٱلْخِتَانِ خَتْماً لِبِرِّ ٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي كَانَ فِي ٱلْغُرْلَةِ، لِيَكُونَ أَباً لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي ٱلْغُرْلَةِ، كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضاً ٱلْبِرُّ».
تكوين ١٧: ١٠ لوقا ١٩: ٩ وع ١٢ و١٦ وغلاطية ٣: ٧
بعد أن بيّن الرسول أن الختان ليس بعلة التبرير استحسن أن يبين حقيقة الختان.
عَلاَمَةَ ٱلْخِتَانِ أي الختان الذي هو علامة خارجية لعهد الله (تكوين ١٧: ١١).
خَتْماً الذي كان علامة العهد كان ختمه أيضاً والمعنى أنه ثُبت به.
لِبِرِّ ٱلإِيمَانِ أي للبرّ الذي هو بواسطة الإيمان. فتحصل من ذلك أن الله أثبت لإبراهيم بالختان أنه لإيمانه بمواعيده اعتبره باراً وعامله معاملة البارّ.
فاتضح من قول الرسول هنا أن الختان ليس هو مجرد ختم العهد بين الله والأمة العبرانية (التي هي سلالة إبراهيم) لأن هذا العهد كان في ضمن قوله أنه بنسل إبراهيم (أي المسيح) تتبارك كل قبائل الأرض (غلاطية ٣: ١٦). وهذا عهد الفداء الذي يشترك فيه كل الأمم (غلاطية ٣: ١٣ - ١٨).
قال الرسول أن شرط نيل إبراهيم العهد كان الإيمان لا الأعمال فإذاً كل الذين يشاركون إبراهيم في بركات ذلك العهد يشاركونه فيها بذلك الشرط نفسه أي بالإيمان دون الأعمال.
إن اليهود باتخاذهم علامة الختان سلّموا بأنهم قبلوا عهد النعمة وصاروا كنيسة منتظمة ودخل أولادهم معهم في العهد وعلامته وبناء على ذلك يُعمّد أطفال المؤمنين في العهد الجديد. فكما أن الختان ليس هو سوى علامة عهد الله لإبراهيم وختمه كذلك المعمودية ليست سوى علامة الولادة الجديدة وختمها فهي علامة التطهير وختم عهد النعمة.
لِيَكُونَ هذا يوضح غاية الله من تبرير إبراهيم قبل أن اختتن.
أَباً لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي ٱلْغُرْلَةِ كون إبراهيم أباً للمؤمنين يدل على أنهم مماثلون له فهو كقوله أن «يَابَالَ ٱلَّذِي كَانَ أَباً لِسَاكِنِي ٱلْخِيَامِ» (تكوين ٤: ٢٠) و «يُوبَالُ ٱلَّذِي كَانَ أَباً لِكُلِّ ضَارِبٍ بِٱلْعُودِ وَٱلْمِزْمَارِ» (تكوين ٤: ٢١). وسُمي المؤمنون «أولاد إبراهيم» لأنهم يشبهون إبراهيم في طبيعتهم الروحية وفي أن العهد الذي قطعه الله معه يشمل كل أولاد الله من اليهود والأمم وفي أنهم يرثون المواعيد التي وُعد بها إبراهيم.
إن إبراهيم كان أباً للمؤمنين في عصر العهد القديم والحاجز باقٍ بين اليهود والأمم فالأولى أن يكون أباً لجميع أولاد الله في عصر العهد الجديد وقد رُفع ذلك الحاجز وصاروا جميعاً أهل بيتٍ واحد.
كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضاً ٱلْبِرُّ كما حُسب لإبراهيم. زاد الرسول هذا تفسيراً لقوله «ليكون أباً لجميع الذين يؤمنون». فكأنه قال أنه أبٌ لغير المختونين من المؤمنين لأنهم تبرّروا بالإيمان كما تبرّر هو به. ودل على أن إبراهيم أبو المؤمنين في الروح لا في الجسد.
١٢ «وَأَباً لِلْخِتَانِ لِلَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ ٱلْخِتَانِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً يَسْلُكُونَ فِي خُطُوَاتِ إِيمَانِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي كَانَ وَهُوَ فِي ٱلْغُرْلَةِ».
أثبت الرسول في الآية الحادية عشرة أن إبراهيم أبٌ لمؤمني الأمم وأثبت في هذه الآية أنه أبٌ لمؤمني اليهود.
أَباً لِلْخِتَانِ أي للمختونين وهم اليهود.
بَلْ أَيْضاً يَسْلُكُونَ فِي خُطُوَاتِ إِيمَانِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ هذا يفيد أن اختتانهم وحده لا يجعل إبراهيم أباهم الروحي ما لم يقتدوا به ويؤمنوا كما آمن.
ٱلَّذِي كَانَ وَهُوَ فِي ٱلْغُرْلَةِ كما قيل في (ع ١١) وخلاصة ما قيل هنا أن إبراهيم نال التبرير بالإيمان قبل أن وُجد التمييز بين أهل الختان وأهل الغرلة. وشرط نيل التبرير نفسه باقٍ إلى الآن وهو الإيمان بقطع النظر عن العلامة الخارجية.
١٣ «فَإِنَّهُ لَيْسَ بِٱلنَّامُوسِ كَانَ ٱلْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثاً لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ ٱلإِيمَانِ».
تكوين ١٧: ٤ الخ وغلاطية ٣: ٢٩
ما قاله الرسول في أمر الختان قاله أيضاً في شأن الناموس في هذه الآية والأربع التي تليها. فإنه قد برهن أن إبراهيم لم يتبرّر بختانه وصرّح هنا أنه لم يتبرّر بطاعته للناموس واستدل على ذلك بمقابلة ما في العهد الذي آمن به بما في الناموس.
لَيْسَ بِٱلنَّامُوسِ كَانَ ٱلْوَعْدُ ذهب البعض أن الناموس المشار إليه هنا هو ناموس موسى الذي ذكره في (غلاطية ٣: ١٧) حيث قيل «إِنَّ ٱلنَّامُوسَ ٱلَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً». وذهب آخرون إلى أن المراد به ناموس الله الادبي الذي أُوجب على كل الخليقة العاقلة ولم يكتب منه شيء في أيام إبراهيم وهذا هو الصحيح كما يستفاد من قوله «حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ» (ع ١٥) لأن الناموس هنا لا يصح أن يكون ناموس موسى وإلا قصر التعدّي على اليهود دون سائر الناس وهو باطل.
ٱلْوَعْدُ ذكر مضمونه في آخر هذه الآية.
لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ سُمّي إبراهيم في الآية «أباً للمؤمنين» وبهذا المعنى سموا هم هنا نسله أي أولاده وورثته في الروح.
أَنْ يَكُونَ وَارِثاً لِلْعَالَمِ هذا هو الوعد المذكور في أول الآية وهو خلاصة كل المواعيد التي كانت لإبراهيم معنىً لا لفظاً (تكوين ١٢: ٧ و١٣: ١٤ و١٥ و١٥: ١٨ و١٧: ٨ و٢٢: ١٧). ومثل تفسير الرسول هنا لتلك المواعيد كان تفسير علماء اليهود لها لأنهم فهموا أنها تشير إلى عموم سلطان المسيح الذي هو نسل إبراهيم. وهو على الخصوص مضمون وعد الله له بقوله «تَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ» (تكوين ١٢: ٣). وقوله أنه يجعله أباً لجمهور من الأمم (تكوين ١٧: ٥).
وهذا الوعد يتم غالباً بمعنى روحي فينال أولاده بالإيمان أفضل البركات الإلهية ويتم كل الإتمام حين «ٱلْمَمْلَكَةُ وَٱلسُّلْطَانُ وَعَظَمَةُ ٱلْمَمْلَكَةِ تَحْتَ كُلِّ ٱلسَّمَاءِ تُعْطَى لِشَعْبِ قِدِّيسِي ٱلْعَلِيِّ» (دانيال ٧: ٢٧) وعندما يأخذ المسيح أقاصي الأرض ملكاً له (مزمور ٢: ٨).
بَلْ بِبِرِّ ٱلإِيمَانِ إن الوعد لإبراهيم لم يكن لطاعته للناموس فكان بالضرورة لإيمانه كما صرّح كتاب الله (تكوين ١٥: ٦).
١٤ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ ٱلإِيمَانُ وَبَطَلَ ٱلْوَعْدُ!».
غلاطية ٣: ١٨
ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ أي الذين يطلبون التبرير بطاعتهم للناموس فيتكلون على أعمالهم الصالحة.
هُمْ وَرَثَةً لو نالوا التبرير بأعمالهم حسبما رجوا. وهذا فرض من الرسول أبان به بطلان ذلك الرجاء.
فَقَدْ تَعَطَّلَ ٱلإِيمَانُ أي كان بلا فائدة من جهة نيل البركة بواسطته وكان كل المدح الذي مدحه إبراهيم على إيمانه في غير محله.
بَطَلَ ٱلْوَعْدُ كان الوعد لإبراهيم ونسله مبنياً على الإيمان دون الأعمال فلو تبرّر الناس بالناموس أُخلف الوعد. وخلاصة الآية أنه لو كان الميراث لحفظة الناموس لم يبق نفع من الإيمان ولا فائدة من الوعد.
ومن الجلي أن ما لزم عنه إخلاف الله الميعاد لا يمكن أن يكون طريقاً للتبرير. والقرينة تدل على أن الرسول أراد بالناموس هنا كل ما أعلن به الله مشيئته للبشر وجعله قانوناً لسيرتهم.
١٥ «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَباً، إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ».
ص ٣: ٢٠ و٥: ١٣ و٢٠ و٧: ٨ و١٠ و١١ و١كورنثوس ١٥: ٥٦ و٢كورنثوس ٣: ٧ و٩ وغلاطية ٣: ١٠ و١يوحنا ٣: ٤
غاية ما في هذه الآية محاليّة أن يكون الناس ورثة البركة الموعود بها بواسطة الناموس.
ٱلنَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَباً أي غضب الله على الذين يتعدّونه. وهو يكشف لهم ذنوبهم ويطلب عقابهم على تلك الذنوب فالناس كلهم تعدوا الناموس ولذلك صاروا عرضة لغضب واضع الناموس الذي قضى بعقاب مخالفيه.
ليس في الناموس من سبيل لإظهار الرحمة للمعتدين فهو يدين الأثيم ولكن لا يستطيع أن يبرّره. أنه يوجب الطاعة الكاملة فإذا لم تكن صرّح بغضب الله كقوله تعالى «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ» (غلاطية ٣: ١٠).
والناموس ينشئ الغضب أيضاً لأنه يترك مخالفه بلا حجة أمام الله. وقد بيّن الرسول طريقاً آخر لإنشاء الناموس الغضب في (ص ٧) وهو أنه يهيّج عواطف القلب الشريرة حتى يعصيه. وليس من غاية الرسول أن يوضح هذا هنا لأن موضوع كلامه هنا التبرير وتأثير الناموس في أمره ومن المعلوم أن ما ينشئ الغضب لا يمكنه أن يؤدي إلى نيل الوعد (ع ١٣).
حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ فإذاً ليس خطيئة إذ على ما قال الرسول «أَنَّ ٱلْخَطِيَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ» (ص ٥: ١٣). لأن الخطيئة هي تعدّي الناموس فإذا لم يكن من ناموس مكتوب أو غير مكتوب لم يكن من تعد ولا خطيئة ولا غضب ولا دينونة ولكن وُضع الناموس فثبت التعدّي.
نعم «إِذاً ٱلنَّامُوسُ مُقَدَّسٌ، وَٱلْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ» (ص ٧: ١٢) وهو يحكم على بواطن القلب وبواعث الأعمال ويوجب الطاعة الكاملة على من يريد أن يتبرّر به ويقضي بالعقاب على مخالفه فرجاء الشرير أن يتبرّر بمثل هذا الناموس ظاهر البطلان.
١٦ «لِهٰذَا هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ، كَيْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ ٱلنِّعْمَةِ، لِيَكُونَ ٱلْوَعْدُ وَطِيداً لِجَمِيعِ ٱلنَّسْلِ. لَيْسَ لِمَنْ هُوَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً لِمَنْ هُوَ مِنْ إِيمَانِ إِبْرَاهِيمَ، ٱلَّذِي هُوَ أَبٌ لِجَمِيعِنَا».
ص ٣: ٢٤ غلاطية ٣: ٢٢ إشعياء ٥١: ٢ وص ٩: ٨
في هذه الآية وما تليها خاتمة قول الرسول أن الميراث الموعود به إبراهيم ونسله بالإيمان لا بالناموس وأنه ليس من شأن الناموس أن يجعل الخطأة ورثة للخلاص.
لِهٰذَا هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ لأنه يستحيل أن يكون من الناموس كما تبيّن. ولا فرق في أن رجع الضمير «هو» إلى الميراث المفهوم من (ع ١٤) أو الوعد المذكور في (ع ١٣) أو التبرير الذي هو موضوع الكلام في هذا الفصل.
كَيْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ ٱلنِّعْمَةِ أي لكي يظهر جلياً أن الخلاص يهبه الله مجاناً للمؤمن على غير استحقاق لمجرد رحمة الواهب. فإذا نظرنا إلى التبرير من جهة الإنسان فهو من الإيمان وإذا نظرنا إليه من جهة الله فهو من النعمة.
لِيَكُونَ ٱلْوَعْدُ وَطِيداً لِجَمِيعِ ٱلنَّسْلِ ولو توقّف الخلاص على استحقاق الإنسان وقداسته وثباته لم يكن لأحد أن يرجو الخلاص رجاء وطيداً ولا أن يرجوه البتة لأنه لا أحد من البشر أطاع وصية الله الطاعة الكاملة ولن يستطيع ذلك أبداً. فلو لم يكن الخلاص بالنعمة لم يكن من سبيل إليه البتة لكن رجاءه وطيد لأنه بالإيمان بلا نظر إلى نسبة أو أمة أو عمل وأنه مباح لكل إنسان على وجه الأرض.
والمراد «بالنسل» هنا المؤمنون الذين هم من نسل إبراهيم الروحي كما اتضح من (ع ١١ و١٢).
لِمَنْ هُوَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ فَقَطْ تدل القرينة على أنه قصد بالناموس هنا ناموس موسى ولا سيما الختان أحد رسوم الناموس. والمراد «بمن هم من الناموس» مؤمنو اليهود وهم نسل إبراهيم من جهتين طبيعية وروحية الأولى بالدم والثانية بالإيمان.
لِمَنْ هُوَ مِنْ إِيمَانِ إِبْرَاهِيمَ أي المؤمن من الأمم فنسبته إلى إبراهيم نسبة روحية وهي نسبة الإيمان لا الدم.
ٱلَّذِي هُوَ أَبٌ لِجَمِيعِنَا أي أب روحي لكل المؤمنين يهوداً وأمماً وهذا مكرر ما في (ع ١١ و١٢) وخلاصة كل احتجاجه من الآية التاسعة إلى هذه الآية. وهي أن اليهود والأمم شركاء الميراث الموعود به إبراهيم فهم متبرّرون الآن وسيتقدسون ثم يتمجدون.
١٧ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُكَ أَباً لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ. أَمَامَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي آمَنَ بِهِ، ٱلَّذِي يُحْيِي ٱلْمَوْتٰى، وَيَدْعُو ٱلأَشْيَاءَ غَيْرَ ٱلْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ».
تكوين ١٧: ٥ ص ٨: ١١ وأفسس ٢: ١ و٥ ص ٩: ٢٦ و١كورنثوس ١: ٢٨ و١بطرس ٢: ١٠
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في تكوين ١٧: ٥ على ما في ترجمة السبعين. اقتبس بولس هذا الوعد إثباتاً لقوله «إن إبراهيم أب لكل المؤمنين». وبياناً لسعة معناه وهو أنه يشمل كل نسله طبيعياً وروحياً وأن كل المؤمنين هم أولاده الروحيون.
أَباً لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ إن إبراهيم لا يمكن أن يكون أباً طبيعياً إلا لأمة واحدة لكن الله جعله بقضائه أن يكون على خلاف الطبيعة أباً لأمم كثيرة.
أَمَامَ ٱللّٰهِ أي أمام عينيه تعالى والظرف متعلق «بجعل». كان إبراهيم يومئذ بلا ولد والله الذي يرى الأمور المستقبلة كأنها حاضرة رأى إبراهيم كما صار في المستقبل واقفاً أمامه محيطة به أمم كثيرة من نسله الروحي.
ٱلَّذِي يُحْيِي ٱلْمَوْتٰى اصطلح بولس على أنه متى ذكر اسم الله في خطابه وصفه بصفة تناسب الموضوع الذي كلامه فيه. إن إبراهيم آمن بالله وقد وعده بما هو فوق الطبيعة ولا يستطيع إجراءه إلا القوة الإلهية فوصف الله هنا بصفة تدل على شمول قدرته فكأنه قال أنه القادر على كل شيء لأن إحياء الموتى من الأعمال المختصة بالله وحده (عبرانيين ١١: ١٩) والذي قدر على ذلك يقدر على كل شيء. وكان إبراهيم يوم وعده الله بأن يكون أباً لأمم كثيرة قد طعن في السن وكذلك امرأته سارة (انظر ع ١٩) ولم يكن لهما من ولد فكان يجب لكي يمكنه أن يصدّق إنجاز الله لوعده أن يؤمن بأنه قادر على إحياء الموتى.
وَيَدْعُو ٱلأَشْيَاءَ غَيْرَ ٱلْمَوْجُودَةِ الخ أي يأمرها كما في قوله «يَمِينِي نَشَرَتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. أَنَا أَدْعُوهُنَّ فَيَقِفْنَ مَعاً» (إشيعاء ٤٨: ١٣). والمعنى أن كل الأمور التي حدثت والتي يمكن أن تحدث تحت سلطان الله على السواء أي في قدرته كل موجود في الحال أو ما ليس بموجود فيه لكنه يقصد إيجاده في المستقبل (قابل هذا بما في تكوين ١: ٣ و١كورنثوس ١: ٢٨ و٢كورنثوس ٤: ٦ وكولوسي ١: ١٦ وعبرانيين ١١: ٣).
ذهب بعضهم إلى أن الرسول أشار بالأشياء غير الموجودة إلى من لم يكن قد وُلد من نسل إبراهيم حين قال له الله «إن نسله يكون كنجوم السماء في الكثرة» وذهب آخرون إلى أنه أشار بذلك إلى برّ الخاطئ حين ينسب الله إليه البرّ بدون صالح الأعمال لانه حينئذ يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة. وذهب فريق إلى أنه أشار بذلك إلى المدعوين من الأمم بدليل قوله «وَأَرْحَمُ لُورُحَامَةَ (أي غير المرحومة) وَأَقُولُ لِلُوعَمِّي (أي لمن هم غير شعبي) أَنْتَ شَعْبِي وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ إِلٰهِي» (هوشع ٢: ٢٣).

فوائد



  • إنه قد وجب على أفضل الناس (أي إبراهيم) في عصر العهد القديم أن يترك الاتكال على أعماله الصالحة ويقبل التبرير هبة مجاناً فينتج بالضرورة أن تبرير غيره من الناس بالأعمال الصالحة محال (ع ٢ و٣).
  • إن قبول النعمة وترك كل اتكال على البرّ الذاتي أول شروط الخلاص فمن اتكل على أعماله فقد رفض النعمة (ع ١ - ٥).
  • إنه ليس لأحد أن يفتخر بصلاحه أو يعجب به أي لا يقدر أن ينال راحة الضمير وسلامة القلب وهو يثق بأعماله للتبرير (ع ٢).
  • إنه يستحيل أن يكون التبرير أجرة وهبة معاً لأنه إن كان من النعمة فهو ليس من الأعمال وإن كان من الأعمال فهو ليس من النعمة.
  • إن الله يبرّر الفاجر فإذا لم يبرّره لاستحقاقه بل لاستحقاق غيره والله ينسبه إليه وهو يقبله بالإيمان (ع ٥ و٦ و١١).
  • إن بركات الإنجيل التي إحداها التبرير موافقة لكل البشر وغير مقصورة على ملة من الملل ولا مقيدة برسم من الرسوم (٩ - ١١).
  • إن أسرار الكنيسة ورسومها مع أنها نافعة في محلها تكون ضارّة لمن يتكل عليها للخلاص لأنه من المحال أن يفيد الرمز إفادة المرموز إليه. إن الختان لا يقوم مقام البرّ والمعمودية لا تقوم مقام تجديد القلب (ع ١٠).
  • إن إبراهيم أب لكل المؤمنين فكل المؤمنين إخوة.
  • إن نسل إبراهيم أي المؤمنين الحقيقيين مع المسيح رأسهم هم ورثة العالم وأقاصي الأرض ميراثهم. كل شيء لهم لأنهم للمسيح وهم ليسوا ورثة العالم الحاضر فقط بل ورثة المستقبل أيضاً (ع ١٣).
  • الاستناد للتبرير على الناموس الذي خالفناه غاية الجهالة فالذي من شأنه أن يديننا من المحال أن يبرّرنا (ع ١٥).
  • الخلاص مؤكد لنا لأنه مجان لأنه لو كان متوقفاً على شيء من طاعتنا لم نستطع أن نتحقق إننا قمنا بالمطلوب منا ولكن لكونه هبة يمكننا أن نعلم هل قبلناه أو لا (ع ١٦).
  • الذي جعله الله موضوع إيماننا يجب علينا أن نثق به كل الثقة لأنه قادر أن يتمم كل ما وعد به وهو ناوٍ ذلك (ع ١٧).



إيمان إبراهيم وكونه مثالاً لنا ع ١٨ إلى ٢٥


مضمون هذا الفصل خمسة أمور:

  • الأول: إن إيمان إبراهيم كان مبنياً على وعد الله (ع ١٨).
  • الثاني: إن قوة إيمانه ظهرت بعدم اكتراثه بالصعوبات (ع ١٩ و٢٠).
  • الثالث: إن ما اتكل إبراهيم عليه كان قوة الله وصدقه.
  • الرابع: إن نتيجة إيمانه كانت أنه تبرّر به.
  • الخامس: إن الطريق الذي تبرّر به هو الطريق الذي نتبرّر به نحن وأنه علينا أن نؤمن بالله القدير الذي بإقامته يسوع المسيح من الموت أظهر أنه قبله كفارة عنا.


١٨ «فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ ٱلرَّجَاءِ آمَنَ عَلَى ٱلرَّجَاءِ، لِكَيْ يَصِيرَ أَباً لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قِيلَ: هٰكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ».
تكوين ١٥: ٥
فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ ٱلرَّجَاءِ أي بلا علّة ظاهرة تحمل على الرجاء وعلى خلاف ما اعتاد الناس أن يتوقعوا في أحوال كأحواله. والمشار إليه هنا هو أمله أن يكون له نسل (انظر ع ١٩ - ٢١). وكان يظهر من شيخوخته وشيخوخة امرأته أن لا رجاء أن يكون له نسل.
آمَنَ عَلَى ٱلرَّجَاءِ بناء على وعد الله أي أنه آمن أنه ينال ما رجاه وما وعده الله به.
لِكَيْ يَصِيرَ أَباً لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ أي ليتمم بإيمانه قصد الله ذلك فإيمانه كان وسيلة لنيل الغاية التي لم تحدث بدون إيمانه وهذا موافق لما في الآية الحادية عشرة. فهذه الغاية لم تكن موضوع إيمانه بل ما ترتب عليه وإلا قال آمن أن يصير الخ.
هٰكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ الوعد الذي آمن إبراهيم به هو أن نسله يكون كنجوم السماء (تكوين ١٥: ٥). والمرجّح أن الرسول أخذ هذا الوعد عبارة عن كل مواعيد الله المتعلقة بوفرة نسل إبراهيم وتبارك كل قبائل الأرض به. ولا ريب في أن إيمانه شمل الوعد بالمسيح وفدائه لأن هذا الرسول صرّح بأن ذلك الوعد تضمن الوعد بالمسيح (غلاطية ٣: ١٦). والمسيح نفسه يقول ما معناه أن إبراهيم فهم الوعد كذلك وهو قوله «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ» (يوحنا ٨: ٥٦).
١٩ «وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفاً فِي ٱلإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتاً، إِذْ كَانَ ٱبْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ».
تكوين ١٧: ١٧ و١٨: ١١ وعبرانيين ١١: ١١ و١٢
في هذه الآية فسّر بولس قوله «آمن على خلاف الرجاء» أي أبان علّة ظهور أن إنجاز الوعد غير مستطاع.
إِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفاً فِي ٱلإِيمَانِ أي لأنه كان شديد الإيمان. وفي قوله هذا إشارة إلى أن إبراهيم لو كان ضعيف الإيمان لشغل نظره بالصعوبات التي في سبيل إنجاز الوعد ولقاس الأمر بمقياس العقل لا مقياس الإيمان وشك كما شك بطرس لما نظر إلى اضطراب الأمواج (متّى ١٤: ٣٠) لكنه قوي بإيمانه على كل الشكوك. نعم أنه عرف الصعوبات وأشار إليها في خطاب الله لكنه لم يكترث بها حتى يرتاب (تكوين ١٥: ٥ و٦ و١٧: ١٧).
لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتاً الخ (تكوين ١٧: ١ و١٧ و١٦: ١).
٢٠، ٢١ «٢٠ وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ٱرْتَابَ فِي وَعْدِ ٱللّٰهِ، بَلْ تَقَوَّى بِٱلإِيمَانِ مُعْطِياً مَجْداً لِلّٰهِ. ٢١ وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضاً».
مزمور ١١٥: ٣ ولوقا ١: ٣٧ و٤٥ وعبرانيين ١١: ١٩
ما في هاتين الآيتين توكيد لما في الآية التاسعة عشرة. وفيهما بيان ما اعتبره وهو وعد الله فزاد إيماناً بدلاً من أن يشك لضعف الإيمان والاهتمام بالصعوبات وهو ينظر إلى الذي وعد وإلى عظمة قدرته وصدقه.
مُعْطِياً مَجْداً لِلّٰهِ بثقته بقوله تعالى وبقدرته وأمانته في مواعيده. فيحسب الله إظهار الثقة به مجداً له وإظهار الشك إهانة له.
توقف بعض الناس عن التمسك بمواعيد الإنجيل بحجة أنهم غير مستحقي المغفرة. وحسبانهم شكوكهم في محبة الله لهم ورحمته تواضعاً غفلة عن أن الله يدعو غير المستحقين إلى قبول بركات الإنجيل وأنه يبرّر الفاجر إكراماً للمسيح. فالثقة بقول الإنجيل «آمن بالرب يسوع المسيح تخلص» واجبة كما وجب على إبراهيم وهو في نحو سن المئة أن يثق بأن يكون أباً لأمم كثيرة. فعلينا أن لا نلتفت إلى الصعوبات في طريق خلاصنا بل إلى قوة الواعد وصدقه. فالخاطئ المتكل على نعمة الله يمجّده كما مجده إبراهيم وهو يثق بقدرته.
٢٢ «لِذٰلِكَ أَيْضاً حُسِبَ لَهُ بِرّاً».
معنى هذه الآية إن إيمان إبراهيم حُسب له براً فكأنه قال خلاصة الكلام أن إبراهيم تبرّر بالإيمان لا بالأعمال على ما سبق في (ع ٣) وموضوع إيمانه وعد الله له بنسله. وموضوع إيماننا اليوم وعد الله بالحياة الأبدية بابنه يسوع المسيح. فإذا آمنا بذلك حُسب لنا الإيمان براً أي تبرّرنا.
٢٣، ٢٤ «٢٣ وَلٰكِنْ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ حُسِبَ لَهُ، ٢٤ بَلْ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضاً، ٱلَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا، ٱلَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ رَبَّنَا مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
ص ١٥: ٤ و١كورنثوس ١٠: ٦ و١١ أعمال ٢: ٢٤ و١٣: ٣٠
لَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أي أنه لم تكن غاية الله من نبإ إبراهيم أن يشهد بإيمانه بل أن يبيّن أن طريق تبرّره هو الطريق الذي يتبرّر به كل خاطئ.
بَلْ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أي ليرينا كيف نتبرّر. إننا كلنا خطأة والطريق الذي تبرّر به أحد الخطأة هو الطريق الذي يتبرّر به الجميع. تبرّر إبراهيم بالإيمان فيمكننا نحن أن نتبرّر به. كان موضوع إيمانه وعد الله وهو موضوع إيماننا لنيل الحياة الأبدية.
سَيُحْسَبُ لَنَا البرّ.
ٱلَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ أي بالله لأنه بإقامة يسوع قد أعلن أنه ابنه وأنه نسل إبراهيم الذي به يتبارك كل قبائل الأرض. فإذاً موضوع إيمان إبراهيم هو موضوع إيمان المسيحيين. والفرق بينهما أن إبراهيم آمن بنيل بركة مستقبلة أي أن الله يقيم نسلاً به يتبارك كل الناس ونحن نؤمن بما أنجزه الله بإقامة يسوع من الأموات.
خصّ بولس هنا بالذكر إقامة الله للمسيح من المبادئ التي امتاز بها الدين المسيحي عن غيره دون تجسده وصلبه للمناسبة بينها وبين موضوع إيمان إبراهيم وهو أنه «آمن بالذي يحيي الموتى» (ع ١٧) ولأن تلك الإقامة كانت البرهان الأعظم على قوة الله ولأنها كانت خاتمة أعمال المسيح الفدائية.
٢٥ «ٱلَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا».
إشعياء ٥٣: ٥ و٦ وص ٣: ٢٥ و٥: ٦ و٨: ٣٢ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وغلاطية ١: ٤ وعبرانيين ٩: ٢٨ و١بطرس ٢: ٢٤ و٣: ١٨ و١كورنثوس ١٥: ١٧ و١بطرس ١: ٢١
هذه الآية مختصر الإنجيل.
أُسْلِمَ للموت. وهذا يُنسب أحياناً إلى الآب (كما في رومية ٨: ٣٢ وغلاطية ١: ٣ وغير ذلك من المواضع) وأحياناً إلى المسيح نفسه بمعنى أنه رضي ذلك (غلاطية ٢: ٢٠ وأفسس ٥: ٢ وتيطس ٢: ١٤) وإنما أُسلم بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق (أعمال ٢: ٣٢ و٤: ٢٨).
مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا ليكفر عنها (كما في ص ٣: ٢٥ انظر أيضاً إشعياء ٥٣: ٥ و٦ وعبرانيين ٩: ٢٨ و١بطرس ٢: ٢١ و٢٤) لأن موته كان إيفاء لما علينا من القصاص من أجل خطايانا ولذلك كان علّة تبريرينا أمام الله.
أُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا كانت قيامة المسيح وسيلة إلى تبريرنا لأمرين:
الأول: إنها دليل على أن الله قبل موته كفارة عن خطايانا فلو لم يقم لم يكن من برهان على أنه ابن الله المسيح الفادي وكنا لم نزل في خطايانا تحت الدينونة (١كورنثوس ١٥: ١٧) وبسبب قيامته نثق به ونستفيد التبرير به على وفق قول بولس الرسول «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (١بطرس ١: ٣).
الثاني: إنها صارت سبيلاً إلى وجوده عن يمين الله الآب يشفع فينا ويُحصّل لنا فوائد فدائه. فإنه كما كان الحبر الأعظم قديماً يقدم ذبيحة على المذبح ثم يدخل بها إلى قدس الأقداس ويرش الدم على غطاء التابوت هكذا اقتضى تبريرنا أن يقدم رئيس أحبارنا الأعظم نفسه على الأرض ذبيحة عن الخطيئة ثم يجتاز السموات ليشفع فينا بإظهار دمه أمام الله. فموت المسيح وقيامته مع أنهما منفصلان لفظاً في هذه الآية هما في الإنجيل متحدان غالباً بمعنى أنهما موضوع واحد لإيماننا فعندما آمنا بأن يسوع المسيح مات على الصليب وقام من الأموات وصعد إلى السماء حيث يشفع فينا تبرّرنا.

فوائد



  • إن الإيمان هو تصديق قول الله لمجرد شهادته تعالى لا لأن عقولنا صدقته (ع ١٨ و٢٠).
  • إنه يجب لتقوية إيماننا أن نحوّل نظرنا عن الصعوبات في طريق إنجاز وعد الله إلى قوته تعالى غير المتناهية وصدقه الذي لا ريب فيه (ع ١٩).
  • إنه إذا كان إيمان الإنسان خالصاً فلا بد من تأثيره في قلبه وسيرته (ع ٢٠ و٢١).
  • إن عدم الإيمان خطيئة كبيرة لأنه الشك في قدرة الله وصدقه (ع ٢٠ و٢١).
  • إنه كل ما كُتب في كتابه تعالى هو لتعليمنا ونفعنا مع أن بعضه يظهر أنه مختص بأشخاص لأن أولئك الأشخاص نوّاب عن صنوف الناس. فما أمرهم الله ووعدهم وأنذرهم به يؤمر ويوعد وينذر به الذين هم مثلهم في الصفات والأحوال.
  • إن طريق الخلاص لم يتغير على توالي العصور فإن إبراهيم خلص بالإيمان وكذلك نحن نخلص به. وإن موضوع إيمانه موضوع إيماننا (ع ١٧ و٢٤).
  • إن قيامة المسيح ثابتة ببراهين قاطعة وهي تثبّت صحة الإنجيل كله. وأن المبدأين الجوهريين في الإنجيل هما أن يسوع مات كفارة لخطايانا وقام لتبريرنا فمن آمن بهما إيماناً قلبياً لخلاصه مؤكد ومن لم يؤمن بهما كذلك لا يؤمن بالإنجيل ويرفض الخلاص في الطريق التي اعدها الله (ع ٢٥ وص ١٠: ٩).




الأصحاح الخامس


في هذا الأصحاح والثلاثة التي تليه بعض النتائج من تعليم التبرير مجاناً.
خمسٌ من نتائج التبرير ع ١ إلى ١١


قد أبان الرسول افتقار الناس إلى التبرير من (ص ١: ١٨ - ص ٣: ٢٠) وحقيقة التبرير من (ص ٣: ٢١ - ص ٤: ٢٥). وذُكر في هذا الأصحاح خمسٌ من نتائج ذلك التبرير:

  • الأولى: السلام مع الله (ع ١).
  • الثانية: تيقّن المجد الآتي (ع ٢).
  • الثالثة: التعزية في الشدائد (ع ٣ - ٥).
  • الرابعة: تأكد الخلاص بشرط الإيمان (ع ٦ - ١٠)
  • الخامسة: إن الخلاص هو سرور في الحاضر فضلاً عن أنه خير في المستقبل (ع ١١).


