النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: تفسير سفر اعمال الرسل

  1. #1

    تفسير سفر اعمال الرسل

    المقدمة: وفيها ثمانية فصول

    الفصل الأول: في اسم هذا السفر


    اسم هذا السفر في اليونانية «إيركسيس» أي اعمال واسمه في العربية «الأعمال»أو أعمال الرسل. وليس لنا من دليل على أنه سُمي بهذا الاسم بالوحي ولا على أن كاتبه سماه به. ولكن نعلم أن المسيحيين سموه به منذ القرون الأولى للمسيحية. ولم يُسمّ به لأنه يشتمل على كل اعمال الرسل بل على بعض ما عملوه في تأسيس الكنيسة وبنيانها.
    ولم ينبئنا بأعمال كل الرسل في خدمة الكنيسة فإن أكثره يتعلق بأعمال رسولين هما بطرس وبولس. فالمسيح اختار بطرس ليفتح أبواب الكنيسة المسيحية لليهود وللأمم (متّى ١٦: ١٨ و١٩). واختار بولس أعظم وسيلة لنشر الإنجيل بين الأمم. ودعا المسيح وهو على الأرض الأول ودعا وهو في السماء الثاني.

    الفصل الثاني: في كاتب هذا السفر


    كاتب هذا السفر لوقا كاتب البشارة الثالثة. ولنا على ذلك ثلاثة أدلة:

    • الأول: إجماع المسيحيين منذ أول العهد إلى الآن على نسبته إلى لوقا.
    • الثاني: ما ينتج من مقابلة مقدمة هذا السفر بمقدمة بشارة لوقا ولا سيما قوله في مقدمة الأعمال «الكلام الأول أنشأته يا ثاوفيولس» بقوله في مقدمة البشارة «رأيت أنا... أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلوس» ولنا من ذلك أمران (١) أن كاتب سفر الأعمال كتب سفر آخر قبله (٢) أنه كتب هذا السفر إلى الذي كتب إليه ذلك ولا يصدق هذان الأمران إلا على لوقا.
    • الثالث: أن أسلوب الكتابة في الإثنين واحد في اللفظ والتركيب. فالذي يقرأ السفرين يرى جلياً أن الثاني تابع للأول أي أن الثاني يُبتدأ حيث ينتهي الأول. وقد سبق الكلام على ترجمة الكاتب في مقدمة بشارته فراجعها هناك لكي نقول بالاختصار أنه أهلٌ لأن يكتب هذا السفر لأنه كان رفيق بولس في أكثر أسفاره وفي مدة سجنه في قيصرية ورومية فعرف حقيقة ما كتبه من سمعه ووعظ بولس ومحاوراته علاوة على ما شاهده بنفسه من الأمور التي ذكرها.



    الفصل الثالث: في زمن كتابة هذا السفر ومكانها


    نستنتج من ص ٢٨: ٣٠ من هذا السفر أنه كُتب في سنة ٦٣ ب . م في رومية أي بعد السنة الثانية من وصول بولس إلى تلك المدينة. فإنه ذُكر في ع ١٦ من ذلك الأصحاح بلوغه رومية في ع ٣٠ بقاؤه هنالك سنتين ولم يُذكر بعد ذلك شيء من أمر بولس.

    الفصل الرابع: في غاية كتابة هذا السفر


    ظن بعضهم أن غاية كتابة هذا السفر بيان تاريخ كنيسة المسيح في ثلاثين سنة بعد إنشائها أي منذ ٣٣ للميلاد إلى سنة ٦٣ ولنا على هذا الظن أنه ليس فيه ذكر لحال كنيسة أورشليم بعد إيمان بولس ولا من نبإ بإنشاء الكنيسة المسيحية في دمشق ولا في مصر ولا في بابل ولا في رومية. وليس فيه من ذكر لبعض أسفار بولس وكثير من مصائبه التي ذُكرت في (٢كورنثوس ١١: ٢٥). وقد ترك فيه ذكر خدمة أكثر الرسل للكنيسة واقتصر على ذكر بعض أعمال اثنين بطرس وبولس.
    والأصح أن غاية هذا السفر بيان أن المسيح أنجز وعده بإرسال الروح القدس بإنشاء الكنيسة ومدها بين اليهود والأمم في المملكة الرومانية مبتدأة من أورشليم منتشرة من مدينة إلى مدينة في تلك المملكة حتى بلغت رومية. وشغل ذلك الانتشار نحو ثلاثين سنة. أو بيان أنه كيف استمر المسيح يُجري عمل الفداء الذي ابتدأه هو وهو على الأرض بالجسد بعد موته وهو غير منظور بواسطة الروح القدس على وفق قوله في (يوحنا ١٦: ٧ - ١٣).

    الفصل الخامس: في من كُتب هذا السفر إليه


    كُتب هذا السفر إلى ثاوفيلوس وهو رجل شريف يوناني عالم مؤمن بالمسيح. والأرجح أنه كُتب أيضاً لفائدة المؤمنين من اليهود والأمم عامة. وإنما قدمه لذلك الرجل إكراماً كالعادة الجارية عند المؤلفين يومئذ وفي هذه الأيام.

    الفصل السادس: في نسبة هذا السفر إلى البشائر والرسائل


    نسبة هذا السفر إلى البشائر والرسائل كنسبة حلقة إلى سلسلتين تصل إحداهما بالأخرى وهو تتمة البشائر ومقدمة الرسائل. وفيه إنجاز نبوءات البشائر من جهة حلول الروح القدس واقتدار الرسل على صنع المعجزات العظيمة ومشاركة الأمم لليهود في حقوق كنيسة الله واضطهاد المسيحيين وانتصارهم على أعدائهم وبيان الوسائط التي أعدت الرسل لكتابة الرسائل كالاختبار والسلطان على ذلك. وبيان أنه من هو بولس الذي كتب أكثر تلك الرسائل ومن دعاه رسولاً وما الذي جعله أهلاً لكتابة ما كتبه وتفصيل تاريخ الكنائس والأشخاص التي كتب رسائله إليها.
    فلولا هذا السفر ما عرفنا شيئاً من أمر حلول الروح القدس يوم الخمسين ولا موت استفانوس شهيداً ولا تنصر كرنيليوس ولا الحوادث الغريبة المتعلقة باهتداء بولس ولا تفاصيل انتشار الكنيسة من أورشليم إلى رومية.

    الفصل السابع: في فوائد هذا السفر


    من فوائد هذا السفر غير ما ذكرناه في غاية كتابته ونسبته إلى ما كُتب قبله وما كُتب بعده من العهد الجديد تاريخ كنيسة المسيح في طفوليتها وكيفية نشوئها وانتظامها وكيفية تحرر أعضائها رويداً رويداً من رق الطقوس اليهودية وتمتعهم بحرية الديانة المسيحية وروحيتها.
    ومنها بيان ما ألمّ بالكنيسة من مقاومة اليهود والأمم في بعض عصر طيباريوس الأمبراطور الروماني وكل عصر كليغولا وكلوديوس وبعض أيام نيرون وانتصارها على كل ذلك. ومنها بيان أهمية المناداة بقيامة المسيح لإثبات صحة الديانة المسيحية كما يظهر من مواعظ الرسل وتأثيرها في السامعين. ومنها زيادة ما فعله الأقنوم الثالث أي الروح القدس في عمل الفداء. فيحسن أن نسمي العهد القديم أعمال الآب والبشائر أعمال الابن وهذا السفر أعمال الروح القدس بواسطة الرسل. وفيه من أقوى الأدلة على صحة الدين المسيحي سرعة انتصارات ذلك الدين وعظمتها مع كثرة المقاومين وقوتهم وقلة المسعفين وضعفهم.

    الفصل الثامن: في قسمي هذا السفر


    هذا السفر قسمان الأول من ص ١ إلى ص ١٢ ويشتمل على انتشار الديانة المسيحية بين اليهود على يد بطرس الرسول والثاني من ص ١٣ إلى ص ٢٨ ويشتمل على انتشارها بين الأمم على يد بولس.

    الأصحاح الأول


    خطاب المسيح الأخير بعد قيامته وصعوده ع ١ إلى ١١


    ١ «اَلْكَلاَمُ ٱلأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ، عَنْ جَمِيعِ مَا ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ».
    لوقا ١: ٣
    اَلْكَلاَمُ ٱلأَوَّلُ أي البشارة الثالثة التي ألفها الكاتب لوقا.
    يَا ثَاوُفِيلُسُ انظر شرح (لوقا ١: ٣) وهذا الرجل هو الذي كُتب إليه هذا السفر للغاية التي كُتبت إليها البشارة وهي أنه كان يرغب في معرفة صحيح الحوادث المتعلقة بانتشار الديانة المسيحية التي لا بد من أنه كان قد شاع فيها أقوال مختلفة. وكان من غاية الروح القدس أيضاً في إلهام لوقا كتابته إفادة المؤمنين من اليهود والأمم في كل عصر لأنه كما كان يهمهم أن يعرفوا حقيقة حوادث حياة المسيح على الأرض في أول عهدها. وكان لوقا أهلاً لكتابة هذه الحوادث لأنه كان رفيق بولس في بعض أسفاره وممن سمعوا تعليمه فضلاً عن إلهام الروح القدس ص ١٦: ١٠و١٧ و٢٠: ١ - ٦ وص ٢٧ وص ٢٨.
    عَنْ جَمِيعِ أي كل الأمور الجوهرية التي معرفتها ضرورية لثبوت إيمان المطالع أو السامع.
    مَا ٱبْتَدَأَ أراد لوقا أن يبيّن كون ما كتبه في بشارته أول عمل المسيح وتعليمه وهو على الأرض في الجسد وأن ما سيكتبه في هذا السفر ما استمر يعمله ويعلّمه بروحه وهو في السماء. ويحتمل أنه ذكر الابتداء على اصطلاح العبرانيين ومعناه عندهم الشروع في الفعل كما في العربية (تكوين ٤: ٢٦ و٩: ٢٠ ومتّى ٤: ١٦ ومرقس ٦: ٧ و١٠: ٣٢ و١٤: ٦٥).
    يَفْعَلُهُ لأجل خلاص البشر وهذا يتضمن أتعابه ومعجزاته وما أتاه من أعمال الرحمة واحتمله من آلامه وموته وقيامته.
    وَيُعَلِّمُ بِهِ مما يتعلق بصفاته تعالى ومقاصده في خلاص البشر.
    يُفهم من هذه الآية أن لوقا قصد أن يفعل في هذا السفر ما فعل في بشارته فإنه كتب في البشارة ما فعله المسيح رأساً وأنه سيكتب في هذا السفر تفصيل ما يفعله بواسطة رسله الذين هو أرسلهم وألهمهم بروحه أن يبشروا بإنجيله ويؤسسوا كنيسته.
    ٢ «إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ فِيهِ، بَعْدَ مَا أَوْصَى بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلرُّسُلَ ٱلَّذِينَ ٱخْتَارَهُمْ».
    مرقس ١٦: ١٩ ولوقا ٩: ٥١ و٢٤: ٥١ وع ٩ و١تيموثاوس ٣: ١٦ متّى ٢٨: ١٩ ومرقس ٦: ١٥ ويوحنا ٢٠: ٢١ وص ١٠: ٤١ و٤٢
    إِلَى ٱلْيَوْمِ أي اليوم الأربعين بعد قيامته كما يُفهم من ع ٣ وكتب لوقا في بشارته ما ينتهي إلى ذلك (لوقا ٢٤: ٥١).
    ٱرْتَفَعَ فِيهِ أي صعد إلى السماء في سحابة كأنها حملته ع ٩. واقتصر لوقا على هذه العبارة من نبإ صعوده لأنه كان معلوماً ومشهوراً ولأنه أنبأ به سابقاً في بشارته. فجعل هنا ما كان نهاية تلك البشارة بداءة هذا السفر.
    أَوْصَى بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ كل ما فعله يسوع على الأرض فعله بواسطة الروح القدس واقتياده (متّى ١٢: ٢٠ ولوقا ٤: ١ و١٨ ويوحنا ٣: ٣٤ و٢٠: ٢٢). وإيصاؤه تلاميذه بما يفعلونه بعد موته كان بإرشاد الروح القدس كسائر أعماله. وكثيراً ما أشار سفر الأعمال إلى فعل الروح القدس وذكره خمسين مرة مع أن البشائر الأربع كلها لم تذكره سوى أربعين مرة. والإيصاء الخاص المشار إليه هنا أمره إياهم بأن يذهبوا إلى العالم أجمع ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (مرقس ١٦: ١٥) وأمره الوقتي بأن يقيموا بأورشليم إلى ما بعد حلول الروح القدس (لوقا ٢٤: ٤٨ و٤٩).
    ٱلرُّسُلَ أي الأحد عشر الباقين بعد خيانة يهوذا وموته.
    ٱلَّذِينَ ٱخْتَارَهُمْ (متّى ١٠: ١ - ١٠ ولوقا ٦: ١٢ - ١٦).
    ٣ «اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ ٱلأُمُورِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
    مرقس ١٦: ١٤ ولوقا ٢٤: ٣٦ ويوحنا ٢٠: ١٩ و٢٦ و٢١: ١ و١٤ و١كورنثوس ١٥: ٥
    اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً في أوقات مختلفة.
    بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ بصرية وسمعية ولمسية حتى تيقنوا أنه هو هو وأنه حي بالجسد. اجتمع بهم في أوقات وأمكنة مختلفة وفعل بعض المعجزات أمامهم (يوحنا ٢١: ٦ و٧) فعلموا أنه صديقهم القديم القادر كما يعهدونه (لوقا ٢٤: ٣٦ - ٤٨ ويوحنا ٢٠: ١٩ - ٢١). ووقوفهم على تلك البراهين أقنعهم ومكنهم من أن يكونوا شهوداً بقيامته.
    ولنا ستة أمور تقنعنا أن تلك البراهين قاطعة.

    • الأول: أن الرسل لم يكونوا يتوقعونها حتى يمكن أن آمالهم تخدعهم (يوحنا ٢٠: ٢٥).
    • الثاني: أنهم كانوا يعرفون يسوع حق المعرفة إذ كانوا معه كل يوم مدة تنيف على ثلاث سنين.
    • الثالث: أن عدد الشهود واتفاقهم في الشهادة يمنعان إمكان أنهم غلطوا.
    • الرابع: طول المدة للفحص عن أمر قيامته وتحققه فإنها كانت أكثر من شهر.
    • الخامس: ظهور يسوع في أوقات مختلفة وأحوال مختلفة وأماكن مختلقة تحققوا في كل منها أنه هو يسوع.
    • السادس: أنه أظهر بعد قيامته الصفات التي أظهرها عينها قبل موته كعطفه عليهم وتجديده المواعيد والأوامر التي خاطبهم بها قبل الموت.


    بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ أي مات مصلوباً وعبّر عن ذلك الموت بالتألم نظراً لشدة الآلام التي احتملها به ومثل ذلك ما في (ص ٣: ١٨ و١٧: ٣ وعبرانيين ١٣: ١١ و١بطرس ٣: ١٨).
    وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ انظر شرح (متّى ٢٨: ١٧).
    أَرْبَعِينَ يَوْماً لم يُذكر تعيين المدة بين قيامة المسيح وصعوده في غير هذا الموضع وهي على قدر أيام صومه وتجربته وأيام إقامة موسى في طور سينا وأيام صوم إيليا في البرية.
    ِيَتَكَلَّمُ عَنِ ٱلأُمُورِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰه كلامه بعد قيامته على الموضوع الذي كان يتكلم فيه قبل موته برهان على أنه الذي تألم هو هو وأن أفكاره ومقاصده لم تتغير شيئاً. والمراد «بملكوت الله» هنا الملكوت الذي أتى هو ليؤسسه على الأرض (انظر شرح متّى ٣: ٢) وعلى الخصوص كنيسته. ويتضمن ذلك التكلم عدة أمور نذكر خمسة منها:

    • الأول: نجاز نبوءات الكتاب المقدس بيسوع (لوقا ٢٤: ٤٧).
    • الثاني: التبشير بالإنجيل لكل الأمم (لوقا ٢٤: ٤٧).
    • الثالث: أمره للرسل بواجبات وظيفتهم من تبشير وتلمذة وتعميد إلى غير ذلك (متّى ٢٨: ١٩ و٢٠).
    • الرابع: وعده بحضوره معهم (متّى ٢٨: ٢٠).
    • الخامس: إنباؤه إيّاهم بأنهم يتعمدون بالروح القدس (لوقا ٢٤: ٤٩ وأعمال ١: ٨).


    ٤ «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا «مَوْعِدَ ٱلآبِ ٱلَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي».
    لوقا ٢٤: ٤٣ و٤٩ يوحنا ١٤: ١٦ و٢٦ و٢٧ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧ وص ٢: ٣٣
    وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ الأرجح أنهم كانوا متشتتين واجتمعوا بأمره والمكان مذكور أنه في أورشليم والوقت كان أحد الأيام الأربعين المعلومة والأرجح أنه كان قرب صعوده.
    لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ أي لا يغيبوا عنها كما فعلوا على أثر موته.
    مَوْعِدَ ٱلآبِ أي حلول الروح القدس وسمي «موعد الآب» لأن الآب وعد به في العهد القديم (إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨ و٢٩) الذي سمعتموه مني (لوقا ٢٤: ٤٩ ويوحنا ١٤: ١٦ و٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧ - ١٣).
    ٥ «لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِٱلْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، لَيْسَ بَعْدَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ بِكَثِيرٍ».
    متّى ٣: ١١ وص ١١: ١٦ و١٩: ٤ يوئيل ٣: ١٨ وص ٢: ٤ و١١: ١٥
    هذا كلام المسيح لا كلام لوقا ذكر به التلاميذ ما قيل سابقاً في مقابلة معمودية يوحنا المعمدان بمعموديته. قابل ما في (متّى ٣: ١١ بما في يوحنا ١: ٣٣ ولوقا ٣: ١٦). قيل هناك أن يوحنا يعمد بالماء وأن المسيح سيعمد بالروح القدس والنار وكان هذا الوعد على وشك أن يتم بنوع عجيب.
    لَيْسَ بَعْدَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ بِكَثِيرٍ أي في يوم الخمسين والمدة بينه وبين الصعود ليست سوى عشرة أيام وكان وقت التكلم قرب وقت الصعود.
    ٦ «أَمَّا هُمُ ٱلْمُجْتَمِعُونَ فَسَأَلُوهُ: يَا رَبُّ، هَلْ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ تَرُدُّ ٱلْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟»
    متّى ٢٤: ٣ إشعياء ١: ٢٦ ودانيال ٧: ٢٧ وعاموس ٩: ١١
    وَأَمَّا هُمُ ٱلْمُجْتَمِعُونَ هذا الاجتماع غير الاجتماع الذي ذُكر في ع ٤ لأنه كان بعده في يوم الصعود (ع ٩) على جبل الزيتون (ع ١٢) قرب بيت عنيا (لوقا ٢٤: ٥٠).
    هَلْ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ الخ هذا السؤال نتيجة ما اعتقده اليهود عامة من أن المسيح يكون ملكاً أرضياً يحرر أمة الإسرائيليين من سلطة الرومانيين ويرد عظمتها التي كانت لها في أيام داود وسليمان على وفق المواعيد (إشعياء ١: ٢٦ ودانيال ٧: ٢٧). فاجتهد المسيح أن ينفي هذا الوهم وأن يعلم تلاميذه أن ملكوته روحي ليس من هذا العالم. وموته أبطل كل رجاء تلاميذه زمنية ملكوته (لوقا ٢٤: ٢١). لكن قيامته ووعده بحلول الروح القدس جدد ذلك الرجاء إذ تحققوا أنه هو هو وأن ليس للموت من سلطان عليه فإذاً هو أقدر من كل أعدائه. وإذ كان الوعد بحلول الروح القدس مقترناً بسائر المواعيد في شأن عظمة ملكوت المسيح وبهائه (يوئيل ٣: ١ و٢) لم يشكوا في أن غاية المسيح رد الملك لإسرائيل. والأمر الوحيد الذي ترددوا فيه هو أنه ألآن يرد لهم ذلك الملك أم بعد ولذلك سألوه.
    ٧ «فَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ ٱلَّتِي جَعَلَهَا ٱلآبُ فِي سُلْطَانِهِ».
    متّى ٢٤: ٣٦ ومرقس ١٣: ٣٢ و١تسالونيكي ٥: ١
    لم يسأل الرسل عن سوى وقت رد الملك والمسيح لم يجبهم إلا على ذلك. وترك إصلاح غلطهم في حقيقة ملكوته إلى وقت حلول الروح القدس لأنهم يعرفونها حينئذ حسناً. وأبى في جوابه أن يعيّن لهم الوقت بناء على المبدأ وهو أن الله لا يخبر الناس بأوقات الحوادث العظيمة المتعلقة بملكوته. ومثل ذلك كان جوابه للرسل حين قالوا «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هٰذَا» (متّى ٢٤: ٣) وهو قوله «وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ مَلاَئِكَةُ ٱلسَّمَاوَاتِ، إِلاَّ أَبِي وَحْدَهُ» (متّى ٢٤: ٣٦) انظر أيضاً (١تسالونيكي ٥: ١ و٢ و٢بطرس ٣: ١٠) ولكنه وجه أفكارهم إلى الاستعداد للقيام بما يجب عليهم من الخدمة.
    ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ التي تحدث فيها الأمور المستقبلة.
    ٱلَّتِي جَعَلَهَا ٱلآبُ فِي سُلْطَانِهِ أي عيّنها بحكمته الأزلية وأبقى معرفتها لنفسه حتى أن الملائكة أنفسهم لا يعرفونها ولا المسيح عينه باعتبار أنه إنسان (مرقس ١٣: ٣٢) ولا يليق بالإنسان أن يسأل عنها (متّى ٢٤: ٣٦). ولا نعلم علة ذلك إنما نعلم أن الناس لو علموها وعرفوا أنها بعيدة لغفلوا عن الاستعداد لها وأهملوا السهر والانتظار أو علموا أنها قريبة لخافوا فعجزوا عن القيام بما يجب عليهم.
    ٨ «لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ».
    لوقا ٢٤: ٤٩ وص ٢: ١ و٤ لوقا ٢٤: ٤٨ ويوحنا ١٥: ٢٧ وع ٢٢ وص ٢: ٣٢
    وعدهم المسيح بذلك تعزية لهم على إباءته الإجابة عن سؤالهم.
    سَتَنَالُونَ قُوَّةً على القيام بما يجب عليكم باعتبار كونكم رسلاً وهي القوة التي يهبها لهم الروح القدس كوعد يسوع إياهم سابقاً بأنهم يفهمون معاني نبوءات العهد القديم وأنهم يذكرون كلامه وأنهم يصنعون معجزات وأنهم يُعطون قوة التكلم حتى يهتدي الناس بأقوالهم ويرجعوا إلى الله بالإيمان بالمسيح وقوة على احتمال المصائب.
    مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ في هذا تعيين الوقت لنوالهم القوة وهو بعد عشرة أيام.
    تَكُونُونَ لِي شُهُوداً ما كان عليهم أن يأتوا بآراء أنفسهم بل أن يخبروا الناس بما علموا من تعاليم المسيح وسيرته ومعجزاته وصلبه وقيامته ومواعيده بما رأوا وسمعوا (ع ٢١ و٢٢ وص ٢: ٣٢ و١٠: ٣٩ ولوقا ٢٤: ٤٨ ويوحنا ١٥: ٢٧ و١يوحنا ١: ١).
    وكان عليهم أن يكونوا شهوداً بالتبشير وبقداسة السيرة ومحبة كل منهم للآخر وصبرهم في الضيق وموتهم في سبيل الحق إذا اقتضت الحال.
    ولتقديم تلك الشهادة اختارهم يسوع رسلاً ورافقوه ثلاث سنين وشاهدوا أعماله وسمعوا تعليمه فصاروا بذلك أهلاً للشهادة وكان عددهم وخلوصهم ينفيان كل شي في صحة شهادتهم.
    ووجوب تأدية تلك الشهادة غير مقصور على الرسل لأن المسيح قصد أن تكون كنيسته كلها شاهدة بصدق تعاليمه وجودتها وسعة الخلاص لكل من يؤمن وأن كل عضو من أعضاء تلك الكنيسة رجلاً وامرأة كبيراً وصغيراً يكون شاهداً له.
    فِي أُورُشَلِيمَ قصة مملكة اليهود ومركز ديانتهم لأن المسيح قصد أن اليهود يُبشرون بالإنجيل أولاً. وهناك قبل شهادتهم ألوف يوم الخمسين وبعده بقليل وبقي الرسل يؤدون شهادتهم إلى ما بعد أن قتل هيرودس يعقوب (قابل ما في ص ٨: ١ بما في ص ١٢: ١ و٢). وكانت مدة بقائهم في أورشليم نحو ثماني سنين.
    وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ أي القسم الجنوبي من أقسام الأرض المقدسة الثلاثة وهي الأماكن المجاورة لأورشليم.
    وَٱلسَّامِرَةِ القسم المتوسط بين الجليل واليهودية (انظر شرح متّى ٢: ٢٢). وكان أهل السامرة يشبهون اليهود في بعض الوجوه والأمم في وجوه أُخر. وكان معبدهم في جبل جرزيم. وكان يسوع قد أمر رسله أن لا يذهبوا قبل موته إلى السامرة للتبشير (متّى ١٠: ٥). وشهادة الرسل في السامرة ذُكرت في (ص ٨: ١ - ٢٥ و٩: ٣١).
    وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ هو ما أعطاه الآب ابنه (مزمور ٢: ٨). والقول هنا كالقول في (متّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٥).
    ٩ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا ٱرْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِم».
    لوقا ٢٤: ٥١ ويوحنا ٦: ٦٢ وع ٢
    ٱرْتَفَعَ إلى السماء (ع ١١) بجسده لأنهم شاهدوه صاعداً كذلك. ولم يختف بل إن السحابة أخذته وكان ذلك في النهار أمام عيون كل الرسل وهو يتكلم وزاد لوقا في بشارته أنه كان يباركهم حين انفرد عنهم ولو غاب عنهم خفية أو ليلاً لم يتحققوا أنه صعد إلى السماء ولكنهم تحققوا ذلك بالمشاهدة وتحققوا أن الله راضٍ به. وأنه حيّ في السماء يجري عمل الفداء. ولم يصعد أحد إلى السماء بالجسد إلا هو وأخنوخ (تكوين ٥: ٢٤ وعبرانيين ١١: ٢٥) وإيليا (٢ملوك ٢: ١١).
    أَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ كثيراً ما كانت السحابة علامة حضور الله لأنه هكذا حضر على طور سينا حين إعطائه الشريعة (خروج ٢٠: ١٦). واقتاد شعبه إسرائيل في البرية بعمود سحاب وترآى في قدس الأقداس في الهيكل بسحابة من نور (١ملوك ٨: ١٠ و١١ وإشيعاء ٦: ١ - ٤) وجاء في المزامير أن الله جعل السحاب مركبته (مزمور ١٠٤: ٣). وقيل في الإنجيل أن المسيح ظللته وقت التجلي سحابة وتكلم الله من وسطها (متّى ١٧: ٥). وأنبأ الكتاب بأن المسيح يأتي ثانية في السحاب (مرقس ١٤: ٦٢ ورؤيا ١: ٧ انظر أيضاً دانيال ٧: ١٣ ومتّى ٢٤: ٣٠ و٢٦: ٦٤).
    لم يذكر متّى ولا يوحنا صعود المسيح ولعل علة هذا أن الصعود كان معروفاً ومشهوراً بين الذين كتبا إليهم وندر ذكره في الرسائل لكنه كثيراً ما ذُكر فيها أنه قام وجلس عن يمين الآب وهذا يستلزم صعوده إلى السماء. ولنا في الصعود خمسة أمور:

    • الأول: أنه معجزة تثبت صحة دعوى يسوع.
    • الثاني: إظهار أن ملكوت المسيح سماوي روحي.
    • الثالث: أنه كان ضرورياً لحلول الروح القدس.
    • الرابع: أنه كان ضرورياً لممارسة المسيح الشفاعة على وفق فعل رئيس الأحبار الذي كان بعد أن يقدم الذبيحة يدخل إلى قدس الأقداس لكي يكفر عن الشعب (لاويين ١٦: ١١ - ١٤ وعبرانيين ٧: ٢٥ و٩: ٧ - ١٢ و٢٤).
    • الخامس: أنه كان ضرورياً ليمارس المسيح وظيفته الملكية (١كورنثوس ١٥: ٢٥ وأفسس ١: ٢٠ - ٢٢ وفيلبي ٢: ٦ - ١١).


    ١٠ «وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ».
    متّى ٢٨: ٣ ومرقس ١٦: ٥ ولوقا ٢٤: ٤ ويوحنا ٢٠: ١٢ وص ١٠: ٣ و٣٠
    يَشْخَصُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ أي ينظرون إما أسفاً على ذهابه أو توقعاً لرجوعه أو أملاً أن يحدث أمر غريب يتعلق برد الملك إلى إسرائيل (ع ٦).
    رَجُلاَنِ أي ملاكان بهيئة رجلين كالملاكين اللذين كانا في قبر المسيح (يوحنا ٢٠: ١١) ووصفهما لوقا في بشارته بأنهما «رجلان بثياب براقة» (لوقا ٢٤: ٤).
    وَقَفَا ظهرا بغتة ولم يشاهدا آتيين.
    ١١ «وَقَالاَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى ٱلسَّمَاءِ».
    ص ٢: ٧ و١٣: ٣١ دانيال ٧: ١٣ ومتّى ٢٤: ٣٠ و مرقس ١٣: ٢٦ ولوقا ٢١: ٢٧ ويوحنا ١٤: ٣ و١تسالونيكي ١: ١٠ و٤: ١٦ و٢تسالونيكي ١: ١٠ ورؤيا ١: ٧
    أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ إن الملائكة على ما ذُكر في الإنجيل كانوا غالباً يصرحون باسم من يخاطبونه وهنا خاطب الملاكان جماعة فصرحا بنسبتهم إلى وطنهم لأن الأحد عشر كانوا كلهم من الجليل.
    مَا بَالُكُمْ... تَنْظُرُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ كان خطاب الملاكين للتوبيخ وللتعزية أما التوبيخ فعلى توقعهم رجوع المسيح حالاً بدون تغيّر أو بمجد عظيم لانه أخبرهم بلزوم ذهابه إلى الآب (يوحنا ٦: ٦٢ و٢٠: ١٧). فكان الجدير بهم أن يرجعوا ليمارسوا العمل الذي وكله المسيح إليهم على الأرض لا أن يشخصوا بشوق وحزن إلى السماء إلى حيث صعد المسيح.
    ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ ليجلس عن يمين الآب محل الإكرام والمسرة به (مرقس ١٤: ٦٢ و١٦: ١٩ وأعمال ٧: ٥٥ ورومية ٨: ٣٤ وأفسس ١: ٢٠ وعبرانيين ١: ٣).
    سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ الخ أي يوم الدين وهذا يحقق لنا مجيئه ثانية وأنه يأتي كما ذهب في جسده وروحه ومحبته لإخوته وسائر صفاته بدون تغير كما كان هو على الأرض يوبخ الفريسيون المرائين ويرحب بالنائب المؤمن. وأنه كما ذهب في السحابة منظوراً كذلك «يَأْتِي مَعَ ٱلسَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ» (رؤيا ١: ٧ انظر أيضاً زكريا ١٤: ٤ ومتّى ٢٤: ٣٠ و١تسالونيكي ٤: ١٦ ويهوذا ع ١٤ و١٥).

    رجوع الرسل إلى أورشليم ع ١٢ إلى ١٤


    ١٢ «حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي يُدْعَى جَبَلَ ٱلزَّيْتُونِ، ٱلَّذِي هُوَ بِٱلْقُرْبِ مِنْ أُورُشَلِيمَ عَلَى سَفَرِ سَبْتٍ».
    لوقا ٢٤: ٥٢
    جَبَلَ ٱلزَّيْتُونِ انظر شرح (متّى ٢١: ١). عيّن الكاتب موقع مكان هذا الصعود في بشارته بأنه كان قرب بيت عنيا وهي على السفح الجنوبي الشرقي (لوقا ٢٤: ٥٠).
    سَفَرِ سَبْتٍ هذا بعد الجبل عن أورشليم لا بعد محل الصعود وسفر السبت مسافة مشهورة عندهم لم يعينها موسى بل مشايخ اليهود وهي ٢٠٠٠ خطوة. قيل وحسبوا أن ذلك مسافة ما بين كل طرف من أطراف معسكر الإسرائيليين في البرية إلى خيمة الاجتماع وقطع هذه المسافة كان جائزاً لكل إسرائيلي حينئذ فأجازوا قطع مثلها بعد ذلك. وزاد الكاتب في بشارته على ما كُتب هنا أن التلاميذ سجدوا ليسوع ورجعوا بفرح عظيم (لوقا ٢٤: ٥٢) وهذا على وفق قول المسيح لهم «أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ فَآمِنُوا بِي» (يوحنا ١٤: ١).
    ١٣ «وَلَمَّا دَخَلُوا صَعِدُوا إِلَى ٱلْعُلِّيَّةِ ٱلَّتِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا: بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ وَتُومَا وَبَرْثُولَمَاوُسُ وَمَتَّى وَيَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى وَسِمْعَانُ ٱلْغَيُورُ وَيَهُوذَا بْنُ يَعْقُوب».
    ص ٩: ٣٧ و٣٩ و٢٠: ٨ متّى ١٠: ٢ الخ ولوقا ٦: ١٤ الخ يهوذا ١
    ٱلْعُلِّيَّةِ يحتمل أنها هي العليّة التي أكلوا فيها الفصح الأخير والعشاء الرباني وذُكرت في (مرقس ١٤: ١٥). ونستنتج مما قيل في (لوقا ٢٤: ٥٣) أن الرسل كانوا يصرفون معظم النهار في الهيكل ثم يسهرون جميعاً في العلية.
    يُقِيمُونَ فِيهَا وقتياً وهم يتوقعون حلول الروح القدس.
    بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ الخ هذه قائمة الرسل الرابعة في العهد الجديد وتختلف عن القوائم الثلاث التي سبقتها بأنه لم يُذكر اسم يهوذا الاسخريوطي فيها وتقديم بعض الأسماء على بعض فإن أندراوس ذُكر في بشارة لوقا ثانياً وذُكر توما في تلك البشارة ثامناً وذُكر هنا سادساً.
    فهؤلاء القليلو العدد الفقراء المحتقرون كانوا بلا مساعدة بشرية آلة الله لرد العالم إلى الخضوع له تعالى بالإيمان بيسوع المسيح مصلوباً.
    ١٤ «هٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى ٱلصَّلاَةِ وَٱلطِّلْبَةِ، مَعَ ٱلنِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ».
    ص ٢: ١ و٤٦ لوقا ٨: ٢ و٣ و٢٣: ٤٩ و٥٥ و٢٤: ١٠ متّى ١٣: ٥٥ ويوحنا ٧: ٣ و٥
    كان الرسل موعودين بإرسال الروح القدس ومع ذلك لم يفتأوا يطلبونه. وكان من جملة الدواعي أيضاً للصلاة مفارقة معلمهم إياهم وما كان عليهم من العمل العظيم الذي وكله الرب إليهم وكثرة أعدائهم.
    بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أي كأنهم شخص واحد وعلة ذلك اشتراكهم في حزن واحد ومحبة واحدة لسيدهم ورجاء واحد.
    ٱلنِّسَاءِ منهنّ اللواتي تبعن يسوع من الجليل (متّى ٢٧: ٥٥ ولوقا ٨: ٢ و٣ و٢٣: ٤٩ و٥٥ و٢٤: ١٠) واللواتي نعرف أسماءهنّ منهنّ مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي وسالومي امرأة زبدي ويونا امرأة خوزي وسوسنة وبعض هؤلاء من أنسباء يسوع ولعل البعض زوجات بعض الرسل (١كورنثوس ٩: ٥).
    وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ كان يسوع قد وكل يوحنا بها وكانت عنده في منزله منذ الصلب.
    مَعَ إِخْوَتِهِ انظر شرح (متّى ١٢: ٤٦) وكانوا في أول أمرهم غير مؤمنين بيسوع (يوحنا ٧: ٥) والظاهر أنهم اقتنعوا بقيامته وآمنوا به.

    انتخابهم رسولاً بدلاً من الاسخريوطي ع ١٥ إلى ٢٦


    ١٥ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ قَامَ بُطْرُسُ فِي وَسَطِ ٱلتَّلاَمِيذِ، وَكَانَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ مَعاً نَحْوَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ. فَقَالَ».
    رؤيا ٣: ٤
    فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي التي بين صعود المسيح ويوم الخسمين وهي عشرة.
    قَامَ بُطْرُسُ أي شرع في الخطاب وهذا من مصطلحات الكتاب (لوقا ١٥: ١٨). وكان من سجية بطرس المعلومة أن يكون المبتدئ في الرأي والعمل انظر شرح (متّى ١٦: ١٦ و١٨) والأرجح أنه كان أكبرهم سناً فلاق به أن يكون المتقدم في ما ذُكر.
    ِٱلتَّلاَمِيذ المؤمنين من الرسل وغيرهم وسُموا بذلك لأنهم تعلموا في مدرسة يسوع.
    أَسْمَاءٍ أي أشخاص كما في (ص ٤: ١٢ و١٨: ١٥ وأفسس ١: ٢١ ورؤيا ٣: ٤).
    نَحْوَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ لا يلزم من ذلك أنه لم يكن في أورشليم غيرهم من المؤمنين بل أن الذين اجتمعوا حينئذ كانوا كذلك ولعله كان بينهم بعض السبعين المذكورين في (لوقا ١٠: ١) ونيقوديموس ويوسف الرامي وبعض المئة الذين شاهدوه في الجليل بعد قيامته.
    ١٦ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ ٱلَّذِي سَبَقَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ، عَنْ يَهُوذَا ٱلَّذِي صَارَ دَلِيلاً لِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ».
    مزمور ٤١: ٩ ويوحنا ١٣: ١٨ لوقا ٢٢: ٤٧ ويوحنا ١٨: ٣
    أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ كلام معتاد في افتتاح الخطاب للإكرام والتودد والتنبيه (ص ١٣: ٢٦).
    يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ أي لا بد من أن يتم لأنه أنباء الروح القدس ولم ينبئ به الروح إلا لأن حدوثه لا ريب فيه فالنبوءة ليست بعلته.
    هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ أي الجزء مما كُتب في أسفار الله وهذا ما ذُكر في (ع ٢٠ نقلاً عن مزمور ٦٩: ٢٥) وهو أن داره تصير خراباً ووظيفته يأخذها آخر. وفسره بعضهم بما ذُكر في (مزمور ٤١: ٩).
    سَبَقَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ هذا بينة جلية على أن داود كان موحى إليه وهو يوافق شهادة العهد الجديد كله بأن كتبة العهد القديم كانوا «مسوقين من الروح القدس» (٢بطرس ١: ٢١).
    عَنْ يَهُوذَا أي الاسخريوطي وما كُتب عنه هو «أن تكون داره خراباً» الخ ( ع ٢٠).
    ٱلَّذِي صَارَ دَلِيلاً الخ (متّى ٢٦: ٤٧ ويوحنا ١٨: ٢ و٣).
    ١٧ «إِذْ كَانَ مَعْدُوداً بَيْنَنَا وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةِ».
    متّى ١٠: ٤ ولوقا ٦: ١٦ ع ٢٥ وص ١٢: ٢٥ و٢٠: ٢٤ و٢١: ١٩
    مَعْدُوداً بَيْنَنَا أي أحد الرسل الاثني عشر (لوقا ٦: ١٣ - ١٦). وهذا لا يلزم أنه كان في أول أمره مؤمناً حقيقياً لأن يسوع شهد قبل أن سلمه يهوذا الاسخريوطي بمدة طويلة أنه شيطان (يوحنا ٦: ٧٠ و٧١). وسبق الكلام على فوائد الكنيسة من اختيار المسيح يهوذا المذكور رسولاً في شرح (متّى ٢٦: ١٦).
    وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ الخ في الوظيفة الرسولية أي انه كان له كل الوسائل إلى معرفة الحق كسائر الرسل وكل الحقوق التي كانت لهم ولكنه أضاعها باختياره وحرم نفسه إيّاها. واضطر بطرس إلى ما ذُكر هنا بياناً لصحة النبوءة إذ لا يمكن إثبات ترك وظيفة ومقام ما لم يُثبت أنهما كانا للتارك.
    ١٨ «فَإِنَّ هٰذَا ٱقْتَنَى حَقْلاً مِنْ أُجْرَةِ ٱلظُّلْمِ، وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ ٱنْشَقَّ مِنَ ٱلْوَسَطِ، فَٱنْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا».
    متّى ٢٦: ١٥ و٢٧: ٥ و٧ و٨ و٢بطرس ٢: ١٥
    الأرجح أن هذه الآية والتي تليها ليستا من خطاب بطرس بل هما من تفسير لوقا إذ لا حاجة لبطرس إلى أن يخبر التلاميذ الذين يخاطبهم بما حدث ليهوذا منذ أقل من أربعين يوماً ولا داعي لأن يفسر لهم معنى «حقل دماً» وهو من كلمات لغتهم المعلومة ولكن لوقا كتب إلى أناس في غير اليهودية بعد نحو ثلاثين سنة من حدوث تلك الأمور. ويقوي ذلك قوله «صار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم» فلو كان ذلك كلام بطرس لقال صار معلوماً عندكم.
    هٰذَا ٱقْتَنَى حَقْلاً نعلم من بشارة لوقا أن الكهنة اشتروا هذا الحقل من الفضة التي ألقاها يهوذا في الهيكل (متّى ٢٧: ٦ - ١٠). ولكن يصح أن يُقال أن يهوذا اقتنى هذا الحقل لأنه كان علة اقتنائه وقد أُشتري بماله. ويحتمل أنه نُسب إليه أيضاً فقيل حقل يهوذا. وهو مجاز شائع في كل اللغات المشهورة ومثله ما جاء في (متّى ٢٧: ٦٠) من أن يوسف نحت قبره في الصخرة والمعنى أنه كان على ذلك وما جاء في (ص ٧: ٢١ و١٦: ٢٢ ومتّى ٢: ١٦ و١كورنثوس ٧: ١٦ و١تيموثاوس ٤: ١٦).
    مِنْ أُجْرَةِ ٱلظُّلْمِ أي من الفضة التي أخذها من اليهود أجرة على تسليم يسوع وهو عمل في غاية الفظاعة.
    وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ ٱنْشَقَّ الخ انظر شرح (متّى ٢٧: ٥). أن يهوذا الاسخريوطي لشدة انتباهه لإثمه وفرط يأسه اختار الانتحار على الحياة مع توبيخ ضميره. والمظنون أنه خنق نفسه بحبل شده بشجرة على شاهق انقطع الحبل فسقط وكان ما ذُكر هنا. ولا خلاف بين ما ذكره متّى وما ذكره لوقا في هذا الأمر لأن متّى لم يذكر شيئاً مما حدث ليهوذا بعد أن خنق نفسه ولوقا لم يخبر شيئاً بما جرى عليه قبل أن يسقط.
    ١٩ «وَصَارَ ذٰلِكَ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ، حَتَّى دُعِيَ ذٰلِكَ ٱلْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ «حَقْلَ دَمَا» (أَيْ: حَقْلَ دَمٍ)» .
    وَصَارَ ذٰلِكَ مَعْلُوماً أي كل ما كان من أمر شراء الحقل وميتة يهوذا الهائلة. ونعلم من بشارة متى أن ذلك الحقل كان قبل ذلك حقل الفخاري وصار مقبرة للغرباء.
    حَتَّى دُعِيَ الخ ذكر لوقا علة أخرى غير التي ذكرها متى لتسمية الحقل «بحقل الدم» فإن متّى ذكر أن العلة كون الثمن ثمن دم يسوع وذكر لوقا أنها موت صاحبه يهوذا شر ميتة دموية. ومعنى قوله «لغتهم» اللغة السريانية أو الآرامية التي كانت شائعة يومئذ في اليهودية. وهذا من الأدلة على أن هذه الآية من كلام لوقا لا كلام بطرس.
    ٢٠ «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ ٱلْمَزَامِيرِ: لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَاباً وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ، وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آخَرُ».
    مزمور ٦٩: ٢٥ مزمور ١٠٩: ٨
    الكلام في هذه الآية هو ما أُشير إليه في ع ١٦ يقول بطرس «ينبغي أن يتم».
    لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَاباً... سَاكِنٌ (مزمور ٦٩: ٢٥) اقتبس بطرس هذه الآية من الترجمة السبعينية بقليل من الاختصار وبدل الجمع بالمفرد. وتكلم داود فيها على ما يصيب كل أعداء المسيح وحملها بطرس على يهوذا لأنه كان من أولئك الأعداء. والآية التاسعة من هذا المزمور قيلت على يسوع في (يوحنا ٢: ١٧ والآية ٢١) منه حملت عليه أيضاً في (متّى ٢٧: ٣٤).
    وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آخَرُ (مزمور ١٠٩: ٨) وهذا مقتبس من ترجمة السبعين بحروفه وهذا المزمور وأمثاله كالمزمور السادس والمزمور الثاني والعشرين و٢٨ و٤٣ وصف بها داود حزنه وآلامه من اضطهادات شاول إياه وخيانة أبيشالوم له وصح حملها على يسوع لأن داود كان رمزاً إلى المسيح فإن يسوع احتمل مثلما احتمل داود فالذي وجب على مضطهدي داود وجب على مضطهدي يسوع. رأى داود أن عدوه لا يستحق الوظيفة التي كانت له ووجوب أن تؤخذ منه وتُعطى لغيره. وما صح على هذا العدو صح على يهوذا عدو المسيح.
    ٢١، ٢٢ «فَيَنْبَغِي أَنَّ ٱلرِّجَالَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَمَعُوا مَعَنَا كُلَّ ٱلزَّمَانِ ٱلَّذِي فِيهِ دَخَلَ إِلَيْنَا ٱلرَّبُّ يَسُوعُ وَخَرَجَ، مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ فِيهِ عَنَّا، يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِداً مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ».
    مرقس ١: ١ ع ٩ يوحنا ١٥: ٢٧ وع ٨ وص ٤: ٣٣
    فَيَنْبَغِي أي بناء على النبوءتين المتعلقة إحداهما بترك الوظيفة والأخرى بوجوب أن يأخذها آخر.
    ٱلرِّجَالَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَمَعُوا مَعَنَا وشاهدوا معجزات المسيح وسيرته الصالحة وسمعوا أقواله فهؤلاء أهل لأن يأخذوا الوظيفة التي تركها يهوذا ولعله أشار بذلك إلى بعض السبعين تلميذاً المذكورين في (لوقا ١٠: ١ و٢).
    دَخَلَ إِلَيْنَا... وَخَرَجَ هذا كلام اصطلاحي يدل على اتصال المخالطة (تثنية ٢٨: ١٩ و٣١: ٢ و١صموئيل ٢٩: ٦ ومزمور ١٢١: ٨).
    مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا أي من حين عمد يوحنا المعمدان يسوع (متّى ٤: ١٢ و١٧ ومرقس ١: ١٤) وذلك ابتداء خدمة يسوع العلنية وحينئذ جمع تلاميذ وانتخب رسلاً على غير ذلك من أعماله المعلومة.
    إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ فِيهِ أي نحو ثلاث سنين ونصف سنة.
    يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِداً مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ أي رسولاً لأن الرسل عُينوا شهوداً بقيامة المسيح فإن تلك القيامة من أركان دين المسيح وأول ما يثبت صحة دعواه. هكذا أظهر الرسل بتبشيرهم (ص ٢: ٢٣ و٣: ١٥ و٤: ٣٣ و٥: ٣٢ و١٠: ٤٠ وبكتابتهم رومية ١: ٤ و٤: ٢٤ و١٠: ٩ وغلاطية ١: ١ و١بطرس ١: ٣). ومن شروط أهلية الشاهد للشهادة بقيامة المسيح أن يكون قد عرفه معرفة كاملة قبل موته ثم يراه بعد قيامته ويتحقق أنه هو هو. أشاع اليهود أن تلاميذ يسوع سرقوا جسده من القبر (متّى ٢٨: ١٣) فمن لم يشاهد سوى معجزاته وصلبه لم يكن لشهادته بالقيامة تأثير. ولما أراد بولس إثبات أهليته لهذه الشهادة قال «ألست أنا رسولاً... أما رأيت يسوع المسيح رباً».
    ٢٣ «فَأَقَامُوا ٱثْنَيْنِ: يُوسُفَ ٱلَّذِي يُدْعَى بَارْسَابَا ٱلْمُلَقَّبَ يُوسْتُسَ، وَمَتِّيَاسَ».
    ص ١٥: ٢٢
    فَأَقَامُوا ٱثْنَيْنِ الأرجح أنهما كانا أفضل من الباقين في الحكمة والتقوى والأهلية للوظيفة وأنهما كانا متساويين في الفضل حتى لم يستطيعوا إيثار أحدهما على الآخر.
    ٱلَّذِي يُدْعَى بَارْسَابَا أي ابن القَسَم أو ابن الراحة وابن السبي.
    ٱلْمُلَقَّبَ يُوسْتُسَ أي العادل ولعله لقب به لاستقامة سيرته. واعتاد اليهود أن يسموا الإنسان بعدة أسماء كما رأينا في قائمة الرسل (متّى ١٠: ٢ - ٤).
    وَمَتِّيَاسَ أي عطية الرب ولا نعلم من أمره سوى ما ذُكر هنا.
    ٢٤ «وَصَلَّوْا قَائِلِينَ: أَيُّهَا ٱلرَّبُّ ٱلْعَارِفُ قُلُوبَ ٱلْجَمِيعِ، عَيِّنْ أَنْتَ مِنْ هٰذَيْنِ ٱلٱثْنَيْنِ أَيّاً ٱخْتَرْتَهُ».
    ١صموئيل ١٦: ٧ و١أيام ٢٨: ٩ و٢٩: ١٧ وإرميا ١١: ٢٠ و١٧: ١٠ وص ١٥: ٨ ورؤيا ٢: ٢٣
    وَصَلَّوْا لجأوا إلى الصلاة لأهمية الأمر في انتخاب رسول فيجب علينا أن نقتدي بالرسل في انتخابنا معلماً دينياً أو راعي كنيسة بأن نطلب الإرشاد من الرب. ولجأوا إليها أيضاً لعجزهم عن التمييز بين ذينك الاثنين والظاهر أن أحدهم ناب عن الباقين بتقديم الطلبات وهم شاركوه في الباطن.
    ٱلْعَارِفُ قُلُوبَ ٱلْجَمِيعِ معرفة القلب من الأمور المختصة بالله (١أيام ٢٨: ٩ ومزمور ١٣٩: ١ و٢٣ وإرميا ١٧: ١٠). ويدل على أنهم وجهوا هذه الصلاة إلى المسيح خمسة أمور:

    • الأول: أنّ المسيح يُسمى في العهد الجديد غالباً بالرب (أعمال ٢: ٣٦ و٧: ٥٩ و٦٠ و١٠: ٣٦ و١كورنثوس ٢: ٨ وفيلبي ٢: ١١ ورؤيا ١١: ٨).
    • الثاني: أنّ الإنجيل نسب إلى المسيح معرفة القلوب (يوحنا ٢: ٢٥ و٦: ٦٤ و١٦: ١٩ و٢١: ١٧ ورؤيا ٢: ١٨ و٢٣).
    • الثالث: قول لوقا في بشارته ٢٤: ٥ أن التلاميذ سجدوا ليسوع والسجود يستلزم الصلاة.
    • الرابع: أن التلاميذ اعتادوا أن يسجدوا ليسوع بعد قيامته كما يبين من فعل استفانوس (أعمال ٧: ٥٩).
    • الخامس: أن موضوع الصلاة كان مما يختص بالمسيح لأنه هو الذي انتخبهم حسب قوله في (يوحنا ٦: ٧٠) وعيّن عددهم وعلمهم وكان ذانك الشخصان من خلطائه التلاميذ فقد عرفهما بالاختبار.


    أَيّاً ٱخْتَرْتَهُ ليكون رسولاً.
    ٢٥ «لِيَأْخُذَ قُرْعَةَ هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةِ وَٱلرِّسَالَةِ ٱلَّتِي تَعَدَّاهَا يَهُوذَا لِيَذْهَبَ إِلَى مَكَانِهِ».
    ع ١٧
    قُرْعَةَ أي نصيب أو وظيفة.
    هٰذِهِ ٱلْخِدْمَةِ أي الرسولية.
    وَٱلرِّسَالَةِ زادها لوقا على الخدمة تفسيراً لها أي بياناً لنوع الخدمة وهو الرسولية.
    ٱلَّتِي تَعَدَّاهَا يَهُوذَا أي أظهر أنه ليس بأهل لها إذ لم يقم بمقتضاها.
    لِيَذْهَبَ إِلَى مَكَانِهِ الضمير في مكانه راجع إلى يهوذا ولا ريب في أن المقصود بمكانه محل عقاب الخطأة ونُسب إليه لأنه أوجبه على نفسه لتسليمه سيده ولقتله نفسه. وسقط يهوذا من مكانه الرسولي لأنه لم يستحق ذلك الذي يختص بالأتقياء وهو إنسان خائن طمع محب للمال فلم يبق له مكان إلا مكان أمثاله الهالكين والأبالسة. وأشار المسيح إلى ذلك بقوله «وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ» (متّى ٢٦: ٢٤). وقال ذلك في العشاء الأخير على مسمع من كل الرسل ولا ريب في أن ذلك أثر فيهم حتى لم ينسوه وتحققوا أنه قصد بذلك الرجل يهوذا الإسخريوطي حين سلم المسيح إلى قاتليه وانتحر. وكل إنسان يهيء مكاناً له في الأبدية بتصرفه هنا. فالذي سيرته على الأرض سماوية يذهب إلى السماء والذي سيرته دنيوية نصيبه مع أهل الدنيا (مزمور ٩: ١٧ ومتّى ٥: ٣٠ و١٠: ٢٨ ولوقا ١٦: ٢٣ ورؤيا ٢٠: ١٤).
    ٢٦ «ثُمَّ أَلْقَوْا قُرْعَتَهُمْ، فَوَقَعَتِ ٱلْقُرْعَةُ عَلَى مَتِّيَاسَ، فَحُسِبَ مَعَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ رَسُولاً».
    ثُمَّ أَلْقَوْا قُرْعَتَهُمْ كان إلقاء القرعة شائعاً بين الإسرائيليين لتعيين ما خفي عليهم من الأمور ذات الشأن ومن أمثال ذلك تعيين تيس لعزازيل وتمييزه عن تيس الذبيحة (لاويين ١٦: ٨). وتعيين عاخان الخائن (يشوع ٧: ١٦ - ١٨). وتقسيم أرض الميعاد بين أسباط إسرائيل (عدد ٢٦: ٥٥ ويشوع ص ١٥ إلى ص ١٧). وانتخاب شاول ملكاً (١صموئيل ١٠: ٢٠ و٢١). وتعيين نوبة الكهنة في خدمة الهيكل (١أيام ٢٤: ٥). وأمر داود بتعيين النوبة بالقرعة وبقي الناس يجرون في ذلك إلى أيام المسيح (لوقا ١: ٩). قيل في سفر الأمثال «ٱلْقُرْعَةُ تُلْقَى فِي ٱلْحِضْنِ، وَمِنَ ٱلرَّبِّ كُلُّ حُكْمِهَا» (أمثال ١٦: ٣٣).
    اعتبر اليهود القرعة كرفع الأمر إلى الله تعالى في المهمات حين كان يعسر عليهم الحكم فيها وليس من دليل على أن التلاميذ استعملوا القرعة في أيام العهد الجديد غير ما ذُكر هنا. فإنه مدة ما كان المسيح معهم لم يستعملوها وبعد حلول الروح القدس عليهم في يوم الخمسين ولم يبقوا في حاجة إليها. وطرق إلقاء القرعة كثيرة فلا نعلم أي طريق القوا فيها قرعتهم ولعلهم كتبوا الاسمين على قطعتين من رق أو ورق البردي أو خشبتين ووضعوهما في إناء وهزوا الإناء إلى أن ارتفع إحداها إلى الأرض فالاسم الذي فيها هو اسم من وقعت القرعة عليه.
    فَوَقَعَتِ ٱلْقُرْعَةُ عَلَى مَتِّيَاسَ أي ثبت بتلك القرعة أن متياس هو المنتخب رسولاً.
    حُسِبَ مَعَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ رَسُولاً أي حُسب من ذلك الوقت فصاعداً الثاني عشر من الرسل مساوياً لكل منهم. ولم يُذكر بعد ذلك في موضع من العهد الجديد فلا نعلم أين بشر ولا أين مات.
    وتعيين المسيح بولس بعد ذلك رسولاً لم يبطل انتخاب متياس أو يلزم منه أن تعيينه كان فضولياً لأن بولس عُيّن رسولاً مخصوصاً زيادة على الرسل الأولين وأُهِّل لذلك بمشاهدته المسيح عياناً (١كورنثوس ١٥: ٨ و٩: ١ وأعمال ٢٢: ٨ و٩ و١٤ و١٥ و٢٦: ١٧ و١٨).
    ولنا في انتخاب متياس ثلاثة أمور:

    • الأول: أنه انتُخب لمجرد أخذ موضع يهوذا إتماماً لعدد الرسل أي ليكونوا اثني عشر شاهدعينٍ بقيامة المسيح.
    • الثاني: أنه لا دليل في ذلك على أن للرسل خلفاء بل هو دليل على أن وظيفتهم خاصة وقتية انتهت بموتهم.
    • الثالث: أنه من المحال أن يُقام لهم خلفاء بعد نهاية جيلهم لاستحالة أن يقدموا الشهادة التي يعينون لها أي الشهادة المبنية على معاينتهم ما يشهدون به. نعم أن وظيفة المبشرين والرعاة والمعلمين تدوم ما دامت الكنيسة على الأرض ولكن وظيفة الرسل ليست كذلك لأنها انحصرت فيهم.




    الأصحاح الثاني


    حلول الروح القدس ع ١ إلى ١٣


    ١ «وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ ٱلْخَمْسِينَ كَانَ ٱلْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ».
    خروج ٢٣: ١٧ ولاويين ٢٣: ١٥ وتثنية ١٦: ٩ و١٠ و١٦ وص ٢٠: ١٦ ص ١: ١٤
    يَوْمُ ٱلْخَمْسِينَ أحد أعياد اليهود الثلاثة العظمى التي يجب أن يحضر فيها كل الذكور في أورشليم (خروج ٢٣: ١٦). وسُمّي «يوم الخمسين» لأنه كان حسب أمر موسى بعد سبعة أيام من ثاني الفصح (لاويين ٢٣: ١١ - ١٦ وتثنية ١٦: ٩) وسُمّي أيضاً عيد الجمع وعيد الحصاد لأنه كان في أيام حصاد الحنطة يقدم فيه كل إنسان رغيفين من باكورة حصاده مع تقدمات أُخر معينة (لاويين ٢٣: ١٣ وعدد ٢٨: ٢٦) وكان العيد يوماً واحداً.
    واعتبر اليهود أن ذلك اليوم هو اليوم الذي أنزل الله فيه الشريعة وهذا لم يُذكر في التوراة. ولا ريب في أن الله اختار ذلك اليوم لإرسال الروح القدس ليشاهد الذين كانوا يجتمعون فيه في أورشليم من جمع اليهود الكثيرة في كل قطر (ع ٩ - ١١) الغرائب التي تعلقت بحلول الروح القدس في ذلك اليوم ويسمعوا وعظ الرسل وتبشيرهم بقيامة المسيح بعد صلبه وموته لنفع نفوسهم ولكي يوزعوا البشرى في كل البلاد التي يرجعون إليها. وذلك اليوم كان يوم ميلاد الكنيسة المسيحية أي جماعة المؤمنين بالمسيح. وفيه كانت الحادثة العظمى الثانية في تاريخ العالم وهي مجيء الأقنوم الثالث ليمكث هنا ويخولنا فوائد عمل الفداء وكانت الأولى مجيء الأقنوم الثاني لعمل الفداء.
    ٱلْجَمِيعُ أي كل المؤمنين في أورشليم وهم يشتملون على المئة والعشرين المذكورين آنفاً (ص ١: ١٥) والرسل.
    مَعاً الأرجح أن ذلك كان في العلية حيث اجتمعوا حين انتخبوا متياس (ص ١: ١٣) ولو أنهم اجتمعوا في الهيكل لذكر الكاتب ذلك. وكان اجتماعهم في الصباح باكراً (ع ١٥). وذهب كثيرون أن ذلك اليوم كان يوم الأحد بدليل قوله «تَحْسُبُونَ لَكُمْ مِنْ غَدِ ٱلسَّبْتِ مِنْ يَوْمِ إِتْيَانِكُمْ بِحُزْمَةِ ٱلتَّرْدِيدِ سَبْعَةَ أَسَابِيعَ تَكُونُ كَامِلَةً» (لاويين ٢٣: ١٥) لكن ذهب بعض المفسرين أن معنى السبت عيد الفصح لا يوم السبت الواقع في أيام الفطير.
    بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ كما ذُكر في (ص ١: ١٤) والمعنى أنهم كانوا متحدين في الشوق إلى حلول الروح القدس وفي رجاء ذلك والصلاة لأجل إتيانه وذلك الاتحاد شرط دائم على المسيحيين ليحل فيهم الروح القدس.
    ٢ «وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ ٱلْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِين».
    ص ٤: ٣١
    بَغْتَةً أي بدون توقع لأن المسيح لم يعيّن لهم اليوم ولا الساعة ولا كيفية الحلول بل أمرهم أن يتوقعوا حلول الروح دائماً.
    مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي الجو فوق الرأس خلافاً للعادة لأن صوت الريح يأتي من جهة هبوبها أي جهة الأفق.
    صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ لم يقل أنه صوت الريح بل كالصوت المنبعث عن الريح وهذا هو الأمر الغريب إذ لم يكن من ريح ولا مطر ولا رعد ولا زلزلة. كذلك أظهر الله حلوله في طور سينا (خروج ١٩: ١٩) بدليل قوله «فَكَانَ صَوْتُ ٱلْبُوقِ يَزْدَادُ ٱشْتِدَاداً جِدّاً، وَمُوسَى يَتَكَلَّمُ وَٱللّٰهُ يُجِيبُهُ بِصَوْتٍ» (انظر أيضاً عبرانيين ١٢: ١٩). وأُشير إلى فعل الروح بهبوب الريح في (يوحنا ٣: ٨) ووجه الشبه أن الريح شديدة الفعل مع أنها غير منظورة. وأشار المسيح إلى منح الروح القدس بالنفخ (يوحنا ٢٠: ٢٢). والمقصود بذلك الصوت التنبيه وبيان قوة الروح القدس العجيبة.
    وَمَلأَ كُلَّ ٱلْبَيْتِ أتى الصوت من السماء واتخذ البيت مستقراً ليهتدي إليه السامعون.
    ٣ «وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَٱسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ».
    أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ هذه المعجزة الثانية مما دل على حلول الروح القدس وهي ليست ناراً حقيقية بل شبه النار على هيئة الألسنة كعادة اللهب وقد كثر هذا التشبيه في الكتاب المقدس «كلسان ذهب» (يشوع ٧: ٢١) «ولسان البحر» (يشوع ١٥: ٥ و١٨: ١٩) ومعنى قوله «منقسمة» أنها متفرقة كل منها مستقل لا منتشرة باتصال عن لهب واحد أو أن كل لسان منها منقسم أي ذو شعبتين. وكون علامة ظهور الروح القدس ناراً موافق لما قيل في المسيح أنه «يعمدنا بالروح القدس وبالنار» والنار رمز إلى التطهير والهدى والغيرة والقوة. وكثيراً ما أعلن الله ظهوره بالنار كما في أمر العليقة الملتهبة (خروج ٣: ٢ و٣) وكما ترآى في طور سينا (خروج ١٩: ١٦ - ٢٠ انظر أيضاً خروج ١٥: ١٧ وتثنية ٤: ٢٤ ومزمور ١٨: ١٢ - ١٤ وحزقيال ١: ٤ وعبرانيين ١٢: ٢٩).
    وَٱسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أي على رؤوسهم كما يرجح. ونستنتج من قوله أولاً «ظهرت» وقوله ثانياً «استقرت» أنها كانت دائرة في فضاء المكان ثم هبطت على كل منهم. ولم يعيّن الكاتب هل كان ذلك للرسل دون غيرهم أو كان لكل المؤمنين إنما بيّن أن الذين استقرت عليهم الألسنة النارية هم الذين حل عليهم الروح.
    ٤ «وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَٱبْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ ٱلرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا».
    ص ١: ٥ مرقس ١٦: ١٧ وص ١٠: ٤٦ و١٩: ٦ و١كورنثوس ١٢: ١٠ و٢٨ و٣٠ و١٣: ١ و١٤: ٢ الخ
    وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي من تأثيراته الداخلية وهذا إنجاز لوعد المسيح في قوله «لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ» (ص ١: ٨). وكان الرسل قد حصلوا على شيء من تأثير الروح القدس لكنهم لم يمتلئوا منه إلا حينئذ.
    وَٱبْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى هذه المعجزة الثالثة للدلالة على حلول الروح القدس عليهم وكانت المعجزات الثلاث برهاناً للرسل على إنجاز المسيح وعده لهم بإرسال الروح وبياناً لأهمية تلك الهبة وكانت تنبيهاً لغيرهم وآية لإقناعهم بصحة تعاليم الرسل. وقصد بقوله «ألسنة أخرى» لغات غير لغتهم وكانت لغتهم الآرامية أي السريانية الكلدانية فإنهم أخذوا يتكلمون بلغات لم يتعلموها وبعض هذه اللغات ذُكر في (ع ٩ - ١١) وكانت تلك المعجزة بألسنة المتكلمين لا في آذان السامعين كما يظهر من (ص ١٠: ١٤ و١٩: ٦ و١كورنثوس ١٢: ١٠).
    وفي هذه المعجزة خمس ملاحظات:

    • الأولى: أنها معجزة عظيمة جداً لأن أولئك الرسل كانوا أميين لا فرصة لهم لأن يتعلموا اللغات الغريبة ولم يكن لهم ما يدعوهم إلى ذلك قبل حلول الروح وفي لحظة صاروا يعرفون مفردات تلك اللغات الكثيرة ومركّباتها وألفاظها المختلفة والتمكن من أحكام التلفظ بها حتى كأنهم من أهلها.
    • الثانية: أنها كانت إنجازاً لمواعيد العهد القديم إذ قيل «إِنَّهُ بِشَفَةٍ لَكْنَاءَ وَبِلِسَانٍ آخَرَ يُكَلِّمُ هٰذَا ٱلشَّعْبَ» (إشعياء ٢٨: ١١). ونعلم أن النبي أشار إلى ذلك من قول بولس الرسول في (١كورنثوس ١٤: ٢١).
    • الثالثة: أنها إنجاز لما أنبأ به يسوع بقوله «إنهم يتكلمون بألسنة أخرى» (مرقس ١٦: ١٧).
    • الرابعة: أنه لا يلزم مما ذُكر هنا أن كل رسول كان يحسن التكلم بكل من اللغات المذكورة بعد ذلك بل أن بعضهم تكلم ببعض اللغات وبعضهم بلغة أو بلغات أخرى.
    • الخامسة: أن الغاية من إعطاء هذه الآية للرسل كالغاية من إعطاء سائر المعجزات وهي البرهان على صدق الإنجيل وكون الرسل هم رسل الله. وتلك المعجزات كانت ضرورية في بداءة التبشير بالإنجيل. وليس من دليل على أن الرسل استعملوا تلك اللغات في تبشيرهم وتعليمهم إلا على سبيل المعجزة ليقنعوا الشعب بصحة تعاليمهم والبرهان على ذلك قول الرسل «مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ يَبْنِي نَفْسَهُ، وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيَبْنِي ٱلْكَنِيسَةَ» (١كورنثوس ١٤: ٤). وقوله أيضاً «إِذاً ٱلأَلْسِنَةُ آيَةٌ لاَ لِلْمُؤْمِنِينَ، بَلْ لِغَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (١كورنثوس ١٤: ٢٢) وقوله «لٰكِنْ فِي كَنِيسَةٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَكَلَّمَ خَمْسَ كَلِمَاتٍ بِذِهْنِي لِكَيْ أُعَلِّمَ آخَرِينَ أَيْضاً، أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلاَفِ كَلِمَةٍ بِلِسَانٍ» (١كورنثوس ١٤: ١٩). وكان بولس يحسن التكلم بلغات مختلفة أكثر من غيره ومع ذلك لم يفهم لغة أهل ليكأونيّة (ص ١٤: ١١) ولم يحتج في كل البلاد التي بشر فيها إلا إلى التكلم باللغة اليونانية كما احتاج إليها في كتابته رسائله. ومع ذلك ظن بعض الناس أن الرسل تكلموا في جولانهم في البلدان بألسنة أهل البلاد الخاصة بالقوة التي حصلوا عليها يوم حلول الروح القدس ونسبوا النجاح العظيم الذي كان على أيدهم إلى نوالهم تلك القوة.


    ٥ «وَكَانَ يَهُودٌ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ».
    رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ أي يخافون الله ويجتهدون في سبيل الديانة اليهودية على قدر معرفتهم.
    مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ أي من بلاد كثيرة مختلفة انتشرت فيها الديانة اليهودية.
    سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ لعل بعض هؤلاء أتوا من الخارج وسكنوا في أورشليم دائماً متوقعين مجيء المسيح المنتظر في ذلك الوقت ولكن أكثره أتى إلى تلك المدينة رغبة في حضور عيد الفصح وعيد الخمسين. وكان لليهود المتغربين رغبة شديدة في مثل ذلك الحضور. قيل أنه حين أتى إليها تيطس وحاصرها وقت العيد كان فيها نحو ثلاثة آلاف نفس.
    ٦ «فَلَمَّا صَارَ هٰذَا ٱلصَّوْتُ، ٱجْتَمَعَ ٱلْجُمْهُورُ وَتَحَيَّرُوا، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ».
    هٰذَا ٱلصَّوْتُ الأرجح أن هذا الصوت هو الصوت الذي كان كمن هبوب ريح عاصفة ع ٢ وأنه سمعه الذين في المدينة على اختلاف أبعادهم من مصدره. وظن بعضهم أن المراد «بالصوت» هنا الخبر المنتشر في المدينة بتلك المعجزة.
    ٱجْتَمَعَ ٱلْجُمْهُورُ لا يلزم من ذلك أن هذا الجمهور اجتمع في البيت بل أنه اجتمع حوله. والأرجح أن الرسل خرجوا حينئذ ليخاطبوه.
    كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ كان أولئك الناس مختلفي اللغات ومع ذلك سمع كل منهم بعض الرسل يخاطبه بلغته وتكلم الرسل إما بالدور وإما كل واحد مع جماعة من الجمهور منفردة عن غيرها.
    ٧ «فَبُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هٰؤُلاَءِ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ؟».
    ص ١: ١١
    فَبُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَتَعَجَّبُوا قيل في العدد السابق أنهم تحيروا وكل هذه الكلمات تشير إلى عظمة تأثير العجيبة في المشاهدين.
    قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ هذا مجموع أقوال كثيرين.
    أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هٰؤُلاَءِ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ لو كان التلاميذ من بلدان مختلفة لم يكن من عجب من تكلمهم بلغات مختلفة لكنهم كانوا من بلاد واحدة. وعرفوا أنهم جليليون من هيئتهم وأثوابهم إن كان المخاطبون هم الرسل دون غيرهم. وإن كان الرسل وغيرهم من المؤمنين فاعتبروهم جليليين لاتباعهم يسوع نبي الجليل.
    ٨ «فَكَيْفَ نَسْمَعُ نَحْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لُغَتَهُ ٱلَّتِي وُلِدَ فِيهَا».
    هذا الاستفهام للتعجب. والمراد باللغة التي وُلد فيها المتكلم اللغة التي ينشأ عليها منذ الطفولية لا التي يحصلها بالدرس.
    ٩ «فَرْتِيُّونَ وَمَادِيُّونَ وَعِيلاَمِيُّونَ، وَٱلسَّاكِنُونَ مَا بَيْنَ ٱلنَّهْرَيْنِ، وَٱلْيَهُودِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَبُنْتُسَ وَأَسِيَّا».
    تكوين ١٠: ٢٢ و١٤: ١ وإشعياء ٢١: ٢ وإرميا ٢٥: ٢٥ وحزقيال ٣٢: ٢٤ ودانيال ٨: ٢ تكوين ٢٤: ١ و١بطرس ١: ١
    ذكر لوقا البلاد التي أتى منها اليهود بيان عدد اللغات التي تكلم بها المخاطبون وعظمة المعجزة. ولم يذكر تلك البلاد بلا ترتيب بل ذكرها على نسق دل على معرفته البلاد والسكان إذ ذكر أولاً أولاد سام ثم أولاد يافث ثم أولاد حام وابتدأ بذكر البلاد في آسيا شرقاً ثم البلاد غرباً على ترتيب مواقعها حتى بلغ أوربا ثم أفريقية ثم رجع أخيراً إلى آسيا.
    فَرْتِيُّونَ أي أهل فرتيا وهي قسم من مملكة الفرس في جوار خليج العجم سُبي كثيرون من اليهود إليها سنة ٦٠٠ قبل الميلاد وبقي كثيرون منهم هنالك.
    وَمَادِيُّونَ أي أهل مادي وهي بلاد في الشمال الغربي من بلاد فارس وجنوبي بحر الخزر ولعلها نُسبت إلى ماداي بن يافث (تكوين ١٠: ٢). وكثيراً ما ذُكرت مادي في الكتاب المقدس مع فارس لاتحاد المملكتين مراراً (٢ملوك ١٧: ٦ و١٨: ١١ وأستير ١: ٣ و٤ و١٨ و١٩ وإرميا ٢٥: ٢٥ ودانيال ٥: ٢٨ و٦: ٨ و٨: ٢٠ و٩: ١).
    عِيلاَمِيُّونَ ذُكروا مراراً في العهد القديم وهم سلالة عيلام بن سام (تكوين ١٠: ٢٢ و١٤: ١ وعزرا ٢: ٧ و٨: ٧ ونحميا ٧: ٢٢ و٣٤ وإشعياء ١١: ١١ و٢١: ٢ و٢٢: ٦) وكانت بلادهم في عصر دانيال ولاية من مملكة فارس (دانيال ٨: ٢) وتسمى اليوم كردستان وهي على تخم بلاد العجم الغربي وكانت قاعدتها قديماً شوشان واشتهرت بعظمتها لأن محيطها كان خمسة عشر ميلاً وبنفاسة القصر الذي بناه فيها أحشويروش.
    مَا بَيْنَ ٱلنَّهْرَيْنِ أي بين دجلة والفرات وسُميت هذه البلاد أيضاً فدان آرام (أي حراثة النجد لأن معنى فدان حراثة ومعنى آرام نجد أي أرض مرتفعة) (تكوين ٢٥: ٢٠) وفي هذه الأرض أور الكلدانيين مولد إبراهيم (تكوين ١١: ٣١).
    وَٱلْيَهُودِيَّةَ ذكرها هنا تكملة للأماكن التي كان السامعون منها. وكانت لهجة سكان اليهودية تمتاز عن لهجة سكان الجليل. ولا بد من أنه كان أكثر السامعين من اليهودية.
    كَبَّدُوكِيَّةَ ولاية من ولايات آسيا الصغرى الشرقية كانت قاعدتها في أيام الرومانيين قيصرية حدها من الجنوب والشرق جبل طورس ومخرج الفرات وحدودها شمالاً وغرباً كانت تختلف كثيراً في أزمنة مختلفة.
    وَبُنْتُسَ ولاية في شمالي آسيا الصغرى على شاطئ البحر الأسود ولذلك سُميت بنتس وهي لفظة لاتينية معناها البحر.
    وَأَسِيَّا المراد بآسيا هنا الجزء الغربي من آسيا الصغرى أي بر الأناضول وكانت قاعدتها أفسس.
    ١٠ «وَفَرِيجِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ وَمِصْرَ، وَنَوَاحِيَ لِيبِيَّةَ ٱلَّتِي نَحْوَ ٱلْقَيْرَوَانِ، وَٱلرُّومَانِيُّونَ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ يَهُودٌ وَدُخَلاَء».
    ص ١٦: ٦ و١٨: ٢٣ ص ٣: ١٣ و١٤: ٢٤ و١٦: ٦ متّى ٢٧: ٣٢ وص ١١: ٢٠ و١٣: ١
    فَرِيجِيَّةَ ولاية في آسيا الصغرى تحدها شمالاً بيثينية وجنوباً بيسيدية وشرقاً غلاطية وكبدوكية وغرباً ليديا وميسيا.
    بَمْفِيلِيَّةَ ولاية من آسيا الصغرى على شاطئ البحر المتوسط يحدها شمالاً بيسيدية وجنوباً البحر وشرقاً جبل طورس وغرباً فريجية.
    وَمِصْرَ هي البلاد المعروفة شمالي أفريقيا تُسقى أراضيها بمياه النيل. وكانت لغتها قديماً القبطية سكنها في العصور الخالية كثيرون من اليهود. وهناك تُرجمت أسفار العهد القديم أولاً إلى اليونانية في عهد بطليموس وتُعرف بترجمة السبعين.
    لِيبِيَّةَ بلاد شمالي أفريقية وغبربي مصر.
    ٱلْقَيْرَوَانِ مدينة في ليبية غربي اسكندرية وعلى أمد خمس مئة ميل منها وهي من مدن طرابلس الغرب اليوم وكان فيها يومئذ عدد وافر من اليهود وكان من أهلها سمعان القيرواني الذي سُخر بحمل صليب المسيح (متّى ٢٧: ٣٢ ولوقا ٢٣: ٢٦) وذُكر بعض القيروانيين بين المسيحيين الأقدمين (أعمال ١١: ٢٠ و١٣: ١).
    وَٱلرُّومَانِيُّونَ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ أي اليهود الذين اتخذوا إيطاليا وطناً لهم وأتوا أورشليم ليحتفلوا بالعيد فتكون لغتهم اللاتينية فإن بمبيوس لما استولى على اليهودية نحو السنة الستين قبل الميلاد ألوفاً من أهلها وأخذهم إلى رومية فكانوا بمنزلة عبيد للرومانيين ثم حُرروا وبقوا هنالك ساكنين في قسم من المدينة على نهر تيبر.
    يَهُودٌ أي إسرائيلون أصلاً.
    وَدُخَلاَءُ هم الذين هادوا من الأمم.
    ١١ «كِرِيتِيُّونَ وَعَرَبٌ، نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا بِعَظَائِمِ ٱللّٰهِ؟».
    ص ٢٧: ٧ و١٢ و١٣
    كِرِيتِيُّونَ من جزيرة كريت وتُسمى أحياناً كندية وهي في بحر الروم طولها نحو مئتي ميل وعرضها نحو خمسين ميلاً وهي غربي سورية وعلى أمد نحو خمس مئة ميل منها وهي التي ترك فيها بولس تيطس لخدمة الإنجيل (تيطس ١: ٥).
    عَرَبٌ هم سكان بلاد العرب ولغتهم العربية.
    نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا لم تكن اللغات التي تكلم الرسل بها أقل من سبع أو ثمانٍ ما عدا لهجاتها المختلفة ولم يكن من سبيل إلى الخداع أو الانخداع لأن كل واحد من السامعين حكم بمعرفتهم لغته وشهد بذلك لغيره. والذي حيرهم أن المتكلمين بتلك اللغات جليليون (ع ٧) ولا سبيل لأهل الجليل في جليلهم أن يسمعوا تلك اللغات وليسوا بعلماء لكي يتعلموها.
    بِعَظَائِمِ ٱللّٰهِ هذا يعم التسابيح والتشكرات لله على ما صنع من العظائم بإرساله ابنه إلى العالم وفي إقامته إياه من الموت وبإصعاده إياه إلى السماء وبإجرائه المعجزات باسمه.
    ١٢ «فَتَحَيَّرَ ٱلْجَمِيعُ وَٱرْتَابُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟».
    فَتَحَيَّرَ ٱلْجَمِيعُ وَٱرْتَابُوا أي عجبوا من غرابة الأمر عجباً عظيماً وشكوا في تعيين العلة فما استطاعوا أن يحكموا أمن الله هي أم من غيره.
    ١٣ «وَكَانَ آخَرُونَ يَسْتَهْزِئُونَ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱمْتَلأُوا سُلاَفَةً».
    آخَرُونَ يَسْتَهْزِئُونَ لعل هؤلاء من سكان أورشليم لم يفهموا شيئاً من اللغات الأجنبية فحكموا أن كلام الرسل لا معنى له.
    ٱمْتَلأُوا سُلاَفَةً أي سكروا كثيراً حتى لم يستطيعوا أن يتلفظوا بما له معنى وهذا أسهل طريق للتخلص من تأثير تلك المعجزة. ويغلب أن يكون في كل جمع فريقان من الناس الفريق الواحد تقي كالذين سألوا «ما عسى أن يكون هذا» والآخر شقي كالذين قالوا «امتلأوا سلافة». ومثل هذا الجمع كان الجمع في أثينا يوم تكلم بولس «كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ: سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هٰذَا أَيْضاً» (ص ١٧: ٣٢ انظر أيضاً متّى ١١: ١٩ ويوحنا ٧: ٢٠ و٨: ٤٨ وأعمال ٢٦: ٢٤).

    موعظة بطرس ع ١٤ إلى ٣٦


    ١٤ « فَوَقَفَ بُطْرُسُ مَعَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْيَهُودُ وَٱلسَّاكِنُونَ فِي أُورُشَلِيمَ أَجْمَعُونَ، لِيَكُنْ هٰذَا مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ وَأَصْغُوا إِلَى كَلاَمِي».
    تقسم هذه الموعظة إلى أربعة أقسام:

    • الأول: تبرئة الرسل ع ١٤ و١٥.
    • الثاني: بيان أن الحادثة إتمام نبوءة (ع ١٦ - ٢١).
    • الثالث: إيضاح أن يسوع المصلوب قد قام وأن ذلك تمام نبوءات.
    • الرابع: أن الرسل شهود بذلك والروح القدس شاهد به أيضاً فإذاً يسوع رب ومسيح (ع ٢٢ - ٣٦).


    بُطْرُسُ انظر ما أعظم التغير الذي طرأ على هذا الرسول منذ نحو اثنين وخمسين يوماً فإنه كان يومئذ جباناً أنكر المسيح وصار اليوم شجاعاً يشهد بجراءة غريبة بقيامة يسوع وصحة دعواه وما ذلك إلا نتيجة فعل الروح القدس وهذا من عظائم معجزات ذلك اليوم.
    مَعَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ أي الرسل العشرة ومتياس الذي انتخبوه حديثاً (ص ١: ٢٦). وكان وقوف الأحد عشر مع بطرس بياناً أنهم رضوه نائباً عنهم وصدقوا كلامه ولعلهم زادوا على كلام بطرس شيئاً. والأرجح أنه تكلم حينئذ بالآرامية العامية المعروفة بالسريانية وكانت شائعة يومئذ في اليهودية.
    أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْيَهُودُ أي اليهود أصلاً.
    وَٱلسَّاكِنُونَ فِي أُورُشَلِيمَ أصلاء ودخلاء.
    ١٥ «لأَنَّ هٰؤُلاَءِ لَيْسُوا سُكَارَى كَمَا أَنْتُمْ تَظُنُّونَ، لأَنَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ مِنَ ٱلنَّهَارِ».
    ١تسالونيكي ٥: ٧
    لأَنَّ هٰؤُلاَءِ هو وسائر الرسل.
    لَيْسُوا سُكَارَى هذا نفي لقولهم «امتلأوا سلافة».
    لأَنَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ مِنَ ٱلنَّهَارِ أي قبل الظهر بثلاث ساعات وهي ساعة صلاة الصبح عند اليهود وذكر ذلك دليلاً على صحة نفيه السكر عنه وعن سائر التلاميذ لأنه لا أحد من اليهود يشرب الخمر قبل تلك الصلاة ولو من أكبر المدمنين ويؤيد ذلك قول الرسول «ٱلَّذِينَ يَسْكَرُونَ فَبِٱللَّيْلِ يَسْكَرُونَ» (١تسالونيكي ٥: ٧). وكان من عوائد اليهود في الأعياد أنهم لا يأكلون ولا يشربون شيئاً قبل صلاة الصبح كما تشهد به كتبهم وهذا برهان بطرس الأول.
    ١٦ «بَلْ هٰذَا مَا قِيلَ بِيُوئِيلَ ٱلنَّبِيِّ».
    في هذا العدد برهان بطرس الثاني على نفي السكر المذكور وهو أن ما حسبوه سكراً هو فعل الروح القدس إتماماً لنبوءة يوئيل بما يحدث في أيام المسيح وهو فوق كونه دليلاً على نفي تهمة برهان على إتيان المسيح الموعود به.
    ١٧ « يَقُولُ ٱللّٰهُ: وَيَكُونُ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً».
    إشعياء ٤٤: ٣ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٧ ويوئيل ٢: ٢٨ و٢٩ وزكريا ١٢: ١٠ ويوحنا ٧: ٣٨ و٢ ١٥: ٤٥ و٢١: ٩
    هذا مقتبس من (يوئيل ٢: ٢٨ - ٣٢) ومعناه على وفق ما في الأصل العبراني وألفاظه تقرب مما في ترجمة السبعين.
    فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ قصد اليهود بهذه العبارة الوقت منذ مجيء المسيح إلى نهاية العالم أي كل زمن ملكوته ومجده وسموه بالأيام الأخيرة مقابلة بأيام الآباء والملوك والأنبياء التي هي الأيام الأولى (إشعياء ٢: ٢). ولا يدل ذلك على أنهم توقعوا نهاية العالم على أثر مجيء المسيح لأنهم توقعوا أن يملك مدة طويلة على الأرض. وقصد كتبة العهد الجديد بها زمان الإنجيل الذي بداءته يوم الخمسين (عبرانيين ١: ٢ و١بطرس ١: ٢٠ و٢بطرس ٣: ٣ و١يوحنا ٢: ١٨).
    أَسْكُبُ هذا مجاز والحقيقة أنه يهب الروح القدس بكثرة كالماء الوافر وذلك مثل قول بولس في (تيطس ٣: ٦ انظر أيضاً أيوب ٣٦: ٢٧ وإشعياء ٤٤: ٣ و٤٥: ٨ وزكريا ١٢: ١٠ وملاخي ٣: ١٠) وغاية ذلك السكب تقديس النفس.
    رُوحِي هو الأقنوم الثالث من اللاهوت وأرسله الله لإكمال عمل الفداء لأنه يقود الناس إلى المسيح لينالوا فوائد الخلاص وعمله الخاص تجديد قلوب الناس (يوحنا ٣: ٥ و٦) وإنماء الفضائل الروحية (غلاطية ٥: ٢٢ - ٢٥ وتيطس ٣: ٥ - ٧) فنجاح الإنجيل متوقف على عمله (إشعياء ٣٢: ١٥ و١٦). وبواسطته فعل الرسل المعجزات شهادة ليسوع (١كورنثوس ٤: ١٠) وظهر تأثيره يوم عيد الخمسين بتقويته الرسل على الوعظ وبتجديد قلوب ثلاثة آلاف من الناس.
    كُلِّ بَشَرٍ أي كل صنف من الناس يهوداً وأمماً وصغاراً وكباراً. وما فهم بطرس أن ذلك معنى النبوءة إلى بعد إعلان خاص في يافا (ص ١٠).
    فَيَتَنَبَّأُ أي يتكلم بقوة الروح القدس كما تكلم شاول الملك في الأيام القديمة (١صموئيل ١٠: ١٠ و١٩: ٢٠ - ٢٤) وإتمام هذا الوعد بُيّن في (ص ١١: ٢٨ و١٩: ٦ و٢١: ٩ و١٠ و١كورنثوس ١٤: ٣٤).
    وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً نظر صور الأشياء وهي غير موجودة كأنها موجودة حقيقة. هذا من الطرق التي أعلن الله إرادته فيها (أيوب ٣٣: ١٥) وهذا لم يكن في يوم الخمسين بل كان بعده كما كان من أمر استفانوس (ص ٧: ٥٥) وأمر بولس وحنانيا (ص ٩: ٣ و١٠) وكرنيليوس (ص ١٠: ٣) وبطرس (ص ١٠: ١٠ و١١) ويوحنا (رؤيا ص ١ - ص ٢٢).
    وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً وهذا طريق آخر من طرق إعلان الله للناس وكان ذلك كثيراً في العهد القديم (تكوين ٢٠: ٣ و٣١: ١١ و٢٤ و٣٧: ٥ وعدد ١٢: ٦) وجرى ذلك في العهد الجديد مراراً (متّى ١: ٢٠ و٢: ١٢ و١٣ و١٩ و٢٢) ولا نعلم كيف كانوا يميّزون وقتئذ بين أحلام الإعلان والأحلام العادية. ولا دليل لنا على أن الله يكلم الناس اليوم بأحلام فإذاً لا اعتبار لها في هذه الأيام.
    ١٨ «وَعَلَى عَبِيدِي أَيْضاً وَإِمَائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ».
    ص ٢١: ٤ و٩ و٢٠ و١كورنثوس ١٢: ١٠ و٢٨ و١٤: ١ الخ
    عَبِيدِي أَيْضاً وَإِمَائِي مراده تعالى بذلك منح المواهب الروحية لكل رتبة من الناس للأدنين كما للأعلين (غلاطية ٣: ٢٨) وتم ذلك بإعطائه القوة لصيادي الجليل على أن يكونوا معلمي العالم ولطابيثا وليدية وبريسكلا أن يكنّ أمثلة التقوى. ولعل المراد «بالعبيد والإماء» محبو الله بقطع النظر عن رتبهم لا المماليك لأنهم أضيفوا إلى الله وذلك على وفق ما جاء في (مزمور ٨٦: ١٦ و١١٦: ١٦ ولوقا ١: ٣٨).
    فَيَتَنَبَّأُونَ لا يلزم من هذا أنهم يعلمون ما في المستقبل لأن التنبوء جاء في الكتاب لثلاثة معان غير علم الغيب وهي التسبيح لله (لوقا ١: ٢٧) والتعليم الروحي بإرشاد روح الله (متّى ٧: ٢٢) والتكلم بألسنة غريبة كما كان في يوم الخمسين وهذه كلها من آيات الرحمة.
    ١٩ «وَأُعْطِي عَجَائِبَ فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَآيَاتٍ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ: دَماً وَنَاراً وَبُخَارَ دُخَان».
    يوئيل ٢: ٣٠ و٣١
    عَجَائِبَ معجزات وغرائب. وذكرت في الإنجيل غالباً مع الآيات (متّى ٢٤: ٢٤ ومرقس ١٣: ٢٢ ويوحنا ٤: ٤٨ ورومية ١٥: ١٩). وبعض هذه العجائب من متعلقات الجو والكواكب وبعضها من متعلقات الأرض وهذه كلها من آيات النقمة. وهذا مثل نبوءة المسيح في (لوقا ١٩: ٤٤) وهي أن يوم الافتقاد يكون يوم رحمة للذين يقبلون الرحمة ويوم نقمة للذين يرفضونها.
    دَماً الخ أي فتنة وحرياً وقتلاً وتخريب المدن وإحراقها. تم أول هذه النبوءة بخلاص ألوف من أهل اليهودية يوم الخمسين وبعده وتم آخرها بخراب أورشليم وما حدث في وقته من البلايا.
    ٢٠ «تَتَحَوَّلُ ٱلشَّمْسُ إِلَى ظُلْمَةٍ وَٱلْقَمَرُ إِلَى دَمٍ، قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ ٱلرَّبِّ ٱلْعَظِيمُ ٱلشَّهِيرُ».
    متّى ٢٤: ٢٩ ومرقس ١٣: ٢٤ ولوقا ٢١: ٢٥
    انظر الشرح (متّى ٢٤: ٢٩ وانظر أيضاً إشعياء ١٢: ١٠ وحزقيال ٣٢: ٧ ومرقس ١٣: ٢٤ و٢بطرس ٣: ٧ - ١٠). ولا يلزم من الكلام أن ذلك التحول سيكون حقيقياً بل المعنى أنه يظهر كذلك للناظر فالكلام مجاز وتمثيل للنوازل التي تقع على الأرض من الحروب والأوبئة والزلازل كما يمثل بشروق الشمس على الإنسان بالنجاح والبركة (إشعياء ٦٠: ٢٠ وإرميا ١٥: ٩ وعاموس ٨: ٩ ورؤيا ٦: ١٢ و٨: ١٢ و٩: ٢ و١٦: ٨). ولعل خراب أورشليم ليس سوى واحد من تلك النوازل وسيأتي غيرها حين يشاء الله.
    قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ ٱلرَّبِّ أي أن هذه النبوءة بكل ما تتضمنه من الوعد في (ع ١٧ و١٨) والوعيد في (ع ١٩ و٢٠) تتم قبل إتيان يوم الرب أي يوم الدين الذي لا يعرف وقته إلا الله. ولا تنحصر بركة نبوءة يوئيل في يوم الخمسين بل ما كان فيه منها عربون نجاح الإنجيل في القرون التالية وكذلك لعنة تلك النبوءة لم تنحصر في يوم خراب أورشليم بل ذلك الخراب مقدمة الأهوال في يوم الدينونة الرهيبة.
    ٱلْعَظِيمُ ٱلشَّهِيرُ وُصف بذلك لوفرة بركاته لشعب الله ولشدة هوله لأعدائه.
    ٢١ «وَيَكُونُ كُلُّ مَنْ يَدْعُو بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَخْلُصُ».
    رومية ١٠: ١٣
    هذه الآية وعد بالرحمة لكل من يسأل الله بالإيمان في أثناء تلك الضيقات فهي رجاء الوعد مع أهوال الوعيد لكي لا ييأس أحد.
    بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أي بالرب نفسه (مزمور ٧٩: ٦ وزكريا ١٣: ٩) والأرجح أن بطرس أراد بالرب هنا يسوع المسيح كما عنى بولس في (رومية ١٠: ١٣ و١٤ و١كورنثوس ١: ٢).
    يَخْلُصُ من كل أهوال الوعيد. وهذا الوعد يصح في كل الأحوال وهو وعد بالنجاة الجسدية والنجاة الروحية. ومما يستحق الاعتبار هنا أن لا أحد من المسيحيين هلك في خراب أورشليم لأنهم هربوا من أورشليم إلى شرقي الأردن ونجوا وكذلك يكون المسيح ملجأ للمؤمنين في يوم الدين.
    اتخذ بطرس كلام يوئيل بياناً لأن الله في الأيام الأخيرة من تاريخ العالم يظهر عظمة رحمته بهبته الروح وشدة نقمته لكي يقبل الناس الخلاص وينجوا من النقمة وفي كلامه هنا خمس فوائد:

    • الإنذار بالخطر.
    • وجوب الاستعداد لتوقيّه.
    • أن الله مستعد لمنح الخلاص.
    • أن الشرط الوحيد الدعاء ولا شرط أهم من هذا.
    • أنه من يهلك فهو على هلاك نفسه.


    ٢٢ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ ٱسْمَعُوا هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ: يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا ٱللّٰهُ بِيَدِهِ فِي وَسَطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ».
    يوحنا ٣: ٢ و١٤: ١٠ و١١ وص ١٠: ٣٨ وعبرانيين ٢: ٤
    هذه الآية بداءة القسم الثالث من موعظة بطرس وهو إيضاح أن يسوع المصلوب قد قام وارتفع إلى السماء وتمجّد على وفق المواعيد المتعلقة بالمسيح فكان عليهم أن يتوبوا عن خطيئتهم في قتله ويؤمنوا به فيخلصوا.
    يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ كان اسم يسوع شائعاً بين اليهود فنعته بالناصري على ما اشتهر به تمييز له عن يسوع آخر. ولا ريب في أن بطرس كان وقتئذ على جانب عظيم من الشجاعة حتى استطاع أن يعترف هكذا بمن صُلب بأمر الحاكم كمذنب (منذ خمسين يوماً وكان هو نفسه قد أنكر أنه يعرفه) لما كان يترتب من العار والخطر على الاعتراف به.
    تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ أي ثبت بالدليل القاطع أن الله أحبه وأرسله. وهذا مثل قول نيقوديموس ليسوع «نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَهُ» (يوحنا ٣: ٢).
    بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ ثلاث كلمات مترادفات والفرق بينهما اعتباري فالقوات المعجزات بالنظر إلى قوة الفاعل ومنها شفاء المرضى وإقامة الموتى. والعجائب المعجزات بالنظر إلى تأثيرها في المشاهد ومنها الغرائب المتعلقة بميلاد المسيح وموته وقيامته. والآيات المعجزات باعتبار أنها أدلة على صحة التعليم المقترن بها ومنها جودة تعليمه وأفعاله وعمله ما في الغيب.
    صَنَعَهَا ٱللّٰهُ بِيَدِهِ الضمير في يده يرجع إلى يسوع وهذا موافق لشهادة يسوع نفسه حين كان يصنع المعجزات (يوحنا ٥: ١٩ و٣٠) فهي تصديق الله لصحة دعوى ابنه (يوحنا ٥: ٣٦).
    فِي وَسَطِكُمْ أي في بلادكم وأرضكم أورشليم وسائر اليهودية. والأرجح أن كثيرين من السامعين كانوا قد شاهدوا كثيراً من تلك المعجزات.
    كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ بالمشاهدة البصرية أو بشهادة من شاهد بعينيه فإن أنباء أعمال المسيح كانت منتشرة في كل تلك الأرض (متّى ٤: ٢٤ و٢٥ ومرقس ٣: ٨). واليهود لم ينكروا يومئذ أنه صنع المعجزات بل نسبوا إليه أنه كان يصنعها بقوة بعلزبول (متّى ٩: ٣٤ ومرقس ٣: ٢٢ ويوحنا ١٥: ٢٤).
    ٢٣ «هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوه».
    متّى ٢٦: ٢٤ ويوحنا ٢٢: ٢٢ و٢٤: ٤٤ وص ٣: ١٨ و٤: ٢٨ و٥: ٣٠
    قال الرسول ذلك دفعاً لاعتراض يخطر على بال السامعين مما جرى على يسوع وهو أن من صُلب ومات موت الهوان ليس هو بالمسيح وإثباتاً لضرورة موته إتماماً لمقاصد الله وأنه قام من الموت وهم شهود لذلك وأنه ارتفع إلى يمين الله ولذلك أرسل روحه القدوس بآيات قوته في يوم الخمسين.
    مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ الذي شاهده الناس من أمور موت المسيح كان من أعمال البشر والواقع أن علة موته الأصلية قضاء الله وقصده كما يتبين من النبوءات في العهد القديم (إشعياء ٥٢: ١٣ و١٥: ٥٣: ١ - ١٢ وزكريا ١١: ١٢ و١٢: ١٠ و١٣: ٧) وما قيل هنا قيل في (ص ٤: ٢٧ و٢٨) وهو قوله «ٱجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ ٱلْقُدُّوسِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مَسَحْتَهُ، هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ، لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ». والمراد بالمشورة هنا الرأي المبني على الحكمة. وغاية بطرس من هذا بيان أن موت المسيح كان بمقتضى تلك المشورة لا على رغمه بدليل قوله هو أيضاً (متّى ٢٦: ٥٣ ويوحنا ١٩: ١٠ و١١) ولو كان على رغمه لبطلت دعواه أنه المسيح ابن الله.
    وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ هذا يؤكد حدوث الأمر لعلة ما. وما سبق من هذه الآية أعلن أن تلك العلة كانت قضاء الله (رومية ٨: ٢٩).
    وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ أي بواسطة بيلاطس والجند الروماني لأنه لم يكن لليهود يومئذ من سلطان على قتل أحد والصلب ليس من معاقبات اليهود بل من معاقبات الرومانيين.
    صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ أي أنتم أيها اليهود فالذنب ذنبكم لأنه لو لم يرد الشعب قتله ويصرخ طالباً ذلك لم يحكم عليه بيلاطس بل أطلقه (لوقا ٢٣: ١٨ - ٢١) فنسب بطرس إلى المخاطبين أفظع الخطايا وهو أنهم رفضوا مسيحهم وقتلوه وهو رجاء آبائهم الذين وُعدوا به منذ زمن طويل وملكهم ومخلصهم فعظمة مقامه زادت فظاعة إثمهم.
    وفي ما قيل هنا برهان على أن قضاء الله لا ينفي اختيار الإنسان فإن الله قضى بموت المسيح وأما اليهود والرومانيين ففعلوا ما فعلوه باختيارهم. فسبق العلم بحادثة لا ينفي اختيار محدثها كما أن ذكرها بعد وقوعها لا ينفي ذلك الاختيار. فلله حق أن يعاقب اليهود على بغضهم ليسوع وقتلهم إياه لكنه لا يعاقبهم على إتمام مقاصده.
    ٢٤ «اَلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ».
    ع ٣٢ وص ٣: ١٥ و٤: ١٠ و١٠: ٤٠ و١٣: ٣٠ و٣٤ و١٧: ٣١ ورومية ٤: ٢٤ و٨: ١١ و١كورنثوس ٦: ١٤ و١٥: ١٥ و٢كورنثوس ٤: ١٤ وغلاطية ١: ١ وأفسس ١: ٢٠ وكولوسي ٢: ١٢ و١تسالونيكي ١: ١٠ وعبرانيين ١٣: ٢٠ و١بطرس ١: ٢١
    هذه المناداة الأولى علناً بقيامة المسيح على أنه لا بد من أن أنباءها قد شاعت قبلاً على غير هذا السبيل.
    اَلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ أي من الموت وهذا عين ما أراد بطرس إثباته وبإقامة الله ليسوع براءة من تهمة اليهود وشهادة بصحة دعواه وهو مما أنبأ به المسيح قبل موته.
    نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ هذا مجاز وهو استعارة مكنية فإن المتكلم شبه آلام الموت في نفسه بقيود وأثبت لها النقض دلالة على التشبيه المضمر في النفس أو هو استعارة تبعية شُبهت بها الإقامة من الموت بحل قيود الأسير ومثل هذا جاء في (مزمور ١٨: ٥ و١١٩: ٦١ وإشعياء ٦٦: ٧ وإرميا ٢٢: ٢٣ وهوشع ١٣: ١٣). ويغلب أن يسبق الموت أوجاع ولذلك أضاف الأوجاع إليه. ولا يلزم من هذا أن المسيح أُلم بعد الموت إنما المراد أن حال موته كانت حال الاتضاع والأسر فرفعه الله وأطلقه من تلك الحال حين أقامه.
    إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً الخ نظراً للواقع فإنه لم يمكن نظراً إلى مقام شخص المسيح لأنه رئيس الحياة (ص ٣: ١٥) ولأن له حياة في نفسه (يوحنا ١: ٤ و٥: ٦٢) ولأن له سلطاناً أن يضع حياته وأن يأخذها أيضاً (يوحنا ١٠: ١٨). ولم يكن نظراً إلى ما يقتضيه عمل الفداء الذي تعهد المسيح به لكي يُخضع الشيطان ويهدم ملكه ويخلص شعبه (عبرانيين ٢: ١٤) ولم يمكن نظراً إلى قضاء الله ومواعيد الكتاب المقدس كما سيبيّنه.
    ٢٥ «لأَنَّ دَاوُدَ يَقُولُ فِيهِ: كُنْتُ أَرَى ٱلرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، أَنَّهُ عَنْ يَمِينِي، لِكَيْ لاَ أَتَزَعْزَعَ».
    مزمور ١٦: ٨ الخ
    لأَنَّ دَاوُدَ يَقُولُ بإلهام الروح القدس.
    فِيهِ أي في المسيح الذي هو المتكلم كما يتضح من (ع ٢٩ - ٣١ و١٣: ٣٦) واقتبس بطرس هنا من (مزمور ١٦: ٨ - ١١) جرياً على ترجمة السبعين وهو يفرق عن الأصل العبرانية بكلمة واحدة لفظاً لا معنىً وما قاله بفم داود في ذلك المزمور أنباء الروح القدس بما يشعر به المسيح وهو على الأرض.
    أَرَى ٱلرَّبَّ أي أنظر إليه معيناً ومعتمداً فاتخذ هنا الله بمنزلة جبار بأس متسلح بسيف وترس.
    أَمَامِي أي قريباً منى ليعينني عند الحاجة حالاً. .
    عَنْ يَمِينِي هنا المسيح على يسار الله لأن اليسار موضع الوقاية فلا منافاة بين قوله هنا وقوله في (متّى ٢٦: ٦٤) ففيه أن الله كملك جالس على كرسيه وابنه على يمينه أي موضع الشرف وكلا الأمرين كناية.
    لِكَيْ لاَ أَتَزَعْزَعَ أي لا تغلبني شدة المصائب ولا قوة الأعداء.
    ٢٦ «لِذٰلِكَ سُرَّ قَلْبِي وَتَهَلَّلَ لِسَانِي. حَتَّى جَسَدِي أَيْضاً سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ».
    لِذٰلِكَ سُرَّ قَلْبِي فرح المسيح لما كان على الأرض بالنظر إلى اتحاده بالآب وبأنه عمل بمقتضى إرادته (لوقا ٢١: ١٠ ويوحنا ١١: ٤٢) وبتيقنه أن أباه ينجيه من كل ضيقاته وينصره على أعدائه. وهذا كقول الرسول «ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ» (عبرانيين ١٢: ٢).
    وَتَهَلَّلَ لِسَانِي وفي الأصل العبراني ابتهجت روحي وترجمها السبعون بما في المتن لأن اللسان آلة الروح في إظهار الابتهاج.
    جَسَدِي أَيْضاً سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ جعل القبر بمنزلة مسكن وقتي لتوقعه القيامة سريعاً وفي الأصل العبراني يسكن مطمئناً وترجمة السبعون بلفظتي «على الرجاء» لأن الرجاء علة الاطمئنان.
    ٢٧ «لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً».
    تكوين ٤٢: ٣٨ و٢صموئيل ٢٢: ٦ وأيوب ١٠: ٢١ و٢٢ ومزمور ٣٠: ٣ و٨٦: ١٣ و٨٩: ٤٨ وإشعياء ١٤: ٩ وحزقيال ٣١: ١٦ ومتّى ١١: ٢٣ و١كورنثوس ١٥: ٥٥
    لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي أي لن تتركني.
    فِي ٱلْهَاوِيَةِ أي في محل الأرواح مع سائر الموتى تحت سلطان الموت إلى يوم القيامة العامة. وكانت ثقة المسيح كذلك كل مدة حياته وفي ساعة موته حين استودع الآب نفسه.
    قُدُّوسَكَ هذا أحد نعوت المسيح يشير إلى كونه موقوفاً لعبادة الله كما مر في التفسير (يوحنا ١٧: ١٩). ونُعت أيضاً «بالقدوس» لأنه أقدس من كل من سواه في الطهارة والتقوى (لوقا ٤: ٣٤ وأعمال ٣: ١٤ وعبرانيين ٧: ٢٦ ورؤيا ١٥: ١٤ و١٦: ٥).
    يَرَى فَسَاداً أي لا يبقى زمناً طويلاً في القبر حتى يعتريه البلى كما يعتري سائر الموتى على وفق قوله «إلى التراب تعود» (تكوين ٣: ١٩). ومعنى الآية كلها أن المسيح متيقن أن الله يقيمه سريعاً من بين الأموات فلا يبقى جسده ولا نفسه تحت سلطان الموت.
    ٢٨ «عَرَّفْتَنِي سُبُلَ ٱلْحَيَاةِ وَسَتَمْلأُنِي سُرُوراً مَعَ وَجْهِكَ».
    عبرانيين ١٢: ٢
    هذه الأية كالتي قبلها في بيان اطمئنان المسيح وهو على الأرض.
    عَرَّفْتَنِي سُبُلَ ٱلْحَيَاةِ أي ما يتوصل به من الموت إلى الحياة. والمعنى أن المسيح وثق بأن الله يعيده إلى الحياة نفساً وجسداً وهذا يتضمن صعوده إلى السماء أيضاً وتكليله هناك بالمجد والكرامة.
    سَتَمْلأُنِي سُرُوراً مَعَ وَجْهِكَ أي تكمل فرحي حين أقوم بمشاهدتك في السماء حيث تمجدني وهذا كما جاء في (أفسس ١: ٢٠ - ٢٢ وعبرانيين ٩: ٢٤ و١٢: ٢).
    ٢٩ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَاراً عَنْ رَئِيسِ ٱلآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».
    ١ملوك ٢: ١٠ وص ١٣: ٣٦
    غاية بطرس في هذه الآية وما بعدها حتى الآية الحادية والثلاثين بيان أن داود تنبأ بذلك بقيامة المسيح ولم يتكلم به على نفسه.
    أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ خاطبهم في (ع ١٤) بقوله «أيها اليهود» إشارة إلى أرض سكنهم وفي (ع ٢٢) بقوله «أيها الإسرائيليون» إشارة إلى كونهم ورثة مواعيد الله لإسرائيل.
    يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لأنه معلوم ومسلم أن داود مات وفني وأن ذلك لم يحط مقامه وشرفه باعتبار أنه ملك مقتدر ونبي تقي.
    رَئِيسِ ٱلآبَاءِ نُعت بهذا لأنه أول البيت الملكي في يهوذا الذي توقع اليهود إتيان المسيح من نسله.
    إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ كما كُتب عنه في العهد القديم ولم يدع أحدٌ أنه قام فلذلك لا يصدق عليه ما تقدم من كلام المزمور.
    قَبْرُهُ عِنْدَنَا في مدينة أورشليم في الجزء الذي بناه منها وعُرف بمدينة داود (١ملوك ٢: ١٠) وكان على جبل صهيون وهنالك دُفن أكثر ملوك يهوذا. فتح قبره أولاً يوحنا هركانوس المكابي وهو رئيس الأحبار ثم فتحه هيرودس الكبير وأخذ ما بقي فيه من النفائس ووجود ذلك القبر عندهم إلى ذلك اليوم واعتقادهم أن داود لم يقم منه دليل قاطع على أن كلام النبوءة يصدق على غيره لا عليه.
    ٣٠ «فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً، وَعَلِمَ أَنَّ ٱللّٰهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ».
    ٢صموئيل ٧: ١٢ و١٣ ومزمور ١٣٢: ١١ ولوقا ١: ٣٢ و٦٩ ورومية ١: ٣ و٢تيموثاوس ٢: ٨
    فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً أي ملهماً من الله قادراً على الأنباء بالأمور المستقبلة (٢صموئيل ٢٣: ٢) تكلم بنبوءات كثيرة على المسيح (قابل مزمور ٢٢: ١ مع متّى ٢٦: ٤٦ ولوقا ٢٤: ٤٤ وقابل مزمور ٢٢: ١٨ مع متّى ٢٧: ٣٥ وقابل مزمور ٦٩: ٢١ مع متّى ٢٧: ٣٤ و٣٨ وقابل مزمور ٦٩: ٢٥ مع أعمال ١: ٢٠).
    عَلِمَ لأن الله عرفه ذلك بواسطة ناثان النبي (٢صموئيل ٧: ١٢ و١٦ ومزمور ١٣٢: ١١). وذُكر أيضاً مثل ذلك في مزمور ٨٩: ٣ و٤ و٣٥ - ٣٧).
    حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ (مزمور ٨٩: ٣ و٣٥).
    مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ أي من نسله.
    يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ قصد بالوعد سليمان أولاً ثم نسله وأتمه أخيراً بالمسيح وهكذا اعتقد اليهود وفسره كتبة الإنجيل (متّى ١٢: ٢٣ و٢١: ٩ و٢٢: ٤٢ و٤٥ ومرقس ١١: ١٠ ويوحنا ٧: ٤٢). وعلم داود أن تلك النبوءة كانت تشير إلى المسيح ولا تنحصر في أحد قبله لأن من جملة الوعد هو أن «كرسي مملكته يكون إلى الأبد» (٢صموئيل ٧: ١٣). وصرح بطرس أن داود هكذا فهم الوعد.
    حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي أن المسيح من نسل داود حسب طبيعته البشرية فلو كان يسوع مجرد إنسان لم يكن من داع إلى هذا القيد فهو دليل على أن بطرس اعتقد أن للمسيح طبيعة أخرى غير الطبيعة البشرية وهي طبيعته الإلهية.
    لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أي ليخلفه في الملك مسيحاً (مرقس ١١: ١٠ ولوقا ١: ٣٢ وص ١٥: ١٠). فالنبوءة من جهة المسيح تتضمن أمرين الأول أنه يُقام من الموت. والثاني أنه يملك إلى الأبد مُلكاً يعم كل ممالك الأرض. وكون مُلك المسيح روحياً لا يمنع كونه حقيقياً فيشبه ملك داود في مجده وشموله كل شعب الله.
    ٣١ «سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً».
    مزمور ١٠٦: ١٠ وص ١٣: ٣٥
    سَبَقَ فَرَأَى علم ذلك قبل حدوثه بالوحي وعلمه أيضاً من نبوءة ناثان ولذلك استطاع أن يتكلم بيقين وزاده يقيناً قسم الله المذكور في الآية السابقة.
    وَتَكَلَّمَ في المزمور ١٦ ويلزم من ذلك أن داود كتب هذا المزمور بعد ذلك الإعلان أي بيان أن نفس المسيح لم تُترك في الهاوية الخ فذلك التكلم نبوءة.
    عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ صرّح بطرس بالوحي بأن داود قال ذلك في قيامة المسيح. وهذا يتضح أيضاً من أن داود رأى جسده فساداً ولم يقم.
    أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ الخ انظر شرح ع ٢٧.
    ٣٢ «فَيَسُوعُ هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ، وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذٰلِكَ».
    ع ٢٤ ص ١: ٨
    أبان بطرس في ما مرّ أنّ قيامة يسوع مضمون نبوءة وصرّح هنا أن هذه النبوءة قد تمّت وأن المسيح قد قام والبرهان على ذلك شهادة الرسل وغيرهم من التلاميذ الذين شاهدوه حياً بعد موته. انظر شرح الكلام على القيامة في (متّى ٢٨: ١٦).
    ٣٣ «وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ».
    ع ٣٤ وص ٥: ٣١ وفيلبي ٢: ٩ وعبرانيين ١٠: ١٢ يوحنا ١٤: ٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧ و١٣ وص ١: ٤ ص ١٠: ٤٥ وأفسس ٤: ٨
    ٱرْتَفَعَ بإقامته من الموت وارتقائه من الاتضاع الذي تنازل إليه لعمل الفداء وعاد إلى المجد الذي كان له قبل إنشاء العالم (يوحنا ١٧: ٥) واستولى على السلطان المطلق باعتبار أنه ملك ومسيح (متّى ١٨: ١٨).
    أَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُس (ص ١: ٤ ويوحنا ١٤: ٢٦) أي الروح القدس الموعود به من الآب للابن ليرسله إلى تلاميذه والموعود به من الآب وهذا الوعد يتضمن أمرين الأول أن الروح القدس لا يأتي إلا بعد رجوع المسيح إلى السماء. والثاني أنه هبة الآب والابن (يوحنا ١٤: ٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧).
    سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ الخ أي الروح القدس الذي أنتم شاهدتم تأثيره أي معجزاته. وما سمعوه تكلّمهم بلغات غريبة. فنسب بطرس إلى المسيح ما نسبه إلى الآب في ع ١٧ وذاك دليل على قيامته فضلاً عن شهادة التلاميذ بها.
    ٣٤ «لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. وَهُوَ نَفْسُهُ يَقُولُ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي، ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي».
    برهن بطرس في هذه الآية والتي تليها من مزمور آخر أن داود لم يتنبأ بشأن نفسه.
    لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ أي بجسده ليأخذ المجد والكرامة على يمين الآب كما يتضح مما قيل في ع ٢٩ وعلى ذلك لا تصدق تلك النبوءة على داود بل تصدق على المسيح بالضرورة.
    قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي أي الآب للابن (مزمور ١١٠: ١). أبان بطرس في ما سبق أن النبوءة لا تصدق على داود لأنه لم يقم من الموت ولم يصعد بجسده إلى السماء ولم يجلس على يمين الله فهي تصدق بالضرورة على غيره وهو المسيح. وزاد على ذلك هنا أن داود دعا الذي صعد ربه فإذاً يستحيل أن يقصد نفسه بتلك النبوءة فالذي أخبر به أبان أنه ذريته وربه. وأورد المسيح هذه الآية نفسها إفحاماً للكتبة (متّى ٢٢: ٢٤) فإذاً المسيح رب داود ورب الجميع.
    ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي أي أن الآب دعا الابن إلى المساواة له في المجد والسلطان وهذا ليس هو المجد الأصلي الذي يستحقه باعتبار كونه إلهاً بل المجد الذي ناله باعتبار كونه فادياً ووسيطاً جزاء لاتضاعه لأجل خلاص البشر وهذا على وفق ما قيل في (فيلبي ٢: ١ - ١١ وأفسس ١: ٢١ وعبرانيين ١: ٣ و٨ و١٣ و١٠: ١٢ و١٢: ٢٠ و١بطرس ٣: ٢).
    ٣٥ «حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ».
    مزمور ١١٠: ١ ومتّى ٢٢: ٤٤ و١كورنثوس ١٥: ٢٥ وأفسس ١: ٢٠ و٢٢ وعبرانيين ١: ١٣
    أي حتى تتم غاية أعمال الفداء إلى النهاية (١كورنثوس ١٥: ٢٤ - ٢٨).
    ٣٦ «فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً».
    ص ٥: ٣١
    فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً أي ليقتنع الجميع بدون ريب بناء على النبوءات وشهادتنا والعجائب التي شاهدتموها أن المسيح قد أتى وأنه الآن في السماء.
    جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الذي كان برهاناً لبيت إسرائيل هو برهان لسائر الناس إنما وجه الخطاب إلى الإسرائيليين لأنهم أول المدعوين.
    أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ أي أظهر أنه جعل الخ. هذا غاية خطابه ونتيجته.
    يَسُوعَ هٰذَا الذي جال في هذه الأرض وتكلم معكم وصنع المعجزات قدامكم ومات على الصليب نفسه.
    ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ بأن طلبتم من بيلاطس قتله.
    رَبّاً أي إلهاً على الجميع (رومية ٩: ٥) ورأساً فوق كل شيء للكنيسة (أفسس ١: ٢٢ و يوحنا ١٧: ٢).
    وعلى هذه الصفة يملك الآن في السماء وسوف يأتي ليدين العالم. وجعله حينئذ إلهاً لا ينافي كونه كذلك منذ الأزل لكن استتر مجده وهو في حال الاتضاع إجراء لعمل الفداء.
    وَمَسِيحاً (ع ٣١) أي ممسوحاً من الله ليخلص العالم (يوحنا ٤: ٤٢) وهو الموعود به بالأنبياء. وحكم بطرس عليهم بأنهم هم صلبوا ربهم ومسيحهم مما يحملهم على أن يخجلوا ويلوموا أنفسهم ويخافوا.