١ «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ»:
إشعياء ٣٢: ١٧ ويوحنا ١٦: ٣٣ وص ٣: ٢٨ و٣٠ وأفسس ٢: ١٤ وكولوسي ١: ٢٠
فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ هذا نتيجة كل ما قيل من (ص ٣: ٢١ - ص ٤: ٢٥). وقد سبق معنى «تبرّرنا» في (ص ٣: ٢٠). ومعنى قوله «تبرّرنا بالإيمان» أننا نجونا بإيماننا من غضب الله الذي وجب علينا بخطايانا لأنا صولحنا معه بدم ابنه (ع ١٠)
لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ هذه النتيجة الأولى من تبريرنا وهي أننا نحن الخطأة مسالمون لله القدوس. اعتبر الرسول الله هنا حاكماً عادلاً بأقانيمه الثلاثة وإننا قبل تبرّرنا كنا في حال العداوة لله (ع ١٠) وعرضة لغضبه (ص ٤: ١٥ و٥: ٩). ولما تبرّرنا بالكفارة التي قدمها المسيح عن الخطيئة تغيّرت حالنا من حال العداوة إلى حال المصالحة ومن كوننا عرضة للغضب إلى مصيرنا أهلاً لرضاه. ومعنى العبارة كمعنى قوله «لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (ص ٨: ١).
إن المؤمن يشعر بسلام في الباطن لأن ضميره استراح بتيقنه أن مطاليب الناموس رُفعت عنه ولأنه سكنت مخاوفه من غضب الله لأن نائبه حمل عنه العقاب. وكان هذا السلام هبة الوداع للتلاميذ (يوحنا ١٤: ٢٧ و١٦: ٣٣).
بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فإذاً هذا السلام ليس بنتيجة استحقاقنا واجتهادنا بل هو كله على تحقيق الرسول نعمة. إن وسيطنا الأقنوم الثاني من اللاهوت هو سلامنا مع الله لأنه صار كفارة عن الخطيئة بسفك دمه وهو أوفى عنا كل مطاليب عدل الله وأزال اللعنة ومهد السبيل إلى إظهار الله القدوس الرحمة والمحبة للخطأة.
٢ «ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً قَدْ صَارَ لَنَا ٱلدُّخُولُ بِٱلإِيمَانِ، إِلَى هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ، وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ ٱللّٰهِ».
يوحنا ١٠: ٩ و١٤: ٦ وأفسس ٢: ١٨ و٣: ١٢ وعبرانيين ١٠: ١٩ و١كورنثوس ١٥: ١ عبرانيين ٣: ٦
لم يأت بولس في هذه الآية بالثانية من نتائج التبرير الخمس بل أوضح الأولى.
ٱلَّذِي بِهِ أي بالمسيح.
ٱلدُّخُولُ بِٱلإِيمَانِ، إِلَى هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ أراد «بالنعمة» هنا التبرير كما سبق في (ص ٤: ١٦). وصرّح بأننا مديونون للمسيح بأول بلوغنا حال السلام والمصالحة والقبول والرضى لأنه بتقديم نفسه ذبيحة أزال كل الموانع التي وضعتها الخطيئة في طريق ذلك على وفق قوله «لأَنَّ بِهِ لَنَا... قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ» (أفسس ٢: ١٨). وقول بطرس «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ» (١بطرس ٣: ١٨). وقوله قد «صار لنا» يشير إلى ما حدث لنا حين آمنا به. وقيّد الدخول بالإيمان لأن الإيمان هو الوسيلة إلى التمسك بالمسيح والحصول على تلك النعمة. وفي هذا إشارة إلى أن التبرير حال دائمة. ومفاد العبارة كلها أننا مديونون للمسيح بدءاً وأبداً بتلك النعمة العظيمة.
وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ ٱللّٰهِ إن المتبرّرين فضلاً عن سرورهم بأمنهم وراحة ضمائرهم وسلامهم مع الله يسرّون برجاء أنهم يشتركون في مجد الله الموعود به كل أعضاء ملكوت المسيح (يوحنا ١٧: ٢٢ ورومية ٨: ١٧ و١تسالونيكي ٢: ١٢ و١يوحنا ٣: ٢ ورؤيا ٢١: ١١) وأُضيف «المجد» إلى الله لأنه هو واهبه ولأن المؤمنين يشتركون في مجد المسيح والمسيح هو الله.
ويظهر من هذه الآية أن للمؤمنين أن يثقوا بأنهم خلصوا وأن يُسروا بذلك لأن الثقة بالخلاص هي الثقة باستحقاق المسيح وصدقه وخلوص محبة الله وليس في ذلك من طمع لأن تلك الثقة ليست باستحقاقنا أو بقوتنا على الثبات والطاعة لكنها تيقن رحمة الرب يسوع وصدق وعده وقوته.
٣، ٤ «٣ وَلَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضاً فِي ٱلضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ ٱلضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْراً، ٤ وَٱلصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَٱلتَّزْكِيَةُ رَجَاءً».
متّى ٥: ١١ و١٢ وأعمال ٥: ٤١ و٢كورنثوس ١٢: ١٠ وفيلبي ٢: ١٧ ويعقوب ١: ٢ و١٢ و١بطرس ٣: ١٤ يعقوب ١: ٣ يعقوب ١: ١٢
في هاتين الآيتين نتيجة التبرير الثانية وهي التعزية في الضيقات.
وَلَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ أي لم يقصر افتخارنا على رجاء المجد في المستقبل الذي هو موضوع الفرح طبعاً بل نفتخر أيضاً في ما من شأنه الإحزان. فكلما تغيّرت بواسطة التبرير نسبتنا إلى الله تغيرت به نسبتنا إلى الأحوال التي نحن فيها.
بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضاً فِي ٱلضِّيقَاتِ كانت تلك الضيقات قبل أن نتبرّر علامات غضب الله ولكنها صارت بعده آيات محبته لانه قصد بها خيرنا وهي برهان على أن الله يعتبرنا أولاداً له ويعاملنا معاملة الأولاد (رومية ٨: ١٨ وعبرانيين ١٢: ٦) ولأن أثمار تلك الضيقات جيدة وهي وسيلة إلى تقديسنا وصيرورتنا مفيدين لغيرنا ولأننا بها نستعد للسماء. وما قيل هنا كقول المسيح «طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ... اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ٤ و١٠ - ١٢). وهذا على وفق ما فعل الرسل الأطهار (أعمال ٥: ٤١). وقول بولس لأهل كورنثوس (٢كورنثوس ١٢: ١٠ و١١). وقول بطرس للمتشتتين (١بطرس ٤: ١٣ و١٤).
عَالِمِينَ أَنَّ ٱلضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْراً لأنّا لا نتعلم الصبر إلا باختبار الشدائد خاضعين لإرادة الله. والكلمة اليونانية المترجمة «بالصبر» هنا تفيد أيضاً شدة الثبات المقترنة بالصبر التي تجعل الإنسان يحتمل المكروه بشجاعة.
وَٱلصَّبْرُ تَزْكِيَةً تُنسب التزكية إلى ما امتُحن فظهرت جودته بالامتحان كما يتزكى الذهب والفضة بالنار. كذا تزكى إبراهيم بأن الله امتحنه بأمره إياه بتقديم ابنه إسحاق ذبيحة له. وكذا تزكى أيوب بامتحان الله إياه بالأرزاء الكثيرة. وذلك على وفق قول يعقوب «طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَحْتَمِلُ ٱلتَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ» (يعقوب ١: ١٢). وقول بطرس «لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ» (١بطرس ١: ٧). وهذا كثيراً ما يقصده الله بإرسال المصائب على المسيحيين اليوم.
وَٱلتَّزْكِيَةُ رَجَاءً أي رجاء رضى الله علينا والتمجد في حضرته. كلما انتصر المؤمن في حرب المصائب زاد رجاؤه أن ينتصر إلى النهاية ولم يقصر عن نوال سعادة السماء.
٥ «وَٱلرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱللّٰهِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُعْطَى لَنَا».
فيلبي ١: ٢٠ و٢كورنثوس ١: ٢٢ وغلاطية ٤: ٦ وأفسس ١: ١٣ و١٤
وَٱلرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي وبذلك يفرق عن الرجاء الدنيوي. ومعنى قوله «لا يُخزي» أنه لا يعقبه خيبة ولا يأس بل يتكلل بالخلاص (ص ٩: ٣٣ ومزمور ٢٢: ٤ و٥). فكل «مَوَاعِيدُ ٱللّٰهِ فَهُوَ فِيهِ ٱلنَّعَمْ وَفِيهِ ٱلآمِينُ» (٢كورنثوس ١: ٢٠ انظر أيضاً فيلبي ١: ٢٠). وكل ما في هذه الآية إلى الآية العاشرة بيان أن أساس رجاء المسيحي وطيد.
لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱللّٰهِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ هذا علّة أن الرجاء لا يُخزي فإنه لم يُبن على شدة عزمنا أو على قوتنا أو اختبارنا أو محبتنا لله بل على محبة الله لنا لأنها محبة الإله الأبدي غير المتغيّر فهي تدوم إلى الأبد. وقوله «انسكبت» يشير إلى وفرة ظهور تلك المحبة إذ هي ليست كالندى بل كوابل المطر (أعمال ٢: ١٧ و١٠: ٤٥ وتيطس ٣: ٦).
فِي قُلُوبِنَا هذا علاوة على ما أظهره تعالى من محبته في عمل الخليقة والعناية وعلى ما أظهره منها لكل الناس في عمل الفداء لأنه يحقق لنفوسنا حضوره فينا ورضاه علينا كقوله «اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ» (ص ٨: ١٦ انظر أيضاً ٢كورنثوس ١: ٢١ وأفسس ١: ١٤) وبهذا نعلم أن رجاءنا لا يخيب.
بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ الأقنوم الثالث الذي عمله أن يسكب محبة الله في قلوبنا (ص ٨: ١٥ و١٦ ويوحنا ١٦: ١٤ و١كورنثوس ٢: ٩ و١٠ وغلاطية ٤: ٦) ولأن الشعور بمحبة الله عطيّة الروح القدس لا يمكن أن يكون مجرد تخيّل أو وهم باطل.
ٱلْمُعْطَى لَنَا نحن المسيحيين وهو أُعطي لنا حين آمنا ووّلدنا من فوق.
٦ «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ».
غلاطية ٤: ٤ ص ٤: ٢٥ وع ٨
في هذه الآية برهان محبة الله لنا وهو موت المسيح عنّا.
ضُعَفَاءَ عاجزين عن القيام بواجباتنا وعن التكفير عن خطايانا لكي ننال التبرير أمام الله والنجاة من الغضب الذي نستحقه فهذا الضعف ضعف روحي وهو خطيئة لا مجرد مصيبة كالضعف الجسدي كما يظهر من وضع الخطأة موضع ضعفاء في (ع ٨).
فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ الذي عيّنه الله بمقتضى قضائه الأزلي وعبّر عنه «بملء الأزمنة» في (غلاطية ٤: ٤ قابل في أفسس ١: ١٠ و١تيموثاوس ٢: ٦ وتيطس ١: ٣) وأعلنه بالنبوآت (تكوين ٤٩: ١٠ ودانيال ٩: ٢٤ - ٢٧ انظر ايضاً شرح متّى ٢: ١ و٢).
لأَجْلِ ٱلْفُجَّار هم الضعفاء في أول الآية ومعنى «مات من أجلهم» أنه مات عنهم أي بدلاً منهم بغية خلاصهم. وقد أوضح هذا المعنى أكثر إيضاح في (ص ٣: ٢٥ وأفسس ٥: ٢ و١تيموثاوس ٢: ٦). وموت يسوع من «أجل الفجار» برهان على قوة محبة الله إياهم وأن الفداء مجان أي لم يكن لخير فينا.
٧ «فَإِنَّهُ بِٱلْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ ٱلصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ».
هذه الآية تظهر عظمة محبة الله للناس وعدم استحقاقهم إياها بدليل موت المسيح لأجل الفجار.
بَارٍّ أي عادل مستقيم.
ٱلصَّالِحِ أي المحسن الذي له المنة والفضل على غيره. والفرق بين البار والصالح أن الأول يعمل ما يعمله ليقوم بما وجب عليه شرعاً والثاني يعمل أعماله للمحبة والرغبة في نفع غيره فنحترم الأول ونحب الثاني ونشكره ويهون علينا أن ننكر أنفسنا من أجله. جاء في كتب ربانيي اليهود ما يوضح ذلك وهو أن البار قال لجاره كل ما هو لي فهو لي وكل ما هو لك فهو لك. وأن الصالح قال لجاره كل ما هو لك فهو لك وكل ما هو لي فهو لك. وغاية الرسول من هذه العبارة بيان أنه ليس في العالم نظير محبة المسيح للناس وأنها أعظم من كل محبة عرفناها أو سمعنا بها.
٨ «وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا».
يوحنا ١٥: ١٣ و١بطرس ٣: ١٧ و١يوحنا ٣: ١٦ و٤: ٩ و١٠
ذكر الرسول في الآية السابعة حدّ المحبة البشرية الذي هي لا تتجاوزه وقابلها هنا بمحبة الله إظهاراً للفرق العظيم بينهما. وبرهان ذلك هو ان الله أرسل ابنه ليموت لا عن الأبرار ولا عن الصالحين بل عن الخطأة غير المستحقين تلك المحبة بل الذين وجب عليهم غضب الله ودينونته. وأورد الرسول موت المسيح برهاناً على محبة الله الآب كما هو برهان على محبة الله الابن.
مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا أي كفارة عن خطايانا.
٩ «فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ ٱلآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ ٱلْغَضَبِ».
ص ٣: ٢٥ وأفسس ٢: ١٣ وعبرانيين ٩: ١٤ و١يوحنا ١: ٧ ص ١: ١٨ و١تسالونيكي ١: ١٠
ما في هذه الآية والتي تليها يؤكد خلاص المؤمنين بما اختبرناه من محبة الله مجاناً.
فَبِٱلأَوْلَى البراهين على هذه الأولوية في هذه الآية مثل البراهين الصحيحة التي ذُكرت في الآيتين السابعة والثامنة فإنه إذا كان الله يظهر محبته لأعدائه فبالأولى كثيراً أن يظهرها لأصدقائه.
وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ وقد غُفرت خطايانا وصولحنا مع الله وحصلنا على رضاه بناء على الفداء بيسوع المسيح.
بِدَمِهِ هذا العلة الأصلية لقبولنا أمام الله لا أعمالنا الصالحة ولا إيماننا ولا طاعتنا ولا عمل المسيح فينا بل عمله لأجلنا باعتبار كونه ذبيحة عن الخطيئة (ص ٣: ٢٥ وأفسس ٢: ١٣ وعبرانيين ٩: ١٢).
ولا منافاة بين ما قيل هنا وما قيل في الآية الأولى وهو أننا متبرّرون بالإيمان لأن الإيمان هو الوسيلة التي نتوصل بها إلى التبرير الذي أنشأه المسيح لنا بدمه.
نَخْلُصُ بِهِ نحن المتبرّرون الآن وإلى الأبد لأن الله قد صالحنا بالمسيح فهو يعتبرنا الآن أبراراً. ولا يترك ما ابتدأه قبل أن يتممه فالذي يبرّره يمجده أيضاً.
مِنَ ٱلْغَضَبِ أي العقاب اللازم عن الغضب الذي استحقته خطايانا فغضبه تعالى على الخطيئة لا يمنعه من محبته للخطأة وإعداده كفارة عنهم لأن الذي يغضب هو الذي يخلّص بتقديم ابنه فدية.
فنتج مما ذُكر أن خلاصنا كله بالمسيح وبداءته هي التبرير وأنه تضمن الوقاية من كل الشرور التي تقود إلى الهلاك الأبدي أي الوقاية من قوة الشيطان وسلطان الإثم والموت الثاني وأنه يخوّلنا سعادة السماء.
إن تبريرنا بدم المسيح وما حصلنا عليه من النعمة علاوة على التبرير يجوز أن ننسبهما أيضاً إلى شفاعة المسيح وعنايته بنا وإلى روحه القدوس الذي هو أرسله (ص ٨: ٣٤ وعبرانيين ٤: ١٤ و٧: ٢٥ و١يوحنا ٢: ١ ويهوذا ٢٤).
١٠ «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ».
ص ٨: ٣٢ و٢كورنثوس ٥: ١٨ و١٩ وافسس ٢: ١٦ وكولوسي ١: ٢٠ و٢١ يوحنا ٥: ٢٦ و١٤: ١٩ و٢كورنثوس ٤: ١٠ و١١
في هذه الآية تكرير معنى الآية التاسعة لبيان أن تبرير المؤمن يؤكد خلاصه لأن ما عُمل أصعب مما بقي ولم يكن لنا أن نتوقعه كما نتوقع هذا.
أَعْدَاءٌ هذا صفة الخطأة بالنسبة إلى الله القدوس أنهم عرضة لغضبه ونقمته. وهو بيان شعور الخطأة أيضاً من جهة الله. فالآية التاسعة بيان أننا تبرّرنا وإن كنا خطأة وهذه الآية بيان أن الله صالحنا مع أننا كنا أعداء.
صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ هذا إشارة إلى زوال عداوة الله أي غضبه على الخطأة الذي لا بد منه بالنظر إلى كونه قاضياً عادلاً لا إشارة إلى زوال عداوتنا له. ودليل ذلك أن تلك المصالحة بدم المسيح أي بموته وتعليم الإنجيل الدائم أن المسيح مات كفارة أيضاً للعدل الإلهي. وفي هذا أن الله الذي كان هو المغتاظ هو الذي أعدّ طريق المصالحة وهو الذي صالح بدليل قوله «ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ... أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (٢كورنثوس ٥: ١٨ و١٩ وكولوسي ١: ٢٠). ولا منافاة بين نسبة المصالحة إلى الآب ونسبتها أحياناً إلى المسيح لأن الآب والابن إله واحد.
نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ إذا كان المسيح وهو ميت قد صالحنا مع الله فبالأولى أنه وهو حي مالك ممجد لا يترك فداءنا ناقصاً.
إن تبرير الخاطئ كلّف المسيح سفك دمه وذلك ليصالح مع الله الذين هم أعداءه فما بقي على المسيح في خلاصهم لا يكلفه شيئاً من الألم وهو يفعله لأصدقائه الذي يُسر بخدمتهم. وحياة المسيح تؤكد خلاص شعبه لثلاث علل:

  • الأولى: إنها عربون حياتهم وباكورتها بدليل قوله «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا ١٤: ١٩ انظر ايضاً رومية ٨: ١١ و١كورنثوس ١٥: ٢٣).
  • الثانية: إنه الشفيع بدليل قوله «يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى ٱلتَّمَامِ ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى ٱللّٰهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (عبرانيين ٧: ٢٥).
  • الثالثة: إنه «دُفع إليه بعد قيامته كل سلطان في السماوات والأرض» لكي يحمي شعبه ويقدسهم ويؤكد لهم الخلاص (متّى ٢٨: ١٨ انظر أيضاً أفسس ١: ٢٢ وعبرانيين ٢: ١٠ ورؤيا ١: ١٨).


١١ «وَلَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضاً بِٱللّٰهِ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي نِلْنَا بِهِ ٱلآنَ ٱلْمُصَالَحَةَ».
ص ٢: ١٧ و٣: ٢٩ و٣٠ وغلاطية ٤: ٩ ع ١٠
في هذه الآية نتيجة التبرير الثالثة وهي الافتخار بالله.
نَفْتَخِرُ أَيْضاً بِٱللّٰه في هذا إشارة إلى غاية الفرح الذي يظهر بتقديم الحمد لله وهذا الفرح ينتج عن الشعور بمحبة الله ورضاه وعن يقين الرجاء وهو من نتائج الفداء الحاضرة علاوة على النجاة من الغضب الآتي. وهذا يعلّمنا أن الله نفسه أعظم مواضيع فرح النفس الإنسانية. وكان هذا موضوع سرور الإنسان في الفردوس قبل سقوطه وسيكون أعظم مواضيع الفرح في السماء لأن النفس مخلوقة لله ولا تسعد إلا به. فالمسيحي يفتخر بوجود الله وبصفاته ومعاملته لنا باعتبار كونه أبانا وصديقنا وإلهنا ونصيبنا.
بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ إنّا مديونون له بكل هذا السرور والافتخار.
ٱلَّذِي نِلْنَا بِهِ ٱلآنَ ٱلْمُصَالَحَةَ التي لا يقدر أن ينشئها الإنسان لنفسه وهي السلم بين الله القدوس والإنسان الخاطئ وقد أنشأها المسيح بموته على الصليب كفّارة عن خطايانا. وتقييده المصالحة «بالآن» يفيد أن خلاصنا بُدئ على الأرض وهو على وفق قول المسيح لزكا «اليوم حصل خلاص لهذا البيت» (لوقا ١٩: ٩).

فوائد



  • إن السلام مع الله الذي نناله بالتبرير على طريقة الإنجيل موافق لصفات الله ولاحتياج الإنسان ولا سلام كهذا بغير ذلك التبرير. والإيمان هو الباب الذي يدخل فيه ذلك السلام إلى القلب (ع ١ و٢).
  • إن كل فوائد الفداء متصلة وكل منها نتيجة ما قبله. فالمتبرّرون لهم سلام مع الله والذين لهم سلام مع الله يستطيعون أن يتقربوا منه ولهم من ذلك السرور في الأرزاء وتحقق محبة الله وخلاصهم الأبدي (ع ١ - ١١).
  • ثبات المؤمنين متوقف على محبة الله لهم بيسوع المسيح لا على محبتهم لله أو لشيء من الصلاح فيهم (ع ٦ - ١٠).
  • إن الفداء إنما هو بالدم لا بقوة الحق أو بشيء من التأثير الأدبي (ع ٩ و١٠).
  • إننا مديونون ليسوع المسيح بحياته وبموته وبشفاعته فكل ما نتمتع به الآن وكل ما نرجوه في المستقبل منه لأن به السلام والاقتراب إلى الله والسرور ورجاء الحياة الأبدية (ع ١١).
  • إنه يحق للمسيحي الحقيقي بل يجب عليه أن يكون مسروراً (ع ١١).



مقابلة الدينونة بآدم بالتبرير بالمسيح ع ١٢ إلى ٢١


أوضح الرسول مراده في هذا الفصل بأحد عشر أمراً:

  • سقوط جمع الناس بسقوط آدم (ع ١٢).
  • البرهان على أن الناس وجبت عليهم الدينونة بخطيئة آدم وهو أن عموم الموت الذي هو العقاب على الخطيئة يستلزم أن الناس حُسبوا متعدين الناموس (ع ١٣).
  • إن الناموس الذي تعدّاه الناس ليس بناموس موسى لأنه مات كثيرون قبل إعطاء ذلك الناموس (ع ١٤).
  • إن الناموس الذي تعدّوه ليس بالناموس الأدبي لأن كثيرين ماتوا وهم لم يتعدوا هذا الناموس (كالأطفال والبله) (ع ١٤).
  • إنه بعد ما ذُكر لم يبق علّة لحسبان الناس خطأة وكونهم عرضة للموت إلا تعدّي آدم (ع ١٣ و١٤).
  • إنه يلزم مما ذُكر أن آدم كان رمزاً إلى المسيح في النيابة عنّا فإنّا دُنّا بالأول وتبرّرنا بالثاني.
  • إن ذلك الرمز ليس في كل الوجود وأوجه الاختلاف ثلاثة:

    • الأول: أولوية حياة كثيرين ببر واحد من موت الكثيرين بتعدي واحد (ع ١٥).
    • الثاني: إن الفوائد بالمسيح أكثر من الخسارة بآدم لأننا تبرّرنا من خطايا كثيرة (خطيئة آدم وخطايانا) ولكن الدينونة التي وجبت علينا بآدم كانت دينونة خطيئة واحدة (ع ١٦).
    • الثالث: إن المسيح منحنا حياة أبدية علاوة على إنقاذه إيّانا من الموت بآدم.


  • تكرير قوله في (ع ١٢) بناء على أنه قد أثبته بالبراهين (ع ١٨).
  • إيضاح المقابلة بين خطيئة آدم وبرّ المسيح.
  • جواب هذا السؤال «لماذا وُضع الناموس إن كان لا يبرّر» (ع ٢٠).
  • إنه على قدر امتداد الإثم في العالم تعظم النعمة وتزداد (ع ٢١).


١٢ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ».
متّى ٢٥: ١٤ تكوين ٣: ٦ و١كورنثوس ١٥: ٢١ تكوين ٢: ١٧ وص ٦: ٢٣
مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي بناء على ما قلناه في شأن التبرير. وهذا مقدمة لما يأتي من مقابلة ما فعله يسوع لتبريرنا.
كَأَنَّمَا هذه الآية متعلقة بالآية الثامنة عشرة وما بينهما معترض. والمقابلة المقصودة هي أنه كما دخل بواحد الإثم والموت إلى العالم كذلك دخل بواحد التبرير والحياة. ووجه الشبه وحدة العلّة في الأمرين.
بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ أي آدم.
دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ أشار الرسول بذلك إلى ما كُتب في (تكوين ٣: ٦ و٧). وهو أن علّة كون جميع الناس خطأة هي آدم لأنه خطئ. والمراد «بالعالم» أناسه أي الجنس البشري كما جاء في (يوحنا ١: ١٠ و٣: ١٦). وشُخصت الخطيئة هنا ملكة على وفق ما جاء في (ع ٢١) معنىً ولفظاً وهو قوله «ملكت الخطيئة». ومعنى قوله «دخلت إلى العالم» إن آدم كان الخاطئ الأول وبواسطته صار كل الجنس خاطئاً. وبقي في معنى ذلك ثلاثة أقوال:

  • الأول: إنه على أثر سقوط آدم أخذ الناس يخطأون.
  • الثاني: إن الطبيعة البشرية فقدت البرّ الأصلي وفسدت عندما سقط فصارت مائلة إلى الخطيئة.
  • الثالث: إن الناس صاروا منذ ذلك العهد عرضة للهلاك. ولا واحد من هذه الثلاثة على حدته وافٍ بالمعنى فإنه يجمعها كلها.


واعتبر بولس في قوله «بإنسان واحد» آدم وحواء شخصاً واحداً كما اعتبروا في سفر التكوين (تكوين ٥: ٢) ولم يذكر تجربة الحيّة ولا معصية حواء أولاً لأن غايته بيان أن آدم كان في ما فعله نائب كل نسله. وعلّة دخول الخطيئة «بإنسان واحد» الاتحاد بين آدم ونسله وهو أولاً طبيعي لأن آدم والدهم جميعاً وثانياً عهديّ لأن الله عيّنه نائباً عنهم حتى أنهم يقومون بقيامه ويسقطون بسقوطه. ولا ظلم في ذلك لأنهم كانوا على رجاء الربح كما كانوا على خطر الخسارة. ولأن الله جعل المسيح نائباً عنهم لكي يصيروا باتحادهم به أبراراً ويُعاملوا معاملة الأبرار كما صاروا باتحادهم بآدم خطأة.
وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ بموجب قوله تعالى «يوم تأكل منها موتاً تموت» (تكوين ٢: ١٧) وهذا الموت جسدي كما يظهر من (ع ١٤ وتكوين ٣: ١٩) وروحي أيضاً كما يتبيّن من (ع ١٧ و١٨ و٢١ و٢تيموثاوس ١: ١٠). فالموت هنا عبارة عن كل نتائج الخطيئة في العالمَين. وقال «بالخطيئة الموت» لأنها علته وهو عقابها فلولا الخطيئة لم يكن من موت (تكوين ٢: ١٧ و٣: ١٩). ولا منافاة بين قولنا هذا وقول بولس في (١كورنثوس ١٥: ٤٦ - ٥٠) وخلاصته أن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله ولا يرث الفساد عدم الفساد لأنه لا يلزم منه وجوب أن يموت الإنسان لكي يدخل السماء وهو باق في القداسة الأصلية لإمكان أن يتغير بلا موت كما يتضح من قوله «لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ» (١كورنثوس ١٥: ٥١).
وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ أي عمّ الجميع فإنه لما دخلت الخطيئة العالم مهّدت السبيل للموت فجرى على أثرها. فكما أوقع آدم كل الناس في الخطيئة أوقعهم جميعاً في الموت. وكما صار جميع الناس شركاءه في الخطيئة صاروا شركاءه في عقابها.
إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ عندما دخلت الخطيئة بآدم. وذكر ذلك علّة لعموم الموت. وقد حُسب الجنس البشري كله واحداً للعلاقة بين آدم ونسله. لأنه نائب الكل أخطأ الكل به أي اعتبر الله سائر الناس خطأة كآدم وعاملهم معاملته. فلو ثبت آدم لثبت الجميع بأن حُسبوا طائعين بطاعته ونالوا به الحياة الأبدية. ولكن لأنه سقط حُسبوا جميعاً خطأة عرضة للعقاب المترتب على الخطيئة. إنّا لما أخطأ آدم لم نخطئ فعلاً حتى يجب علينا أن نتوب عن خطيئته. فقوله «أخطأ الجميع بآدم» كقوله «إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ. فَٱلْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا» (٢كورنثوس ٥: ١٤). فنحن لم نمت فعلاً بموت المسيح وكذا لم نخطأ فعلاً بخطيئة آدم. ففي كلا الأمرين نُسب إلينا فعل غيرنا.
كنا نتوقع من سياق الكلام أن يُقال هكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس لأن آدم قد أخطأ لكنه قال «إذ أخطأ الجميع» فلماذا عدل عن ذلك إلى هذا لو لم يكن معنى العبارتين واحداً. فسلك الرسول هذه الطريق ليعلّمنا أنه حين أخطأ آدم أخطأ الجميع به فخطيئته خطيئة الجنس كله.
ويجب أن يُعلم هنا أن ما ذُكر لا ينفي إنا ذوو طبيعة فاسدة وإننا أخطأنا فعلاً وأنه وجب علينا العقاب لما فعلنا. ولكن ليس مقصود الرسول ذكر ذلك هنا بل بيان أنه كيف مات الجميع بآدم لبيان أنه كيف يحيا الجميع بالمسيح في (ع ١٥) وكرّر بين (ع ١٥ وع ١٩) خمس مرات أن خطيئة واحدة كانت علّة الموت الذي عمّ الجنس البشري (انظر ما في ١كورنثوس ١٥: ٢٢).
١٣، ١٤ «١٣ فَإِنَّهُ حَتَّى ٱلنَّامُوسِ كَانَتِ ٱلْخَطِيَّةُ فِي ٱلْعَالَمِ. عَلَى أَنَّ ٱلْخَطِيَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ. ١٤ لٰكِنْ قَدْ مَلَكَ ٱلْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى، وَذٰلِكَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ، ٱلَّذِي هُوَ مِثَالُ ٱلآتِي».
ص ٤: ١٥ و١يوحنا ٣: ٤ و١كورنثوس ١٥: ٢١ و٢٢ و٤٥
في هاتين الآيتين برهان على صحة قوله في (ع ١٢) «أنه بإنسان واحد اجتاز الموت إلى جميع الناس». وذلك أن وقوع العقاب دليل على تعدّي الشريعة التي عينت ذلك العقاب. والموت عقاب الخطيئة وقد وقع على الذين لم يتعدوا ناموس موسى بل وقع على الذين لم يتعدوا شيئاً من الناموس الأدبي فنتج بالضرورة أن موتهم كان نتيجة خطيئة آدم.
حَتَّى ٱلنَّامُوسِ أي قبل إعطاء الناموس وذلك نحو ٢٥٠٠ سنة وهي منذ أيام آدم إلى أيام موسى.
كَانَتِ ٱلْخَطِيَّةُ فِي ٱلْعَالَمِ وعقابها الموت وبرهان ذلك التاريخ (تكوين ص ٤ وص ٥ وص ٦). ومعنى العبارة أن الناس أخطأوا وأن الله حسبهم خطأة وعاملهم بمقتضى ذلك.
عَلَى أَنَّ ٱلْخَطِيَّةَ أي مع أنها.
لاَ تُحْسَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ هذا قانون عام. وعدم حسبان الخطيئة يستلزم رفع العقاب كما يظهر من قوله «طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً» (ص ٤: ٨). وصحة هذا القانون تتضح من أن الخطيئة تعدّي الناموس وحيث لا ناموس لا يمكن أن يكون التعدي ولا أن يُحسب كما سبق من قوله «حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ» (ص ٤: ١٥). ولكن الخطيئة حُسبت على الناس واعتبرهم الله خطاة وعاملهم بمقتضى اعتباره إياهم فنتج بالضرورة أن خطيئتهم تعدّ على ناموس غير ناموس موسى.
لٰكِنْ كان خلاف ما يقتضي القانون المذكور.
قَدْ مَلَكَ ٱلْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى بدليل موت الناس قبل شريعة موسى فإذاً هم لم يموتوا لتعديهم شريعة موسى بل لعلّة أخرى. وفي قوله «ملك الموت» تشخيص له بملك ذو سلطان مطلق دائم لا يفلت أحد منه وهذا الموت عقاب الخطيئة وهو يعمّ كل صنوف الأرزاء حتى فساد الطبيعة البشرية كلها.
لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ أي لم يخطئوا كما أخطأ آدم فإنه تعدّى شريعة مفروضة معينة القصاص وهو الموت «أَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا» (تكوين ٢: ١٧). وأما هم لم يكونوا كذلك وقد سبق قوله في (ع ١٢) إن الناس يموتون لخطيئة آدم. وقصد هنا بيان أنه وجبت دينونة الموت على آدم للخطيئة التي ارتكبها هو لكن الله لم يحسب الناس قبل موسى خطأة ويعاقبهم لخطاياهم ومع ذلك ماتوا. فعلّة موتهم تعدّي آدم. ولم يقل الرسول شيئاً في شأن ما استحقه الناس على خطاياهم الفعلية من القصاص أو ما جرى عليهم من العقاب على ذلك منذ أيام آدم إلى أيام موسى أو من بعد موسى إلى الآن فإن ذلك ذكره في غير هذا الموضع لأن غايته هنا ليست إلا بيان أن الناس حُسبوا خطأة وعوقيوا العقاب المعيّن لأجل خطيئة آدم لا لأجل خطاياهم أي أن عموم الموت وانفصال البشر عن الله ومصيرهم عرضة لدينونة الله وتسلط الخطيئة عليهم لم تكن لأجل خطاياهم مهما كثرت وعظمت بل لأجل خطيئة واحدة من إنسان واحد.
ذهب بعض المفسرين إلى أن بولس قصد «بالذين لم يخطئوا على شبه تعدّي آدم» الأطفال والصحيح أن الأطفال من جملة أولئك ولكن لا دليل على قصر أولئك على الأطفال.
ٱلَّذِي هُوَ مِثَالُ ٱلآتِي هو يرجح إلى آدم «والآتي» هو الرب يسوع المسيح (ع ١٥). وهذا كقوله «صَارَ آدَمُ ٱلإِنْسَانُ ٱلأَوَّلُ نَفْساً حَيَّةً، وَآدَمُ ٱلأَخِيرُ رُوحاً مُحْيِياً» (١كورنثوس ١٥: ٤٥). وسُمّي هنا المسيح «بالآتي» لأنه سُمّي به منذ أيام آدم الأول إلى أن جاء ومدة ذلك نحو ٤٠٠٠ سنة ولا إشارة هنا إلى مجيء المسيح ثانية. ووجه الشبه بين آدم الأول وآدم الثاني لا يتعلق بالهيئة ولا بالصفات بل بنسة الجنس البشري إلى كل منهما أي كون كل منهما علّة لما عمّ الجميع لأن الأول أتى بالخطيئة والموت إلى العالم والثاني أتى بالبر والحياة الأبدية إليه. وهذه المشابهة لم تقع اتفاقاً بل كانت بقصد الله الأزلي فجعل آدم الأول رأس البشر ونائبهم حتى تعلّق بفعله كل أمور مستقبلهم وكذا جُعل آدم الثاني.
١٥ «وَلٰكِنْ لَيْسَ كَٱلْخَطِيَّةِ هٰكَذَا أَيْضاً ٱلْهِبَةُ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ ٱلْكَثِيرُونَ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً نِعْمَةُ ٱللّٰهِ، وَٱلْعَطِيَّةُ بِٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي بِٱلإِنْسَانِ ٱلْوَاحِدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، قَدِ ٱزْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ».
إشعياء ٥٣: ١١ ومتّى ٢٠: ٢٨ و٢٦: ٢٨
أبان بولس في الآيتين السابقتين المشابهة بين آدم والمسيح وأبان في هذه الآية والآيات الأربع الآتية أن المشابهة غير تامة ووجوه الاختلاف في ذلك ثم عاد في (ع ١٨ و١٩) إلى المشابهة التي شرع في بيانها في (ع ١٢).
وَلٰكِنْ لَيْسَ كَٱلْخَطِيَّةِ الخطيئة هنا هي التعدي في (ع ١٤) والمعصية في (ع ١٩) وفي فعل آدم الذي به جلب الموت على نفسه وعلى نسله.
ٱلْهِبَةُ هي ما فعله المسيح للتكفير والتبرير للجنس البشري وهي التي سُمّيت أيضاً «نعمة الله» و «العطية بالنعمة» وسُمّيت في (ع ١٧) «عطية البر».
بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ ٱلْكَثِيرُونَ الواحد هو آدم والكثيرون هم نسله ووصفهم «بالكثرة» لكثرتهم ولمقابتلهم بالواحد. وأراد «بالموت» كل ما ترتب على خطيئته من العقاب أي المصائب الروحية والجسدية. ومفاد العبارة أن آدم علّة تعرُّض نسله لهذا البلاء.
فَبِٱلأَوْلَى أي ما يأتي هو الأجدر والأكثر تحققاً فإن صدّقنا الأول فالثاني أجدر بالتصديق.
نِعْمَةُ ٱللّٰهِ، وَٱلْعَطِيَّةُ بِٱلنِّعْمَةِ نعمة الله علّة هذه العطية وهي «الهبة» في أول هذه الآية «وعطيّة البر» في (ع ١٧) أي التبرير. وسُميت «عطية» لكونها مجانية وعلامة محبة ونُسبت إلى النعمة لأن مصدرها نعمة الله.
ٱلَّتِي بِٱلإِنْسَانِ ٱلْوَاحِدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لم تكن غاية الرسول هنا بيان مجد يسوع الإلهي بل بيان أن عطيته التي ننالها به نعمة «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صَارَا» (يوحنا ١: ١٧) وهذه الهبة عكس ما أخذناه من آدم فبذاك كان الخطيئة والدينونة وبهذا التبرير والقبول (١كورنثوس ١٥: ٢١ و١تيموثاوس ٢: ٥).
قَدِ ٱزْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ أي أن الله أعطى مجاناً تلك العطية وافرة للكثيرين. ورجّح بذلك رجاء المؤمنين للنعمة على توقع العصاة للعقاب. وهذا مبني على ما أعلنه الله من محبته ورحمته بما فعله ليخلص الناس من سلطان الخطية وعواقبها ببذله ابنه الحبيب فدية عنهم. ويحق لنا أن نفسر «الكثيرين» هنا بكل الجنس البشري كما فسرناه في أول الآية فهو بمعنى ما في الآية الثامنة عشرة وهو قوله «صارت الهبة لجميع الناس» وعلى وفق قوله «لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ» (عبرانيين ٢: ٩ انظر أيضاً ٢كورنثوس ٥: ١٤ و١٥: و١يوحنا ٢: ٢).
ويحق لنا أيضاً أن نفسره كذلك لأن كل الناس مدعوون للخلاص (يوحنا ٧: ٣٧ ومتّى ١١: ٢٨ و٢٩ ومرقس ١٦: ١٥). وليس لنا أن نقيس نتائج فداء المسيح بما اختبرناه منها منذ بداءة عمل الفداء إلى هذه الساعة لأنه لا يمكننا أن نعلم كم يزيد تأثير النعمة على تأثير الخطيئة منذ تلك البداءة إلى نهاية العالم حين يجتمع المفديون من نسل آدم في السماء فلعله يظهر حينئذ أن نسبة الهالكين إلى الناجين ليست أكثر من المسجونين في مملكة إلى سائر أهل المملكة. وتكلم بولس في زيادة النعمة بناء على ما اختبره من وفرتها في نفسه وكذا يستطيع أن يشهد كل من اختبر اختباره.
١٦ «وَلَيْسَ كَمَا بِوَاحِدٍ قَدْ أَخْطَأَ هٰكَذَا ٱلْعَطِيَّةُ. لأَنَّ ٱلْحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ لِلدَّيْنُونَةِ، وَأَمَّا ٱلْهِبَةُ فَمِنْ جَرَّى خَطَايَا كَثِيرَةٍ لِلتَّبْرِيرِ».
في هذه الآية بيان وجه اختلاف آخر بين نتائج عمل آدم وعمل المسيح.
لَيْسَ كَمَا بِوَاحِدٍ معنى هذه الجملة كمعنى الجملة الأولى في الآية السابقة. واسم «ليس» المضمر يعود إلى الحكم المفهوم مما يليه في الآية نفسها. ومن البيّن أن الواحد الذي صار به الحكم هو آدم والذي صارت به العطية هو المسيح.
لأَنَّ ٱلْحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ لِلدَّيْنُونَةِ الحكم ما يصرّح به القاضي في أمر من يقف أمامه للمحاكمة فقد يكون للتبرئة وقد يكون «للدينونة». وهو هنا حكم الله على آدم للدينونة أي دينونة الموت كما في (ع ١٢) لأنه ثبت عليه أنه مذنب ومستحق العقاب المعيّن وهذا العقاب عمّ نسله أيضاً. وكانت هذه النازلة العامة بخطيئة واحدة من إنسان واحد كما تبيّن في (ع ١٨). ومفاد ذلك أن كل إنسان محكوم عليه بالموت لأجل خطيئة آدم.
وَأَمَّا ٱلْهِبَةُ أي هبة النعمة (ع ١٥) وهي المغفرة والتبرير.
فَمِنْ جَرَّى خَطَايَا كَثِيرَةٍ لِلتَّبْرِيرِ فلو كانت الهبة بالمسيح كالحكم بآدم لنجتنا من خطيئة واحدة لكنها نجتنا من خطايا كثيرة خطيئة آدم وكل خطايانا. والخلاصة أن المسيح ما اكتفى بأنه نجانا من اللعنة التي أوجبتها علينا خطيئة واحدة ارتكبها آدم بل تبرّرنا من كل الخطايا التي لا تُحصى.
١٧ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ ٱلْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ ٱلْمَوْتُ بِٱلْوَاحِدِ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً ٱلَّذِينَ يَنَالُونَ فَيْضَ ٱلنِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ ٱلْبِرِّ، سَيَمْلِكُونَ فِي ٱلْحَيَاةِ بِٱلْوَاحِدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
هذا مكرر ما قيل في (ع ١٥ و١٦) للإيضاح والتوكيد.
بِخَطِيَّةِ ٱلْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ ٱلْمَوْتُ بِٱلْوَاحِدِ هذا مختصر ما قيل في (ع ١٥) في تأثير خطيئة آدم. فالموت هنا عبارة عن كل عواقب الخطيئة. وأسند «الملك» إلى الموت إشارة إلى شموله وسلطته المطلقة ودوامها. ومفاد العبارة أن خطيئة آدم لكونه رأس البشر ونائبهم أوجبت كل الناس في كل عصر الخضوع للموت كملك بكل ما يتعلق بسلطته من النوازل الهائلة.
فَبِٱلأَوْلَى هذا متعلق بقوله «يملكون» وفيه إشارة إلى زيادة التوكيد وترجيح الثاني على الأول. والمعنى أنه لنا أن نتحقق خلاصنا باتحادنا برئيسنا الإلهي البشري آدم.
فَيْضَ ٱلنِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ ٱلْبِرِّ المعطوف عليه علّة للمعطوف. نسب الرسول الكثرة إلى النعمة لأن مصدرها قلب الله غير المحدود في محبته ورحمته فنهر الخلاص على قدر هذا الينبوع. «وعطيّة البر» هي برّ يسوع المحسوب للمؤمنين. وهذه العطيّة أكثر من المغفرة كأنها برّ يسوع الكامل وُهب لهم. فالمتبرّرون يقبلون هذا البرّ هبة لانهم لا يستطيعون أن ينالوه إلا بهذه الطريق لعدم إمكان أن يستحقوه. وهم يتمسكون بهذا البرّ راضين مختارين وأما تعرضهم لحكم الدينونة فلم يكن برضاهم واختيارهم إذ حُكم عليهم قبل أن يُخلقوا. فإن كان الله قد شاء أن يميتهم لإثم لم يختاروه فبالأولى كثيراً أنه يشاء أن يحييهم وهم راغبون في الخلاص بالطريق التي اختارها وسرّ بها.
سَيَمْلِكُونَ فِي ٱلْحَيَاةِ هذا نتيجة الفداء العظيمة وهي أعظم جداً من النجاة من الدينونة. «فالحياة» عبارة عن مجموع كل البركات كما أن الموت عبارة عن كل الشرور. وفي قوله «سيملكون في الحياة» إشارة إلى أن المؤمنين ينالون كمال القداسة والسرور ورضى الله ومجد السماء وإلى حريتهم أي حرية أبناء الله وإلى القوة والانتصار.
بِٱلْوَاحِدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ «الرب برّنا» (إرميا ٢٣: ٦) ورئيس خلاصنا القدير. فكما أن إنساناً واحداً كان علّة موت كل النسل وهلاكه كذلك كان إنسان واحد علّة الحياة والخلاص.
١٨ «فَإِذاً كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ ٱلْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ، هٰكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ ٱلْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، لِتَبْرِيرِ ٱلْحَيَاةِ».
ع ١٢ يوحنا ١٢: ٣٢ وعبرانيين ٢: ٩
هذه الآية خلاصة كل ما قيل من (ع ١٢) إلى هنا وهي إثبات ما مرّ من قوله «إنه كما دُنا هكذا تبرّرنا» أي أنه كان إنسان واحد علّة هلاكنا وإنسان واحد علّة خلاصنا بأحدهما الدنيونة والموت وبالآخر البرّ والحياة.
فَإِذاً أي النتيجة.
كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ قابل الرسول في (ع ١٦ و١٧) بين إنسانين وهنا قابل بين عمليهما وهما خطيئة واحدة وبرّ واحد. والنتيجة واحدة. والخطيئة الواحدة هي أكل الثمر المنهي عنه.
صَارَ ٱلْحُكْمُ لِلدَّيْنُونَةِ أي صار آدم ونسله خطأة عرضة لكل العقابات المرتبة على الخطيئة. وأوضح الرسول هنا ما أوضحه سابقاً وهو أن علّة دينونة جميع الناس هي خطيئة واحدة.
بِبِرٍّ وَاحِدٍ أشار الرسول بهذا إما إلى كل طاعة المسيح للناموس وآلامه من أجل الإنسان كعمل واحد (كما جاء في فيلبي ٢: ٨) لمقابلته بعمل آدم الواحد أو إلى موته على الصليب باعتبار أنه أعظم أعمال برّه وأعظم وسائل تبريرنا.
ٱلْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، لِتَبْرِيرِ ٱلْحَيَاةِ أضاف التبرير إلى الحياة لأنه علّة نوالها بعموم معناها وهي تتضمن النجاة من الموت الثاني والحصول على رضى الله والسعادة الأبدية في السماء. وكما قال «إن الدينونة شملت جميع الناس» قال «إن البرّ شمل جميعهم». وأبان بذلك أن عمل المسيح ذو قدرة على التبرير العام كما أن خطيئة آدم كانت ذات قدرة على جلب الدينونة العامة. وأن طريق النجاة معدة بالواحد لكل من وجبت عليه الدينونة بالآخر. وليس من قصد الرسول هنا بيان طريق الاستفادة من عمل المسيح (أي الإيمان) لأنه أوضح هذا مراراً كثيرة في غير هذا الموضع ولا يقصد إظهاراً يخلص جميع الناس أم بعضهم.
١٩ « لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْوَاحِدِ جُعِلَ ٱلْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هٰكَذَا أَيْضاً بِإِطَاعَةِ ٱلْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ ٱلْكَثِيرُونَ أَبْرَاراً».
معنى هذه الآية كمعنى الآية الثامنة عشرة وإنما غُيّرت الألفاظ لزيادة الإيضاح.
بِمَعْصِيَةِ هي الخطيئة في (ع ١٨) وهي أكل آدم من الثمرة التي نُهي عنها.
جُعِلَ... خُطَاةً اي صُيّروا كذلك باعتبار الناموس وحُسبوا كذلك أمام الله. والمعنى أن معصية آدم كانت العلّة لحسبان الكثيرين عصاة عند الله لا لخطاياهم ولا لتغيّر في قلوبهم لأنهم لم يكونوا يوم معصية آدم. وجاء «الكثيرون» هنا بمعنى جميع الناس في الآية السابقة للمقابلة بالواحد. وذهب بعضهم أنه اختار «الكثيرين» بدل «الجميع» إشارة إلى أن كثيرين يهلكون لرفضهم المسيح وأن كثيرين يخلصون بإيمانهم به. وعلى كل المذاهب ليس المعنى أن الجميع يخلصون بل هو أن المتحدين بآدم اتحاداً طبيعياً يموتون والمتحدين بالمسيح اتحاداً روحياً بالإيمان يحيون.
بِإِطَاعَةِ ٱلْوَاحِدِ أشار بذلك إلى كل عمل المسيح نيابة عن الخطأة في تكميل الناموس في احتمال العقاب المعيّن على تعديهم إياه. والمسيح إطاعة لمشيئة الله قدم نفسه ذبيحة وتقدمة وهذا على وفق قوله «وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبي ٢: ٨). وقول يسوع المسيح مشيراً إلى عمل الكفارة «هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ ٱلْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ» (عبرانيين ١٠: ٧). وكان لإطاعة المسيح عن الكثيرين ثمن لا يحد كاف لأن يُكفر عن خطايا الجنس البشري وأن يبرّر كل المؤمنين لأنه إله وإنسان.
سَيُجْعَلُ ٱلْكَثِيرُونَ أَبْرَاراً أي الذين كانوا خطأة تحت الدينونة صاروا أبراراً بمعنى أنه لم يبق للناموس من دعوى عليهم لأن المسيح احتمل عقاب خطاياهم وأوفى كل مطاليبه باعتبار كونه نائبهم فحسبهم الله أبراراً كأنهم لم يخطئوا قط إكراماً له ونسب إليهم بره الكامل كأنهم أطاعوا الناموس. وهنا كملت المقابلة المقصودة وهي أنهم حُسبوا أبراراً بطاعة المسيح كما حُسبوا خطأة بمعصية آدم. وهذا على وفق قوله «لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢كورنثوس ٥: ٢١).
وعدل الرسول عن صيغة الماضي وهو يتكلم على المصاب بآدم إلى صيغة المضارع وهو يتكلم على التبرير بالمسيح دلالة على استمرار ذلك التبرير بخلاف البليّة بآدم فإنها دُفعت إلى الأبد عن كل من يؤمن.
٢٠ «وَأَمَّا ٱلنَّامُوسُ فَدَخَلَ لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلْخَطِيَّةُ. وَلٰكِنْ حَيْثُ كَثُرَتِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱزْدَادَتِ ٱلنِّعْمَةُ جِدّاً».
يوحنا ١٥: ٢٢ وص ٣: ٢٠ و٤: ١٥ و٧: ٨ و١٣ وغلاطية ٣: ١٩ و٢٣ لوقا ٧: ٤٧ و١تيموثاوس ١: ١٤
هذه الآية دفع لاعتراض يحتمل أن يعترضه اليهودي وهو أنه إن كنا قد سقطنا بآدم وخلصنا بالمسيح فلم يبق من نفع للناموس.
ٱلنَّامُوسُ أي كل نظام العهد القديم المُعلن لإرادة الله وما يشتمل عليه من الأوامر والمناهي والتهديدات والمواعيد والرسوم.
فَدَخَلَ أي زيد على طريق الخلاص بيسوع المسيح التي أعلنها الله في الإنجيل. وهذا حسب قوله «فَلِمَاذَا ٱلنَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ ٱلنَّسْلُ ٱلَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ» (غلاطية ٣: ١٩). فهو نافع ومهم.
لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلْخَطِيَّةُ كانت غاية الله الأصلية من إعطاء الناموس منع الخطيئة وبيان الواجبات على الإنسان. ولولا طبيعة الإنسان الفاسدة لأُدركت تلك الغاية لكنه كانت النتيجة لذلك الفساد أن كثرت الخطيئة كما ذُكر هنا. وهذه النتيجة ثلاثة أمور:

  • الأول: إظهار فظاعتها بمقابلة أعمال الإنسان النجسة بمطاليب الناموس المقدسة.
  • الثاني: إنه ازدادت بواسطته معرفة الإنسان ومسؤوليته للطاعة وذنبه في التعدي لأنه إذا لم يكن ناموس فليس تعد فوجوده يُثبت خطيئة المتمردين.
  • الثالث: إن الناموس من شأنه أن يهيّج القلب البشري على المقاومة لعدم ميله إلى الطاعة. ولكون الناموس روحانياً مقدساً يضاد شهوات الإنسان ويحظرها عليه ولهذا يقوم الإنسان عليه. وأوضح الرسول ذلك في (ص ٧: ٨) انظر الشرح هناك.


وإذا كانت نتيجة الناموس ما ذُكر هنا فمن الواضح أنه عاجز عن أن يبرّر الخطأة ويخلصهم لكنه يمهد الطريق إلى المسيح لأنه يبيّن للناس افتقارهم إليه لأنه هو الذي يزيل الإثم ويأتي بالبر الأبدي.
حَيْثُ كَثُرَتِ ٱلْخَطِيَّةُ أي خطيئة الناس الذين قبل الناموس والذين بعده في كل مكان وزمان. وهذا نتيجة معصية آدم فإنها اتصلت منه بكل نسله وكثرت على قدر امتدادها وظهرت فظاعتها بنور الناموس المقدس.
ٱزْدَادَتِ ٱلنِّعْمَةُ المراد «بالنعمة» هنا الخلاص بيسوع المسيح كما أُعلن في الإنجيل ومعنى قوله «ازدادت» انتصرت على ما دخل العالم بدخول الخطيئة من الشرور جسدية وروحية زمنية وأبدية.
٢١ «حَتَّى كَمَا مَلَكَتِ ٱلْخَطِيَّةُ فِي ٱلْمَوْتِ، هٰكَذَا تَمْلِكُ ٱلنِّعْمَةُ بِٱلْبِرِّ، لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ، بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا».
حَتَّى للتعليل والعلّة ما بعدها. وهي بيان أن قصد الله من عدم منعه دخول الخطيئة هذا العالم وكثرتها المذكورة هنا هو تحويل الشر إلى الخير وإظهار غنى نعمته وجعل فوائد الفداء للإنسان أعظم من كل الأضرار التي نزلت به بسقوطه وارتداده عن الله.
مَلَكَتِ ٱلْخَطِيَّةُ فِي ٱلْمَوْتِ أظهرت سلطانها بنتيجتها وهي الموت نفساً وجسداً. فلولا الخطيئة لم يكن للموت شوكة ولم يكن له قوة على الضرر (١كورنثوس ١٥: ٥٦).
هٰكَذَا تَمْلِكُ ٱلنِّعْمَةُ التي ظهرت بالخلاص الذي مصدره محبة الله لأنه هو الذي أنشأ طريق الفداء وأرسل المسيح إلى العالم لكي يفديه وجعله «خطيئة لنا وهو لم يعرف خطيئة».
بِٱلْبِرِّ أي ببرّ المسيح الذي صنعه لأجلنا. ولولا هذا البرّ لم يكن من سبيل لإظهار النعمة ولكن بواسطته ظهرت النعمة وانتصرت. فبه ظهر ان الله بار ويبرّر الفاجر.
لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ وهي ثمرة انتصار النعمة. ووُضعت هنا تجاه ثمرة انتصار الخطيئة وهي الموت بمعصية آدم. فكما أن الموت عبارة عن كل عواقب الخطيئة كذلك الحياة الأبدية عبارة عن كل بركات النعمة.
بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا أي بتجسده وموته وشفاعته.
وخلاصة كلام الرسول هنا أن فوائد الفداء فاقت كثيراً عواقب دخول الخطيئة في العالم. وهذا يتبيّن من ثلاثة أمور:

  • الأول: إن نبوءات الكتاب المقدس ومواعيده تُظهر أن عدد الناس الذي يخلصون بالمسيح يزيد كثيراً جداً على عدد الهالكين.
  • الثاني: إن سعادة المفتدين بالمسيح أعظم من سعادتهم لو بقوا في القداسة التي خُلق عليها آدم لأنه لو ثبت كان لهم الثواب الذي يستحقه المخلوق لكنهم بالمسيح يحصلون على الثواب الذي يستحقه ابن الله فيكونون شركاء مجده.
  • الثالث: إن فوائد الفداء لا تنحصر في الجنس البشري لأنه قد تمجد الله به إذا أُظهرت صفاته المجيدة بأحسن بيان لكل الخليقة في السماوات وعلى الأرض.



فوائد



  • إن الذي أوضحه الرسول في هذا الفصل أكمل توضيح هو أن خطيئة آدم نُسبت إلى كل نسله باتحادهم الطبيعي به وبكونه نائباً عنهم ولأجل ذلك حُسبوا هم عند الله خطأة حين أخطأ هو وصاروا عرضة للعقاب معه وباتحاد المؤمنين بالمسيح نُسب إليهم بره فكانوا أبراراً به.
    إن ما نشاهده في العالم من الشرور المادية والأدبية برهان واضح على صحة تعليم الرسول هنا. فإننا نرى الناس في كل مكان يتألمون من جراء خطايا غيرهم. وسر الأسرار هو وجود الخطيئة في العالم أي تسلط الخطيئة والموت على الجنس البشري لا دخولها على الطريق التي أبانها الرسول.
    اعترض بعض الناس على تعليم بولس أن الله ينسب إلى الناس خطيئة غيرهم وإلى المؤمنين برّ غيرهم وجل اعتراضاتهم نتيجة سوء فهمهم ذلك التعليم لأن تعليم نيابة واحد عن كثيرين في الخطيئة أو البرّ لا يلزم منه تغيير طبائعهم فنسبة خطيئة آدم إلينا لا تجعل خطيئته خطيئتنا الخاصة حتى تقتضي أن نندم عليها ونتوب عنها. ونسبة برّ المسيح إلينا لا يلزم منها أن نفتخر بأنفسنا كأن ذلك البرّ برّنا الذاتي.
    اعترض بعضهم أنه لا يمكن أن يكون آدم نائباً عن نسله للزوم أن يرضى الذين ينوب عنهم نيابته ولكن هذه الحجة باطلة لأنه لا بلاد في العالم مهما كان نوع حكومتها ملكياً أم جمهورياً يختار أهلها رجالاً ونساء وأولاداً الملك أو الرئيس النائب عنهم في سياسة المملكة وكذلك الوصي يُقام بدون اختيار الأيتام فإذا حقّ للوالد أن يختار وصياً لولده فبالأولى أنه يحق لله أن يختار نائباً عن أولاد البشر. فإن قيل أن تعليم الرسول هذه النيابة مناف لمبادئ العدل لأنه إثبات عقاب الأولاد بذنب أبيهم قلنا إن صحّ هذا الاعتراض على تعليم الرسول صح على سياسة الله في العالم لأنه يولد ألوف وربوات في العالم كل يوم وهم ماثلون إلى الشر عرضة للمرض والحزن والموت مع أنهم لم يذنبوا شيئاً. وهذا أمر مشاهد عياناً لا يستطيع أحد إنكاره فما علّة هذا. إن الرسول أبان أن هذا الشر وقع عليهم وعلى سائر الجنس البشري لأن آدم نائبهم ورئيسهم خطئ فسقط وسقطوا بسقوطه لأنه كان نائباً عنهم. وقال أيضاً إن المسيح مهّد طريق الخلاص مجاناً لكل من يأتي إليه من البشر. وبعد هذا كله نقول على من رفض تعليم الرسول هنا أن يأتينا بأحسن مما أتى به من علّة دخول الشر في هذا العالم وطريق النجاة منه.
    جدول المقابلة في هذا الفصل
    آدم المعصية الدينونة عليه وعلى نسله الموت عليه وعلى المتحدين به
    المسيح الطاعة حتى الموت التبرير الحياة للمتحدين به


  • أفضل برهان على فظاعة شر الخطيئة تأثير خطيئة آدم فيه وفي كل نسله وعظمة الغرامة التي احتملها المسيح ليفدي الناس منها (ع ١٢ و١٥ و١٦).
  • إنه من أعظم الأدلة على حكمة الله وقدرته ومحبته تمكنه من تحويل الشر إلى الخير وجعله فوائد الفداء أكثر من مصائب السقوط كثيراً.
  • إن الذين يتكلون للخلاص على برّ أنفسهم الناقص ويرفضون برّ يسوع التام المعروض عليهم مجاناً هم في أسفل دركات الجهل.
  • إنه على كل إنسان أن يسلّم بخضوع أمام الله بأنه مولود من نسل بعيد عن الله ومن أب عاص وأنه عرضة لغضبه تعالى (ع ١٧).
  • إنه يجب على كل إنسان أن يتخذ بكل شكر الوسائل التي أعدّها الله للتقرب منه ونيل رضاه بواسطة ابنه يسوع (ع ١٧).
  • إن من يهلكون إنما يهلكون برفضهم النعمة المقدمة لهم بالمسيح فلا يهلك أحد بخطيئة آدم أو بعدم كفاية الفداء.
  • إنه قد وضح من هذا الفصل عظمة الخطر من اقتراب خطيئة واحدة إذ وضح أنه نتج من أمر يظهر أنه زهيد جداً كأكل ثمرة نهي عن أكلها كل ما ذُكر من الأرزاء آنفاً.
  • إن الكنيسة المسيحية مديونة كثيراً لنظام العهد القديم الناموسي لما فيه من التمهيد والاستعداد لنظام العهد الجديد المبني على النعمة (ع ٢٠).




الأصحاح السادس


موضوع هذا الأصحاح بيان أن التقديس نتيجة التبرير بالإيمان وفيه أمران:
الأول: بيان أن تعليم ذلك التبرير لا يبيح ارتكاب الإثم بقوله إنه بالنعمة مجاناً (ع ١ - ١١) ولا بقوله أنه تحرير من الناموس (ع ١٥ - ٢٠).
الثاني: نصائح للحياة المقدسة (ع ١٢ - ١٤ و٢١ - ٢٣).
إن التبرير بالإيمان مجاناً لا يبيح ارتكاب الإثم ع ١ إلى ١١


١ «فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَنَبْقَى فِي ٱلْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلنِّعْمَةُ؟».
ص ٣: ٨ وع ١٥
فَمَاذَا نَقُولُ؟ أي ما نتيجة التعليم المذكور في (ص ٥: ٢٠ و٢١) وهو أن الخاطئ يتبرّر بالإيمان بيسوع المسيح بمجرد النعمة بدون النظر إلى أعماله أفلا ينافي وجوب قداسة الحياة.
أَنَبْقَى فِي ٱلْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلنِّعْمَةُ المراد بالبقاء في الخطيئة المواظبة على ارتكابها بلا مقاومة ولا انتصار طوعاً لشهوات الطبيعة. ولعل هذا الاعتراض مبنيّ على ما ذكره في الآيتين (٢٠ و٢١ من ص ٥) وخلاصته أن كثرة الخطيئة كانت علّة لزيادة النعمة وأن الله سبحانه وتعالى حوّل شر الناس خيراً وتمجّد بمغفرة الخطايا الكثيرة وبذلك عظمت نعمته. أو على قوله ما معناه أن الله يقبل الخطأة ويبرّرهم لأجل استحقاق المسيح.
لم يزل بعض الناس إلى الآن يعترض هذا الاعتراض على تعليم بولس أن التبرير بالنعمة مجاناً قائلين أن التعليم بموت المسيح وحده كفارة عن كل خطايا الناس الماضية والحاضرة والمستقبلة يبيح ارتكاب الخطيئة إذ يلزم منه أنه كلما أخطأ الإنسان تمجّد الله بالمغفرة له.
٢ «حَاشَا! نَحْنُ ٱلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا؟».
ع ١١ وص ٧: ٤ وغلاطية ٢: ١٩ و٦: ١٤
حَاشَا! أتى الرسول بهذا إنكاراً لصحة ذلك الاعتراض وكرهاً لها.
نَحْنُ ٱلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ الخ المعنى أنه إن صحّ هذا الاعتراض صحّ أن الميت يعمل كالحي وذلك ضربٌ من الهذيان. وقوله «متنا عن الخطيئة» عكس قوله «نعيش فيها» وصرّح الرسول بهذا أن تعليم التبرير بالإيمان يستلزم أن المؤمنين قد ماتوا عن الخطيئة وصدق عليهم ذلك لأن قبولهم المسيح مخلصاً بالإيمان يقتضي اعتزالهم الخطيئة كاعتزال النفس جسدها عند الموت فلما آمنوا رجعوا عن الخطيئة إلى الله فلم يسرّوا بها ولم يستمروا فيها بل قاوموها وحاربوها (ص ٧: ٤ وغلاطية ٢: ١٩ وكولوسي ٣: ٦ و١بطرس ٢: ٢٤).
وصدق عليهم أيضاً لأنهم اتحدوا بالإيمان بالمسيح الذي هو مصدر الحياة لأنه لم يكتف بأن ينقذهم من عقاب الخطيئة فخلصهم من سلطانها. ولم يبيّن الرسول هنا متى يموت المؤمن عن الخطيئة لكنه بيّن في (ع ٣ و٤) أنه يموت عنها حين يؤمن ويتحد بالإيمان بالمسيح ويعتمد علامة لذلك الاتحاد. نعم يصح أن يقال أننا متنا عن الخطيئة عندما مات المسيح نائبنا على الصليب. لكن الأرجح أن الرسول لم يشر إلى ذلك هنا بل أشار إلى ما نشعر به من مقاومتنا الشديدة للخطيئة وتمسكنا بالمسيح.
٣ «أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ ٱعْتَمَدَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ».
١كورنثوس ١٥: ٢٩ وكولوسي ٣: ٣ و١بطرس ٢: ٢٤
أيّد بولس الرسول برهانه على دفع ذلك الاعتراض بتذكيره الرومانيين الذين كتب هذه الرسالة إليهم بما علموه من الحقائق المشار إليها بالمعمودية المسيحية وهي الرسم الذي به دخلوا الكنيسة المسيحية.
كُلَّ مَنِ ٱعْتَمَدَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي كل من اعترف بإيمانه بالمسيح علانية بقبوله ذلك الرسم. وأشار هنا إلى المعمودية باعتبار كونها آية العهد بينهم وبين الله وإعلان إيمانهم بالمسيح. وقوله «اعتمد ليسوع المسيح» يتضمن التصريح بأن المؤمن اعتقد أن يسوع هو المسيح الذي وعد الله به وأنه ابن الله مخلص العالم وأنه اتحد به منذ آمن إلى الأبد للحصول على الحياة الأبدية. ويتضمن أن الاعتماد باسمه إنما كان باعتبار أن المسيح أحد أقانيم الثالوث الأقدس المذكورين في بسملة المعمودية (متّى ٢٨: ١٩ وأعمال ٢: ٣٨ و١٠: ٤٨ و١كورنثوس ١: ١٣). فمعمودية المؤمنين علامة وقف أنفسهم للمسيح واعترافهم بأنهم أتباعه وخدمه واتحادهم به ودخولهم كنيسته لا علّة ذلك.
ٱعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ هذا إحدى الحقائق التي يعترف بها المؤمن باعتماده وما بقي منها لم يذكره الرسول هنا كفعل الروح القدس وسائر العقائد المسيحية. فمن اعتمد لموت المسيح أعلن أنه آمن بأن المسيح مات على الصليب ليحرره من الخطيئة ودل بذلك على أنه متحد به (ع ٥) لينال كل فوائد موته وهي مغفرة خطاياه ومصالحته لله وانكسار شوكة الخطيئة. وعلى تعهده بها أنه مات للخطيئة كما مات المسيح لها بدليل قوله «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ» (غلاطية ٣: ٢٧) وعلى أنه رفض الخطيئة التي جاء المسيح لينقضها وعلى أنه يبذل جهده في إماتتها في أعضائه ويحيا للقداسة وبالإيجاز نقول أنه يعترف بالمعمودية أنه يتمثل بالمسيح ويشترك معه.
فكيف يصحّ القول بأن ديانة المسيح تبيح المحظورات مع أن الرسم الذي به يدخل المؤمن فيها يتضمن الإقرار بأنه يموت للخطيئة كل يوم كما مات ربه على الصليب لينقذه من عقاب الخطيئة وسلطتها. فمن المحال أن المؤمن الحقيقي المعتمد على ذلك الإقرار يستمر في الخطيئة لأنه منفصل عنها انفصال الميت عن الأحياء باعتبار كونها سائدة عليه.
٤ «فَدُفِنَّا مَعَهُ بِٱلْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ ٱلآبِ، هٰكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ ٱلْحَيَاةِ».
كولوسي ٢: ١٢ ص ٨: ١١ و١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ١٣: ٤ يوحنا ٢: ١١ و١١: ٤٠ غلاطية ٦: ١٥ وأفسس ٤: ٢٢ و٢٣ و٢٤ وكولوسي ٣: ١٠
جاء الرسول بهذه الآية تأييداً للآية التي قبلها أي توكيداً وبياناً لتمام انفصال المؤمن عن الخطيئة إذ صرّح أن اتحاد المؤمن بالمسيح المرموز إليه بالمعمودية بلغ من التمام حدّ أنه لا يقتصر على أن يموت المؤمن معه للخطيئة بل يصير بالنظر إليها كالمدفون في قبره. والمعنى أنه لم يبق بينه وبين الخطيئة أدنى تعلّق من جهة ممارستها أو سلطتها أو اللذّة بها.
دُفِنَّا مَعَهُ بِٱلْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ استعار الرسول هنا الدفن لتحقيق انفصال المؤمن عن الخطيئة دائماً لأن الدفن يثبت أن الإنسان مات حقيقة. ومعنى قوله «دفنا معه» إنا انفصلنا عن العالم باعتبار أنه نصيبنا وعن سلطة الخطيئة وكل شركة في مملكة الشيطان كما انفصل المسيح عن العالم المنظور وهو في قبره. وقوله «دفنا معه... للموت» تقرير للأول وفيه زيادة هي أن المعتمدين يعتقدون أن موت المسيح كان عن خطيئتهم وأنهم اشتركوا في كل فوائد موته وأنهم تعهدوا ان يموتوا عن الخطيئة كما مات من أجلها. فالمعمودية كما أنها تشير إلى مشاركتنا للمسيح في موته تشير إلى مشاركتنا له في دفنه.
ظن بعضهم أن الرسول قصد أن يشير بهذه الكلمات إلى كيفية العماد إنه بالتغطيس لا بالرش ولا بالسكب لكن لا دليل فيها على ذلك لأن كلامه على نتيجة العماد لا كيفيته. فإن الرسول ذكر ثلاثة أمور تشير إليها المعمودية وهي الموت مع المسيح (ع ٣) والدفن معه (ع ٤) والاتحاد به (ع ٥) فكيف يسوغ أن يؤخذ أحدها إشارة إلى كيفية المعمودية دون الآخرين. ومن الواضح أن لا شيء فيهما من الإشارة إلى الكيفية على أن طريق الدفن قديماً كان غالباً في قبر منحوت يُدخل إليه من باب قائم لا كالدفن اليوم وهو لحده في قلب الارض. فالمشابهة بين دفنهم يومئذ والتغطيس ضعيفة جداً. ثم أن التغطيس عمل قصير الوقت جداً فلا يناسب أن يشار به إلى أمر دائم لأن المؤمن يموت عن الخطيئة دائماً ويُدفن مع المسيح عنها كل مدة الحياة على هذه الأرض ويقوم معه للقداسة إلى الأبد. وأن المعمودية إشارة إلى اتحادنا بالمسيح في موته ودفنه بالنظر إلى المعنى الروحي لا إلى كيفية استعمال الماء الخارجي. وكذا هي في آيات أُخر في الكتاب منها قوله «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ» (غلاطية ٣: ٢٧). وقوله «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي ٱلْمَعْمُودِيَّةِ، ٱلَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (كولوسي ٢: ١٢). وإنها أيضاً إشارة إلى التنظيف والطهارة. فأي نسبة بينها وبين الدفن في القبر مع ما فيه من الفساد والفناء. فإن سلّمنا أن الآية هنا تشير إلى المعمودية بالتغطيس فلا يلزم من ذلك أن التغطيس هو طريق المعمودية الوحيد وأنه إذا ناسب أهل الأقاليم الحارة والأصحاء يناسب أهل الأقاليم الباردة والمرضى وأمثالهم وعلى كل حال أن الإشارة الطفيفة كهذه لا يصح أن تُقام مقام الأمر حتى لا يجوز التعميد بغير التغطيس.
كَمَا أُقِيمَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ إيماننا بالمسيح يشتمل على الإيمان بموته وقيامته ونحن نشاركه في الأمرين في الموت بأن نموت معه للخطيئة وفي القيامة بأن نقوم معه لقداسة الحياة. وهذا من العهود التي نتخذها على أنفسنا في المعمودية.
بِمَجْدِ ٱلآبِ أي بقدرته المجيدة فإن الله أظهر مجده بإظهار قدرته العظمى بإقامته المسيح من الموت (متّى ٢٨: ٢ و٣ و١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ١٣: ٤ وأفسس ١: ١٩ و٢٠) على أنه غلب في الكتاب المقدس أن يُعبّر بمجد الله عن مجموع صفاته. ولكن نُسب المجد هنا إلى القدرة لأن ظهورها في وقت القيامة كان مجيداً ونتيجتها صارت مجيدة إلى الأبد. إن الله أظهر بذلك العمل المجيد مسرّته بكل عمل الفداء (١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ١٣: ٤).
هٰكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ ٱلْحَيَاةِ أي نستمر في حياة القداسة الجديدة. وسمّيت الحياة هنا بالجديدة مقابلة بموت الخطيئة القديم. وهي جديدة أيضاً بمقابلتها بحياتنا الجسدية فإنها لا تضعف في الشيخوخة ولا يعقبها موت. فكما أن المسيح قام جسدياً وعاش عيشة جديدة مختلفة عن التي قبلها يجب أن نقوم روحياً ونحيا حياة جديدة مختلفة عن الحياة العتيقة المستعبدة لأهواء الجسد. وهذا على وفق قوله «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱطْلُبُوا مَا فَوْقُ» الخ (كولوسي ٣: ١).
٥ «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ».
فيلبي ٣: ١٠ و١١
هذه الآية إثبات لما في التي قبلها وهو أن اتحاد المؤمنين بالمسيح في موته يستلزم اتحادنا به في حياته أي أن يسيروا معه في جدة الحياة.
صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ قال «بشبه موته» ولم يقل بموته لأنه مات موتاً جسدياً فقط ولكونه قدوس الله لم يمت للخطيئة موتاً روحياً ونحن لم نمت حين آمنا جسدياً لكننا متنا للخطيئة فموتنا شبه موته.
أبان الرسول في ما مرّ العلاقة بين موت المسيح (باعبتار أنه ذبيحة كفارة عن الخطيئة) وتبريرنا وأبان هنا العلاقة بين ذلك الموت وتقديسنا. فالذي مات لينقذنا من عقاب الخطيئة مات أيضاً لينقّينا من دنس الخطيئة ويطهّرنا لله.
نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ أي بشبهها. العلاقة بين موت المسيح على الصليب وموت المؤمنين للخطيئة هي مثل العلاقة بين قيامة المسيح من القبر ودخوله حياة جديدة ممجدة وقيامتهم لحياة القداسة وكل منهما يستلزم الآخر.
وعدل عن صيغة الماضي في أول الآية إلى صيغة المضارع في آخرها لأن الموت للخطيئة قد مضى والحياة المقدسة مستقبلة دائمة. واتحاد المؤمنين بالمسيح يلزم منه النتائج المذكورة هنا كما أبان المسيح وهو يتكلم على هذا الاتحاد في (يوحنا ١٥: ١ - ١٠) وهذا مكرر قوله «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا ١٤: ١٩).
والمشار إليه في هذه الآية ما يحدث لنا في الحياة الدنيا فيصدق علينا بالأولى في القيامة العامة في اليوم الأخير فيكمل وقتئذ اتحادنا بالمسيح ونصير مثله جسداً وروحاً. والرسول لم يقصد ذلك هنا بل قصد تشبيه حياتنا الروحية الجديدة المقدسة بحياة المسيح بعد قيامته من القبر (قابل هذا بما في يوحنا ٥: ٢٤ و٢٥ وكولوسي ٣: ١ وأفسس ٥: ١٤).
٦ «عَالِمِينَ هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ».
غلاطية ٢: ٢٠ و٥: ٢٤ و٦: ١٤ وأفسس ٤: ٢٢ وكولوسي ٣: ٥ و٩ و٢كورنثوس ٥: ١٧ و٦: ١٧ وكولوسي ٢: ١١
طلب الرسول هنا شهادة اختبار المؤمنين بأن موتهم للخطيئة مع المسيح مقترن بقيامتهم معه للحياة الجديدة المقدسة.
عَالِمِينَ هٰذَا باختبارنا منذ آمنّا.
إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ أي طبيعتنا الساقطة قبل أن نولد ثانية من الروح القدس وهي تشتمل على كل القوى البشرية وتسمى أيضاً «بالجسد» (ص ٧: ١٨). وهذا الإنسان العتيق خال من القداسة ومائل إلى الخطيئة بدليل قوله «أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ ٱلْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ» (أفسس ٤: ٢٢ انظر أيضاً كولوسي ٣: ٨ و٩). وعبّر أيضاً عن تلك الطبيعة «بالإنسان» لأن الفساد عمّ الذات الإنسانية كلها لا الجسد وحده ولا المشيئة ولا العواطف دون غيرها.
صُلِبَ عبّر الرسول عن الموت للخطيئة بالصلب لأن المسيح صُلب ولأنه قال قبلاً «إنا متنا معه» فكأنه قال هنا صُلبنا معه ولأنه بُني على صلب المسيح كل رجاء نجاتنا من عقاب الخطيئة وسلطانها. ولأن الموت بالصليب بطيء ومؤلم وكذلك إماتة الشهوات والانتصار على الطبيعة الفاسدة وإخضاع المشيئة المعاندة وهذه تشبه الموت بالصليب أكثر مما تشبه غيره من أنواع الموت. ولأن علّة صلب المسيح علّة موتنا للخطيئة. وهذا مثل قول بولس على نفسه «مع المسيح صُلبت» الخ (غلاطية ٢: ٢٠).
لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ عبّر الرسول في رسائله عن طبيعتنا الأصلية الساقطة «بجسد الخطيئة» خمساً وعشرين مرة وهو بمعنى «الإنسان العتيق». وأضاف الجسد إلى الخطيئة لأننا بالجسد نخدمها ونظهرها لغيرنا. وشخّص الخطيئة بجسد ذي حياة وحركة ليصح قوله أنها صُلبت. وسميت أيضاً «الجسد المائت» (ع ١٢) و «جسد هذا الموت» (ص ٧: ٢٤) و «جسم الخطايا البشرية» (كولوسي ٢: ١١). فلا يُستنتج مما قيل هنا أن الجسد لكونه مادة هو مركز الخطيئة لأنه ليس سوى آلة للمشيئة التي هي مركز الخير والشر في الإنسان ولم يذكر الكتاب المقدس قط أن المادة أصل الخطيئة. وقال الرسول «ليبطل» الخ بياناً لغاية صلبنا مع المسيح وهي ملاشاة تسلط الخطيئة علينا للحصول على الحرية الروحية. ومثل هذا قوله «لا تملكن الخطيئة في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته» (ع ١٢). ولا سبيل إلى التحرر من رق الخطيئة إلا بموت طبيعتنا الفاسدة ولا يمكن ذلك إلا باتحادنا بالمسيح في موته لأنه مات «لكي ينقذنا من سلطان الخطيئة ويدخلنا على حرية أبناء الله المجيدة» (عبرانيين ٢: ١٤ - ١٦).
٧ «لأَنَّ ٱلَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ».
ع ٢ و١بطرس ٤: ١
ما في هذه الآية إثبات الرسول تعليمه أن تبريرنا بالإيمان وسيلة إلى تقديسنا. أي أن المسيح مات من أجل خطايانا لكي نموت نحن للخطيئة.
لأَنَّ ٱلَّذِي مَاتَ مع المسيح كما قيل في (ع ٨) وكما ذُكر في تفسير (ع ٢ - ٥). إن طاعة المسيح للموت تبرّر الخاطئ ونحن بالإيمان نشترك في كل نتائجها كأننا فعلنا الذي فعله وتألمنا بما تألم به لأنه نائبنا.
تَبَرَّأَ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ أي من لعنتها وعقابها حالاً ومن سلطانها تدرجاً فكأنه قال تبرّر ثم تقدس (قابل هذا بما في غلاطية ٢: ١٩ و٢٠ و٦: ١٤ وكولوسي ٢: ١٣ و٣: ٣ و١بطرس ٤: ١). كما أنه من الباطل أن يأمر السيد عبده الميت بالسرقة أو بالقتل كذلك من الباطل أن تستخدم الخطيئة المؤمنين لأنهم ماتوا عنها وتحرروا من سلطتها.
يحكم العقل البشري بوجوب تقديس الناس لكي يتبرّروا أمام إله عادل قدوس لكن تعليم الإنجيل ليس كذلك لأنه يقول إن الله يبرّر الفاجر وأنه ينبغي أن نتبرّر (بالموت مع المسيح) لكي نتقدّس (أي لكي نتبرأ من الخطيئة).
٨ «فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ».
٢تيموثاوس ٢: ١١
كل ما قاله الرسول في هذه الآية إلى ع ١١ إثبات لما قاله في ع ٧ وهو أن اشتراكنا في موت المسيح يستلزم اشتراكنا في حياته.
فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ أي اتحدنا به في موته بالإيمان وحصلنا بذلك على النجاة من قصاص الخطيئة وسلطانها.
نُؤْمِنُ أي نثق أو نتيقن بناء على وعد الله في كتابه المعلن قصده الأزلي والذي نثق به هو أنه تعالى يطهرنا من كل أدناس الخطيئة بدم يسوع المسيح بعد أن ينقذنا من الدينونة به.
سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ إنه يلزم من اتحادنا بالمسيح بالإيمان اشتراكنا في نتائج حياته كما اشتركنا في نتائج موته. وفسر الرسول معنى «مع المسيح» في (ع ٩ و١٠) وعبّر عنها في غير هذا الموضع بالملك معه والتمجّد معه (ص ٨: ١٧) وهي الحياة الأبدية التي يحصل عليها المؤمنون في هذا العالم بدليل قول المسيح «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا ٣: ٣٦). وقوله «تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (يوحنا ٥: ٢٤) وأشار الرسول إليها في (غلاطية ٢: ٢٠). وهذه الحياة تظهر هنا بالطاعة لله وبقداسة السيرة وستظهر في طهارة السماء وسعادتها.
٩ «عَالِمِينَ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضاً. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ ٱلْمَوْتُ بَعْدُ».
رؤيا ١: ١٨
عَالِمِينَ أي متيقنين أننا نشترك في حياة المسيح لأننا نتيقن أنه حي لأن حياته أبدية وأنها مصدر حياة شعبه إلى الأبد.
أَنَّ ٱلْمَسِيحَ... لاَ يَمُوتُ أَيْضاً لأن موته اختياري لا من ضروريات طبيعته ولم يكن نتيجة ما على شخصه من مطاليب العدل الإلهي ولأنه حصّل بموته عن الخطأة طوعاً واختياراً كل ما قصد تحصيله فلذلك لم يبق من سبيل لتسلط الموت عليه بعد. وهذا كقوله «فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً» (عبرانيين ١٠: ١٠).
لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ ٱلْمَوْتُ بَعْدُ هذا بمعنى الجملة السابقة للتقرير والتوكيد. لم يكن للموت من سلطة على المسيح لو لم يخضع له بإرادته وقتياً لفدائنا. وقد أبان انتصاره على الموت في (أعمال ٢: ٢٤ و١كورنثوس ١٥: ٥٤ - ٥٧ ورؤيا ١: ١٨).
١٠ «لأَنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَٱلْحَيَاةُ ٱلَّتِي يَحْيَاهَا فَيَحْيَاهَا لِلّٰهِ».
عبرانيين ٩: ٢٦ و٢٨ لوقا ٢٠: ٣٨ وغلاطية ٢: ٢٠
لأَنَّ هذا تعليل لما ذُكر وهو أن الموت لا يسود على المسيح بعد.
ٱلْمَوْتَ... لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً أي الكفارة عنها ولملاشاة سلطتها على الناس فإنه أخذ على نفسه عقاب خطايا شعبه واحتمله يوم عُلّق على الصليب بذبيحة نفسه مرة واحدة فالموت لا يسود عليه بعد لأن الناموس استوفى حقوقه كلها. وكان لذبيحته تلك القيمة لكونه إلهاً وإنساناً فلم يكن من داع لتكريرها. وهذا اتضح في (عبرانيين ٧: ٢٧ و٩: ١٢ و١٠: ١٠ و١بطرس ٣: ١٨).
وَٱلْحَيَاةُ ٱلَّتِي يَحْيَاهَا فَيَحْيَاهَا لِلّٰهِ قيل هذا ليكون مثالاً للمؤمنين لأنه مات للخطيئة فيحيا لله أي لخدمته ومجده كذلك يجب على المسيحي أن يتحرر من الخطيئة ويقف نفسه لله.
ما قيل هنا من أن المسيح يحيا لله وهو في حال الارتفاع لا يفيد البتة أنه لم يكن يحيا لله في حال اتضاعه ومعناه أنه كان وقتئذ عرضة لسلطان الموت من أجل خطيئة شعبه وهو ليس كذلك بعدما قام من القبر وتمجّد مع الآب.
١١ «كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً ٱحْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتاً عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلٰكِنْ أَحْيَاءً لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا».
ع ٢ غلاطية ٢: ١٩
ٱحْسِبُوا لأن هذا الحسبان حق ولأنكم به تتعزّون وتتقوّون في حياتكم الروحية. وهذا النصح مبنيٌّ على ما برهنه سابقاً.
أَمْوَاتاً عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ أي متحررين من دينونتها وسلطانها بواسطة طاعة المسيح وموته. كان يحق لهم أن يحسبوا موت المسيح نائبهم عن الخطيئة كموتهم عنها حتى لم يبق أدنى علاقة بينهم وبينها وبذلك إثبات لتبريرهم. وحق لهم أيضاً أن يتخذوا موته للخطيئة مثالاً حتى يموتوا عنها كل يوم وهذا يحقق تقديسهم.
أَحْيَاءً لِلّٰهِ أي عليهم أن يحسبوا أنفسهم مكلفين أن يحبوا الله ويطيعوه ويمجدوه وأن يجعلوا ذلك غايتهم العظمى فهذه الحياة هي هبة الله (ع ٣٢) وهذه الحياة تشتمل على تجديد القلب والتبرير والتقديس التدريجي الذي يكمل عند دخولهم السماء.
بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي بالاتحاد به بالإيمان وهذا متعلق بالموت عن الخطيئة والحياة لله لأن المسيح والمؤمنين يتحدون في كل منهما فإننا تبرّرنا به ثم تقدّسنا.
النتيجة التي وصل الرسول إليها في هذا البحث أن الاعتراض المذكور في الآية الأولى باطل وأن تعليم التبرير بالإيمان لا يبيح للمؤمن ارتكاب الخطيئة ولا إهمال طلب القداسة.