    تأثير وعظ بطرس وحلول الروح القدس ع٣٧ إلى ع ٤٧


    ٣٧ «فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَأَلُوا بُطْرُسَ وَسَائِرَ ٱلرُّسُلِ: مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ؟».
    زكريا ١٢: ١٠ ولوقا ٣: ١٠ وص ٩: ٦ و١٦: ٣٠
    فَلَمَّا سَمِعُوا هذا البرهان الصريح أن يسوع الذي صلبوه هو المسيح.
    نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ هذا يدل على ألم نفساني شديد وحزن عظيم لشعورهم بإثمهم بما فعلوا والخطر الذي عرضوا أنفسهم له وهي نتيجة طبيعيّة من تأثير الحق ومن تأثير الروح القدس أيضاً.
    مَاذَا نَصْنَعُ لننجو من نتيجة خطيئتنا أي لنزيل غضب الله عنا ونُنقذ من العقاب الذي نستحقه. وهذا السؤال يدل على اجتهادهم في النجاة ورغبتهم في التعلم واستعدادهم للخضوع لإرادة الله. فسؤالهم كسؤال بولس للمسيح (أعمال ٩: ٦) وسؤال السجان لبولس وسيلا (أعمال ١٦: ٣٠). والشعور بالخطيئة والندامة والخوف أفضل استعداد لقبول بشارة الإنجيل. ومما يبين قوة الحق وشدة تأثير الروح فإن اليهود الذين رفضوه وقتلوه لم يستطيعوا أن يعتذروا عن إثمهم بل اعترفوا به وسألوا الإرشاد للنجاة من العقاب.
    ٣٨ «فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ: تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
    لوقا ٢٤: ٤٧ وص ٣: ١٩
    فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ بالنيابة عن سائر الرسل على وفق أمر المسيح بأن «يُكْرَزَ بِٱسْمِهِ بِٱلتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا» (لوقا ٢٤: ٤٧).
    تُوبُوا انظر شرح (متّى ٣: ٢). التوبة تتضمن الحزن على الخطيئة والعزم على تركها والاعتراف بها جهاراً والرجوع عنها إلى الله بالطاعة والقداسة. هذا فوق الخوف من العقاب لأنهم خافوا قبل أن سألوا عن طريق الخلاص فذلك الخوف علة ذلك السؤال.
    وكانت دعوة بطرس للتوبة في موعظته الأولى الإنجيليّة كدعوة يوحنا المعمدان في أول تبشيره. والتوبة هي الشرط الضروري للمغفرة ولا خلاص بدونها.
    وَلْيَعْتَمِدْ انظر شرح (متّى ٣: ٦). أمر المسيح تلاميذه أن يعمدوا المؤمنين (متّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٦) فقبول المعمودية إقرار المعتمد علناً بإيمانه أن يسوع هو المسيح وربه ومخلصه وهي رمز إلى تطهير القلب بالروح القدس وختم العهد الجديد وعلامة الاشتراك في كنيسة المسيح.
    عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لا يلزم من ذلك أن لا يعتمدوا باسم الآب والروح القدس كما أمر المسيح في (متّى ٢٨: ١٩) واقتصر بولس على طلب اعتمادهم باسم يسوع لأنهم نظراً لكونهم يهوداً كانوا يعترفون دائماً بالآب وروحه فكان إيمانهم ناقصاً من جهة كون يسوع هو المسيح ابن الله. ولما سلموا بذلك واعترفوا بخطاياهم وقصدوا أن يتركوها وأن يتخذوا المسيح فادياً ومبرراً ورباً ودياناً في اليوم الأخير كانوا أهلاً لقبول المعمودية المسيحية دلالة على اتحادهم بالمسيح وكنيسته وهذا على وفق ما ذُكر في (ص ١٩: ٥).
    وذكر بطرس المعمودية كأمر معلوم لأن يوحنا المعمدان مارسها منذ سنين وكذلك يسوع وتلاميذه.
    لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا كلها لا خطيئة صلب المسيح فقط. ونوال هذا الغفران غاية التوبة والمعمودية فالتوبة شرط ضروري للمغفرة والمعمودية واجبة لأن المسيح أمر بها فلا قوة لها في نفسها على إزالة الخطيئة.
    فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ إضافة العطية إلى الروح بيانيّة والمعنى فتأخذوا عطية هي الروح القدس. والذي ينالونه هو الذي يلزمه لتجديد قلوبهم وتقديسها والتعزية وراحة الضمير فلا يقتضي ذلك أن ينالوا موهبة المعجزات كالتكلم بألسنة غريبة وما شاكل ذلك لأن تلك كانت تُعطى أحياناً لا دائماً. فالوعد بذلك الروح لا ينفي أنهم قبلوا بعض تأثيراته قبلاً لأن إتيانهم إلى ذلك المكان وإصغاءهم إلى الوعظ ونخس قلوبهم وسؤالهم عن الخلاص من تأثيراته فتكون تلك العطية مكملة لفعل الله في قلوبهم لكي يأتوا بأثمار الروح التي هي «مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غلاطية ٥: ٢٢ و٢٣).
    ٣٩ «لأَنَّ ٱلْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ ٱلَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ، كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا».
    يوئيل ٢: ٢٨ وص ٣: ٢٥ ص ١٠: ٤٥ و١١: ١٥ و١٨: و١٤: ٢٧ و١٥: ٣ و٨ و١٤ وأفسس ٢: ١٣ و١٧
    لأَنَّ ٱلْمَوْعِدَ بالروح القدس.
    هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ أي لكم أنتم اليهود جميعاً بناء على كونكم شعب الله المختار وإن كنتم قد صلبتم المسيح. وهذا كقول يوئيل الذي سبق الكلام عليه (يوئيل ٢: ٢٨) وهو أيضاً مثل ما في (إشعياء ٤٤: ٣ و٥٩: ٢١).
    لِكُلِّ ٱلَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ أي الأمم الذين سُموا أيضاً «أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ» (أفسس ٢: ١٢). وما قيل هنا موافق للنبوءات في (إشعياء ٢: ٢ و٤٠: ٥ و٥٤: ٤ وميخا ٤: ١ و٢ وعاموس ٩: ١٢) وما في العهد الجديد (ص ١٠: ٤٥ و١١: ١٥ - ١٨ و١٤: ٢٧). ولم يكن بطرس وسائر الرسل يعرفون أن الأمم يستطيعون أن يكونوا مسيحيين ما لم يقبلوا أولاً الرسوم اليهودية وعسر عليهم أن يسلموا باستغناء الأمم عن الختان وحفظ سنن موسى لكي يُقبَلوا في الكنيسة المسيحية.
    كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ ٱلرَّبُّ دعوة الله للإنسان أصل حصوله على الإيمان والخلاص لا الاتفاق ولا إرادته البشرية. وتلك الدعوة نعمة منه تعالى وهي ظاهرة للحواس وباطنة للقلب وتُعرض على الإنسان بواسطة الإنجيل والمبشرين الذين ينادون به وبواسطة الروح القدس. ولا بد أن يتم قصد الله في كل نفس اختارها ودعاها.
    ٤٠ «وَبِأَقْوَالٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَانَ يَشْهَدُ لَهُمْ وَيَعِظُهُمْ قَائِلاً: ٱخْلُصُوا مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلْمُلْتَوِي».
    وَبِأَقْوَالٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ يتضح من هذا أن ما ذُكر هنا ليس سوى جزء مما وعظ به الرسل ذلك اليوم وأنه هو الأهم.
    كَانَ يَشْهَدُ لَهُمْ بصحة الحوادث التي ذكرها والمواعيد التي أوردها والخطر من إهمال الإنذار والترحيب بالذين يتوبون ويؤمنون.
    وَيَعِظُهُمْ أي يحثهم على قبول دعوة الله للخلاص.
    ٱخْلُصُوا الخ هذا غاية وعظه. فهم مطالبون بأن يستعملوا الوسائط التي أعدها الله للنجاة باستفراغ المجهود وباعتزالهم الأشرار كما يأتي.
    مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلْمُلْتَوِي أي من مشاكله يهود هذا العصر. وهذا إنذار بالخطر من الاقتداء بغير المؤمنين في الآراء والإعمال لأن الذي يشاركهم في الرأي والعمل يشاركهم في النقمة والعقاب. وكان يهود ذلك العصر موصوفين بكثرة ارتكاب الآثام (متّى ١١: ١٦ - ١٩ و١٢: ٣٩ - ٤٢ و١٦: ٤ ومرقس ٨: ٣٨) وأعلنوا شرهم برفضهم المسيح وصلبهم إيّاه وصعب على الموعوظين أن يخلصوا من ذلك الجيل لأن رؤساء الفريسيين كانوا كثيرين الهيبة والسلطة على الشعب. ووصف ذلك الجيل بالالتواء لأنه أبى الرشد إلى طريق الحق والاستقامة. ولنا مما مر ثلاث فوائد:

    • الأولى: أنه من أراد أن يخلص فعليه أن يجتهد في خلاص نفسه.
    • الثاني: أن الإنسان في خطر شديد من غرور العالم والاقتداء بالرفاق الأشرار لئلا يقودوه إلى الهلاك إما بالهزء أو التملق أو التهديد ولعل الخطر من ذلك لم يكن يومئذ أعظم من الخطر منه اليوم.
    • الثالثة: أنه على من يرغب في الخلاص أن يحترز من مشاكلة العالم ويرضى أن يكون مبغضاً ومهاناً ومضطهداً بغية المجد الأبدي والسعادة السرمدية.


    ٤١ «فَقَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ، وَٱعْتَمَدُوا، وَٱنْضَمَّ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ».
    كَلاَمَهُ في مغفرة الخطايا بيسوع المسيح.
    بِفَرَحٍ قبلوا كلامه بفرح لأنهم وجدوا به طريق النجاة من الخطر الذي أحزنهم وراحة الضمير من أثقاله.
    وَٱعْتَمَدُوا طوعاً لأمر المخلص (متّى ٢٨: ١٩) وبياناً لتوبتهم وإيمانهم بالمسيح وختماً لتعهدهم ودخولهم في الكنيسة المنظورة.
    وَٱنْضَمَّ إلى جماعة المؤمنين بالمسيح بالمعمودية كما تدل القرينة.
    فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي يوم الخمسين. وكان ابتداء الوعظ في الساعة الثالثة من صباحه. ولم يذكر هنا شيئاً من كيفيّة المعمودية أبالرش كانت أم بالتغطيس والأرجح أنها كانت بالرش لأن الوقت يضيق بتغطيس ثلاثة آلاف والأحوال لا توافق ذلك. وأدخل الرسل أولئك الناس حالاً في الكنيسة إذ لم يكن ما يحملهم على الرياء أو ما يلقي الشك في إخلاصهم.
    ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ كان انضمام هؤلاء إلى الكنيسة باكورة الزرع الذي زرعه المسيح على ما في قوله «إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير» ونتيجة انسكاب الروح القدس في يوم واحد مع التبشير بالإنجيل وهو عربون ما يتوقع في العصور الآتية على وفق مواعيد الكتاب. وهذا تاريخ مختصر لنشوء الكنيسة المسيحيّة.
    ٤٢ «وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ ٱلرُّسُلِ، وَٱلشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ ٱلْخُبْزِ، وَٱلصَّلوَاتِ».
    ع ٤٤ ص ٢٠: ٧ و١١ و١كورنثوس ١٠: ١٦ ص ١: ١٤ وع ٤٦ ورومية ١٢: ١٢ وأفسس ٦: ١٨ وكولوسي ٤: ٢ وعبرانيين ١٠: ٢٥
    وَكَانُوا يُواظِبُونَ هذا يدلّنا على أنهم بعد ما آمنوا واعتمدوا وأُهينوا واضطُهدوا بقوا ثابتين على الإيمان (مع علمنا من سرعة انضمامهم إلى الكنيسة) وثبوتهم أصح برهان على صحة إيمانهم وتجددّهم.
    عَلَى تَعْلِيمِ ٱلرُّسُلِ لم تغنهم موهبة الروح القدس عن استعمال وسائط النعمة فكانوا يصغون إلى مواعظ الرسل.
    وَٱلشَّرِكَةِ أي مشاركة الرسل وسائر التلاميذ في آمالهم وأهوالهم وأفراحهم وأحزانهم واحتمال الإهانات والأخطار والخسائر المالية وغير ذلك من الخارجيّات ومشاركتهم أيضاً في مواضيع الصلاة والتسبيح والمحادثة. وبُنيت هذه المشاركة على اتحادهم برأس واحد هو المسيح.
    وَكَسْرِ ٱلْخُبْزِ الأرجح أن معنى ذلك أنهم كانوا يأكلون الطعام العادي جماعات كعائلة واحدة ويختموا تناول الطعام بتناول العشاء الرباني كما أن المسيح أكل مع الرسل الفصح أولاً ثم ختم ذلك بتناول العشاء الرباني. وكانت المدد بين مرات تناول ذلك العشاء قصيرة وكان تكراره كذلك وسيلة إلى تمثيل موت المسيح أمامهم ذبيحة عن خطاياهم (ص ٢٠: ٧ و١١ و١كورنثوس ١٠: ١٦). ولا يلزم مما ذُكر أنهم لم يشربوا يومئذ الكأس وأنه لا يجوز تقديمها للعامة لأن كسر الخبز عبارة اصطلاحية يراد بها تناول الشكلين.
    وَٱلصَّلَوَاتِ الرغبة في الصلاة نتيجة انسكاب الروح القدس بدليل قوله تعالى بلسان نبيّه «وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ ٱلنِّعْمَةِ وَٱلتَّضَرُّعَاتِ» (زكريا ١٢: ١٠) والاتحاد في الحس الباطن يحمل على الاتحاد في التضرع لله. وأتوا ذلك أيضاً امتثالاً لأمر الرب في بشارة متّى (متّى ١٨: ١٩). ومثل هذا الاتحاد في الصلاة لا ينفك أبداً علامة حياة الكنيسة ونموها ورغبتها وهي آية حضور الروح القدس فيها. وإهمال الصلاة الجمهورية علامة الفتور في الدين وانفصال الروح القدس عن البيعة. والأمور الأربعة المذكورة في هذه الآية هي الأعمال الأولى في بدء كنيسة المسيح الأولى بعد الاعتراف بالإيمان بواسطة المعمودية كما مرّ في (ع ٤١).
    ٤٣ «وَصَارَ خَوْفٌ فِي كُلِّ نَفْسٍ. وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي ٱلرُّسُلِ».
    مرقس ١٦: ١٧ وص ٤: ٢٣ و٥: ١٢
    خَوْفٌ من الله الناتج عن الشعور بحضوره بينهم. وهذا الخوف منع الأعداء من أن يضطهدوا الكنيسة يومئذ وكان ذلك ضرورياً لها في طفوليتها.
    فِي كُلِّ نَفْسٍ كان ذلك الخوف عامّاً للتلاميذ ولأعدائهم وعلته معرفتهم الحوادث المتعلقة بموت المسيح وقيامته والمعجزات التي صنعها الرسل باسمه وعجائب يوم الخمسين واتباع ألوف لذلك المذهب الحديث فضلاً عن تأثير روح الله في قلوب الجميع.
    عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ الخ انظر شرح (ع ٢٢) وهذا على وفق وعد المسيح للرسل (مرقس ١٦: ١٧). والأصحاح الثالث شرح لهذه الآية إذ فيه ذكر إحدى تلك العجائب بالتفصيل.
    ٤٤ «وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعاً، وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً».
    ص ٤: ٣٢ و٣٤
    ٱلَّذِينَ آمَنُوا بأن يسوع هو المسيح وكان ذلك جوهر الفرق بينهم وبين غيرهم.
    مَعاً في الفكر والحس فضلا عن كونهم جماعة واحدة ممتازة. ومع أنهم كانوا من أماكن مختلفة (ع ٥) اتفقوا في الصلاة والتسبيح وسمع التعليم. وهذا الاتحاد من أعظم وسائط النمو الروحي. وتأثير الإنجيل الحق هو جمع المتفرقين إلى واحد.
    وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً كما كان بين المسيح وهو على الأرض والاثني عشر فإنهم كانوا كأهل بيت واحد. ولم يحسب أحد منهم ما له لنفعه الخاص بل حسبه كأمانة ينفقها عند الحاجة على إخوته في الكنيسة وأُشير إلى هذه الشركة المالية في (ص ٤: ١٢ و٥: ١ - ١١). ولم نجد من دليل على أن المسيح أو أحداً من الرسل أمر بذلك بل كان هو دليلاً على حب بعضهم لبعض وعلى أنه تبرع وكانت مقتضيات الأحوال يومئذ تُلجئ إليه.
    ٤٥ «وَٱلأَمْلاَكُ وَٱلْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ ٱلْجَمِيعِ، كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ٱحْتِيَاجٌ».
    إشعياء ٥٨: ٧
    وَٱلأَمْلاَكُ وَٱلْمُقْتَنَيَاتُ كالأرضين والبيوت.
    كَانُوا يَبِيعُونَهَا أي كان يبيعها الأغنياء لإفادة إخوتهم الفقراء. ولا بيّنة على أنهم باعوا كل أملاكهم بل كانو يبيعون ما تدعو إليه الحاجة.
    وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ ٱلْجَمِيعِ أي الفقراء والمحتاجين بينهم ولنا في هذا التقسيم خمس ملاحظات:

    • الأولى: أنه لم يكن في غير أورشليم.
    • الثانية: أنه تبرّع (ص ٥: ٤).
    • الثالثة: أن المسيح لم يأمر به ولا الرسل في شيء من رسائلهم.
    • الرابعة: أن الموزّع لم يكن إلا بعض المال (يوحنا ١٩: ٢٧ وأعمال ١٢: ١٢).
    • الخامسة: أنه كان وقتياً نظراً لمقتضيات الأحوال. فإنه كان بينهم كثيرون من مؤمني اليهود الغرباء الذين أتوا إلى أورشليم للاحتفال بالفصح ولم يعزموا على الإقامة هنالك. ولكنهم بعدما آمنوا بالمسيح بغية التعليم الروحي ولم يقبلهم أقاربهم وأصحابهم من اليهود وكان سكان أورشليم الذين آمنوا بالمسيح ممنوعين من وسائل المعاش العادية. فإذاً ليس ذلك بدليل على أن من واجبات المسيحيين في كل مكان وزمان أن تكون الأملاك والمقتنيات مشتركة بينهم. فكانت الكنيسة في أول أمرها ممتازة بالسخاء على فقرائها وذلك من نتائج انسكاب الروح القدس في قلوبهم وبرهان على صحة ديانتهم أعظم من التكلم بالألسنة الغريبة والتنبوء لأن حب المال طبيعي لا يغلبه إلا النعمة. فعلى الكنيسة في كل عصر أن تعتني بفقرائها (متّى ٢٦: ١١).


    كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ٱحْتِيَاج هذا دليل على أنه لم يكن المبيع والتوزيع دفعة واحدة بل كان عند الحاجة على توالي الأوقات وكان الذين يقسمون الثمن هم الرسل (ص ٤: ٣٤ و٣٥).
    ٤٦ «وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي ٱلْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ ٱلْخُبْزَ فِي ٱلْبُيُوتِ، كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ ٱلطَّعَامَ بِٱبْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ».
    لوقا ٢٤: ٥٣ وص ٥: ٤٢ ص ١: ١٤ ع ٤٢
    كَانُوا أي المؤمنين بأن يسوع هو المسيح.
    يُواظِبُونَ في أوقات الصلاة المعيّنة في الساعة الثالثة والساعة التاسعة من النهار.
    فِي ٱلْهَيْكَلِ لأنه محل العبادة لآبائهم ولهم ولأنهم كانوا لا يزالون يمارسون الفروض والسنن اليهودية اقتداء بالمسيح وبناء على أن الديانة المسيحية تكملة للديانة الموسوية وزادوا على ذلك صلوات وترانيم جديدة وبعض الرسوم كالمعمودية والعشاء الرباني وذكر تعاليم المسيح. وكان الرسل يذهبون كذلك إلى الهيكل رغبة في تبشير الجموع هنالك بالمسيح وبياناً أن ديانة المسيح لا تنافي شريعة موسى. وما عرفت الكنيسة استغناءها عن الطقوس اليهودية وأنها أُكملت بالمسيح إلا شيئاً فشيئاً. وعرفوا ذلك من تعليم الروح القدس إيّاهم ومن الاختبار وتعاليم الرسل كما هي في رسائلهم.
    يَكْسِرُونَ ٱلْخُبْزَ انظر شرح (ع ٤٢).
    فِي ٱلْبُيُوتِ لأنه لم يكن في أورشليم بيت واحد يسع كل جماعة المسيح فيه والظاهر أنهم اجتمعوا فرقاَ في بيوت مختلفة لأجل التعليم والصلاة والترنم وكانوا يختمون الاجتماع بالأكل معاً كأهل بيت واحد ثم بتناول العشاء الرباني.
    بِٱبْتِهَاجٍ من الجميع أغنياء وفقراء فالأغنياء فرحوا بالعطاء والفقراء بشكر المحسنين على إحسانهم. فديانة المسيح تهب لأتباعها من الابتهاج ما لا تهبه ديانة غيرها لتابعيها ونالت الكنيسة في أيامها الأولى ذلك مع أنها كانت محتقرة ومبغضة من الناس. وذلك على وفق ما أنبأ به المسيح (متّى ٥: ١٢ ويوحنا ١٦: ٢٢).
    بَسَاطَةِ قَلْبٍ أي إخلاص لخلوّهم من الحسد والكبرياء وحب الذات ولقناعتهم وشكرهم. ولنا مما ذُكر أن الكنيسة المسيحية امتازت في أول أمرها بخمسة أمور:

    • الأول: المواظبة على سمع كلام الله.
    • الثاني: المحبة الأخوية.
    • الثالث: السخاء الحامل على إنكار الذات.
    • الرابع: الصلاة الجمهوريّة.
    • الخامس: تناول الطعام وعشاء الرب معاً.


    ٤٧ «مُسَبِّحِينَ ٱللّٰهَ، وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لَدَى جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ. وَكَانَ ٱلرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ».
    لوقا ٢: ٥٢ وص ٤: ٣٣ ورومية ١٤: ١٨ ص ٥: ١٤ و١١: ٢٤
    مُسَبِّحِينَ لوقا ٢٤: ٥٣.
    وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لوقا ٢: ٥٢ (انظر الشرح).
    لَدَى جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ أي أكثر اليهود ولا بد أن الصدوقيين ورؤساء الكهنة مستثنون من ذلك لأنهم هيّجوا الشعب بعد قليل على المسيحيين كما هيّجوه قبلاً على المسيح وكانت علة تلك النعمة عند الشعب طهارة سيرتهم ووفرة إحسانهم إلى الفقراء. ولا ريب في أن الله وهبها لهم وسيلة إلى نمو الكنيسة في أول نشوئها.
    وَكَانَ ٱلرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ يجب الإقرار بأن نجاح الكنيسة من عمل الله لا من الوسائط البشرية مع لزومها إذ ليس هو مما في طاقة البشر. وهذا كقول الرسول «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ ٱلْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ ٱلسَّاقِي، بَلِ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي يُنْمِي» (١كورنثوس ٣: ٦ و٧ انظر أيضاً أعمال ٥: ١٤ و١١: ٣٤) وهذا تاريخ الكنيسة الأولى أياماً كثيرة.
    ٱلْكَنِيسَةِ أصل معناها الجماعة المدعوة لله الموقوفة له ثم أُطلقت على كل أهل محفل ومن ثم أُطلقت على المحفل نفسه (أعمال ١٩: ٣٩ و٤١) في الأصل اليوناني (١كورنثوس ١١: ١٨). والمراد بها هنا جماعة المؤمنين بالمسيح رجالاً ونساء ممن اعتمدوا اعترافاً بإيمانهم. وكانوا يجتمعون في مكان واحد للعبادة من صلاة وسجود وتسبيح ولسمع تعليم الرسل. والأمر الجوهري الذي جعل الجماعة كنيسة هو الإيمان بالمسيح ولا دليل على أنه كان للكنيسة نظام معيّن فتنظمت على حسب اقتضاء الأحوال.
    ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ نُعتوا بذلك لأن غاية دعوة الله إيّاهم وتوبتهم وإيمانهم وانضمامهم إلى الكنيسة نوال الخلاص وهؤلاء ممن خلصوا من هذا الجيل الملتوي (ع ٤٠) ومن سلطان الخطيئة وعاقبتها.
    وما صدق على الكنيسة في أول أمرها صدق عليها منذ ذلك العهد إلى هذه الساعة وسيصدق عليها إلى النهاية وهو أن يضم إليها كل يوم الذين دعاهم الله وتابوا وآمنوا بالمسيح واعترفوا باسمه على الأرض حتى لا يبقى أحدٌ لم ينل الخلاص. والوسائل الأولى لم تزل هي الوسائل الكافية المؤثرة اليوم وهي الصلاة والتعليم الإنجيلي وفعل الروح القدس.


    الأصحاح الثالث


    إبراء الأعرج ع ١ إلى ١٠


    ١ «وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ ٱلصَّلاَةِ ٱلتَّاسِعَة».
    ص ٢: ٤٦ مزمور ٥٥: ١٧ وص ٢: ١٥ و١٠: ٣
    قيل في (ص ٢: ٤٣) «وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي ٱلرُّسُلِ» واختار كاتب هذه السفر واحدة منها وذكرها بالتفصيل لأنها كانت وسيلة إلى وعظ بطرس اليهود ثانية.
    وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعاً كان بين هذين التلميذين ألفة قوية منذ أول تاريخهما فإن يوحنا مع أندراوس أنبأ بطرس بالمسيح وهما شريكان في الصيد (يوحنا ١: ٤١) ودُعيا إلى الرسولية معاً (لوقا ٥: ١٠) وذهبا معاً لتهيئة الفصح الأخير (لوقا ٢٢: ٨) وأدخل يوحنا بطرس إلى دار رئيس الكهنة (يوحنا ١٨: ١٦) وذهبا معاً إلى القبر (يوحنا ٢٠: ٦) ولما أنبأ يسوع بطرس بمستقبله سأله في الحال عن مستقبل يوحنا وكان معه (يوحنا ٢١: ٢١) وذهبا معاً إلى السامرة للتبشير (ص ٨: ١٤).
    إِلَى ٱلْهَيْكَلِ جاء في خاتمة بشارة لوقا أن الرسل بعد صعود المسيح كانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله وجاء في (ص ٢: ٤٦) أن المؤمنين «كانوا كل يوم يواظبون في الهيكل» وهذا دليل أن المسيحيين في أول أمرهم كانوا يذهبون مع سائر اليهود إلى الهيكل للعبادة ولم يهملوا الطقوس اليهودية إلا على توالي الأيام ولم يتركوها كل الترك إلا بعد أن هُدم الهيكل وبطلت بالضرورة الذبائح اليهودية وما يتعلق بها من الرسوم. ولم يكونوا يحسبون الذبائح التي تقدم فيه ذات فاعلية ترفع الخطيئة بل كانوا يحسبونها إشارة إلى الذبيحة الواحدة الكاملة التي قدمها المسيح على الصليب.
    فِي سَاعَةِ ٱلصَّلاَةِ ٱلتَّاسِعَةِ أي وقت تقديم الذبيحة المسائية كما عيّن موسى فأحب اليهود أن يجعلوا وقتها وقتاً للصلاة أيضاً (عدد ٢٨: ٤ و٨).
    ٢ «وَكَانَ رَجُلٌ أَعْرَجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يُحْمَلُ، كَانُوا يَضَعُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ بَابِ ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْجَمِيلُ لِيَسْأَلَ صَدَقَةً مِنَ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ ٱلْهَيْكَلَ».
    ص ١٤: ٨ يوحنا ٩: ٨
    ِأَعْرَجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّه ذكر ذلك بياناً أن علته ليست بمرض عرضي إنما هي داء خلقي لا تستطيع المعالجة البشرية إبراءه. فشفاء مثل ذلك رحمة أعظم من شفاء مصاب حديث ومعجزة بيّنة يستحيل أن تكون خداعاً وهي تشبه شفاء المسيح للمقعد عند بركة بيت حسدا إذ كان ذلك مصاباً منذ ثمان وثلاثين سنة (يوحنا ٥: ٥) وهذا منذ أربعين سنة منذ ميلاده (ص ٤: ٢٢).
    يُحْمَلُ فإذاً كان عاجزاً عن المشي.
    كَانُوا يَضَعُونَهُ... عِنْدَ بَابِ ٱلْهَيْكَلِ كانت العادة قديماً أن يتسول الفقراء عند باب الهياكل الوثنية كما يتسول أمثالهم عند باب هيكل إسرائيل إذ لم يكن يومئذ مستشفيات للمرضى ولا متصدقات للبائسين فكانوا مفتقرين إلى صدقات الأغنياء ولذلك قصدوا المحل الذي يُشاهدون فيه كثيراً وكانوا يقصدون أيضاً أبواب بيوت الأغنياء (لوقا ١٦: ٢٠) وجوانب الشوارع (مرقس ١٠: ٤٦ ولوقا ١٨: ٣٥ ويوحنا ٩: ١ - ٨).
    ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْجَمِيلُ هيرودس الكبير الذي كان ملك اليهود في وقت ميلاد المسيح أصلح الهيكل وزيّنه حتى صار من أجمل أبنية العالم لأنه كان مبنياً من الرخام الأبيض وعليه كثير من صفائح الذهب (انظر شرح متّى ٢١: ١٢). ولم نتحقق أي الأبواب التسعة التي كانت للهيكل ذلك الباب المرجح أنه الباب الذي بين دار النساء ودار الأمم وهو على جانب الهيكل الشرقي تجاه وادي قدرون وهو أجمل جميع أبواب الهيكل وأكثر من سائرها داخلين ولذلك قصده المتسولون. قال يوسيفوس أن ذلك الباب كان مصنوعاً من النحاس الكورنثوسي مغشى بصفائح الذهب والفضة وعلوه خمسون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعاً وكان يشغل فتحه وإغلاقه خمسة وعشرين رجلاً.
    ٣ «فَهٰذَا لَمَّا رَأَى بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا مُزْمِعَيْنِ أَنْ يَدْخُلاَ ٱلْهَيْكَلَ، سَأَلَ لِيَأْخُذَ صَدَقَة».
    طلب المصاب من الرسولين كما يطلبه من غيرهما فلا دليل أنه عرفهما وتوقع منهما الشفاء.
    ٤ «فَتَفَرَّسَ فِيهِ بُطْرُسُ مَعَ يُوحَنَّا وَقَالَ: ٱنْظُرْ إِلَيْنَا!».
    لا ريب في أن روح الله ألهمهما أن يفعلا ما فعلاه حينئذ تثبيتاً للتعليم الذي بشرا به ولعلهما رأيا شيئاً من إمارات وجهه تدل على أنه أهل لأن يكون موضوع المعجزة فغايتهما من كلامهما له أن يوجّها أفكاره إليهما ويحققا له شفقتهما عليه وإرادتهما أن يسعفاه وينشئا في قلبه أمل إحسانهما إليه ويبيّنا له أن ما سيناله من الشفاء منهما.
    ٥ «فَلاَحَظَهُمَا مُنْتَظِراً أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا شَيْئا».
    هو توقع شيئاً من النقود. ووقوفهما أمامه ومخاطبتهما إياه أنهضا آماله.
    ٦ «فَقَالَ بُطْرُسُ: لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ قُمْ وَٱمْشِ».
    ص ٤: ١٠
    لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ لا ريب في أن هذا أوقعه في اليأس منهما لأنه أي نفع يتوقع السائل من مفلس. لكن بطرس أراد أن يبيّن له أنه أراد أن يهبه مالاً لو استطاع وأنه لم يمنعه من ذلك سوى العُدم. ويظهر من قول بطرس هنا أن الرسل لم يتخذوا عمل المعجزات وسيلة إلى جمع المال لكنهم جروا على سنن قوله تعالى «مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا» وديانة المسيح لا تعطي تابعيها فضة أو ذهباً بل تهب لهم ما هو خير من ذلك وهو المواهب الروحية كشفاء النفس من داء الإثم والعجز الناشئ عنه.
    ٱلَّذِي لِي لم يقصد أن قوة الشفاء ذاتية فيه بل أنه أودعها وأُوتمن عليها بدليل قوله ما معناه أن مصدر البرء يسوع المسيح.
    بِٱسْمِ يَسُوعَ أي بسلطانه (مرقس ١٦: ١٧ و١٨). وعلينا هنا أن نلتفت إلى الفرق بين المسيح والرسل في عمل المعجزات فإنهم أتوها باسم غيرهم وأما يسوع ففعلها بقوة نفسه بدليل قوله للمفلوج: «لك أقول لك قم الخ» (لوقا ٥: ٢٤).
    ٱلنَّاصِرِيِّ نُعت بذلك تمييزاً عمن شاركوه في اسمه كما مر في (ص ٢: ٢٢) وهو ما عُرف واشتهر به وكان عنوان صليبه «يسوع الناصري إلخ» فما قصد الناس به الإهانة جعله الله اسماً مكرماً. ولا ريب في أن هذا الأعرج كان قد سمع أنباء يسوع ولعله شاهده أحياناً يدخل الهيكل وهو جالس هناك يتسوّل.
    قُمْ وَٱمْشِ أبان بطرس أنه لا يريد أن يشفيه ما لم يُرد الشفاء ويعمل ما يستطيعه وكان لا بد له من إيمان قوي ليعزم على القيام ويبذل جهده فيه طوعاً لأمر الرسول. وكذلك من يريد اليوم خلاص نفسه ولا بد له من مثل ذلك الإيمان والعزم والبشر عاجزون عن خلاص أنفسهم ولكن الله لا يخلصهم ما لم «يريدوا ويجتهدوا» (فيلبي ٢: ١٢ و١٣). في هذا العالم كثيرون من المحتاجين واحتياجاتهم مختلفة فإن لم يكن لنا فضة أو ذهب لم ترتفع المسؤولية عنا إذ يلزم أن نعطي مما لنا مثل إظهار مشاركتنا لهم في المصاب ومنحهم النصائح وتعليمهم الروحيات وأقل ما يمكننا هو أن نتكلم معهم ببشاشة أو بكلمة لطيفة ولعل ذلك أنفع لهم من الفضة والذهب.
    ٧ «وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ ٱلْيُمْنَى وَأَقَامَهُ، فَفِي ٱلْحَالِ تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكَعْبَاهُ».
    وَأَمْسَكَهُ بِيَدِه دلّ بذلك بطرس على صدقه وإخلاصه وإيمانه بأن له قوة الشفاء وبيان استعداده لمساعدة المصاب وتقوية رجائه وإيمانه بأنه يقوم. كذلك فعل المسيح في شفاء الولد (مرقس ٩: ٢٧).
    تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ هذا نتيجة إيمانه وطاعته (ع ١٦).
    ٨ «فَوَثَبَ وَوَقَفَ وَصَارَ يَمْشِي، وَدَخَلَ مَعَهُمَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَيَطْفُرُ وَيُسَبِّحُ ٱللّٰهَ».
    إشعياء ٣٥: ٦
    فَوَثَبَ من الفرح بالبرء والرغبة في امتحان قوته الجديدة.
    وَصَارَ يَمْشيِ هذا ما زاد المعجزة غرابة فإنه لم يمشِ خطوة واحدة في حياته ثم قدر أن يمشي كمن اعتاد المشي بالممارسة.
    إِلَى ٱلْهَيْكَلِ أي إلى داره حيث اعتاد الشعب الاجتماع ولا بد من أن الدار كانت حينئذ غاصة بالناس لأنه كان وقت الذبيحة المسائية ودخل مرافقاً للتلميذين وابتغى بالدخول تقديم الشكر لله في بيته على الشفاء.
    وَيُسَبِّحُ ٱللّٰهَ كما يجب على المحسن إليه. وأظهر بذلك يقينه أن الله هو الذي شفاه وأن الرسولين لم يكونوا سوى آلة لشفائه.
    ٩، ١٠ «وَأَبْصَرَهُ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ وَهُوَ يَمْشِي وَيُسَبِّحُ ٱللّٰهَ. وَعَرَفُوهُ أَنَّهُ هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يَجْلِسُ لأَجْلِ ٱلصَّدَقَةِ عَلَى بَابِ ٱلْهَيْكَلِ ٱلْجَمِيلِ، فَٱمْتَلأُوا دَهْشَةً وَحَيْرَةً مِمَّا حَدَثَ لَهُ».
    ص ٤: ١٦ و٢١
    جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ الذي كان في دار الهيكل من أصحاب الرسل وأعدائهم ولا بد من أن الخبر شاع حالاً في المدينة (ص ٤: ١٦).
    وَعَرَفُوهُ اعتادوا أن يشاهدوه يستعطي عند الباب وتحققوا من هو وفي أي حال كان فلم يكن من وسيلة للخداع ولا الانخداع لأن الذي شوهد مقعداً منذ أربعين سنة شاهدوه حينئذ يمشي.
    فَٱمْتَلأُوا دَهْشَةً وَحَيْرَةً الدهشة هنا عجب يذهل الإنسان عن نفسه لغرابة ما يحدث. والحيرة العجب لجهل علة الحادث. وكان الناس يعلمون أن شفاءه بوسائط غير بشرية وبذلك تمت نبوءة إشعياء بما يحدث بعد مجيء المسيح في قوله «حينئذ يقفز الأعرج كالإيل» (إشعياء ٣٥: ٦).

    اجتماع الشعب في رواق سليمان وخطاب بطرس لهم ع ١١ إلى ٢٦


    ١١ «وَبَيْنَمَا كَانَ ٱلرَّجُلُ ٱلأَعْرَجُ ٱلَّذِي شُفِيَ مُتَمَسِّكاً بِبُطْرُسَ وَيُوحَنَّا، تَرَاكَضَ إِلَيْهِمْ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِلَى ٱلرِّوَاقِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ «رِوَاقُ سُلَيْمَانَ» وَهُمْ مُنْدَهِشُونَ» .
    يوحنا ١٠: ٢٣ وص ٥: ١٢
    مُتَمَسِّكاً بِبُطْرُسَ وَيُوحَنَّا أتى ذلك بياناً لممنونيته لهم وشهادة للقوم أنهما هم المحسنان إليه ورغبته في أن لا يفارقهما بعد وفي أن يجعل نصيبه كنصيبهما في الدين المسيحي.
    تَرَاكَضَ إِلَيْهِمْ من سائر أدوّر الهيكل ومن المدينة لما سمعوا نبأ المعجزة بغية أن يشاهدوا الذي شُفي ومن شفاه وكيف كان ذلك.
    رِوَاقُ سُلَيْمَانَ انظر شرح (يوحنا ١٠: ٢٣) وهو في دار الأمم على جانب الهيكل الشرقي وهو أطول من الهيكل بخمس عشرة ذراعاً من كل من الجانبين وكانت دعائم سقفه مئة واثنين وستين عموداً.
    مُنْدَهِشُونَ أي متعجبون جداً وذلك تأثير طبيعي من مشاهدة أمر غريب كهذا.
    ١٢ «فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ ذٰلِكَ قَالَ لِلشَّعْبِ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ تَتَعَجَّبُونَ مِنْ هٰذَا، وَلِمَاذَا تَشْخَصُونَ إِلَيْنَا كَأَنَّنَا بِقُوَّتِنَا أَوْ تَقْوَانَا قَدْ جَعَلْنَا هٰذَا يَمْشِي؟».
    كان بذلك الاجتماع الفرصة التي رغب فيها الرسل للتبشير بيسوع المسيح في دار الهيكل لكثيرين من الشعب مستعدين بتلك المعجزة للإصغاء إلى كلامهم.
    قَالَ لِلشَّعْبِ كان كلام الرسول جواباً لسؤال في قلوبهم دلت عليه إمارات وجوههم وتعجبهم وسؤال بعضهم لبعض في شأن تلك المعجزة.
    مَا بَالُكُمْ تَتَعَجَّبُونَ كما يظهر من أقوالكم ومنظركم. كان عجبهم في محله بالنظر إلى غرابة الأمر الواقع لكنهم لم يصيبوا بنسبتهم الفعل العجيب إلى الرسولين.
    لِمَاذَا تَشْخَصُونَ إِلَيْنَا كأننا نحن فعلنا ذلك بقوتنا فالصواب أن تشخصوا إلى الله وتنسبوا الشفاء له.
    أَوْ تَقْوَانَا أي بقدرة وهبها الله لنا جزاء على مخافتنا إياه وفقاً لما جاء في (يوحنا ٩: ٣١). يميل الإنسان طبعاً إلى الشهرة والمجد ولا سيما الذين من أصل حقير. وبطرس ويوحنا لم يكونا سوى صيادي سمك أصلاً فكانا عرضة لتلك التجربة لكنهما لم يعطياها مكاناً دقيقة واحدة بل حولا المجد عنهما إلى الله وحده.
    ١٣ «إِنَّ إِلٰهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، إِلٰهَ آبَائِنَا، مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ، ٱلَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ، وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ».
    ص ٥: ٣٠ يوحنا ٧: ٣٩ و١٢: ١٦ و١٧: ١ متّى ١٢: ١٨ و٢٧: ٢ و٢٠ ومرقس ١٥: ١١ ولوقا ٢٣: ١٨ و٢٠ و٢١ ويوحنا ١٨: ٤٠ و١٩: ١٥ وص ١٣: ٢٨ لوقا ٢٣: ٢٠ ويوحنا ١٩: ٤ و١٢
    إِلٰهَ أي لا فضل لنا في شيء إنما كل الفضل لله.
    إِلٰهَ آبَائِنَا هذا بدل من إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب الآباء الأولين. وسمّي الله إله الآباء لأنهم عبدوه وهو أظهر لهم نفسه محباً لهم ومحامياً عنهم (تكوين ٢٦: ٢٤ و٢٨: ١٣ وخروج ٣: ٦ و١٥). وسماه كذلك بياناً أنه يظهر لأولئك الأولاد الرحمة والمحبة اللتين أعلنهما قديماً لآبائهم. وأن الرسولين لم يناديا ببدعة أو ديانة تنافي دين الآباء. ونسبا تلك المعجزة ليسوع إيضاحاً أنها تكملة لما وعد به أولئك الآباء (تكوين ١٢: ٣ وغلاطية ٣: ١٦).
    مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ هذا غاية المعجزة وهي إثبات أن يسوع هو المسيح كما أثبت أنه كذلك بإقامته وإصعاده إيّاه. فمعنى «مجد» هنا صدق دعواه وأعلن عظمته لأن تلك المعجزة علامة رضى الله ومسرته بابنه (يوحنا ١٧: ١ وأفسس ١: ٢٠ - ٢٢ وفيلبي ٢: ٩ - ١١ وعبرانيين ٢: ٩). ودعا يسوع «فتاه» وفقاً للنبوءة في (إشعياء ٤٢: ١) واقتبسها متى في الأعمال أربع مرات هنا وفي (ع ٢٦ وص ٤: ٢٧ و٣٠). ولقب «بفتى» الله أو «بعبده» لأنه أجرى مقاصد الله بغية فداء العالم. أهان الناس يسوع برفضهم مقاصد دعواه وقتلهم إياه ظلماً أما الله فمجده عكس ما فعلوا بإقامته إياه ثم بهذه المعجزة التي تثبت صحة قيامته لأنه لو كان باقياً ميتاً ما استطاع تلاميذه أن يفعلوا ما فعلوه باسمه.
    ٱلَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ غاية بطرس من هذا بيان أن صلب يسوع لا يستلزم أنه ليس بالمسيح وأنهم أسلموه إلى الرومانيين ليقتلوه.
    وَأَنْكَرْتُمُوهُ أي أنكرتم أنه المسيح الملك (يوحنا ١٩: ١٥).
    وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ (متّى ٢٧: ١٧ - ٢٥ ولوقا ٢٣: ١٦ - ٢٣ ويوحنا ١٨: ٣٨ و١٩: ٤ و١٢). قابل بطرس أولاً فعلهم بفعل الله فإنه مجده وهم أسلموه وأنكروه وقابله ثانية بفعل بيلاطس فإنه حكم ببراءته وأراد إطلاقه أما هم فصرخوا «ليُصلب».
    ١٤ «وَلٰكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ ٱلْقُدُّوسَ ٱلْبَارَّ، وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ».
    مزمور ١٦: ١٠ ومرقس ١: ٢٤ ولوقا ١: ٣٥ وص ٢: ٢٧ و٤: ٢٧ ص ٧: ٥٢ و٢٢: ١٤
    أَنْكَرْتُمُ دعواه أنه المسيح وقداسته وبراءته مع أن بيلاطس الوثني شهد له (مرقس ١٥: ٧ ولوقا ٢٣: ١٩).
    ٱلْقُدُّوسَ هذا أحد نعوت المسيح.
    ٱلْبَارَّ أي البريء من كل خطيئة. وحكم عليه مجلس السبعين بالموت بدعوى أنه مجدف (متّى ٢٦: ٦٥) بلا دليل ولا شاهد وشكوه إلى بيلاطس مدعين أنه مهيّج فتنة (لوقا ٢٣: ٢) فحكم أنه بريء مما اتهموه. والذي زاد إثمهم أنهم طلبوا قتله بعد أن حكم الحاكم ببراءته فأظهروا بذلك أنهم اعتمدوا أن يقتلوه بحجة أو بلا حجة.
    طَلَبْتُمْ... رَجُلٌ قَاتِلٌ أي باراباس (متّى ٢٧: ٢١). فقابل يسوع البار القدوس بذلك القاتل إظهاراً لفظاعة إثمهم لإيثارهم رجلاً على ابن الله وقاتلاً على بريء.
    ١٥ «وَرَئِيسُ ٱلْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذٰلِكَ».
    عبرانيين ٢: ١٠ و٥: ٩ و١يوحنا ٥: ١١ ص ٢: ٢٤ و٣٢
    رَئِيسُ ٱلْحَيَاةِ أي مصدر الحياة كلها ولا سيما الروحية وسلطان الحياة وواهبها لمن يشاء (يوحنا ١: ٤ و٥: ٢١ و٢٦ و١٤: ٦ و١كورنثوس ١٥: ٤٥ وعبرانيين ٢: ١٠ و١يوحنا ٥: ١١). ودعاه كذلك مقابلة له بباراباس سالب الحياة الذي آثروه وأجبروا بيلاطس على أن يجري مرادهم (مرقس ١٥: ٧ ولوقا ٢٣: ١٩).
    قَتَلْتُمُوهُ لأنكم سبب قتله.
    ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ (ص ٢: ٢٤ و٣٢) هذا أعظم برهان على صحة دعوى يسوع. وكانت شهادة الرسل بقيامته معظم تبشيرهم.
    ١٦ «وَبِٱلإِيمَانِ بِٱسْمِهِ، شَدَّدَ ٱسْمُهُ هٰذَا ٱلَّذِي تَنْظُرُونَهُ وَتَعْرِفُونَهُ، وَٱلإِيمَانُ ٱلَّذِي بِوَاسِطَتِهِ أَعْطَاهُ هٰذِهِ ٱلصِّحَّةَ أَمَامَ جَمِيعِكُم».
    متّى ٩: ٢٢ وص ٤: ١٠ و١٤: ٩ و١بطرس ١: ٢١
    بِٱلإِيمَانِ أي إيمان الرسولين فإنهما فعلا المعجزة بإيمانهما به بمقتضى وعد المسيح في (متّى ١٧: ٢٠) ولا ينفي ذلك أنه كان للأعرج إيمان أيضاً حين قال له بطرس «باسم يسوع الناصري قم وامش» إلا أنه لم يتوقع في أول الأمر سوى شيء من النقود.
    بِٱسْمِهِ اي باسم يسوع وهذا لا يفرق معناه عن معنى قولنا يسوع نفسه فالاسم هنا بمعنى الشخص أو الذات (ص ١: ١٥ و٤: ١٢ وأفسس ١: ٢١ ورؤيا ٣: ٤). فالرسولان لم يأخذا اسم يسوع كرقية أو طلسم ليفعلوا به العجائب إنما كان يسوع نفسه يصنعها بواسطتهما.
    ٱلَّذِي تَنْظُرُونَهُ وَتَعْرِفُونَهُ أي تشاهدونه الآن صحيحاً وتعلمون أنه كان قبل ذلك مقعداً فإذاً لا ريب في حقيقة المعجزة. وأراد بطرس أيضاً أنه لا يكون ريب في علتها أنها هي ذلك المصلوب.
    هٰذِهِ ٱلصِّحَّةَ أَمَامَ جَمِيعِكُمْ أن ما أصابه منذ أربعين سنة قد زال كما يمكنكم أن تحكموا بنظركم إيّاه واقفاً وماشياً أمامكم.
    ١٧ «وَٱلآنَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ، كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً».
    لوقا ٢٣: ٣٤ ويوحنا ١٦: ٣ وص ١٣: ٢٧ و١كورنثوس ٢: ٨ و١تيموثاوس ١: ١٣
    أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أظهر بطرس غاية اللطف بدعوتهم إخوة بعدما أثبت عليهم أفظع الخطايا.
    بِجَهَالَةٍ أي بجهلكم أن يسوع هو المسيح لانتظاركم أنه يكون ملكاً أرضياً غالباً منتصراً وهذا مما يجعل المغفرة لكم ممكنة. وذلك على وفق صلاة المسيح (لوقا ٢٣: ٣٤) ووفق قول بولس في خطيئته وخطيئة الأمم (ص ١٣: ٢٧ و١٧: ٣٠ و١تيموثاوس ٦: ١٣). ولم يذكر ذلك كعدو كافٍ لأنهم كانوا مذنبين لما كان لهم من الوسائط لمعرفة الحق لو أرادوا استعمالها فإنهم أبوا قبول البراهين التي قدمها يسوع فأغمضوا عيونهم وأغلقوا قلوبهم وخطئوا بأنهم أبغضوا محباً باراً وقتلوه. ولولا جهلهم أنه المسيح لما كان لخطيئتهم من مغفرة. فغاية بطرس من هذا الكلام أن يقودهم إلى التوبة بدفع اليأس عنهم وتبشيرهم بالرحمة والغفران.
    كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً هذا كقول بولس «لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْد» (١كورنثوس ٢: ٨) فإن هؤلاء الرؤساء السبب الأول لقتله فإنهم كانوا مملوئين حسداً وبغضاً فهيجوا الشعب عليه وكانوا ضالين ومضلين ومع ذلك كله لم يقطع رجاء خلاصهم بشرط التوبة.
    ١٨ «وَأَمَّا ٱللّٰهُ فَمَا سَبَقَ وَأَنْبَأَ بِهِ بِأَفْوَاهِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ، أَنْ يَتَأَلَّمَ ٱلْمَسِيحُ قَدْ تَمَّمَهُ هٰكَذَا».
    لوقا ٢٤: ٤٤ وص ٢٦: ٢٢ مزمور ٢٢ وإشعياء ٥٠: ٦ و٥٣: ٥ الخ ودانيال ٩: ٢٦ و١بطرس ١: ١٠ و١١
    فَمَا سَبَقَ وَأَنْبَأَ بِهِ في شأن حياة يسوع المسيح.
    بِأَفْوَاهِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ حسب بطرس أقوال جميع الأنبياء شهادة للمسيح لأن «شَهَادَةَ يَسُوعَ هِيَ رُوحُ ٱلنُّبُوَّةِ» (رؤيا ١٩: ١٠ انظر شرح لوقا ٢٤: ٢٧).
    قَدْ تَمَّمَهُ هٰكَذَا بإنكاركم وإنكار رؤسائكم إياه وتسليمه إلى الموت. فإذاً ما فعلتموه على وفق النبوءات برهان قاطع على أن يسوع هو المسيح. وبذلك دفع بطرس الاعتراض الذي من شأنه أن يخطر على بال كل يهودي وهو أنه لا يمكن أن يكون يسوع هو المسيح لأنه رُفض وصُلب لو لم يجر ذلك عليه لم يكن هو الذي شهد له وانبأ به جميع الأنبياء.
    ١٩ «فَتُوبُوا وَٱرْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ، لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ ٱلْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ».
    ص ٢: ٣٨
    فَتُوبُوا لأن خطيئتكم توجب التوبة عليكم وجهلكم لا يغلق دونكم أبواب المغفرة.
    ٱرْجِعُوا عن عدم إيمانكم بالمسيح ورفضكم إيّاه إلى قبوله بالإيمان ومن الخطيئة إلى القداسة (ص ٩: ٣٥) ومن طريق الهلاك إلى طريق الخلاص. ولم يضف إلى كلامه ما أضافه في (ص ٢: ٣٨). لأن المعمودية أمر مسلم به إذ عُمّد ثلاثة آلاف في تلك الأيام علامة لتوبتهم.
    لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ أي لتغفر ذنوبكم مغفرة تامة. وفي العبارة مجاز مبني على بعض عوائد تلك الأيام وهو أن المديون كان يكتب على لوح مغشى بالشمع بقلم من الحديد فكان الدائن متى استوفى ما له من الدين محا الكتابة بالطرف الآخر من ذلك القلم فلم يبق للكتابة من أثر. كذلك الله لا يذكر خطايا التائبين إليه فكأنه محاها بمغفرته (مزمور ٥١: ١ و٩ وإشعياء ٤٣: ٢٥ وإرميا ١٨: ٢٣ وكولوسي ٢: ١٤).
    لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ ٱلْفَرَجِ أي لكي تشتركوا في فوائد ملكوت المسيح فتنالوا راحة الضمير والشعور بالمصالحة لله وفرح الروح القدس ويقين الرجاء والتعزية الإلهية في الضيق.
    كان اليهود جميعاً يتوقعون الفرج في أيام المسيح بنوال النجاة من عبودية الرومانيين والنجاح الزمني والراحة والمجد الدنيوي بناء على ما في النبوءات وحسبوا أن ذلك الفرج للأمة اليهودية بأسرها فحقق بطرس لهم أن الفرج قد أتت أوقاته وأنه فرج روحي وأن نواله بالتوبة والإيمان ولهذا لم يستفيدوا سوى القليل منهم فإذا آمنوا أتت أوقاته لهم كما أتت لغيرهم من المؤمنين.
    مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ أي من الله الذي هو مصدر هذا الفرج. ذهب بعضهم إلى أن أوقات الفرج المذكورة في هذه الآية يراد بها أوقات الراحة السماوية التي التوبة والحصول على الغفران استعداد لها (عبرانيين ٤: ٩ - ١١).
    تأتي أوقات الفرج الآن إلى كل مدينة وقرية وبيت وقلب متى وُجدت التوبة وقبول المسيح بالإيمان.
    ٢٠ «وَيُرْسِلَ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ».
    وَيُرْسِلَ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ لم يتضح هنا ما قصده بطرس أمجيء المسيح الأول هو أم مجيئه الثاني. فإن كان الأول فذكر بطرس إياه هنا لأنه بداءة الفرج الذي أطلقه على كل عمل الفداء من أوله إلى آخره. فإذاً يكون أوله بإرسال يسوع المسيح ليُعلن الله للناس ويعلمهم الأمور السماوية ويفديهم وتبقى أوقات الفرج إلى أن يأتي المسيح ثانية في نهاية العالم للدينونة. فبطرس دعا اليهود إلى التوبة لكي يشتركوا في كل فوائد ذلك الفرج. والأرجح أن الإرسال هنا هو المجيء الأول لأنه لم يقل ويرسل ثانية وقد ذُكر في ع ٢٦ أنه أتى إليهم. وإذا كان المراد المجيء الثاني كان المعنى توبوا لأن الله يريد أن تتوقعوا دائماً مجيء المسيح للدينونة وتستعدوا له كأنه على الباب.
    ٱلْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ بأنبياء العهد القديم ويوحنا المعمدان فإنم بشروا بمجيئه وصفاته وأعماله وموته وقيامته.
    ٢١ «ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ ٱلسَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا ٱللّٰهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ».
    ص ١: ١١ متّى ١٧: ١١ لوقا ١: ٧٠
    قصد بطرس هنا أن يدفع اعتراضاً خطر على بال اليهود وهو أن يسوع ليس هو المسيح لأن المسيح على اعتقادهم لا بد من أنه يبقى بالجسد على الأرض دائماً ملكاً منتصراً ولذلك قالوا «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا ١٢: ٣٤).
    ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ ٱلسَّمَاءَ تَقْبَلُهُ أي تكون مسكناً له وانبغاء ذلك من مقتضيات القضاء الإلهي ومن انه أجدر به أن يصعد إلى السماء من أن يبقى على الأرض. وقد سبق المسيح إلى ذكر واحد من أسباب اتخاذه السماء مسكناً وهو إرساله الروح القدس (يوحنا ١٦: ٧) ومنها إجراء عمل الفداء وسياسة الكنيسة وشفاعته بشعبه باعتبار أنه رئيس الأحبار (رومية ٨: ٣٤ و١كورنثوس ١٩: ٢٥ وعبرانيين ٢: ٢٥ و٩: ٢٤ و١٠: ١٣ و١يوحنا ١: ١ و٢).
    ٍأَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْء أشار بهذا إلى أوقات انتصار الإنجيل التام بواسطة فعل الروح القدس وتبشير خدم المسيح حين تصير ممالك الأرض ملك الرب يسوع المسيح (رؤيا ١١: ١٥). وتجثو له كل ركبة ويعترف به كل لسان (١كورنثوس ١٥: ٢٥). وذلك كمال كل مقاصد الله في فداء العالم فيرجع العالم حيئنذ إلى حال الطهارة والطاعة والسعادة التي كان عليها قبل دخول الخطيئة.
    والفرق بين «أوقات الفرج» و «أزمنة رد كل شيء» أنّ الأولى أوقات الإنجيل المتعلقة بمجيء الروح القدس وأن الثانية أوقات الدينونة والثواب والعقاب المتوقعة على مجيء المسيح ثانية. والتوبة هي استعداد للبركات الجزئية الأولى وللبركات الكلية الأخرى. وكان كلاهما مقترنين في أفكار التلاميذ الأولين. وكانوا قد شاهدوا الأولى وتوقعوا الأخرى بشوق شديد ورجاء وطيد (٢بطرس ٣: ١٢).
    ٱلَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا ٱللّٰهُ هذا قيد لذلك الرد فلا يلزم منه خلاص كل البشر بل كل ما وعد الله به من أول النبوءات إلى آخرها لأن الأنبياء أنبأوا بالرد المذكور. ذهب بعضهم إلى أن معنى هذه العبارة أن يسوع يبقى في السماء فلا تأتي أزمنة رد كل شيء إلا بعد إيمان اليهود فكأن بطرس قال توبوا وآمنوا لكي يأتي المسيح ثانية ويستعلن المجد الموعود به عند مجيئه. ولكن لا سند لهذا التفسير.
    أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ (لوقا ١: ٧٠) هذا يشتمل على الوعد لآدم (تكوين ٣: ١٥) وإبراهيم (تكوين ٢٢: ١٨) وغيرهما من الأنبياء.
    ٢٢ «فَإِنَّ مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيّاً مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ».
    تثنية ١٨: ١٥ و١٨ و١٩ وص ٧: ٣٧
    هنا دعوة إلى التوبة وإلى قبول المسيح بناء على أقوال موسى وسائر الأنبياء فإن اليهود ادعوا أن قبول يسوع مسيحاً رفض لموسى بدليل قول البشير «فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلاَمِيذُ مُوسَى. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ، وَأَمَّا هٰذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (يوحنا ٩: ٢٨ و٢٩). فأبان بطرس أن موسى أنبأ بيسوع فرفضهم إيّاه رفض لموسى.
    فَإِنَّ مُوسَى قَالَ كان قول موسى من أعظم ما يعتمده اليهود من الأقوال وذكره بطرس في هذه العبارة باعتبار أنه مشترع ونبي فإنه أنبأ بمجيء المسيح وأمرهم بالطاعة له. فإذاً لا يستلزم الثقة بأنبائه والطاعة لأمره.
    لِلآبَاءِ أي سلفائهم القدماء من بني إسرائيل.
    نَبِيّاً هذا مقتبس من (تثنية ١٨: ١٥ - ١٩) ومعنى «النبي» هنا من يعلن إرادة للناس وينوب عنه تعالى ويرسل بسلطانه. ويسوع المسيح باعتبار كونه كلمة الله أولى بأن يُدعى نبياً.
    مِثْلِي لم يقصد موسى بهذا أن يكون المسيح مثله في كل شيء ولكن وجه المماثلة أنه مقام من الله كما كان موسى إلى أن أتى هو (عدد ١٢: ٦ - ٨) وأنه أعطى الإنجيل شريعة الرحمة كما أعطى موسى التوراة شريعة العدل وأنه أطلق إسرائيل الروحي من عبودية الشيطان والخطيئة كما أطلق موسى إسرائيل من عبودية مصر وأنه شفع في شعبه عند الله كما شفع موسى في شعبه على الأرض مراراً. وكون المسيح أعظم من موسى لا يمنع المشابهة بينهما. وبُيّنت أفضلية المسيح على موسى في (عبرانيين ٣: ٢ - ٦).
    سَيُقِيمُ لَكُمُ ٱلرَّبُّ إذاً المسيح لم يدع النبوءة من تلقاء نفسه ولم يقمه الناس نبياً بل الرب.
    مِنْ إِخْوَتِكُمْ أي الأمة اليهودية وهذا وفق النبوءات بأنه من نسل إبراهيم ونسل داود (انظر شرح متّى ١: ١).
    لَهُ تَسْمَعُونَ أي يجب عليكم أن تطيعوه باعتبار أنه رسول الله بإعلان سماوي.
    فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ واعتقد معنى ما جاء في التثنية لا لفظه (تثنية ١٨: ١٨). واعتقد اليهود أن هذه النبوءة تشير بنوع خاص إلى المسيح كما يتضح من سؤال لجنة مجلسهم الأكبر ليوحنا المعمدان (يوحنا ١: ٢١ و٢٥).
    ٢٣ «وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لاَ تَسْمَعُ لِذٰلِكَ ٱلنَّبِيِّ تُبَادُ مِنَ ٱلشَّعْبِ».
    اكتفى بطرس بمعنى قول موسى دون لفظه إذ غايته بيان فظاعة المعصية وشدّة عقابها.
    لاَ تَسْمَعُ لِذٰلِكَ ٱلنَّبِيِّ أي لا تطيع أوامره بناء على أنها أوامر الله فرفض كلامه ليس سوى رفض كلام الله الذي أرسله (لوقا ١٠: ١٦ ويوحنا ١٣: ٢٠).
    تُبَادُ مِنَ ٱلشَّعْبِ في الأصل «أُطَالِبُهُ» (تثنية ١٨: ١٩) أي أعاقبه وكان أغلب العقاب عند الإسرائيليين إبادة المذنب من الشعب (خروج ١٢: ١٥ و١٩: ٣١ و٣٠: ٣٣ وعدد ١٥: ٣١ و١٩: ١٣ ولاويين ٧: ٢٠ و٢١ و٢٥ و٢٧). والإبادة أو القطع من شعب الله على الأرض رمز إلى القطع من النصيب السماوي ومقدمة له ما لم يُدفع بالتوبة. فأكد بطرس بما ذُكر لليهود أنهم عرضوا أنفسهم لأشد العقاب برفضهم مسيحهم وبقتلهم إيّاه بغية أن يتوبوا ويجدوا الرحمة. فما قاله بطرس على اليهود يصدق على كل الذين يعرضون عن المسيح ويعصون أوامره،
    ٢٤ «وَجَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أَيْضاً مِنْ صَمُوئِيلَ فَمَا بَعْدَهُ، جَمِيعُ ٱلَّذِينَ تَكَلَّمُوا، سَبَقُوا وَأَنْبَأُوا بِهٰذِهِ ٱلأَيَّامِ».
    وَجَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أي كل الذين أنبأوا بما في المستقبل أنبأوا بالمسيح.
    مِنْ صَمُوئِيلَ ذكر صموئيل لأنه أول الأنبياء الذين قاموا بعد موسى وهو منشئ مدرسة بني الأنبياء فإنه لم يقم نبي بين موسى وصموئيل لكن الله أعلن إرادته «بالأوريم والتميم» (خروج ٢٨: ٣٠ وعدد ٢٧: ٢١) ونبوءته عن المسيح في (٢صموئيل ٧: ١٣ - ١٦).قابل ذلك بما في (عبرانيين ١: ٥).
    أَنْبَأُوا بِهٰذِهِ ٱلأَيَّامِ أي بحوادثها التي تتعلق بيسوع الناصري فإذاً كان على اليهود أن يسمعوا أقوال أولئك الأنبياء ويقبلوا المسيح بتوبتهم عما مضى.
    ٢٥ «أَنْتُمْ أَبْنَاءُ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي عَاهَدَ بِهِ ٱللّٰهُ آبَاءَنَا قَائِلاً لإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ».
    ص ٢: ٣٩ ورومية ٩: ٤ و٨ و١٥: ٨ وغلاطية ٣: ٢٦ تكوين ١٢: ٣ و١٨: ١٨ و٢٢: ١٨ و٢٦: ٤ و٢٨: ١٤ وغلاطية ٣: ٨
    أَبْنَاءُ ٱلأَنْبِيَاءِ أي تلاميذهم وأتباعهم وهذا كما في (متّى ١٢: ٢٧). فبناء على كونهم أبناء الأنبياء وجب عليهم أن يسمعوا لهم ويغنموا مواعيد الرحمة المرسلة إليهم على أيديهم وجوهر ذلك أن يقبلوا المسيح.
    وَٱلْعَهْدِ أي وأبناء العهد أي ذلك العهد الموجه إليهم بتوجيهه إلى إبراهيم إبيهم.
    عَاهَدَ بِهِ ٱللّٰهُ آبَاءَنَا اعتبر الله إبراهيم نائب سائر الأنبياء فلما عاهده عاهد جميع الأنبياء.
    قَائِلاً لإِبْراهِيمَ (تكوين ١٢: ٣ و٢٢: ١٨).
    وَبِنَسْلِكَ أي المسيح كما صرّح بولس في (غلاطية ٣: ١٦).
    تَتَبَارَكُ أي أن يسوع يكون واسطة لمنح كل البركات الأرضية والسماوية.
    جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ أي كل الناس اليهود والأمم.
    ٢٦ «إِلَيْكُمْ أَوَّلاً، إِذْ أَقَامَ ٱللّٰهُ فَتَاهُ يَسُوعَ، أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ».
    متّى ١٠: ٥ و١٥: ٢٤ ولوقا ٢٤: ٤٧ وص ١٣: ٣٢ و٣٣ و٤٦ ع ٢٢ متّى ١: ٢١
    إِلَيْكُمْ أَوَّلاً أنتم اليهود. ابتدأ هذا العهد يتم فيهم قبل سائر الشعوب. وكذلك أوصى المسيح تلاميذه بتبشيرهم أولاً (لوقا ٢٤: ٤٧ انظر أيضاً أعمال ١٣: ٤٦ ورومية ١: ١٦ و٢: ٩ و١٠ و١١: ١١).
    إِذْ أَقَامَ ٱللّٰهُ إنجازاً للعهد. ومعنى «أقام» هنا كمعنى أقام في (ع ٢٢) أي أرسل لا أحيا بعد الموت.
    فَتَاهُ يَسُوعَ أنظر شرح ع ١٣.
    يُبَارِكُكُمْ وفاء بكل ما وعد به إبراهيم.
    بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ هذا شرط كل العهود والمواعيد للآباء أو للأنبياء فلا منفعة منها إلا بالتوبة كما أنه لا شفاء للمسموم إلا بامتناعه عن شرب السم (إشعياء ص ٥٩ ومتّى ص ٢١)، فالامتناع عن الإثم ليس مجرد شرط البركة بل هو الجزء الأكبر منها لأن معظم تلك البركات ليس التحرر من رق الرومانيين بل من عبودية الخطيئة. ويقوم ردهم من الشرور إلى القداسة بإيمانهم بالمسيح. والنتيجة هنا كما في ع ١٩. وقد تمت النبوءة بمجيء المسيح فلم يبق عليهم إلا أن ينتفعوا به بالتوبة.
    وهذه الموعظة تشبه موعظة يوم الخمسين في ثلاثة أمور مهمة:

    • الأول: تقديم البراهين من الأسفار المقدسة أن يسوع هو المسيح.
    • الثاني: إثبات الخطيئة على اليهود برفضهم مسيحهم وصلبهم إيّاه.
    • الثالث: المناداة بالرحمة بواسطته والدعوة إلى التوبة والإيمان به.




    الأصحاح الرابع


    بطرس ويوحنا أمام المجلس ع ١ إلى ٢٢


    ١ «وَبَيْنَمَا هُمَا يُخَاطِبَانِ ٱلشَّعْبَ، أَقْبَلَ عَلَيْهِمَا ٱلْكَهَنَةُ وَقَائِدُ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ وَٱلصَّدُّوقِيُّونَ».
    عدد ٤: ٢٣ ولوقا ٢٢: ٤ و٥٢ وص ٥: ٢٤
    يُخَاطِبَانِ ٱلشَّعْبَ كانا يخاطبان في دار الأمم حيث اجتمع كثيرون من الشعب (ص ٣: ١١).
    ٱلْكَهَنَةُ كان للكهنة سلطان في التعاليم الدينية فكان لهم أن يسمحوا بالتعليم جهراً أو يمنعوه وكانوا أربعاً وعشرين فرقة (١ أيام ٢٤: ١ - ١٩) وكانت كل فرقة تخدم أسبوعاً ويتعين ما لكل منها بالقرعة (لوقا ١: ٩).
    وَقَائِدُ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ كان معظم حرس الهيكل من اللاويين وكان عليهم أن يمنعوا الشغب والهيجان وكان قائدهم لاوياً لا من الرومانيين لأن قائد الجند الروماني لم يحضر الهيكل إلا وقت الفتنة الشديدة (ص ٢١: ٣١).
    ٱلصَّدُّوقِيُّونَ أحد أحزاب اليهود الثلاثة المشهورة انظر شرح (متّى ٣: ٧) وكانوا مغتاظين من تعليم الرسل أكثر من سواهم لأن ذلك التعليم كان منافياً كل المنافاة لمبدإ الصدوقيين الخاص وهو أنه لا قيامة فإذا ثبت أن يسوع قام فلا مانع من أن يقوم غيره أيضاً. أما الفريسيون فكانوا أكثر الناس مضادة ليسوع في حياته على الأرض لأنه كان ينفي تقليداتهم التي هي أعظم مبادئهم في مقاومة الرسل. والظاهر أن بعض الشعب الذين شاهدوا المعجزة وسمعوا وعظ الرسولين تحمس وذهب وأنبأ رؤساء الشعب المذكورين بما كان فأتى أولئك الرؤساء لمجرد المقاومة لا لتحقق صحة ما حدث.
    ٢ «مُتَضَجِّرِينَ مِنْ تَعْلِيمِهِمَا ٱلشَّعْبَ، وَنِدَائِهِمَا فِي يَسُوعَ بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَات».
    متّى ٢٢: ٢٣ وص ٢٣: ٨
    مُتَضَجِّرِينَ أبغضوا يسوع ودينه وهو حي على الأرض لأنه أبطل بعض تعاليمهم ووبخهم على أعمالهم وحط سلطانهم عن الشعب فتآمروا عليه ليقتلوه وأنقذوا مقاصدهم ثم اجتهدوا أن يخفوا نبأ قيامته برشوة حراس القبر الرومانيين (متّى ٢٨: ١٣). وكانوا يظنون أنهم لاشوا تعليم الناصري بقتلهم إيّاه لكنهم رأوا في تعليم الرسل ما نفى ذلك الظن وأبان لهم خيبتهم في المقاصد والاجتهاد.
    مِنْ تَعْلِيمِهِمَا ٱلشَّعْبَ لم يكن همهم للخوف من أن الرسولين يضران الشعب بتعليمهما لأنهما أظهرا بشفاء واحد منهم أن غايتهما النفع لا الضرر إنما كان للخوف من انحطاط سلطانهم هم لأن الكهنة ادّعوا أنهم هم دون غيرهم معلمو الشعب. وغاظهم أن ذينك الجليليين علما بدون استئذانهم. ولم يبحثوا عن صحة المعجزة أو عدمها لكي يقفوا على برهان أنهما رسولا الله أو لا فاكتفوا بأنهما لم يسألاهم الإذن في التعليم.
    وَنِدَائِهِمَا فِي يَسُوعَ بِٱلْقِيَامَةِ الخ غاظهم موضوع المناداة علاوة عن التعليم نفسه. وكان اليهود قد اتفقوا من الفريقين الصدوقيين والفريسيين على يسوع ليقتلوه فحزنوا جميعاً لما سمعوه من تجديد دعواه أنه هو المسيح واغتاظ الصدوقيون أكثر من الجميع لأن مناداة الرسولين بقيامة المسيح كانت تنفي عقيدتهم العظمى فكانت فرقتهم في خطر التلاشي بزيادة تلك المناداة. وعرف الرسولان أن تعليمهما هذا يهيّج عليهما غضب الرؤساء لكنهما صرحا به بكل شجاعة. ومن المحال أن هذين اللذين كانا قبل قليل من الجبناء يصيران الآن من أول الشجعان لو لم يكونا قد شاهدا المسيح عياناً بعد قيامته ونالا قوة من العلاء لكي يشهدا بما شاهدا.
    ٣ «فَأَلْقَوْا عَلَيْهِمَا ٱلأَيَادِيَ وَوَضَعُوهُمَا فِي حَبْسٍ إِلَى ٱلْغَدِ، لأَنَّهُ كَانَ قَدْ صَارَ ٱلْمَسَاءُ».
    كانت المعجزة في الساعة التاسعة (ص ٣: ١) فلم يبق للرؤساء وقت قبل الغروب لالتئام المجلس الكبير بعدما شغل الرسولان سائر النهار بالوعظ.
    ٤ «وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا ٱلْكَلِمَةَ آمَنُوا، وَصَارَ عَدَدُ ٱلرِّجَالِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفٍ».
    لوقا ١١: ٣١ وص ٢: ٤١ ويعقوب ١: ٢٠
    لم تستطع مقاومة الرؤساء للرسولين وحبسهما أن يمنعا تأثير المعجزة والتعليم في قلوب الشعب لأن الروح جعل لها ذلك التأثير العظيم فإذا سُجن أصحاب الحق فالحق نفسه لا يُسجن.
    ٱلْكَلِمَةَ التعليم في يسوع المسيح.
    وَصَارَ عَدَدُ ٱلرِّجَالِ الخ الأرجح أنه أراد بذلك عدد النفوس كما في (ص ٢: ٤١) وذكر الرجال تغليباًً.
    نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفٍ منهم مئة وعشرين آمنوا قبل يوم الخمسين (ص ١: ١٥) ومنهم ثلاثة آلاف آمنوا يوم الخمسين (ص ٢: ٤١) فهذا النمو السريع برهان حضور الروح القدس وقوته.
    ٥ «وَحَدَثَ فِي ٱلْغَدِ أَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ وَشُيُوخَهُمْ وَكَتَبَتَهُمُ ٱجْتَمَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    رُؤَسَاءَهُمْ وَشُيُوخَهُمْ وَكَتَبَتَهُمُ هم الفرق الثلاث التي تألف منها مجمع السبعين فالرؤساء هم الكهنة والشيوخ هم رؤساء العشائر والكتبة هم علماء الشعب ومعلموه. وهذا المجلس حكم أعضاؤه على المسيح بالموت بدعوى أنه مجدف وأقنعوا بيلاطس أن يقتلوه فظنوا أنهم لاشوا تعليم يسوع بقتلهم إياه ولكنه بعد ثلاثة أيام من موته هالهم أولاً أنباء جندهم بقيامته فغطوا الخبر بالرشوة وهالهم ثانياً على ما لا ريب فيه نبأ ما حدث يوم الخمسين وهالهم ثالثاً خبر تلك المعجزة وما بُني عليها من الوعظ فرأوا من الواجب أن ينهضوا لمنع تأثيرها فدعوا إليها.
    إِلَى أُورُشَلِيمَ حيث المجلس الذي يجتمعون فيه عادة وفي الكلام ما يدل على أن بعض الأعضاء لم يكونوا من سكان أروشليم.
    ٦ «مَعَ حَنَّانَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ وَقَيَافَا وَيُوحَنَّا وَٱلإِسْكَنْدَرِ، وَجَمِيعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا مِنْ عَشِيرَةِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَة».
    لوقا ٣: ٢ ويوحنا ١١: ٤٩ و١٨: ١٣
    حَنَّانَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ انظر شرح (يوحنا ١١: ٤٩). كان حنان هو رئيس الأحبار القانوني منذ السنة السابعة للميلاد إلى الخامسة عشرة ثم نُقلت عنه لكن بقي له الاسم والسلطان فذُكر هنا أولاً نظراً إلى سنه وشرفه وبراعته.
    قَيَافَا انظر شرح (يوحنا ١٨: ١٣) تولى رئاسة الكهنة من سنة ٢٤ ب. م إلى سنة ٣٦ ب. م وكان حنّان وقيافا مجتهدين في محاكمة يسوع فلا عجب من اجتهادهما في تسكيت اثنين من رسله ومنه انتشار تعليمهما في الشعب لأن إثبات دعوى يسوع إثبات لإثمهما في حكمهما عليه.
    يُوحَنَّا وَٱلإِسْكَنْدَرِ لا نعلم من أمرهما شيئاً سوى أنهما من أقرباء حنّان وقيافا على الأرجح وعضوان من أعضاء المجلس الكبير فلزم من ذلك أنهما كانا من أرباب الاعتبار في أورشليم.
    عَشِيرَةِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ مما يدل على أهمية هذه العشيرة ما ذكره يوسيفوس من أن خمسة منها تولى رئاسة الكهنة.
    ٧ «وَلَمَّا أَقَامُوهُمَا فِي ٱلْوَسَطِ، جَعَلُوا يَسْأَلُونَهُمَا: بِأَيَّةِ قُوَّةٍ وَبِأَيِّ ٱسْمٍ صَنَعْتُمَا أَنْتُمَا هٰذَا؟».
    خروج ٢: ١٤ ومتّى ٢١: ٢٣ وص ٧: ٢٧
    فِي ٱلْوَسَطِ أي وسط أعضاء المجلس ولعلهم ظنوا أن سجن الرسولين ليلة يخيفهما ويخضعهما للمجلس.
    بِأَيَّةِ قُوَّةٍ قد سألوا المسيح قبلاً مثل هذه السؤال (متّى ٢١: ٢٣). لم ينكروا على الرسولين حقيقة الشفاء لأن الإنسان الذي شُفي كان حاضراً (ع ٩).
    وَبِأَيِّ ٱسْمٍ أي بسلطان من. لم يسألوهما ذلك بغية الوقوف على الحق إذ لا بد من أنهم سمعوا ممن شاهدوا المعجزة أنهما صنعاها باسم يسوع المسيح (ص ٣: ٦) ورأوا أن كونهما خادعين من الأمور المسلمة عند الجميع ولم يخطر على بالهم أن يبحثوا عن أن ما فعلاه بيّنة على أنهما رسولا الله. والأرجح أنهم قصدوا بسؤالهم تخويف الرسولين لظنهم أنهم لا يتجاسران على الاعتراف بأنهما تلميذا من حُكم عليه وصُلب فينكران اسمه. وإن قالا أنهما فعلا المعجزة باسم يسوع حكموا عليهما بالتجديف أو السحر أو عصيان حكم الرؤساء.
    ٨ «حِينَئِذٍ ٱمْتَلأَ بُطْرُسُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَقَالَ لَهُمْ: يَا رُؤَسَاءَ ٱلشَّعْبِ وَشُيُوخَ إِسْرَائِيلَ».
    مرقس ١٣: ١١ ولوقا ١٣: ١١ و١٢ و٢١: ١٤ و١٦ وع ٣١ وص ١٣: ٩
    ٱمْتَلأَ بُطْرُسُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ راجع شرح (ص ٢: ٤). كان هذا الامتلاء تقوية له للمحاماة عن الحق أمام المجلس على وفق وعد المسيح وهو قوله «فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ» (متّى ١٠: ١٩ و٢٠) قابل ذلك بما في (مرقس ١٣: ١١ ولوقا ٢١: ١٤ و١٥).
    كان ما فعله رؤساء الكهنة والصدوقيون وسيلة إلى تمهيد السبيل لمناداة بطرس بأن يسوع قد قام أمام المجلس الذي حكم عليه كما أنه قد نادى في الهيكل أمام الشعب. ولا ريب في أن بطرس ذكر حينئذ إنكاره ليسوع ثلاث مرات أمام خدم ذلك المجلس فرغب في أنه يصلح ما أفسد على قدر الإمكان بالاعتراف به علانية.
    يَا رُؤَسَاءَ ٱلشَّعْبِ خاطبهم بكل احترام كما أمر الإنجيل (متّى ٢٢: ٢١ ورومية ١٣: ٧ و١بطرس ٣: ١٥ - ١٧).
    ٩، ١٠ «٩ إِنْ كُنَّا نُفْحَصُ ٱلْيَوْمَ عَنْ إِحْسَانٍ إِلَى إِنْسَانٍ سَقِيمٍ، بِمَاذَا شُفِيَ هٰذَا، ١٠ فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، بِذَاكَ وَقَفَ هٰذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحاً».
    ص ٣: ٦ و١٦ ص ٢: ٤٢
    كان خطر عظيم على بطرس من إقراره بالحق وشهادته ليسوع في المجلس فكان سهلاً عليه أن يتخلص من ذلك الخطر بأجوبة ملتبسة لكنه لم يفعل ذلك بل صرح بالحق بشجاعة وأظهر أنه مستحق أن يلقب ببطرس أي صخر كما لقبه المسيح (متّى ١٦: ١٧ و١٨ ويوحنا ١: ٤٢). كان بطرس منذ مدة قصيرة كثير الجبانة أنكر المسيح خوفاً فما كان يمكن أن يحصل على هذا التغير لو لم يشاهد الرب عياناً قد قام ويتحقق صحة دعواه. فلو لم يكن المسيح قد قام ما كان من داع إلى اعتراف بطرس به واستحال أن يعرض نفسه للخسارة والعار والاضطهاد والموت فاحتماله ذلك يظهر أنه كان على يقين من أمر يسوع.
    عَنْ إِحْسَانٍ أي شفاء المقعد. أشار المجلس إلى ذلك بقولهم «هذا» فذكره الرسول بما يستحقه. والعادة أن يفحص أرباب المجالس عن الإساءة لا عن الإحسان فأشار بطرس إلى أن ما فعلوه خلاف العادة.
    هٰذَا يتضح من هذا أن الذي شُفي كان في الحضرة شاهداً أو مشاهداً.
    بِٱسْمِ أي بقوة وسلطان كما في (ص ٣: ٦).
    يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ قرن أحد هذين الاسمين بالآخر من أعظم ما يكرهه ذلك المجلس لأنه أنكر أن يسوع هو المسيح وبطرس صرح بأنه هو هو وهذا لا يصدر إلا عن جسارة عظيمة جداً.
    ٱلنَّاصِرِيِّ كما كُتب في عنوان صليبه. ونعته بذلك للتقرير ولدفع كل التباس فأبان أن الذي حصل الشفاء باسمه هو الناصري المهان.
    ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ وإن كان الذي حكم عليه بالموت بيلاطس لأنكم أنتم العلة أيها الرؤساء أرباب هذا المجلس. كان بطرس قد نسب صلبه إلى الشعب (ص ٢: ٢٣ و٣: ١٤ و١٥) ونسبته إلى المجلس أولى لأنه هو الذي حكم عليه بالموت أولاً ثم هيّج الشعب على طلبه من الحاكم الروماني. ولما حكم عليه أرباب ذلك المجلس لم يتوقعوا أن يسمعوا بعد قليل بيان ذنبهم بذلك.
    ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ الذي دانوه هم برره الله لأن إقامة الله إيّاه بيّنت فساد حكمهم. فإذا أعلن بطرس ثلاثة أمور هي على غاية الكراهة عندهم الأول أن يسوع هو المسيح والثاني أنهم قتلة المسيح والثالث أن الله أقامه.
    بِذَاكَ أي المسيح.
    وَقَفَ هٰذَا أَمَامَكُمْ وهذا دليل ثان على أن الذي شُفي كان في الحضرة منظوراً لأنه أشار إليه وأبان أنه واقف أمامهم.
    صَحِيحاً أعلن بهذا أن يسوع فضلاً عن أنه قام حاضر يفعل المعجزات ويشفي كما كان يفعل وهو على الأرض في الجسد.
    ١١ «هٰذَا هُوَ ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي ٱحْتَقَرْتُمُوهُ أَيُّهَا ٱلْبَنَّاؤُونَ، ٱلَّذِي صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ».
    مزمور ١١٨: ٢٢ وإشعياء ٢٨: ١٦ ومتّى ٢١: ٤٢ و١بطرس ٢: ٦
    هذه الآية من المزمور ١١٨: ٢٢ واقتبسها المسيح قبلاً وأوضح أنها قيلت فيه (متّى ٢١: ٤٢ ولوقا ٢٠: ١٧) راجع الشرح هناك وانظر أيضاً (إشعياء ٢٨: ١٦ ورومية ٩: ٣٣ وأفسس ٢: ٢٠).
    ٱحْتَقَرْتُمُوهُ هذا على وفق الأصل معنىً لا لفظاً.
    أَيُّهَا ٱلْبَنَّاؤُونَ أراد بهم رؤساء اليهود الذين صاروا بوظيفتهم حفظة بيت الله الروحي الذي هو كنيسة إسرائيل فكانوا لذلك بمنزلة البنائين لكنيسة الله فلهذا كان عليهم أن يكونوا أول الفاحصين عن صحة دعوى يسوع والمعترفين بأنه المسيح والمجتهدين في توطيد مملكته وتوسيعها لكنهم جاءوا خلاف ذلك ولكن الله تم مقاصده على رغمهم. وما قاله بطرس وقتئذ شفاهاً كرره كتابة بعد نحو ثلاثين سنة من ذلك (١بطرس ٢: ٦ - ٨).
    رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ هي أهم ما يكون في البناء وأوضح بطرس في الآية التالية بأي معنىً كان المسيح رأس الزاوية في بناء الله الروحي وذلك أنه هو ركن الخلاص يبني عليه المؤمنون رجاءهم النجاة من جهنم ونوال السماء.
    أثبت بطرس من الكتب الإلهية أن يسوع هو المسيح لأنها أنبأت بأن الرؤساء يفعلون بالمسيح عين ما فعلوه بيسوع فرفضهم إيّاه ثبت بصحة دعواه أنه مختار الله أو رأس الزاوية.
    ١٢ «وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ».
    متّى ١: ٢١ وص ١٠: ٤٣ و١تيموثاوس ٢: ٥ و٦
    عدل بطرس من هنا عن الكلام في شفاء الأعرج إلى موضوع أسمى وهو بيان خلاص أعظم من خلاص الجسد من المرض وهو خلاص النفس من الخطيئة خلاصاً أبدياً وهو موضوع الإنجيل كله وغاية كل من العهدين. فما ذُكر في الآية السابقة على سبيل المجاز ذُكر على سبيل الحقيقة وزيد عليه أن يسوع هو المخلص الوحيد.
    وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ أي به وليس إلا به لا كما اعتقد اليهود أنهم يخلصون بتسلسلهم من إبراهيم أو بطاعتهم لشريعة موسى أو ببرهم الذاتي فإنهم بدون المسيح هالكون وبه الخلاص الكامل.
    ٱلْخَلاَصُ من الخطيئة وعواقبها (متّى ١: ١٢ ولوقا ٤: ١٨ وأعمال ٥: ٣١ ورومية ٨: ٢١ وغلاطية ٥: ١). فبطرس بعدما أنذر أرباب المجلس على ما ارتكبوه ما صلب المسيح أخذ يبشرهم بالخلاص بواسطته.
    لأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ الخ هذه العبارة تعليل الذي قبلها أي بيان سبب عدم الخلاص بغير المسيح والسبب أن الله لم يعدّ مخلصاً للخطاة غيره لأنه هو الذي أُعطي ولم يُعط آخر. ومعنى قوله «أعطي بين الناس» أنه أُعلن من السماء للبشر وعُرف بينهم. والمراد «بالاسم» هنا الذات التي يدل هو عليها. والخلاص الذي أعده الله للناس إنما أعده بابنه لا بملاك ولا بغيره من المخلوقات وهذا كقول بولس «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (١تيموثاوس ٢: ٥). وهذا الاسم كافٍ وإن يكن وحيداً لأنه يهب الرجاء والسرور للأثمة الآيسين ودمه فدية عن ديننا وتطهير لنا من الدنس وشفاعته تأتينا بالنعمة في هذه الدار والقبول والمجد في دار الآخرة حتى أن الأطفال الذين يموتون قبل أن يعرفوا هذا الاسم أو يستطيعوا لفظه به يخلصون. وأشار بقوله «ينبغي» إلى قضاء الله الذي عيّن ذلك الاسم للخلاص. وجعل بقوله «نخلص» الرسل والرؤساء والشيوخ بمنزلة واحدة في الحاجة إلى الخلاص وفي إمكان أن يجدوه بيسوع وحده فيسوع المصلوب كان مخلصاً لصالبيه كما كان مخلصاً لمن وقفوا تحت الصليب يبكونه.
    ١٣ «فَلَمَّا رَأَوْا مُجَاهَرَةَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا، وَوَجَدُوا أَنَّهُمَا إِنْسَانَانِ عَدِيمَا ٱلْعِلْمِ وَعَامِّيَّانِ، تَعَجَّبُوا. فَعَرَفُوهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ يَسُوعَ».
    متّى ١١: ٢٥ و١كورنثوس ١: ٢٧
    فَلَمَّا رَأَوْا مُجَاهَرَةَ خاب رجاء المجلس في أنه يخيف الرسولين بوقوفهما أمامه وسؤالهم إيّاهما لينكرا ما فعلاه أو يقولا ما يوجب عليهما الحكم.
    بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا لم يذكر الكاتب شيئاً من كلام يوحنا ولكن من المحتمل أن يوحنا صدّق كلام بطرس بالقول أو بشهادة إمارات وجهه فحكموا بمجاهرته كمجاهرة بطرس.
    إِنْسَانَانِ عَدِيمَا ٱلْعِلْمِ لم يتعلما في المدارس اليهودية كالكتبة ولم يجلسا عند أقدام الربانيين لتعلم الشريعة.
    وَعَامِّيَّانِ أي من سفلة الناس أصلاً وبلا رتبة حالاً واستنتجوا ذلك من هيئتهما ولهجتهما فكان كلامهما وجراءتهما مما لا يتوقع من أمثالهما. وكان معظم انتصار الإنجيل منذ أول عهده إلى اليوم على أيدي مثل ذينك الرجلين (١كورنثوس ١: ٢٧).
    فَعَرَفُوهُمَا الخ ذكروا ما نسوه وهو أنهم عهدوهما من تلاميذ يسوع والذي نبههم على ذلك تعجبهم مما فعلاه. ولا بد من أن كثيرين من أولئك الرؤساء شاهدوا مراراً أعمال يسوع وسمعوا تعليمه حين كان تلاميذه معه (متّى ٢١: ٢٣ ولوقا ١٨: ١٨ ويوحنا ١٢: ٤٢) وقيل أن يوحنا كان معروفاً عند رئيس الكهنة (يوحنا ١٨: ١٥). فذانك الرسولان وإن لم يكونا قد تعلما من الربانيين كانا قد تعلما من الرب يسوع شفاهاً ومن الروح القدس إلهاماً وكانا أيضاً واثقين بما تكلما به فهذا جعل لكلامهما قوة عظيمة. والسامعون اقتصروا على التعجب فلم يستفيدوا سواه.
    الذي تكلم في هذا اليوم هو الذي تكلم في مساء اليوم الذي قبله في الهيكل وأقام في هذا عين الأدلة التي أقامها في ذاك ولكن آمن في اليوم السابق ألفان ولم يؤمن في هذا اليوم أحد وعلة قبول الحق في الأول الاستعداد وعلة عدمهِ عدمهُ.
    ١٤ «وَلٰكِنْ إِذْ نَظَرُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي شُفِيَ وَاقِفاً مَعَهُمَا، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ يُنَاقِضُونَ بِهِ».
    ص ٣: ١١
    لم يمكنهم أن ينكروا حقيقة المعجزة ولا نفعها كما أنهم لم يستطيعوا إنكار أن يسوع فتح عيني الأعمى (يوحنا ٩: ٢٤) ولم يجدوا شيئاً يشتكون به على الرسولين ولا ريب في أنهم امتلأوا غيظاً من خطاب بطرس فلو وجدوا في كلامه علة لعاقبوهما على قدر ما يستطيعون لكن قوة الحق أفحمتهم فصار الشاكون مشكوّين والقضاة بمنزلة المتهمين واللذان أسكتا مجلس اليهود المتكبر صيادا سمك من الجليل.
    ١٥ «فَأَمَرُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا إِلَى خَارِجِ ٱلْمَجْمَعِ، وَتَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ».
    ٱلْمَجْمَعِ أي المجلس. وجدوا أنه لا يليق بشرفهم أن يعترفوا بمغلوبيتهم أمام الرسولين المتهمين ولا أن يبقوا ساكتين وأخرجوهما لكي يتحاوروا للتوصل إلى ما يتخلصون به من تعربسهم. ولا عجب من أن لوقا عرف ما حدث في المجلس بعد خروج الرسولين لأن كثيرين من الكهنة آمنوا بتعليمهما فيمكن أنهم أخبروا بما صار (ص ٦: ٧) إن لم يكن قد ألهمه الروح القدس بلا واسطة.
    ١٦ «قَائِلِينَ: مَاذَا نَفْعَلُ بِهٰذَيْنِ ٱلرَّجُلَيْنِ؟ لأَنَّهُ ظَاهِرٌ لِجَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ أَنَّ آيَةً مَعْلُومَةً قَدْ جَرَتْ بِأَيْدِيهِمَا، وَلاَ نَقْدِرُ أَنْ نُنْكِرَ».
    يوحنا ١١: ٤٧ ص ٣: ٩ و١٠
    مَاذَا نَفْعَلُ كان يجب عليهم أن يقروا بخطيئتهم بقتل يسوع ويتشاوروا في ما يمكنهم من الإصلاح ويتخلصوا من عاقبة معصيتهم لأن المعجزة كانت برهاناً قاطعاً على صحة ما قاله الرسولان. والظاهر أنه لا أحد من أعضاء المجلس السبعين انتصر للحق أو أقر ببطلان مقاومة يسوع إنما اتفقوا جميعاً على التخلص من لوم الناس ومنع الديانة الجديدة من الانتشار.
    بِهٰذَيْنِ ٱلرَّجُلَيْنِ كان مجلسهم معيناً للحكم بمقتضى البراهين فكان عليهم أن يطلقوا الرسولين المتهمين ولكن سؤالهم لم يكن عما يجب عليهم عدلاً أن يفعلوه عما كان موافقاً لهم.
    آيَةً مَعْلُومَةً لم يمكنهم أن ينكروا تلك الآية أي شفاء المقعد لظهورها للجميع ولعدم كل ريب في صحتها.
    وَلاَ نَقْدِرُ أَنْ نُنْكِرَ أي لو كان لنا من سبيل إلى الإنكار أنكرنا ولو كذبنا كما فعلنا بإنكار قيامة يسوع برشوة العسكر (متّى ٢٨: ١٣).
    ١٧ «وَلٰكِنْ لِئَلاَّ تَشِيعَ أَكْثَرَ فِي ٱلشَّعْبِ، لِنُهَدِّدْهُمَا تَهْدِيداً أَنْ لاَ يُكَلِّمَا أَحَداً مِنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا بَعْدُ بِهٰذَا ٱلٱسْمِ».
    لِئَلاَّ تَشِيعَ هذا الذي خافوه أكثر من كل شيء لأن بطرس قد قال لهم «... ليكن معلوماً عند ... جميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع الناصري الخ».
    لِنُهَدِّدْهُمَ اعتاد أعداء الحق أن يسكتوا بالتهديدات والظلم من لم يستطيعوا أن يسكتوه بالبراهين واكتفوا حينئذ بالتهديد على رغمهم لأنهم خافوا من الشعب لميله إلى الرسولين.
    بِهٰذَا ٱلٱسْمِ أنف أعضاء المجلس فيما بينهم أن يذكروا اسم يسوع.
    ١٨ «فَدَعَوْهُمَا وَأَوْصَوْهُمَا أَنْ لاَ يَنْطِقَا ٱلْبَتَّةَ، وَلاَ يُعَلِّمَا بِٱسْمِ يَسُوعَ».
    ص ٥: ٤٠
    هذا أمر المجلس على وفق الحكم الذي اتفقوا عليه وهو يتضمن التهديد إذا خالفوه.
    ١٩ «فَأَجَابَهُمْ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا: إِنْ كَانَ حَقّاً أَمَامَ ٱللّٰهِ أَنْ نَسْمَعَ لَكُمْ أَكْثَرَ مِنَ ٱللّٰهِ، فَٱحْكُمُوا».
    ص ٥: ٢٩
    أظهر بطرس ويوحنا في جوابهما المجاهرة التي أظهراها في الخطاب وتيقنهما صحة ما شاهداه وأنهما مكلفان بالشهادة. ثم سألا القضاة أنفسهم أن يحكموا بأن الحق معهما بعصيان أمرهم.
    أَمَامَ ٱللّٰهِ قابل الرسولان حكم المجلس بحكم الله وأشار إلى أنه حكم الله هو الحق والطاعة له الأولى وأن السؤال المهم عندهما ما استصوبه الله لا ما استصوبه المجلس أو غيره من الناس وأن لا حق إلا ما كان أمام الله.
    أَنْ نَسْمَعَ أي نطيعكم.
    أَكْثَرَ مِنَ ٱللّٰهِ هذا يستلزم أنهما لم يتكلما بسلطانهما فكأنهما قالا أمرنا الله أن نتكلم وأنتم تأمروننا بأن نسكت فأيّ يجب أن نطيعه فلو كان أعضاء المجلس خالين من الهوى لحكموا بإطاعة الله لكنهم ادعوا أنهم هم نواب الله يتكلمون بسلطانه نظراً لرتبتهم. لكنه كان للرسولين برهان أنهما هما المتكلمان بسلطان الله وهو المعجزة.
    هذا المثال الأول لما جرى كثيراً في الكنيسة المسيحية من الاختلاف بين أوامر الرؤساء دينيين وسياسيين وحرية الضمير. وجواب بطرس هنا كجوابه وسائر الرسل بعد قليل وهو قولهم «يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ ٱللّٰهُ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنَّاسِ» (ص ٥: ٢٩).
    والمبدأ الذي وضعه بطرس حينئذ هو أن كلام الله في الكتاب أو الضمير هو المعول عليه في الأمور الدينية فوق كل ما سواه فالإنسان مسؤول لله وحده في الإيمان فلا سلطان لأحد سواه على قلب الإنسان والداً كان أم كنيسة أم مجمعاً أم غير ذلك من المخلوقات. وهذا المبدأ هو ركن إصلاح الكنيسة في القرن السادس عشر. والخلاف الذي وقع بين الرسولين وأعضاء مجلس السبعين لا يزال إلى الآن فالله يأمر بشيء والناس يأمرون بما ينافيه.
    ٢٠ «لأَنَّنَا نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا».
    ص ١: ٨ و٢: ٣٢ و٢٢: ١٥ و١يوحنا ١: ١ و٣
    لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ لعدة أسباب وهي أنهما تيقنا حق ما تكلما به وأن محبة الحق تجبر صاحبها على المناداة به وأنهما أُمرا من الله أن يتكلما بما تحققا (مرقس ١٦: ١٥ وأعمال ١: ٨). وقولهما هنا كقول بولس لأهل كورنثوس «ٱلضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ» (١كورنثوس ٩: ١٦).
    بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا من أفعال يسوع وأقواله ولا سيما قيامته.
    ٢١ «وَبَعْدَمَا هَدَّدُوهُمَا أَيْضاً أَطْلَقُوهُمَا، إِذْ لَمْ يَجِدُوا ٱلْبَتَّةَ كَيْفَ يُعَاقِبُونَهُمَا بِسَبَبِ ٱلشَّعْبِ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ كَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ عَلَى مَا جَرَى».
    متّى ٢١: ٢٦ ولوقا ٢٠: ٦ و١٩ و٢٢: ٢ وص ٥: ٢٦ ص ٣: ٧ و٨
    كرروا التهديد الذي في ع ١٨ ولولا خوفهم من الشعب لعذبوهما ولو وجدوا علّة شرعية لعاقبوهما بالضرب أو السجن.
    ٱلْجَمِيعَ أي الأكثر.
    يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ على ما جرى لأنهم تحققوا صحة الشفاء لمعرفتهم الذي شُفي منذ سنين أنه أعرج وأنه كان حينئذ أمامهم صحيحاً وأنهم اعتبروا شفاءه بقوة الله لا بالسحر وأنه كان نعمة للمصاب وإعلاناً لهم أن تعليم الرسولين حق وهذا كله كان تمجيداً لله.
    ٢٢ «لأَنَّ ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي صَارَتْ فِيهِ آيَةُ ٱلشِّفَاءِ هٰذِهِ كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً».
    ذكر الكاتب ذلك إظهاراً لعظمة المعجزة لأنه كلما طال المرض عسر شفاؤه وأن الوسائط البشرية عاجزة عن شفاء مثله وأنه لا وسيلة في ذلك إلى الخداع.