فوائد



  • إن الحق لا يمكن أن يقود أحداً إلى الإثم فكل تعليم يبيح لتابعه المنكرات كانت إباحته ذلك دليلاً قاطعاً على فساده (ع ١ و٢).
  • إنه من الجهل والضلال ادعاء الإنسان أنه مسيحي وهو مستمر على ارتكاب ما يعرف أنه حرام فسيرة مثل هذا الإنسان إهانة للدين المسيحي وعثرة لغيره وافتراء على تعليم النعمة.
  • خلاصة تعليم الرسول في هذا الفصل أن غاية موت المسيح إبادة الخطيئة فضلاً عن تحصيل مغفرتها. فإذاً من البطلان أن نرجو الغفران ونحن لا نجتهد في الانتصار على الخطيئة واستئصالها (ع ٢ - ١١).
  • إنّا باعتمادنا نصرّح بإيماننا بالدين المسيحي وبأنه واجب علينا أن نطيع أوامره (ع ٣ و٤).
  • إن نيل المغفرة واسطة إلى نيل القداسة لا نيل القداسة واسطة إلى نيل المغفرة (ع ٤).
  • إن مصدر قداسة المؤمن اتحاده بالمسيح فإنه بهذا الاتحاد يتصالح مع الله ويحصل على تأثير الروح القدس (ع ٤ و٦).
  • إن كون المسيح حيّاً يؤكد أن شعبه يحيا معه في القداسة هنا والمجد أخيراً (ع ٨).
  • إن البرهان الوحيد القاطع على أننا اشتركنا في فوائد موت المسيح وحياته هو أن نموت عن الخطيئة ونحيا لله (ع ١١).
  • إن الإنجيل الذي صرّح بأن الخاطئ يتبرّر بالنعمة مجاناً هو الذي يحثه أكثر من سواه على طلب القداسة الكاملة وهو الوحيد الذي يبين له كيف ينالها. وذلك فحوى هذا الأصحاح والأصحاح الذي يليه.
  • إن كوننا في المسيح مصدر حياتنا الروحية وكوننا مثله بلوغ كل الصلاح وكوننا معه إصابة ملء المسرة (ع ٢ - ١١).



نصائح في طلب القداسة ع ١٢ - ٢٣


١٢ «إِذاً لاَ تَمْلِكَنَّ ٱلْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ ٱلْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِه».
مزمور ١٩: ١٣ و١١٩: ١٣٣
إِذاً أي ما يأتي نتيجة ما سبق من اتحاد المؤمنين بالمسيح في موته وحياته.
لاَ تَمْلِكَنَّ ٱلْخَطِيَّةُ مثّل الرسول الخطيئة بذات حياة وسلطان ومعنى العبارة لا تتركوا الخطيئة تستولي عليكم بل قاوموها وادفعوها لأن المؤمن متى قبل المسيح سيداً رفض سيادة الخطيئة. على أن الخطيئة مع كونها معزولة عن عرشها في قلبه لا تزل تجرّبه وتؤذيه وتجتهد في أن تخضعه وترجعه إلى عبوديتها. فإن لم يستطع أن يخرجها من قلبه كل الإخراج فهو قادر على أن يمنعها من أن تملك فيه كل التملك.
فِي جَسَدِكُمُ ٱلْمَائِتِ أي فيكم. فأراد الذات «بالجسد» هنا كما أرادها «بالأعضاء» في الآية الآتية. نعم أنه بواسطة الجسد نُظهر ما في نفوسنا من الخطايا وبواسطة شهواته نكون عرضة لارتكابها لكن الكتاب المقدس لم يعلّم قط أن الجسد مصدر الخطيئة أو مركزها. إن الجسد والروح متحدان في الإنسان حتى يصدق غالباً على أحدهما ما يقال على الآخر. فإذا قلنا أن الخطيئة تملك في الجسد لم ننكر أنه تملك في النفس أيضاً وإن قلنا أنها تملك في النفس لم ننف انها تظهر بواسطة الجسد. والمراد «بالمائت» هنا المائل إلى الخطيئة وأشار بها الرسول إلى العلاقة الشديدة بين الخطيئة والموت.
ذهب بعضهم إلى أن الرسول قصد بنعت الجسد بالمائت الإشارة إلى أن محاربتنا الخطيئة وقتية فقط أي ما دمنا في هذا الجسد المعرّض للموت لأن جسدنا المائل إلى الخطيئة يتغيّر بعد قليل فيكون جسداً ممجداً طاهراً غير عرضة للتجربة كجسد المسيح وربما كان هذا القول صحيحاً. ولعل الرسول قصد بيان جهل من يسلم للجسد المائت أن يستعبد النفس الخالدة للخطيئة والموت.
لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ أي تسمحوا لها بالانتصار عليكم بواسطة شهوات الجسد. ووصف الرسول هذه الشهوات في (غلاطية ٥: ١٩ - ٢١). والمراد بها الشهوات المحرمة وهي خطايا وإن لم تأخذ مفعولها بدليل قول المسيح في (متّى ٥: ٢٢ و٢٨).
١٣ «وَلاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ إِثْمٍ لِلْخَطِيَّةِ، بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ لِلّٰهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرٍّ لِلّٰهِ».
ص ٧: ٥ وكولوسي ٣: ٥ ويعقوب ٤: ١ ص ١٢: ١ و١بطرس ٢: ٢٤ و٤: ٢
لاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ أي أنفسكم كما أراد بالجسد المائت في (ع ١١). والأعضاء هنا تشتمل على كل قوى الإنسان جسدية وعقلية وقلبية. ومعنى العبارة لا تسلموا أن تكونوا باختياركم عبيداً للخطيئة.
آلاَتِ إِثْمٍ أي أدوات لارتكاب الإثم كاللسان للكذب واليد للسرقة أو القتل وهلمّ جراً.
لِلْخَطِيَّةِ أي لخدمة الخطيئة كأنها سيدة تنازع الله السيد الحق الملك والرئاسة بدليل مقابلتها به تعالى في ختام الآية.
بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ أي أجسادكم وأرواحكم لسيّدكم الحقّ وقدّموها دفعة تقديماً كاملاً. فلا يمكننا أن نترك خدمة الخطيئة والشيطان ما لم نأت بكل مقدرتنا خدمة لله تعالى.
كَأَحْيَاءٍ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ باعتبار أنكم قد كنتم أمواتاً في الخطيئة والله أحياكم وأقامكم من موتها وسائر نتائجها فعليكم أن تحيوا لمجده تعالى.
وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرٍّ لِلّٰهِ أي استخدموا أعضاءكم في عمل الصلاح لتمجيده كما استخدمتوها قبلاً في عمل الشر.
١٤ «فَإِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ».
ص ٧: ٤ و٦ و٨: ٢ وغلاطية ٥: ١٨ غلاطية ٤: ٢١
فَإِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ أي لا تعود إلى أن تسودكم لا سيادة تامة ولا سيادة أبدية. والفاء تعليل لقوله في الآية السابقة «قدموا ذواتكم لله» لأنه لا بد من أن ننتصر أخيراً في هذا الجهاد فشوكة الخطيئة كُسرت وانتصار المؤمنين تحقق بما عمله المسيح. نعم أن الإنسان القوي (أي الإثم) لم يزل داخل البيت (أي النفس) لكن قد دخل الذي هو أقوى منه (أي المسيح) وربطه وأخذ ينهب أمتعته (متّى ١٢: ٢٩) فالقداسة في قلب المسيحي بنعمة المسيح أقوى من الخطيئة الباقية فيه.
لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ هذا لا يصدق إلا على المؤمنين بالمسيح. «والناموس» هنا الشريعة الأدبية لا الموسوية. على أن المؤمنين تحت هذا الناموس باعتبار أنه مقياس الأعمال كما أن الملائكة تحته بهذا الاعتبار لكنهم ليسوا تحت الناموس باعتبار أنه علّة تبريرهم الآن وخلاصهم أخيراً لأنهم تحت النعمة. إن الناموس يقول «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ» (غلاطية ٣: ١٠). فكل إنسان أراد أن يتبرّر بطاعته الناموس يُدان لا محالة لأن الناموس يطلب الطاعة الكاملة التي لا يستطيعها أحد من البشر. ومن ابتغى الخلاص بالناموس فخدمته لله خدمة خوف كخدمة العبد لمولاه. وأما المؤمن فيطيع الله كابن حباً للمسيح الذي غفر خطاياه وبرّره بطاعته الكاملة وموته.
ولنا على إثبات أن المراد هنا «بالناموس» الشريعة الأدبية لا الموسوية ثلاثة أمور:

  • الأول: إن ذلك على وفق تعليم الإنجيل أن المسيح بطاعته وموته أكمل عنا الناموس الأدبي ولم يقل أنه أكمل عنا مجرد الناموس الموسوي.
  • الثاني: إن رفع وجوب حفظ الناموس الموسوي لا يحقق تقديسنا لأنه يمكن أن يترك اليهودي الناموس الموسوي ولا يكون خليقة جديدة بيسوع المسيح.
  • الثالث: إن المقابلة هنا هي بين الناموس والنعمة فالذي ليس تحت أحدهما هو تحت الآخر وعدم كونه تحت الناموس الموسوي لا يلزم منه أن يكون تحت النعمة لأنه ربما كان تحت ناموس آخر من نواميس الأعمال.


قوله هنا «إنا لسنا تحت الناموس» تعزية لنا وتقوية لرجائنا التقديس لأن الناموس عجز عن أن يقدس المؤمن لأنه يعظم خطيئته وشعوره بها (ص ٥: ٢٠ و٢١).
بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ التي تعِد الخاطئ أنه يتبرّر بالإيمان دون أعمال الناموس ويتقدس بسكن الروح القدس فيه. وسُميت هذه النعمة «نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (ص ٨: ٢) و «المخلّصة لجميع الناس» (تيطس ٢: ١١) و «تَمْلِكُ بِٱلْبِرِّ، لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (ص ٥: ٢١). ولنا من هذه الآية أن الذين تحت الناموس تسودهم الخطيئة وهذا فحوى الأصحاح السابع من هذه الرسالة وأنها لا تسود الذين تحت النعمة لكنهم ينتصرون عليها وهذا فحوى الأصحاح الثامن.
١٥ «فَمَاذَا إِذاً؟ أَنُخْطِئُ لأَنَّنَا لَسْنَا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ؟ حَاشَا!».
١كورنثوس ٩: ٢١
فَمَاذَا إِذاً؟ أي فما النتيجة التي وصلنا إليها.
أَنُخْطِئُ لأَنَّنَا... تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ؟ هذا السؤال كالسؤال في أول هذا الأصحاح والاختلاف في اللفظ فإنه أتاه هناك لكي يبيّن بجوابه أن كون الغفران مجاناً لا يبيح للخاطئ الاستمرار على الخطيئة. وأتاه هنا لكي يبين أن التحرر بالناموس لا يبيح له ذلك فكأنه قال هل تخطئ بلا مانع ولا خوف لكوننا تبرّرنا بالنعمة مجاناً ولكوننا لسنا تحت الناموس الذي ينهي عن الخطيئة وينذر الخطأة بالعقاب باعتبار أنه علّة خلاصنا ولكوننا تحت النعمة التي تعد بالغفران مجاناً.
حَاشَا! هذا إنكار أن تعليم التحرير من الناموس يبيح ارتكاب الإثم وعلّة هذا الإنكار بيّنها الرسول في ما يأتي بإثباته أنه لا يمكن المؤمن الذي غُفرت خطاياه أن يمارس الخطيئة لأنه قد صار عبداً للمسيح فيستحيل أن يكون مع ذلك عبداً للخطيئة.
١٦ «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلَّذِي تُقَدِّمُونَ ذَوَاتِكُمْ لَهُ عَبِيداً لِلطَّاعَةِ، أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ، إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ؟».
متّى ٦: ٢٤ ويوحنا ٨: ٣٤ و٢بطرس ٢: ١٩
أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أي أنكم تعلمون لا محالة لأن كل إنسان يعرف النسبة بين العبيد والسادة يعرف حقيقة ما سيقوله.
أَنَّ ٱلَّذِي تُقَدِّمُونَ ذَوَاتِكُمْ... عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ أي أيُّ سيد اخترناه صرنا عبيداً له وحده. وهذا مثل قول المسيح «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين» (متّى ٦: ٢٤). ومن مقتضيات العبودية أن يكون خضوع العبد لسيده تاماً ودائماً فيترك مشيئته ويسلّم في كل شيء لإرادة السيد فيخدمه كل حياته لا وقتاً منها. ومن الواضح أن مثل هذه الخدمة لا يمكن تقديمها إلا لسيد واحد.
إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ مثل الخطيئة والبر بسيدين لا ثالث لهما فلزم أن يخدم الإنسان إما هذا وإما ذاك فمرتكب الخطيئة اختياراً هو عبد لها وتحت سلطانها لا يحرر نفسه من رقها. نعم ربما كره عبوديته وربما حثه عقله وضميره أن يطرح عنه نيرها لكنه لا يفعل ذلك. وهذا يصدق في أمر الخاطئ مع أن نتيجة خدمة الخطيئة هي الموت الروحي إلى الأبد بدليل قوله «أجرة الخطيئة هي موت» (ع ٢٣). وتلك العبودية اختيارية ولذلك يعاقب أهلها على ما يرتكبونه. وما يصدق في أمر الخدمة إطاعة للخطيئة يصدق في شأن الخدمة إطاعة لله. والطاعة في الآية هي عكس الخطية التي هي التعدي على الله. ولا بد من أن المسيحي بالحق يطيع سيده الجديد القدوس لأن المؤثرات الروحية المحيطة به تحمله على تلك الطاعة وضميره وعقله يحثانه عليها ولذلك يعبد الله طوعاً واختياراً فعبوديته بمنزلة الحرية.
ومعنى البرّ المتعلق بالطاعة في الآية قداسة القلب التامة التي نحصل عليها حين نحصل على الحياة الأبدية وعبّر عنها الرسول هنا بالبر كأنهما رديفان للحياة الأبدية وهي عكس الموت الروحي الأبدي الذي هو أجرة الخطيئة. وخلاصة هذه الآية أن تعليم التبرير لا يبيح ارتكاب الخطيئة فإنه يستحيل أن الخطأة الذين غُفرت خطاياهم يستمرون على الخطيئة استحالة اجتماع الضدّين.
١٧ «فَشُكْراً لِلّٰهِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيداً لِلْخَطِيَّةِ، وَلٰكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ ٱلْقَلْبِ صُورَةَ ٱلتَّعْلِيمِ ٱلَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا».
٢تيموثاوس ١: ١٣
فَشُكْراً لِلّٰهِ شكر الرسول الله في هذه الآية على أنه ما صدق على المسيحيين الحقيقيين عموماً يصدق على أهل رومية خاصة. وثبت قوله بشهادة اختبارهم لأن تعليم النعمة لم يحملهم على الاستمرار على الإثم لكنهم لما تحرروا من العبودية للخطيئة أخذوا يخدمون الله الذي العبودية له حرية.
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيداً لِلْخَطِيَّةِ الكلمة ذات الشأن في هذه العبارة «كنتم» ومعناها أن عبوديتهم للخطيئة أمر قد مضى. فشكر الرسول الله على أن ذلك لم يكن حالهم الحاضرة وعلى أنهم تجددوا فلا يمكن أن يكون موضوع سروره وشكره كونهم استُعبدوا للإثم قبلاً ولكن عتق أسرى الخطيئة من رقها ورق الشيطان هو موضوع المسرّة والشكر لكل مسيحي لانتفاعهم وانتفاع غيرهم بذلك.
وَلٰكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ ٱلْقَلْبِ هذا موضوع شكر الرسول في هذه الآية فإن إطاعتهم لسيدهم الجديد كانت خالصة اختيارية لا مجرد صورة. والإطاعة للحق من القلب دليل قاطع على تجديده فالديانة الخالية من مثل هذه الطاعة باطلة. وخروجهم من سلطة السيد الأول إلى سلطة السيد الثاني لم يكن إلا بشدة الاجتهاد ومعونة الله.
صُورَةَ ٱلتَّعْلِيمِ ٱلَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا أي الإنجيل أو الدين المسيحي الذي يُعلم أننا نتبرّر مجاناً بالإيمان بيسوع المسيح وأن نطيع المسيح رباً كما نتكل عليه فادياً. وسُمي الإنجيل «بصورة التعليم» هنا التعليم ذاته باعتبار ترتيبه عقائد وأعمالاً. وهذا التعليم من وحي الله ولكنه وصل إليها بوسائط بشرية أي بأناس ملهمين. وهو وسيلة خلاص لمن يقبلونه ويطيعونه كما أطاعه ميسحيو رومية من القلب. وقال «أسلمتم إليها» لأن كثيرين منهم كانوا وثنيين وبعضهم كانوا يهوداً وكانوا جميعاً عبيداً للباطل فأرشدوا بنعمة الله إلى الحق وأدخلوا في الدين المسيحي.
١٨ «وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ صِرْتُمْ عَبِيداً لِلْبِرّ».
يوحنا ٨: ٣٢ و١كورنثوس ٧: ٢٢ وغلاطية ٥: ١ و١بطرس ٢: ١٦
هذه الآية بيان لما أشار إليه بالآية السابعة عشرة من نقلهم من خدمة سيد إلى سيد آخر والمعنى أنهم أطاعوا تعليم الإنجيل إذ تحرروا من عبودية الخطيئة ودخلوا في خدمة البرّ. وقد مثّل كلاً من الخطيئة والبرّ بسيد كما في (ع ١٦). وصرّح هنا بأن ما حدث لهم ليس باستقلال بل تغيير خدمة وأنه من المحال أن يخدموا الإثم لأنهم ارتبطوا بخدمة غيره. فقوله «صرتم عبيداً للبر» لا ينافي كونهم قد حصلوا على أفضل الحرية لأن العبودية للبرّ على وفق قوانين العقل والضمير وفيها السرور التام. وهذا مثل قول المسيح «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ ٱلابْنُ فَبِٱلْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً» (يوحنا ٨: ٣٦ قابل هذا بما في ١كورنثوس ٧: ٢٢).
١٩ «أَتَكَلَّمُ إِنْسَانِيّاً مِنْ أَجْلِ ضُعْفِ جَسَدِكُمْ. لأَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلنَّجَاسَةِ وَٱلإِثْمِ لِلإِثْمِ، هٰكَذَا ٱلآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ».
أَتَكَلَّمُ إِنْسَانِيّاً أي اتخذ في كلامي الأسلوب الذي يتخذه كل الناس من التمثيل فقولي مجاز مألوف بين الناس أوضح به حقيقة روحية. والمعنى أن الرسول ضرب نسبة العبد إلى سيده (في ع ١٦ - ١٨). مثلاً لنسبة المؤمن إلى الله. فكما أن العبد مجبر على إطاعة سيده كذلك المسيحي لأنه لا بد من أن يطيع الله. أما العبد فيطيع سيده على رغمه وأما المسيحي فيطيع ربه باختيار وسرور ولكن أُطلق العبد على كليهما لتحقق طاعة كل منهما لسيده.
مِنْ أَجْلِ ضُعْفِ جَسَدِكُمْ أي طبيعتكم البشرية ونسب «الضعف» إليها لكونهم كانوا أكثر ما يهتمون بالأمور المادية وكانوا كأطفال في الروحيات فلم يكونوا قادرين على إدراك الحقائق الروحية بدون مثل مبني على الأمور المتعارفة بين الناس. وهذه العبارة تعليل لتسميته المؤمنين «عيبداً للبر».
كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ معنى الأعضاء هنا كمعناها في (ع ١٣) وهو كل قوى الإنسان لأن الأعضاء آلاتها. وكان المخاطبون قد استعملوها قبل الإيمان لخدمة الخطيئة.
عَبِيداً لِلنَّجَاسَةِ أكثر ما يصدق هذا على الذين كانوا قبل إيمانهم وثنيين. واستوفى الرسول الكلام على هذه النجاسة في الأصحاح الأول من هذه الرسالة. وكل الذين يطيعون الشهوات المحرمة عبيد للنجاسة لأنهم دنّسوا أنفسهم.
وَٱلإِثْمِ ما يعده الناس نجاسة يعده الله إثماً لأنه تعدٍّ على شريعته الظاهرة.
لِلإِثْمِ أي طوعاً له لأنه كان سيدهم. والخلاصة أن أعمالهم الظاهرة كانت على وفق عبوديتهم الباطنة.
هٰكَذَا ٱلآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلْبِرِّ لأن ذلك ما يليق ويجب عليكم بعدما خرجتم من خدمة الخطيئة إلى خدمة البرّ. فأقل ما يجب عليكم أن تُظهروا من النشاط والغيرة في خدمة المسيح سيدكم الجديد الذي اشتراكم بدمه لكي تنالوا الحياة الأبدية ما أظهرتموه منهما قبل الإيمان للشيطان سيدكم القديم الذي رغب في إهلاككم. فكان عليهم أن يأتوا ذلك حباً لله ورغبة في القداسة وامتداد ملكوت المسيح في العالم. وقال «قدموا أعضائكم» لأنها آلات للقيام بما يقصدونه من الأعمال.
لِلْقَدَاسَةِ أي التمثل التام بالله في الطهارة الروحية وهذا جعالة المسيحي في جهاد هذه الحياة وما يهبه الله للذي اختار البرّ سيداً.
٢٠ «لأَنَّكُمْ لَمَّا كُنْتُمْ عَبِيدَ ٱلْخَطِيَّةِ كُنْتُمْ أَحْرَاراً مِنَ ٱلْبِرِّ».
يوحنا ٩: ٣٤
ما في هذه الآية إثبات لقوله «كما خدمتم الإثم يجب أن تخدموا البر» ومعناها أنه كما أنكم لم تحسبوا أنكم مكلفون بخدمة البرّ البتة وأنتم عبيد الخطيئة يجب أن لا تحسبوا أنكم مكلفون بخدمة الخطيئة البتة وأنتم عبيد للبر.
أَحْرَاراً مِنَ ٱلْبِرِّ بمقتضى حسبانكم وسيرتكم يومئذ لأنكم كنتم عبيداً لسيد آخر (هو الإثم) فسلكتكم بلا التفات إلى أوامر البر. وخلاصة المعنى أنهم كانوا خالين من القداسة. فلم يقصد أنهم كانوا وقتئذ غير مكلفين بإطاعة البرّ لأن ذلك لا يصدق على أحد من العقلاء في كل خليقة الله. والحق أن التحرر من البرّ أردأ عبودية لشّر السادة. وهذه الآية تعليل لما مرّ في الآية التاسعة عشرة. والنتيجة وجوب أن يعدلوا كل العدول عن خدمة الخطيئة ويستفرغوا المجهود في خدمة البرّ مقابلة لما أتوه وهم عبيد للإثم.
٢١ «فَأَيُّ ثَمَرٍ كَانَ لَكُمْ حِينَئِذٍ مِنَ ٱلأُمُورِ ٱلَّتِي تَسْتَحُونَ بِهَا ٱلآنَ؟ لأَنَّ نِهَايَةَ تِلْكَ ٱلأُمُورِ هِيَ ٱلْمَوْت».
ص ٧: ٥ ص ١: ٣٢
فحوى هذه الآية أن اختبار المسيحيين نتائج خدمة الإثم الرديئة مما يحملهم على كراهة تعريض أنفسهم لها ثانية.
فَأَيُّ ثَمَرٍ كَانَ لَكُمْ حِينَئِذٍ مِنَ ٱلأُمُورِ الاستفهام إنكاري فالمعنى أنكم لم تنتفعوا شيئاً من خدمة الخطيئة لأن كل مواعيدها كذب. وأقام الرسول ذلك دليلاً على أن الخطأة الذين غُفرت آثامهم لا يرجعون إلى ارتكاب الإثم إذ اختبروا بطلان خدمته وجهل خادمه.
ٱلَّتِي تَسْتَحُونَ بِهَا ٱلآنَ؟ بعد ما تجددتم واستنارت عقولكم وضمائركم بكلمة الله وأظهر لكم الروح القدس أن أعمالكم السابقة قبيحة لا تليق بكم. وهذا مثل قوله «لاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ ٱلظُّلْمَةِ غَيْرِ ٱلْمُثْمِرَةِ بَلْ بِٱلْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا. لأَنَّ ٱلأُمُورَ ٱلْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أَيْضاً قَبِيحٌ» (أفسس ٥: ١١ و١٢ انظر أيضاً ٢كورنثوس ٤: ٢ وفيلبي ٣: ١٩ ويهوذا ١٣).
لأَنَّ نِهَايَةَ... ٱلْمَوْتُ لا مجرد موت الجسد الذي يعم الأخيار والأشرار بل موت النفس أيضاً أي الهلاك الأبدي. فنتج مما ذُكر أن الخطيئة لا تنفع عبيدها في هذه الحياة وأنها تلقيهم في هاوية الهلاك في الحياة الآتية فوجب أن لا يرجعوا إليها.
٢٢ «وَأَمَّا ٱلآنَ إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ، وَصِرْتُمْ عَبِيداً لِلّٰهِ، فَلَكُمْ ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ، وَٱلنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ».
يوحنا ٨: ٣٢
أُعْتِقْتُمْ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ أي نجوتم من عبوديتها فإن إيمانكم قد غير نسبتكم إلى كل من السيدين فالتي كانت بينهم وبين الواحد صارت بينهم وبين الآخر.
إن المؤمنين لا يتحررون من عبودية الإثم دفعة بل تدرجاً فإنهم رفضوا سيادته وقاوموه فإن أخطأوا أخطأوا كرهاً لا اختياراً. فإن الإثم بطل أن يكون رب البيت لكنه بقي فيه على رغم صاحبه يكدره ويؤذيه فلا يتخلص منه إلا عند الموت لكنه تحرر من دينونته عندما آمن.
وَصِرْتُمْ عَبِيداً لِلّٰهِ هذه مرة رابعة في هذا الأصحاح نسب ذلك إلى المؤمنين لأن قوله «عبيد للبر» بمعنى قوله «عبيداً لله» لأنه لا يمكن أن يكون أحدهما بدون الآخر. وكان الرسول مولعاً بتسميته نفسه «عبداً لله» (ص ١: ١ و١كورنثوس ٧: ٢٢ و٢كورنثوس ١٠: ٧ وغلاطية ١: ١٠ وفيلبي ١: ١ وتيطس ١: ١).
إن المؤمنين لم يزالوا بعد إيمانهم عبيداً لكونهم عبيد لله وللقداسة. وعبوديتهم اختيارية سارة لا دناءة فيها بل شرف وفخر عظيم. ورضوها لأنها على وفق أحكام عقولهم وضمائرهم ودعاهم إليها شكرهم القلبي وتأثيرات الروح القدس.
ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ أخذ بولس يذكر هنا بعض أثمار الإيمان المباركة وذكر باقيها في (ص ٨) وما ذكره هنا القداسة لأن طهارة القلب أول نتائج تحرّر المؤمن من الخطيئة وطاعته للبرّ.
وَٱلنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ هذه الحياة آخر نتائج الخدمة لله وكثيراً ما عُبر عنها بالخلاص وهي تشتمل على كل الخيرات الجسدية والروحية وأعظمها نيل المؤمن رضى الله وتمتعه به إلى الأبد.
٢٣ «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا».
تكوين ٢: ١٧ وص ٥: ١٢ ويعقوب ١: ١٥ ص ٢: ٧ و٥: ١٧ و٢١ و١بطرس ١: ٤
ما في هذه الآية إثبات لما في (ع ٢١ و٢٢) ومقابلة نتائج الخدمتين.
لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ معنى اللفظة اليونانية المترجمة هنا بالأجرة هو ما يأخذه الجندي بحق على خدمته العسكرية. وكون الموت أجرة الخطيئة يشير إلى أنه لا يجازي الخاطئ به ظلماً بل أنه مما استحقه عدلاً. فالخاطئ مجبر لاختياره خدمة الإثم أن يأخذ نتيجته الطبيعية والله لا بد من أن يُعطي الخاطئ الأجرة التي يستحقها لكونه قاضياً عادلاً فلا يمكن أن يعفو عنه بلا كفارة.
إن الله قد صرّح في كتابه بحقيقة أجرة الخطيئة بقوله «اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٤). فالموت هو العقاب المعيّن على المعصية ولم يُعاقب خاطئ ولن يُعاقب بأكثر مما يستحق.
والموت في هذه الآية خلاف الحياة الأبدية في الآية السابقة فيشمل فقدان كل خير ووجدان وكل شر وهو دائم كالحياة السماوية التي هي ضدّه فإن كانت لإحداهما نهاية كانت للآخر.
وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ جزاء البرّ مؤكد كجزاء الخطيئة لكن علّة هذا غير علّة ذاك فإن الخطيئة توجب الموت وأما البرّ فليس كذلك فإن جزاءه هبة لا أجرة. فكل ما يناله المؤمن ليس سوى نعمة مجانية. وواهب الحياة هو الله لأنه بذل ابنه ذبيحة عن الإثم ووهب الروح القدس وكلمته المقدسة فهو يهب للمؤمن الإيمان والمحبة والقداسة والثبات والسماء أخيراً.
بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا هو واسطة نيلنا تلك الهبة بموته واستحقاقه وشفاعته. وله الحياة الأبدية لأنه إله كما أنه إنسان فكل من اتحد به بالإيمان يشاركه في حياته.

فوائد



  • إن الأمر الجوهري في هذا الفصل أن تأثير تعليم «التبرير بالنعمة» هو التقديس لا إباحة ارتكاب الخطيئة وذلك لأن الشكر لله والمحبة له والرغبة في تمجيده تحمل المؤمن على الطاعة. وهذه العواطف المقدسة تنشأ في قلبه بفعل الروح القدس عندما يؤمن. فالذي يتكل على أعماله الصالحة لنيله الخلاص يطيع الناموس خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب. فطاعة الأول طاعة الابن وطاعة الثاني طاعة العبد (ع ١٤).
  • إن الخطأة عبيد سيدهم الشيطان يتخذ كل قواهم آلات للإثم وعبوديتهم تزيد ثقلاً على توالي الأيام وقيودهم تزيد قوة وأجرتهم منه الموت وليس بالناموس نجاة من تلك العبودية إنما هي بيسوع المسيح (ع ١٢ - ١٦).
  • إن المؤمنين عبيد سيدهم الله وقفوا أنفسهم وكل قواهم له لتشتد رُبط المحبة والأمانة بينهم وبين الله يوماً فيوماً وثوابهم منه الحياة الأبدية (ع ١٢ - ١٦).
  • إن الإنسان متى تاب وآمن يترك خدمة الشيطان وحينئذ ينتهي سلطان هذا السيد العتيق عليه ويبتدئ سلطان الله سيده الجديد. وهذا الانقلاب العظيم يجعل استمراره على الإثم محالاً فلا حق لنا أن ندعي إنا أعطينا قلوبنا لله ونحن نشغل عقولنا وأيدينا وأرجلنا بخدمة الشيطان (ع ١٥ - ١٨).
  • إن الدين المسيحي يوجب على المؤمن النشاط ووقف كل قواه لله آلات للخير فليس في الإنجيل آية تفيد أن مجرد إقرار الإنسان بإيمانه وباتكاله على المسيح للخلاص كاف لنجاته دون استفراغ مجهوده في مقاومة الخطيئة وممارسة القداسة والاجتهاد في نفع غيره وفي تمجيد الله (ع ١٢ و١٣).
  • إن مصير عبيد الإثم خدماً للبرّ ليس إلا بمجرد نعمة الله فيجب أن يُعطى كل المجد والشكر.
  • إن الإنسان على قدر اشتداد عبوديته للإثم وزيادة دناءته يتوهم أنه حرّ ويفتخر بنفسه ولكن متى تحرر حقاً وزاد أدباً وتقوى زاد تواضعاً وشكراً لله.
  • إن الموت أجرة الخطيئة بمقتضى الطبع وحكم الله لأنه بالخطيئة انقطعت الصلة بين الخاطئ والله الذي هو مصدر الحياة. وتأثير ارتكاب الإثم في الأثيم إماتة الضمير وكل ما شرف من عواطف الإنسان وإنشاء الانفعالات المهلكة للسعادة فالخطيئة سمٌّ قاتل للنفس.
  • إن الحياة الأبدية هبة لا يستحقها أحد من الناس وربما استحقها الملائكة القديسون لا الخطأة المفديون. وهذه الحياة لا تنفك عن أن تكون هبة في كل أحوالها في أول أمرها حين غفرت للمؤمن خطاياه وحين انسكب عليه الروح القدس ليقاوم الخطيئة وينمو في القداسة وفي غاية كمالها حين يُكلل بالمجد.