    نتيجة شفاء الأعرج ونمو الكنيسة ع ٢٣ إلى ٣٧


    ٢٣ «وَلَمَّا أُطْلِقَا أَتَيَا إِلَى رُفَقَائِهِمَا وَأَخْبَرَاهُمْ بِكُلِّ مَا قَالَهُ لَهُمَا رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخ».
    ص ١٢: ١٢
    رُفَقَائِهِمَا أي الرسل وسائر المسيحيين (ص ٢: ٤٤ و٤٥).
    أَخْبَرَاهُمْ لكي يبهجاهم بعجز المجلس عن أضرارهما وليتحدوا معهما في الصلاة لله بغية الثبات إلى النهاية.
    رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخُ أي أعضاء المجلس.
    ٢٤ «فَلَمَّا سَمِعُوا، رَفَعُوا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ صَوْتاً إِلَى ٱللّٰهِ وَقَالُوا: أَيُّهَا ٱلسَّيِّدُ، أَنْتَ هُوَ ٱلإِلٰهُ ٱلصَّانِعُ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا».
    لوقا ٢: ٢٩ و٢ملوك ١٩: ١٥
    رَفَعُوا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ صَوْتاً في الصلاة وهذا خير ملجإ للمتهدّدين والمضطهدين. فيجب أن لا تهمل الصلاة مهما كان لنا من المساعدة البشرية. ونحن نلجأ إليه تعالى لقدرته ومحبته ومواعيده. وكانت تلك الصلاة كأنها خارجة من قلب واحد مملوء غيرة لله ومحبة لأخيه.
    أَيُّهَا ٱلسَّيِّدُ الخ هذه العبارة من (مزمور ١٤٦: ٦) وفيها تعظيم لله باعتبار قدرته على كل شيء وحقه أن يتصرف بهم كما يشاء بدليل أنه خلق العالمين ولهذا جعلوا ذلك مقدمة لصلاتهم تقوية لإيمانهم به. فمقدمتهم في هذه الصلاة كمقدمة نحميا في صلاته (نحميا ٩: ٦) ومقدمة حزقيا في صلاته (٢ملوك ١٩: ١٥) ومقدمة إرميا في صلاته (إرميا ٣٢: ١٧). فكون قدرة الله غير محدودة يحقق لنا أنه يجري كل مقاصده ويتم كل مواعيده ويحقق أيضاً بطلان مقاومة الأشرار إيّاه وأن الذين مع الله والله معهم ينتصرون لا محالة.
    ٢٥ «ٱلْقَائِلُ بِفَمِ دَاوُدَ فَتَاكَ: لِمَاذَا ٱرْتَجَّتِ ٱلأُمَمُ وَتَفَكَّرَ ٱلشُّعُوبُ بِٱلْبَاطِلِ؟».
    مزمور ٢: ١ و٢
    هذا من (مزمور ٢: ١ و٢).
    ٱلْقَائِلُ بِفَمِ دَاوُدَ هذا برهان على أن داود كاتب هذا المزمور وأنه تكلم به بالوحي. واتخاذهم هذا الكلام في صلاتهم دليل على ثقتهم أنهم ينجحون في تبشيرهم وينتصرون على مضطهديهم لأن غاية هذا المزمور إعلان نصرة الحق على كل أعدائه. وفيه طلب إلى الله أن يكمل ما وعد به فيه من نصر ملكوت ابنه.
    لِمَاذَا ٱرْتَجَّتِ ٱلأُمَمُ على المسيح والاستفهام هنا لتعجّب المتكلم وتوبيخ المعتدين لأن ارتجاجهم عبث ومهلك إيّاهم. فكل اجتهاد أعداء المسيح كان باطلاً لأن الله قصد أن يقيم مملكة ابنه ويؤيدها وهو أقوى منهم وأحكم وقادر أن يجعل مقاومتهم له وسيلة إلى تقدمه.
    وَتَفَكَّرَ ٱلشُّعُوبُ بِٱلْبَاطِلِ يعمّ الأمم والشعوب كل صنوف الناس يهوداً وغيرهم والأمر الذي تفكروا به بالباطل منع تقدّم المسيح.
    ٢٦ «قَامَتْ مُلُوكُ ٱلأَرْضِ، وَٱجْتَمَعَ ٱلرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى ٱلرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِه».
    ما أنبأ به داود من جهة مقاومة الملوك والرؤساء كان قد تم حينئذ بمقاومة رؤساء اليهود.
    قَامَتْ أشار بذلك إلى استعدادهم لمقاومة دعوى المسيح بعنف.
    عَلَى ٱلرَّبِّ أي الآب الذي أرسل المسيح على الوجه الذي اختاره وهو خلاف الفكر الذي أراده الرؤساء.
    عَلَى مَسِيحِهِ أي ممسوحه لأن الروح القدس مسحه لعمل الفداء (لوقا ٤: ١٨). والمقاومة للمسيح هي مقاومة للآب واحد ولأن إهانة الرسول إهانة الرسول إهانة للمرسل.
    ٢٧ «لأَنَّهُ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ ٱلْقُدُّوسِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مَسَحْتَهُ، هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ».
    متّى ٢٦: ٣ ولوقا ٢٢: ٢ و٢٣: ١ و٨ لوقا ١: ٣٥ و٤: ١٨ ويوحنا ١٠: ٣٦
    هذا بيان أن نبوءة داود تمت بالمسيح.
    فَتَاكَ ٱلْقُدُّوسِ انظر شرح (ص ٣: ١٣ و٣٦).
    هِيرُودُسُ انظر شرح (لوقا ٢٣: ١ - ١٢) وهو ملك من ملوك الذين قاموا على المسيح ونائب عن الباقين.
    وَبِيلاَطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ (متّى ٢٧: ٢٦ ولوقا ٢٣: ٢٤ ويوحنا ١٩: ١٦) وهو من الرؤساء المشار إليهم في النبؤة.
    مَعَ أُمَمٍ أي العسكر الروماني الوثني الذي سخر بالمسيح وصلبه (متى ٢٧: ٢٧ - ٣٥).
    وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ (متّى ٢٧: ٢٠) وهم بعض الشعوب المشار إليهم في النبؤة ونواب عن سائر الشعوب.
    ٢٨ «لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ».
    ص ٢: ٢٣ و٣: ١٨
    انظر شرح (ص ٢: ٢٣ و٣: ١٨).
    لِيَفْعَلُوا أي ليقتلوا المسيح وذلك غاية اجتماعهم لكنهم لم يريدوا أو يقصدوا أن يتمموا مشورة الله بل أرادوا وقصدوا خلافه ففعلوا ما فعلوه حسداً وبغضاً وإجابة لإلحاح البعض وأتوا ذلك اختياراً ولهذا أجرموا وإن كانوا قد أنفذوا ما عيّنه الله.
    يَدُكَ أي قوتك في إقامة ملكوت المسيح.
    مَشُورَتُكَ أي حكمتك في عمل الفداء (ص ٣: ١٨).
    ٢٩ «وَٱلآنَ يَا رَبُّ، ٱنْظُرْ إِلَى تَهْدِيدَاتِهِمْ، وَٱمْنَحْ عَبِيدَكَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِكَ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ».
    ع ١٣ و٣١ وص ٩: ٢٧ و١٣: ٤٦ و١٤: ٣ و١٩: ٨ و٢٦: ٢٦ و٢٨: ٣١ وأفسس ٦: ١٩
    ٱنْظُرْ أي التفت. اقتصروا على هذا الطلب وتركوا الفعل لإرادته وحكمته ولم يطلبوا إهلاك أعدائهم ولا الحماية مما هددوهم به.
    وَٱمْنَحْ عَبِيدَكَ أي امنحنا نحن عبيدك نعمة وشجاعة.
    أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِكَ قصدوا أن يتكلموا بدون التفات إلى تهديدات الناس وتوقعوا الخطر في ذلك السبيل ولم يسألوا الحماية بل النعمة والجرأة. نعم كان لهم شيء من الشجاعة ع ١٣ لكنهم أرادوا زيادتها ودوامها لأنهم عرفوا ضعف طبيعتهم.
    ٣٠ «بِمَدِّ يَدِكَ لِلشِّفَاءِ، وَلْتُجْرَ آيَاتٌ وَعَجَائِبُ بِٱسْمِ فَتَاكَ ٱلْقُدُّوسِ يَسُوعَ».
    ص ٢: ٤٣ و٥: ١٢ ص ٣: ٦ و١٦ وع ٢٧
    بِمَدِّ يَدِكَ لِلشِّفَاءِ هذا أمر ثان مما طلبوه ومعنى «مد اليد» هنا إعلان القوة. وسألوه قوة عمل المعجزات لا للوقاية من أعدائهم بل لخدمة المسيح ولتكون بيّنة على صحة تعليمهم ووسيلة لإقناع الناس بأن يسوع هو المسيح.
    آيَاتٌ وَعَجَائِبُ كشفاء الأعرج.
    بِٱسْمِ... يَسُوعَ ذلك الاسم الذي نهاهم الرؤساء عن التلفظ به (ع ١٩) وقصدوا هم أن ينادوا به.
    ٣١ «وَلَمَّا صَلَّوْا تَزَعْزَعَ ٱلْمَكَانُ ٱلَّذِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهِ، وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلاَمِ ٱللّٰهِ بِمُجَاهَرَة».
    ص ٢: ٢ و٤ و١٦: ٢٦ ع ٢٩
    تَزَعْزَعَ ٱلْمَكَانُ كان ذلك علامة حسية لإجابة الله صلاتهم ولم يكن ذلك اتفاقاً لأنه حدث عند نهاية الصلاة. وما ذُكر دليل على فاعلية الصلاة باتحاد وحرارة. سألوا الله إعلان قوته فأعلنها بهز المكان وذلك مما لا يستطيعه إلا الله. وحدث مثل هذا يوم كان بولس وسيلا يترنمان ويصليان (ص ١٦: ٢٦).
    وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ سألوا الله المجاهرة بدينه فوهب لهم علة المجاهرة والفصاحة وكل الفضائل.
    وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ... بِمُجَاهَرَةٍ كما طلبوا وهذا نتيجة امتلائهم من الروح القدس. وما أتوه في أورشليم بعد ذلك على رغم تهديدات الرؤساء وأوامرهم دليل على أن تلك المجاهرة دامت لهم إجابة لتلك الصلاة.
    ٣٢ «وَكَانَ لِجُمْهُورِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئاً مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكا».
    ص ٥: ١٢ ورومية ١٥: ٥ و٦ و٢كورنثوس ١٣: ١١ وفيلبي ١: ٢٧ و٢: ٢ و١بطرس ٣: ١٨ ص ٢: ٤٤
    لِجُمْهُورِ زاد عدد المؤمنين كثيراً وكانوا قبل ذلك نحو خمسة آلاف ع ٤ وما قيل فيهم سابقاً لم يزل جارياً فعلاً (ص ٢: ٤١ و٤٢ و٤٤).
    قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ أي كانوا كثيراً وكانوا قبل ذلك نحو خمسة آلاف كذلك إلا أن يقال «كان لهم قلب واحد ونفس واحدة». ودليل ذلك الاتحاد مواظبتهم على سمع تعليم الرسل والصلاة معاً وإظهار السخاء وعدم الانشغاف وطلب الترأوس.
    وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ الخ أي ما دام غيره محتاجاً فأنكروا حب الذات قولاً وفعلاً وحسبوا ما لهم لنفع الجميع لا نفع صاحب المال خاصة أنظر شرح (ص ٢: ٤٤). والمحتاجون في الكنيسة دائماً فيجب عليها أن تعتني بهم بسخاء وإنكار الذات كما كان في الكنيسة الأولى.
    ٣٣ «وَبِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ كَانَ ٱلرُّسُلُ يُؤَدُّونَ ٱلشَّهَادَةَ بِقِيَامَةِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ».
    ص ١: ٨ و٢٢ و٢: ٤٧
    هذا على وفق وعد المسيح للرسل بقوله «لكنكم ستنالون قوة» (ص ١: ٨). وكانت لهم قوة على قلوب الناس للإقناع بواسطة كلامهم والمعجزات التي صنعوها لإثباته ونالوا تلك القوة من الروح القدس.
    ٱلشَّهَادَةَ بِقِيَامَةِ ٱلرَّبِّ قيامة الرب هو جوهر شهادتهم لبيان أن يسوع هو المسيح ولإرشاد الناس إلى الإيمان به لخلاص نفوسهم.
    وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ الخ أي نعمة الله وهي رضاه عنهم وهذه النعمة مصدر تأثير كلامهم في غيرهم لا لفصاحتهم أو بلاغتهم. وهي تشتمل أيضاً على مسرة الناس بهم كما في (ص ٢: ٤٧) والأول علة للثاني لأن رضى الله عنهم قدرهم على فعل المعجزة لمنفعة الشعب فأكسبهم النعمة لديه. وتلك النعمة جذبت قلوب الناس إليهم على وفق قول الحكيم «إِذَا أَرْضَتِ ٱلرَّبَّ طُرُقُ إِنْسَانٍ جَعَلَ أَعْدَاءَهُ أَيْضاً يُسَالِمُونَهُ» (أمثال ١٦: ٧). ونوال تلك النعمة نتيجة الاتحاد والمحبة على ما سلف ذكره.
    ٣٤ «إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مُحْتَاجاً، لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُولٍ أَوْ بُيُوتٍ كَانُوا يَبِيعُونَهَا، وَيَأْتُونَ بِأَثْمَانِ ٱلْمَبِيعَاتِ».
    ص ٢: ٤٥
    ما ذُكر هنا آية تلك النعمة.
    لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مُحْتَاجاً لأن الأغنياء منهم قاموا بحاجات الفقراء الذين لا بد من وجود مثلهم في مثل ذلك الجمهور.
    لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُولٍ الخ هذا علة أنه لم يبق المحتاجون منهم في احتياجهم. فكانت محبتهم للمسيح وللإخوة لأجله فوق حب المال. ولا يلزم مما قيل هنا أن أصحاب المال باعوا كل مقتنياتهم ولعل بعضهم فعل كذلك ولكن كلاً منهم فعل على قدر الحاجة وكان مستعداً أن ينفق كل ما له إذا اقتضت الحال انظر شرح (ص ٢: ٤٥). ولنا من هذا أن ديانة المسيح تعلم الإنسان السخاء وتنزع من قلبه حب المال الطبيعي المهلك وتجعل المؤمنين أهل بيت واحد وتحمل الإنسان على رحمة الفقراء والمصابين اقتداء برئيسها الذي «افتقر لأجلنا وهو الغني».
    ٣٥ «وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ ٱلرُّسُلِ، فَكَانَ يُوزَّعُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا يَكُونُ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ».
    ع ٣٧ وص ٥: ٢ ص ٢: ٤٥ و٦: ١
    وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ ٱلرُّسُلِ هذا مجاز والحقيقة أنهم كانوا يعطون الرسل أثمان ما باعوه لكي ينفقوا على المحتاجين في الكنيسة فاستطاع الرسل على القيام بذلك مدة كانت الكنيسة صغيرة لكنهم لما كبرت ثقل الحمل عليهم حتى لم يستطيعوا أن يحملوه (ص ٦: ١ و٢).
    فَكَانَ يُوزَّعُ... كَمَا يَكُونُ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ يتضح من هذا أنهم لم يجروا القسمة العامة دفعة ولم يشتركوا في كل الأموال بل أنفق الأغنياء على الفقراء على قدر الحاجة.
    ٣٦ «وَيُوسُفُ ٱلَّذِي دُعِيَ مِنَ ٱلرُّسُلِ بَرْنَابَا، ٱلَّذِي يُتَرْجَمُ ٱبْنَ ٱلْوَعْظِ، وَهُوَ لاَوِيٌّ قُبْرُسِيُّ ٱلْجِنْسِ».
    ص ١١: ٢٣
    أُورد يوسف مثلاً لما ذُكر من الموزعين ولعل تخصيصه بالذكر لأنه أجنبي الوطن ولأنه فاق غيره بالسخاء ولأنه اشتهر بعد ذلك بأنه مبشر.
    ص ١١: ٢٢ و٢٤ و٣٠ و١٢: ٢٥ و١٣: ١ و٢ و٥٠ و١٤: ١٢ و١٥: ١٢ و١كورنثوس ٩: ٦ وغلاطية ٢: ١ و٩
    دُعِيَ نظراً لما ظهر من صفاته كما دُعي أندراوس ويوحنا بابني الرعد (مرقس ٣: ١٧) وكما دُعي سمعان بطرس أي صخراً (يوحنا ١: ٤٢).
    ٱبْنَ ٱلْوَعْظ ينتج من هذا أنه كان فصيح اللسان بليغاً قوي الحجة يعجب السامعين.
    لاَوِيٌّ أي من سبط لاوي المعيّن من الله للخدمة الدينية وكان رجاله كهنة ولاويين فالكهنة هرون ونسله وسائرهم لاويون يساعدون الكهنة (عدد ص ٣ وتثنية ١٢: ١٨ و١٩ و١٨: ٦ - ٨ و١ايام ٢٣: ٢٤). ولم يكن لهذا السبط نصيب في أرض الميعاد كبقية الأسباط (عدد ١٨: ٢٠) لكن لم يُمنعوا من اشتراء أرضٍ إذا شاؤوا كما فعل إرميا وهو لاوي (إرميا ٣٢: ٧ - ١٢) وأخت برنابا كان لها بيت في أورشليم (أعمال ١٢: ٢٥) وكان التلاميذ يجتمعون فيه للصلاة (ص ١٢: ٢٥).
    قُبْرُسِيُّ أي من قبرس وهي جزيرة كبيرة مخصبة في بحر الروم غربي سورية وسُميت قديماً كتّيم (تكوين ١٠: ٤ و٥ وعدد ٢٤: ٢٤) وكان فيها كثير من اليهود في عصر الرسل.
    ٣٧ «إِذْ كَانَ لَهُ حَقْلٌ بَاعَهُ، وَأَتَى بِٱلدَّرَاهِمِ وَوَضَعَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ ٱلرُّسُلِ».
    ع ٣٤ و٣٥ وص ٥: ١ و٢
    أعلن ما أظهره من السخاء وإنكار الذات أهليته لأن يكون مبشراً بالإنجيل.


    الأصحاح الخامس


    خبر حنانيا وسفيرة ع ١ إلى ١١


    ١ «وَرَجُلٌ ٱسْمُهُ حَنَانِيَّا، وَٱمْرَأَتُهُ سَفِّيرَةُ، بَاعَ مُلْكا».
    النبأ الآتي استثناء لما قيل في (ص ٤: ٣٢ و٣٤) وبيان أن وسائط النعمة لا تحقق صلاح الذين يحصلون عليها. ولا عجب من وجود بعض المرائين بين الكثيرين الذين اعترفوا بالدين المسيحي فإن الرسل لم يزيدوا على الاثني عشر وكان احدهم خائناً. وأنبأ المسيح بمثل ذلك بمثل الزوان والقمح (متّى ص ١٣) وفيه بيان أن التجارب أصابت الكنيسة من الداخل من طمع بعض أعضائها كما كانت قد أصابتها من الخارج من اضطهاد اليهود.
    حَنَانِيَّا كيوحنا في الاشتقاق ومعنى حنانيا حنو الرب ومعنى يوحنا الرب حنّان.
    سَفِّيرَةُ أي مضيئة أو جميلة. وسفيرة وحنانيا اسمان لم يليقا بصفات مسمّييهما.
    بَاعَ مُلْكاً حقلاً ع ٣ كغيره من أغنياء الكنيسة (ص ٤: ٣٤) بدعوى أنه فعل ذلك لنفع فقراء الكنيسة محبة للمسيح. وجاء هذا برأي امرأته واتفاقها معه (ع ٢ و٩) فلهذا كانت شريكة له في ما أتاه في ذلك من الإثم.
    ٢ «وَٱخْتَلَسَ مِنَ ٱلثَّمَنِ، وَٱمْرَأَتُهُ لَهَا خَبَرُ ذٰلِكَ، وَأَتَى بِجُزْءٍ وَوَضَعَهُ عِنْدَ أَرْجُلِ ٱلرُّسُلِ».
    ص ٤: ٣٧
    وَٱخْتَلَسَ مِنَ ٱلثَّمَنِ أي أبقى بعض الثمن لنفسه وتظاهر أن ما وهبه منه هو الكل. ولم يكن عليه شيء من الإثم بما أبقاه لو أنبأ بأن ما قدمه هو جزء الثمن لا كله لأن العطاء اختياري لا اضطراري.
    وَٱمْرَأَتُهُ لَهَا خَبَرُ أي أنها عرفت أن ما أُعطي جزء ثمن المبيع فشاركت زوجها في قصد الخداع والكذب.
    وَأَتَى بِجُزْءٍ مدعياً أنه الثمن كله كما يظهر من قول بطرس له «أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى ٱلنَّاسِ بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ» (ع ٣ و٤).
    وكانت خطيئته أولاً الكذب وثانياً الرياء لأنه ابتغى أن يعتبره الناس كريماً منكراً ذاته وثالثاً الطمع لأنه أحب المال حتى خبّأ بعضه وادّعى إعطاء الكل رغبة في نوال المدح.
    ٣ «فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلأَ ٱلشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَتَخْتَلِسَ مِنْ ثَمَنِ ٱلْحَقْلِ؟».
    عدد ٣٠: ٢ وتثنية ٢٣: ٢١ جامعة ٥: ٤ ولوقا ٢٢: ٣ وع ٩
    فَقَالَ بُطْرُسُ لا ريب في أن حنانيا توقع أن يمدحه بطرس على سخائه أمام كل الجمهور ولم يعلم بطرس كذب حنانيا إلا بالوحي فالله أعلمه بذلك لكي تُعلن خطيئة الكاذب ويعاقب عليها.
    لِمَاذَا مَلأَ ٱلشَّيْطَانُ قَلْبَكَ نسب بطرس أصل هذه الخطيئة إلى تجربة الشيطان وهذا مثل ما في (لوقا ٢٢: ٣ ويوحنا ١٣: ٢٧) وسُمّي الشيطان «أبا الكذاب» (يوحنا ٨: ٤٤ انظر أيضاً تكوين ٣: ١ - ٥).
    وتجربة الشيطان ليست بعذر لحنانيا لأنه خطئ بتسليمه لتجربته ولم يستطع الشيطان إغواءه لو لم يجد فيه استعداداً للغواية لما فيه من الطمع وعدم الاكتراث بالصدق. وقوله «لماذا» الخ دليل على أنه غير مجبر على إطاعة وأنه كان قادراً على أن يقاومه وواجباً عليه أن يدفعه. وأشار بقوله «ملأ قلبه» إلى أنه ارتكب ذلك الإثم بكل اجتهاد ومسرة بعدما أسكت ضميره كل الإسكات.
    لِتَكْذِبَ بتقديم بعض ثمن الحقل بدعوة أنه الثمن كله.
    عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ الأقنوم الثالث من اللاهوت. فحنانيا قصد أن يخدع الرسل وسائر الكنيسة فقط لكن خطيئته كانت أعظم مما ظن لأن الرسل فعلوا ما فعلوه بتأثير الروح القدس وبه علموا التعليم وصنعوا المعجزات واستطاعوا معرفة الغيب فالكذب على الرسل القدس شر من كل الخطايا (متّى ١٢: ٣١ و٣٢ ومرقس ٣: ٢٨ و٢٩). وفيما ذُكر برهان على التمييز بين الأقانيم اللاهوتية إذ أوضح هنا أن الروح القدس أقنوم لا صفة إلهية لأن حنانيا لا يستطيع أن يكذب على صفة. وفيه برهان آخر على أن الروح القدس إله لأنه كذا سمي في الآية الرابعة ولأنه قادر على فحص القلوب والتمييز بين المرائين والمخلصين وهذا لا يقدر عليه إلا الله (١أيام ٢٨: ٩ وإرميا ١٧: ١٠ و١كورنثوس ٢: ١٠ ورؤيا ٢: ٢٣).
    ٤ «أَلَيْسَ وَهُوَ بَاقٍ كَانَ يَبْقَى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيعَ، أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ؟ فَمَا بَالُكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ هٰذَا ٱلأَمْرَ؟ أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى ٱلنَّاسِ بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ».
    وَهُوَ بَاقٍ أي لم يُبع.
    كَانَ يَبْقَى لَكَ هذا دليل قاطع على أنه لم يكن مجبراً على البيع وكذلك غيره ممن باعوا.
    وَلَمَّا بِيعَ، أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ أي ألم يكن الثمن لكي تتصرف به كيف شئت تعطيه أم تبقيه فأنت خطئت لغير موجب لا خوفاً من اللوم ولا رهبة من العقاب فلو لم تُعط شيئاً أو أعطيت جزءاً علناً لم يعتب أحدٌ عليك لكنك اجتهدت في أن تعبد الله والمال وتكسب الصيت بالكرم والتقوى وتجري في سبيل طمعك.
    فَمَا بَالُكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ فالفكر فكرك والفعل فعلك وإن كان الشيطان قد ملأ قلبك لأن الشيطان لا يقدر أن يجبر أحداً على الخطيئة (يعقوب ٤: ٧). ومعنى «الوضع في القلب» النيّة والعزم. وعزمه على الاختلاس زاد إثمه فظاعة وكذا جعْله امرأته تشاركه في ذلك.
    أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى ٱلنَّاسِ فقط.
    بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ أي على الروح القدس ع ٣ وهذا شر الخطايا فالإساءة إلى الناس ليست شيئاً بالنسبة إلى الإساءة إلى الله. فإن داود أخطأ إلى الله وإلى أوريا ومع ذلك قال «إليك وحدك أخطأت» (مزمور ٥١: ٤). أما إخطاؤه إلى الله فادعاؤه أنه وقف كل الثمن له تعالى على يد الرسل وتظاهره بأن الروح القدس حثّه على تلك التقدمة وعزمه على الخداع يستلزم أنه حسب أن العالم كل شيء لا يعلم خداعه ورياءه.
    ٥ «فَلَمَّا سَمِعَ حَنَانِيَّا هٰذَا ٱلْكَلاَمَ وَقَعَ وَمَاتَ. وَصَارَ خَوْفٌ عَظِيمٌ عَلَى جَمِيعِ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا بِذَلِك».
    ع ١٠ و١١
    عرف حنانيا من كلام بطرس أن خداعه ظهر وعرف فظاعة إثمه.
    وَقَعَ وَمَاتَ ولنا من هذا خمسة أمور:

    • الاول: أن ذلك قصاص الله رأساً لحنانيا على خطيئته لا نتيجة خجله أو ندامته (وإن كانا في غاية الشدة) ولا نتيجة قصد بطرس أو قوله.
    • الثاني: أنه شهادة الله بفظاعة الكذب والرياء والطمع والاستخفاف بروح الله ولا سيما الأول لأنه تعالى يكرهه كل الكراهة.
    • الثالث: أن مثل شدة العقاب المعلوم كما ذُكر كان ضرورياً في أول أمر الكنيسة الجديدة اتقاء من ذلك الرياء. وكذلك كان أول ما وضع الله الشريعة الموسوية فإنه لما تعداها ناداب وأبيهو ولدا هرون أماتهما (لاويين ١٠: ١٢) وكذلك شُدد العقاب على الإسرائيليين في أول دخولهم أرض الميعاد وتعديهم أوامره (يشوع ص ٧). فأظهر الله شفاء الأعرج وشدة نقمته بأمانة المرائي على الأثر.
    • الرابع: أن الله يهتم بمنع ضرر الكنيسة من داخل كما يهتم بمنعه من خارج (ص ٥: ١٩ و١٢: ٧).
    • الخامس: أن الله قصد بذلك أن يثبت سلطان الرسل وأنهم رسله. ومثل هذا ضربة عليم الساحر إثباتاً لرسولية بولس وبرنابا (ص ١٣: ٨ - ١١).


    خَوْفٌ عَظِيمٌ عَلَى جَمِيعِ الخ أي الذين سمعوا خطاب بطرس في المحفل (ع ٦) ثم ذاع نبأ ذلك في القرب والبعد فخافوا من إغاظة الله ومن نقمته.
    ٦ «فَنَهَضَ ٱلأَحْدَاثُ وَلَفُّوهُ وَحَمَلُوهُ خَارِجاً وَدَفَنُوه».
    يوحنا ١٩: ٤٠
    أتوا ذلك على وفق العادة العامة ويقوم بهذه الخدمة طبعاً الأحداث دون الشيوخ.
    خَارِجاً من المجتمع ومن المدينة لأنه لم يكونوا يدفنون في مدينة أورشليم غير الملوك والشرفاء.
    ٧ «ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ مُدَّةِ نَحْوِ ثَلاَثِ سَاعَاتٍ أَنَّ ٱمْرَأَتَهُ دَخَلَتْ، وَلَيْسَ لَهَا خَبَرُ مَا جَرَى».
    يظهر من هذا ان جماعة المؤمنين استمروا مجتمعين مدة الساعات الثلاث التي غاب فيها الأحداث للدفن.
    أَنَّ ٱمْرَأَتَهُ دَخَلَتْ المحفل.
    وَلَيْسَ لَهَا خَبَرُ مَا جَرَى من أمر زوجها ولا بد من أنها كانت تظن أن الخداع قد نجح ولأنها كانت شريكة لزوجها في الخداع لاق أن تكون شريكته في العقاب.
    ٨ «فَسَأَلَهَا بُطْرُسُ: قُولِي لِي، أَبِهٰذَا ٱلْمِقْدَارِ بِعْتُمَا ٱلْحَقْلَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ بِهٰذَا ٱلْمِقْدَارِ».
    لم يعطها بطرس فرصة للاستفهام عما جرى بل خاطبها في الحال.
    أَبِهٰذَا ٱلْمِقْدَارِ بِعْتُمَا ٱلْحَقْل بلا زيادة. والأرجح أن ذلك المقدار كان أمامه وأشار إليه عند خطابه المرأة وأنه عيّنه ولوقا لم يفصّل. فلو اعترفت بالحق لخلصت لا محالة لكنها أصرت على النفاق الذي اتفقت عليه مع زوجها.
    ٩ «فَقَالَ لَهَا بُطْرُسُ: مَا بَالُكُمَا ٱتَّفَقْتُمَا عَلَى تَجْرِبَةِ رُوحِ ٱلرَّبِّ؟ هُوَذَا أَرْجُلُ ٱلَّذِينَ دَفَنُوا رَجُلَكِ عَلَى ٱلْبَابِ، وَسَيَحْمِلُونَكِ خَارِجا».
    متّى ٤: ٧ وع ٣
    ٱتَّفَقْتُمَا اتفاقها مع زوحها جعلها مذنبة مثله.
    عَلَى تَجْرِبَةِ رُوحِ ٱلرَّبِّ هما قصدا خداع الرسل لكنهما امتحنا بذلك أنه هل يقدر روح الرب الساكن فيهم على كشف الخداع أو لا.
    هُوَذَا أَرْجُلُ... عَلَى ٱلْبَابِ أي على وشك الوصول. ولا عجب أن شغل الأحداث نحو ثلاث ساعات بحمل حنانيا إلى خارج المدينة وبتهيئة المدفن له وبرجوعهم إلى حيث كانوا. وبما قاله بطرس أنبأها بخيبة مسعاها بتجربة روح الرب وبموت زوجها.
    وَسَيَحْمِلُونَكِ خَارِجاً أخبرها أن موتها قريب. علم بطرس بوحي الله أن نصيبها كنصيب زوجها في المصاب ووقوع الموت على أثر الخطيئة أبان أنه نتيجتها وعلامة غيظ الله.
    ١٠ «فَوَقَعَتْ فِي ٱلْحَالِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَمَاتَتْ. فَدَخَلَ ٱلشَّبَابُ وَوَجَدُوهَا مَيْتَةً، فَحَمَلُوهَا خَارِجاً وَدَفَنُوهَا بِجَانِبِ رَجُلِهَا».
    ع ٥
    كان موتها سريعاً كما أنبأ بطرس وكان في وسط المحفل. وأسباب شدة العقاب هذا مرّ ذكرها في شرح ع ٥. ونرى غالباً أن العقاب يتأخر عن الإثم لا يقع على أثره ولكن من المحقق أن الله لا بد من أن يعاقب على الخطيئة عاجلاً أو آجلاً ما لم تُمح بالتوبة ولا سيما الكذب والرياء (أيوب ٨: ١٣ و٣٦: ١٣ وأمثال ٦: ١٧ و١٢: ٢٢ و١٩: ٩ ولوقا ١٢: ١ و٢ ورؤيا ٢١: ٨).فبين معجزات الرحمة الكثيرة لم يكن سوى معجزة واحدة من معجزات النقمة وذلك في وقت الاحتياج إليها للتعليم والإنذار فأعلن الله بها أنه إله العدل والحق كما أعلن بغيرها أنه إله المحبة والرحمة.
    ١١ «فَصَارَ خَوْفٌ عَظِيمٌ عَلَى جَمِيعِ ٱلْكَنِيسَةِ وَعَلَى جَمِيعِ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا بِذَلِكَ».
    ص ٢: ٤٣ وع ٥ وص ١٩: ١٧
    خَوْفٌ عَظِيمٌ من الله باعتبار أنه إله العدل والنقمة وأنه رقيب أعمال العباد ومثل هذا الخوف ينشأ طبعاً عند مشاهدة قرب الله من الإنسان وإجراء قضائه ونتيجة مثل هذا الخوف فحص القلوب وامتحان النفس والسهر والصلاة لكي لا يقع أحد في مثل إثم حنانيا وامرأته ولا شك في أن تأثير ذلك الحادث بقي وقتاً طويلاً في الكنيسة ولم يزل إلى اليوم لمن يقرأون نبأه ويتأملون.
    ٱلْكَنِيسَةِ جماعة المؤمنين وهذا أول ذكر لهذا الاسم في أعمال الرسل وذكره المسيح مرتين (متّى ١٦: ١٨ و١٨: ١٧).
    ٱلَّذِينَ سَمِعُوا ممن ليسوا من الكنيسة فإن تأثير موت الزوجين بغتة أثر في كل من بلغه النبأ من غير المسيحيين حتى امتنع المراؤون من الالتصاق بهم.

    نمو الكنيسة وآيات الرسل ع ١٢ إلى ع ١٦


    ١٢ «وَجَرَتْ عَلَى أَيْدِي ٱلرُّسُلِ آيَاتٌ وَعَجَائِبُ كَثِيرَةٌ فِي ٱلشَّعْبِ. وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ».
    ص ٢: ٤٣ و١٤: ٣ و١٩: ١١ ورومية ١٥: ١٩ و٢كورنثوس ١٢: ١٢ وعبرانيين ٢: ٤ ص ٣: ١١ و٤: ٣٢
    الجملة الأولى من هذه الآية متعلقة بالآية الخامسة عشرة وما بينهما كلام معترض وهو تكرار القول في (ص ٤: ٣٣) وشرح له.
    آيَاتٌ وَعَجَائِبُ انظر شرح ص ٢: ٤٣ وهذا جواب صلاة المؤمنين التي ذُكرت في (ص ٤: ٣٠).
    وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أي كان أعضاء الكنيسة متحدين في المحبة والصلاة والعبادة.
    فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ انظر شرح (ص ٣: ١١ ومتّى ٢١: ١٢ ويوحنا ١٠: ٢٣) وكان ذلك الرواق مجتمعاً لعامة الناس وخاصتهم فاتخذه الرسل محل مخاطباتهم للشعب وهذا مضاد كل المضادة لنهي مجلس اليهود الرسولين عن أن ينطقا أو يعلما باسم يسوع (ص ٤: ١٨).
    ١٣ «وَأَمَّا ٱلآخَرُونَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَجْسُرُ أَنْ يَلْتَصِقَ بِهِمْ، لٰكِنْ كَانَ ٱلشَّعْبُ يُعَظِّمُهُمْ».
    ع ١٤ ص ٢: ٤٧ و٤: ٢١
    وَأَمَّا ٱلآخَرُونَ أي المراؤون كحنانيا لا المؤمنون الحقيقيون.
    ٱلشَّعْبُ يُعَظِّمُهُمْ أي اعتبرهم وأكرمهم واعتقد أنهم عبيد الله المخلصون ورسله. فكان اعتباره إيّاهم مضاداً لميل الرؤساء الذين كانوا يكرهونهم ولكنهم غضوا النظر حينئذ عن المقاومة علانية وقتاً قصيراً.
    ١٤ «وَكَانَ مُؤْمِنُونَ يَنْضَمُّونَ لِلرَّبِّ أَكْثَرَ، جَمَاهِيرُ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاء».
    مُؤْمِنُونَ هذا الاسم الذي عُرف به رسل المسيح أولاً وذلك لأن الإيمان بأن يسوع هو المسيح جوهر معتقدهم.
    يَنْضَمُّونَ لِلرَّبِّ أي لم يلتصق بالرب سوى المؤمنين وأما المراؤون فامتنعوا خوفاً (ع ١٣). وذكر هنا إحدى طرق تعظيم الشعب إيّاهم وهو الانحياز إليهم على رغم تهديد الرؤساء ومقاومتهم. ومعنى «الرب» هنا يسوع المسيح» ومما يستحق الملاحظة هنا أن الوحي قال أنهم «انضموا للرب» لا للكنيسة لأن الانضمام لها عبث إن لم يكن أولاً للرب وسبيل ذلك الانضمام الإيمان بالمسيح وهو الذي يجعل الناس أغصاناً حية في الكرمة الحقيقية (يوحنا ١٥: ١ و٥).
    رِجَالٍ وَنِسَاءٍ عدل هنا عن بيان عددهم لكثرتهم. فذكره حين كانوا «مئة وعشرين» (ص ١: ٥٠) وحين صاروا «ثلاثة آلاف» (ص ٢: ٤١) وحين بلغوا «خمسة آلاف» (ص ٤: ٤) ولا يلزم من ذكر النساء هنا على خلاف ما ذُكر هنالك أنه لم تكن النساء بين الأولين. فالديانة المسيحية هي الديانة الوحيدة التي تطلب ترقية النساء كما تطلب ترقية الرجال وخلاصهنّ كخلاصهم.
    ١٥ «حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ ٱلْمَرْضَى خَارِجاً فِي ٱلشَّوَارِعِ وَيَضَعُونَهُمْ عَلَى فُرُشٍ وَأَسِرَّةٍ، حَتَّى إِذَا جَاءَ بُطْرُسُ يُخَيِّمُ وَلَوْ ظِلُّهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ».
    متّى ٩: ٢١ و١٤: ٣٦ وص ١٩: ١٢
    هذا متعلق بالجملة الأولى من الآية الثانية عشرة وما بينهما معترض.
    كَانُوا يَحْمِلُونَ أي الأصدقاء والأصحاب.
    ٱلشَّوَارِعِ أي أزقة أورشليم المؤدية إلى الهيكل.
    فُرُشٍ وَأَسِرَّ هذا دليل على أن المصابين الذين حُملوا كانوا مختلفي الطبقات فالفرش للأغنياء والأسرة للفقراء.
    يُخَيِّمُ وَلَوْ ظِلُّهُ يُستنتج من ذلك أن الشعب ازدحم على بطرس حتى صعب على كل أن يقترب إليه ويلتمس منه الشفاء. والكتاب لا يقول انتفعوا بذلك ولا ينفي الانتفاع به والأرجح أنهم انتفعوا لثلاثة أسباب:

    • الأول: أن فعلهم يدل على قوة إيمانهم. وهذا الشرط الجوهري لنوال الشفاء (والله قادر على أن يشفي بالوسائط وبدونها ولا فرق عنده بأن تكون الواسطة خيالاً أو لمساً أو كلاماً).
    • الثاني: أن الحادث هنا يشبه ما نُسب إلى بولس وقد حُقِّق الشفاء فيه وهو قول الكتاب «حَتَّى كَانَ يُؤْتَى عَنْ جَسَدِهِ بِمَنَادِيلَ أَوْ مَآزِرَ إِلَى ٱلْمَرْضَى، فَتَزُولُ عَنْهُمُ ٱلأَمْرَاضُ» (ص ١٩: ١٢).
    • الثالث: أنه لو كان الذي حملهم على ذلك وهماً لا يأتي بنفع لم يكن من وجه لذكر لوقا إياه. والظاهر من الآية الثانية عشر أن الشفاء من جميع الرسل على السواء ولكن الشعب نسب قوة خاصة إلى بطرس لكونه المتقدم في الكلام والعمل.


    ١٦ «وَٱجْتَمَعَ جُمْهُورُ ٱلْمُدُنِ ٱلْمُحِيطَةِ إِلَى أُورُشَلِيمَ حَامِلِينَ مَرْضَى وَمُعَذَّبِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ، وَكَانُوا يُبْرَأُونَ جَمِيعُهُمْ».
    مرقس ١٦: ١٧ و١٨ ويوحنا ١٤: ١٢
    الذين ذُكروا في ع ١٥ كانوا من مدينة أورشليم عينها وذُكر في هذه الآية ما نتج عن شيوع الخبر في البلاد المجاورة لها.
    أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ انظر شرح (متّى ٤: ٢٣ و٢٤) والنجاسة هنا أدبية. وذكر الكاتب الأمراض الجسديّة ثم الجسديّة والروحيّة.
    كَانُوا يُبْرَأُونَ جَمِيعُهُمْ عسر على الرسل قبل صعود المسيح إخراج بعض الأرواح النجسة وبعد ذلك لم يعسر عليهم شيء من الإبراء (متّى ١٧: ١٦ و١٩).

    سجن الرسل وإطلاق الملاك إيّاهم ع ١٧ إلى ع ٢٤


    ١٧ «فَقَامَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ مَعَهُ، ٱلَّذِينَ هُمْ شِيعَةُ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ، وَٱمْتَلأُوا غَيْرَةً».
    ص ٤: ١ و٢ و٦
    فَقَامَ هذا هياج ثانٍ على الرسل وهو أشد من الأول ولكن نتيجته كنتيجة الأول في تقدّم الإنجيل.
    رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ لم يتضح أحنّان المقصود هنا أم قيافا ولكن العمل مما يميل إليه كلاهما لأنهما متشابهان في الانفعالات.
    ٱلَّذِينَ مَعَهُ أي من شيعته.
    صَّدُّوقِيِّينَ انظر شرح (متّى ٣: ٧ وص ٢٣: ٨). قال يوسيفوس كانت فرقة الصدوقيين قليلة العدد وكثيرة التأثير في الناس وأكثرها من الرؤساء والأغنياء. وكان أهم المبادئ عندهم «أن لا قيامة» ولكن أعظم مبادئ الفريسيين «القيامة» فكانوا يسرون بكل ما يحط اعتبار الصدوقيين وينافي تعليمهم فلذلك قلماً اضطهدوا الرسل لأنهم كانوا ينادون بالقيامة وذلك مما يسرهم.
    غَيْرَةً لأن وعظ الرسل ينفي تعليمهم ويثبت تعليم الفريسيين ويحكم على الفريقين بقتل المسيح ولأنه خلاف أوامرهم (ص ٤: ١٨ - ٢١) وتأثير تعليم الرسل في الشعب وانتشار صيتهم بواسطة معجزاتهم هيّج حسدهم وغيرتهم.
    ١٨ «فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَى ٱلرُّسُلِ وَوَضَعُوهُمْ فِي حَبْسِ ٱلْعَامَّةِ».
    لوقا ٢١: ١٢
    عَلَى ٱلرُّسُلِ أي جميعهم.
    حَبْسِ ٱلْعَامَّةِ في أورشليم ولا ريب في أنه كان متيناً حتى يتبيّن أن لا سبيل إلى نجاتهم منه إلا بمعجزة ولا ريب في أنهم شغلوا مدة سجنهم بالصلاة.
    ١٩ «وَلٰكِنَّ مَلاَكَ ٱلرَّبِّ فِي ٱللَّيْلِ فَتَحَ أَبْوَابَ ٱلسِّجْنِ وَأَخْرَجَهُمْ وَقَالَ».
    ص ١٢: ٧ و١٦: ٢٦
    هذا أول مداخلة الله في حماية الرسل وذُكر مثل هذه المعجزة في (ص ١٢: ١٠) وحدث وقتئذ كما هنا بدون معرفة الحراس (ع ٢٣) وغاية هذه العجيبة ثلاثة أمور:

    • الأول: تبكيت للرؤساء وإظهار بطلان مقاومتهم الحق.
    • الثاني: تثبيت إيمان الرسل وتحقيق حماية الله إياهم.
    • الثالث: إقامة برهان جديد للشعب على صحة تعليم الرسل وأنهم رُسل الله لأنه عُلم يقيناً أنهم سُجنوا مساء وشوهدوا صباحاً خارج السجن بلا واسطة بشرية.


    ٢٠ «ٱذْهَبُوا قِفُوا وَكَلِّمُوا ٱلشَّعْبَ فِي ٱلْهَيْكَلِ بِجَمِيعِ كَلاَمِ هٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ».
    يوحنا ٦: ٦٨ و١٧: ٣ و١يوحنا ٥: ١١
    ٱذْهَبُوا قِفُوا لم يقل اذهبوا اختبئوا.
    فِي ٱلْهَيْكَلِ في موضع هو أنسب مواضع المدينة لإعلانهم إذ يشاهدهم فيه الجميع ويسمعونهم والأرجح أنهم تكلموا في رواق سليمان.
    كَلاَمِ هٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ أي تعاليم يسوع المسيح. وهذا على وفق قول بطرس ليسوع «يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ ٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ» (يوحنا ٦: ٦٨). والحياة المشار إليها هنا هي الحياة الأبدية المعلنة في الإنجيل وتتضمن النجاة من موت الخطيئة وجهنم ونوال القداسة والسعادة الدائمة وبداءتها معرفة الله وابنه يسوع المسيح (يوحنا ١٧: ٣). أخرجهم الله من السجن لا لمجرد وقايتهم من الخطر ولا لكي يجلسوا بطالين بل ليعرضوا أنفسهم أيضاً للأتعاب والمصائب والمخاطر والمقاومات لأجل الحق.
    ٢١ «فَلَمَّا سَمِعُوا دَخَلُوا ٱلْهَيْكَلَ نَحْوَ ٱلصُّبْحِ وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ. ثُمَّ جَاءَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ، وَدَعَوُا ٱلْمَجْمَعَ وَكُلَّ مَشْيَخَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ٱلْحَبْسِ لِيُؤْتَى بِهِمْ».
    ص ٤: ٥ و٦ وع ١٧
    لم يبالوا براحتهم وأمتهم إنما أتوا ذلك إطاعة لأمر الله بواسطة الملاك.
    نَحْوَ ٱلصُّبْحِ كما فعل المسيح (لوقا ٢٤: ١ ويوحنا ٨: ٢).
    يُعَلِّمُونَ كان الشعب مجتمعاً صباحاً للصلاة كالعادة فأمكن الرسل أن يشاهدوه ويعلّموه.
    وَٱلَّذِينَ مَعَهُ من فرقة الصدوقيين (ع ١٧).
    دَعَوُا ٱلْمَجْمَعَ أي مجمع السبعين الشرعي ليحاكموا الرسل لعصيانهم أوامره.
    كُلَّ مَشْيَخَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أي معتبري الشعب لتقدمهم في السن ولحكمتهم واختبارهم وهم ليسوا من أعضاء المجلس قانونياً بل كانوا يُدعون إلى المجلس للنظر في الأمور ذات الشأن. فينتج من ذلك أن الرؤساء استعظموا أمر الرسل وقصدوا ملاشاتهم بأحسن طريقة.
    أَرْسَلُوا إِلَى ٱلْحَبْسِ لأنهم لم يعرفوا أن الرسل كانوا في تلك الساعة يعلّمون في الهيكل.
    ٢٢، ٢٣ «٢٢ وَلٰكِنَّ ٱلْخُدَّامَ لَمَّا جَاءُوا لَمْ يَجِدُوهُمْ فِي ٱلسِّجْنِ، فَرَجَعُوا وَأَخْبَرُوا ٢٣ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا ٱلْحَبْسَ مُغْلَقاً بِكُلِّ حِرْصٍ، وَٱلْحُرَّاسَ وَاقِفِينَ خَارِجاً أَمَامَ ٱلأَبْوَابِ، وَلٰكِنْ لَمَّا فَتَحْنَا لَمْ نَجِدْ فِي ٱلدَّاخِلِ أَحَداً».
    ص ٤: ١
    ٱلْخُدَّامَ أي جند الهيكل (ص ٤: ١ ولوقا ٢٢: ٥٢). والأرجح أنهم هم الذين ذهبوا أمس بالرسل إلى السجن بأمر الرؤساء.
    وَجَدْنَا ٱلْحَبْسَ مُغْلَقاً يلزم من هذا أن الملاك أغلق أبواب السجن بعد أن فتحها وأطلق الرسل (ع ١٩). ووجود الأبواب المغلقة والأقفال صحيحة وعدم معرفة الحراس بخروج الرسل واعتقادهم أن الرسل لم يزالوا في السجن أثبت أنهم لم يخرجوا بوسائط بشرية إنما خرجوا بمعجزة إلهية.

    وقوف الرسل أمام المجمع وخطابهم ع ٢٤ إلى ع ٣٢


    ٢٤ «فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْكَاهِنُ وَقَائِدُ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ وَرُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ، ٱرْتَابُوا مِنْ جِهَتِهِمْ: مَا عَسَى أَنْ يَصِيرَ هٰذَا؟».
    لوقا ٢٢: ٤ وص ٤: ١
    قَائِدُ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ انظر شرح (ص ٤: ١ ولوقا ٢٢: ٥٢).
    ٱرْتَابُوا الخ علة ارتيابهم أولاً أنهم وجدوا أن لا تأثير لسلطانهم وأوامرهم بعدما كانوا قد اختبروا فاعليتها.
    ثانياً: أنهم رأوا القصاص الذي أوقعوه على الرسل دفعته عنهم قوة سرية أعظم من قوتهم هم.
    ثالثا: أنهم تيقنوا أن التعليم الذي سعوا في إبطاله زاد وعظم بين الشعب على رغمهم.
    رابعاً: أنهم عجزوا عن مقاومة مساعد الرسل غير المنظور. والحق أنه لم يكن من داع لأن يرتابوا لأنه وضح أن الله كان مع الرسل وأن القوة التي كانت مع الإنجيل أعظم من التي كانت عليه أي قوتهم وتبيّن أنه لا بد من انتصار الإنجيل وانكسارهم.
    ٢٥ «ثُمَّ جَاءَ وَاحِدٌ وَأَخْبَرَهُمْ قَائِلاً: هُوَذَا ٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ وَضَعْتُمُوهُمْ فِي ٱلسِّجْنِ هُمْ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَاقِفِينَ يُعَلِّمُونَ ٱلشَّعْبَ».
    هذا أصعب ما يمكن أن يسمعوه فلو قيل أنهم هربوا واختبأوا لهان عليهم بالنسبة إلى هذا.
    ٢٦ «حِينَئِذٍ مَضَى قَائِدُ ٱلْجُنْدِ مَعَ ٱلْخُدَّامِ، فَأَحْضَرَهُمْ لاَ بِعُنْفٍ، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ ٱلشَّعْبَ لِئَلاَّ يُرْجَمُوا».
    ع ٢٤ متّى ٢١: ٢٦
    لو شاء التلاميذ الفتنة على الرؤساء لسهلت عليهم لأن الشعب مال إليهم لما فعلوا من الحسنات والمعجزات النافعة.
    لاَ بِعُنْفٍ لم يكّتفوهم أو يضربوهم أو يقسوا عليهم.
    ٢٧ «فَلَمَّا أَحْضَرُوهُمْ أَوْقَفُوهُمْ فِي ٱلْمَجْمَعِ. فَسَأَلَهُمْ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ».
    أتى الرسل طوعاً وكانوا يطيعون دائماً أوامر الرؤساء في كل ما لا يخالف أوامر الله.
    ٢٨ «أَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَصِيَّةً أَنْ لاَ تُعَلِّمُوا بِهٰذَا ٱلٱسْمِ؟ وَهَا أَنْتُمْ قَدْ مَلأْتُمْ أُورُشَلِيمَ بِتَعْلِيمِكُمْ، وَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هٰذَا ٱلإِنْسَانِ».
    ص ٤: ١٨ متّى ٢٣: ٣٥ و٢٧: ٢٥ وص ٢: ٢٣ و٣٦ و٣: ١٥ و٧: ٥٢
    لم يسألهم رئيس الكهنة لا تصريحاً ولا تلميحاً عن أمر خروجهم من السجن حذراً من إعلان المعجزة واقتصر على أن سألهم عن سبب مخالفتهم أوامر المجلس (ص ٤: ١٨).
    بِهٰذَا ٱلٱسْمِ أبى أن يقول يسوع كرهاً وازدراء.
    مَلأْتُمْ أُورُشَلِيمَ بِتَعْلِيمِكُمْ هذه شكواه الأولى عليهم وهي إقرارٌ بأمانتهم في التعليم وعظمة تأثيره في الشعب.
    تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هذه شكواه الثانية عليهم وهي أنهم يقنعون الشعب بأن الرؤساء قتلوا برياً وأنهم اعتدوا على الله وعرّضوا أنفسهم لنقمته بقتلهم المسيح. فقولهم هنا يختلف كل الاختلاف عن قولهم أمام بيلاطس «دمه علينا وعلى أولادنا» (متّى ٢٧: ٢٥). والرسل لم يبتغوا بما علمونا أن يهيجوا الشعب على الرؤساء بدليل أنهم لما خاطبوا الشعب أبانوا له أن مذنب بقتله وأما ما قالوه على الرؤساء في هذا خاطبوهم به مواجهة (ص ٢: ٣٦ و٣: ١٣ و١٤ و٤: ١٠).
    هٰذَا ٱلإِنْسَانِ أي يسوع ولم يذكره ادّعاء أنه لا يستحق أن يسمّى.
    ٢٩ «فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَٱلرُّسُلُ: يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ ٱللّٰهُ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنَّاسِ».
    ص ٤: ١٩
    أبان الرسل بجوابهم أولاً أن أمر الله فوق أمر المجلس كقول بطرس في (ص ٤: ١٩ و٢٠).
    يُطَاعَ ٱللّٰهُ أي أمره بفم يسوع ثم بفم الملاك الذي أخرجهم من السجن.
    ٱلنَّاسِ أي أنتم وإن كنتم أعضاء المجلس الكبير. وليس في ذلك إنكار لسلطان المجلس بل بيان أن سلطان الله أعظم. وهذا مبدأ الحرية المسيحية اعتمده كل شهداء الكنيسة وشهودها.
    ٣٠ «إِلٰهُ آبَائِنَا أَقَامَ يَسُوعَ ٱلَّذِي أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ».
    ص ٣: ١٣ و١٥ و٢٢: ١٤ ص ١٠: ٣٩ و١٣: ٢٩ وغلاطية ٣: ١٣ و١بطرس ٢: ٢٤
    إِلٰهُ آبَائِنَا إضافة إلى الآباء بياناً أنهم لم ينادوا بديانة جديدة تنافي الديانة القديمة لكن إله الإنجيل هو إله التوراة ودين المسيح وارث كل ما في دين الآباء والأنبياء وملوك العهد القديم.
    أَقَامَ أي أحيا بعد الموت.
    ٱلَّذِي أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ هذا قيد معين لمن أُقيم وبيان أنهم لم يرجعوا عما نسبوه إلى الرؤساء من قتل المسيح ولم يخافوا من قولهم «وَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هٰذَا ٱلإِنْسَانِ» (ع ٢٨) ونسبوا ذلك القتل إليهم لأنهم علته. ومع أن الرسل أثبتوا على رؤساء اليهود أنهم قتلوا المسيح بشروهم في الآية التالية بالرحمة والغفران.
    مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ بتسليمكم إيّاه إلى بيلاطس ليصلبه. وتسمية الصليب «بالخشبة» مبنية على ما في (تثنية ٢١: ٢٣) وسماه بذلك بطرس في خطابه لكرنيليوس (ص ١٠: ٣٩) وبولس في (غلاطية ٣: ١٣).
    ٣١ «هٰذَا رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ بِيَمِينِهِ رَئِيساً وَمُخَلِّصاً، لِيُعْطِيَ إِسْرَائِيلَ ٱلتَّوْبَةَ وَغُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا».
    ص ٢: ٣٣ و٣٦ وفيلبي ٢: ٩ وعبرانيين ٢: ١٠ و١٢: ٢ ص ٣: ١٥ متّى ١: ٢١ لوقا ٢٤: ٤٧ وص ٣: ٢٦ و١٣: ٣٨ وأفسس ١: ٧ وكولوسي ١: ١٤
    رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ انظر شرح (ص ٢: ٣٣) هذا عكس ما فعله الرؤساء فإنهم أهانوه إلى الغاية والله أكرمه كل الإكرام لا لتبرئته وتمجيده فقط بل ليقدره فوق ذلك على إجراء عمل الفداء.
    بِيَمِينِهِ أي بقوته ويحتمل الأصل «إلى يمنيه» فيكون المعنى محل الشرف والسلطان.
    رَئِيساً انظر شرح (ص ٣: ١٥) والمراد أنه جعله ملكاً لمملكته الروحية وهي كنيسته في الأرض والسماء. ويلزم من كونه كذلك أنه قادر وغنيٌ فتجب الطاعة له والثقة بأنه يستطيع أن يهب التوبة والمغفرة.
    مُخَلِّصاً من الخطيئة وعاقبتها (متّى ١: ٢١) فيستحق أن يتكل عليه من يرغب في النجاة من الإثم. وما نسبه الرسل هنا إلى يسوع من الرئاسة والتخليص صفتان مختصتان بالمسيح الموعود به وبرهان على أن يسوع هو بعينه. والكلام هنا على شيء مضى لا على أمرٍ في المستقبل.
    لِيُعْطِيَ إِسْرَائِيلَ ٱلتَّوْبَةَ معنى «إسرائيل» هنا أولاده أي اليهود. ونعمة التوبة التي وهبها الله للإسرائيليين وهبها للأمم أيضاً لكنه خصّ إسرائيل بالذكر لأن الإنجيل عُرض أولاً عليهم ولأن المخاطبين هنا يهود. وهذه النعمة من النعم التي يهبها المسيح بعد ارتفاعه. وكانت المناداة بالتوبة من تعاليم يوحنا المعمدان (متّى ٣: ٢) وتعاليم المسيح ورسله قبل الصلب ولكن بعد صعود المسيح وحلول الروح القدس أُعلنت المغفرة للتائبين أوضح إعلان ومُنحت النعمة للتوبة بوفرة.
    وَغُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا غاية الإنجيل بيان العلاقة بين التوبة والمغفرة وكلاهما برهان على إتمام عمل الفداء ويوضح ذلك ثلاثة أمور:

    • الأول: أنه يلزم من ذلك أن الله قبل موت المسيح على الصليب كفارة كافية ففتح باب المغفرة للتائبين.
    • الثاني: أنه يلزم منه أن المسيح أخذ كل سلطان في السماء والأرض لأن مغفرة الخطايا مما يختص بالله ونوالها من خواص الناس.
    • الثالث: أن منح التوبة والمغفرة يدل على أن الروح القدس قد أُعطي وهذا من نتائج إتمام عمل الفداء.