الأصحاح السابع

فحوى هذا الأصحاح


أبان الرسول في ما سبق أن لا برّ بالناموس وأن الإنسان لا يتبرّر ما لم يتحرر (ص ٣: ٢١ - ص ٤) وأخذ هنا يبيّن أن لا تقديس بالناموس وأن الإنسان لا يتقدس ما لم يتحرر منه وأن الناموس وإن كان مقدساً لا يستطيع أن يقدس الإنسان. وبرهن ذلك باختباره من نفسه أن الناموس عجز عن أن ينقذه من سلطان الخطيئة وأنه لم ينتصر في محاربته للخطيئة إلا بالرب يسوع المسيح.
تثبيت الرسول تعليمه في (ص ٦: ١٤) إن المؤمنين محررون من الناموس بتمثيله بناموس الزيجة ع ١ إلى ٦


١ «أَمْ تَجْهَلُونَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ لأَنِّي أُكَلِّمُ ٱلْعَارِفِينَ بِٱلنَّامُوسِ أَنَّ ٱلنَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى ٱلإِنْسَانِ مَا دَامَ حَيّاً».
أَمْ تَجْهَلُونَ أي أنكم تعلمون حسناً (قابل هذا بما في ص ٦: ٣).
أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أي الأنسباء الروحيون بقطع النظر عن كونهم يهوداً أو أمماً قبل الإيمان (ص ١: ١٣ و١٢: ١٠).
أُكَلِّمُ ٱلْعَارِفِينَ بِٱلنَّامُوسِ الأدبي الإلهي المعلن بكل إيضاح في كتب اليهود الإلهية. لم يقصد بالعارفين به مؤمني اليهود وحدهم الذين عرفوه منذ الصغر فلا ينتج من هذا أن أكثر الكنيسة كان من اليهود. إنما قصد كل المؤمنين من اليهود والأمم. ولعل أكثر الأمم الذين كانوا في الكنيسة المسيحية يومئذ كانوا قبل تنصرهم يهوداً دخلاء عرفوا الناموس بمعاشرتهم اليهود وسمعهم أقواله حين كانوا يقرأونه في اجتماعاتهم الدينية.
أَنَّ ٱلنَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى ٱلإِنْسَانِ الخ مثّل الرسول الناموس بذي سلطان «وال» في الإنسان لاستغراق الجنس فكل إنسان تحت ناموس ما مكلف بطاعته إياه مدة حياته يتحرر منه عند موته. وأمثلة ذلك كثيرة منها الولد والوالد والرعية والراعي والعبد والسيد.
٢ «فَإِنَّ ٱلْمَرْأَةَ ٱلَّتِي تَحْتَ رَجُلٍ هِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِٱلنَّامُوسِ بِٱلرَّجُلِ ٱلْحَيِّ. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَ ٱلرَّجُلُ فَقَدْ تَحَرَّرَتْ مِنْ نَامُوسِ ٱلرَّجُلِ».
١كورنثوس ٧: ٣٩
هذه الآية مثال للمبدإ في الآية الأولى وهو أن الموت يفك الرباط الذي يُربط به الإنسان مدة حياته.
تَحْتَ رَجُلٍ أي تحت سيادته يعني متزوجة.
هِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِٱلنَّامُوسِ بِٱلرَّجُلِ ٱلْحَيِّ أي مكلفة بكل ما يأمرها ناموس الله من المحبة والإكرام والمساعدة لرجلها ما دام حياً (أفسس ٥: ٢٣ و٣٣).
إِنْ مَاتَ... تَحَرَّرَتْ مِنْ نَامُوسِ ٱلرَّجُلِ أي الناموس الذي بمقتضاه صارت المرأة لرجلها خاصة وتحت سلطته.
فإن قيل يمكن المرأة أن تتحرر بتطليقها زوجها قلنا ليس في ناموس موسى من سبيل للمرأة إلى ذلك كما للرجل سبيل إلى تطليق زوجته (تثنية ٢٤: ١ و٢). على أن سبيل الرجل إلى ذلك لم يكن في ترتيب الله الأصلي كما صرّح المسيح نفسه (متّى ١٩: ٨ - ١٠).
٣ «فَإِذاً مَا دَامَ ٱلرَّجُلُ حَيّاً تُدْعَى زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَرَ. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَ ٱلرَّجُلُ فَهِيَ حُرَّةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ، حَتَّى إِنَّهَا لَيْسَتْ زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَرَ».
متّى ٥: ٣٢
ما في هذه الآية نتيجة الآية الثانية.
تُدْعَى زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَرَ بموجب الشريعة الموسوية وتُرجم إلى أن تموت (لاويين ٢١: ١٠) فلا يجوز أن تقترن بآخر ورجلها حيٌّ.
فَهِيَ حُرَّةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ الذي ربطها بالرجل باعتبار أنها زوجته.
لَيْسَتْ زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَر برهن الرسول بهذا أن المرأة تُحرّر تمام الحرّية من زوجها الأصلي بمنزلة الناموس.
٤ «إِذاً يَا إِخْوَتِي أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ مُتُّمْ لِلنَّامُوسِ بِجَسَدِ ٱلْمَسِيحِ، لِكَيْ تَصِيرُوا لِآخَرَ، لِلَّذِي قَدْ أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لِنُثْمِرَ لِلّٰهِ».
ص ٨: ٢ وغلاطية ٢: ١٩ و٥: ١٨ وأفسس ٢: ١٥ وكولوسي ٢: ١٤ غلاطية ٥: ٢٢
هذه الآية إيضاح للتمثيل في (ع ٢ و٣).
أَنْتُمْ أَيْضاً يصحّ عليكم بالنظر إلى الناموس ما صح على المرأة بالنظر إلى رجلها هي تحرّرت من زوجها بموته وأنتم تحرّرتم من الناموس بموت المسيح. كان الناموس بمنزلة الزوج إلى أن جاء المسيح فكان على الناس أن يقوموا بكل فروضه وسننه.
مبدأ احتجاج الرسول أن الموت يحل كل رُبط الناموس بين الحيّ والميت فإذاً لا فرق في الحجة على المطلوب هنا أن يتحرر المؤمن بموته عن الشريعة أو بموت الشريعة عنه فاستحسن الرسول الوجه الأول أي موت الإنسان عن الشريعة لأن اليهود ينفرون من القول أن الناموس مات ولأن قوله «إننا صلبنا مع المسيح» (ص ٦: ٦) يلزم منه إنا نحن نموت لا الناموس.
قَدْ مُتُّمْ لِلنَّامُوسِ أي حين آمنتم تحرّرتم من وجوب طاعتكم للناموس (لكي تتبرّروا) وحق لكم أن تقبلوا الإنجيل. والناموس هنا هو الناموس الأدبي لا الموسوي (أي الرمزي) فهو يطلب الطاعة الكاملة شرطاً لنيل الخلاص (ص ١٠: ٥ وغلاطية ٣: ١٠). فالناموس مقدّس وعادل وصالح (ع ١٢) وروحي (ع ١٤). وتحرّرنا منه باعتبار كونه واسطة التبرير والخلاص لا باعتبار أنه قانون الحياة والسيرة. والدليل على أن الناموس هنا ليس الناموس الموسوي أن الرسوم الموسوية جزء صغير مما تحرّرنا منه بالفداء بيسوع المسيح. ولو صُرّح لنا (ونحن نخاف غضب الله على الخطأة) بأننا تحرّرنا مما علينا من الدينونة لتعدّينا ناموس موسى فقط لكانت تعزيتنا قليلة.
بِجَسَدِ ٱلْمَسِيحِ الذي صُلب ومات كفارة عنا (ص ٣: ٢٥). فالمسيح مات نائباً عنّا وموته علّة تبريرنا ونحن متنا معه (ص ٦: ٦ - ٨) فإنه «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا» (غلاطية ٣: ١٣). «لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ» (أفسس ١: ٧ و٢: ١٣) «مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا» (أفسس ٢: ١٥). وكل هذه الأقوال بمعنىً واحد وهو أن المسيح أوفى بآلامه وموته ما علينا للناموس أي مطاليب العدل الإلهي وبذلك نجانا من العقاب الذي أوجبه الناموس علينا وحرّرنا من وجوب طاعته لنيل الخلاص.
لِكَيْ تَصِيرُوا لآخَرَ هذا هو الغاية الأولى والثانية في آخر الآية وهي الإثمار لله. ومعنى العبارة هنا أن يتحدوا بالمسيح بالإيمان والمحبة ويعاهدوه بالطاعة له والاتكال عليه. ويتبين من هذا أن نتيجة التبرير بالإيمان هو التقديس لا إباحة ارتكاب الإثم. ولم يزل الرسول هنا يشير إلى أن نسبة المسيح إلى المؤمن كنسبة الزوج إلى الزوجة أي أن المسيح للكنيسة التي تحرّرت من الناموس بموتها له (بموت المسيح). وهذا مثل قول الملاك ليوحنا «هَلُمَّ فَأُرِيَكَ ٱلْعَرُوسَ ٱمْرَأَةَ ٱلْحَمَلِ» (رؤيا ٢١: ٩ انظر أيضاً أفسس ٥: ٢٣ و٣٠ ورؤيا ١٩: ٧).
قَدْ أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ ذكره الرسول سابقاً باعتبار كونه ميتاً وقال هنا «إنه أُقيم من الأموات» لكي يناسب أن يُقال إننا الآن متحدون به بالإيمان. فالمسيح حي ومحي ونحن نتحد به بالإيمان وبالروح القدس الساكن فينا.
لِنُثْمِرَ لِلّٰهِ هذا هو الغاية الثانية من تحررنا من الناموس ومعنى «إثمارنا لله» أن يتمجد الله بقداستنا وقصد الرسول من هذا التمثيل التوصل إلى هذه النتيجية وخلاصتها أن المتحدين بالمسيح بالإيمان يثمرون لله.
٥ «لأَنَّهُ لَمَّا كُنَّا فِي ٱلْجَسَدِ كَانَتْ أَهْوَاءُ ٱلْخَطَايَا ٱلَّتِي بِٱلنَّامُوسِ تَعْمَلُ فِي أَعْضَائِنَا، لِكَيْ نُثْمِرَ لِلْمَوْتِ».
ص ٦: ١٣ ص ٦: ٢١ وغلاطية ٥: ١٩ ويعقوب ١: ١٥
لأَنَّهُ تعليل لإثبات وجوب الإثمار لله.
لَمَّا كُنَّا فِي ٱلْجَسَدِ أي في الحال الطبيعية غير متجددي القلوب. فمعنى «الجسد» هنا كمعناه في قول المسيح لنيقوديموس «اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ» (يوحنا ٣: ٦). وكنا حينئذ تحت الناموس أي متكلين عليه في تبريرنا وكنا عبيداً للرسوم الخارجية كالختان والغسل وتمييز الأطعمة (غلاطية ٤: ٣).
أَهْوَاءُ ٱلْخَطَايَا أي الشهوات المهيجة على ارتكاب الخطايا الظاهرة بالأعمال الشريرة كالحسد والبغض والحقد والكبرياء والطمع فضلاً عن الأهواء التي تحمل على السكر والشراهة والفجور (غلاطية ٥: ٢٤).
ٱلَّتِي بِٱلنَّامُوسِ أي التي أظهر الناموس أنها خطايا وكان علّة لتهييح قلوبنا المتمردة على العصيان كما أوضح في (ع ٧ و٨).
تَعْمَلُ فِي أَعْضَائِنَا أي فينا روحاً وجسداً. وقيل في «أعضائنا» الجسدية باعتبار كونها آلات الروح كما سبق الكلام في تفسير (ص ٦: ١٣ و١٩).
لِكَيْ نُثْمِرَ لِلْمَوْتِ هذا نتيجة عمل الخاطئ لا مقصده وهو ضد ما قيل في الآية الرابعة على قصد المؤمن أن يثمر لله. ومثل بولس الموت هنا بسيد يخدمه الخطأة ويتسلط عليهم كيف شاء. و «الموت» المذكور ليس موت الجسد فقط بل ما يُسمّى «أجرة الخطيئة» في (ص ٦: ٢١ و٢٣) وهو ما ينذر الناموس بأنه عقاب الخطيئة.
٦ «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ مَاتَ ٱلَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ، حَتَّى نَعْبُدَ بِجِدَّةِ ٱلرُّوحِ لاَ بِعِتْقِ ٱلْحَرْفِ».
ص ٦: ٢ وع ٤ ص ٢: ٢٩ و٢كورنثوس ٣: ٦
وَأَمَّا ٱلآنَ أي ونحن في حال الإيمان والتجديد والتبرير وهذا مقابل قوله «لما كنا في الجسد» (ع ٥).
تَحَرَّرْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ هذا كقوله في (ع ٢) على المرأة التي تحرّرت بموت زوجها من واجباتها له. والمعنى إنا نجونا من عقاب الخطيئة الذي أوجبه الناموس وعتقنا من رقه باعتبار كونه واسطة التبرير لكنا لم نتحرر منه باعتبار كونه قانون السيرة.
إِذْ مَاتَ ٱلَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ أي إننا كنا قبلما آمنا وتجددنا مقيدين بعبودية الناموس ثم متنا له بالمعنى الذي في (ع ٤) أي باشتراكنا في موت المسيح نائبنا لأنه مات لكي يوفي كل مطاليب الناموس. فعندما آمنا به اعتُبرت أعماله أعمالنا وموته موتنا. والخلاصة أنه لم يبق للناموس شيء علينا كما أنه لم يبق للرجل بعد موته أدنى سيادة على امرأته.
حَتَّى نَعْبُدَ بِجِدَّةِ ٱلرُّوحِ هذا وصف حياة المؤمن الجديدة المقدسة التي ينشئها الروح القدس فإنه يطيع الله ويخدمه كولد محب لوالد حنون فطاعته سارّة قلبية روحية لا خارجية فقط.
لاَ بِعِتْقِ ٱلْحَرْفِ أي لا بالعبودية العتيقة للناموس. وهذا وصف حال الإنسان قبل إيمانه بالمسيح وهو عبد للناموس. وعبّر عن الناموس «بالحرف» لأنه مجموع أوامر ونواهٍ خلاصتها الوصايا العشر التي كُتبت بالحروف على لوحي حجر أو لأن الناموس الموسوي كان مكتوباً بها. وكانت تلك العبادة عسرة ثقيلة قاموا بها خوفاً من العقاب برسوم خارجية ومثالها ما أتاه الفريسيون في أيام المسيح حين عشّروا النعنع والشبثّ وغسلوا الكأس والصحفة متوقعين أنهم بذلك يرضون الله. وهذا مثل قوله «ٱلَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ ٱلْحَرْفِ بَلِ ٱلرُّوحِ. لأَنَّ ٱلْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ يُحْيِي» (٢كورنثوس ٣: ٦ انظر أيضاً غلاطية ٣: ٣). وجوهر الفرق بين العبادة «بجدة الروح» والعبادة «بعتق الحرف» أن الأولى روحية ناتجة عن المحبة والثانية خارجية ناتجة عن الخوف. ويظهر ذلك الفرق من قول الناموس للإنسان «افعل هذا فتحيا» ومن قول الإنجيل له آمن بما فعل المسيح من أجلك فتحيا وأظهر شكرك بأن تسير كما سار المسيح ربك.

فوائد



  • إن جوهر تعليم هذا الفصل ما في (ص ٦: ١٤). وهو أن المؤمنين بالمسيح ليسوا تحت الناموس للتبرير وأن نتيجة تحررهم من الناموس هي نشاطهم في خدمة الله لا إباحة ارتكاب الإثم (ع ٤).
  • إننا نحصل على التحرر من الناموس بموت المسيح فالإيمان به مصلوباً هو طريق نيل النعمة التي نتقدس بها فإن ضعف إيماننا به سقطنا في رق الناموس وسلطة الخطيئة (ع ٤).
  • إن المسيح حرّرنا من الناموس بإيفائه إياه كل ما علينا له لا بإلغاء مطاليبه (ع ٤ وص ١٠: ٤).
  • إن المسيح فدانا لنكون قديسين وعتقنا من الناموس لنتحد به. ودليل هذا الاتحاد الإثمار لله (ع ٤).
  • إن كل من نجا من عبودية الناموس وعقابه حق النجاة عبد الله كابن عن محبة ومسرّة (ع ٦) وهذا لا ينتج إلا لتغير عظيم يسمى تجديد القلب يشعر به من يختبره ويظهر لغيره بإثماره.
  • إنه ينتج مما قيل هنا في الزيجة أن اقتران الزوجين لا يبطل إلا بموت أحدهما. وزاد المسيح على ذلك علّة واحدة ذكرها في (متّى ٥: ٣١ ع ١ - ٦).



إن الناموس مقدس لكنه لا يستطيع أن يقدس الخطاة ع ٧ إلى ١٣


بعد ما أبان الرسول عجز الناموس عن تبرير الخاطئ (ص ٣ و٤) وعن تقديسه (ص ٧: ١ - ٦) أخذ يبين ما هو نفعه وأقام على ذلك دليلين:
الأول: إنه يحمل الخاطئ على الشعور بخطيئته كما قيل في (ص ٣: ٢٠).
الثاني: إنه ينير ضمير الإنسان وإن لم يستطع أن يبطل سلطة الخطيئة عليه.
وفي هذا الفصل إيضاح أول هذين الدليلين أورد الرسول فيه ما اختبره هو مثالاً لسائر الناس الذين يجتهدون أن يطيعوا الناموس فهو ليس بشرح حال إنسان مصر على الخطيئة غير مكترث بالله تعالى وبما يجب عليه له وللناس ولا وصف مؤمن مطمئن بل وصف إنسان يشعر بخطيئته بواسطة تعاليم الناموس وقد استعد بذلك إلى قبول تعليم الإنجيل بإرشاد الروح القدس ولم يبلغ تمام الإيمان ليدرك كمال الراحة والسلام القلبي.
٧ «فَمَاذَا نَقُولُ؟ هَلِ ٱلنَّامُوسُ خَطِيَّةٌ؟ حَاشَا! بَلْ لَمْ أَعْرِفِ ٱلْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِٱلنَّامُوسِ. فَإِنَّنِي لَمْ أَعْرِفِ ٱلشَّهْوَةَ لَوْ لَمْ يَقُلِ ٱلنَّامُوسُ «لاَ تَشْتَهِ».
ص ٣: ٢٠ خروج ٢٠: ١٧ وتثنية ٥: ٢١ وأعمال ٢٠: ٣٣ وص ١٣: ٩
فَمَاذَا نَقُولُ؟ اصطلح الرسول أن يأتي بهذا السؤال في مقدمة بعض الفصول (انظر تفسير ص ٣: ٩ و٤: ١ و٦: ١).
هَلِ ٱلنَّامُوسُ خَطِيَّةٌ؟ قال هذا دفعاً لاعتراض من يقول أنه ذم الشريعة بتعليمه وجوب التحرر من الناموس بغية التبرير والتقديس وأن الناموس يهيّج شهوات الإثم. والمعنى أيحق لنا أن نخّطئ الناموس.
حَاشَا! هذا تنزيه أريد به شدة الإنكار وبيان كراهة تخطئة الناموس.
بَلْ أي الأمر بخلاف بذلك.
لَمْ أَعْرِفِ ٱلْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِٱلنَّامُوسِ أي لولا الناموس ما شعرت بأني خاطئ وخفت من العقاب. وهذا كلام الرسول على شعوره قبل النعمة واستعمل صيغة التكلم لأن ما قاله مبين على اختباره ويصح على كل إنسان مثله تحت الناموس المعلن في العهد القديم قبل الإيمان والتجدد بالروح القدس. وقوله «لم أعرف الخطيئة إلا بالناموس» مبني على المبدإ المذكور في (ص ٤: ١٥) وهو قوله «حيث ليس ناموس ليس أيضاً تعدّ» أي أنه إذا كان إنسان لا يعرف الناموس لا يمكنه أن يعرف إذا تعداه أنه تعداه ولا يستطيع أن يشعر بخطيئته. والخطيئة التي لا يشعر بها الإنسان بلا الناموس أما ما يرتكبه فعلاً إلى الميل إلى ارتكاب الخطيئة الذي هو قلب كل إنسان لكنه يكون خفياً عنه إلى أن تقع التجربة الحاملة على الارتكاب أو إلى أن يسمع الناموس ينهي عن الفعل بمقتضى ذلك الميل.
لَمْ أَعْرِفِ ٱلشَّهْوَةَ هذا مثال لقوله «بالناموس معرفة الخطيئة» أو دليل على صحته. و «الشهوة» هنا هي الرغبة في ارتكاب المحرمات فأراد الرسول أنه لولا الناموس ما عرف قوة تلك الرغبة وعبوديته لها وإلى أي حد من المحظورات تقوده إليه وقد ذُكرت الشهوات المحرمة في (غلاطية ٥: ٦ - ٢١).
لاَ تَشْتَهِ هذا مأخوذ من (خروج ٢٠: ١٧) ومن إحدى الوصايا العشر واقتصر على هذا لأن سائرها معلوم أو لأنه القدر الكافي لغايته. والشهوة هنا الطمع في ما للغير وهي محرمة وإلا ما نهى الناموس عنها. وهي أصل كل الشرور بدليل قول يعقوب «ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً». ومنع الإنسان عن الشهوة المحرمة ووجود الناموس دون الفعل بموجبها. وذلك الناموس يحرك القلب المتمرد على المعصية ويبين لصاحبه وجود الشهوات فيه وسلطتها العظيمة عليه. وليس في ما ذكر من تأثير الناموس من لوم عليه فاللوم على الطبيعة البشرية الفاسدة التي يقاومها ويكشف شرورها.
٨ «وَلٰكِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِٱلْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ. لأَنْ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ ٱلْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ».
ص ٤: ١٥ و٥: ٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٥٦
وَلٰكِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ أي الميل إلى الإثم الذي هو نتاج طبيعة الإنسان الفاسدة.
مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِٱلْوَصِيَّةِ أي قول الناموس «لا تشته».
أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ وزادت الشهوة قوة حين عرف المشتهي أن الطاعة لها محرمة فكانت كالجدول الصغير إذا وضعت حاجزاً في مجراه اجتمع الماء عنده بكثرة ثم دفعه فجرى كنهر كبير جارف. وهذا كالمثل السائر «كل ممنوع مطلوب» وكقول بعضهم «أحب شيء إلى الإنسان ما مُنعا» ومثل قول الجاهلة «ٱلْمِيَاهُ ٱلْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ وَخُبْزُ ٱلْخُفْيَةِ لَذِيذٌ» (أمثال ٩: ١٧) الإنسان بالطبع متكبر عنيد يحب الاستقلال والناموس ضد ذلك فيهيج مقاومة الإنسان له والتعدي عليه. ومثل قول بولس هنا قول قدماء الفلاسفة ومنهم سنيكا قال «إن قتل الاولاد والديهم لم يحدث في رومية قط قبل أن ينهى عنه شرعاً» ومنهم هوراتيوس قال «إن الجنس البشري يتجاسر على كل شيء ولا سيما المحظورات فإنه يشتهي كل ممنوع ويجد في طلب المحرم».
بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ ٱلْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ أي بلا الشريعة أو معرفتها لا قوة للخطيئة على الإنسان بالنسبة إلى قوتها بعد إعلان الناموس وهياج الشهوات به. فهي بدون الناموس كالميتة فإن الإنسان لا يشعر بالميل إلى الخطيئة قبل وقوع ما يحمله من التجارب على ارتكاب المحرم وقبل معرفته أن ما يرتكبه إثم. والمجهول بمنزلة الميت. ومثل هذا قول السيد المسيح «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا ٱلآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ... لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ» (يوحنا ١٥: ٢٢ - ٢٤ قابل هذا بما في يعقوب ٢: ١٧ و٢٦).
على أنه لا أحد من الناس خال من شيء من الناموس كما أبانه بولس (في ص ١ و٢) من أنه كان للأمم ناموس غير ناموس الوحي مكتوب في قلوبهم ولكن شعورهم بخطاياهم كان قليلاً جداً على قدر معرفتهم وتمييزهم الخير من الشر.
٩ «أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ عَائِشاً قَبْلاً. وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَتِ ٱلْوَصِيَّةُ عَاشَتِ ٱلْخَطِيَّةُ، فَمُتُّ أَنَا».
فَكُنْتُ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ أي قبل أن عرفت حقيقة الناموس ومطاليبه الروحية.
عَائِشاً أي ظاناً أني بار أمام الله فكنت مطمئناً سعيداً غير شاعر بالخلاف بين إرادتي وإرادة الله ولا بالخطيئة ولا بأني عرضة للهلاك.
قَبْلاً أي قبل معرفتي مطاليب الناموس وأني متعدٍّ لها.
لَمَّا جَاءَتِ ٱلْوَصِيَّةُ أي حين عرفت حقيقة الشريعة ومطاليبها الروحية ووجدتها تنهاني عما أشتهي أن أفعله وتأمرني بما لم أقم به وبيّنت لي أني قد تعدّيتها.
عَاشَتِ ٱلْخَطِيَّةُ أي الطبيعة الإنسانية الفاسدة التي كان يجهلها قبلاً وهي التي شُبهت «بالميت» (في ع ٨). ومعنى قوله «عاشت» أنها ظهرت له بعد خفائها عليه فكأنها ميتة وحييت وقويت.
فَمُتُّ أَنَا هذا مقابل قوله «كنت... عائشاَ» في أول الآية. والمعنى أنه فقد ما كان له من الاطمئنان وراحة الضمير وهو يسلك في سبيل الشهوات وشعر بأنه خاطئ وعرضة لغضب الله وعقابه وأنه في حال الموت الروحي الذي ذكره في (ع ٢١ وص ٨: ٢) وفي خطر الهلاك الأبدي.
١٠ «فَوُجِدَتِ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلَّتِي لِلْحَيَاةِ هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ».
لاويين ١٨: ٥ وحزقيال ٢٠: ١١ و١٣ و٢١ وص ١٠: ٥ و٢كورنثوس ٣: ٧ الخ
وُجِدَتِ بحسب ما اختبرت.
ٱلْوَصِيَّةُ ٱلَّتِي لِلْحَيَاةِ معنى «الحياة» هنا القداسة والسعادة الكاملة. وكانت الوصية للحياة لأن غاية الله في إعطائها أن يحصل الإنسان على القداسة والسعادة بحفظه إياها بمقتضى قوله «افعل فتحيا» فلو حفظها نال ما وُعد به. وكان الرسول وهو فريسي يرجو الحياة بحفظه الوصية ظاهراً.
هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ أي هي التي أظهرت لي أني مخالف للناموس وعرضة للموت هي نفسها لي للموت وهذا الموت ضد الحياة في أول الآية فهو حال الإثم والشقاء. وكان ذلك نتيجة الناموس لبولس لا النتيجة التي قصدها الله من وضع الناموس فاللوم ليس على الناموس بأن يجعل الإنسان في تلك الحال بل على الإنسان نفسه.
١١ «لأَنَّ ٱلْخَطِيَّةَ، وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِٱلْوَصِيَّةِ، خَدَعَتْنِي بِهَا وَقَتَلَتْنِي».
لأَنَّ هذا تعليل لكون الشريعة وسيلة إلى الموت.
ٱلْخَطِيَّةَ أي الطبيعة الفاسدة فهي علّة أن الشريعة التي للحياة صارت للرسول ولسائر الناس للموت.
مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً هذا كقوله في (ع ٨) والمعنى أن ما جعله الله وسيلة إلى الحياة اتخذته الطبيعة البشرية وسيلة إلى الموت.
خَدَعَتْنِي أي خيبتني إذ جعلتني أتوقع شيئاً فأصيب غيره. توقعت الحياة بالناموس فأصبت الموت وانتظرت السعادة فوجدت الشقاء وأملت القداسة فنلت زيادة الفساد. ولعل الرسول أشار بهذا إلى خداع الشيطان باتخاذه الوصية (وهي قوله تعال «وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكلا منها») فرصة لتهييج شهوة حواء ثم آدم ليحملهما على الأكل منها وعلى أمل أن يصيرا بذلك كالله يعرفان الخير والشر (تكوين ٣: ١ - ٥).
وَقَتَلَتْنِي معنى هذا كمعنى قوله «مت أنا» في (ع ٩) أي أظهرت لي إثمي وشقائي وأني عرضة لغضب الله وعقابه على الإثم.
١٢ «إِذاً ٱلنَّامُوسُ مُقَدَّسٌ، وَٱلْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ».
مزمور ٢٩: ٨ و١١٩: ٣٩ و١٣٧ و١تيموثاوس ١: ٨
إِذاً هذه الآية نتيجة استدلاله في (ع ٩ - ١١) وإثبات لما في (ع ٥) من أن أصل الشر الذي هاج بواسطة الناموس فساد الطبيعة البشرية لا الناموس.
ٱلنَّامُوسُ مُقَدَّسٌ أي كل الشريعة الإلهية لأن الله أعلن فيها مشيئته الطاهرة.
وَٱلْوَصِيَّةُ أي كل وصية من وصايا الناموس ومنها ما اقتبسه الرسول آنفاً وهو قوله «لا تشته» (ع ٧).
مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ أي كاملة من كل وجه فإنها تليق بالله واضعها وتطلب ما هو حق بالذات وتنفع كل طائعيها.
١٣ «فَهَلْ صَارَ لِي ٱلصَّالِحُ مَوْتاً؟ حَاشَا! بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ. لِكَيْ تَظْهَرَ خَطِيَّةً مُنْشِئَةً لِي بِٱلصَّالِحِ مَوْتاً، لِكَيْ تَصِيرَ ٱلْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدّاً بِٱلْوَصِيَّةِ».
ذكر هذه الآية ليرفع كل وهم من جهة معنى قوله «قمت أنا» (ع ١٠) وقوله «قتلتني» (ع ١١).
هَلْ صَارَ لِي ٱلصَّالِحُ مَوْتاً؟ الصالح هو الناموس فإنه سأل في (ع ٧) «هل الناموس خطيئة» وسأل هنا «هل صار... موتاً» فكأنه قال هل الناموس الصالح علّة موتي.
حَاشَا! هذا تنزيه لشدة الإنكار.
بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ هي علّة موت الإنسان الحقيقية الوحيدة.
مُنْشِئَةً لِي بِٱلصَّالِحِ مَوْتاً أي أن الخطيئة جعلت ناموس الله المقدس العادل الصالح وسيلة إلى ارتكاب ما يكرهه الله وينهي عنه فأنشأت موتاً روحياً أبدياً.
لِكَيْ تَصِيرَ ٱلْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدّاً أي لتظهر حقيقة نفسها بما ذُكر من تأثيرها.
بِٱلْوَصِيَّةِ من جملة ما قصده الله بالوصية أن يظهر بواسطتها فظاعة الإثم. ونتج من كل ما ذُكر في شأن الناموس أنه لا يمكنه تقديس الخاطئ إنما يُشعره بأنه خاطئ (ص ٣: ٢٠) ويهيج أهواءه (ص ٧: ٥) وينشئ فيه كل شهوة (ع ٨) ويحيي الخطيئة فيه (ع ٩) وتخدعه الخطيئة بواسطته (ع ١١) وتقتله به (ع ١١) فكيف يستطيع أن يبرّر ويقدس.

فوائد



  • إن الناموس نافع وإن لم يستطع أن يبرّر أو يقدس لانه ينير الضمير ويظهر لنا شر ما ظنناه صالحاً ويظهر للإنسان أن طبيعته فاسدة مائلة إلى الخطيئة وإنه أثيم فعلاً فيهيئ له الطريق إلى قبول الإنجيل (ع ٧ و٨).
  • إن شعور الإنسان بخطاء طبيعته وبشدة سلطة الخطيئة عليه ضروري لتمسكه بالمسيح كما أعلن لنا بالإنجيل لينجو من الفساد والدينونة (ع ٩).
  • إن الذين لا دين لهم سوى الناموس هم في حال يرثى لها (ع ٧ - ١٣).
  • إن شريعة الله تدل على صفاته فتبين أنه قدوس عادل وصالح فكلما عرفنا روحانيتها وسعتها وجودتها شعرنا بعدم استحقاقنا الوقوف أمام واضعها (ع ١٢).
  • إن الإعجاب بالنفس غير لائق بالإنسان فكلما تقدم في التقوى تحقق سمو قداسة شريعة الله وكلما تحقق ذلك عرف تقصيره عن الطاعة الواجبة فازداد تواضعاً (ع ١١ و١٢).
  • إن الخطيئة شر النوازل فإنها تتخذ شريعة الله المقدسة وسيلة إلى الإثم. وتتخذ ما قصد الله أن يكون واسطة حياة الإنسان وسيلة إلى الموت (ع ١٢).



تأثير الناموس في المؤمن والبرهان على أنه صالح مع عجزه عن تقديس المؤمن ع ١٤ إلى ٢٥


أبان الرسول في ما سبق أن من شأن الناموس أن يشعر الإنسان قبل أن يتجدد بخطيئته (ع ١ - ١٣). وأخذ هنا يبيّن أن الناموس عاجز عن تقديس المؤمن. وقد انتقل من التكلم على نفسه بصيغة الماضي إلى صيغة المضارع وفقاً لحاله قبل إيمانه ولحاله بعده إذ ابتدأ يحيا حياة جديدة. ولكنه لم يكن قد اقتنع بعد بعجز الناموس عن تنجيته من سلطة الإثم. وتكلم في هذا الفصل على ثلاثة أمور الأول أن عجز الناموس ناشئ عن قوة سلطة الخطية عليه لا عن نقص في الناموس (ع ١٤ - ١٦). والثاني أن أعماله ليست بدليل على حقيقة سجيته وإرادته لأن ما يفعله إنما يفعله كعبد على رغمه إطاعة لأمر مولاه (ع ١٧ - ٢٠). والثالث أن النجاة من سلطان الخطيئة ونهاية المحاربة بين الجسد والنفس ليستا إلا بالرب يسوع المسيح (ع ٢١ - ٢٥).
١٤ «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ ٱلنَّامُوسَ رُوحِيٌّ، وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ».
١ملوك ٢١: ٢٠ و٢٥ و٢ملوك ١٧: ١٧
نَعْلَمُ أَنَّ ٱلنَّامُوسَ رُوحِيٌّ أي لا حاجة إلى البرهان على أن الناموس الموحى به بالروح القدس هو مثل من أوحى به وأنه يطلب من الإنسان الطاعة الروحية وأنه مقدس وعادل وصالح كما جاء في ع ٢ وخلاصة ذلك أنه كامل وأن عجز عن تقديس الإنسان.
وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ فلذلك عجزت عن أن أقوم بالطاعة الروحية التي طلبها هذا الناموس. وقابل هنا نفسه بالناموس ونقصه بكماله. ومعنى «جسدي» ذو طبيعة فاسدة ساقطة كما في (غلاطية ٥: ١٩) حيث ذكر الرسول أعمال الجسد. ولا يلزم من ذلك أن الرسول كان وقتئذ مسلّماً نفسه باختياره لأهواء الجسد إنما أقر بأنه بعد ما تاب عن الخطيئة واجتهد في أن يتخلص من سلطتها وجد أن طبيعته الفاسدة أقوى من إرادته الصالحة.
مَبِيعٌ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ كما بيع أسرى الحرب قديماً وهذا تفسير لقوله «جسدي» وقد مثل الخطيئة بسيد ونفسه بأسير له قهراً. وقد عُبّر بهذه العبارة في بعض الآيات عن الذين سلموا أنفسهم للخطيئة باختيارهم (١ملوك ٢١: ٢٠ و٢ملوك ١٧: ١٧) ويطلق هذا على كل من لم يتب ويؤمن ولكنه ليس معنى الرسول هنا لأنه أُعتق من عبودية الإثم بإيمانه (ص ٦: ٢٢) فلا يطيع الإثم إلا على رغمه لأنه يكرهه ويجتهد أن يتخلص من سلطته ولا يستطيع ذلك. ومثل اختبار بولس اختبار كل مسيحي فكل مؤمن يقر أن شكوكه في الله وفي حقه قد تغلبه وكذا حبه للعالم ولنفسه. وكثيراً ما يشعر بقساوة قلبه وكبريائه والخطايا المحيطة به خاصة. ولا يلزم من قوله هذا أنه سقط في كل ما عُرض له من التجارب وأنه لم يطع الله. فمراده أنه ارتكب بعض الآثام التي يكرهها وندم على ارتكابها وأنه لم يستطع حفظ الناموس كما شاء.
١٥ «لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ، إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ».
مزمور ١: ٦ و١كورنثوس ٨: ٣ غلاطية ٥: ١٦ - ١٨
أقام في هذه الآية وما بعدها إلى الآية السابعة عشرة البرهان على كونه عبد الخطيئة قهراً.
لَسْتُ أَعْرِفُ أي لا أستصوب. وجاء بهذا المعنى في قول المرنم «لأن الرب يعلم طريق الأبرار» (مزمور ١: ٦). وقول المسيح «أصرّح لهم أني لم أعرفكم قط» (متّى ٧: ٢٣ انظر أيضاً متّى ٢٥: ١٢ ولوقا ١٣: ٢٧). ولعل معنى الرسول بقوله «لست أعرف» لست أميز بين الحرام والحلال من أفعالي لأني أجري إرادة سيدي كعبد أعمى.
مَا أَنَا أَفْعَلُهُ من الشر حين أخطئ إطاعة لأهواء طبعيتي الفاسدة.
إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ من الصلاح الذي أستصوبه بحكم العقل والضمير وأرغب فيه وأقصد أن أفعله ولولا أن الأهواء أعمت بصيرتي وغلبت إرادتي لكنت أفعله دائماً.
مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ أي ما أكرهه دائماً وأعتزله عندما لم تغلب أهوائي عقلي وضميري وإرادتي تجبرني تلك الأهواء على فعله.
ويوافق ما قاله الرسول هنا على وجود طبيعتين فيه تميل إحداهما إلى الخير والأخرى إلى الشر بعض أقوال شعراء اليونانيين والرومانيين وفلاسفتهم على أن كل إنسان يشعر بالاختبار بمحاربة الطبيعتين فيه كما شعر الرسول ولا سيما المؤمن الذي يحس بقوة الكبرياء والغضب والفتور في الروحيات والشك في ما يجب أن يؤمن به وهو يحب أن يكون متواضعاً حليماً نشيطاً في أعمال التقى محباً لله ولإخوته البشر مثمراً كل أثمار الروح فهو بمنزلة أسير يشتهي كسر قيوده وقطع سلاسله.
١٦ «فَإِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ، فَإِنِّي أُصَادِقُ ٱلنَّامُوسَ أَنَّهُ حَسَنٌ».
هذه الآية نتيجة الآية الخامسة عشرة وخلاصتها أن اللوم عليه لا على الناموس.
قال إن مخالفته الناموس لا يستلزم أنه حسب الناموس ظالماً غير موافق وإن ظهر كذلك لأن ما ارتكبه على خلاف الناموس كان مخالفاً لحكم ضميره وطبيعته الروحية فالذي ينهي الناموس عنه يكرهه هو وما يأمر به يستصوبه ويسر به.
أُصَادِقُ ٱلنَّامُوسَ أَنَّهُ حَسَنٌ بموجب حكم طبيعتي الروحية فأبرّر الناموس بقولي «أنه حسن» وأحكم على نفسي بالذنب.
١٧ «فَٱلآنَ لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذٰلِكَ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ».
لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذٰلِكَ أَنَا أشار «بذلك» إلى ما يبغضه ولا يريد فعله. وأراد «بأنا» جملته باعتبار أنه يرشده عقله وضميره وخوف الله. ومعنى العبارة أن ضميري لا يستحسن ما أفعل ولا عقلي ولا إرادتي.
بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ أي الطبيعة الفاسدة وأهواءنا الممثلة بسيد استعبده وجعله يفعل ما يكرهه وتنهى الشريعة عنه. وقوله هنا في المحاربة بين جسد الإنسان وروحه كقوله للغلاطيين «لأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ، وَهٰذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ» (غلاطية ٥: ١٧).
لم يورد ما ذكره هنا عذراً له أو لغيره على سقوطه في الإثم فلا يرفع عنه المسؤولية في ما يفعله لكنه قصد بيان قوة الطبيعة البشرية الفاسدة وعظمة الجهاد بين القداسة والخطيئة في قلب المؤمن واستحالة أن يغلب الخير الشر بواسطة الناموس لأن العبد الذي يطيع سيده لا يزال تحت المسؤولية لله في كل أفعاله. وأفعاله التي يفعلها إطاعة لسيده ليست بدليل على حقيقة سجيته وإرادته. وأعظم مصائب الإنسان أنه تحت المسؤولية لله في ما يفعله وهو أسير الخطيئة. ولولا هذه المسؤولية ما صرخ المؤمن كالصراخ الذي في (ع ٢٢).
١٨ «فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ ٱلإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ».
تكوين ٦: ٥ و٨: ٢١
هذه الآية والآيتان بعدها إيضاح وإثبات لما سبق. وكأن الرسول قسم هنا نفسه إلى اثنين الأول الطبيعة الفاسدة التي لم تزل تتسلط عليه وتقوده إلى الخطيئة وسماها «الجسد» والثاني الإرادة التي استنارت وتجددت بعض الاستنارة والتجدد.
لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ هذا تفسير لقوله «الخطيئة الساكنة فيّ» باعتبار فساد الطبيعة بقطع النظر عن فعل الروح القدس فيه وهو كقوله «لٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ أَنَا مَا أَنَا... وَلٰكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي مَعِي» (١كورنثوس ١٥: ١٠). وكقوله «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية ٢: ٢٠).
لأَنَّ ٱلإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي أي مستعدة أن تعمل الصلاح. وهذا شهادة صريحة بالقسم الآخر من القسمين المذكورين أي الإرادة التي يقودها العقل والضمير بعد استنارتها بالروح القدس.
وقوله «أن ليس في جسده شيء صالح» لا يستلزم أن الجسد مركز الخطيئة دون النفس لأنه حين يتكلم على «أعمال الجسد» يذكر بينها الحسد والكبرياء والنميمة والبدعة وهي لا علاقة لها بالجسد لأنها مما يختص بالروح.
أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ الحسنى هي ما يريد أن يفعله لكنه لم يستطع لأن قوة الطبيعة الفاسدة أعظم من قوة الإرادة عند وقوع التجربة. وخلاصة ذلك أن له إرادة ولكن ليس له قوة. وبمثل هذا يشهد كل مسيحي حقيقي على نفسه فإنه يريد أن يكون متواضعاً دائماً لكنه كثيراً ما يجد الكبرياء في قلبه. ويريد أن يكون حاراً في الصلاة وأن يكون روحياً حليماً مسامحاً لكنه كثيراً ما يجد أنه فاتر دنيوي سريع الغضب. ويريد أن يحب الله أكثر من كل شيء وقريبه كنفسه لكنه يجد محبة الذات أقوى من تلك الإرادة.
ومن الواضح أن قسمة الرسول نفسه إلى قسمين ليست سوى فرض يشير إلى عظمة الجهاد بين الله والشيطان في نفس الإنسان وبين طبيعته في حال الفساد وطبيعته بعد أن تقدس بعض التقديس لأن الإنسان واحد مكلف بعبادة الله بجمتله أي نفسه وجسده وكذا يُدان على كل ما فعل خيراً كان أم شراً.
١٩ «لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ ٱلشَّرَّ ٱلَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ».
الفرق بين هذه الآية والتي قبلها زهيد ففي السابقة الكلام على الإرادة وفي هذه الكلام على الفعل الذي هو دليل على الإرادة. وفيها تصريح بأنه لم يستطع أن يفعل الخير الذي يريده ولا أن يمتنع عن الشر الذي يكرهه.
وأقوال بعض الفلاسفة اليونانيين والرومانيين في الخلاف بين ضمائرهم وأعمالهم تقرب من أقوال بولس كثيراً في الخلاف هنا ولكن لا دليل على أن شعورهم بذلك الخلاف حملهم كما حمل بولس على طاعة ضمائرهم ومقاومة أهوائهم والتوبة عن خطاياهم وسؤال نعمة الله للنجاة منها.
٢٠ «فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ».
ما ذكره في ع ١٧ المطلوب وما ذكره هنا النتيجة. والقياس (ع ١٨ و١٩) أي إن صحّ ما قيل فيهما لزم منه ما قيل هنا. ومعنى الآية أنه ليس لأحد أن يتخذ أعمالي دليلاً على سجيتي لأني أفعل ما أفعله كالعبد مضطراً مكرهاً حزيناً على عبوديتي.
فَلَسْتُ... أَنَا أي لست بجملتي لأن أعمالي لا تدل على حقيقة أفكاري واستحساناتي وآمالي ومقاصدي بعد ما أخذ الروح القدس ينيرني ويرشدني لكونها صادرة عن جزء فاسد من طبيعتي ورثته من آدم وقوي فيّ.
بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ هي السيدة التي استعبدته. ومصيبة الخاطئ أن سيده ليس بخارج عنه فهو السيد والعبد معاً وهو الذي يحاسبه الله على كل ما فعل.
٢١ «إِذاً أَجِدُ ٱلنَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى أَنَّ ٱلشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي».
إِذاً أي نتيجة كل ما ذُكر في هذا الفصل.
أَجِدُ ٱلنَّامُوسَ لِي إن الذي وجده هو أنه حينما يريد أن يفعل الحسنى يجد الشر حاضراً ليمنعه عن ذلك ويحمله على خلافه. وسمّى ذلك «بالناموس» لمشابهته الناموس الطبيعي في استمراره. فاختبر من جهة محاربة النفس للجسد أنه حينما كان يتفق عقله وضميره على وجوب عمل الصلاح تأخذ طبيعته الفاسدة تمنعه منه وحينما تقصد طبيعته الروحية أن تمنعه من فعل الشر تحمله طبيعته الجسدية على فعله فاختباره فعل طبيعته الفاسدة كاختباره فعل جاذبية الأرض.
ولا يلزم من هذه الآية أن الرسول كان يخطئ كلما تجرّب بل أنه كان يشعر دائماً بشدة جاذبية الخطيئة.
٢٢ «فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ ٱللّٰهِ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ».
مزمور ١: ٢ و٢كورنثوس ٤: ١٦ وأفسس ٣: ١٦ وكولوسي ٣: ٩ و١٠
ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ الذي يسرّ بناموس الله هو الذي يبغض الشر (ع ١٥) ويخدم بذهنه ذلك الناموس (ع ٢٥) والذي سماه الرسول «ناموس ذهنه» (ع ٢٣) وهذا لا يصدق إلا على المؤمن المقدس بعض التقديس الطالب إرشاد روح الله لكنه لم يزل يتوقع النجاة من رق الخطيئة بواسطة الناموس. وصف بولس في هذه الآية القسم الروحي منه كما وصف في الآية السابقة القسم الجسدي.
٢٣ «وَلٰكِنِّي أَرَى نَامُوساً آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ ٱلْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي».
ص ٦: ١٣ و١٩ وغلاطية ٥: ١٧
وَلٰكِنِّي أَرَى نَامُوساً آخَرَ بالاختبار. معنى «الناموس» هنا كمعناه في (ع ٢١) وهو الميل الدائم إلى الخطيئة أو حكم الطبيعة الفاسدة على الإنسان وسمى «الخطيئة الساكنة» في الإنسان (ع ٢٠).
فِي أَعْضَائِي أي في ذاتي كما في (ع ٥). فالأعضاء هنا تعم كل قوى الإنسان الجسدية والنفسية. والناموس الذي فيها مستول على كل منها ولكن معظم ظهوره في الأعضاء الجسدية وبواسطة أهواء هذه الأعضاء صارت النفس عرضة للتجربة والسقوط.
يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي المراد بالذهن هنا النفس المستنيرة بالروح القدس وهي المعروفة «بالإنسان الباطن» (ع ٢٢). والمراد «بناموسه» أوامر تلك النفس وأحكامها (على أن بولس تجوَّز هنا بأن عبّر عن الذهن نفسه بناموسه), ومعنى الجملة أن طبيعته الفاسدة التي هي «الخطيئة الساكنة فيه» و «ناموس أعضائه» تضاد طبيعته الروحية التي هي «الإنسان الباطن» و «ناموس ذهنه» وتجتهد دائماً في أن تنتصر عليها وتهلكها.
إن وجود الحرب في النفس بين الخطيئة والقداسة دليل واضح على كون النعمة في القلب وأن الإنسان الذي تكلم عليه بولس نائباً عنه هو المتجدّد القلب الحاصل على الحياة الجديدة وإن كان لم يجاوز أول تلك الحياة. والفرق بين المتجدّد وغير المتجدّد ليس أن الأول لا يخطئ والثاني يخطئ ولأن الاول يخطئ على غير قصد والثاني يخطئ باختياره. وأن الأول متى أخطأ حزن وندم وأن الثاني متى أخطأ لم يبال بأخطائه وربما افتخر به.
وَيَسْبِينِي الخ تظهر شدة الجهاد بين النفس والجسد بأن الجسد فضلاً عن محاربته للنفس كثيراً ما يغلبها ويأسرها ويجذبها مكرهة آسفة عاجزة إلى حيث يشاء فما أقوى الجسد حتى يستطيع ذلك. ولم يقصد أن الانتصار للخطيئة أبداً بل أنها تطلب الانتصار دائماً وأنها كثيراً ما تغلب.
٢٤ «وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هٰذَا ٱلْمَوْتِ؟».
وصف في هذه الآية ما وصل إليه الإنسان من البلاء والشقاء بمحاربة الطبيعة الفاسدة للطبيعة الروحية بعد ما اخذت تطلب القداسة.
وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ! أي ويلي. هذا صراخ المتألم من ثقل حمل الخطيئة العاجز عن طرحه المشتاق إلى النجاة منه.
مَنْ يُنْقِذُنِي هذا السؤال ليس بسؤال الآيس أو الجاهل طريق النجاة بل سؤال المشتاق إلى المعونة الإلهية وهو المتوسل إلى إعلان الشكر لله لإعداده تلك الطريق وستُذكر في الآية الآتية. وهو سؤال إنسان طلب من الناموس النجاة من سلطة الخطيئة ونيل الراحة والسلام لضميره فذهب طلبه باطلاً فاستنجد من العُلى وتوقع ما طلب فهو كقول إشعياء «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ ٱلشَّفَتَيْنِ الخ» (إشعياء ٦: ٥) وكقول داود «لأَنَّ آثَامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي. كَحِمْلٍ ثَقِيلٍ أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ» (مزمور ٣٨: ٤).
٢٥ «أَشْكُرُ ٱللّٰهَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا! إِذاً أَنَا نَفْسِي بِذِهْنِي أَخْدِمُ نَامُوسَ ٱللّٰهِ، وَلٰكِنْ بِٱلْجَسَدِ نَامُوسَ ٱلْخَطِيَّةِ».
١كورنثوس ١٥: ٥٧
هذا جواب بولس على سؤاله في (ع ٢٤) وإعلان سروره وشكره.
أَشْكُرُ ٱللّٰهَ على أنه وُجدت طريق للنجاة من رق الخطيئة ومن سلطان الطبيعة الفاسدة وأن عاقبة المحاربة بينها وبين الطبيعة الروحية هي مجيد الانتصار على الجسد. وشكر الله على ذلك لأنه تعالى مصدر تلك النجاة بدليل قوله «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٦). فيجب أن تقترن المسرّة بالنجاة بالشكر للمنجّي.
بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا إنه وسيلة النجاة وحده. فالذي لم يستطع الإنسان أن يحصل عليه بواسطة عقله وضميره ولا بالناموس حصّله المسيح له. فالإنسان بدون المسيح شقي عاجز وبه سعيد قادر يشكر الله. وهذه النتيجة أي النجاة بالمسيح من رق الإثم أو فضل النعمة على الناموس مطلوب كل احتجاج الرسول في الأصحاحين السادس والسابع (قابل شكر الرسول هنا بشكره في ١كورنثوس ١٥: ٥٦).
إِذاً أي أن ما يأتي نتيجة ما سبق من هذا الأصحاح في المحاربة بين الطبيعتين في الإنسان وخلاصته.
أَنَا نَفْسِي اعتبر أنه هو فاعل الطاعة والعصيان وأشار بقوله «أنا» إلى طبيعته الجديدة الروحية وبقية الطبيعة الفاسدة وهو يشمل ذهنه الذي يخدم به ناموس الله وجسده الذي يخدم به ناموس الخطيئة.
بِذِهْنِي وعبّر عنه في (ع ٢٣) «بناموس ذهنه» وفي (ع ٢٢) «بالإنسان الباطن» وهو طبيعته الروحية.
أَخْدِمُ نَامُوسَ ٱللّٰهِ اعتبر هذا الناموس مقدساً وعادلاً وصالحاً (ع ١٢ و١٦) فاختاره وسرّ به من صميم قلبه (ع ٢٢). وصدق الرسول بهذه الشهادة لنفسه مع اعترافه أنه غلبته التجربة الناشئة عن شهوات الجسد.
وَلٰكِنْ بِٱلْجَسَدِ نَامُوسَ ٱلْخَطِيَّةِ هذا علّة وفق قوله في (ع ٨) وهو ما أوصله إليه الناموس ولولا النعمة بقي فيه إلى الأبد محارباً مغلوباً. وسيأتي في الأصحاح التالي كلامه على انتصار الروح على الجسد كما أشار في أول هذه الآية.

فوائد



  • إنه لا أحد من الناس ينال القداسة التامة في كل مدة حياته الأرضية بدليل ما شهد به بولس على نفسه وعلى غيره من المؤمنين (ع ١٤ - ٢٥).
  • إنه من أحسن الأدلة على أن الإنسان متجدّد القلب أن يحارب الخطيئة الباقية فيه ويكرهها ويحسبها حملاً ثقيلاً. وأوضح الأدلة على كونه غير متجدد أنه لا يقاوم طبيعته الأصلية ولا يميت شهواتها (ع ١٤ - ٢٥).
  • إن شريعة الله كاملة كواضعها وهي قانون اعتقادنا وسيرتنا فعلينا أن نطالعها ونعلّم غيرنا إياها. وتعليم أننا محرّرون منها باعتبار أنها علّة التبرير لا يحط شرفها ولا يُضعف سلطانها إذ هي تبكت الخاطئ على سوء سيرته وتهدي إلى إتمام واجباته (ع ١٤).
  • إن ما يبرهن فساد طبيعتنا البشرية تأثير ذلك الفساد في أفضل الناس من أول الحياة إلى آخرها مع كل اجتهادهم في التخلص منه (ع ٢٥).
  • إن المسيحي بالحق إذا خطء على غير قصده لا يتخذ هذا الفساد الطبيعي عذراً بل يعترف بأنه خطئ أمام الله فيحزن ويندم (ع ١٤ - ٢٥).
  • إن معرفة الإنسان للحق دون تأثير الروح القدس غير كافية لتجديد قلبه وتقديسه (ع ١٤).
  • إن انتصار المسيحي على الخطيئة لا يقوم بقوة عزمه على الانتصار ولا بنظره في الأسباب الموجبة المحاربة والنصر بل بتمسكه بقوة ربه يسوع المسيح (ع ٢٥).
  • إن عجز المسيحي عن تمام الانتصار على الخطيئة ووجوب محاربتها في كل يوم من أيام حياته مما يزيد شوقه إلى سماء القداسة ويجعله أكثر استعداداً إلى التمتع بطهارتها وراحتها.




الأصحاح الثامن


هذا الأصحاح إيضاح لقول الرسول «أشكر الله بيسوع المسيح ربنا» جواباً لقوله «من ينقذني من جسد هذا الموت» (ص ٧: ٢٥). وإتمام للكلام في فضل الإنجيل على الناموس ليكون المؤمن بالمسيح سعيداً مطمئناً. وأسباب هذا الاطمئنان سبعة:

  • الأول: تحرّره من دينونة الناموس إذ أوفى المسيح كل مطاليبه (ع ١ - ٤).
  • الثاني: ابتداء خلاصه الآن بسكنى الروح القدس فيه لتجديده وتقديسه (٥ - ١١).
  • الثالث: صيرورته ابناً لله (١٢ - ١٧).
  • الرابع: إن ما يصيبه من الأرزاء لا ينافي بنوته لله لأن هذه الأرزاء ليست شيئاً بالنسبة إلى المجد العتيد أن يُعلن ولأن شفاعة الروح القدس تعينه على احتمالها (ع ١٨ - ٢٨).
  • الخامس: اختيار الله إياه لنيل الحياة الأبدية وتقديسه الآن برهان على مختاريته (ع ٢٨ - ٣٠).
  • السادس: بذل الله ابنه ليموت عنه ويحصّل له التبرير والخلاص (ع ٣١ - ٣٤).
  • السابع: إن محبة الله إياه غير محدودة ولا متغيرة ولا شيء يفصله عنها (ع ٣٥ - ٣٩).


اطمئنان المؤمن وسعادته ع ١ إلى ١١


١ «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ».
ع ٤ وغلاطية ٥: ١٦ و٢٥
إِذاً أي ما يأتي نتيجة ما تقدم من احتجاج الرسول على أننا «لسنا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ» (ص ٦: ٤) وعلى أن المسيح مات كفارة عن خطايانا (ص ٥: ٨ وعلى أنه بطاعته تبرّر كثيرون (ص ٥: ١٦).
لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ لا كثير منها ولا قليل لا لخطيئة آدم ولا لخطايانا ولا للخطايا التي ارتكبناها قبل التجديد ولا للخطايا التي ارتكبناها بعده ولا شيء من تلك الدينونة في هذا العالم ولا العالم الآتي.
عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي المتحدين به بالإيمان الذين حمل خطاياهم بموته على الصليب. فإذاً الدينونة على كل من ليسوا فيه ومنهم كل الذين يتكلون على أعمالهم الصالحة للتبرير. فمجرد موت المسيح عن الخاطئ غير كاف لرفع الدينونة عنه لأنه لا يفيد إلا المؤمنين لأنه بالإيمان تُنسب أعمال المسيح كلها إليهم.
إن المؤمنين «هم في المسيح» بمقتضى عهد النعمة كما كانوا «في آدم» بمقتضى عهد الأعمال (ص ٥: ١٢ - ٢١ و١كورنثوس ١٥: ٢٢) و «هم في المسيح» لأن حياته حياتهم كما أن حياة الكرمة حياة أغصانها (يوحنا ١٥: ١ - ٧) وحياة الرأس حياة الأعضاء (١كورنثوس ١٢: ٢٧ وأفسس ١: ٢٣). و «هم في المسيح» بواسطة إيمانهم به (غلاطية ٣: ٢٦ و٢٧ وأفسس ٣: ١٧).
ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ دائماً لا وقتاً دون آخر وهذا من صفات المؤمنين لا علّة رفع الدينونة عنهم. فاتحادهم بالمسيح بالإيمان يستلزم أن يكونوا خليقة جديدة (٢كورنثوس ٥: ١٧ وفيلبي ٣: ١٦ و١يوحنا ٢: ٥). وهذا السلوك غير مقصور على أعمالهم الظاهرة فهو يشمل العواطف الباطنة التي تنشأ عنها الأعمال الظاهرة. ومعنى عدم السلوك حسب الجسد عدم الطاعة لأهواء الطبيعة الفاسدة. وذُكر السلوك حسب الجسد في (غلاطية ٥: ١٩ - ٢١).
بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ أي إطاعة للطبيعة الروحية الجديدة بإرشاد الروح القدس الذي هو مصدر كل إنارة وقداسة وقوة وسلام. وذُكرت نتائج هذا السلوك في (غلاطية ٥: ٢٢ - ٢٤).
وقوله «بل حسب الروح» لم يوجد في كل النسخ القديمة فرأى الأكثرون أنه نقله بعض النسّاخ سهواً من موضعه في الآية الرابعة.
٢ «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ».
١كورنثوس ١٥: ٤٥ و٢كورنثوس ٣: ٦ يوحنا ٨: ٣٦ وص ٦: ١٨ و٢٢ وغلاطية ٢: ١٩ و٥: ١ ص ٧: ٢٤ و٢٥
لأَنَّ تعليل لرفع الدينونة عن المؤمنين.
نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ هو بمعنى «الناموس» في (ص ٧: ٢١) «وناموس آخر» و «ناموس ذهني» في (ص ٧: ٢٣) وهو مجموع ما يتحققه المؤمن بالاختبار. وهنا ما يحكم روح الحياة بوجوبه. وقد أُعلن في الإنجيل. و «الروح» هنا هو الروح القدس العامل في نفس الإنسان المتجدّد. وسمّي «روح الحياة» لأنه ينشئ الحياة الروحية في نفس المؤمن.
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ فهو علّة حلول الروح القدس والحياة في المؤمن لاتحاده به كما مر في (ع ١). وعلّة الإعتقاد المذكور في باقي الآية. ولعل في هذا إشارة إلى فعل المسيح ظاهراً وفعل الروح باطناً لإعتاقنا.
أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ ذُكر هذا الناموس في (ص ٧: ٢٣ - ٢٥) وهو سلطان الطبيعة الفاسدة في الإنسان الذي يقوده إلى الخطيئة والموت الذي هو أجرتها. وقد وُصف أيضاً «بالعبودية» وطلب الرسول النجاة منه في قوله «من ينقذني الخ». والفرق بين «ناموس روح الحياة» و «ناموس الخطيئة والموت» أن الذي ينهي عنه الواحد يأمر به الآخر. وصرّح هنا أن روح ناموس الحياة في نفس المؤمن أقوى من ناموس الخطيئة والموت فيفك قيود عبوديته المانعة من تقديسه. وقد تبرهن قبلاً أن موت المسيح يبرّر المؤمن فنتج أن ليس للخطيئة دعوى عليه وثبت قوله «لا دينونة على المؤمنين».
والإعتاق من الخطيئة لا يكون دفعة بل تدرجاً ويتم عند الموت. وهذا قصد روح الحياة وغاية عمله.
٣ «لأَنَّهُ مَا كَانَ ٱلنَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ، فِي مَا كَانَ ضَعِيفاً بِٱلْجَسَدِ، فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ ٱلْخَطِيَّةِ، دَانَ ٱلْخَطِيَّةَ فِي ٱلْجَسَدِ».
أعمال ١٣: ٣٩ وص ٣: ٢٠ وعبرانيين ٧: ١٨ و١٩ و١٠: ١ و٢ و١٠ و١٤ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وغلاطية ٣: ١٣
لأَنَّهُ تعليل للإعتاق المذكور.
مَا كَانَ ٱلنَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ «الناموس» هنا الناموس الأبدي أي شريعة الله. والذي عجز عنه هذا الناموس هو النجاة من سلطان الخطيئة الذي تكلم عليه في (ص ٧). بيّن سابقاً أن الناموس لا يستطيع أن يبرّر من تعدّوه (ص ٢: ٢١ - ٣١) وبيّن هنا أنه عاجز عن التقديس كما عجز عن التبرير والخلاصة أن الناموس عجز عن تخليص الخاطئ ودينونة الخطيئة معاً.
فِي مَا كَانَ ضَعِيفاً بِٱلْجَسَدِ أي لكونه ضعيفاً بسبب ضعف الطبيعة البشرية الفاسدة (ص ٧: ٥). وفي هذا بيان علّة عجز الناموس ودفع لومه لأنه مقدّس وعادل وصالح (ص ٧: ١٢). فهو غير عاجز في السماء بين الملائكة والقديسين ولم يكن عاجزاً على الأرض عن تبرير الناس وتخليصهم لو قاموا بمطاليبه ولا عاجزاً عن إظهار صفات الله المجيدة وإعلان إرادته وتعليم الإنسان ما يجب عليه لله وللناس ولا عن إنذار المتمرد بالهلاك وعقاب العصاة جميعاً. ولكنه لم يستطع أن يدين الخطيئة ويخلّص الخاطئ معاً ولا أن يقدسه لضعف طبيعته وفسادها.
إن الإنسان لا يهاب عظمة الناموس ولا يخاف عقابه حتى يطيعه لقوة ميله إلى إطاعة شهوات الجسد وأهواء القلب الفاسد.
فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ أي الله الآب هو مصدر الخلاص كما جاء في بشارة يوحنا (يوحنا ٣: ١٦). وكونه «مرسلاً» يستلزم أنه كان قبل أن تجسد وهذا موافق لما قيل في (ع ٣٢) ولقوله «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية ٤: ٤ و٥). وإنه كان ابن الله قبل أن أُرسل إلى العالم فإذاً لم يكن ابنه بولادته الخارقة الطبيعة ولا بارتفاعه بعد موته ولا بأنه أعظم خلق الله كما ظن بعضهم فهو ابنه منذ الازل وهو والآب جوهر واحد مساوٍ له في القدرة والمجد أرسله الله ليقوم بما عجز الناموس عنه. وعلّة ذكر الرسول نسبة المسيح إلى الله أي كونه ابنه ليبيّن عظمة النجاة التي كانت به لأنها لم تكن إلا بوسيط هو إله كما هو إنسان وأن مصدرها الله الآب الذي أرسله.
فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ أي في الناسوت. اختار الرسول هذه العبارة على أن يقول «في الجسد» دفعاً لتوهم أنه جاء في مثل جسد آدم حين خلقه الله على صورته ولم يقتصر على قوله «في شبه جسد» لأنه جاء في جسد حقيقي (يوحنا ١: ١٤). ولم يقل في جسد الخطيئة لئلا يلزم منه ان طبيعته كانت فاسدة كسائر البشر وهو مناف للقول أنه «فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» (عبرانيين ٤: ١٥ انظر لوقا ١: ٣٥ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وعبرانيين ٩: ١٤ و١بطرس ٢: ٢٢) ومثل هذه الآيات كثير في الكتاب. فقال «في شبه جسد الخطيئة» لأنه كان إنساناً في كل شيء ما خلا الخطيئة فكان جسده قابلاً البرد والجوع والتعب والألم والموت كسائر أجساد البشر وكانت روحه قابلة الحزن والفرح وغير ذلك من الانفعالات النفسانية ليشعر معنا بضيقاتنا و «لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلّٰهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ» (عبرانيين ٢: ١٧).
وَلأَجْلِ ٱلْخَطِيَّةِ بعد أن ذكر الهيئة التي أُرسل بها المسيح ذكر الغاية من إرساله وهي أن يقدّم نفسه ذبيحة كفارة عن الخطيئة وأن يبيد الخطيئة ويبطل سلطانها على الناس (غلاطية ١: ٤ وعبرانيين ١٠: ٦ و٨ و١٨ و١٣: ١١).
دَانَ ٱلْخَطِيَّةَ بحمله قصاصها وإبطاله سلطانها وهذا ما لم يستطعه الناموس وأن يخلّص الخاطئ أيضاً نعم أنه يقدر أن يدين الخطيئة بإهلاك الخاطئ عقاباً على الخطيئة ولكنه لم يستطع أن يدينها بلا إهلاكه.
فِي ٱلْجَسَدِ أي بالناسوت. ومعنى الجملة أن المسيح أخذ طبيعة الإنسان لكي يحمل قصاص الخاطئ بها بالآلام والموت فدان الخطيئة بها. ومما يدل وجوب أن تكون الكفارة في الطبيعة التي خطئت نفسها وصارت عرضة للدينونة قوله «إِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ... لأَنَّهُ حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلاَئِكَةَ، بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ» (عبرانيين ٢: ١٤ و١٦). فلو شاء أن يخلص الملائكة الذين سقطوا لوجب أن يأخذ طبيعة ملاك ويتألم فيها. وأن المسيح حين مات على الصليب كسر شوكة الخطيئة عن الناس وأعتقهم من رقها فضلاً عن احتماله ما وجب عليهم من القصاص. فالمؤمن بالمسيح يشترك في كل نتائج موته أي أنه ينجو من قصاص الخطيئة وسلطانها أعني أنه يتبرّر ويتقدّس.
ذهب بعض المفسرين أن المراد «بالخطيئة في الجسد» ميل الإنسان إلى الخطيئة لأهوائه الجسدية وهو موضوع الأصحاح السابع. وهذا الميل هو الذي يطرح الإنسان في العبودية وهو الذي لا يستطيع الناموس أن يخلصه منه. فالمسيح لما دان الخطيئة في الجسد أزال الميل الفاسد بإعطائه نعمة للمؤمنين لكي يغلبوه. فالمعنى حسن ولكن لا دليل على أن الرسول قصده.
٤ «لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ ٱلنَّامُوسِ فِينَا، نَحْنُ ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوح».
ع ١
لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ ٱلنَّامُوسِ فِينَا هذا غاية الله من إرسال ابنه ليدين الخطيئة في الجسد أي هو أن يوفي عنّا الناموس كل ما له علينا من المطاليب بإطاعته أوامره واحتماله ما أوجبه علينا من القصاص. وهذا علّة تبريرنا وغايته التي هي التقديس كما يظهر من قوله «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس ٢: ١٠). وقال «لكي يتم حكم الناموس فينا نحن المؤمنين» ولم يقل لكي نتمم حكمه لأن ما يطلبه الناموس هو الطاعة الكاملة التي لم يستطعها الإنسان لكنه تمّ فينا بالمسيح وبالإيمان يكون فعل المسيح ذلك فعلنا. وما نقوم به نحن من مطاليب الناموس إنما نقوم به بفعل الروح القدس فينا وهو لا يستحق أن يُحسب إتماماً لحكم الناموس لأنه زهيد.
ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ هذا صفة للمؤمنين ونتيجة تبريرهم ودليله لا علّته. وهو أيضاً نتيجة سكنى الروح القدس فينا المشار إليها في (ع ٢).
«والسلوك» هو سير الإنسان في نواياه وأعماله وغاياته خيراً كان أم شراً كما في (تكوين ٥: ٢٤ و٦: ٩ و٤٨: ١٥ ومزمور ١: ١ وإشعياء ٢: ٥ وميخا ٢: ٦ وأفسس ٤: ١٦).
«والجسد» هنا «ناموس الخطيئة في أعضائنا» (ص ٧: ٢٣). والسلوك بحسب الروح لا بحسب الجسد غاية الله من المؤمنين ومطلوبه منهم. نعم أنهم لم يتمموا مقصود الله كما ينبغي لكنهم قاوموا أهواء الجسد وتسليمهم لتلك الأهواء أحياناً لم يكن باختيارهم.
بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي يجدّد روح المؤمن ويسكن فيه ويحثه على مقاومة الخطيئة واتباع القداسة ويقدره على ذلك.
٥ «فَإِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ، وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ حَسَبَ ٱلرُّوحِ فَبِمَا لِلرُّوحِ».
يوحنا ٣: ٦ و١كورنثوس ٢: ١٤ غلاطية ٥: ٢٢ و٢٥
هذه الآية تفسير للآية الرابعة وبيان لعلّة سلوك البعض حسب الجسد والبعض حسب الروح وهي أن كل إنسان يسلك كما تقوده عواطف قلبه.
ٱلَّذِينَ هُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي غير المتجددي القلوب الذي يطيعون شهوات الجسد اختياراً ويسلمون أنفسهم بسرور إلى حكم طبيعتهم الفاسدة.
فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ أي لا يهتمون بغير الأمور الجسدية حلالاً أو حراماً ولا يفتكرون إلا فيها ولا يجعلون غايتهم إلا تحصيلها. ووصفهم الرسول في موضع آخر بأنهم «ٱلَّذِينَ إِلٰهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي ٱلأَرْضِيَّاتِ» (فيلبي ٣: ١٩).
ٱلَّذِينَ حَسَبَ ٱلرُّوحِ أي الذين يقودهم الروح القدس ويعلّمهم ويرضى عنهم.
فَبِمَا لِلرُّوحِ أي الأمور الروحية المعلنة في كتاب الوحي. فالناس بمقتضى الكتاب المقدس ليسوا سوى قسمين أرضيين وسماويين ولا وسيلة للإنسان إلى الحكم عليهم إلا سلوكهم كما لا وسيلة إلى الحكم على الينبوع إلا ماؤه ولا إلى الحكم على الشجرة إلا أثمارها.
٦ «لأَنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلٰكِنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ».
ص ٦: ٢١ وع ١٣ وغلاطية ٦: ٨
لأَنَّ هذا تعليل لعدم اهتمام المؤمنين بالجسد.
ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ تسليم الإنسان نفسه إلى شهوات طبيعته غير المتجددة والسير بمقتضاها واستمراره على ذلك لا يكترث بغير الأرضيات.
هُوَ مَوْتٌ أي موت النفس والجسد حي. فهو خلاف الحياة الروحية فيتضمن الانفصال عن الله والخطيئة والتعرض للشقاء ونهايته الهلاك الأبدي (أفسس ٢: ١ و٥ و١تيموثاوس ٥: ٦).
ٱهْتِمَامَ ٱلرُّوحِ عناية نفس المؤمن بالأمور الروحية المقدسة وهي من منشآت الروح القدس إجابة للصلاة.
هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ حقيقيان دائمان وعربون الحياة الأبدية والسعادة السماوية. وهذا نتيجة اهتمام الروح لأن الروح القدس الساكن في قلب المؤمن محيٍ. ولا يلزم من ذلك أن المؤمن يكون خالياً من أتعاب هذا العالم وشدائده. فالمعنى أن شعوره بمحبة الله إياه وراحة ضميره وتعزيات الكتاب المقدس وآماله المجيدة تقدّره على الاستخفاف بتلك الشدائد. وأما الإنسان الدنيوي فليس له سلام باهتمامه في تحصيل الغنى والسلطة والشرف العالمي وإشباع شهواته الحيوانية.
٧ «لأَنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ أَيْضاً لاَ يَسْتَطِيعُ».
يعقوب ٤: ٤ و١كورنثوس ٢: ١٤
لأَنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ هذا تعليل لأنه موت لأن عداوة المهتم بالجسد لله تستلزم انقطاعه عن الله مصدر الحياة الروحية والتعرض لغضبه تعالى وللعقاب المعيّن وهو الموت الأبدي.
إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ ٱللّٰهِ هذا برهان على أن اهتمام الجسد عداوة لله لأن ناموس الله إعلان مشيئته فمخالفته مخالفة الله ومخالفة الله عداوة له. وهو صرّح فيه بأن اهتمام الجسد مكروه لديه وأمر بإماتة شهوات الجسد فالذي يسير بمقتضى تلك الشهوات يعصي الله (يعقوب ٤: ٤ و١يوحنا ٢: ١٥).
لأَنَّهُ أَيْضاً لاَ يَسْتَطِيعُ لأنه لو استطاع لاجتمع الضدان وهو محال. فإن الإنسان المهتم بالجسد يتبع إرادة نفسه والذي يخصع للناموس يتبع إرادة الله فلو خضع لناموس الله بطل أن يكون مهتماً بالجسد (قابل هذا بما في متّى ٧: ٨ و١٢: ٢٦ ويوحنا ٦: ٤٤ و١كورنثوس ٢: ١٤).
٨ «فَٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا ٱللّٰهَ».
معنى هذه الآية كمعنى الآية السابعة.
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْجَسَدِ الذين يجعلون اهتمامهم بأهواء الجسد غايتهم العظمى فهم بمقتضى ما سبق أعداء لله غير خاضعين لناموسه ولا يستطيعون أن يرضوا الله ما بقوا في تلك الحال لأن كونهم أعداء الله يستلزم أن يكون عدوهم ويكونوا عرضة لغضبه. وعبّر عن المهتمين بالشهوات بكونهم «في الجسد» كما عبّر عن المهتمين بالروحيات بكونهم «في المسيح» فيحتمل أنهم يفعلون وهم في تلك الحال أموراً كثيرة حسنة موافقة لشريعة الله لكنهم لا يرضون الله بها لكونهم لا يأتونها بغية الطاعة له.
٩ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي ٱلْجَسَدِ بَلْ فِي ٱلرُّوحِ إِنْ كَانَ رُوحُ ٱللّٰهِ سَاكِناً فِيكُمْ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ فَذٰلِكَ لَيْسَ لَهُ».
١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩ يوحنا ٣: ٣٤ وغلاطية ٤: ٦ وفيلبي ١: ١٩ و١بطرس ١: ١١
وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي ٱلْجَسَدِ بَلْ فِي ٱلرُّوحِ صرّح بولس بأن مسيحيي رومية ليسوا جسدانيين بل روحيين وحكم بذلك بناء على إقرارهم بالإيمان بالمسيح وعلى ما سمعه من أمرهم كما يظهر من قوله «أَشْكُرُ إِلٰهِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، أَنَّ إِيمَانَكُمْ يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ» (ص ١: ٨). ولكن إقرار الإنسان وصيته ليسا بيّنة كافية على كونه روحانياً لأنه يمكن أن يكون مرائياً خادعاً لغيره أو لنفسه ولذلك زاد على هذا ما يأتي.
إِنْ كَانَ رُوحُ ٱللّٰهِ سَاكِناً فِيكُمْ كما ينبغي أن يسكن في كل مسيحي. هذا هو الذي يؤكد أن الإنسان روحي لا قوله بأنه كذا ولا كونه عضواً في الكنيسة. إن روح الله لا يسكن في الإنسان إلا ليلّعمه ويرشده ويطهّره من أهواء الجسد. وهذا الروح في كل مكان لكنه قيل على نوع خاص أنه حيث تظهر آيات وجوده. وبهذا المعنى قيل قديماً أنه «سكن في الهيكل». وقيل في العهد الجديد أنه «يسكن في الكنيسة» (أفسس ٢: ١٩ - ٢٢). وقيل أنه يسكن في كل مؤمن ومن ذلك قوله «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ» (١كورنثوس ٦: ١٩ انظر ايضاً يوحنا ١٤: ١٩ و١كورنثوس ٣: ١٦ و٢كورنثوس ٢: ١٦ و٢تيموثاوس ١: ١٦).
إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ أي إن كان أحد غير ساكن فيه الروح القدس (وهو الذي عبّر عنه «بروح الله» في أول الآية) ولا يظهر تأثير لسكناه فيه.
فَذٰلِكَ لَيْسَ لَهُ أي ليس تلميذ المسيح حقيقة ولا ممن له شركة في الخلاص الذي أعدّه لأنه لا اتحاد لأحد بالمسيح إلا بسكنى الروح القدس فيه.
مما يستحق الاعتبار هو أن الروح القدس الأقنوم الثالث في اللاهوت سُمّي هنا «روح الله» و «روح المسيح» وسمي أيضاً «روح المسيح» في (غلاطية ٤: ١٦ وفيلبي ١: ١٩ و١بطرس ١: ١١). وينتج من ذلك أن نسبة الروح إلى المسيح كنسبته إلى الله الآب وهذا برهان قاطع على لاهوت المسيح. وهذا البرهان كالبرهان في قول يوحنا إن المسيح «يعمّد بالروح القدس» (يوحنا ١: ٣٢) وأنه «يرسله إلى تلاميذه» (يوحنا ١٥: ٢٦ و١٦: ٧) وأنه «أعطى تلاميذه إياه» (يوحنا ٢٠: ٢٢).
١٠ «وَإِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ، فَٱلْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَأَمَّا ٱلرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ ٱلْبِرِّ».
ذكر في الآية التاسعة نتيجة خلو الإنسان من روح المسيح مصدر الحياة وذكر في هذه الآية نتيجة حلوله فيه.
وَإِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ أي إن كنتم متحدين بالمسيح الاتحاد الكامل الموجب لحياتكم وهذا كقوله «وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَهُوَ ٱلرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ ٱلرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ» (٢كورنثوس ٣: ١٧). وقوله «ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ١: ٢٧).
من الواضح أن بولس أتى بجمل مترادفة أي بمعنى واحد مثل أن «الله يسكن فينا» وأن «روح الله» كذا وأن «روح المسيح» كذلك وهذا لأن الله واحد في ثلاثة أقانيم أو ثلاثة أقانيم في جوهر واحد فلذلك حيث يكون الآب الابن وحيث يكون الابن الروح. وعلى هذا قال المسيح «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا ١٤: ٢٣). وقول الرسول «مَنِ ٱعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، فَٱللّٰهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي ٱللّٰهِ» (١يوحنا ٤: ١٥).
فَٱلْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ ٱلْخَطِيَّةِ الجسد هنا ليس سوى الجسد المنظور المشتمل على اللحم والدم. ومعنى «ميت» محكوم عليه بالموت ولا بد من أن يموت. وهذا الموت يتضمن الأمراض والأوجاع والضعف والأرزاء التي تتقدمه والخطيئة علّة جميعها لأنه لولا الخطيئة لم يكن موت ولا ما يؤدي إليه. وهذه كلها تلحق أجساد المؤمنين كما تلحق أجساد غيرهم ولكنها لا تلحقها بعد الموت لأنها حينئذ تشارك النفوس في فوائد الفداء (ع ١١).
وقوله «فالجسد ميّت بسبب الخطيئة» لا يستلزم أن الجسد مركز الخطيئة وأنه وحده يستحق القصاص إنما استحسن الله أن يترك هذا القدر من عقاب الخطيئة على المؤمنين (أي موت الجسد) لكنه ينزع شوكته عنهم.
وَأَمَّا ٱلرُّوحُ فَحَيَاةٌ أي أن روح المؤمن نالت حياة جديدة أبدية بواسطة اتحادها بالمسيح حياتها.
بِسَبَبِ ٱلْبِرِّ أي تجديد القلب عند الإيمان وتقديسه بعده وهذا نتيجة سكنى روح المسيح في القلب حسب قوله «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا ٦: ٤٧). فحيث الإيمان الاتحاد بالمسيح وحيث هذا الحياة وحيث الحياة البرّ. وعلامات الحياة الروحية مقاومة الخطيئة والاشتياق إلى القداسة. وهذا عربون تمام القداسة والسعادة في العالم الآتي. ومن البيّن أن البرّ المشار إليه لا يمكن الإنسان أن يحصل عليه ما لم يكن قد نُسب إليه برّ المسيح. فمعنى الجملة أن روح المؤمن حيّة لأنها مبرّرة ومقدسة.
١١ « وَإِنْ كَانَ رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَٱلَّذِي أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ ٱلْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ ٱلسَّاكِنِ فِيكُمْ».
أعمال ٢: ٢٤ ص ٦: ٤ و٥ و١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ٤: ١٤ وأفسس ٢: ٥
معنى هذه الآية أن جسد المؤمن يشارك روحه في العالم الآتي في فوائد الفداء.
رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أي روح الله الذي هو الروح القدس. وصفه بولس بهذا للعلة التي ذُكرت في تفسير (ص ٤: ٢٤). وذُكرت أدلة إقامة الله للمسيح في (أعمال ٢: ٢٤ و٣٢ و٣: ١٥ و٢٦ و٤: ١٠ و٥: ٣٠ و٢٦: ٨ و١كورنثوس ٦: ١٤ و٢كورنثوس ٤: ٤) وأمثال ذلك كثيرة في العهد الجديد.
سَاكِناً فِيكُمْ سبق الكلام على هذا في تفسير (ع ٩).
فَٱلَّذِي أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ هذا لقب يسوع أو صفته لأنه مُسح ملكاً وكاهناً ونبياً أما يسوع فهو اسمه المعروف به بين الناس.
سكنى الروح القدس في قلوب المؤمنين عربون أنه يقيم أجسادهم كما أقام جسد المسيح لأنه من قدر أن يقيم جسد المسيح يقدر أن يقيم أجساد المؤمنين ويليق أن يقيمها لأنها هياكل لروحه القدوس ولا يحسن أن تبقى تحت سلطان الموت. فقيامة المسيح تؤكد قيامة المتحدين به ويؤيد ذلك قوله «كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ. وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. ٱلْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ ٱلَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ» (١كورنثوس ١٥: ٢٢ و٢٣).
سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ ٱلْمَائِتَةَ ماتت هذه الأجساد «بسبب الخطيئة» (ع ١٠) فاقترانها بالنفوس المجدّدة تؤكد مشاركتها لها في كل فوائد الفداء. والمشار إليه هنا هو ما يحدث في اليوم الأخير وهو اليوم الذي فيه نتغير إلى شبه جسد المسيح الممجد.
بِرُوحِهِ ٱلسَّاكِنِ فِيكُمْ علّة قيامة أجسادهم روح الله فكونه مجدّد النفس يستلزم أنه يقيم الجسد لأنهما إنسان واحد ولا يكون الانتصار على الموت كاملاً إلا بذلك.
وعدم ذكر قيامة الأشرار في هذه الآية ليس بدليل على أن أجسادهم لا تقوم إذ لا داعي إلى ذكرها هنا. وكثيراً ما ذُكرت في غير هذا الموصع ومن ذلك قول دانيال «وَهَؤُلاَءِ إِلَى ٱلْعَارِ لِلاِزْدِرَاءِ ٱلأَبَدِيِّ» (دانيال ١٢: ٢). وقول المسيح «فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يوحنا ٥: ٢٩).