    وكون المسيح يهب المغفرة التي يختص منحها بالله دليل على أنه الله (مزمور ١٣٠: ٤ وإشعياء ٤٣: ٢٥ ودانيال ٩: ٩).
    ٣٢ «وَنَحْنُ شُهُودٌ لَهُ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَيْضاً، ٱلَّذِي أَعْطَاهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُطِيعُونَه».
    يوحنا ١٥: ٢٦ و٢٧ ص ٢: ٤ و١٠: ٤٤
    وَنَحْنُ شُهُودٌ لَهُ عيننا الله للشهادة ولذلك لا نستطيع أن نسكت (ص ١: ٨ و٢١ و٢٢ و٢: ٣٢ و٣: ١٥ و٤: ٢٠ ولوقا ٢٤: ٤٨).
    بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ وهي قيامته بعد موته على الصليب وصعوده إلى السماء وارتفاعه إلى يمين الله والمناداة بالخلاص وشروطه.
    وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَيْضاً وهذا الشاهد أصدق من كل البشر لأنه الله وأعلن شهادته يوم الخمسين بآيات ظاهرة من الألسن النارية والتكلم بلغات مختلفة وصوت كهبوب ريح عاصفة (ص ٢: ١ - ٤) وأعلنها أيضاً بتأثيره في قلوب الناس بأن قادهم إلى التوبة والإيمان (ص ٢: ٤١ و٤: ٤ و٥: ١٤) وبالمعجزات التي أجراها على أيدي الرسل وهو فوق ذلك يشهد في قلوب المؤمنين (رومية ٨: ١٦ وغلاطية ٤: ٦ و١يوحنا ٣: ٢٤). وذلك كله دليل قاطع على أن المسيح غلب الموت وصعد إلى السماء وأرسل الروح القدس كما وعد.
    لِلَّذِينَ يُطِيعُونَه بقبول شهادته أن يسوع هو المسيح وهذا يستلزم أن أولئك الصدوقيين المتكبرين القساة يمكنهم أن ينالوا البركات المذكورة إذا شاءوا.

    نجاة الرسل بواسطة مشورة غمالائيل ع ٣٣ إلى ع ٤٢


    ٣٣ «فَلَمَّا سَمِعُوا حَنِقُوا، وَجَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ».
    ص ٢: ٣٧ و٧: ٥٤
    فَلَمَّا سَمِعُوا أي الصدوقيون كلام الرسل في تكرار الحكم عليهم بأنهم قتلة المسيح وفي بيان على أنهم لم يسكتوا على وفق أمرهم والوعظ بيسوع أمامهم.
    حَنِقُوا اغتاظوا غيظاً شديداً وعلة غيظهم تطاول أولئك الصيادين عليهم وهم في المحاكمة متهمين بأن نسبوا إلى الرؤساء أفظع الآثام. وكان حنق الصدوقيين أعظم لأن تعليم الرسل سند اعتقاد الفريسيين القيامة.
    يَتَشَاوَرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ عزموا على ذلك في قلوبهم بلا حكم مجلسي وأظهروا ذلك بالإمارات والأقوال وكان موضوع تشاورهم كيفية قتل الرسل.
    وعلى ما ذُكر يتبين أن الكنيسة المسيحية الصغيرة كانت يومئذ في شديد الخطر لأن كل مدبريها كانوا بين أيدي أرباب المجلس الذين امتلأت قلوبهم حنقاً عليهم وعزموا على قتلهم والذي منعهم من ذلك أمر أعجب من إطلاق الملاك إيّاهم من السجن وهو محاماة غمالائيل عنهم.
    ٣٤ «فَقَامَ فِي ٱلْمَجْمَعِ رَجُلٌ فَرِّيسِيٌّ ٱسْمُهُ غَمَالاَئِيلُ، مُعَلِّمٌ لِلنَّامُوسِ، مُكَرَّمٌ عِنْدَ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ ٱلرُّسُلُ قَلِيلاً».
    ص ٢٢: ٣
    فَقَامَ كعادتهم في الخطاب المجلسي.
    فِي ٱلْمَجْمَعِ أي مجلس السبعين.
    فَرِّيسِيٌّ انظر شرح (متّى ٢: ٧) وهو من فرقة تعتقد القيامة التي ينكرها الصدوقيون.
    غَمَالاَئِيلُ اسم شائع بين اليهود. الظاهر أن هذا الرئيس كان مائلاً إلى الحرية الدينية أكثر من سائر أعضاء المجلس وأنه كان أحلم منهم يحب العدل والإنصاف لكن لا دليل على أنه تنصر بعد ذلك. وقيل أنه حفيد الرباني المشهور المسمّى هليل وأن خليفة هليل ابنه سمعان أبو غمالائيل وظن البعض أن سمعان هذا هو الشيخ الذي حمل المسيح على ذراعيه في الهيكل (لوقا ٢: ٣٢) ولكن ليس من دليل قاطع على صحة ذلك. والأرجح أن غمالائيل أحد مشاهير اليهود السبعة في تواريخهم. ولا بد من أنه سمع مشورة نيقوديموس في المجلس من جهة يسوع (يوحنا ٧: ٥٠ و٥١) ولعله كان كنيقوديموس ويوسف الرامي في أنهما لم يكونا موافقين لرأي الرؤساء وعملهم في قتل المسيح (لوقا ٢٣: ٥١).
    مُعَلِّمٌ لِلنَّامُوسِ أي توراة موسى (متّى ١٥: ٣) وهو من الكتبة الذين يكتبون الكتاب ويفسرونه ويشرحون التقاليد ولشهرة هذا المعلم قصده شاول (أي بولس) من طرسوس ليأخذ العلم عنه (ص ٢٢: ٣).
    مُكَرَّمٌ لعلمه وحكمته وتقواه وعلى ذلك يكون رأيه عندهم معتمداً.
    أَنْ يُخْرَجَ ٱلرُّسُلُ كعادة المجالس عند المذاكرة (ص ٤: ١٥) لكي لا يسمع المشكو عليهم ما يتكلمون. ولعل غمالائيل أمر حينئذ بإخراجهم لمعرفته أن وجودهم في المجلس يهيج حنق الصدوقيين فلا يستطيعون أن يسمعوا مشورته ويتدبروها ولكي لا يطمع الرسل في معصية المجلس بناء على محاماته عنهم.
    ٣٥ «ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ، ٱحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ جِهَةِ هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسِ فِي مَا أَنْتُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ تَفْعَلُوا».
    ٱحْتَرِزُوا لا تفعلوا شيئاً بالغيظ خوفاً من الجور على الناس ومن غضب الله عليكم.
    فِي مَا أَنْتُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ تَفْعَلُوا أي في الحكم عليهم بالموت والتشاور في الوسائل إلى ذلك. واستنتج أن ذلك مقصودهم من إمارات وجوههم ومن أقوالهم.
    ٣٦ «لأَنَّهُ قَبْلَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ قَامَ ثُودَاسُ قَائِلاً عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ شَيْءٌ، ٱلَّذِي ٱلْتَصَقَ بِهِ عَدَدٌ مِنَ ٱلرِّجَالِ نَحْوُ أَرْبَعِمِئَةٍ، ٱلَّذِي قُتِلَ، وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ ٱنْقَادُوا إِلَيْهِ تَبَدَّدُوا وَصَارُوا لاَ شَيْءَ».
    غاية غمالائيل أن يردهم عن عزمهم على قتل الرسل (ع ٣٨) وأورد لهم مثلين في (ع ٣٧ و٣٨) بياناً أنه إن كان الرسل خادعين تلاشت قوتهم بعد قليل ولم يبق لهم من أثر وإن كانوا صادقين فالمقاومة لهم عبث وأثم.
    قَبْلَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ المدة غير معينة.
    قَامَ أي للثورة والعصيان.
    ثُودَاسُ اسم شائع بين اليهود لم يُذكر في غير هذا الموضع ولكن ذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي إنساناً آخر بهذا الاسم عصى الدولة الرومانية لكنه كان بعد خمس عشرة سنة من تلك المحاكمة وتبعه ألوف لكن هذا لم يتبعه سوى أربع مئة.
    قَائِلاً عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ شَيْءٌ لعله ادعى أنه نبي أو أنه المسيح المنتظر لأن الذين ادعوا ذلك في تلك الأيام كانوا كثيرين.
    ٱلْتَصَقَ بِهِ أي آمن به واتّبعه.
    صَارُوا لاَ شَيْءَ فمع أن ذلك الرجل نجح في أول أمره كانت عاقبته الهوان والانكسار والموت. وغاية غمالائيل من هذه القصة التلميح إلى أنه تكون آخرة الرسل كآخرة ثوداس.
    ٣٧ «بَعْدَ هٰذَا قَامَ يَهُوذَا ٱلْجَلِيلِيُّ فِي أَيَّامِ ٱلٱكْتِتَابِ، وَأَزَاغَ وَرَاءَهُ شَعْباً غَفِيراً. فَذَاكَ أَيْضاً هَلَكَ، وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ ٱنْقَادُوا إِلَيْهِ تَشَتَّتُوا».
    لوقا ٢: ١
    ذكر يوسيفوس ثلاثة رجال اسم كل منهم يهوذا أثاروا الفتن مدة أربع سنين فخص بالذكر واحداً منهم وعيّنه بأنه جليلي كما في هذا الخطاب إلا أنه قال وُلد في جمالة وسكن في الجليل. فالأرجح أن هذا هو الذي ذكره غمالائيل.
    أَيَّامِ ٱلٱكْتِتَابِ هذا ليس الاكتتاب الذي ذُكر في (لوقا ٢: ١) لأن ذلك كان عند ميلاد المسيح وأما هذا فبعده بنحو ست سنين أو سبع وفيه أمر أوغسطس قيصر أمبراطور الرومانيين بأخذ الجزية من كل اليهود فقاوم يهوذا ذلك وهيّج الشعب للمقاومة على أن تأدية الجزية لملك أرضي نفي معاهدتهم لله اللمك السماوي (متّى ٢٢: ١٧). قال يوسيفوس أن الثورة عُظمت يومئذ فأزالها الرومانيون بالقوة وقتلوا كثيرين من العصاة في الحرب وصلبوا كثيرين من الأسرى بعد ذلك. وغاية غمالائيل من هذا الخبر كغايته من الخبر الذي قبله.
    ٣٨ «وَٱلآنَ أَقُولُ لَكُمْ: تَنَحَّوْا عَنْ هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسِ وَٱتْرُكُوهُمْ! لأَنَّهُ إِنْ كَانَ هٰذَا ٱلرَّأْيُ أَوْ هٰذَا ٱلْعَمَلُ مِنَ ٱلنَّاسِ فَسَوْفَ يَنْتَقِضُ».
    إشعياء ٨: ١٠ ومتّى ١٥: ١٣
    تَنَحَّوْا عَنْ هٰؤُلاَءِ أي دعوهم وشأنهم ولا تقاوموهم لأن مقاومتهم إما لا داعي إليها وإما لا نفع منها. علم غمالائيل لنباهته أن المقاومة كثيراً ما تعظم الأمور الزهيدة الخلافية وأن تركها يؤول إلى فتور المقاومين وتوانيهم وإما إتيانها فيهيّج الغيرة والتعصب.
    هٰذَا ٱلرَّأْيُ أي قصد الرسل أن يخدعوا ويكذبوا بأن يسوع قام من الأموات وأنه المسيح.
    هٰذَا ٱلْعَمَلُ الذي أتاه الرسل ليثبتوا رأيهم.
    مِنَ ٱلنَّاسِ دون الله.
    يَنْتَقِضُ أي يبطل بدون اجتهادكم كما يتضح من المثالين اللذين أوردتهما لكم.
    ٣٩ «وَإِنْ كَانَ مِنَ ٱللّٰهِ فَلاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْقُضُوهُ، لِئَلاَّ تُوجَدُوا مُحَارِبِينَ لِلّٰهِ أَيْضاً».
    أمثال ٢١: ٣٠ ولوقا ٢١: ١٥ و١كورنثوس ١: ٢٥ ص ٧: ٥١ و٩: ٥ و٢٣: ٩
    وَإِنْ كَانَ مِنَ ٱللّٰهِ أي إن كان الله منشئه.
    فَلاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْقُضُوهُ لأن الله غير متغير في رأيه وقادر على عمله. وقد ثبت بمقتضى هذا القانون الذي ذكره غمالائيل صحة الدين المسيحي لأن الناس استفرغوا المجهود في أن يلاشوه بهزئهم والسجون والسيف ولم يستطيعوا ملاشاته.
    تُوجَدُوا مُحَارِبِينَ لِلّٰهِ بمقاومتكم الرسل الذين أرسلهم وتكون تلك المقاومة إثماً وعبثاً وعلى الفرضين يجب ترك المقاومة.
    ومن العجب أن يكون هذا الإنسان مثل تلك الحكمة لتقديم مثل هذا النصح. ذهب بعضهم إلى أنه كان مسيحياً في القلب ولكن لا دليل على ذلك. والظاهر أنه إنسان نبيه يحب العدل والإنصاف استخدمه الله ليجري مقاصده ويحمي كنيسته من الإبادة ولكنه لم يتكلم بالوحي وكلامه ليس بقانون ديني لأنه ليس بقاعدة مطردة أن الضلالة لا تنجح لأنه قد نجحت أحياناً نجاحاً عظيماً ولكن لا بد للحق أخيراً من أن يغلب الباطل فلا يجوز لنا أن نجعل نجاح ديانة من الديانات دليلاً على صحتها وعدم نجاحها في الحال دليلاً على بطلانها. وإذا اعتقدنا بطلان أحد التعاليم وجب أن لا نتنحى عنه كل التنحي لكي يتلاشى من نفسه بل أن نبطله بالوسائط الأدبية لا بالوسائط السياسية. فقانون غمالائيل لم يستوف كل واجبات أعضاء المجلس لأنه كان يجب عليهم باعتبار أنهم رؤساء الشعب في الدين أن يبحثوا عن صحة دعوى الرسل ويسلموا بها بعد الإثبات لوفرة الوسائل إلى ذلك.
    ٤٠ «فَٱنْقَادُوا إِلَيْهِ. وَدَعَوْا ٱلرُّسُلَ وَجَلَدُوهُمْ، وَأَوْصَوْهُمْ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمُوا بِٱسْمِ يَسُوعَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ».
    تثنية ٢٥: ٢ ومتّى ١٠: ١٧ و٢٣: ٣٤ ومرقس ١٣: ٩ ص ٤: ١٨
    فَٱنْقَادُوا إِلَيْهِ لما ظهر لهم من الحكمة في نصحه ولاعتبارهم إيّاه فعدلوا عن قصدهم قتل الرسل لكنهم لم ينقادوا إلى تركهم أبداً.
    وَجَلَدُوهُمْ أربعين جلدة إلا جلدة كما جُلد بولس خمس مرات (٢كورنثوس ١١: ٢٤). وهذا إتمام لنبوءة يسوع (متّى ١٠: ١٧) وعلّة جلدهم إياهم خوفهم من سقوط اعتبارهم عند الشعب إذا صرفوهم بلا قصاص والأرجح أنهم أتوا ذلك أيضاً ليشفوا شيئاً من غيظهم. ولعلهم ظنوا أن الرسل يخجلون من الشعب لجلدهم علناً فيكفوا عن التعليم حياء. ولأن ذلك كان عندهم عاراً شديداً نهى الرومانيون عن جلد إنسان روماني.
    وَأَوْصَوْهُمْ الخ كما غفلوا سابقاً مرتين بلا فائدة (ص ٤: ٨ و٥: ٢٨).
    ٤١ «وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ ٱلْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ».
    متّى ٥: ١٢ ورومية ٥: ٣ و٢كورنثوس ١٢: ١٠ وفيلبي ١: ٢٩ وعبرانيين ١٠: ٣٤ ويعقوب ١: ٢ و١بطرس ٤: ١٣ و١٦
    فَرِحِينَ لا خجلين كما توقّع المجلس أن يكون ولم تكن علة فرحهم ألم الضرب والإهانة بالضرورة بل خمسة أمور:

    • الأول: أنهم قاسوا ذلك وهو يجرون إرادة الرب.
    • الثاني: أنهم ماثلوا به سيدهم الذي تألم بمثله لأجلهم (قابل هذا بما في ٣: ١٠ وكولوسي ١: ٢٤ و١بطرس ٤: ١٣).
    • الثالث: أنهم اتخذوا ما أصابهم دليلاً على أنهم أصدقاء المسيح وتابعوه على وفق قول بولس في نفسه «إَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ» (غلاطية ٦: ١٧) وعلى وفق أنباء سيدهم بأنهم يُضطهدون من أجل اسمه (متّى ١٠: ١٧ و٢٢ انظر أيضاً ٢كورنثوس ١٢: ١٠ وفيلبي ١: ٢٩ ويعقوب ١: ٢).
    • الرابع: معرفتهم أن احتمالهم الاضطهاد من جملة الوسائل إلى انتشار الإنجيل.
    • الخامس: معرفتهم أنه أُعد لهم إكليل المجد إثابة لهم على شدائدهم وعلى هذا امتثلوا لأمر المسيح وهو قوله «اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١٢).


    لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أي عدّهم الله أهلاً لينوبوا عن المسيح في احتمال الشدائد كما عدهم أهلاً للنيابة عنه في التعليم فكانوا شهوداً بالحق كما كانوا شهداء فيه. وكذلك رؤساء اليهود حسبوهم نواباً عن المسيح فعاملوهم معاملتهم إيّاه.
    أَنْ يُهَانُوا بالجلد. كان قصد الرؤساء إهانتهم بذلك وكذا اعتبره العامة وأما الرسل فاعتبروه شرفاً لما ذُكر في نهاية الآية.
    مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ اضطهد الرسل أعداؤهم لاعترافهم باسم يسوع وأما هم ففرحوا بما أُهينوا لأن ذلك الاسم تمجّد باحتمالهم الإهانة بالصبر. وما برح أهل العالم من ذلك الوقت إلى هذه الساعة يضطهدون الذين تسموا باسم المسيح فإنهم سجنوهم وجلدوهم واتهموهم بأفظع الجنايات وسلبوا أموالهم وعذبوهم وقتلوهم بالإحراق والسيف والصلب. وما برح المسيحيون من ذلك العهد إلى الآن يفرحون بالنوازل والأرزاء حباً لذلك الاسم المحبوب ويوقنون أنهم يُثابون قولاً وفعلاً (متّى ١٠: ٢٥ ويوحنا ١٥: ١٨ - ٢٠).
    ٤٢ «وَكَانُوا لاَ يَزَالُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَفِي ٱلْبُيُوتِ مُعَلِّمِينَ وَمُبَشِّرِينَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
    ص ٢: ٤٦ و٤: ٢٠ و٢٩
    لاَ يَزَالُونَ لم يمكن تهديد الرؤساء أن يمنع الرسل من التكلم علانية بالإنجيل ولا ما لاقوا منهم من الاضطهاد.
    كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ انظر شرح (ص ٢: ٤٦).
    وَفِي ٱلْبُيُوتِ (٢تيموثاوس ٤: ٢). الوعظ على المنابر بفصاحة ليس كل ما يجب على الرعاة فعليهم أيضاً أن يزوروا الناس ويعلموهم في البيوت ويخاطبوا المرضى في مضاجعهم ويرشدوا الأولاد.
    مُبَشِّرِينَ هذه أول مرة لورود التبشير في سفر الأعمال بمعنى الوعظ ويسمى أيضاً «كرازة» (ص ٨: ٥ و١٠: ٣٧) و «مناداة» (ص ٤: ٢ و١٧: ١٨) و «تعليماً» (ص ٢: ٤٢ و٤: ٢ و١٨) و «شهادة» (ص ٤: ٣٣ و٢٣: ١١).


    الأصحاح السادس


    تعيين الشمامسة وعلته ع ١ إلى ٨


    ١ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ إِذْ تَكَاثَرَ ٱلتَّلاَمِيذُ، حَدَثَ تَذَمُّرٌ مِنَ ٱلْيُونَانِيِّينَ عَلَى ٱلْعِبْرَانِيِّينَ أَنَّ أَرَامِلَهُمْ كُنَّ يُغْفَلُ عَنْهُنَّ فِي ٱلْخِدْمَةِ ٱلْيَوْمِيَّةِ».
    ص ٢: ٤١ و٤: ٤ و٥: ١٤ وع ٧ ص ٩: ٢٩ و١١: ٢٠ ص ٤: ٣٥
    فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ لا دليل على طول المدة بين حوادث هذا الأصحاح وحوادث الأصحاح الذي قبله ولعله كان قد مر على الكنيسة ما بين ثلاث سنين وسبع سنين وهو تنمو وتزيد على رغم المضطهدين.
    تَكَاثَرَ ٱلتَّلاَمِيذُ عدل لوقا عن تعيين عدد أعضاء الكنيسة منذ بلغوا خمسة آلاف (ص ٥: ١٤). وكانت كثرتهم علة التعسر على الرسل أن يتمموا كل الواجبات الزمنية والروحية للكنيسة حتى لا يُهمل واحدة منها.
    حَدَثَ تَذَمُّرٌ أي أُظهر الغضب واللوم. أنه كان للتلاميذ في أول عهد الكنيسة «قلب واحد ونفس واحدة» (ص ٤: ٣٣) واستطاع الرسل أن يوزعوا على فقرائهم عطايا الأغنياء حتى لا يُترك أحد منهم في حاجة (ص ٤: ٣٤) ولكن بعدما كبرت الكنيسة لم يقدر الرسل أن يلتفتوا إلى كل فرد من المحتاجين. ولعله حدث ما يحمل على التذمر وربما تذمر البعض لسبب غير كاف لأن الشيطان مستعد أن يهيج الحسد والطمع في قلوبهم.
    مِنَ ٱلْيُونَانِيِّينَ عَلَى ٱلْعِبْرَانِيِّينَ وكلاهما من أعضاء الكنيسة ومن اليهود أصلاً ولكن اليونانيين امتازوا عن العبرانيين بسكنهم في غير اليهودية أي في البلاد الوثنية واتخذوا اللغة اليونانية بمنزلة العبرانية. وسُمي هؤلاء وأمثالهم «شتاتاً» (انظر شرح يوحنا ٧: ٣٥ وانظر يعقوب ١: ١ و١بطرس ١: ١). وأما العبرانيون فكانوا يسكنون اليهودية وبقوا على لغتهم الآرامية وهي العبرانية الممزوجة بالكلدانية. فاليهود العبرانيون اعتبروا أنفسهم أقدس من اليونانيين لأنهم بقوا في أرض الآباء والأنبياء وهي أرض الميعاد حيث الهيكل وممارسة كل الشعائر الدينية وأنهم تكلموا باللغة المقدسة. فالنصرانية لم تُزل كل أسباب الخلاف بينهم فلم يزل بين الفريقين الظنون والريب.
    أَرَامِلَهُمْ كُنَّ يُغْفَلُ عَنْهُنَّ في توزيع إحسان الكنيسة الذي كان يُوزع على المحتاجين كل يوم (ص ٤: ٣٥) وكانت الكنيسة أكثر ما تعتني بالأرامل وكذا يجب (١تيموثاوس ٥: ٣ و٩ و١٠ و١٦ ويعقوب ١: ٢٧) ولا يلزم من ذلك أن التوزيع كان مقصوراً على الأرامل لكن لم ينشأ تذمر إلا من جهتين وكان موزعو الإحسان الرسل وهم عبرانيون (ص ٤: ٣٥) ولعلهم وكلوا ذلك إلى بعض أخصائهم والأرجح أنهم كانوا عبرانيين أيضاً. ولم يتضح من سياق الكلام هل كان لذلك التذمر من علة كافية أو لا. ومما لا ريب فيه أنه إن كان قد غُفل عن أولئك الأرامل فذلك ليس عن عمد بل عن سهو وقع لمقتضيات الأحوال ومنها كثرة المحتاجين وقلة الموزعين. ويحتمل أن الأرامل اليونانيات لم يكن معروفاً أنهن محتاجات لكونهنّ غريبات في اليهودية. وهذا خطر ثالث وقعت فيه الكنيسة في طفوليتها فكانت عرضة للانشقاق من الحسد بين الأعضاء المختلفي الجنس. وأنقذها الرسل بالحكمة والتدبير. وكان الخطر الأول من الاضطهاد من خارج ونجت الكنيسة منه بشجاعة الرسل وعناية الله ونصيحة غمالائيل. والثاني من دخول المرائين الطمعين في الكنيسة وهذا نجت منه بعقاب حنانيا وسفيرة.
    ٢ «فَدَعَا ٱلٱثْنَا عَشَرَ جُمْهُورَ ٱلتَّلاَمِيذِ وَقَالُوا: لاَ يُرْضِي أَنْ نَتْرُكَ نَحْنُ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ وَنَخْدِمَ مَوَائِدَ».
    لم يظهر أن الرسل استاءوا من تلك التهمة ولا أنهم اعتذروا إنما اقتدوا بموسى في تدبيره (خروج ١٨: ٢٥) فإنهم وكلوا إلى غيرهم بعض سلطانهم فخففوا عنهم العناء ودفعوا الظنون وأحسنوا العناية بالمحتاجين وأنقذوا الكنيسة من خطر الانشقاق.
    جُمْهُورَ ٱلتَّلاَمِيذِ أي أعضاء الكنيسة. ولا يلزم من ذلك أنهم جمعوا كل أفراد المؤمنين الذين بلغ عددهم ألوفاً يومئذ لكنهم جمعوا كثيرين ممن تهمهم تلك المسئلة.
    لاَ يُرْضِي أي لا يحسن عند العقلاء.
    نَحْنُ أي الرسل.
    كَلِمَةَ ٱللّٰهِ أي التبشير.
    وَنَخْدِمَ مَوَائِدَ أي نوزع الإحسان على فقراء الكنيسة. «فخدمة الموائد» كناية عن ذلك إما لاستعمال الصيارفة إياها لوضع النقود عليها (متّى ٢١: ١٢ ويوحنا ٢: ١٥) وإما لاتخاذها موضعاً للطعام والشراب (متّى ١٥: ٢٨ ولوقا ٢٢: ٢١) ويتضح مما ذُكر أربعة أمور:

    • الأول: أن المسيح لم يرتب نظاماً للكنيسة وكذلك الرسل في أول الأمر فتركوا ذلك لتنتظم حسب مقتضيات الحال بإرشاد الروح القدس. وكان في هذا الأمر فرق عظيم بين الكنيسة اليهودية في أول عهدها والكنيسة المسيحية فإن نظام تلك رتبه الله وأعلنه للشعب على يد موسى وكان واسعاً مدققاً.
    • الثاني: أنه على الكنيسة أمران التعليم الديني والاعتناء بالفقراء وكل الأديان توجب الأول ولا يهتم بالثاني كما ينبغي سوى الدين المسيحي. فالكنيسة المسيحية علاوة على اجتهادها في التعليم تعتني كل الاعتناء بالفقراء فكم شادت من المستشفيات والمارستانات والملاجئ والمتصدقات.
    • الثالث: أنه لا يستطيع أرباب رتبة واحدة من خدم الكنيسة القيام بالحاجات الروحية والجسدية فإن اعتنت الاعتناء الواجب بالتبشير لزم أن تعمل الاعتناء بتوزيع الإحسان وإن اعتنت كما يجب بالصدقات قصرت عن الواجبات الروحية.
    • الرابع: أن الاعتناء بنفوس الناس مقدم على الاعتناء بأجسادهم فيجب على خدم الدين أن يبذلوا الجهد في الأول أكثر مما يبذلونه في الثاني فعلى راعي الكنيسة أن لا يرتبك بالجسديات وعلى الكنيسة أن لا تكلفه بها بل تمهد السبيل إلى ذلك بوسيلة أخرى.


    ٣ «فَٱنْتَخِبُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ سَبْعَةَ رِجَالٍ مِنْكُمْ، مَشْهُوداً لَهُمْ وَمَمْلُوِّينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَحِكْمَةٍ، فَنُقِيمَهُمْ عَلَى هٰذِهِ ٱلْحَاجَةِ».
    تثنية ١: ١٣ وص ١: ٢١ و١٦: ٢ و١تيموثاوس ٣: ٧
    ٱنْتَخِبُوا أي أنتم. وأمروا الشعب بذلك لأمرين:
    الأول: أن توزيع الإحسان مما يهمه فقط فلاق أن يعيّن هو الموزعين الذين يريدهم ولكن الرسل أبانوا الصفات الواجبة على الموزعين ورسموهم.
    الثاني: تسكيت المتذمرين لأنهم إذا كانوا هم المنتخبين رضوا بتصرف المنتخبين بخلاف ما لو انتخبهم الرسل ولا يبقى بعد ذلك من داع للظنون والتذمر على الرسل.
    سَبْعَةَ رِجَالٍ هذا عدد كاف للخدمة المطلوبة ولو زادوا على ذلك لوقع الارتباك. ومن المعلوم أن عدد السبعة من الأعداد المقدسة عند اليهود لكن لا دليل على أنهم اقتنعوا إلى ذلك هنا.
    مِنْكُمْ أي الحزبين اليونانيين والعبرانيين.
    مَشْهُوداً لَهُمْ بالاستقامة فيجب على كل صاحب رتبة أن يكون حسن الصيت كما هو حسن الصفات.
    مَمْلُوِّينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وعلامة ذلك تقواهم وسيرتهم المقدسة لا فعل المعجزات.
    وَحِكْمَةٍ في تدبير الأمور العالمية فالتقوى بلا حكمة لا تكفي أمين صندوق الحسنات. وصفات هؤلاء الخدم فُصلت في (١تيموثاوس ٣: ٨ - ١٠).
    فَنُقِيمَهُمْ بوضع الأيادي والصلاة (ع ٦) وبهذا يحصلون على اعتبار الشعب وعلى سلطان من الرسل.
    هٰذِهِ ٱلْحَاجَةِ أي توزيع الإحسان على الأرامل وسائر المحتاجين فلم يقيموهم للتبشير. فإذاً لم يكونوا من رتبة الإكليروس التي هي دون رتبة الرسل. ولأن الحاجة التي عيّنوا لها دائمة في الكنيسة دامت رتبتهم أيضاً.
    ٤ «وَأَمَّا نَحْنُ فَنُواظِبُ عَلَى ٱلصَّلاَةِ وَخِدْمَةِ ٱلْكَلِمَةِ».
    ص ٢: ٤٢
    هذان الأمران هما الضروريان في الأعمال الرسولية فلم يرد الرسل أن يعيقهم عنهما الأمور الجسدية.
    ٱلصَّلاَةِ نستنتج بدلالة القرينة أن المقصود «بالصلاة» هنا الصلاة الجمهورية وهذا لا يمنع من الحكم بأن الرسل واظبوا على الصلاة الانفرادية لأن ذلك مما لا يستغني المسيحي عنه.
    وَخِدْمَةِ ٱلْكَلِمَةِ أي التبشير بالإنجيل لأنه الواسطة التي عيّنها الله لإرشاد الناس إلى طريق الخلاص وتقديس نفوسهم. وشرط التبشير الصحيح أن يكون المبشر به كلمة الله وأن يكون المبشرون أناساً مختبرين قوتها. ولا فعل للتبشير إلا بقوة الروح القدس وتلك تُنال بواسطة الصلاة فلذلك ذُكر الأمران معاً فلا تكفي الصلاة بدون التبشير ولا التبشير بدون الصلاة.
    ٥ «فَحَسُنَ هٰذَا ٱلْقَوْلُ أَمَامَ كُلِّ ٱلْجُمْهُورِ، فَٱخْتَارُوا ٱسْتِفَانُوسَ، رَجُلاً مَمْلُوّاً مِنَ ٱلإِيمَانِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَفِيلُبُّسَ، وَبُرُوخُورُسَ، وَنِيكَانُورَ، وَتِيمُونَ، وَبَرْمِينَاسَ، وَنِيقُولاَوُسَ دَخِيلاً أَنْطَاكِيّاً».
    ص ١١: ٢٤ ص ٨: ٥ و٢٦ و٢١: ٨
    ٱسْتِفَانُوسَ ذُكر أول السبعة لأنه اشتهر بعد قليل بأنه أول شهداء الكنيسة المسيحية.
    رَجُلاً مَمْلُوّاً مِنَ ٱلإِيمَانِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ لا يلزم من هذا أن الستة الباقين وسائر أعضاء الكنيسة لم يكونوا كذلك لكنه امتاز على الجميع في التقوى والإيمان وتأثير الروح فيه.
    فِيلُبُّسَ وهذا اشتهر بأنه مبشر السامرة (ص ٨: ٥ - ٢٥) ومبشر خصي كنداكة ملكة الحبش وذُكر أنه كان مبشراً في قيصرية بعد خمس وعشرين سنة من ذلك وأنه كان له أربع بنات يتنبأنَ (أعمال ٢١: ٨).
    وَنِيقُولاَوُسَ دَخِيلاً أي أنه كان وثنياً أصلاً ثم هاد واختتن. واستثناؤه بذلك دون غيره يدل على أن الباقين يهود أصلاً. ولا داعي إلى ما ظنه البعض من أنه رئيس شيعة النيقولاويين المذكورة في (رؤيا ٢: ٦ و١٥). وأكثر أسماء السبعة يوناني وهذا لا يوجب قطعاً أنهم يونانيون لأنه كان لكثيرين من اليهود اسمان أحدهما يوناني والآخر عبراني والأرجح أن أكثرهم من اليهود اليونانيين لكي لا يبقى من سبيل إلى التذمر (ع ١).
    أَنْطَاكِيّاً انظر شرح (ص ١٣: ١) ولا معرفة لنا بشيء من أمور الباقين من السبعة إذ لم يُذكر بعد هذا شيء منها ولا أسماؤهم.
    ٦ «ٱلَّذِينَ أَقَامُوهُمْ أَمَامَ ٱلرُّسُلِ، فَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمِ ٱلأَيَادِيَ».
    ص ١: ٢٤ و٨: ١٧ و٩: ١٧ و١٣: ٣ و١تيموثاوس ٤: ١٤ و٥: ٢٢ و٢تيموثاوس ١: ٦
    فَصَلُّوا أي طلبوا بركة الله عليهم.
    وَوَضَعُوا عَلَيْهِمِ ٱلأَيَادِيَ ذُكر وضع اليد أولاً حين بارك يعقوب ابني يوسف (تكوين ٤٨: ١٣ - ٢٠) ثم حينما عيّن موسى يشوع خليفة له (عدد ٢٧: ١٨) وذُكر في الإنجيل عند منح الروح القدس (ص ٨: ١٧) وفي رسامة خدم الدين (ص ١٣: ٣ و١تيموثاوس ٥: ٢٢ وعبرانيين ٦: ٢) فهو مقترن بالصلاة أبداً وأتاه المصلي إشارة إلى أن البركة التي يطلبها تستقر على الذي وضع هو عليه يده فإذاً لم يقصد به أن البركة من المصلي نفسه.
    والمراد بذلك الوضع في الرسامة بيان أن الذي وُضعت الأيدي عليه أخذ سلطاناً من الواضعين على ممارسة الخدمة الدينية. والشمامسة المذكورون هنا مختارون من الشعب لكنهم أخذوا سلطان الممارسة من الرسل. وهذه الإشارة بقيت للكنيسة من أول عهدها مع المعمودية والعشاء الرباني. وهؤلاء لم يُسموا في أعمال الرسل شمامسة بل «السبعة» وإنما ذُكر اسم الشماس وصفاته وعمله وما يجب عليه في الرسائل (١تيموثاوس ٣: ٨ - ١٢ وفيلبي ١: ١).
    ٧ «وَكَانَتْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ تَنْمُو، وَعَدَدُ ٱلتَّلاَمِيذِ يَتَكَاثَرُ جِدّاً فِي أُورُشَلِيمَ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ ٱلإِيمَانَ».
    ص ١٢: ٢٤ و١٩: ٢٠ وكولوسي ١: ٦ يوحنا ١٢: ٤٢
    في هذه الآية بيان تقدم الكنيسة بعد تخلصها من خطر الانشقاق من تذمر البعض وذكر الكاتب مثل هذا التقدم على أثر تخلص الكنيسة من مخاطر أخرى (ص ٤: ٤ و٥: ١٤).
    كَلِمَةُ ٱللّٰهِ أي مناداة الرسل بيسوع المسيح وإنجيله.
    تَنْمُو أي الكنيسة بواسطة الكلمة.
    جُمْهُورٌ كَثِيرٌ كان عدد الكهنة الذين رجعوا من بابل ٤٢٨٩ ولا بد من أنهم زادوا بعد ذلك.
    مِنَ ٱلْكَهَنَةِ هذا أول ما سمعنا أن أحداً من الكهنة آمن بالمسيح وتبعه وهو برهان قاطع على انتصار الإنجيل لأن للكهنة دواعي كثيرة تحملهم على البقاء في الكنيسة اليهودية وممارسة رموزها والخضوع للرؤساء. ومن شأن منزلتهم أن تميل بهم إلى النخر والكبرياء فيكرهوا أن يسلموا بتعليم الجليليين ويقبلوا تعليم الصليب الوضيع. ولعل انشقاق حجاب الهيكل عند موت يسوع على الصليب أثر في قلوبهم فأعدهم لقبول تأثير غيره من الروحيات. وتنصّر أولئك الكهنة خسرهم مقامهم ورتبتهم وأسباب معاشهم.
    يُطِيعُونَ ٱلإِيمَانَ أي آمنوا. ومعنى «الإيمان» هنا الدين المسيحي كما في (رومية ١: ٥ و١٦: ٢٦). وسمّي الدين بالإيمان لأن من مبادئه الجوهرية الإيمان بالمسيح غير المنظور وتفضيل الأمور الروحية التي لا ترى (مرقس ١٦: ١٦ ورومية ١٠: ١٦). فإيمان الكهنة بالمسيح رفع عن هذا الاسم العار اللازم عن قول الفريسيين «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ ٱلرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟» (يوحنا ٧: ٤٨).
    ٨ «وَأَمَّا ٱسْتِفَانُوسُ فَإِذْ كَانَ مَمْلُوّاً إِيمَاناً وَقُوَّةً، كَانَ يَصْنَعُ عَجَائِبَ وَآيَاتٍ عَظِيمَةً فِي ٱلشَّعْبِ».
    موت استفانوس شهيداً بعد هذا وتأثيره العظيم حملا لوقا على ذكره وبيان أسباب قتله. وكان استفانوس ممن انتخبوا لخدمة الكنيسة في الزمنيات لكنه لم يقتصر عليها فبشّر بالكلمة.
    مَمْلُوّاً إِيمَاناً أي كثير الثقة بصدق الإنجيل وصحة دعوى يسوع أنه المسيح ابن الله وثبوت مواعيده وهذا جعله غيوراً في المناداة وشجاعاً في تعريض نفسه للخطر ووصفه الكاتب كما وصف برنابا في (ص ١١: ٢٤).
    وَقُوَّةً ظهرت في عمل المعجزات.
    كَانَ يَصْنَعُ عَجَائِبَ الخ لم يقصر الله نعمته على الرسل ليبشّروا ويفعلوا الآيات.

    مقاومة اليهود لاستفانوس ع ٩ إلى ١٥


    ٩ «فَنَهَضَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ مَجْمَعُ ٱللِّيبَرْتِينِيِّينَ وَٱلْقَيْرَوَانِيِّينَ وَٱلإِسْكَنْدَرِيِّينَ، وَمِنَ ٱلَّذِينَ مِنْ كِيلِيكِيَّةَ وَأَسِيَّا، يُحَاوِرُونَ ٱسْتِفَانُوسَ».
    فَنَهَضَ لمقاومته فنجاح استفانوس العظيم هيّج ما كان قد سكن من اضطهاد المقاومين.
    ٱلْمَجْمَعِ انظر الشرح (متّى ٤: ٢٣) قيل في كتب اليهود أنه كان في أورشليم أربع مئة وثمانون مجمعاً وإذا حكمنا على أن ذلك مبالغة فلا بد من الحامل عليها هو كثرة تلك المجامع لأنه كان لكل صنف من غرباء اليهود الذين كانوا يأتون من بلاد مختلفة لحضور الأعياد في أورشليم مجمع مخصوص أو أكثر.
    ٱللِّيبَرْتِينِيِّينَ الأرجح أنهم يهود أصلاً أسرهم الرومانيون وأخذوهم إلى إيطاليا عبيداً ثم حررهم فسموا لذلك «بالليبرتينيين» أي المحرَّرين. وهم كثيرون لأن بمبيوس القائد الروماني لما استولى على اليهودية سنة ٦٣ ب. م. جلب ألوفاً معه إلى رومية.
    ٱلْقَيْرَوَانِيِّينَ الذين من القيروان في أفريقية وكان سمعان الذي حمل صليب المسيح من هناك (انظر شرح متّى ٢٧: ٣٢) وهي مدينة كبيرة قال يوسيفوس أن ربع سكانها يهود أخذهم بطليموس لاغوس إلى هنالك. وكان بعضهم في أورشليم للاحتفال بيوم «الخمسين» (ص ٢: ١٠) وذُكروا أيضاً في (ص ١١: ٢٠ و١٣: ١).
    وَٱلإِسْكَنْدَرِيِّينَ أي سكان الإسكندرية في مصر وكانت وقتئذ ثانية رومية في العظمة. وهي على مصب نهر النيل الغربي بناها اسكندر الكبير سنة ٣٣٢ قبل الميلاد وكان محيطها يومئذ خمسة عشر ميلاً وكان فيها ثلاث مئة ألف من الأحرار ومثلهم من العبيد. وكانت مركز علم اليونان وتمدنهم في أفريقية. وكثر اليهود في مصر منذ سبي باب وذلك نحو ست مئة سنة قبل الميلاد. وأخذ بطليموس الأول كثيرين من أسرى اليهود إلى الاسكندرية وأمر بترجمة العهد القديم من العبرانية إلى اليونانية في نحو سنة ٣٠٠ قبل الميلاد وسمّيت الترجمة بترجمة السبعين لظنهم أن الذين ترجموها كانوا نحو سبعين. وأعطى اسكندر اليهود ثلث الاسكندرية حين أكمل بناءها وجعلهم مساوين لليونانيين في الحقوق. وقيل أنه كان نحو خُمس سكان تلك المدينة في أيام المسيح من اليهود وبلغ عدد الإسرائيليين يومئذ في كل مصر نحو ألف ألف.
    كِيلِيكِيَّةَ ولاية في آسيا الصغرى على الجنوب الشرقي منها شمالي قبرس وتُعرف اليوم ببر الأناضول وكانت قاعدتها طرسوس حيث وُلد شاول الذي هو بولس الرسول (ص ٩: ١١) ولا بد من أنه حضر ذلك المجمع لأنه من كيليكية ويُحتمل أنه جادل استفانوس هناك.
    أَسِيَّا هي الجزء الغربي من آسيا الصغرى الذي كانت قاعدته أفسس (ص ٢: ٩) وكان يشتمل على ميسيا وكاريا وليديا.
    يُحَاوِرُونَ ٱسْتِفَانُوسَ أي كان علماء تلك المجامع يناظرون استفانوس في أمر يسوع الذي صرح استفانوس أنه المسيح وأن تعليمه تعليم الله أُثبت بنبؤات العهد القديم وبما صنعه هو من المعجزات.
    ١٠ «وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُقَاوِمُوا ٱلْحِكْمَةَ وَٱلرُّوحَ ٱلَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ».
    خروج ٤: ١٦ وإشعياء ٥٤: ١٧ ولوقا ٢١: ١٥ وص ٥: ٣٩
    وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُقَاوِمُوا أي أنهم لم يستطيعوا دفع حججه التي حجّهم بها من كتبهم وأثبتها بأدلته وأوضحها بفصاحة وعلم كأفضل علمائهم. ويمكننا معرفة ما أورده من الحجج من الجدول الآتي:
    قابل إشعياء ٤٠: ٣ مع مرقس ١: ٣
    ملاخي ٣: ١ مع متّى ١١: ١٠
    قابل إشعياء ٨: ١٤ و ٩: ١ مع متّى ٤: ١٤
    قابل إشعياء ٦١: ١ مع لوقا ٤: ١٨
    قابل مزمور ٧٨: ٢ مع متّى ١٣: ٣٥
    قابل مزمور ١١٨: ٢٢ مع لوقا ٢: ٣٤ وأعمال ٤: ١١ و١٣: ٤١
    قابل مزمور ٤١: ٩ وزكريا ١١: ١٢ مع يوحنا ١٣: ١٨ ومتّى ٢٦: ١٥ و٢٧: ٩ و١٠
    قابل زكريا ١٢: ١٠ مع يوحنا ١٩: ٣٧
    قابل إشعياء ٥٣: ٩ ومزمور ٦: ١٠ مع متّى ١٢: ٤٠ وأعمال ٢: ٢٧
    قابل مزمور ١١٠: ١ مع أعمال ٢: ٣٣ وعبرانيين ١: ١٣



    ٱلْحِكْمَةَ أي معرفة كتب اليهود الدينية وتفاسيرها.
    وَٱلرُّوحَ الخ المراد «بالروح» هنا النشاط والرغبة والإخلاص مما بيّن أنه كان متيقناً صحة ما تكلم به وأهميته. ولا ريب في أن ذلك الروح كان من مواهب الروح القدس.
    ١١ «حِينَئِذٍ دَسُّوا لِرِجَالٍ يَقُولُونَ: إِنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ تَجْدِيفٍ عَلَى مُوسَى وَعَلَى ٱللّٰهِ».
    ١ملوك ٢١: ١٠ و١٣ ومتّى ٢٦: ٥٩ و٦٠
    لما عجزوا عن غلبة استفانوس بالحق لجأوا إلى الباطل وشرعوا يهيّجون الشعب المتعصب عليه وهيّجوا بذلك الرؤساء.
    حِينَئِذٍ دَسُّوا لِرِجَالٍ أي علموهم سراً أن يسمعوا كلام استفانوس ويحرّفوه ليشهدوا عليه بالرديء كما فعلوا بالمسيح (متّى ٢٦: ٦٠ و٦١).
    إِنَّنَا سَمِعْنَاهُ لم يبيّنوا متى سمعوا ذلك والأرجح أنه كان في محاورتهم له في المجامع.
    بِكَلاَمِ تَجْدِيفٍ انظر شرح (متّى ٩: ٣) ولا بد من أن قولهم تهمة باطلة لأنه عظّم الله واحترم موسى لكن يمكننا أن نستنتج من دعواهم ما كان يقوله.
    عَلَى مُوسَى لعل استفانوس قال أن يسوع مشترع أعظم من موسى وأن الذبائح والتطهيرات وسائر الرموز التي أمر بها قاصرة عن التكفير عن الخطيئة وتبرير الخاطئ وأنه لا بد من زوالها وأن العبادة الروحية القلبية تجوز في كل مكان وزمان ولكنهم حرّفوا كلامه ليجعلوه تجديفاً.
    وَعَلَى ٱللّٰهِ لأنه قال أن يسوع ابن الله وهو عندهم تجديف. وما حسبوه تجديفاً على موسى حسبوه تجديفاً على الله الذي أرسله فإنهم لم يعرفوا أن الشريعة ليست سوى «ظل الخيرات العتيدة».
    ١٢ «وَهَيَّجُوا ٱلشَّعْبَ وَٱلشُّيُوخَ وَٱلْكَتَبَةَ، فَقَامُوا وَخَطَفُوهُ وَأَتَوْا بِهِ إِلَى ٱلْمَجْمَعِ».
    وَهَيَّجُوا ٱلشَّعْبَ أتوا ذلك لمعرفتهم أن مقاومتهم له تكون عبثاً إذا كان الشعب معه لأن رضى الشعب عن الرسل منع الرؤساء سابقاً من البطش بهم (ص ٥: ٢٦) فأرسلوا الذين دسوا إليهم الكلام إلى الناس ليتكلموا معهم في المجامع أو البيوت ويقولوا لهم أن استفانوس أهان دينهم وجدّف على نبيّهم فهيّجوا بذلك بغضهم وتعصبهم عليه. وأتى مثل هذا رؤساء الكهنة على المسيح في آخر أسبوع من حياته على الأرض حتى أن الجموع الذين ترحبوا به عند دخوله إلى أورشليم بقولهم «أوصنا الخ» صرخوا بعد أربعة أيام قائلين «اصلبه اصلبه» (متّى ٢٦: ٦٥ و٢٧: ٢٠).
    وَٱلشُّيُوخَ من أعضاء المجلس.
    وَٱلْكَتَبَةَ انظر شرح (متّى ٢: ٤).
    ٱلْمَجْمَعِ أي مجمع السبعين (متّى ٢: ٤) وكان لذلك المجمع حق الحكم في كل أمر من الأمور الدينية. وكان الصدوقيون من أولئك الأعضاء هم خصوم الرسل في أول الأمر لمناداتهم بالقيامة وأما هنا فهاج غضب الفريسيين أيضاً لغيرتهم على شريعة موسى والهيكل.
    ١٣، ١٤ «١٣ وَأَقَامُوا شُهُوداً كَذَبَةً يَقُولُونَ: هٰذَا ٱلرَّجُلُ لاَ يَفْتُرُ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ تَجْدِيفاً ضِدَّ هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ ٱلْمُقَدَّسِ وَٱلنَّامُوسِ، ١٤ لأَنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ هٰذَا سَيَنْقُضُ هٰذَا ٱلْمَوْضِعَ، وَيُغَيِّرُ ٱلْعَوَائِدَ ٱلَّتِي سَلَّمَنَا إِيَّاهَا مُوسَى».
    ص ٢٥: ٨ دانيال ٩: ٢٦
    شُهُوداً كَذَبَةً هم الذين أُعدوا (ع ١١) ليحرّفوا كلام استفانوس ولذلك التحريف دعاهم الكاتب «كذبة».
    ضِدَّ هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ ٱلْمُقَدَّسِ أي الهيكل والظاهر من هذا أنهم كانوا مجتمعين حينئذ في إحدى أدور الهيكل.
    وَٱلنَّامُوسِ أي شريعة موسى.
    ٱلنَّاصِرِيَّ نعتوه بذلك للإهانة.
    سَيَنْقُضُ هٰذَا ٱلْمَوْضِعَ سمى لوقا أولئك الشهود «كذبة» فلا برهان على أن استفانوس قال ما اتهموه به لأن المسيح نفسه لم يقله. لكنه ربما ذكر قول المسيح «أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ (أي جرزيم)، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ» (يوحنا ٤: ٢١). ولعله أشار إلى ما أنبأ به المسيح من أن الأمم ستهدم الهيكل (متّى ص ٢٤) فنسبوا إليه ما أسنده في أنبائه إلى الأمم.
    وَيُغَيِّرُ ٱلْعَوَائِدَ لا نظن استفانوس قال ذلك لأن الرسل لم يصدقوا حينئذ ذلك التغيير وما اعتقدوه إلا على مرور الزمان وبعد الرؤى السماوية وتعليم الروح القدس واجتماعهم للمشورة (ص ١٠: ١٤ و١١: ٢ و١٥: ٢٠ و٢١: ٢٠). ولا يُظن فضلاً عن أن ذلك لم يكن اعتقاده أن إنساناً مثله «مملوءاً من الحكمة والروح» يعبر عن الحق بأسلوب يهيّج غضب الناس عليه ويمنعهم من قبول التعليم. والمراد «بالعوائد» هنا الذبائح والأصوام والأعياد اليهودية والتمييز بين الأطعمة وتغييرها إما أن يكون بإلغائها أو بإبدالها بغيرها. ولعل اتهامهم إياه بذلك كله مبنيّ على قول المسيح «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنا ٢: ١٩) وقوله «إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ هٰهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ» (متّى ٢٤: ٢) ونحو ذلك مما نقله استفانوس عن المسيح.
    ١٥ «فَشَخَصَ إِلَيْهِ جَمِيعُ ٱلْجَالِسِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ، وَرَأَوْا وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَلاَكٍ».
    وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَلاَكٍ عبّر العهد القديم بمثل هذا التشبيه عن أرباب الحكمة السامية (تكوين ٣٣: ١٠ و٢صموئيل ١٤: ١٧ و١٩: ٢٧) والأرجح أن المعنى هنا أنه لم يظهر على وجهه شيء من إمارات الخوف أو الغضب أو الكبرياء بل ظهرت عليه علامات الاطمئنان والحلم والرضى والبراءة لأن إحساسات قلبه قد طُبعت على وجهه وسرّ بأنه شهد للحق وامتلأ قلبه رجاء بالسعادة الأبدية وإن عُرف أنه سيقتل في سبيل المسيح.
    وذهب البعض أن وجهه كان يلمع كما لمع وجه موسى عندما نزل من جبل سينا (خروج ٣٤: ٢٩ و٣٠ و٢كورنثوس ٣: ٧ و١٣) والأرجح أنه لم يكن شيء من المعجزات في منظره.