فوائد



  • إن ما في هذا الفصل نتيجة ما سبق ولذلك ذكر الرسول فيها التعاليم الجوهرية التي كان يحتجّ بها. منها أن التبرير بالإيمان (ع ١). وأن المؤمنين ليسوا تحت الناموس (ع ٢). وأن ما عجز عنه الناموس أي التبرير حصّله الله لنا بتقديم ابنه كفّارة (ع ٣ و٤). وأن تلك البركة مقترنة دائماً بالحياة المقدسة (ع ٤).
  • إن اطمئنان المؤمنين المتحدين بالمسيح الذين يظهر اتحادهم به بأعمالهم الحسنة هو جوهر هذا الأصحاح كله وأثبته الرسول في هذا الفصل بأمرين الأول أنهم تحرروا من الناموس الذي حكم عليهم بالموت (ع ٢ - ٤). والثاني أنهم نالوا الروح القدس الذي هو منشئ الحياة الأبدية وعربونها. فإذاً لا اطمئنان لغير المؤمنين بالمسيح لبقائهم تحت حكم الناموس ولعدم اتحادهم بالمسيح وبروحه المحيي.
  • إن الحرية التي حرّر المسيح بها شعبه هي التحرر من الناموس ومن الخطيئة معاً (ع ٢ و٥). فإذاً الاتكال على أعمالنا الصالحة للخلاص وسوء السيرة كلاهما مناف لما يتوقع من المسيحي بالحق.
  • إنه يحق للمؤمنين أن يطمئنوا ويسروا اطمئنانا وسروراً لا يحقان لغيرهم لأنه أوفي كل ما عليهم من مطاليب الناموس. فالذي الله برّره من يدينه (ع ٤).
  • إن المسيح إله حق لأنه ابن الله وله وللآب جوهر واحد وطبيعة واحدة وأن الروح القدس روحه وأنه يسكن في المؤمنين وأنه إنسان حق ظهر في شبه الناس (ع ٣ و١١).
  • إن المسيح قدّم نفسه ذبيحة عن الخطيئة واحتمل كل ما احتمله من الآلام ليوفي الناموس حقه على من تعدوه فدان الله الخطيئة بالمسيح (ع ٣).
  • إن كل تعاليم الكتاب المقدس مناف للقول بأن الناموس ليس بقانون الحياة المسيحية إذ حقق بولس هنا أن التبرير والتقديس لا يمكن انفصال أحدهما عن الآخر وأنه لا يقدر أحد أن يرضي الله ويسلك بحسب الجسد (ع ٥ - ١١).
  • إن الله جعل القداسة من ضروريات نظامه إذ رتب أن تكون الخطيئة موتاً والقداسة حياة وسلاماً فربط الإثم بالشقاء والقداسة بالسعادة بربط لا تنفك. وهذا التعليم لا ينفيه كون الأتقياء عرضة للبلاء وكون المسيح «رجل أوجاع ومختبر الحزن». لأن ذلك ليس بناتج عن القداسة (ع ٦).
  • إن ما يستمر عليه الإنسان من الأفكار والأشواق والغايات هو مقياس سجيته «لأن الذين حسب الجسد بما للجسد يهتمون الخ» (ع ٥).
  • إن كل الذين لم يتجددوا أي «الذين هم في الجسد» هم أعداء لله وعرضة لغضبه (ع ٦ و٨).
  • إن الروح القدس مصدر كل خير في الإنسان فالذي يمتاز به المسيحي بالحق عن غيره هو سكنى الروح القدس فيه وعليها يتوقف شرف المسيحي وقداسته وسعادته. فالخالون من تأثير ذلك الروح ليسوا طائعين لشريعة الله ولا يستطيعون (ع ٧ - ١٠).
  • إن موت المؤمنين والمصائب التي تصيبهم نتيجة الخطيئة (ع ١٠) لكنها ليست بعقاب ولا بدليل على غضب الله عليهم إنما هي آية محبته الأبوية (عبرانيين ١٢: ٦).
  • إن المسيح لم يقتصر على فداء نفوس المؤمنين ففدى أجسادهم أيضاً (ع ١١).
  • إنه يجب على المسيحي لأن الروح القدس يسكن فيه أن لا يُحزن ذلك الضيف القدوس بشيء من الأفكار التي يكرهها وأن لا يدنس جسده لأنه هيكله (ع ١١).



اطمئنان المؤمنين لرجائهم وسكنى الروح القدس فيهم ع ١٢ إلى ٢٨


١٢ «فَإِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ نَحْنُ مَدْيُونُونَ لَيْسَ لِلْجَسَدِ لِنَعِيشَ حَسَبَ ٱلْجَسَد».
ص ٦: ٧ و١٤
فَإِذاً أي ما يأتي نتيجة (ع ١٠ و١١).
نَحْنُ أي المؤمنون.
مَدْيُونُونَ لَيْسَ لِلْجَسَدِ كل من الجسد والروح قوة تطلب التسلط على الإنسان فالجسد كناية عن الخطيئة والروح كناية عن القداسة. ومعنى العبارة أن المؤمنين غير مكلفين البتة بإطاعة الطبيعة الفاسدة التي استعبدتهم قبلاً وهي عداوة لله ومهلكة للنفوس كما سبق.
لِنَعِيشَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي لنسلك بمقتضى الشهوات المحرّمة ونسلّم أنفسنا للكبرياء والحسد والبغض وأمثال ذلك. فإذاً نحن مديونون لنعيش حسب الروح والرسول لم يصرّح بهذه النتيجة اعتماداً على استنتاج القارئ لها. فيجب علينا أن نعيش في التقوى والقداسة حسب إرشاد روح الله الساكن فينا وحسب توقعنا القيامة للحياة الأبدية.
١٣ «لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِٱلرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ ٱلْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ».
ع ٦ وغلاطية ٦: ٨ أفسس ٤: ٢٢ وكولوسي ٣: ٥
هذه الآية تعليل للآية الثانية عشرة وهي بمعنى الآية السادسة.
إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ هذا كقوله «ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً» (غلاطية ٦: ٧ و٨). فالموت قصاص الخطيئة كما سبق في تفسير (ص ٥: ١٢) وهذا يستلزم مقاومة الأهواء دائماً والمواظبة على القداسة.
بِٱلرُّوحِ أي الروح القدس أو روح الله (ع ١٤). وهو يمنح المؤمن قدرة لينتصر على الطبيعة الفاسدة داخلاً وتجارب العالم والشيطان خارجاً ولا ينتصر المؤمن إلا به على أنه لا يعفي المؤمن من الاجتهاد والمجاهدة الروحية ولا يؤازر إلا من يطلبه.
تُمِيتُونَ أَعْمَالَ ٱلْجَسَدِ هذه الأعمال هي ما يرتكبه الإنسان من الشرور باتخاذه جسده آلة. وإماتتها كرهها والامتناع عنها. وذلك لا يدرك إلا بعد الجهاد الشاق والزمان الطويل. ومثل هذا قوله «أَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ ٱلَّتِي عَلَى ٱلأَرْضِ: ٱلزِّنَا، ٱلنَّجَاسَةَ، ٱلْهَوَى، ٱلشَّهْوَةَ ٱلرَّدِيَّةَ، ٱلطَّمَعَ ٱلَّذِي هُوَ عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ» (كولوسي ٣: ٥). ولعل الرسول قصد إفهام المخاطبين أنهم إن لم يميتوها هم أماتتهم هي.
سَتَحْيَوْنَ أي تتمتعون بتلك الحياة التي هي هبة الله لا أجرة إماتة أعمال الجسد (ص ٦: ٢١). فهي حياة قداسة وسعادة ومجد أبدي (ع ١٤).
١٤ «لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ».
غلاطية ٥: ١٨
لأَنَّ هذا تعليل للعيشة بالروح والعلة أنهم أبناء الله.
ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ هذا كقوله «السالكين حسب الروح» (ع ١٤). انقياد المؤمنين بالروح انجذابهم به واهتداؤهم به إلى القداسة والسماء وتأثر نفوسهم وأفكارهم وأعمالهم به أبداً. وقوله «ينقادون بروح الله» يشير إلى أن عمل الروح سابق لسيرة المؤمن وعلّة لها وأن المؤمن يُرشد به طوعاً لا كرهاً. وروح الله هنا هو الأقنوم الثالث من اللاهوت وسمي في هذا الأصحاح بثمانية أسماء وهي «روح الحياة» (ع ٢). و «روح الله» (ع ١٤) و «روح المسيح» (ع ٩) و «روح الذي أقام يسوع» (ع ١١) و «الروح الساكن فيكم» (ع ١١) و «الروح الذي يشهد لأرواحنا» (ع ١٦) و «الباكورة» (ع ٢٥) و «الذي يشفع فينا» (ع ٢٦). وتعليم أن الروح القدس يقود المؤمنين تعزية عظيمة لهم لأنه ليس مجرد تأثير إلهي بل هو أقنوم عالم محب رحيم.
هُمْ أي لا غيرهم.
أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ هذا اللقب يشير إلى أنهم مشابهون لله (متّى ٥: ٩ وغلاطية ٣: ٧) وأنهم محبون لديه حباً مخصوصاً (ص ٩: ٢٦ و٢كورنثوس ٦: ١٨) وأنهم ممتازون بحقوق (تثنية ١٤: ١ وهوشع ١: ١٠ ورومية ٩: ٤ و١يوحنا ٣: ٢).
ظن اليهود أن تسلسلهم من إبراهيم جعلهم أبناء الله وأن هذا مقصور عليهم. فهذه الآية تصرّح بأن أبناء الله هم المنقادون بروحه من أي أمة كانوا.
١٥ «إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ ٱلْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا ٱلآبُ!».
يوحنا ١٥: ١٥ و١كورنثوس ٢: ١٢ وعبرانيين ٢: ١٥ و٢تيموثاوس ١: ٧ و١يوحنا ٤: ١٨ إشعياء ٦٩: ٥ ومرقس ١٤: ٣٦ وغلاطية ٤: ٥ و٦
في هذه الآية برهان على أنهم أبناء الله بناء على اختبارهم حين آمنوا وتجدّدوا وسكن الروح القدس فيهم.
إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا حين آمنتم.
رُوحَ ٱلْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ كالذين هم تحت الناموس فإنهم عبيد يرتعدون تحت حكم سيد لا يستطيعون إطاعته التامة ويخشون نقمته يهوداً وأمماً فإن بعضهم يخدم الله والبعض يخدم الأوثان خوفاً من الغضب والعقاب وطمعاً في النجاة من الموت بالطاعة لناموس الوحي أو لناموس الضمير.
بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي أي شعور البنين حين يطيعون والديهم. وهذا الشعور من مواهب الروح القدس ونتيجة سكنه في القلب وعربون الحياة الأبدية ( أفسس ١: ١٤).
ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ أي نخاطب الله في الصلاة واثقين كالبنين بإرشاد الروح القدس.
يَا أَبَا ٱلآبُ هذا ما ينادي به البنون أباهم لا ما ينادي به العبيد سيدهم. فمناداة المؤمنين الله بذلك دليل على أنهم أولاده وحق لهم ذلك بالنعمة لا بالنسب البشري بدليل قوله تعالى «اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١: ١٣). و «أبا» في السريانية كالآب في العربية ولم يُعلم علّة ذكر الرسول ذلك بلغتين. ذهب البعض أن العلة تعوّد بولس السريانية من صغره واليونانية في أوائل شبيبته فاستحسن أن يخاطب الله بما اعتاد أن يخاطب أباه به في صغره دلالة على شدة محبته لله وثقته به. وبيّنه «بالآب» إفادة لليونانيين غير العارفي السريانية كما فعل للغلاطيين (غلاطية ٤: ٦). وظن ذلك البعض أن المسيح جرى هذا المجرى بصلاته في جثسيماني (مرقس ١٤: ٣٦) وفسر يوحنا «أبا» لإفهام اليونانيين.
وظن آخرون أن المسيحيين اتخذوا يومئذ لفظة «أبا» عَلماً لله فيكون قوله «يا أبا الآب» بمنزلة قولنا «يا الله الآب».
وظن غيرهم أن بولس أشار باستعمال اللفظتين معاً إلى اشتراك المؤمنين من اليهود والأمم في الصلاة كأنهم أهل بيت واحد يصلون بصوت واحد.
١٦ «اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ».
٢كورنثوس ١: ٢٢ و٥: ٥ وأفسس ١: ١٣ و٤: ٣٠
معنى هذه الآية أن الروح القدس يؤكد كوننا أبناء الله كما يعلمنا شعورنا.
اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أي الروح القدس كما تدل القرينة وهذا كقوله «لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱللّٰهِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُعْطَى لَنَا» (ص ٥: ٥). وقوله «بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا ٱلآبُ» (غلاطية ٤: ٦).
يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا الخ أي يؤكد لنا ما تشهد به أرواحنا. لم يقل الرسول كيف يشهد الروح بذلك وليس في الإنجيل كله بيان لكيفية تأثير الروح في الناس ليحملهم على التوبة والإيمان. فالإنسان لا يشعر بفعل الروح في قلبه كأنه تأثير قوة خارجية لكنه يشعر بنتيجة حضوره وفعله فيه ويُعرف من شهادة الكتاب المقدس أن تلك النتيجة لا تكون إلا من الروح. وهذا كقول المسيح لنيقوديموس «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ» (يوحنا ٣: ٨). فللمسيحيين أن يثقوا بكونهم أبناء الله متى أحبوا الله محبة البنين وشهد لهم الروح القدس بالبنوة.
١٧ «فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ».
أعمال ٢٦: ١٨ وغلاطية ٤: ٧ أعمال ١٤: ٢٢ وفيلبي ١: ٢٩ و٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢
هذا نتيجة ضرورية من البنوة فهو يؤكد اطمئنان المؤمنين الذي هو موضوع هذا الأصحاح.
وَرَثَةُ ٱللّٰهِ أي ورثة ملكوته السماوي. والميراث هو الخلاص والمجد اللازم عنه. والجوهري في الميراث أنه لا خوف على مالكه من اعتراض وبذلك امتاز عما يقتنيه الإنسان بالشراء أو بالهبة أو بالسلب. وما قيل هنا كقوله «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (غلاطية ٣: ٢٩). وقوله «إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ٱبْناً، وَإِنْ كُنْتَ ٱبْناً فَوَارِثٌ لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٤: ٧ انظر أيضاً أفسس ١: ١٤ وكولوسي ٣: ٢٤ وعبرانيين ٩: ١٥).
وَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ هذا بيان لحقيقة ميراث المؤمنين أي أنه ليس شيئاً من الأملاك العالمية إنما هو الشركة في ما ملكه المسيح بدليل قوله «ادخل إلى فرح سيدك» (متّى ٢٥: ٢١). وقوله «تَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي» (لوقا ٢٢: ٣٠). وقوله «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤيا ٣: ٢١). ويعيطهم الله هذا الميراث أي الخلاص لكونهم أولاده. فهم مديونون للمسيح به لأنه «أَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا ١: ١٢).
إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ أي نتألم كما تألم هو نتألم لأجله. فالمؤمنون شركاء آلام المسيح لأنه «احتمل مقاومة من الخطأة» (عبرانيين ١٢: ٣) فهكذا يجب أن يحتملوا. كان هو رجل الأوجاع ومختبر الحزن وكذا يجب أن يكونوا فالذي نقاسيه من أجل الإنجيل هو التألم مع المسيح. ومثل قول بولس هنا قول بطرس «كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ» (١بطرس ٤: ١٣ قابل هذا بما في متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤ و٢كورنثوس ١: ٥ وفيلبي ٣: ١٠ وكولوسي ١: ٢٤).
الفرق بين آلام المسيح وآلام المؤمنين هو أنه تألم من أجلهم وأنهم تألموا لنفع أنفسهم وأن آلامه كانت إيفاء لعقاب الخطيئة وأن آلامهم كانت لتطهيرهم.
إن تألمهم مع المسيح ليس علّة خلاصهم إنما هو من متعلقات خدمة المسيح.
لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ هذا تعليل لقصد الله إرسال الشدائد على المسيحيين فإنه لم يقصد بها عقابهم على خطاياهم لكي يوفي بذلك ما عليهم للشريعة إنما قصد أن يعدهم بواسطتها للمجد. فقد جعل شرط ارتفاعهم أن يهبطوا وادي البلايا وأن يمروا في نيران الشدائد لكي يتطهروا كقول بطرس «لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١بطرس ١: ٧).
إن اتحاد المؤمنين بالمسيح يستلزم الاشتراك في الآلام والمجد كما أشار المسيح بقوله «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متّى ١٦: ٢٤). وكما قال الرسول «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ. إِنْ كُنَّا نَصْبِرُ فَسَنَمْلِكُ أَيْضاً مَعَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢).
إن المؤمنين يتمجدون مع المسيح إكراماً له فتمجدهم نعمة وأما تمجد يسوع المسيح فلأنه استحق المجد. وتمجد المؤمنين ارتقاؤهم في العلم والقداسة والسعادة.
١٨ «فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِٱلْمَجْدِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا».
٢كورنثوس ٤: ١٧ و١بطرس ٦ و٧ و٤: ١٣
أتى الرسول بما في هذه الآية لئلا يظن أحد ما قاله في اشتراك المؤمنين مع المسيح في الآلام أن ذلك مصاب عظيم هائل وأنه برهان على أن المصابين به ليسوا بأولاد الله.
فَإِنِّي أَحْسِبُ أي أتيقن كما جاء في (ص ٣: ٢٨).
آلاَمَ ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ ربما أراد بهذا الإشارة إلى اضطهادات المسيحيين من أجل الإنجيل في عصره والأرجح أنه أشار إلى ما يصيب المؤمنين من مصائب الحياة الأرضية في كل مكان وزمان.
لاَ تُقَاسُ بِٱلْمَجْدِ أي هي ما لا يعتد به بالنسبة إليه لأن ذلك المجد عظيم جداً حتى يهون في سبيل مبتغاه كل هوان الأرض ومصائبها.
ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ في السماء حيث يرون المسيح ويصيرون إلى شبهه كقوله «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي ٣: ٤). وقول يوحنا «ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢ انظر أيضاً ١تيموثاوس ٦: ١٤ و١٥ و٢تيموثاوس ٤: ٨ وتيطس ٢: ١٣ و٢تسالونيكي ١: ١٠ ويعقوب ٥: ٧ و٨ و٢بطرس ٣: ٤ و١٢). وهذا ينالون بعضه على أثر موتهم وكماله عند مجيء المسيح ثانية.
فِينَا أي لا نكون مجرد مشاهدين لذلك المجد بل متمتعين به.
١٩ «لأَنَّ ٱنْتِظَارَ ٱلْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ ٱسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ ٱللّٰهِ».
٢بطرس ٣: ١٣ و١يوحنا ٣: ٢
ما في هذه الآية بيان لعظمة مجد أولاد الله المستقبل لإثبات أن ضيقاتهم في هذه الدنيا ليست شيئاً بالنسبة إليه. وصرّح فيها أنه كما أن المؤمنين الآن في الضيقة وهم يتوقعون النجاة هكذا حال سائر الخليقة. وفي ذلك ما يحقق نجاة الجميع وأن تلك النجاة عظيمة جداً. وفي الآية مجاز ظاهر.
ٱنْتِظَارَ ٱلْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اختلفت الآراء في معنى الخليقة هنا فقد جاءت في بعض الكتاب بمعنى كل ما خلقه الله ومن ذلك قوله «وَلٰكِنْ مِنْ بَدْءِ ٱلْخَلِيقَةِ ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا ٱللّٰهُ» (مرقس ١٠: ٦ انظر أيضاً مرقس ١٣: ١٩ و٢بطرس ٣: ٤). وقد جاءت في بعضه بمعنى الإنسان بمقتضى القرينة ومن ذلك قوله «اكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس ١٦: ١٥ انظر أيضاً كولوسي ١: ١٥ و٢٣ وعبرانيين ٤: ١٣). والأرجح أن معنى الخليقة هنا الأرض وكل ما فيها من الحي والجماد ما خلا الإنسان. ولنا على ذلك أدلة:

  • إن الملائكة والأبالسة مستثنون منها بدليل ما في ع ٢٠ لأن الملائكة الأطهار لم يخضعوا للبطل قط والأبالسة خضعت له طوعاً.
  • إن المؤمنين مستثنون منها بدليل (ع ١٩ و٢١ و٢٣) ولا سيما قوله «بل نحن أيضاً» (ع ٢٣).
  • إن الأشرار من الناس مستثنون بدليل أنهم خضعوا للباطل طوعاً (ع ٢٠) وأنهم لا يعتقون من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله (ع ٢١) وأنهم لا يتوقعون التبني (ع ٢٣).


فإن قيل كيف يصدّق قول الرسول هنا على الخليقة غير الناطقة أنها تئن من عبوديتها للبطل وأنها تنتظر أن تشارك المؤمنين في النجاة قلنا أن الرسول قال ذلك بلسان حالها ولهذا نظائر كثيرة في الكتاب المقدس ومنها قوله «ٱلْجِبَالُ وَٱلآكَامُ تُشِيدُ أَمَامَكُمْ تَرَنُّماً، وَكُلُّ شَجَرِ ٱلْحَقْلِ تُصَفِّقُ بِٱلأَيَادِي» (إشعياء ٥٥: ١٢). وأصل «يتوقع» في اليونانية يمد رأسه ليرى المبشر قادماً ويسمع أخباره. ومعنى العبارة أن الخليقة في غاية الشوق والانتظار للنجاة من عبودية الخطيئة والفساد اقتداء بالمؤمنين المتوقعين تلك النجاة يوم القيامة. وإن توقعهم ذلك يتبين من قول بطرس الرسول «مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ ٱلسَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ. وَلٰكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا ٱلْبِرُّ» (٢بطرس ٣: ١٢ و١٣). وقول يوحنا الرسول «ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ ٱلسَّمَاءَ ٱلأُولَى وَٱلأَرْضَ ٱلأُولَى مَضَتَا» (رؤيا ٢١: ١). فبولس تصوّر الخليقة غير الناطقة كأنها ذات عقل وحياة مشاركة المؤمنين في ذلك الانتظار.
ٱسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ ٱللّٰهِ قصد بهذا ما ينشأ للمؤمنين من التغيّر عند مجيء المسيح ثانية وقيامتهم من الموت حين يظهر المجد الموعود به المقترن بكونهم أبناء الله وشركاء المسيح في مجده. ومما يتعلق بذلك التوقع قوله «وَأَنْتُمْ مُتَوَقِّعُونَ ٱسْتِعْلاَنَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١كورنثوس ١: ٧ انظر أيضاً ١تسالونيكي ١: ١٠ وغلاطية ٥: ٥).
٢٠ «إِذْ أُخْضِعَتِ ٱلْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ لَيْسَ طَوْعاً، بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِي أَخْضَعَهَا عَلَى ٱلرَّجَاء».
تكوين ٣: ١٧ و١٩ وجامعة ١: ٢ وع ٢٢
إِذْ أُخْضِعَتِ ٱلْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ المراد بالبطل التعرض للتغيير والفساد والاضمحلال. فإن الخليقة شاركت الإنسان في نتائج سقوطه كما يظهر من قوله تعالى لآدم «مَلْعُونَةٌ ٱلأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِٱلتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ» (تكوين ٣: ١٧ و١٨). والخليقة لم تزل تتألم بخطايا البشر بدليل قول إشعياء «َٱلأَرْضُ تَدَنَّسَتْ تَحْتَ سُكَّانِهَا لأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا ٱلشَّرَائِعَ، غَيَّرُوا ٱلْفَرِيضَةَ، نَكَثُوا ٱلْعَهْدَ ٱلأَبَدِيَّ. لِذٰلِكَ لَعْنَةٌ أَكَلَتِ ٱلأَرْضَ... نَاحَ ٱلْمِسْطَارُ. ذَبُلَتِ ٱلْكَرْمَةُ. أَنَّ كُلُّ مَسْرُورِي ٱلْقُلُوبِ» (إشعياء ٢٤: ٥ - ٧). وقول إرميا «حَتَّى مَتَى تَنُوحُ ٱلأَرْضُ وَيَيْبَسُ عُشْبُ كُلِّ ٱلْحَقْلِ؟ مِنْ شَرِّ ٱلسَّاكِنِينَ فِيهَا فَنِيَتِ ٱلْبَهَائِمُ وَٱلطُّيُورُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: «لاَ يَرَى آخِرَتَنَا» (إرميا ١٢: ٤). ولم نعلم ماذا كانت حال الخليقة لو لم يسقط الإنسان والأرجح أنه لولا ذلك لم يطرأ الخراب بالزلازل والطوفان والصواعق والزوابع والمجاعات وغير ذلك من المصائب. ومن الواضح أن البهائم تقاسي شديد الآلام من قسوة الإنسان وظلمه ولو بقي الإنسان في قداسته الأصلية ما قاست شيئاً من ذلك. ولا نعلم ماذا كان الله يزيد من المنافع والجمال في العالم لو لم يسقط الإنسان لكن هذا السقوط منع من كل ذلك وجعل الخليقة رهن الفساد (ع ٢١).
لَيْسَ طَوْعاً، بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِي أَخْضَعَهَا أي ليس بإرادتها ولا بسبب ذنبها بل بسبب خطيئة الإنسان وقضاء الله بناء عليها (تكوين ٣: ١٧ و١٨). فإن الله الحكيم شاء أن يجعل الخليقة شريكة الإنسان في حاله من القداسة أو الخطيئة فهو الذي أخضعها للبطل.
عَلَى ٱلرَّجَاءِ أي على أمل أن تشارك المؤمنين في العتق من عبودية الفساد وعلّة ذلك أنها أُخضعت كرهاً. وهذا موافق لوعد الكتاب المقدس بما يحدث عند مجيء المسيح ثانية. ومن ذلك قول إشعياء «أَلَيْسَ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ جِدّاً يَتَحَوَّلُ لُبْنَانُ بُسْتَاناً، وَٱلْبُسْتَانُ يُحْسَبُ وَعْراً؟» (إشعياء ٢٩: ١٧). وقوله «إِلَى أَنْ يُسْكَبَ عَلَيْنَا رُوحٌ مِنَ ٱلْعَلاَءِ، فَتَصِيرَ ٱلْبَرِّيَّةُ بُسْتَاناً، وَيُحْسَبَ ٱلْبُسْتَانُ وَعْراً» (إشعياء ٣٢: ١٥) وقوله. «تَفْرَحُ ٱلْبَرِّيَّةُ وَٱلأَرْضُ ٱلْيَابِسَةُ، وَيَبْتَهِجُ ٱلْقَفْرُ وَيُزْهِرُ كَٱلنَّرْجِسِ. يُزْهِرُ إِزْهَاراً وَيَبْتَهِجُ ٱبْتِهَاجاً وَيُرَنِّمُ. يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَجْدُ لُبْنَانَ. بَهَاءُ كَرْمَلَ وَشَارُونَ. هُمْ يَرَوْنَ مَجْدَ ٱلرَّبِّ، بَهَاءَ إِلٰهِنَا» (إشعياء ٣٥: ١ و٢ انظر أيضاً إشعياء ١١: ٦). ومثل هذا كثير في كتاب الوحي.
٢١ «لأَنَّ ٱلْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ ٱللّٰهِ».
هذه الآية بيان لعلة الرجاء المذكور في (ع ٢٠) وهي قصد الله ولحقيقة ذلك الرجاء. وخلاصة هذه الآية أن الله الذي أخضع الخليقة لعبودية الفساد لسقوط الإنسان في الخطيئة قصد أن الخليقة تشارك المفديين شيئاً في سعادتهم عند مجيء المسيح ثانية. وهذا على وفق قول بطرس «لٰكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا ٱلْبِرُّ» (٢بطرس ٣: ١٣).
سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْفَسَادِ لا عجب إن كانت الأرض التي لُعنت لأجل الإنسان تتبارك ببركته. «وعبودية الفساد» بمعنى الإخضاع للبطل وقد فُسّر في (ع ٢٠).
حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ ٱللّٰهِ أي حرية المفديين المجيدة. عبّر الرسول «بالحرية» عن سعادة أولاد الله ومجدهم عند إكمال عمل الفداء لأن خدمة الله حرية كما أن خدمة الخطيئة عبودية. فمتى اعترف الله بأن المفديين أولاده وكللهم بالجمال وأعتقهم من سلطان التغير والفساد والفناء تشاركهم الخليقة في ذلك الإعتاق. وهذا موافق «للتجديد» (متّى ١٢: ٢٨) و «أزمنة رد كل شيء» (أعمال ٣: ٢١ انظر أيضاً إشعياء ١١: ٦ - ٩ و٣٥: ١ - ١٠ وعبرانيين ١٢: ٢٦ - ٢٨ و٢بطرس ٣: ١٠ - ١٣ ورؤيا ٢١: ١).
يتضح من هذه الآية أن الله في يوم الدين العظيم لا يلاشي الخليقة بل يجدّدها.
٢٢ «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ٱلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى ٱلآنَ».
مرقس ١٦: ١٥ وكولوسي ١: ٢٣ إرميا ١٢: ١١
هذا دليل قاطع على أن الخليقة في عبودية الفساد وأنها تتوقع النجاة.
نَعْلَمُ بالمشاهدة والاختبار.
كُلَّ ٱلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ أي لسان حالها فهي كمن شعرت بمشقاتها ونوازلها وأوجاعها فأنّت لشدة ذلك. ومثلها بقوله «تتمخّص» بامرأة تلد إشارة إلى شدة الألم وقرب النجاة وتوقع حياة جديدة وفرح.
إِلَى ٱلآنَ أي منذ سقوط آدم إلى الزمن الذي كتب الرسول فيه ذلك. ولا بد من أن تبقى الخليقة في تلك الحال إلى أن يأتي المسيح ثانية.
٢٣، ٢٤ «٢٣ وَلَيْسَ هٰكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ ٱلَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ ٱلرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ ٱلتَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا. ٢٤ لأَنَّنَا بِٱلرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلٰكِنَّ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضاً؟».
٢كورثنوس ٥: ٥ وأفسس ١: ١٤ ٢كورنثوس ٥: ٢ و٤ لوقا ٢٠: ٣٦ لوقا ٢١: ٢٨ وأفسس ٤: ٣٠
وَلَيْسَ هٰكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ أَيْضاً أي ما سبق من كلامه في الخليقة يصدق علينا نحن المؤمنين. وهذا دليل على أن الخليقة في (ع ١٩) لا تشتمل على المؤمنين.
بَاكُورَةُ ٱلرُّوحِ معنى الباكورة في كتاب الله أول الأثمار والحصاد الذي يقدّم له تعالى وهي عربون بقية الغلة. وُسمي المسيح «باكورة الراقدين» (١كورنثوس ١٥: ٢) لأنه أول من قام من الموت ولم يتسلط عليه ثانية ولأن قيامته عربون قيامة شعبه (ص ١١: ١٦ و١٦: ٥ و١كورنثوس ١٥: ٢١ ويعقوب ١: ١٨). ومعنى قوله «لنا باكورة الروح» إننا قبلنا الروح القدس الذي هو باكورة ميراث أبناء الله وعربونه وهذا مثل قوله «إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ ٱلْمَوْعِدِ ٱلْقُدُّوسِ، ٱلَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا» (أفسس ١: ١٣ و١٤). وقوله «ٱلَّذِي خَتَمَنَا أَيْضاً، وَأَعْطَى عَرْبُونَ ٱلرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا» (٢كورنثوس ١: ٢٢ انظر أيضاً ٢كورنثوس ٥: ٥). وهذا يصدق على كل المؤمنين إذ يسكن الروح فيهم جميعاً كما تقدم (ع ٩ و١١)،
نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا لشدة البلايا الناشئة عن حالنا الحاضرة وجسدنا معرض الآلام والفساد والموت وروحنا عرضة للتجربة والخطيئة. وهذا ما جعل بولس يصرخ بلسان الجميع قائلاً «ويحي أنا الإنسان الشقي» (ص ٧: ٢٤).
مُتَوَقِّعِينَ ٱلتَّبَنِّيَ أي كماله الذي وُعد المؤمنون به وهذا لا يكون إلا يوم مجي المسيح ثانية. نعم أنهم الآن أبناء الله (ع ١٥ و١٦) لكنهم بمنزلة القاصرين لم يحصلوا على كل حقوق البنوة. وبنوتهم الآن مستترة لا يعرفها العالم ولكنها حينئذ تُعلن للجميع إذ يعترف الله بهم وهي مقصورة على نفوسهم ولكنها حينئذ تعمّ نفوسهم وأجسادهم.
فِدَاءَ أَجْسَادِنَا هذا بدل من التبني أو بيان له. وفداء الأجساد جزء من الفداء الذي اقتناه المسيح وهو إقامة الجسد من القبر وتطهيره من كل آثار الخطيئة وتمجيده كقول الرسول «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١). وقوله «يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً» (١كورنثوس ١٥: ٤٢ - ٤٤). ومثله قول الكتاب «كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. ٱلْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ ٱلَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ» وقوله «نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ ٱلْبُوقِ ٱلأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ ٱلأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ» (١كورنثوس ١٥: ٢٣ و٥١ و٥٢ انظر أيضاً دانيال ١٢: ٣ ومتّى ١٣: ٤٣ و٢كورنثوس ٥: ١ - ٤ و١يوحنا ٣: ١ و٢ ورؤيا ٢٢: ٤). وما أشار إليه بقوله «فداء أجسادنا» في هذه الآية أشار إليه بقوله «حرية مجد أولاد الله» في الآية الحادية والعشرين. والخليقة تنتظر الشركة في ذلك منذ سقوط الإنسان الأول والمؤمنون بالمسيح يتوقعونه منذ أول نشأتهم. وعبّر عن قيامة الأجساد بفدائها تعظيماً للنجاة وسبيل تحصيلها وبياناً لكمالها ولكونها جزءاً من الفداء العظيم الذي صنعه المسيح لنا بدمه.
لأَنَّنَا بِٱلرَّجَاءِ خَلَصْنَا ليس معنى خلصنا بالرجاء كمعنى خلصنا بالإيمان كأن الإيمان والرجاء شيء واحد أو أن كلاً منهما وسيلة إلى التمسك بالمسيح للخلاص. إنما المعنى أن معظم خلاصنا مستقبل فهو أمر نتوقعه لا مقتنى حصلنا عليه. وما حصلنا عليه الآن من الخلاص هو مغفرة خطايانا وراحة ضميرها وسلامنا والذي نتوقعه تقديس نفوسنا التام وإقامة أجسادنا بعد الموت وتمجيدنا ودخولنا السماء والتمتّع بسعادتها.
وَلٰكِنَّ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً الخ أي الحاصل لا يمكن أن يُرجى طبعاً. فلا يمكن أن يُرجى إلا الذي لم يُنظر ولم يُنل.
٢٥ «وَلٰكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِٱلصَّبْرِ».
نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ كل شيء يتوقعه الإنسان هو غير منظور ومن الأمور المستقبلة ومعظم الخلاص كذلك فوجب أن نتوقعه.
فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِٱلصَّبْرِ ليس للمؤمنين أن يحصلوا هنا على الراحة والسرور الموعود بهما في السماء بل عليهم أن ينتظروا التجارب والضيقات ما داموا على الأرض ويرضوا أن يحملوا الصليب بالصبر إلى أن يستحسن الله أن يعطيهم إكليل الحياة وأن لا يحسبوا آلامه وبطوء زمن تمجيدهم دليلاً على أنهم ليسوا بأبناء الله. فكلما تيقّن المؤمن حقيقة ذلك المجد وعظمته هان الصبر عليه واقترن بالسرور فكان مثل سيده «ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ» (عبرانيين ١٢: ٢).
٢٦ «وَكَذٰلِكَ ٱلرُّوحُ أَيْضاً يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا».
متّى ٢٠: ٢٢ ويعقوب ٤: ٣ زكريا ١٢: ١٠ وأفسس ٦: ١٨
في هذه الآية التعزية الثانية ونحن نتألم مع المسيح (ع ١٨) والأولى الرجاء في (ع ٢٠ و٢٤).
كَذٰلِكَ أي كما يعزينا الرجاء ويقوينا على احتمال المصائب بالصبر.
ٱلرُّوحُ أَيْضاً أي الروح القدس الذي من أسمائه «المعزي» (يوحنا ١٥: ٢٦).
يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا أي يعيننا نحن الضعفاء على حمل مصائبنا داخلاً وخارجاً لان تلك المصائب علّة أنيننا (ع ٢٣) وصراخنا (ص ٧: ٢٤) ونحن عاجزون عن حملها وحدنا والله علم ذلك وأرسل لنا معيناً قديراً أزلياً.
لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي هذا من جملة صعفاتنا التي يعيننا الروح القدس فيها. لم يقل لسنا نعلم ما نصلي من أجله مطلقاً لأننا نعلم أن نسأله تعالى مغفرة خطايانا والقوة على احتمال التجارب وأمثال ذلك ولهذا زاد قوله «كما ينبغي». والمعنى أننا لا نعلم ما ينفعنا طلبه في كل أحوال الحياة المختلفة ولا ما يحسن بالله أن يهبه لنا ولا ما يجب أن نصلي به من الرغبة والإيمان والاستمرار. ومثال قصر المعرفة بما يُصلى لأجله صلاة موسى لكي يدخل أرض الميعاد (تثنية ٣: ٢٣ - ٢٦). وطلب بولس ثلاث مرات أن تُنزع منه «شوكة في الجسد» (١كورنثوس ١٢: ٧ - ٩).
ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا «في» ظرفية فالمعنى أنه يشفع داخلنا أي الروح القدس هو الذي يعلّمنا ما نصلي لأجله ويزيدنا غيرة وإيماناً ورجاء لكي لا نمل فإنه يعلم ما نحتاج إليه وما هو خير لنا وما يحسن بالله أن يعطينا إياه. ولا يستطيع أحد أن يصلي كما ينبغي ما لم يعلمه الروح. وهذا تعزية عظيمة للذين يشعرون بقصورهم في الصلاة. ولنا من هذه الآية أن من جملة أعمال الروح القدس «الشفاعة» وغلب في العهد الجديد نسبة الشفاعة إلى المسيح ومن ذلك قوله «إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (عبرانيين ٧: ٢٥). وقول يوحنا «إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ» (١يوحنا ٢: ١) وقول المسيح «أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر» وهذا دليل بيّن على أنه شفيع (انظر يوحنا ١٤: ٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧). والفرق بين شفاعة المسيح وشفاعة الروح أن المسيح يشفع فينا في السماء والروح القدس يشفع فينا في قلوبنا ويعلّمنا «ما نصلي لأجله» ويشوّقنا إلى الروحيات ويمنحنا إيماناً لا تنفع صلواتنا بدونه شيئاً.
بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا هذا متعلق بقوله «يشفع» و «الأنّات» هنا أنّات المؤمنين لا أنّات الروح القدس وهي ما يعبرون بها عن أشواقهم إلى البركات الروحية. وعلّة عجزهم عن التعبير عنهما بكلامهم شدتها وعظمتها وتلك الأنّات أدل على شدة الشوق من الكلام. وكثيراً ما تقصر اللغة عن البيان كما جاء في قول بولس «أَنَّهُ ٱخْتُطِفَ إِلَى ٱلْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا» (٢كورنثوس ١٢: ٤). وقول بطرس «ذٰلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ ٱلآنَ لٰكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ» (١بطرس ١: ٨). وقول بولس «شُكْراً لِلّٰهِ عَلَى عَطِيَّتِهِ ٱلَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا» (٢كورنثوس ٩: ١٥).
٢٧ «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَفْحَصُ ٱلْقُلُوبَ يَعْلَمُ مَا هُوَ ٱهْتِمَامُ ٱلرُّوحِ، لأَنَّهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ يَشْفَعُ فِي ٱلْقِدِّيسِينَ».
١أيام ٢٨: ٩ ومزمور ٧: ٩ وأمثال ١٧: ٣ وإرميا ١١: ٢٠ و١٧: ١٠ و٢٠: ١٢ وأعمال ١: ٢٤ و١تسالونيكي ٢: ٤ ورومية ٢: ٢٣ و١يوحنا ٥: ١٤
هذه الآية تدل على أن تلك الأنّات ليست عبثاً وإن كانت ليست كلاماً.
ٱلَّذِي يَفْحَصُ ٱلْقُلُوبَ أي الله بدليل قوله «ٱلإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْقَلْبِ» (١صموئيل ١٦: ٧). وقوله «اَلْهَاوِيَةُ وَٱلْهَلاَكُ أَمَامَ ٱلرَّبِّ. كَمْ بِٱلْحَرِيِّ قُلُوبُ بَنِي آدَمَ» (أمثال ١٥: ١١ انظر أيضاً مزمور ١٣٩: ٧ و٩ وإرميا ١٧: ١٠ ورؤيا ٢: ٢٣).
يَعْلَمُ مَا هُوَ ٱهْتِمَامُ ٱلرُّوحِ الروح هنا هو الروح القدس الذي ينشئ في قلوب المؤمنين الأشواق التي تظهر بالأنّات واهتمام الروح ظاهر من تلك الأنات. فالإنسان لا يستطيع إدراك ما في نفس غيره إلا بكلامه. ولعل معنى «يعلم» هنا يستحسن كما جاء في (ص ٣: ١٧).
بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ يَشْفَعُ فِي ٱلْقِدِّيسِينَ أي المؤمنين. المعنى أن الروح القدس يحثهم على طلب المرضيات لله لا غيرها. ولا بد من أن مثل هذا الطلب يُستجاب وإن لم يُعبّر إلا بالأنّات. وهذا على وفق قول يوحنا «ٱلثِّقَةُ ٱلَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا» (١يوحنا ٥: ١٤).
٢٨ «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ ٱللّٰهَ، ٱلَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ».
ص ٩: ١١ و٢٣ و٢٤ وأفسس ١: ٤ - ٧ و٢تيموثاوس ١: ٩
هذا علّة ثالثة لعدم حسبان المؤمنين البلايا دليلاً على أنهم ليسوا بأبناء الله إذ هي ليست سوى بركات لهم.
نَحْنُ نَعْلَمُ أي نحن المسيحيين اختبرنا وعلمنا. وهذا مما لا يستطيعه أهل العالم.
كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ أي «آلام الزمان الحاضر» (ع ١٨) كلها بدليل القرينة وهي الاضطهادات والمصائب. ولا يلزم من ذلك أن غير المصائب لا تعمل للخير للمؤمنين لكن الرسول لم يقصد هنا سوى الكلام عليها. ومن مؤثرات المصائب طبعاً اليأس والغم والخوف من أن الله قد غضب على من أُصيب بها فدفع الرسول وقوع هذه المؤثرات على المؤمنين.
تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ هذا قصد الله من مصائب المؤمنين فإنه يسمح بها لينزع حب العالم من قلوبنا ويعلّمنا بطلان الدنيويات وزوالها ويجذبنا إلى الاتكال عليه ولننظر إلى السماء ونعتبرها وطننا ومحل راحتنا ويجعلنا متواضعين صابرين أطهاراً. ومن اختبار المؤمنين ذلك يمكنهم أن يقولوا كما قال داود «قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا ٱلآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ... خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ» (مزمور ١١٩: ٦٧ و٧١ انظر أيضاً إرميا ٣١: ١٨ و١٩ عبرانيين ١٢: ١١).
و «الخير» في الآية كل نوع من البركات ولا سيما البركات الروحية كالنمو في التقوى والحصول على السلام والاستعداد للسماء وزيادة التمتع بها.
لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ ٱللّٰهَ هذا وبما بعده من صفات الذين تكون المصائب بركات لهم لأن المصائب ليست بركات لغيرهم أي لا تعمل معاً للخير لهم لأنها تنشئ لهم التذمر والغضب والبغض وقساوة القلب كما قيل على آحاز الملك أنه «فِي ضِيقِهِ زَادَ خِيَانَةً لِلرَّبِّ» (٢أيام ٢٨: ٢٢). وكقول إرميا «فْنَيْتَهُمْ وَأَبَوْا قُبُولَ ٱلتَّأْدِيبِ. صَلَّبُوا وُجُوهَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ ٱلصَّخْرِ. أَبَوْا ٱلرُّجُوعَ» (إرميا ٥: ٣). وكقول يوحنا «جَدَّفُوا عَلَى إِلٰهِ ٱلسَّمَاءِ مِنْ أَوْجَاعِهِمْ وَمِنْ قُرُوحِهِمْ، وَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ» (رؤيا ١٦: ١١ انظر أيضاً إشعياء ١: ٥).
مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ الذين دعاهم الله ليكونوا مؤمنين وينالوا الخلاص. وهؤلاء اقتادهم الروح القدس لقبول الدعوة السماوية. صرّح الكتاب المقدس أن الذين يخلصون إنما يخلصون بمقتضى قضاء الله الأزلي ومن أدلة ذلك (رومية ٩: ١١ و١كورنثوس ١: ٢٤ وأفسس ١: ١١ و٣: ١١ و٢تيموثاوس ١: ٩) فالذين يحبون الله هم المختارون المدعوون حسب قصده. وبهذا يمكن كل إنسان أن يتحقق أنه من المختارين.
إن الله لم يدعُ هؤلاء لاستحقاقهم بل بموجب قصده حسب حكمته ورحمته بدليل قوله «ٱلَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى ٱلْقَصْدِ وَٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ» (٢تيموثاوس ١: ٩). وهذه الدعوة التي بمقتضى القصد الأزلي تؤكد إيمان المؤمنين ومحبتهم وسيرهم في طريق الخلاص إلى النهاية.