    الأصحاح السابع


    احتجاج استفانوس ١ إلى ٥٣


    ١ «فَسَأَلَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ: أَتُرَى هٰذِهِ ٱلأُمُورُ هٰكَذَا هِيَ؟».
    متّى ٢٦: ٦٢
    لعله كان قد مرّ على الكنيسة منذ موت المسيح إلى ما حدث هنا نحو سبع سنين.
    فَسَأَلَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ لأن ذلك مما يختص به باعتبار أنه رئيس المجلس.
    أَتُرَى هٰذِهِ ٱلأُمُورُ هٰكَذَا هِيَ أي أمذنب أنت بما أُشتكي عليك أم بريء منه هل جدفت على موسى وعلى الله أو لا.
    ٢ «فَأَجَابَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ وَٱلآبَاءُ، ٱسْمَعُوا. ظَهَرَ إِلٰهُ ٱلْمَجْدِ لأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ فِي مَا بَيْنَ ٱلنَّهْرَيْنِ، قَبْلَمَا سَكَنَ فِي حَارَانَ».
    ص ٢٢: ١ تكوين ١١: ٣١
    علينا أن نلاحظ في خطاب استفانوس أربعة أمور:

    • الأول: أن ذلك الخطاب غير كامل لأن صراخ السامعين قطعه.
    • الثاني: أن بولس على ما يرجح سمع ذلك الخطاب وأنبأ به لوقا لأن لوقا كان رفيقه في أسفاره ولشدة المشابهة بين ما قاله استفانوس في خطابه وما كتبه بولس في رسائله (قابل ع ٥٣ مع غلاطية ٣: ٩ وع ٤٨ مع ص ١٧: ٢٤).
    • الثالث: أن خطاب استفانوس كأنه مختصر الرسالة إلى العبرانيين في إعلان نسبة الديانة اليهودية إلى الديانة المسيحية.
    • الرابع: أن غاية هذا الخطاب ثلاثة أمور:



    • الأول: تبرئته نفسه مما اتهموه به وهو التجديف على الله وموسى وأتى ذلك بإقامة البراهين على أن ظهور الله غير مقصور على أورشليم لأنه ظهر لإبراهيم ما بين النهرين وليوسف في مصر ولموسى في البرية وفي طور سينا وفي خيمة الشهادة قبل بناء الهيكل. وأبان من قول موسى نفسه أن العوائد الموسوية ليست بأبدية لأنه أنبا بمجيء نبي آخر فلزم من ذلك أن يكون تعليم آخر ما كان تعليم موسى سوى استعداد له.
    • الثاني: بيان حقيقة ما نادى به.
    • الثالث: إعلان أن اليهود برفضهم أن يسوع هو المسيح تمردوا على الله كما تمرد عليه آباؤهم في كل أيام تاريخ الأمة. ولا ريب في أنه لو تركوه يكمل خطابه لختمه بالمناداة بالمغفرة والمصالحة بواسطة دم يسوع الذي سفكوه كما ختم بطرس موعظته في (ص ٢ و٣). وسلك استفانوس في هذا الخطاب أحسن سبل الحكمة لبلوع الغاية.


    أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ وَٱلآبَاءُ هذا الخطاب مما اعتاد أن يخاطب به أعضاء المجلس فأظهر به الاحترام لهم ولرتبتهم.
    إِلٰهُ ٱلْمَجْدِ أي الله المستحق كل المجد والإكرام وبهذا أظهر وفرة احترامه لإله إسرائيل ودفع عنه اتهامهم إيّاه بأنه جدف على الله. وفي هذه النسبة إشارة إلى الضياء اللامع الذي ظهر الله به في السحابة النيّرة وفي قبة العهد والهيكل (خروج ٢٤: ١٦ و٣٣: ١٨ و٤٠: ٣٤ ولاويين ٩: ٢٣ وعدد ١٤: ١٠ وتثنية ٥: ٢٤).
    لأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ افتخر اليهود بنسبتهم إلى إبراهيم (متّى ٣: ٩) فصرّح استفانوس بها هنا استعطافاً لهم.
    وَهُوَ فِي مَا بَيْنَ ٱلنَّهْرَيْنِ في أور الكلدانيين حيث سكن إبراهيم أولاً (تكوين ١١: ٢٨) وهي واقعة بين نهري دجلة والفرات. وما قاله استفانوس هنا من مصدرين تواريخ اليهود الشائعة بينهم سوى الكتاب المقدس وترجمة السبعين التي تختلف في بعض الأمور عن الأصل العبراني.
    قَبْلَمَا سَكَنَ فِي حَارَانَ حاران موضع غربي الفرات حيث مات تارح (تكوين ١١: ٣٢) وهرب يعقوب إليه من عيسو أخيه (تكوين ٢٧: ٤٣). ولا منافاة بين ما قيل هنا وما قيل في (تكوين ١١: ٣١ و١٢: ١) ما يتبين منه أن الله ظهر لإبراهيم في حاران بعدما ترك أُور الكلدانيين لأنه دعاه مرتين كما يتضح من قوله تعالى «أَنَا ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هٰذِهِ ٱلأَرْضَ لِتَرِثَهَا» (تكوين ١٥: ٧ ويشوع ٢٤: ٣ ونحميا ٩: ٧). وذكر فيلو المؤرخ اليهودي في تاريخه أن الله دعا إبراهيم مرتين فكلم الله إبراهم في أور وفي حاران ومعاهدته هنالك برهان قاطع على أن ظهور الله للناس غير مقصور على هيكل أورشليم وأن عبادته ليست محصورة فيه وأنه هو لم يجدف بما قاله في هذا المعنى.
    ٣ «وَقَالَ لَهُ: ٱخْرُجْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ، وَهَلُمَّ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُرِيكَ».
    تكوين ١٢: ١
    مِنْ عَشِيرَتِكَ نفهم من ذلك أن الله أنبأه بأنه ينفصل عن أهله وأقربائه نعم أن أباه تارح رافقه في جزء من الطريق لكنه لم يجاوز حاران.
    إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُرِيكَ دعاه الله بهذا إلى الاتكال على حكمته تعالى ومحبته وصدق مواعيده وإلى الطاعة لأوامره وإنكار نفسه ودعوته إلى ذلك تشبه دعوة الإنسان إلى أن يكون مسيحياً (متّى ٢٨: ٢٧ و٢٩ ولوقا ١٤: ٣٣).
    ٤ «فَخَرَجَ حِينَئِذٍ مِنْ أَرْضِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ وَسَكَنَ فِي حَارَانَ. وَمِنْ هُنَاكَ نَقَلَهُ، بَعْدَ مَا مَاتَ أَبُوهُ، إِلَى هٰذِهِ ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَنْتُمُ ٱلآنَ سَاكِنُونَ فِيهَا».
    تكوين ١١: ٣١ و١٢: ٤ و٥
    بَعْدَ مَا مَاتَ أَبُوهُ قيل في تكوين ١١: ٢٦ «وَعَاشَ تَارَحُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ أَبْرَامَ وَنَاحُورَ وَهَارَانَ» وقيل في تكوين ١٢: ٤ «وَكَانَ أَبْرَامُ ٱبْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ». لو لم يكن لنا سوى هذين النبأين لاستنتجنا أن تارح بلغ سن المئة والخامسة والأربعين لما خرج إبراهيم من حاران. وعلى ما قال استفانوس هنا أن إبراهيم لم يبارح حاران إلا بعد موت أبيه. فلنا منه ومما قبله أن تارح لم يتجاوز سن المئة والخامسة والأربعين لكن جاء في تكوين ١١: ٣٢ ما نصّه «وَكَانَتْ أَيَّامُ تَارَحَ مِئَتَيْنِ وَخَمْسَ سِنِينَ. وَمَاتَ تَارَحُ فِي حَارَانَ». فالفرق بين هذا وما استنتجناه ستون سنة وتُدفع شبهة الاختلاف بأن معنى ما قيل في تكوين ١١: ٢٦ أنه لم يولد لتارح ولد قبل سن السبعين وولد له بعد ذلك ثلاثة بنين بدون تعيين زمن الولادة ويبعد عن الظن أن الثلاثة وُلدوا في يوم واحد أو سنة واحدة وأن إبراهيم أصغر الثلاثة وذكره أولاً لا يمنع من ذلك سام قبل يافث مع أن ساماً هو الأصغر (قابل ما في تكوين ٥: ٣٢ بما في تكوين ١٠: ٢١). ومما يؤيد هذا القول أن إسحاق ابن إبراهيم تزوج حفيدة ناحور بنت بتوئيل وهو أصغر بني ناحور وهم ثمانية (تكوين ٢٢: ٢٢ و٢٣). وعلى ذلك يكون حاران وُلد لتارح وتارح في سن السبعين حسب الكتاب ووُلد له إبراهيم وهو في سن المئة والثلاثين ولما بلغ المئتين والخامسة ومات كان إبراهيم قد بلغ الخامسة والسبعين وخرج من حاران.
    لا ريب في أن استفانوس تكلم في ذلك حسب اعتقاد اليهود وإلا اعترضوا عليه ولم ينقل لوقا الغلط لأنهم كانوا جميعاً يعرفون تاريخ إبراهيم.
    مِنْ أَرْضِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ أي من أُور (تكوين ١١: ٣١).
    ٥ «وَلَمْ يُعْطِهِ فِيهَا مِيرَاثاً وَلاَ وَطْأَةَ قَدَمٍ، وَلٰكِنْ وَعَدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مُلْكاً لَهُ وَلِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدُ وَلَدٌ».
    تكوين ١٢: ٧ و١٣: ١٥ و١٥: ٣ و١٨ و١٧: ٨ و٢٦: ٣
    لَمْ يُعْطِهِ فِيهَا مِيرَاثاً فعاش فيها عيشة الرحّل في انتقاله من مكان إلى مكان ولا مسكن دائم له ولا ملك يقيم به والدليل على ذلك افتقاره إلى أن يشتري قبراً من أهل البلاد (ع ١٦) ولا ينافي ذلك شراؤه مدفناً في حبرون من أولاد حثّ لأن ذلك لا يُعتبر ميراثاً للسكن.
    وَلاَ وَطْأَةَ قَدَمٍ أي لا شيء والكلام جارٍ مجرى المثل (تثنية ٢: ٥).
    وَلٰكِنْ وَعَدَ ومعنى ذلك الوعد أن تلك الأرض تكون لسلالته إكراماً له (تكوين ١٥: ٥).
    وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدُ وَلَدٌ ولا رجاء أن يكون له (تكوين ١٥: ٢٣ و١٨: ١١ و١٢) وذكر بولس تصديق إبراهيم وعد الله في تلك الأحوال دليل قاطع على قوة إيمانه (رومية ٤: ١٨).
    ٦ «وَتَكَلَّمَ ٱللّٰهُ هٰكَذَا: أَنْ يَكُونَ نَسْلُهُ مُتَغَرِّباً فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ فَيَسْتَعْبِدُوهُ وَيُسِيئُوا إِلَيْهِ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ».
    تكوين ١٥: ١٣ و١٦ خروج ١٢: ٤٠ وغلاطية ٣: ١٧
    وَتَكَلَّمَ ٱللّٰهُ (تكوين ١٥: ١٣) والقول هنا منقول عن ترجمة السبعين وفيه وعد وبيان المدة التي تمر قبل إنجازه.
    يَكُونَ نَسْلُهُ مُتَغَرِّباً ساكناً وقتياً كضيف وأجنبي.
    فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ بعضها أرض كنعان وأكثرها أرض مصر.
    فَيَسْتَعْبِدُوهُ خروج ١: ١١.
    وَيُسِيئُوا إِلَيْهِ أي يظلموه ويعذبوه.
    أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ بناء على قوله تعالى في (تكوين ١٥: ١٣). نحتاج إلى تفسير شيئين في هذا القول:
    الأول: أنه جاء في خروج ١٢: ٤٠ إن مدة الغربة ٤٣٠ سنة وقال بولس في غلاطية ٣: ١٧ أن المدة من وقت الوعد لإبراهيم إلى إعطاء الشريعة في سيناء ٤٣٠ سنة فيظهر أن بين القول الأول والقولين بعده خلافاً وتدفع هذه الشبهة بأن موسى واستفانوس قالا «أربع مئة سنة» أي نحو أربع مئة باعتبار أنها أربعة قرون كاملة وغضّا النظر عن الكسر من القرن وهذا شائع لفظاً وكتابة للتقريب.
    الثاني: تعيين الوقت الذي بداءة المدة المذكورة فظاهر الكلام هنا وفي خروج ١٢: ٤٠ أن الغربة والعبودية في تلك المدة كلها تكون في مصر والواقع ليس كذلك لأن الوقت من ولادة إسحاق إلى الخروج من مصر ٤٠٠ سنة والوقت من الوعد لإبراهيم ثلاثون سنة قبل ميلاد إسحاق وبيان ذلك ما يأتي:
    فنفرض أن المدة بين وعد الله له وخروجه من حاران خمس سنين وأنه بقي في أرض كنعان قبل أن وُلد له إسماعيل ١١ سنة ومن ولادة إسماعيل إلى ميلاد إسحاق ١٤ سنة فالمجموع ثلاثون ومن ميلاد إسحاق إلى ميلاد يعقوب ٦٠ سنة ومن ميلاد يعقوب إلى ميلاد يوسف ٩٠ سنة ومن ميلاد يوسف إلى موته ١١٠ سنين ومن موت يوسف إلى ميلاد موسى ٦٠ سنة ومن ميلاد موسى إلى الخروج من مصر ٨٠ سنة فالجملة أربع مئة ومجموع المجموعين ٤٣٠ سنة. والذي يؤكد أن مدة العبودية في مصر لم تبلغ تلك المدة ما جاء في تكوين ٤٦: ٨ و١١ أن قهات وُلد قبلما نزل يعقوب إلى مصر وعاش ١٣٣ سنة (خروج ٦: ١٨) وعاش ابنه عمرام ١٣٧ سنة وكان عمر موسى ٨٠ سنة حين وقف أمام فرعون (خروج ٧: ٧) ومجموع حياتي قهات وعمرام ٢٧٠ سنة فإذا طرحنا من ذلك ٥٥ سنة وفرضناها ما عاشاه بعد ما وُلد لهما بقي ١٢٥ سنة. فعلينا أن نحسب الوقت من وعد الله لإبراهيم إلى الخروج من مصر الذي هو ٤٣٠ سنة وقت عبودية لأن إبراهيم ونسله كانوا فيه غرباء ونزلاء في أرض ليست لهم كما حسب بولس في (غلاطية ٣: ١٧) وأن استفانوس ذكر تلك المدة تقريباً.
    ٧ «وَٱلأُمَّةُ ٱلَّتِي يُسْتَعْبَدُونَ لَهَا سَأَدِينُهَا أَنَا، يَقُولُ ٱللّٰهُ. وَبَعْدَ ذٰلِكَ يَخْرُجُونَ وَيَعْبُدُونَنِي فِي هٰذَا ٱلْمَكَانِ».
    خروج ٣: ١٢
    فِي هٰذَا ٱلْمَكَانِ أي في أرض كنعان حيث كان الله يتكلم معه وهذا برهان على أن ظهور الله غير مقصور على الهيكل في أورشليم فما جرى في الماضي يمكن أن يجري في المستقبل فإذاً لم يجدف استفانوس إن كان قد قال ما يفيد ذلك. وعبّر استفانوس عن تبليغ الله لإبراهيم في وعده بما قاله تعالى لموسى حين ظهر له في العليقة ففي كلامه تلميح حسن إلى ظهور الله مرة أخرى في غير الهيكل.
    ٨ «وَأَعْطَاهُ عَهْدَ ٱلْخِتَانِ، وَهٰكَذَا وَلَدَ إِسْحَاقَ وَخَتَنَهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ. وَإِسْحَاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ، وَيَعْقُوبُ وَلَدَ رُؤَسَاءَ ٱلآبَاءِ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ».
    تكوين ١٧: ٩ الخ تكوين ٢١: ٢ الخ و٢٥: ٢٦ و٢٩: ٣١ الخ و٣٠: ٥ الخ و٣٥: ١٨ و٢٣ إلى ٢٦
    وَأَعْطَاهُ عَهْدَ ٱلْخِتَانِ أي العهد الذي كان الختان علامته وختمه وذلك العهد هو أن يجعله أمة عظيمة وأن يكون أباً لأمم كثيرة وأن يكون الله إلهاً له ولنسله وأنه بنسله تتبارك كل قبائل الأرض (تكوين ١٧: ٩ - ١٣). وبهذه العلامة امتاز بنو إسرائيل عن سائر الشعوب وعرفوا أنهم شعب الله الخاص وورثة الوعد لإبراهيم.
    وَهٰكَذَا أي بعدما أخذ العهد وعلامته.
    وَلَدَ إِسْحَاقَ لم يذكر ولادة إسماعيل لأنه وُلد قبل العهد.
    رُؤَسَاءَ ٱلآبَاءِ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ وهم أسلاف الأمة اليهودية وسماهم كذلك اعتباراً لهم كما في (عبرانيين ٧: ٤) ولأن كل واحد منهم رئيس عشيرة من الإسرائيليين.
    ٩ «وَرُؤَسَاءُ ٱلآبَاءِ حَسَدُوا يُوسُفَ وَبَاعُوهُ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ ٱللّٰهُ مَعَهُ».
    تكوين ٣٧: ٤ و١١ و٢٨ ومزمور ١٠٥: ١٧ تكوين ٣٩: ٢ و٢١ و٢٣
    حَسَدُوا يُوسُفَ لأن أباهم أظهر حبه له أكثر مما أظهره لهم (تكوين ٣٧: ٣ - ١١).
    وَبَاعُوهُ إِلَى مِصْرَ كما قال يوسف لهم (تكوين ٤٥: ٥) أما هم فباعوه للاسماعيليين ليأخذوه إلى مصر اتباعاً لمشورة يهوذا لكي لا يقتلوه (تكوين ٣٧: ٢٥ - ٢٨).
    ولعل استفانوس أراد أن يشير إلى معاملة إخوة يوسف ليوسف كانت مثل معاملة الرؤساء ليسوع الذي كان يوسف رمزاً له لأن كليهما اسلمه إخوته حسداً (تكوين ٣٧: ٢٨ ومتّى ٢٧: ١٨) وأن كليهما رفضه الناس واختاره الله وأن كليهما رُفع بعد إلى يمين العظمة وأن كلاً منهما أنقذ شعبه.
    كان الله معه وحماه من الخطر وفرج عليه في الضيق ورقاه إلى الشرف وجعله واسطة خير عظيم.
    ١٠ «وَأَنْقَذَهُ مِنْ جَمِيعِ ضِيقَاتِهِ، وَأَعْطَاهُ نِعْمَةً وَحِكْمَةً أَمَامَ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، فَأَقَامَهُ مُدَبِّراً عَلَى مِصْرَ وَعَلَى كُلِّ بَيْتِهِ».
    تكوين ٤١: ٣٧ و٤٢: ٦
    مِنْ جَمِيعِ ضِيقَاتِهِ أي من العبودية والعار.
    نِعْمَةً أي وجاهة.
    وَحِكْمَةً أي قوة على تفسير أحلام الملك (تكوين ص ٤١).
    فِرْعَوْنَ هو علم لكل ملك من ملوك مصر قديماً كما كان بطليموس بعد ذلك في تلك البلاد وقيصر في رومية وفي بعض ممالك أوربا اليوم.
    مُدَبِّراً وزيراً ومشيراً (تكوين ٤١: ٤٠ - ٤٣).
    بَيْتِهِ أي على بلاط الملك الذي تصدر منه الأوامر الملكية فإذاً كان يوسف الصدر الأعظم عند فرعون.
    ١١ «ثُمَّ أَتَى جُوعٌ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ وَكَنْعَانَ، وَضِيقٌ عَظِيمٌ، فَكَانَ آبَاؤُنَا لاَ يَجِدُونَ قُوتاً».
    تكوين ٤١: ٥٤
    كما جاء في (تكوين ٤١: ٥٤).
    وَكَنْعَان حيث يسكن يعقوب وعشيرته.
    قُوتاً أي طعاماً لهم ولبهائهم.
    ١٢ «وَلَمَّا سَمِعَ يَعْقُوبُ أَنَّ فِي مِصْرَ قَمْحاً، أَرْسَلَ آبَاءَنَا أَوَّلَ مَرَّةٍ».
    تكوين ٤٢: ١
    آبَاءَنَا أي عشرة من أبنائه وهم غير يوسف وبنيامين (خروج ٤١).
    فِي مِصْرَ قَمْحاً كانت تلك الأرض قديماً شونة العالم لخصب وادي النيل حتى أن الرومانيين كانوا في أيام الرسل يجلبون القمح من مصر (أعمال ٢٧: ٦ و٣٨).
    أَوَّلَ مَرَّةٍ (تكوين ٤٥: ٤).
    ١٣ «وَفِي ٱلْمَرَّةِ ٱلثَّانِيَةِ ٱسْتَعْرَفَ يُوسُفُ إِلَى إِخْوَتِهِ، وَٱسْتَعْلَنَتْ عَشِيرَةُ يُوسُفَ لِفِرْعَوْنَ».
    تكوين ٤٥: ٤ و١٦
    ٱلْمَرَّةِ ٱلثَّانِيَةِ (تكوين ٤٥: ١٦).
    وَٱسْتَعْلَنَتْ عَشِيرَةُ يُوسُفَ لِفِرْعَوْنَ عرف فرعون سابقاً أن يوسف عبراني (تكوين ٤١: ١٢) وعرف حينئذ وصول بعض عشيرته ثم تعرّف بها أخيراً (تكوين ٤٧: ٢).
    ١٤ «فَأَرْسَلَ يُوسُفُ وَٱسْتَدْعَى أَبَاهُ يَعْقُوبَ وَجَمِيعَ عَشِيرَتِهِ، خَمْسَةً وَسَبْعِينَ نَفْساً».
    تكوين ٤٥: ٩ و٢٧ و٤٦: ٢٧ وتثنية ١٠: ٢٢
    (تكوين ٤٥: ١٧ و١٨ و٤٦: ١ - ٢٦).
    خَمْسَةً وَسَبْعِينَ نَفْساً تبع استفانوس في ذلك ترجمة السبعين التي كانت شائعة بين اليهود يومئذ شيوع اللغة اليونانية. وجاء في هذه النسخة أن النفوس المختصة بيوسف في مصر كانوا تسعة وأن كل عشيرة يعقوب التي كانت مع يعقوب هنالك خمسة وسبعين وفي الأصل العبراني في (تكوين ٤٦: ٢٦ وخروج ١: ٥ وتثنية ١٠: ٢٢) أنهم كانوا سبعين وفي (تكوين ٤٦: ٢٦ وخروج ١: ٥ وتثنية ١٠: ٢٢ أنهم كانوا سبعين وفي تكوين ٤٦: ٢٩٠ في النسختين أن عدد النفوس الحقيقي الذي أتى مع يعقوب ستة وستون وزاد على هؤلاء في العبرانية أربعة يعقوب ويوسف وابنيه أفرايم ومنسى فكانوا سبعين. وأما ترجمة السبعين فزادت على هؤلاء خمسة أولاد أفرايم ومنسى المذكورة أسماؤهم في (١أيام ٧: ١٤ - ٢١). ولا نعلم لماذا زاد المترجمون أولئك الخمسة إنما نعلم أن ذلك هو الواقع وأن استفانوس ذكر كما قرأ وهذا يوافق قول يعقوب ليوسف «وَٱلآنَ ٱبْنَاكَ ٱلْمَوْلُودَانِ لَكَ فِي أَرْضِ مِصْرَ قَبْلَمَا أَتَيْتُ إِلَيْكَ إِلَى مِصْرَ هُمَا لِي. أَفْرَايِمُ وَمَنَسَّى كَرَأُوبَيْنَ وَشَمْعُونَ يَكُونَانِ لِي» (تكوين ٤٨: ٥). وقوله «استدعى تلك النفوس مع أن الذين استدعاهم أقل من ذلك اصطلاح للعبرانيين لأنهم كانوا يحسبون نسل الإنسان كأنه فيه» (عبرانيين ٧: ٩ و١٠). وغرض استفانوس ليس تعيين العدد تماماً بل إظهار أن الذين كانوا في أول أمرهم شرذمة صغيرة صاروا ببركة الله بعد زمن ليس بطويل أمة عظيمة كما في (تثنية ١٠: ٢٢).
    ١٥، ١٦ «١٥ فَنَزَلَ يَعْقُوبُ إِلَى مِصْرَ وَمَاتَ هُوَ وَآبَاؤُنَا، ١٦ وَنُقِلُوا إِلَى شَكِيمَ وَوُضِعُوا فِي ٱلْقَبْرِ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ إِبْرَاهِيمُ بِثَمَنٍ فِضَّةٍ مِنْ بَنِي حَمُورَ أَبِي شَكِيمَ».
    تكوين ٤٦: ٥ و٤٩: ٣٣ وخروج ١: ٦ و١٣: ١٩ ويشوع ٢٤: ٣٢ ويوحنا ٤: ٥ تكوين ٢٣: ١٦ و٣٥: ١٩ تكوين ٣٤: ٢ و٦
    وَمَاتَ (تكوين ٤٩: ٣٣) وكل بني يعقوب ماتوا قبل الخروج من مصر.
    وَنُقِلُوا أي كل الآباء ما عدا يعقوب أباهم الذي دٌفن في حبرون (تكوين ٥٠: ١٣).
    شَكِيمَ وهي التي تسمى نابلوس اليوم وهي شمالي أورشليم وعلى أمد أربعين ميلاً منها انظر شرح (يوحنا ٤: ٥). وقيل في العهد القديم «أن عظام يوسف دُفنت في شكيم» (يشوع ٢٤: ٣٢) ولم يذكر شيئاً من أمر عظام الآخرين والأرجح أنهم فعلوا بعظامهم كما فعلوا بعظامه ولا ريب أن استفانوس تكلم حسب اعتقاد اليهود بناء على ما سطر في تواريخهم.
    ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ إِبْرَاهِيمُ ظن البعض أن بعض النسّاخ بدل اسم يعقوب باسم إبراهيم سهواً لأن ما كُتب في (تكوين ٣٣: ١٩ ويشوع ٢٤: ٣٢) أن يعقوب هو الذي اشتراه من أولاد حمور وأما الذي اشتراه إبراهيم فهو مغارة في حبرون اشتراها من اولاد حثّ وهذا أقرب احتمالاً من أن استفانوس غلط قدّام رؤساء المجلس وأن لوقا كتب كلامه بلا إصلاح ولا يبعد ذلك عن الناسخ لأنه لم يوح إليه ولم يكن من المعصومين. وظن آخرون أن إبراهيم اشترى أرضاً في شكيم وإن لم يُذكر نبأ ذلك في سفر التكوين لأنه قيل في تكوين ١٢: ٦ و٧ أن الله ظهر لإبراهيم في شكيم وبنى هناك مذبحاً للرب ولو لم يكن قد اشترى تلك الأرض لم يحق له أن يبني المذبح فيها فإن يعقوب حين أتى إلى هنالك وبنى مذبحاً اشترى قطعة الأرض لبنائه فيها (تكوين ٣٣: ١٨ - ٢٠) ولا عجب من وجود بيت حمور في أيام إبراهيم وأيام يعقوب لأننا عرفنا أن ذلك البيت كان باقياً خمس مئة سنة بعد ذلك (قضاة ٩: ٢٨) وظن غيرهم أن استفانوس لتكلّمه ارتجالاً في أمور معلومة عند الجميع اختار الاختصار فقال ما ذكر بدلاً من أن يقول نُقلوا إلى حبرون وشكيم ووُضع بعضهم (أي يعقوب) في القبر الذي اشتراه إبراهيم من أولاد حثّ وبعضهم في القبر الذي اشتراه يعقوب الخ.
    ١٧ «وَكَمَا كَانَ يَقْرُبُ وَقْتُ ٱلْمَوْعِدِ ٱلَّذِي أَقْسَمَ ٱللّٰهُ عَلَيْهِ لإِبْرَاهِيمَ، كَانَ ٱلشَّعْبُ يَنْمُو وَيَكْثُرُ فِي مِصْرَ».
    تكوين ١٥: ١٣ وع ٦ خروج ١: ٧ الخ ومزمور ١٠٥: ٢٤ و٢٥
    وَقْتُ ٱلْمَوْعِدِ أي وقت إنجاز الموعد.
    كَانَ ٱلشَّعْبُ يَنْمُو (خروج ١: ٧ - ٩) ولما كان يتكاثر هذا الشعب عدداً وقوة خاف رؤساء المصريين من أن يقوى عليه في المستقبل.
    ١٨ «إِلَى أَنْ قَامَ مَلِكٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ».
    قَامَ مَلِكٌ آخَرُ كما قيل في (خروج ١: ١٨). والأرجح أنه هو رعمسيس الثاني.
    لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ أي لم يذكر إحسانه ولم يشكره أو يشعر بأنه مديون لعشيرته ونسله ومن المحال أنه لم يعرف شيئاً من أمر يوسف.
    ١٩ «فَٱحْتَالَ هٰذَا عَلَى جِنْسِنَا وَأَسَاءَ إِلَى آبَائِنَا، حَتَّى جَعَلُوا أَطْفَالَهُمْ مَنْبُوذِينَ لِكَيْ لاَ يَعِيشُوا».
    خروج ١: ١٠ و٢٢
    فَٱحْتَالَ هٰذَا أشار بهذا إلى ما فعله هذا الملك بغية تقليل عدد الإسرائيليين بقتل الذكور من مواليدهم (خروج ١: ٢٢).
    أَسَاءَ إِلَى آبَائِنَا الخ ظاهر المعنى أن الملك أراد أن يغصب الآباء أن يطرحوا أولادهم ليموتوا وذلك أنه ضيّق على الآباء حتى فضلوا إماتة أولادهم على أن يعيشوا لعذاب كعذابهم. ويحتمل أنه بلغ مراده من بعض الآباء ولعله أمر الشرط أن يخطفوا الصبيان ويطرحوهم في النيل.
    ٢٠ «وَفِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ وُلِدَ مُوسَى وَكَانَ جَمِيلاً جِدّاً، فَرُبِّيَ هٰذَا ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ فِي بَيْتِ أَبِيهِ».
    خروج ٢: ٢ عبرانيين ١١: ٢٣
    فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي زمن الشدة والظلم (خروج ٢: ٢).
    جَمِيلاً جِدّاً كذا قيل في (خروج ٢: ٢) قابل ذلك بما في (عبرانيين ١١: ٢٣) ونستنتج من هذا الكلام أنه نُبذ كثيرون من أطفال الإسرائيليين وأن جمال موسى كان علّة بقائه.
    أَبِيهِ عمرام (خروج ٦: ٢٠).
    ٢١ «وَلَمَّا نُبِذَ، ٱتَّخَذَتْهُ ٱبْنَةُ فِرْعَوْنَ وَرَبَّتْهُ لِنَفْسِهَا ٱبْناً».
    خروج ٢: ٣ الخ
    نُبِذَ أي طُرح على شاطئ النيل (خروج ٢: ٣).
    ٱبْنَةُ فِرْعَوْنَ قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن اسمها ثرموتيس.
    وَرَبَّتْهُ لِنَفْسِهَا أي تبنته (خروج ٢: ١٠) فنما وتعلّم في صرح فرعون فكان له أفضل الوسائط الموصلة إلى العلوم في مصر.
    ٢٢ «فَتَهَذَّبَ مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ ٱلْمِصْرِيِّينَ، وَكَانَ مُقْتَدِراً فِي ٱلأَقْوَالِ وَٱلأَعْمَالِ».
    لوقا ٢٤: ١٩
    حِكْمَةِ ٱلْمِصْرِيِّينَ اشتهرت مصر في الأزمنة القديمة بالعلوم كما جاء في (١ملوك ٤: ٣٠ وإشعياء ١٩: ١١ و١٢) ولذلك قصدها طلبة العلم من كل الأقطار حتى قصدها فلاسفة اليونان وكانوا أكثر ما يعتنون بالطبيعيّات والرياضيّات كعلم الطب والفلك والحساب والتنجيم وتفسير الأحلام وأسرار الدين المصري وكان معظم الأساتدة من الكهنة.
    مُقْتَدِراً فِي ٱلأَقْوَالِ وَٱلأَعْمَالِ كان كذلك قبل أن خرج الإسرائيليون من مصر وقبلما هرب إلى مديان. وقال استفانوس ذلك بناء على ما عرفه من التاريخ وزاد على ما قاله استفانوس أن موسى كان رئيس جيش المصريين وأنه غلب الجيش عندما كانوا زاحفين إلى مصر. وأما شهادة موسى على نفسه بقوله «أَنَا ثَقِيلُ ٱلْفَمِ وَٱللِّسَانِ» (خروج ٤: ١٠) لا ينفي كونه مقتدراً في الأقوال لأن تلك الشهادة من باب التواضع والاستعفاء من الشروع في ما دعاه الله إليه.
    ٢٣ «وَلَمَّا كَمَلَتْ لَهُ مُدَّةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، خَطَرَ عَلَى بَالِهِ أَنْ يَفْتَقِدَ إِخْوَتَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ».
    خروج ٢: ١١ الخ
    أَرْبَعِينَ سَنَةً لم يرد ذكر لذلك في العهد القديم لكن اليهود اعتقدوا بناء على ما في تواريخهم أنه عاش أربعين سنة في مصر وأربعين سنة في مديان وأربعين سنة في البرية وهو يقود الإسرائيليين.
    خَطَرَ عَلَى بَالِهِ لا ريب أن علة هذا الخطور روح الله الذي هو على كل فكر صالح.
    أَنْ يَفْتَقِدَ أي يزورهم بغية إنقاذهم من العبودية ع ٢٥ ونستدل من ذلك على أن الإسرائيليين كانوا منفصلين عن المصريين وأن موسى لم يكن يخالطهم وهو في صرح فرعون ولم يرض أن يتنعم ويتعظم في ذلك الصرح الملكي وإخوته في الضيقة ولم يكتف بما فعله من أنباء ضيقهم فأراد أن يشاهد أحوالهم بنفسه.
    ٢٤ «وَإِذْ رَأَى وَاحِداً مَظْلُوماً حَامَى عَنْهُ، وَأَنْصَفَ ٱلْمَغْلُوبَ إِذْ قَتَلَ ٱلْمِصْرِيَّ».
    وَاحِداً مَظْلُوماً أي إسرائيلياً ضربه مصري (خروج ٢: ١١ و١٢) ولعل ذلك الإنسان من المسخرين الذين كانوا يعينون أعمال بني إسرائيل في البناء.
    ٢٥ «فَظَنَّ أَنَّ إِخْوَتَهُ يَفْهَمُونَ أَنَّ ٱللّٰهَ عَلَى يَدِهِ يُعْطِيهِمْ نَجَاةً، وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا».
    ع ٥١
    ظن أن الإسرائيليين يفهمون من محاماته عن واحد منهم أنه مستعد أن يحامي عن الجميع وأن يتخذوه منقذاً لهم نظراً لسمو مرتبته وكونه منهم. وكلامه هنا يدل على أنه صار كلام بينه وبين شيوخ الشعب وأنهم رفضوا مداخلته في إنقاذهم من عبودية مصر كذلك رفض رؤساء اليهود مداخلة يسوع المسيح في إنقاذهم من عبودية الخطيئة والموت.
    ٢٦ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّانِي ظَهَرَ لَهُمْ وَهُمْ يَتَخَاصَمُونَ، فَسَاقَهُمْ إِلَى ٱلسَّلاَمَةِ قَائِلاً: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَنْتُمْ إِخْوَةٌ. لِمَاذَا تَظْلِمُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً؟».
    خروج ٢: ١٣ الخ
    ذكر هذا بياناً لرفضهم توسط موسى (خروج ٢: ١٣).
    ظَهَرَ أي أتى بغتة.
    وَهُمْ يَتَخَاصَمُونَ كان المتخاصمون جميعاً من العبرانيين فأراد موسى فض الخصام بالوعظ لا بالضرب كما فعل في أمر المصري.
    أَنْتُمْ إِخْوَةٌ أي من أمة واحدة وشركاء في المصاب فيجب أن يحب بعضكم بعضاً ويساعد أحدكم الآخر لا أن يخاصمه. وكثيراً ما نرى أن الخصومة بين الإخوة والأقرباء على غاية شدتها والواجب أن تكون على خلاف ذلك.
    ٢٧ «فَٱلَّذِي كَانَ يَظْلِمُ قَرِيبَهُ دَفَعَهُ قَائِلاً: مَنْ أَقَامَكَ رَئِيساً وَقَاضِياً عَلَيْنَا؟».
    لوقا ١٢: ١٤ وص ٤: ٧
    قَرِيبَهُ أي يهودياً مثله.
    دَفَعَهُ أي دفع موسى. ويغلب أن الظالم يكون أبعد عن الصلح من المظلوم لأنه لم يرتكب الظلم إلا لشدة حقده أو فرط طمعه فيرفض كل ما يعيقه عن نوال غرضه.
    مَنْ أَقَامَكَ رَئِيساً الخ هذا استفهام إنكاري أي لم يقمك أحد الخ فترفض رئاستك. ومن كلمات واحد من الشعب نستدل على أفكار سائره وكان هذا الاستفهام شائعاً على ألسنة الظالمين عند رفضهم النصح. وأورد استفانوس هذا الكلام إيماء إلى أن آبائهم فعلوا ذلك بموسى كما فعلوا هم مثله بالمسيح وأنهم منذ أول عهدهم رفضوا رسل الله على أسلوب واحد.
    ٢٨ «أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ أَمْسَ ٱلْمِصْرِيَّ؟».
    لم يظهر كيف عرف بقتل المصري ولعل الذي أُنقذ منه أخبر أصدقاءه (خروج ٢: ١١ و١٢).
    ٢٩ «فَهَرَبَ مُوسَى بِسَبَبِ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ وَصَارَ غَرِيباً فِي أَرْضِ مَدْيَانَ، حَيْثُ وَلَدَ ٱبْنَيْنِ».
    خروج ٢: ١٥ و٢٢ و٤: ٢٠ و١٨: ٣ و٤
    فَهَرَبَ لظنه أن الذي عرفه واحد يعرفه كثيرون وأن الخبر يبلغ فرعون فتكون حياته في خطر. وأصاب في ظنه لأنه قيل «فَسَمِعَ فِرْعَوْنُ هٰذَا ٱلأَمْرَ، فَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَ مُوسَى» (خروج ٢: ١٥).
    وَصَارَ غَرِيباً لم يهرب إلى مديان للاستيطان فيها بل قصد أن ينزلها وقتياً.
    فِي أَرْضِ مَدْيَانَ هي جزء من بلاد العرب شرقي البحر الأحمر ممتد من جبال حوريب إلى أرض موآب شمالاً وتلك الأرض برية يسكن أهلها غالباً الخيام وحلها موسى آمناً. والمديانيون سلالة إبراهيم من قطورة (خروج ٢٥: ٢ وأيوب ١: ٣٢).
    وَلَدَ ٱبْنَيْنِ تزوج سفورة بنت كاهن مديان وكان له اسمان رعوئيل ويثرون (خروج ٢: ١٨ و٣: ١ وعدد ١٠: ٢٩) واسما ولدي موسى جرشون وأليعازر.
    ٣٠ «وَلَمَّا كَمَلَتْ أَرْبَعُونَ سَنَةً ظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ فِي بَرِّيَّةِ جَبَلِ سِينَاءَ فِي لَهِيبِ نَارِ عُلَّيْقَةٍ».
    خروج ٣: ١ و٢ الخ
    وَلَمَّا كَمَلَتْ أَرْبَعُونَ سَنَةً فبلغ موسى حينئذ سن الثمانين على ما في تواريخ اليهود. قيل في (خروج ٢: ٢٣) أن ملك مصر كان قد مات وهو رعمسيس الثاني.
    مَلاَكُ ٱلرَّبِّ معنى «ملاك» رسول والأرجح أنه الأقنوم الثاني أي كلمة الله الأزلي كما يتضح من أماكن كثيرة في العهد القديم. وقد سمى «الرب» (ع ٣١ وخروج ٣: ٤ قابل ذلك بما في إشعياء ٦٣: ٩).
    فِي بَرِّيَّةِ جَبَلِ سِينَاءَ أي البرية المجاورة ذلك الجبل. وسمي في (خروج ٣: ١) «جبل حوريب» وليس في ذلك من منافاة بين قول استفانوس وموسى وذلك إما لأنهما رأسان في جبل واحد ونُسبت البرية تارة إلى أحدهما وتارة إلى الآخر وأما هو الأرجح أن اسم السلسلة كلها حوريب وهي تشتمل على رؤوس كثيرة أشهرها سيناء.
    فِي لَهِيبِ نَارِ ذكر استفانوس ذلك كما ظهر لموسى. وكثيراً ما يعبر الكتاب المقدس عن مظاهر الله بمثل هذا المنظر لما فيه من البهاء والمجد انظر (لوقا ٢: ٩ ومتّى ١٧: ١ - ٥ وأعمال ٩: ٣ و١٢: ٧) وبهذه الصورة ظهر لبني إسرائيل في البرية إذ كانت سحابة نيّرة تظللهم ليلاً وكان يظهر مثلها في قدس الأقداس في قبة الشهادة وفي هيكل سليمان. فبرهن استفانوس بذلك ما برهنه سابقاً بظهور الله لإبراهيم في أُور وحاران أن حضوره غير مقصور على الهيكل في أورشليم وعبادته ليست مقيدة بخدمة الكهنة وتقديم الذبائح وممارسة الطقوس.
    ٣١ «فَلَمَّا رَأَى مُوسَى ذٰلِكَ تَعَجَّبَ مِنَ ٱلْمَنْظَرِ. وَفِيمَا هُوَ يَتَقَدَّمُ لِيَتَطَلَّعَ، صَارَ إِلَيْهِ صَوْتُ ٱلرَّبِّ».
    تَعَجَّبَ علة تعجبه أنه «َنَظَرَ وَإِذَا ٱلْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِٱلنَّارِ، وَٱلْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ» بما يقتضيه طبع النار (خروج ٣: ٢ و٣).
    صَوْتُ ٱلرَّبِّ لم ير موسى هيئة ما إنما سمع صوت الله يكلّمه كأنه يكلّمه من وسط العليقة المتوقدة.
    ٣٢ «أَنَا إِلٰهُ آبَائِكَ، إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ. فَٱرْتَعَدَ مُوسَى وَلَمْ يَجْسُرْ أَنْ يَتَطَلَّعَ».
    متّى ٢٢: ٣٢ وعبرانيين ١١: ١٦
    إِلٰهُ آبَائِكَ هم الذين ذكرهم بعد. ومعنى العبارة بين في شرح (متّى ٢٢: ٣٢). ونسبة الله إلى الآباء إشارة إلى أنه يحبهم ويذكر عهده لهم بأن يكون إلهاً لهم ولنسلهم بعدهم. وعلة تسمية نفسه بذلك لموسى كونه مزمعاً أن ينجز في ذلك الوقت مواعيد الآباء للبنين.
    فَٱرْتَعَدَ مُوسَى قيل في (خروج ٣: ٦) أنه غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله.
    ٣٣ «فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: ٱخْلَعْ نَعْلَ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ».
    خروج ٣: ٥ ويشوع ٥: ١٥
    هذا مأخوذ بلفظه من (خروج ٣: ٥ - ٨).
    ٱخْلَعْ نَعْلَ رِجْلَيْكَ كان ذلك علامة الاحترام وقتئذ كما هو في الشرق اليوم (يشوع ٥: ١٥) وكان الكهنة يخدمون في الخيمة وفي الهيكل حفاة.
    أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ صارت كذلك بحضور الله وظهوره فيها. وينتج من ذلك أن الله يطلب علامات الاحترام علاوة عن الشعور به في القلب. وذكر استفانوس ذلك برهاناً على أن الله لم يحصر حضوره في الهيكل وأنه يوجد غيره من الأماكن المقدسة. وأن القول بذلك ليس بتجديف لأن ذلك المحل في البرية تقدس بحضور الله فيه منذ خمس مئة سنة قبل بناء الهيكل حيث لا كاهن ولا مذبح ولا ذبيحة. وهذا مثل قوله تعالى «ٱلسَّمَاوَاتُ كُرْسِيِّي وَٱلأَرْضُ مَوْطِئُ قَدَمَيَّ. أَيْنَ ٱلْبَيْتُ ٱلَّذِي تَبْنُونَ لِي، وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي» (إشعياء ٦٦: ١).
    ٣٤ «إِنِّي رَأَيْتُ مَشَقَّةَ شَعْبِي ٱلَّذِينَ فِي مِصْرَ، وَسَمِعْتُ أَنِينَهُمْ وَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ. فَهَلُمَّ ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَى مِصْرَ».
    خروج ٣: ٧
    رَأَيْتُ مَشَقَّةَ شَعْبِي أي التفت إليه لكي أزيل مشقته.
    أَنِينَهُمْ من ثقل تلك المشقة.
    وَنَزَلْتُ من العرش السماوي. كلم الله الناس بلغتهم لطفاً وتنازلاً والمعنى أنه مزمع أن ينجيهم.
    أُرْسِلُكَ هذا مختصر ما في (خروج ٣: ٧ - ١٠).
    ٣٥ «هٰذَا مُوسَى ٱلَّذِي أَنْكَرُوهُ قَائِلِينَ: مَنْ أَقَامَكَ رَئِيساً وَقَاضِياً؟ هٰذَا أَرْسَلَهُ ٱللّٰهُ رَئِيساً وَفَادِياً بِيَدِ ٱلْمَلاَكِ ٱلَّذِي ظَهَرَ لَهُ فِي ٱلْعُلَّيْقَةِ».
    خروج ١٤: ١٩ وعدد ٢٠: ١٦
    ٱلَّذِي أَنْكَرُوهُ في بدء إرساله إليهم أي منذ أربعين سنة (خروج ٢: ١٣ و١٤).
    مَنْ أَقَامَكَ هذا مكرر قول استفانوس في (ع ٢٧) ذكره بياناً للمشابهة بين موسى (وهو نبي مرفوض من الناس مكرم من الله منقذ لشعبه في مصر وفي البحر الأحمر وفي البرية) ويسوع المسيح وهو نبي أعظم من موسى ومنقذ من عبودية أردأ من عبودية مصر. فأثبت استفانوس على اليهود في أمر موسى ما أثبته عليهم سابقاًً في أمر يوسف والغاية واحدة وهو المشابهة بين معاملتهم لذينك ومعاملتهم ليسوع.
    بِيَدِ ٱلْمَلاَكِ أن الملاك هو كلمة الله (ع ٣٨) ومعنى «يد الملاك» هنا إرشاده ومعونته.
    ٣٦ «هٰذَا أَخْرَجَهُمْ صَانِعاً عَجَائِبَ وَآيَاتٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَفِي ٱلْبَحْرِ ٱلأَحْمَرِ، وَفِي ٱلْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً».
    خروج ١٢: ٤١ و٣٣: ١ وص ٧ إلى ص ١٤ ومزمور ١٠٥: ٢٧ وخروج ١٤: ٢١ و٢٧ الخ و١٦: ١ و٢٥
    عَجَائِبَ وَآيَاتٍ العجائب والآيات بمعنى واحد وهو المعجزات والاختلاف اعتباري. فسميّت «عجائب» لتهيجيها الحيرة والعجب في نفس المشاهد. وسميت «آيات» لأنه علامات الإعلان. ونسب استفانوس تلك العجائب والآيات إلى موسى دليلاً على أنه لم يرد أن يهين موسى بل أن يكرمه أحسن إكرام يليق بالإنسان.
    فِي أَرْضِ مِصْرَ العجائب التي صنعها فيها هي المعروفة بالضربات العشر.
    وَفِي ٱلْبَحْرِ ٱلأَحْمَرِ (خروج ص ١٤) وهذا البحر بين مصر وبلاد العرب ويسمى أحياناً في الكتاب «البحر» بلا نعت (خروج ١٤: ٢ ويشوع ٢٤: ٦) و «بحر سوف» (خروج ١٠: ١٩ و١٣: ١٨) وسمي «البحر الأحمر» في هذه الآية وفي (عبرانيين ١١: ٢٩) جرياً على ترجمة السبعين. وعلة تسميته بـ «الأحمر» مجهولة ولكن ظن بعضهم أنها الأعشاب الحمراء في مائه وما يطرحه منها على شاطئه أو الرمل الأحمر هناك أو المرجان الأحمر الذي فيه أو لون الجبال التي على ساحله الغربي.
    ٣٧ «هٰذَا هُوَ مُوسَى ٱلَّذِي قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: نَبِيّاً مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ».
    تثنية ١٨: ١٥ و١٨ ومتّى ١٧: ٥ وص ٣: ٢٢
    علم موسى الإسرائيليين أن رئاسته إلى حين إذ أنبأهم بظهور نبي آخر يجب عليهم أن يطيعوه.
    نَبِيّاً مِثْلِي (تثنية ١٨: ١٥ و١٨). قال بطرس مثل ذلك حين وعظ الشعب في الهيكل انظر شرح (ص ٣: ٢١).
    لَهُ تَسْمَعُونَ ذكرهم وجوب أن يطيعوا هذا النبي يسوع المسيح الذي كان كموسى في صفاته وكونه مرفوضاً أولاً من إخوته. وأنهم برفضهم إياه أهانوا موسى الذي أنبأهم به وأمرهم بإطاعته فارتكبوا الإثم الذي اتهموا استفانوس به. وكيف يمكنه أن يجدف على موسى وهو يعتبره رمزاً إلى المسيح وشيهاً له.
    ٣٨ «هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ فِي ٱلْكَنِيسَةِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، مَعَ ٱلْمَلاَكِ ٱلَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ، وَمَعَ آبَائِنَا. ٱلَّذِي قَبِلَ أَقْوَالاً حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَا».
    خروج ١٩: ٣ و١٧ إشعياء ٦٣: ٩ وغلاطية ٣: ١٩ وعبرانيين ٢: ٢ خروج ٢١: ١ وتثنية ٥: ٢٧ و٣١ و٣٣: ٤ ويوحنا ١: ١٧ ورومية ٣: ٢
    ٱلْكَنِيسَةِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ «الكنيسة» هنا بمعنى جماعة الله وهي هنا الإسرائيليين وقيّدها بأنها في «البرية» إشارة إلى أنها لم تُحصر في اليهودية التي اعتبرها رؤساؤهم مظهر الله الوحيد إذ كلمهم نبيهم العظيم في البرية ومات هو وأكثرهم قبل أن يدخلوا الأرض المقدسة.
    مَعَ ٱلْمَلاَكِ أي المسيح وهو «يهوه» الذي اختار إسرائيل شعبه الخاص وكان موسى معه حين أعطاه الشريعة على طور سينا. وهذه الآية تبرهن ألوهية الملاك لأن المتكلم حينئذ قال عن نفسه «أنا الرب إلهك» الخ.
    مَعَ آبَائِنَا (خروج ٢٠: ٢ و٢١).
    أَقْوَالاً حَيَّةً وقال بولس أنها «أقوال الله» أي ناموسه الذي أعلنه لموسى (رومية ٣: ٢). ووصفها بأنها حية بالنظر إلى غايتها وفاعليتها فهي تنبه ضمير الخاطئ وتبكته على الخطيئة وتمنعه من ارتكابها وتقوده إلى التوبة والقداسة. وعدم هبة الناموس الحياة ليس للناس من نقص فيه بل من ضعف الطبيعة البشرية وقوة الخطيئة عليها.
    فذكر استفانوس في هذا الخطاب ثلاثة أمور ذات شأن أكرم الله بها موسى الذي رفضه شعبه في أول أمره وهي أنه رمز إلى المسيح وأن الله كلمه وجهاً لوجه وأنه أنزل عليه الشريعة.
    ٣٩، ٤٠ «٣٩ ٱلَّذِي لَمْ يَشَأْ آبَاؤُنَا أَنْ يَكُونُوا طَائِعِينَ لَهُ، بَلْ دَفَعُوهُ وَرَجَعُوا بِقُلُوبِهِمْ إِلَى مِصْرَ ٤٠ قَائِلِينَ لِهَارُونَ: ٱعْمَلْ لَنَا آلِهَةً تَتَقَدَّمُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هٰذَا مُوسَى ٱلَّذِي أَخْرَجَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ».
    خروج ٣٢: ١
    كان هذا وموسى على الطور (خروج ٣٢: ١ و٢٣).
    رَجَعُوا بِقُلُوبِهِمْ يحتمل أنهم أرادوا الرجوع إلى مصر حقيقة وندموا على الخروج منها (عدد ١١: ٥). والأرجح أن المعنى أنهم عدلوا عن الله إلى آلهة المصريين ومالت قلوبهم إلى عوائدهم وشهواتهم وأوثانهم وكرهوا حدود الله المقدسة وعبادته الروحية.
    آلِهَةً تَتَقَدَّمُ أَمَامَنَا أي أوثاناً تُحمل قدامه كعادة الوثنيين يومئذ في أسفارهم وحروبهم للوقاية والنجاح بدلاً من «يهوه» الذي تقدمه في السحابة و «عمود النار» في البحر الأحمر والبرية.
    هٰذَا مُوسَى الإشارة للاستخفاف فخانوه كما خانوا الله.
    مَاذَا أَصَابَهُ أهلك أم تركنا. لأنه بقي أربعين يوماً على الجبل فلم تبق فيهم من ثقة بموسى ولا بإلهه.
    ٤١ «فَعَمِلُوا عِجْلاً فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ وَأَصْعَدُوا ذَبِيحَةً لِلصَّنَمِ، وَفَرِحُوا بِأَعْمَالِ أَيْدِيهِمْ».
    تثنية ٩: ١٦ ومزمور ١٠٦: ١٩
    فَعَمِلُوا عِجْلاً من الحلي الذي أتوا به من مصر (خروج ٣٢: ٢ - ٤). والأرجح أن ذلك العجل كان على صورة الثور الذي عبده المصريون وسموه في ممفيس أبيس وفي هليوبوليس نيفيس فمال الإسرائيليون بعد ذلك إلى اتخاذه رمزاً إلى الله لأن الأسباط العشرة عبدوا عجلي الذهب اللذان نصبها يربعام في بيت إيل ودان. وذكر استفانوس هذا إشارة إلى شدة ميل الأمة الإسرائيلية إلى رفض الله والسقوط في الخطيئة.
    وَفَرِحُوا كان ذلك في احتفالهم المذكور في (خروج ٣٢: ٦).
    بِأَعْمَالِ أَيْدِيهِمْ أي صنمهم وجمع العمل لاشتراك كثيرين فيه أو لعله جمع مع الصنم توابع الذبيحة.
    ٤٢ «فَرَجَعَ ٱللّٰهُ وَأَسْلَمَهُمْ لِيَعْبُدُوا جُنْدَ ٱلسَّمَاءِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلأَنْبِيَاءِ: هَلْ قَرَّبْتُمْ لِي ذَبَائِحَ وَقَرَابِينَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ؟».
    مزمور ٨١: ١٢ وخروج ٢٠: ٢٥ و٣٩ ورومية ١: ٢٤ و٢تسالونيكي ٢: ١١ تثنية ٤: ١٩ و١٧: ٣ و٢ملوك ١٧: ١٦ و٢١: ٣ وإرميا ١٩: ١٣ عاموس ٥: ٢٥ و٢٦
    فَرَجَعَ ٱللّٰهُ رجعت قلوبهم عن الله فرجع الله عن إظهار رضاه عنهم وبركته عليهم ولم يحفظهم بعد ذلك من نتائج شرورهم.
    وَأَسْلَمَهُمْ أي عدل عن حفظه إياهم بعد ذلك من تهافتهم على شهواتهم. ولا مصاب أعظم من هذا على بني البشر وهو أن ينزع الله روحه القدوس من قلوبهم ويتركهم يفعلون بمقتضى شهواتهم وأهوائهم.
    جُنْدَ ٱلسَّمَاءِ أي الشمس والقمر والنجوم. وذلك عاقبة ترك الله إياهم. وأخذوا تلك العبادة عن الفينيقيين وكان إلههم الأعظم الشمس وسموها بالبعل وسقط فيها الإسرائيليون كثيراً بعد ذلك.
    كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ استشهد استفانوس بما هو مكتوب في (عاموس ٥: ٢٥ و٢٦) وذكره معنى لا لفظاً جرياً على ترجمة السبعين.
    فِي كِتَابِ ٱلأَنْبِيَاءِ جمع اليهود النبوءات الاثتني عشرة القصيرة في كتاب واحد سموه «كتاب الأنبياء».
    هَلْ قَرَّبْتُمْ لِي ذَبَائِحَ أي هل قدمتم ذلك لي وحدي فالاستفهام إنكاري أي أنكم لم تقربوا الخ. نعم أنهم عبدوا الله أحياناً لا دائماً وعبدوه ظاهراً لا باطناً وكانوا في الوقت الذي يعبدونه فيه يحملون خيمة مولوك فأشركوه بالله فصارت عبادتهم إياه كلا شيء.
    ٤٣ «بَلْ حَمَلْتُمْ خَيْمَةَ مُولُوكَ، وَنَجْمَ إِلٰهِكُمْ رَمْفَانَ، ٱلتَّمَاثِيلَ ٱلَّتِي صَنَعْتُمُوهَا لِتَسْجُدُوا لَهَا. فَأَنْقُلُكُمْ إِلَى مَا وَرَاءَ بَابِلَ».
    ١ملوك ١١: ٥ و٢ملوك ٢٣: ١٣ وإرميا ٣٢: ٣٥
    هذا جواب الله لسؤال الله نفسه في ع ٦ والمعنى أنكم «لم تقربوا» الخ «بل حملتم» الخ.
    خَيْمَةَ هذا إما خيمة حقيقية لذلك الصنم وإما عُلب مركبة كهيئة خيمة وفي تلك العلب تماثيل صغار لمولوك وهو الأرجح. فهي كالهياكل الفضية لأرطاميس إلاهة الأفسسيين (أعمال ١٩: ٢٤). ولا ريب في أن خيمة مولوك كانت كهيئة خيمة الاشتراع اتخذوها بمنزلة الأحراز وكانوا يحملونها إما في أسفارهم كسائر أمتعتهم وإما في احتفالاتهم الدينية إكراماً لمولوك وبذلك تركوا الله وسحابته النيرة فوق رؤوسهم لإرشادهم وهو يمطر المن عليهم يوماًً فيوماً.
    مُولُوكَ هذا حسب ترجمة السبعين وفي الأصل العبراني «ملكوم» لا مولوك وكلاهما مشتقان من أصل واحد وهو ملك فهو إله العمونيين وكانوا يقربون له الذبائح البشرية. وموسى نهى الإسرائيليين عن تقريب أولادهم لمولوك وأنذر من خالف بالموت (لاويين ١٨: ٢١ و٢٠: ٢ - ٥) وبنى سليمان هيكلاً لمولوك على جبل الزيتون (١ملوك ١١: ٧). ومنسى ملك يهوذا «عبر ابنه في النار» إكراماً له (٢ملوك ٢١: ٣ - ٦). قال الربانيون في بعض مؤلفاتهم أن تمثاله من النحاس أجوف كبير جداً على هيئة إنسان ماد يديه إلى أمام وكانوا يوقدون النار في جوفه ومتى حمي كثيراً وضعوا الطفل على يديه فمات سريعاً. وكانت التماثيل التي حملها الإسرائيليون في البرية صغاراً على هيئته. ولم يتحقق أي الأجرام السماوية هو مولوك والمرجح أنه الشمس كبعل عند الفينيقيين.
    وَنَجْمَ إِلٰهِكُمْ أي صنم إلهكم المصنوع كهيئة النجم.
    رَمْفَانَ وهو في العبراني «كيوان» وهما اسمان لمسمى واحد وهو نجم من النجوم السيّارة يسمى في العربية زُحل ويسمى كيوان أيضاً كما في العبرانية. فالسبعون بدلوا كيوان برمفان لأنه هو اسم زُحل في القبطية ونقله استفانوس عن ترجمتهم.
    ٱلتَّمَاثِيلَ جمع ليعم الصنم وخيمته وأدواتها.
    فَأَنْقُلُكُمْ مسبيين عقاباً على عبادتكم الأوثان.
    مَا وَرَاءَ بَابِلَ هذا كما في ترجمة السبعين وفي العبرانية «ما وراء دمشق» والمعنى أنقلكم مسبيين إلى خارج أرضكم ودمشق في الطريق إلى بابل وهم سُبوا إلى ما وراء بابل (٢ملوك ١٧: ٦).
    ٤٤ «وَأَمَّا خَيْمَةُ ٱلشَّهَادَةِ فَكَانَتْ مَعَ آبَائِنَا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، كَمَا أَمَرَ ٱلَّذِي كَلَّمَ مُوسَى أَنْ يَعْمَلَهَا عَلَى ٱلْمِثَالِ ٱلَّذِي كَانَ قَدْ رَآه».
    عدد ٩: ١٥ و١٧: ٢٣ خروج ٢٥: ٤٠ و٢٦: ٣٠ وعبرانيين ٨: ٥
    بعد ما تكلم استفانوس على عصيان بني إسرائيل وعبادتهم الأصنام أخذ يتكلم على محل العبادة الحقيقي.
    خَيْمَةُ ٱلشَّهَادَةِ كذا سُميت في (عدد ١٧: ٨) لأنه وُضع فيها لوحا الشريعة التي كانت تشهد بمشيئة الله ولأنها كانت هي نفسها تشهد بحضور الله فيها بين الكروبين (خروج ٢٥: ٢٢).
    يَعْمَلَهَا عَلَى ٱلْمِثَالِ ذكر هنا استفانوس أن نظام الخيمة والهيكل كان بأمر إلهي دفعاً لتهمتهم أنه جدف على الهيكل. وأمر الله لموسى بذلك في (خروج ٢٥: ٤٩). والظاهر أن مراده من هذا الكلام أنه يمكن أن يرضى الله عبادته في غير الهيكل بعده كما رضي أن يعبد في الخيمة قبله. وذكره بذكر «المثال» أن الخيمة الأرضية ليست سوى رمز إلى حقيقة سماوية تتم بالمسيح في عهد أفضل كما قيل في (عبرانيين ٨: ٢ و٥) وما صح على الخيمة يصح على الهيكل فهو أيضاً ليس إلا رمزاً إلى ما هو أعظم منه وأفضل.
    ٤٥ «ٱلَّتِي أَدْخَلَهَا أَيْضاً آبَاؤُنَا إِذْ تَخَلَّفُوا عَلَيْهَا مَعَ يَشُوعَ فِي مُلْكِ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ طَرَدَهُمُ ٱللّٰهُ مِنْ وَجْهِ آبَائِنَا، إِلَى أَيَّامِ دَاوُدَ».
    يشوع ٣: ١٤ نحميا ٩: ٢٤ ومزمور ٤٤: ٢ و٧٨: ٥٥ وص ١٣: ١٩
    ٱلَّتِي أَدْخَلَهَا أي الخيمة التي أدخلها الآباء إلى أرض الميعاد.
    إِذْ تَخَلَّفُوا عَلَيْهَا أي أخذوها بالوراثة لأنه مات الجيل الأول الذي خرج من مصر وقام خلَفه وأخذ الخيمة وأدخلها إلى الأرض المقدسة.
    مَعَ يَشُوعَ قائدهم بعد موسى.
    فِي مُلْكِ ٱلأُمَمِ أي البلاد التي سكنها الأمم في أرض كنعان.
    إِلَى أَيَّامِ دَاوُدَ هذا إما متعلق بقوله «أدخلها» وإما بقوله «طردهم» والأرجح الأول لأنهم حفظوا الخيمة وعبدوا الله فيها إلى أيام داود حين طرد اليبوسيين من أورشليم فتكون مدة الخيمة نحو خمس مئة سنة أيام موسى إلى نهاية ملك داود.
    ٤٦، ٤٧ «٤٦ ٱلَّذِي وَجَدَ نِعْمَةً أَمَامَ ٱللّٰهِ، وَٱلْتَمَسَ أَنْ يَجِدَ مَسْكَناً لإِلٰهِ يَعْقُوبَ. ٤٧ وَلٰكِنَّ سُلَيْمَانَ بَنَى لَهُ بَيْتاً».
    ١صموئيل ١٦: ١ و٢صموئيل ٧: ١ ومزمور ٨٩: ١٩ وص ١٣: ٢٢ و١ملوك ٨: ١٧ و١أيام ٢٢: ٧ ومزمور ١٣٢: ٤ و٥ و١ملوك ٦: ١ و٨: ٢٠ و١أيام ١٧: ١٢ و٢أيام ٣: ١
    وَجَدَ نِعْمَةً بأن نجح في أعماله وانتصر على أعدائه وثبت في ملكه ومع ذلك كله لم يؤذن له أن يبني له بيتاً. وغاية استفانوس من ذلك بنيان الهيكل ليس عند الله بأمر جوهري وإلا لسمح لداود ببنائه.
    ٱلْتَمَسَ أَنْ يَجِدَ مَسْكَناً لم يذكر العهد القديم هذا الالتماس لكنه لمح إليه في (٢صموئيل ٧: ٤ الخ و١أيام ٢٢: ٧). فالمسكن الذي التمس أن يبنيه هو معبد ثابت لعبادة الله وحفظ تابوته وسائر الرموز فيه.
    لإِلٰهِ يَعْقُوبَ كما ذكر داود في (مزمور ١٣٢: ٥).
    وَلٰكِنَّ سُلَيْمَانَ بَنَى أذن الله لسليمان في ما لم يأذن فيه لداود (٢أيام ٦: ٧ و٨) وعلة ذلك أن داود كان رجل حرب سفك دماء كثيرة (١ايام ٢٢: ٨) لكن داود أعد كل لوازم البناء (١ملوك ص ٦ و١أيام ص ٢٢). ويظهر من هذا أن الإسرائيليين بقوا بلا هيكل نحو خمس مئة سنة. فإذا كانت الخيمة التي صُنعت على المثال الذي أراه الله لموسى وكان فيها تابوت العهد وسائر المواد المقدسة أُزيلت وقام الهيكل مقامها فأي تجديف في أن يُقال يُحتمل أن الهيكل أيضاً يزول ويقوم غيره مقامه.
    ٤٨ «لٰكِنَّ ٱلْعَلِيَّ لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلأَيَادِي، كَمَا يَقُولُ ٱلنَّبِيُّ».
    ١ملوك ٨: ٢٧ و٢أيام ٢: ٦ و٦: ١٨ وص ١٧: ٢٤
    لٰكِنَّ ٱلْعَلِيَّ لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ أي أنه لا ينحصر فيها لأنه العلي المالئ الكون. وهذا جوهر ما قاله سليمان (١ملوك ٨: ٢٧) وما قاله المسيح للمرأة السامرية (يوحنا ٤: ٢١ - ٢٣). وما قاله بولس في أثينا (ص ١٧: ٢٤). قصد استفانوس بإيراد هذا أن يزيل مغالاة اليهود بالهيكل وأن يفسر ما قاله فيه وهم حرفوا معناه.
    كَمَا يَقُولُ ٱلنَّبِيُّ أي إشعياء (إشعياء ٦٦: ١ و٢) وما ذكره استفانوس بمعنى ذلك دون لفظه.
    ٤٩ «ٱلسَّمَاءُ كُرْسِيٌّ لِي، وَٱلأَرْضُ مَوْطِئٌ لِقَدَمَيَّ. أَيَّ بَيْتٍ تَبْنُونَ لِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ وَأَيٌّ هُوَ مَكَانُ رَاحَتِي؟».
    إشعياء ٦٦: ١ و٢ ومتّى ٥: ٣٤ و٣٥ و٢٣: ٢٢
    كُرْسِيٌّ... مَوْطِئٌ لِقَدَمَيَّ انظر شرح (متّى ٥: ٣٤ و٣٥).
    أَيَّ بَيْتٍ تَبْنُونَ لِي أي لا يمكن أن يُنبى بيت يسع الله غير المحدود أو يليق بعظمته.
    مَكَانُ رَاحَتِي أي مسكني الدائم على الأرض كما في (مزمور ٩٥: ١١).
    ٥٠ «أَلَيْسَتْ يَدِي صَنَعَتْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءَ كُلَّهَا؟».
    كُلَّهَا أي السموات والأرض فيستحيل أن صانع هذه كلها يُحصر في موضع من الأرض. فالنتيجة أن استفانوس لم يرتكب شيئاً من التجديف أن كان قد قال يجوز أن يُعبد الله عبادة روحية في كل مكان لأنه يوجد في كل مكان.
    ٥١ «يَا قُسَاةَ ٱلرِّقَابِ، وَغَيْرَ ٱلْمَخْتُونِينَ بِٱلْقُلُوبِ وَٱلآذَانِ، أَنْتُمْ دَائِماً تُقَاوِمُونَ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذٰلِكَ أَنْتُم».
    خروج ٣٢: ٩ و٣٣: ٣ وإشعياء ٤٨: ٤ لاويين ٢٦: ٤٢ وتثنية ١٠: ١٦ وإرميا ٤: ٤ و٦: ١٠ و٩: ٢٦ وحزقيال ٤٤: ٩
    ذهب أكثر المفسرين إلى أن استفانوس غيّر هنا مجرى الخطاب لملاحظته أن السامعين أبوا أن يأذنوا له في إكماله على النسق الأول. وعرف ذلك إمّا من إمارات وجوههم أو من تذمرهم وصهصهتهم به فلم يبق له من فرصة لسوى أن يقول بعض الكلمات ليبيّن لهم أنهم جروا على سنن آبائهم في العناد والتمرد.
    يَا قُسَاةَ ٱلرِّقَابِ أي يا أهل العناد والعصيان وهو مستعار من عمل الثيران غير الخاضعة للنير والحراثة. وهذا كثير الاستعمال في العهد القديم (خروج ٣٢: ٩ و٣٣: ٣ و٥ و٣٤: ٩ وتثنية ٩: ٦ و١٣ و١٠: ١٦).
    وَغَيْرَ ٱلْمَخْتُونِينَ بِٱلْقُلُوبِ وَٱلآذَانِ افتخر اليهود بكونهم مختونين وحسبوا الختان كافياً ليحميهم من غضب الله أما استفانوس فأبان أنهم غلف في عيني الله لأنهم اتخذوا العلامة الخارجية للطاعة والتطهير دون الحقيقة وهذا ليس بختان بدليل قول موسى «فَٱخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ، وَلاَ تُصَلِّبُوا رِقَابَكُمْ بَعْدُ» (تثنية ١٠: ١٦). وغرلة القلوب ما فيها من المعصية لشريعة الله ومن الشهوات الفاسدة والأهواء الخبيثة وغرلة الآذان رفض سمع صوت الله (لاويين ٢٦: ٤١ وإرميا ٩: ٢٦).
    دَائِماً تُقَاوِمُونَ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لأنكم رفضتم ما أوحي به الروح القدس إلى موسى والأنبياء ويسوع المسيح ورسله فمقاومة من تكلموا بالروح القدس هي عين المقاومة لذلك الروح (متّى ١٠: ٤٠).
    كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ الخ وذلك حسب ما أوُضح في (ع ٢٧ وع ٣٥ و٣٩ - ٤٣).
    ٥٢ «أَيُّ ٱلأَنْبِيَاءِ لَمْ يَضْطَهِدْهُ آبَاؤُكُمْ، وَقَدْ قَتَلُوا ٱلَّذِينَ سَبَقُوا فَأَنْبَأُوا بِمَجِيءِ ٱلْبَارِّ، ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ صِرْتُمْ مُسَلِّمِيهِ وَقَاتِلِيهِ».
    ٢أيام ٣٦: ١٦ ومتّى ٢١: ٣٥ و٢٣: ٣٤ و٣٧ و١تسالونيكي ٢: ١٥ ص ٣: ١٤
    هذا السؤال يتضمن أن آباءهم اضطهدوا كل الأنبياء وهذا يصدق عليهم باعتبار كونهم أمة وكذا وقال المسيح في (متى ٢١: ٣٣ - ٤٠ و٢٣: ٢٩ - ٣٥).
    ٱلَّذِينَ سَبَقُوا فَأَنْبَأُوا وهذا زاد فظاعة إثمهم لأنهم قتلوا الأنبياء الذي معظم أنبائهم التبشير بمجيء المسيح الذي هو أعظم بركات الله على الأمة.
    ٱلْبَارِّ اي المسيح انظر شرح (ص ٣: ١٤). ولعلّ هذا اللقب مأخوذ من (إشعياء ١١: ٤ و٥ و٥٣: ١٢) وسماه استفانوس «البار» أمام المجلس الذي حكم عليه بالموت كمذنب وهذا مثل قول بيلاطس في (متّى ٢٧: ١٩) وقول يعقوب في (يعقوب ٥: ٦) وقول يوحنا في (١يوحنا ٢: ١).
    ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ قال سابقاً «كما كان آباؤكم كذلك أنتم» فإنهم قتلوا الأنبياء الذين انبأوا بمجيء المسيح وأنتم اقتديتم بهم وزدتم عليهم بأن قتلتم المسيح نفسه.
    مُسَلِّمِيهِ وَقَاتِلِيهِ لأنهم استأجروا يهوذا الاسخريوطي ليسلمه إليهم واستأجروا شهود زور شهدوا عليه فحكموا عليه ظلماً وسلموه إلى بيلاطس ليقتله وأجبروه على صلبه فأسندوا الفعل إلى علته أو مسببه وهم اليهود الذين يخاطبهم. فاستفانوس المتهم بالتجديف أتهم بما قال المجمع بأفظع الآثام فصار المتهم متهماً.
    ٥٣ «ٱلَّذِينَ أَخَذْتُمُ ٱلنَّامُوسَ بِتَرْتِيبِ مَلاَئِكَةٍ وَلَمْ تَحْفَظُوهُ؟».
    خروج ٢٠: ١ وغلاطية ٣: ١٩ وعبرانيين ٢: ٢
    ٱلنَّامُوسَ أي شريعة موسى المعطاة على طور سينا.
    بِتَرْتِيبِ مَلاَئِكَةٍ هذا وفق ما جاء في ترجمة السبعين في (تثنية ٣٣: ٢ ومزمور ٦٨: ١٧) ووفق الرأي العام عند اليهود. والقول بأن «الناموس بترتيب ملائكة» يزيده شرفاً ووقاراً والذين يخالفونه إثماً وعقاباً. وهذا التعليم لم يوضحه العهد القديم لكنه أوضح هنا وفي (غلاطية ٣: ١٩ وعبرانيين ٢: ١) ولعل المعنى أن الملائكة حضروا أجواقاً عند إعطاء الناموس وكانوا شهوداً بذلك وأنهم وسائل أو آلات لما ظهر من الآيات عند إعطائه كصوت البوق والنار والدخان والرعود والزلازل فهنا يظهر أنهم لم يسمحوا لاستفانوس أن يتفوه بكلمة بعد وإلا لبشرهم بالرحمة والمغفرة بشرط التوبة والإيمان.