فوائد



  • إنه إذا تنازل الله أن يسكن في قلوبنا بروحه وجب علينا التسليم بأن يقودنا ويسودنا كما يشاء (ع ١٢ و١٣).
  • إن المسيحيين الحقيقيين أولاد الله وأحباؤه والمتمثلون به وورثة ملكوته (ع ١٢).
  • إن نسبة الله إلينا على وفق نسبتنا إليه فإن كنا أصدقاءه فهو صديقنا فإن شعرنا به شعور الابن بأبيه كان أباً لنا. فعبثاً ندّعي إنا أبناء الله وقلوبنا خالية من هيبته ومحبته والثقة به (ع ١٥).
  • إن تيقّن المؤمن خلاصه ليس بوهم ولا جسارة على الله إذ له أساسان. الأول الإحساسات الاختبارية الدالة على تجدد قلبه والثاني شهادة الروح القدس (ع ١٦).
  • إنه ليس للمسيحيين أن يتوقعوا النجاة من المصائب والتألم مع المسيح ما داموا على الأرض وهم يريدون وينتظرون أن يشاركوه في المجد السماوي وأن نزول المصائب بهم ليس بدليل على عدم رضى الله بهم وعدم بنوتهم له (ع ١٨ - ٢٥).
  • إن المجد الذي سيُعلن للمؤمنين لا بد من أنه عظيم جداً إذ الخليقة كلها منذ بدء العالم تئن وتشتاق إلى استعلانه والاشتراك فيه (ع ١٩ - ٢٣).
  • إن حالة الإنسان على هذه الأرض حالة «العبودية للفساد» فليس لنا أن نعتبر هذا العالم وطناً لنا وأن نخاف مفارقته فيجب أن نشتاق إلى التحرر من تلك العبودية والتمتع بحرية أبناء الله (ع ١٩ - ٢٢).
  • إن اللعنة الناشئة عن الخطيئة أثّرت في العالم المادي كله فإتمام عمل الفداء ليس بأقل تأثيراً من الخطيئة فسوف يجدد العالم بأسره.
  • إن مواهب الروح القدس في الزمن الحاضر باكورة ميراث القديسين فإذاً المواهب التي نحصل عليها في العالم الآتي مثلها إلا أنها أكثر منها جداً فالأولى تؤكد لنا الأخرى وتشوقنا إليها. فالذين يكتفون بالخيرات الأرضية يخشى أن لا تكون لهم باكورة الروح (ع ٢٣).
  • إن الرجاء فضيلة واجبة على المسيحي وتعزية وسند له لأن الحكمة الإلهية اقتضت أن لا ينال كل الخلاص في ساعة إيمانه (ع ٢٤ و٢٥).
  • إنه يجب اقتران الرجاء بالصبر أبداً والثقة بمواعيد الله من أحسن المساعدات على ذلك وكلاهما مسرة لله وتعزيز للدين (ع ٢٤ و٢٥).
  • إن تنازل الروح القدس إلى تعليمنا ما ينبغي أن نطلبه في الصلاة من أعجب الأمور فيجب أن نشكره ونسر به. إنه كوالد يعلم أولاده وكمشير للقاصرين عن إقامة دعواهم (ع ٢٦).
  • إنه يجب أن تكون الصلاة موافقة لمشيئة الله لكي تُستجات وتكون كذلك إن كان الروح القدس قد أرشد إليها وشوّق إلى إقامتها (ع ٢٧).
  • إن الله يدبر الأمور كيف شاء فهو قادر أن يحوّل ما يصيب مختاريه من جهد البلاء إلى الخير فما أعظم اطمئنان اللاجئين إليه (ع ٢٨).
  • إن الذين يحبون الله هم مختاروه (ع ٢٨) وكل إنسان يعلم أن الحب اختياري فإذاً لا منافاة بين قضاء الله واختيار الإنسان وإن عجز العقل البشري عن إيضاح الموافقة بينهما.



اطمئنان المؤمنين لقصد الله الأزلي ومحبته غير المتغيرة ع ٢٩ إلى ٣٩


٢٩ «لأَنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ».
خروج ٢٣: ١٢ و١٧ ومزمور ١: ٦ وإرميا ١: ٥ ومتّى ٧: ٢٣ وص ١١: ٢ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ و١بطرس ١: ٢ أفسس ١: ٥ و١١ يوحنا ١٧: ٢٢ و٢كورنثوس ٣: ١٨ وفيلبي ٣: ١٠ و٢١ و١يوحنا ٣: ٢ كولوسي ١: ١٥ و١٨ وعبرانيين ١: ٦ ورؤيا ١: ٥
هذه الآية وما يليها توكيد للآية الثامنة والعشرين وهي أن قصد الله يؤكد الخير للمؤمنين لأن هذا القصد يلزم منه منح كل ما هو ضروري لتحصيل ذلك الخير.
سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ خاصة له. لا نقدر أن نتصوّر علّة تلك المعرفة سوى قصده أن يخصهم بمحبته ويمنحهم الخلاص لان ذلك القصد علّة وجودهم وصالح أعمالهم بدليل قوله «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس ٢: ١٠). وهذا يمنع أن أعمالهم الصالحة التي علم الله أنهم يأتونها علّة لمعرفته إياهم خاصة له. ويؤكد ذلك قوله «ٱلَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى ٱلْقَصْدِ وَٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ» (٢تيموثاوس ١: ٩ انظر أيضاً رومية ٩: ١١). فإن قيل إن إيمانهم علّة تلك المعرفة قلنا إن الإيمان هبة الله ونتيجة اختياره لا علّته (أفسس ٢: ٨ انظر أيضاً إرميا ١: ٥ وعاموس ٣: ٢ وهوشع ١٣: ٥ وغلاطية ٤: ٥).
ذهب بعضهم إلى أن معنى «المعرفة» هنا الرضى والمحبة كما سبق في (ص ٣: ١٧ و٧: ١٥).
سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ معنى هذا التعيين يُعرف من مقابلته بأمثاله باعتبار القرائن. ومن ذلك ما في قول التلاميذ في الذين اجتمعوا على المسيح «لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ» (أعمال ٤: ٢٨). وقول الرسول «كَمَا ٱخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ» وقوله «ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ» (أفسس ١: ٤ و٥ و١١). فلنا من هذا ان علّة «التعيين» قضاء الله الأزلي بحسب مسرته فإذاً ليس في الإنسان من علّة له.
لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ أي تعيينهم يستلزم أن يكونوا مثل المسيح في الصفات والأعمال والنصيب والمجد كما جاء في (أفسس ١: ٤ و٤: ٢٤ و١كورنثوس ١٥: ٤٩). إن الله حين قضى بأن يكون المؤمنون أولاده قضى بأن يكونوا مثل ابنه فلما أخذ الابن الطبيعة البشرية ورقّاها وطهّرها بذلك قصد الله أن نشترك في التطهير والمجد بدليل قوله «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١). وقول يوحنا «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢).
و «المشابهة» في هذه الآية «كاستعلان أبناء الله» في الآية ١٩ و «فداء أجسادنا» في الآية ٢٩. فإذا كان التعيين يستلزم المشابهة للمسيح لزم ضرورة أنه إذا لم تكن المشابهة لم يكن التعيين. وبطل قول بعضهم إذا كنا معيّنين خلصنا مهما كنا أشراراً وإن لم نكن معيّنين هلكنا مهما كنا صالحين.
لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ في الزمان والرتبة. إن الله لم يقصد أن ابنه يتمجّد وحده بل أن يتمجد رأساً للمؤمنين وبكراً بين ألوف وربوات من أولاد الله لا يستطيع مخلوق أن يعدهم. وهم صاروا بالتبني إخوة للمسيح وشركاء مجده «وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١: ١٢) أما هو فابن الله حقيقة منذ الأزل.
ولنا من هذا أن الغاية الأولى من تعيين البعض أولاداً لله تمجيد المسيح وهي أصل إبداع الخليقة وعمل الفداء.
واستعمل الرسول صيغة الماضي هنا فقال عيّنهم ودعاهم وبرّرهم ومجّدهم مع أن بعض هذا مستقبل لأن كلامه في قضاء الله الأزلي لكل ما يحدث منذ الأزل وإلى الأبد.
٣٠ «وَٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهٰؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً».
ص ١: ٦ و٩: ٢٤ وأفسس ٤: ٤ وعبرانيين ٩: ١٥ و١بطرس ٢: ٩ و١كورنثوس ٦: ١١ ويوحنا ١٧: ٢٢ وافسس ٢: ٦
وَٱلَّذِينَ... فَهٰؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً أي اتخذ الوسائل لإنقاذ قصده. وأولها دعوته إيّاهم بروحه القدوس وهذه الدعوة ليست لآذانهم فقط بتبشيرهم بالإنجيل بل لقلوبهم أيضاً وهي دعوة فعالة مع أنها لم تنزع اختيارهم فتؤكد أنهم يومنون بالمسيح للخلاص وهذا كقوله «أَمِينٌ هُوَ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا» (١كورنثوس ١: ٩).
ٱلَّذِينَ... بَرَّرَهُمْ أبان حقيقة التبرير في (ص ٣ و٤ و٥) من هذه الرسالة وهو أن الله يحسب الخطأة أبراراً ويعاملهم معاملة الأبرار لأجل برّ يسوع المسيح الذي يُنسب إليهم بإيمانهم.
ٱلَّذِينَ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً هذا خاتمة عمل الفداء في المؤمنين وهو كمال القداسة والسعادة السماوية ومصيرهم مشابهين للمسيح. فإذاً غاية الله من خلاص المؤمنين تشتمل على اختيارهم ودعوتهم وتبريرهم وتقديسهم وتمجيدهم وهذه الأمور كحلقات سلسلة واحدة لا يمكن الاستغناء عن واحدة منها فالذي يتحقق واحدة منها يتحقق السلسلة كلها. فيمكن كل إنسان أن يتحقق أمدعو هو الدعوة الكافية وقابل لها أم لا. وصرّح بولس بهذا تعزية وتشجيعاً للمؤمنين.
٣١ «فَمَاذَا نَقُولُ لِهٰذَا؟ إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا!».
عدد ١٤: ٩ ومزمور ١١٨: ٦
هذه الآية وما بعدها نتيجة ما قاله في مقاصد الله الحبية في شأن المؤمنين.
فَمَاذَا نَقُولُ لِهٰذَا؟ أي ألنا وجه للخوف والريب.
إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا الشرط وجوابه بيان لهذا. قد ثبت مما سبق في الآية ٢٩ و٣٠ إن الله مع المؤمنين. إن الله قد حرّرنا من ناموس الخطيئة والموت وجدّدنا بروحه الساكن فينا واعتبرنا أولاده وورثته وعيّننا للقداسة والمجد فما بقي شيء نخافه وإن كثرت الأعداء وقويت فإنا وإن كنا في أنفسنا ضعفاء معيننا الله وهو أقوى من الأعداء كلهم لأن أعداءنا أعداؤه. ومثل هذا قول المرنم «ٱلرَّبُّ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي ٱلإِنْسَانُ؟» (مزمور ١١٨: ٦).
الباقي من هذا الأصحاح توكيد لقوله «الله معنا» فلذلك وجب أن نطمئن.
إن الفصحاء والبلغاء يرون في هذه الآية آية البلاغة وغايتها.
٣٢ «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟».
ص ٥: ٦ و١٠ ص ٤: ٢٥
هذه الآية جواب لقوله في التي قبلها «ماذا نقول» أي نقول «الذي لم يشفق على ابنه» الخ. إن محبة الله أساس رجاءنا واطمئنانا وأعظم دليل على هذه المحبة إعطاؤه ابنه لنا فلو أعطانا العالم كله لم يكن إلا دون هذا بما لا يُقدر. و «الابن» هنا في اليونانية موصوف بما يميزه عن «أولاد الله» المخلوقين فهو بمعنى أنه هو والآب جوهر واحد وطبيعة واحدة. واليهود فهموا أن هذا معناه حين قال المسيح «إنه ابن الله» وعزموا على رجمه (يوحنا ٥: ١٨).
لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ في ذلك تلميح إلى أن في إعطاء الله ابنه ما نسميه من أنفسنا إنكار الذات على أن ذلك في جانب الله أعظم مما في جانبنا بمقدار البَون بين طبيعة الله وطبيعتنا. وعظمة النفقة تدل على عظمة المحبة. ومعنى العبارة أن المسيح أوفى كل حقوق الناموس والله لم يخفف عنه شيئاً شفقة عليه. إنه شفق على إبراهيم ولم يسمح بأنه يذبح ابنه إسحاق (تكوين ٢٢: ١٢) لكنه دفع ابنه إلى الموت. ولو أمكن خلاصنا بدون موت ابنه (متّى ٢٦: ٤٢) لشفق عليه وأنقذه من موت الصليب.
بَذَلَهُ أي أسلمه لموت العار والألم (إشعياء ٥٣: ٦ ويوحنا ٣: ١٦ ورومية ٤: ٢٥ وغلاطية ١: ٤).
لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ لكي لا نهلك إلى الأبد. بذل الله ابنه لأجل جميع الناس يستلزم أنه من يهلك فهلاكه من نفسه لا لأن لم يعد له فادياً.
كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ أي كل شيء نحتاج إليه من الآن وإلى الأبد فإن إعطاءه ابنه أعظم من سائر المواهب بما لا يعبر عنه. وهو يشتمل على كل موهبة لأن إعطاء المسيح يتضمن إعطاء الروح القدس لنستفيد من إعطاء الابن وإعطاء النعمة لنثبت في الإيمان به وإعطاء الحياة الأبدية (ص ٥: ١٠ و١كورنثوس ٣: ٢١ - ٢٣).
٣٣ «مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي ٱللّٰهِ؟ اَللّٰهُ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُ!».
إشعياء ٥٠: ٨ و٩ ورؤيا ١٢: ١٠ و١١
مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي ٱللّٰهِ أي لا أحد يستطيع أن يوجب عليهم الدينونة والهلاك بشكواه فالاستفهام إنكاري أتى به لتشديد النفي. ويلزم من تسميتهم «مختاري الله» أن يطمئنوا لأنه عيّنهم للخلاص بحسب قصده الأزلي (ع ٢٨ و٢٩) وأحبهم حباً خاصاً وغفر خطاياهم وأوفى عنهم بما فعله المسيح كل حقوق الناموس وأراح ضمائرهم فلم يكن من باب للشكوى ولا علّة للخوف.
اَللّٰهُ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُ! لعل هذا جواب لسؤال مضمر وهو هل يشتكي الله. إنهم أخطأوا إليه وهو الديّان فإذا لم يشتك هو فلا مُشتكي. وكونه «هو الذي يبرّر» يمنع من أن يكون هو المشتكي أي هو يصرّح بأنه أوفي كل ما عليهم للناموس وأنه كُفّر عن كل خطاياهم وإذا صرّح الديّان بهذا استد كل فم فليس من مخلوق يجسر على أن يخطّئ من برّره الخالق.
٣٤ «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!».
أيوب ٣٤: ٢٩ مرقس ١٦: ١٩ وكولوسي ٣: ١ وعبرانيين ١: ٣ و٨: ١ و١٢: ٢ و١بطرس ٣: ٢٢ عبرانيين ٧: ٢٥ و٩: ٢٤ و١يوحنا ٢: ١
مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ أي من يحكم على المؤمنين بالهلاك الأبدي على خطاياهم.
اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ لعل هذا جواب لسؤال مقدّر وهو هل يدين المسيح. فإن الله عيّنه ديّاناً للأحياء والأموات فإن لم يدن هو لم يقدر أحدٌ أن يدين. وقدم الرسول في هذه الآية أربعة موانع من أن يدين ويحكم عليهم بالهلاك.
الأول إنه مات من أجلهم ليخلّصهم من الدينونة وهذا الموت ضمانة أنّه لا يدينهم لأنّه أزال به كل أسباب الدينونة إذ أُوفي بموته كل ما عليهم للناموس.
بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً هذا هو المانع الثاني من أن يدين المؤمنين «إنه قام لتبريرهم» (ص ٤: ٢٥) فقيامته وحياته تؤكدان أنه يجري كل مقاصد موته. وقيامته برهان على أن الله قبله ذبيحة كفارة عن الخطيئة وإطلاقه من قيود الموت إعلان لإيفائه كل ما للناموس على المؤمنين الذين هو نائبهم. فهذه القيامة حققت وأكدت اطمئنان المؤمنين لأنهم لو عرفوا بموت المسيح ولم يعرفوا بقيامته كانت تعزيتهم ناقصة بل عُدت عدماً بدليل قوله «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ» (١كورنثوس ١٥: ١٧) ولهذا زاد على قوله مات «بل بالحري قام». وخلاصة هذه العبارة أن الله كما أنه بتسليم يسوع للموت «دان الخطية في الجسد» (أي أن الله الآب دان خطايا الناس بجسد ابنه) كذلك فإقامته إيّاه من الموت أعلن أنه رفع عنهم كل خطاياهم التي كانت قد وُضعت عليه.
ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ هذا هو المانع الثالث من أن يدين المسيح المؤمنين فإنه رفع إلى محل المجد والقوة واستولى على سياسة العالم فكل ما يحدث إنما يحدث بمشيئته فإذاً لا مانع من أن يخلّص إلى النهاية الذي تكفل بخلاصهم. وهذا موافق لقول المسيح «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متّى ٢٨: ١٨ انظر أيضاً مزمور ١١٠: ١ وأفسس ١: ٢٠ وعبرانيين ١: ٣ ورؤيا ٣: ٢١).
ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا هذا هو المانع الرابع من أن يدين المؤمنين. فجلوسه عن يمين الله أكد قدرته على خلاص شعبه فكذلك شفاعته أكدت إرادته وقصده ذلك. وكيفية تلك الشفاعة بُيّنت بصلاته من أجل شعبه في (يوحنا ص ١٧ وفي عبرانيين ٧: ٢٥ و٩: ٢٤ و١يوحنا ٢: ١) وهي أنه يعلن أمام الله ما أتاه لأجل الخطاة من الطاعة والموت ويطلب خلاصهم إثابة لهم بمقتضى وعد الله إيّاه في عهد الفداء فهو يتكفل لله بإطاعتهم له لأنه يضع روحه فيهم ويجعلهم خاضعين طائعين. فما أعظم طمأنينة الذين يشفع فيهم لأن الله يسمع له في كل حين بدليل قوله «عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي» (يوحنا ١١: ٤٢).
٣٥ «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيقٌ أَمِ ٱضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟».
مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ هذا الاستفهام إنكاري المقصود منه نفي الفصل وهذا أقوى أسباب الاطمئنان. قال سابقاً إنه لا أحد يشتكي على المؤمن ولا أحد يدينه وقال هنا إنه لا أحد يفصله عن محبة المسيح وهذا يؤكد دوام اطمئنان المؤمن. و «المحبة» في الآية هي محبة المسيح لنا لا محبتنا للمسيح لأن محبته القوية الكاملة ركن المؤمنين في الضيقات والاضطهاد لا محبة المؤمن الضعيفة الناقصة وهذا تدل عليه القرائن. قال في ع ٣٢ «إن المسيح أطهر محبته لنا بموته وقيامته وشفاعته». وقال في ع ٣٧ «إن انتصارنا على كل الأعداء (وهي المصائب المذكورة) بالذي أحبنا». وقال في ع ٣٩ «إن لا خليقة أخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا». ويتضح ذلك كل الاتضاح إذا نظرنا إلى موضوع الكلام وهو توكيد اطمئنان المؤمن وتعزيته فتعزية قليلة أن يعرف أنه لا يترك المسيح ولكن تعزية عظيمة أن يعرف أن المسيح لا تتغير محبته فيتركه.
أَشِدَّةٌ الخ ذكر الرسول سبع مصائب تُظهر لنا أنها تفصل المؤمنين عن محبة المسيح وهي بسط السؤال السابق وهو قوله «من سيفصلنا» والمراد من ذلك أن تلك المصائب ليست بدليل على غضب الله ولا علّة للشك في محبته مهما اشتدت. نعم من مفعولها أنها تفصلنا عن محبة الناس لنا لكن ليس من مفعولها أنها تجعل المسيح يترك من مات من أجلهم وقام وشفع فيهم. وقدر بولس أن يشهد بذلك من اختباره لأنه احتمل كل تلك المصائب (٢كورنثوس ١١: ٢١ - ٣٣). وكان المسيحيون الأولون عرضة لها ولم يزل كثيرون من المسيحيين في هذا العصر كذلك. و «الشدة» و «الضيق» يعمان كل المصائب والفرق بينهما قليل. «فالشدة» المصيبة باعتبار قوتها «والضيق» المصيبة باعتبار تأثيرها في المصاب حتى لا يهتدي إلى طريق النجاة منها. والمراد «بالاضطهاد» المصيبة باعتبار سببها الإيمان بالإنجيل والتبشير به. و «الجوع» و «العري» مصيبتان نشأتا للمسيحيين عن الاضطهاد لأنهم سُلبت أملاكهم وطُردوا وتاهوا في البراري. والخطر مصيبة نتجت من تمسكهم بالمسيح وإبغاض الناس إيّاهم لذلك. والمراد «بالسيف» القتل من باب تسمية الفعل باسم إحدى آلاته.
٣٦ «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ ٱلنَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ».
مزمور ٤٤: ٢٢ و١كورنثوس ١٥: ٣٠ و٣١ و٢كورنثوس ٤: ١١
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ مزمور ٤٤: ٢٢ على ما في ترجمة السبعين.
إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ أراد بولس أن ما صدق على الأتقياء في أيام داود صدق على المؤمنين في أيام الرسل.
كُلَّ ٱلنَّهَارِ أي دائماً.
مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ أي أن أعداء المؤمنين قتلوهم بلا شفقة وحسبوا حياتتهم بلا قيمة وأنهم خُلقوا للذبح.
٣٧ «وَلٰكِنَّنَا فِي هٰذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا».
١كورنثوس ١٥: ٥٧ و٢كورنثوس ٢: ١٤ و١يوحنا ٤: ٤ و٥: ٤ ورؤيا ١٢: ١١
هذه الآية متعلقة بالآية الثامنة والثلاثين وهي جواب لقوله هل تفصلنا المصائب المذكورة عن محبة المسيح.
جَمِيعِهَا الضمير راجع إلى المصائب المذكورة آنفاً.
يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا أي أن تلك المصائب لا يمكنها أن تغلبنا بل تكون خيراً لنا لأنها تؤول إلى تطهيرنا الآن وتمجيدنا أخيراً بدليل قول الرسول «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا ٱلْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً» (٢كورنثوس ٤: ١٧).
بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا أي المسيح فإنّه هو ركن انتصارنا لا قوتها ولا إرادتنا ولا عزمنا بل محبة المسيح لنا. فهو يعطينا قوة وشجاعة ونعمة بدليل قول الرسول «بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ أَنَا مَا أَنَا» (١كورنثوس ١٥: ١٠). وقوله تعالى «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي ٱلضَّعْفِ تُكْمَلُ» (٢كورنثوس ١٢: ٩ انظر أيضاً غلاطية ٢: ٢٠ وفيلبي ٤: ١٣).
٣٨ «فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ، وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً».
أفسس ١: ٢١ و٦: ١٢ وكولوسي ١: ١٦ و٢: ١٥ و١بطرس ٣: ٢٢
ذكر بولس من موجبات اطمئنان المسيحي قصد الله خيره وفعل المسيح لأجله وزاد هنا ثقته بذلك واعتقاده الجازم أنه لا تستطيع المخلوقات أفراداً وإجمالاً أن تفصل المؤمن عن محبة الله وما ذكره من الفاصلات هنا أقوى مما ذكره منها في (ع ٣٥).
لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ أي إن كنّا أمواتاً أو أحياء فمحبة المسيح لنا لا تتغير. نعم إن الموت يفصلنا من أشياء كثيرة لكنه يعجز عن أن يفصلنا عن محبة المسيح بدليل قوله تعالى «أَنَا أُعْطِيهَا (أي خرافي) حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي» (يوحنا ١٠: ٢٨). فحياتنا في الدنيا محاطة بمصائب وتجارب ولكن لا شيء يفصلنا عن المسيح وذلك على وفق قوله «لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ»(ص ١٤: ٢٨).
وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ، وَلاَ قُوَّاتِ صنوف مختلفة من الأرواح العلوية بقطع النظر عن كونها صالحة أو طالحة. وأشار إلى هؤلاء المخلوقات بقوله «رياسة وسلطان وقوة وسيادة» (أفسس ٢: ٢١. وبقوله أيضاً «عروشاً أو سيادات» (كولوسي ١: ١٦). ومراد الرسول بيان أن المخلوقات التي هي أعظم من الإنسان حكمة وقوة عاجزة عن أن تفصل المؤمن عن محبة المسيح.
وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً أي لا شيء من محدثات هذا العالم ولا من محدثات العالم الآتي.
٣٩ «وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا».
ص ٣: ٢٤ و٥: ١٥ وأفسس ١: ٦ و٢تيموثاوس ١: ٩
وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ أي لا شيء في السماء ولا في الأرض ولا في جهنم (انظر مزمور ١٣٩: ٨ و٩). ففهم من الأمور الأربعة الأخيرة أن لا شيء في زمان أو مكان يفصلنا عن محبة المسيح.
وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى زاد هذا على ما قبله دفعاً لتوهم أنه بقي شيء لم يذكره يمكنه أن يفصل المؤمنين عن محبة المسيح.
تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱللّٰهِ محبة الله هنا مكان محبة المسيح في (ع ٣٥) ولنا من ذلك أن المسيح هو الله.
ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا إن محبة الله الآب ينبوع كل خير (ص ٥: ٨) والمسيح مجرى نعمته علينا فباتحادنا بالمسيح بالإيمان نحصل على فوائد محبة الله بدليل قوله «لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ ٱلَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي ٱلْمَحْبُوبِ، ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس ١: ٦ و٧ انظر أيضاً ٢تيموثاوس ١: ٩).

فوائد



  • إنه مما نتعلمه من هذا الفصل أن الله يختار الناس للحياة الأبدية وعلّة ذلك الاختيار مشيئته المطلقة وغايته أن يماثل المختارون يسوع المسيح في صفاته ونصيبه الأبدي (ع ٢٩).
  • إن خلاص المختارين لا ريب فيه.
  • إن علامة الاختيار القداسة فلا يستطيع الإنسان تحقيق أن دعوته واختياره ثابتان إلا بمداومته على صالح الأعمال (ع ٢٩ و٣٠).
  • إن عمل الفداء لا يفتح باباً لليأس ولا يمهّد سبيلاً للطمع لأن الذين يحبهم الرب يحبهم إلى الأبد ومحبته لنعمة منه لا لصلاح في الناس ولا يحصل عليها المصرّون على خطاياهم (ع ٢٩ - ٣٩).
  • إن أساس ثقة المؤمنين محبة الله وهذه المحبة ليست محدودة بدليل بذله ابنه الوحيد عنّا ولا متغيرة بدليل ما صرّح به الرسول هنا (ع ٣١ - ٣٩).
  • إن المسيح بكرٌ بين إخوة كثيرين فعلى المسيحيين أن يحبوه المحبة العظمى وأن يحب بعضهم بعضاً كالإخوة فإن لم يكن في قلوبنا مثل هذه المحبة فلسنا من أهل ذلك الإخاء المقدس (ع ٢٩).
  • إنه يحق لنا أن نعتبر هبة الله ابنه علامة محبة خاصة لشعبه الخاص فضلاً عن أنها علامة محبة عامة لكل العالم (ع ٣٢).
  • إن الشك في محبة الله بعد ما اتضح عظمتها ودوامها بالأدلة إثم عظيم (ع ٣٠ - ٣٩).
  • إن رجاء الخاطئ المغفرة ونيل الحياة الأبدية متوقف على موت ابن الله وقيامته ورياسته العامة وشفاعته (ع ٣٤).
  • إنه إذا كان الله يبرّر المؤمنين فلا بأس من أن العالم يدينهم (ع ٣٣ و٣٤).
  • إنّ الله لم يشفق على ابنه بغية خلاصنا فيجب أن ننكر أنفسنا وأن لا نشفق عليها في سبيل محبتنا إياه واجتهادنا في خلاص غيرنا (٣٢).
  • إنّ الضيقات والمصائب كانت ولم تزل نصيب شعب الله فهي لا تفصل المؤمنين عن محبة المسيح لهم فيجب أنها لا تزعزع محبتهم له (ع ٣٥).
  • إن كل ما في العالم من خير صديق للمؤمن وكل ما فيه من شر عدو له لكنه مغلوب (ع ٣٥ - ٣٩).
  • إنه ليس لنا أن نهرب من الرزايا بل علينا أن نغلبها. والقوة على احتمالها والانتصار عليها من الذي يحبنا وبغيره لا نقدر على شيء (ع ٣٧).
  • إن محبة الله مع كونها غير محدودة ولا متغيرة لم تظهر للخطأة إلا بيسوع المسيح.