    موت استفانوس ع ٥٤ إلى ص ٨: ٣


    ٥٤ «فَلَمَّا سَمِعُوا هٰذَا حَنِقُوا بِقُلُوبِهِمْ وَصَرُّوا بِأَسْنَانِهِمْ عَلَيْهِ».
    ص ٥: ٣٣
    وَصَرُّوا بِأَسْنَانِهِمْ علامة شدة غيظهم وحنقهم (أيوب ١٦: ٩ ومزمور ٣٥: ٦ و٣٧: ١٢).
    ٥٥ «وَأَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، فَرَأَى مَجْدَ ٱللّٰهِ، وَيَسُوعَ قَائِماً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ».
    ص ٦: ٥
    شَخَصَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ كأنه يرفع دعواه إلى الله إذ لم يجد في ذلك المجلس من رحمة ولا عدل وسأل الله الحماية والتبرئة.
    مُمْتَلِئٌ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ انظر شرح (ص ٢: ٤) وكان كذلك قبلاً (ص ٦: ٥) فكان عند الموت كما كان وقت الحماية فألهمه الروح القدس حينئذ ليعزيه ويشجعه على أن يشهد للحق في موته كما شهد له في حياته.
    فَرَأَى رؤيا سماوية أنعم الله عليه بها إجابة لاستغاثته به لما شخص إلى السماء فحوّل نظره عن كل ما حوله في أورشليم السماوية ورأى مجلس السماء والديّان العادل الذي لأجله مزمع أن يموت شهيداً.
    مَجْدَ ٱللّٰهِ نوراً ساطعاً إلى حضور الله متّى ١٦: ٢٧ و٢٤: ٣٠ ولوقا ٢: ٩).
    عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ محل الشرف والسلطة (ص ٢: ٢٥ ومرقس ٢٦: ٦٤).
    ٥٦ «فَقَالَ: هَا أَنَا أَنْظُرُ ٱلسَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَائِماً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ».
    حزقيال ١: ١ ومتّى ٣: ١٦ وص ١٠: ١١ دانيال ٧: ١٣
    ٱلسَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً هذا مجاز انظر (حزقيال ١: ١) والمعنى كأنه نظر الجو مفتوحاً فوق رأسه وما وراء ظاهراً لعينيه. وهذه الرؤيا مُنحت له تقوية لرجائه وتحقيقاً لقرب المسيح منه وعنايته به وتصديقاً لكل ما قرره ولإفادة كل المضطهدين لأجل المسيح أنهم غير متروكين.
    وَٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ كثيراً ما دعا المسيح نفسه بهذا الاسم ولم يدعه غيره به سوى استفانوس هنا ويوحنا في رؤياه السماوية (رؤيا ١: ١٣ و١٤: ١٤) والأرجح أن على ذلك أنه رآه في هيئة الإنسان.
    قَائِماً ذُكر في عدة أماكن أنه «جَالس عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ» (مرقس ١٦: ١٩ وأفسس ١: ٢٠ ومزمور ١١٠: ١) وذلك بالنظر إلى كونه دياناً. وذُكر هنا أنه «قائم» وذلك بالنظر إلى استعداده لإعانة عبده واستقباله.
    ٥٧ «فَصَاحُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَسَدُّوا آذَانَهُمْ، وَهَجَمُوا عَلَيْهِ بِنَفْسٍ وَاحِدَة».
    صَاحُوا لم يُذكر ماذا قالوا والأرجح أن بعضهم قال «جدف» وبعضهم «خذوه» وبعضهم «أخرس» وما أشبه ذلك (ص ١٩: ٣٢ ومتّى ٢٧: ٢٣ ويوحنا ١٩: ١٢).
    وَسَدُّوا آذَانَهُمْ إشارة إلى أنهم أنفوا من فظاعة تجديفه على رأيهم بشهادته بمجد يسوع وجلاله وبما يلزم عن ذلك من الحكم عليهم بالظلم.
    هَجَمُوا عَلَيْهِ لعل أعضاء المجلس سبقوا إلى ذلك وتبعهم كثيرون من الشعب الذين كانوا يسمعون ويشعرون شعورهم.
    ٥٨ «وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ وَرَجَمُوهُ. وَٱلشُّهُودُ خَلَعُوا ثِيَابَهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْ شَابٍّ يُقَالُ لَهُ شَاوُلُ».
    ١ملوك ٢١: ١٣ ولوقا ٤: ٢٩ وعبرانيين ١٣: ١٢ لاويين ٢٤: ١٦ تثنية ١٣: ٩ و١٠ و١٧: ٧ وص ٨: ١ و٢٢: ٢٠
    هذا ليس بمقتضى أمر شرعي إذ لم يكن لليهود وقتئذ من سلطان على قتل أحد انظر شرح (يوحنا ١٨: ٣١) وكان شغب الشعب بدون حق. وغض الوالي نظره عنه لأنه لم يضر بسلطانه. وربما كان ذلك كما ظن البعض على أثر عزل بيلاطس قبل أن أتى غيره وكان ذلك في سنة ٣٦ للميلاد.
    وَأَخْرَجُوهُ على وفق عادة اليهود بناء على قوله تعالى لموسى «أَخْرِجِ ٱلَّذِي سَبَّ إِلَى خَارِجِ ٱلْمَحَلَّةِ» (لاويين ٢٤: ١٤) وبعد دخول الإسرائيليين أرض الميعاد وإقامتهم بالمدن اعتبروا كل مدينة بمنزلة المحلة وأخرجوا المحكوم عليهم بالرجم أو غيره من أنواع القتل منها كما فعلوا بنابوت (١ملوك ٢١: ١٣) وكما فعلوا بيسوع في الناصرة حين أرادوا قتله طرحاً (لوقا ٤: ٢٩).
    وَرَجَمُوهُ هذا هو القصاص المعيّن على التجديف وغيره من أفظع الذنوب (لاويين ٢٤: ١٦ وخروج ١٩: ١٣ وتثنية ١٧: ٥ ويشوع ٧: ٢٥ انظر شرح يوحنا ١٠: ٣١).
    وَٱلشُّهُودُ أي الشهود الكذبة الذين ذُكروا في (ص ٦: ١٣).
    خَلَعُوا ثِيَابَهُمْ تسهيلاً لرميه بالحجارة وجرياً على عادة الذين يباشرون عملاً شاقاً انظر شرح (متّى ٥: ٤٠). وقد أمرت الشريعة أن «الشهود يرمون بالحجارة أولاً» (تثنية ١٣: ٩ و١٠ و١٧: ٧) والغاية من ذلك تحقيق صدق الشهود لأن معرفة الشاهد أنه يبتدئ في قتل البريء مما يمنعه من شهادة الزور. فنرى أن اليهود مع حكمهم على استفانوس ظلماً ومخالفتهم لشريعة العدل والشريعة اليهودية في الأمور الجوهرية حافظوا بكل اعتناء على العرضيات كإخراج المتهم ورجمه وابتداء الشهود في الرجم.
    عِنْدَ رِجْلَيْ شَابٍّ الخ هذا أول ذكر شاول الطرسوسي وعلى ذكره هنا أنه اشتهر بعد هذا باضطهاده الكنيسة وبمصيره رسولاً ليسوع المسيح. فحضوره مع الراجمين وحفظه أثوابهم علامة أنه رضي ما عملوه واشترك معهم فيه كما قال عن نفسه في (ص ٢٢: ٢٠) وكان من مجمع الكيليكيين فلا بد أنه سمع جدال استفانوس وصدّق أنه مبتدع وعدو لتقاليد اليهود وتعاليمهم ودينهم وأنه مستحق الموت. ونعته «بالشاب» يدل على أنه ما بين سن الثلاثين وسن الأربعين. وما قاله في (ص ٢٦: ١٠) يشير إلى أنه كان من أعضاء المجلس الكبير فاقتضى أن يكون فوق سن الثلاثين وستأتي ترجمته في (ص ٨: ٣).
    ٥٩ «فَكَانُوا يَرْجُمُونَ ٱسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: أَيُّهَا ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱقْبَلْ رُوحِي».
    ص ٩: ١٤ مزمور ٣١: ٥ ولوقا ٢٣: ٤٦
    فَكَانُوا يَرْجُمُونَ ذكر ذلك في (ع ٥٨) ثم تكريره هنا يشير إلى أنهم شغلوا وقتاً طويلاً برجمه.
    وَهُوَ يَدْعُو صلى استفانوس صلاتين الأولى عن نفسه وذلك لا لحماية جسده من الموت أو من آلامه بل لأجل بركات روحية وأدبية عن قاتليه. فاقتدى بالمسيح في الصلاتين إلا أن المسيح صلى أولاً عن قاتليه ثم عن نفسه وسبب ذلك أن نفس المسيح لا تحتاج إلى شيء.
    أَيُّهَا ٱلرَّبُّ يَسُوعُ وجه استفانوس صلاته إلى يسوع عند ساعة الموت باعتبار أن يسوع سامع الدعاء ومساو للآب وكان حينئذ مملوءاً من الروح القدس. ومنحه الله أن يرى رؤيا مجد فتحقق أنه يسوغ أن نصلي للمسيح كما نصلي لله وأن نستودعه أنفسنا عند الموت. ولوقا كتب ما أوحي الله به فيذكر ذلك بلا لوم أو تخطئة مع أنه عرف أن ما أتاه استفانوس يكون مثالاً لغيره.
    ٱقْبَلْ رُوحِي هكذا قال المسيح على الصليب لأبيه (لوقا ٢٣: ٤٦). ومعنى قوله «اقبل روحي» أي لتكن معك في السماء وهذا أحسن صلاة عند الموت. والنفس التي يستودعها الإنسان في يدي المسيح هي في الأمن التام فلا يمكن أن يُقال ذلك على من يستودع نفسه يدي مخلوق.
    ٦٠ «ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هٰذِهِ ٱلْخَطِيَّةَ. وَإِذْ قَالَ هٰذَا رَقَدَ».
    ص ٩: ٤٠ و٢٠: ٣٦ و٢١: ٥ متّى ٥: ٤٤ ولوقا ٦: ٢٨ و٢٣: ٣٤ متّى ٢٧: ٥٢
    جَثَا أتى ذلك اختياراً لا إجباراً مما ألم به من ألم الرجم وجثا اعتباراً للوضع في الصلاة الحارة بتواضع ولأنه استحسن أن يموت وهو يصلي هكذا.
    يَا رَبُّ أي يا يسوع ربي (ص ١: ٢٤).
    لاَ تُقِمْ لَهُمْ هٰذِهِ ٱلْخَطِيَّةَ أي إثم القتل كذا صلى المسيح من أجل قاتليه (لوقا ٢٣: ٣٤). ولا ديانة غير الديانة المسيحية تعلم الإنسان مثل هذه الصلاة فإنه بدلاً أن يسأل الله عقابه على قاتليه سأله أن يغفر لهم إثم مقاومتهم ليسوع وقتل واحد من تلاميذه. ولا نعلم كم من أولئك الحاضرين وجد الرحمة إجابة لتلك الصلاة إنما نعلم أنه وجدها واحد منهم وهو شاول أي بولس فصدق من قال لولا صلاة استفانوس ما ربحت الكنيسة بولس.
    وَإِذْ قَالَ هٰذَا رَقَدَ أتاه الموت وهو جاث على ركبتيه يصلي. ونسبة الرقاد إلى استفانوس بدل الموت في مثل تلك الأحوال في أثناء هيجان الناس وصراخهم وظلمهم مما لا نتوقعه فهي تشير إلى هدوء قلبه وسلام نفسه واطمئنانه حتى لم يؤثر فيه شيء من أعظم الأهوال الخارجية. ووجه الشبه بين موت المسيحي والرقاد هو أن الرقاد يسبقه التعب والمسيحي قبل موته يتعب من خطاياه ومقاومة العالم والشيطان والخدمة الشاقة. وأن الرقاد تعقبه الراحة والذي يموت بالإيمان يستريح على وفق قوله تعالى «طُوبَى لِلأَمْوَاتِ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلآنَ نَعَمْ يَقُولُ ٱلرُّوحُ، لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ» (رؤيا ١٤: ١٣). وأن الرقاد تعقبه اليقظة والذين يموتون في المسيح تقوم أجسادهم في صباح يوم القيامة وتشارك النفس في السعادة انظر شرح (يوحنا ١١: ١١ و١٢ وانظر أيضاً ١كورنثوس ١١: ٣٠ و١٥: ١٨ و٥١ و١تسالونيكي ٤: ١٣ و١٤ و٥: ١٠).



  2. #2
    الأصحاح الثامن

    ١ «وَكَانَ شَاوُلُ رَاضِياً بِقَتْلِهِ. وَحَدَثَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱضْطِهَادٌ عَظِيمٌ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَتَشَتَّتَ ٱلْجَمِيعُ فِي كُوَرِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ، مَا عَدَا ٱلرُّسُلَ».
    ص ٧: ٥٨ و٢٢: ٢٠ ص ١١: ١٩
    كان الأولى أن تُحسب هذه الآية الأخيرة من الأصحاح السابع لأنها تابعة لموت استفانوس.
    فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ على أثر موت استفانوس.
    ٱضْطِهَادٌ عَظِيمٌ موت استفانوس لم يشف غيظ قاتليه فظلوا غاضبين على اتباع يسوع الذين هم أمثال استفانوس. ولعل ذلك الاضطهاد كان حبس بعض المؤمنين وسلب أموالهم وجلدهم وفرار غيرهم لما وقع عليهم من الشدة والضيق (ص ١١: ١٩).
    فَتَشَتَّتَ ٱلْجَمِيعُ أي أكثرهم. قصد أعداء الكنيسة ملاشاتها بتشتيت أعضائها لكن الله جعل تشتتهم خيراً للكنيسة لأنه آل إلى نشر الإنجيل خارج أورشليم على وفق قضاء الله وأمر المسيح (متّى ٢٨: ١٩).
    فِي كُوَرِ ٱلْيَهُودِيَّةِ كحبرون وغزة ولد ويافا (ص ٢٩: ٣٢ و٣٦).
    وَٱلسَّامِرَةِ لأنها مجاورة أورشليم والسامريون أعداء اليهود ولذلك أمن الفارون إليهم من اليهود. والأرجح أن بعض أولئك الفارين رجع إلى مساكنهم الأولى خارج اليهودية لأننا نعلم من ص ١١: ١٩ أن بعضهم ذهب إلى فينيقية وقبرس وأنطاكية.
    مَا عَدَا ٱلرُّسُلَ لعلهم رأوا أنه يجب عليهم باعتبار كونهم معلمي الكنيسة أن يبقوا هنالك وإن عرّضوا أنفسهم للخطر لئلا يصدق عليهم قول المسيح «ٱلأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلاَ يُبَالِي بِٱلْخِرَافِ» (يوحنا ١٠: ١٣).
    ٢ «وَحَمَلَ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ ٱسْتِفَانُوسَ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ مَنَاحَةً عَظِيمَةً».
    تكوين ٢٣: ٢ و٥٠: ١٠ و١صموئيل ٣: ٢١
    حَمَلَ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ الأرجح أنهم يهود كالمذكورين في (ص ٢: ٥) وكسمعان الشيخ ولو كانوا مسيحيين لسمّاهم لوقا إخوة لأن الإخوة لم يجسروا حينئذ أن يحتفلوا بدفن استفانوس علناً. وأولئك الأتقياء لم يستحسنوا قتل استفانوس فأرادوا دفنه بالكرامة ومعنى «الحمل» هنا يشتمل على إعداد كل لوازم الدفن من أطياب ولفائف الخ.
    مَنَاحَةً عَظِيمَةً كعادة اليهود في ندب الموتى (متّى ٩: ٢٣). ويحتمل أنهم زادوا على المعتاد من ذلك ليظهروا كرههم ما ارتكبه الصدوقيون والمتعصبون من الفريسيين من قتل استفانوس.
    ٣ «وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَسْطُو عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ، وَهُوَ يَدْخُلُ ٱلْبُيُوتَ وَيَجُرُّ رِجَالاً وَنِسَاءً وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى ٱلسِّجْنِ».
    ص ٧: ٥٨ و٩: ١ و١٣ و٢١ و٢٢ و٤٠ و٢٦: ١ و١١ و١كورنثوس ١٥: ٩ وغلاطية ١: ١٣ وفيلبي ٣: ٦ و١تيموثاوس ١: ١٣
    وَأَمَّا صدّر الكلام على شاول «بأمّا» إظهاراً للمباينة بين فعله وفعل أولئك الأتقياء فهو لم يوافقهم على دفن استفانوس والمناحة عليه.
    شَاوُلُ اسم عبراني لذلك الرجل الذي عُرف بعد ذلك «ببولس» وهو اسم روماني دُعي به باعتبار كونه مولوداً في طرسوس التي كان لها حقوق المدن الرومانية. والأرجح أنه وُلد في أول القرن الأول من التاريخ المسيحي لأنه وصف نفسه في سنة ٦٤ بأنه شيخ (فليمون ٩) وكان عبرانياً من العبرانيين من سبط بنيامين فريسياً ابن فريسي (في ٣: ٥ و٢٣: ٦) وكان له حقوق إنسان روماني (أعمال ٢١: ٣٩) وكان قد تعلم صناعة الخيام (أعمال ١٨: ٣) وهذا حسب عادة اليهود في تعليم أولادهم الصنائع. والأرجح أنه تعلم الفنون اليونانية والفلسفة في مدارس طرسوس المشهورة في تلك الأيام شهرة مدارس أثنيا واسكندرية كما نستنتج من اقتباسه من شعراء اليونان (ص ١٧: ٢٨ و١كورنثوس ١٥: ٣٣ وتيطس ١: ١٢) وأتى أورشليم ليدرس الشريعة اليهودية وتهذب عند قدمي الرباني المشهور غمالائيل (أعمال ٢٢: ٣). وهذا خلاصة ما نعلمه من أمره قبل أن تنصّر.
    فَكَانَ يَسْطُو كما تسطو الوحوش المفترسة على الخراف وهذا يصدق عليه بلا مبالغة كما يتضح مما قيل في (ص ٩: ١ و٢ و١٣ و٢٦: ٩ - ١١ و١كورنثوس ١٥: ٩ وغلاطية ١: ١٣ وفيلبي ٣: ٦ و١تيموثاوس ١: ١٣).
    يَدْخُلُ ٱلْبُيُوتَ أي بيوت المسيحيين أو البيوت التي ظنهم اختبأوا فيها.
    وَيَجُرُّ رِجَالاً وَنِسَاءً أي يأخذهم بالجور والقسوة وجوره على النساء ذُكر ثلاث مرات هنا وفي (ص ٩: ٢ و٢٢: ٤). فدل ذلك على فرط قساوته لأن النساء قلما عوقبوا على عقائدهن الدينية.
    وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى ٱلسِّجْنِ وهذا كقوله «حَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْقِدِّيسِينَ، آخِذاً ٱلسُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ» (ص ٢٦: ١٠). وما ذُكر هنا ليس سوى قليل من المعاقبات التي أتاها شاول بدليل قوله «وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذَلِكَ. وَفِي كُلِّ ٱلْمَجَامِعِ كُنْتُ أُعَاقِبُهُمْ مِرَاراً كَثِيرَةً، وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى ٱلتَّجْدِيفِ» (ص ٢٦: ١٠ و١١ و٢٢: ٤ وغلاطية ١: ٢٣) ولولا وقاية الله لكنيسته كانت تلاشت من شدة ذلك الاضطهاد لأن أعضاءها كانوا قليلين وضعفاء وأعداؤها كثيرين وأشداء.
    تبشير السامرة بالإنجيل ع ٤ إلى ع ٢٥


    ٤ «فَٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِٱلْكَلِمَةِ».
    متّى ١٠: ٢٣ وص ١١: ١٩
    تَشَتَّتُوا بالهرب من شدة الاضطهاد وذكر بعض الأماكن التي تفرقوا فيها في (ص ١١: ١٩).
    جَالُوا مُبَشِّرِينَ لم يطلبوا راحتهم واطمئنانهم بسكوتهم بل شهدوا للحق ولا يلزم من هذا أن نحسب جميعهم قسوساً أو مبشرين مرسومين أو أنهم وعظوا مواعظ منظمة أو أنهم عمّدوا الناس وقبلوهم في شركة الكنيسة. والذي نتيقنه أنهم من عامة المسيحيين فشهدوا للمسيح في محاورتهم مع الناس. فنتيجة تشتتهم وتبشيرهم كانت إتماماً لأمر المسيح بقوله «... وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (أعمال ١: ٨).
    بِٱلْكَلِمَةِ أي كلام الخلاص بيسوع المسيح.
    ٥ «فَٱنْحَدَرَ فِيلُبُّسُ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ وَكَانَ يَكْرِزُ لَهُمْ بِٱلْمَسِيحِ».
    ص ٦: ٥ و٢١: ٨
    ذكر لوقا في هذا الفصل أعمال بعض أولئك المتشتتين.
    فِيلُبُّسُ أحد الشمامسة السبعة لا فيلبس الرسول فإنه فوق ما كان عليه من الخدمة الشماسية اتخذ وظيفة المبشر (ص ٢١: ٨).
    مَدِينَةٍ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ انظر الشرح (يوحنا ٤: ٤). والمقصود هنا «بالسامرة» البلاد لا المدينة التي بناها عمري ملك إسرائيل وهي قصبة مملكة إسرائيل. وهذه المدينة هدمها بعض الهدم شلمناصر قبل الميلاد بنحو ٧١٩ سنة ثم هدمها كل الهدم هركانوس سنة ١٠٩ ق. م. ثم جدد بناءها هيرودس الكبير وسماها سيستية إكراماً لأوغسطس قيصر لأن اسمه في اليونانية سيستس. والسامريون نسل الأخلاط الذين أرسلهم ملك أشور وأسكنهم أماكن الإسرائيليين الذين سباهم فمزجوا الوثنية باليهودية وبنوا هيكلاً على جبل جرزيم فوق شكيم (أي نابلس) واعتقدوا وحي أسفار موسى الخمسة وحفظوا الختان وانتظروا المسيح ولم يظهر من الخبر هنا أي مدينة من السامرة دخلها.
    وَكَانَ يَكْرِزُ لَهُمْ بِٱلْمَسِيحِ أي أن خلاصة تعليمه أن المسيح قد أتى وأنه علّم وصُلب وقام فادياً ومخلصاً.
    ٦ «وَكَانَ ٱلْجُمُوعُ يُصْغُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى مَا يَقُولُهُ فِيلُبُّسُ عِنْدَ ٱسْتِمَاعِهِمْ وَنَظَرِهِمُ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَهَا».
    وَكَانَ ٱلْجُمُوعُ هذا يظهر أنه حصل تأثير عظيم من تعليمه ولعل علة ذلك أن المسيح أتى إلى هناك قبلاً وبشر وقال «إن الحقول ابيضت للحصاد» (يوحنا ٤: ٣٥) وهذا استعداد لنجاح المبشرين بعد موته فهم كانوا متوقعين إتيان المسيح (يوحنا ٤: ٢٥) ومسرورين بأن يسمعوا أنه قد أتى ولا ريب في أن روح الله فوق ذلك كله قد أعد قلوبهم لقبول الكلمة. وزارهم بولس بعد سنين وأخبرهم بنجاح الإنجيل بين الأمم فسمعوا الخبر بسرور (ص ١٥: ٣).
    ٱسْتِمَاعِهِمْ التبشير بيسوع.
    ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَهَا إثباتاً لصحة تعليمه فآمن السامريون بالمسيح أولاً من دون أن يروا منه آية (يوحنا ٤: ٤١).
    ٧ «لأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ ٱلَّذِينَ بِهِمْ أَرْوَاحٌ نَجِسَةٌ كَانَتْ تَخْرُجُ صَارِخَةً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلْمَفْلُوجِينَ وَٱلْعُرْجِ شُفُوا».
    مرقس ١٦: ١٧
    أَرْوَاحٌ نَجِسَةٌ انظر شرح (متّى ٤: ٢٤).
    صَارِخَةً انظر الشرح (مرقس ١: ٢٦ ولوقا ٤: ٣٣ و٤١). قد يكون هذا الصراخ مسبباً عن الشياطين لغيظهم من خراجهم. وقد يكون منهم شهادة للمسيح الذي أجبرهم على طاعته.
    مَفْلُوجِينَ انظر الشرح (متّى ٤: ٢٤).
    ٨ «فَكَانَ فَرَحٌ عَظِيمٌ فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ».
    علة هذا الفرح أمران، الأول: حصولهم أو حصول أهل بيوتهم على بركات جسدية كالشفاء الجسدي والثاني حصولهم كذلك على بركات روحية كخلاص نفوسهم. فالإنجيل بشارة وينبوع سرور لكل من يقبله والفرح من أثمار الروح القدس (ع ٣٩ وص ١١: ٢٣ و١٦: ٣٤ ورومية ١٤: ١٧ وغلاطية ٥: ٢٢).
    ٩ «وَكَانَ قَبْلاً فِي ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ ٱسْمُهُ سِيمُونُ، يَسْتَعْمِلُ ٱلسِّحْرَ وَيُدْهِشُ شَعْبَ ٱلسَّامِرَةِ، قَائِلاً: إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ!».
    ص ١٣: ٦ ص ٥: ٣٦
    كَانَ قَبْلاً أي قبل مجيء فيلبس بزمان طويل ع ١١ وهذه أول واقعة بين الإنجيل والسحر وبعد ذلك جرى مثلها في قبرس (ص ١٣: ٨) وفي فيلبي (ص ١٦: ١٦) وفي أفسس (ص ٩: ١٣) وكان الناس في تلك الأيام يعتقدون جهلاً أن للسحر قوة عظيمة.
    سِيمُونُ لا نعلم من أمر هذا الإنسان شيئاً قبل النبإ هنا ولا نتحقق شيئاً من أمره بعد ذلك لكن ذهب البعض إلى أنه صار رئيس النورسيسيين وهم من أهل البدع وأنه ادعى أنه ابن الله وروح والفارقليط وأنه تبعه أناس كثيرون.
    ٱلسِّحْرَ ادعى كثيرون من الكلدانيين والمصريين قوة السحر ومنهم السحرة الذين قاوموا موسى وهارون أمام فرعون (خروج ٧: ١١ و٢٢ و٨: ٧). وادّعى ذلك اليهود أيضاً وقالوا أنهم يستطيعون ذلك باستعانة أرواح الموتى أو استخدام الأرواح الشريرة وقالوا أنهم يقدرون أن يحملوا الناس بالأحراز والتعاويذ ويعرفون ما في المستقبل ويفسرون الأحلام ويكتشفون الدفائن والمسروقات. والله حرم السحر في العهد القديم (لاويين ١٩: ٣١ وإشعياء ٨: ٦٩). ولا نعلم ماذا كان نوع السحر الذي تعاطاه سيمون ولعله كان يعرف شيئاً من غرائب الفلسفة الطبيعية أو الكيمياء مما تجهله العامة ويفعل بذلك ما لا يستطيعونه وينسب ما يأتيه إلى قوته الذاتية أو إلى قوة الأرواح التي ادعى أنها تطيعه أو لعله كان على جانب عظيم من خفة اليد فيظهر أنه يعمل معجزات والواقع ليس كذلك.
    وَيُدْهِشُ شَعْبَ ٱلسَّامِرَةِ أي يعجّبهم ويحيّرهم لأنهم لم يعرفوا الوسائط التي كان يفعل بها ما يدهشهم.
    قَائِلاً إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ بناء على ما خدعهم به وأدهشهم.
    ١٠، ١١ «١٠ وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتْبَعُونَهُ مِنَ ٱلصَّغِيرِ إِلَى ٱلْكَبِيرِ قَائِلِينَ: هٰذَا هُوَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ ٱلْعَظِيمَةُ. ١١ وَكَانُوا يَتْبَعُونَهُ لِكَوْنِهِمْ قَدِ ٱنْدَهَشُوا زَمَاناً طَوِيلاً بِسِحْرِهِ».
    قَائِلِينَ هٰذَا هُوَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ ٱلْعَظِيمَةُ أي صدقوا ما قاله هو في الآية السابقة وزادوا عليه. فاعتقدوا أن الله أظهر قوته بواسطته وأعطاه ما لم يُعط غيره. والخلاصة أن سطوة سيمون كانت عظيمة جداً وعامة ومستمرة وانخداع الناس زماناً طويلاً بالآيات الكاذبة اقتضى أن تُجرى أمامهم قوات حقيقية ليعدلوا بواسطتها عن تصديق الكذب إلى الإيمان بالحق.
    ١٢ «وَلٰكِنْ لَمَّا صَدَّقُوا فِيلُبُّسَ وَهُوَ يُبَشِّرُ بِٱلأُمُورِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ وَبِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱعْتَمَدُوا رِجَالاً وَنِسَاءً».
    ص ١: ٣
    بِٱلأُمُورِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي الملكوت الروحي الذي أتى المسيح لينشئه.
    وَبِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي يسوع ذاته وتلك الأمور هي حياته وتعليمه وموته وقيامته الخ.
    ٱعْتَمَدُوا إقراراً بإيمانهم بالمسيح وتوبتهم عن خطاياهم وآية لدخولهم في شركة الكنيسة. فإيمانهم بسيمون بُطل بإيمانهم بالمسيح كبطلان ظلام الليل عند طلوع الشمس أبداً وبطلان سحر سحرة مصر أمام إله موسى وهرون (خروج ٨: ١٨ و٧٩ و٩: ١١) وسقط سقوط داجون أمام تابوت الرب (١صموئيل ٤: ٤). وهذا النجاح الإنجيلي في السامرة كان أول نتائج تشتت المؤمنين بالاضطهاد. فكان وسيلة إلى تأسيس كنيسة المسيح في السامرة.
    ١٣ «وَسِيمُونُ أَيْضاً نَفْسُهُ آمَنَ. وَلَمَّا ٱعْتَمَدَ كَانَ يُلاَزِمُ فِيلُبُّسَ، وَإِذْ رَأَى آيَاتٍ وَقُوَّاتٍ عَظِيمَةً تُجْرَى ٱنْدَهَشَ».
    وَسِيمُونُ أَيْضاً نَفْسُهُ آمَنَ أي صدق الآيات والتعليم الذي أيّدته بعض التصديق وأن يسوع يستطيع أن يفعل أعظم مما يفعله هو وأنه هو المسيح وتظاهر أنه أخلص الإيمان اقتداء بغيره آملاً الربح من الديانة الجديدة لكنه لم يؤمن بالمسيح بالإيمان الحق الذي يبرر ويطهّر ويخلّص كما سيظهر في (ع ١٨ و٢١ - ٢٣).
    وَلَمَّا ٱعْتَمَدَ بناء على ما أظهر من الإيمان ففيلبس ما قدر أن يعرف قلبه فعمّده بمقضتى إقراره.
    كَانَ يُلاَزِمُ فِيلُبُّسَ كسائر التلاميذ الذين طلبوا أن يعرفوا تعليم المسيح حق المعرفة ولكن غايته أن يتعلم بمراقبة معجزات فيلبس أن يفعل مثلها.
    ٱنْدَهَشَ لأن تلك الآيات كانت أعظم جداً مما ادعىّ أنه يفعلها.
    ١٤ «وَلَمَّا سَمِعَ ٱلرُّسُلُ ٱلَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ أَنَّ ٱلسَّامِرَةَ قَدْ قَبِلَتْ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا».
    ما قيل هنا في الرسل يُظهر أنهم تشاوروا معاً وفعلوا كلجنة واحدة كل عضو منها مساوياً للآخر في السلطان.
    قَبِلَتْ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ لا ريب في أن ذلك من الأمور التي لم يتوقعوا حدوثها فكان ذلك عندهم كما لو سمعنا نحن أن اليهود اليوم آمنوا بأن يسوع هو المسيح. وتسمية البشارة بيسوع المسيح «كلمة الله» تبين أن جوهر كلمة الله هو يسوع المسيح أي «إن الله كان بالمسيح مصالحاً العالم لنفسه».
    أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ لعل ذلك لأربعة أسباب:

    • الأول: أن العمل كثير على رجل واحد.
    • الثاني: أن أمراً ذا شأن كجمع الحصاد الروحي وتأسيس كنيسة في السامرة يقتضي حضور بعض الرسل ليساعدوا بحكمتهم واختبارهم.
    • الثالث: تصديق الرسل لما فعله فيلبس.
    • الرابع: منح السامريين مواهب الروح القدس الخاصة ليس بأمر سهل على الذين تربوا في الديانة اليهودية أن يسلموا أن للسامريين حقوقاً كما لليهود في كنيسة المسيح في الأرض والسماء انظر شرح (يوحنا ٤: ٩) على أن الرسل كانوا قد تحرروا من رق التعصب فأرسلوا اثنين منهم ليُظهروا رضاهم ومسرتهم بما حدث في السامرة.


    بُطْرُسَ كونه مرسلاً من قبل الرسل يدل على أنه لم يكن ذا سلطان عليهم بل أنه واحد منهم مطيع لما أجمعوا عليه.
    وَيُوحَنَّا إرساله مع بطرس كان في غاية المناسبة لما بينهما من الحب الخاص انظر شرح (ص ٣: ١) ولأن أحدهما يكمل نقص الآخر فإن بطرس كان جسوراً متحمساً غيوراً لا يحسب للعواقب ويوحنا كان وديعاً لطيفاً حليماً متأنياً وهذا آخر ذكر ليوحنا في أعمال الرسل.
    ١٥ «ٱللَّذَيْنِ لَمَّا نَزَلاَ صَلَّيَا لأَجْلِهِمْ لِكَيْ يَقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ».
    ص ٢: ٣٨
    نَزَلاَ اعتبر اليهود في الغالب أن أورشليم أعلى سائر البلاد (متّى ٢٠: ١٨ و٥: ٩).
    صَلَّيَا لأَجْلِهِمْ لم يذكر الكاتب وعظ هذين الرسولين مع ما لهما من القدرة على الوعظ لأن الصلاة لكونها واسطة إتيان الروح القدس من السماء هي هبة أعظم من سائر الهبات.
    لِكَيْ يَقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ هذا يدل على أنه هو البركة التي سألوها في الصلاة وهما لم يدعيا أن لهما قوة ذاتية على منح الروح القدس. وسميّ الروح القدس في (ع ٢٠) «موهبة الله» والمقصود به تأثير غير التأثير العادي الذي به تتغير قلوب الناس وتتقدس لأن أهل السامرة كانوا قد حصلوا على هذا (ع ٦) فهو كما حصل عليه المؤمنون في أورشليم في عيد الخمسين أي قوة التكلم بألسنة غريبة وصنع الآيات والتنبوء والظاهر أنه كان لذلك التأثير علامات ظاهرة لأنه قيل في ع ١٨ «لَمَّا رَأَى سِيمُونُ أَنَّهُ بِوَضْعِ أَيْدِي ٱلرُّسُلِ يُعْطَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ».
    ولا دلالة على أن غير الرسل قدر أن يمنح تلك الموهبة أو أنها بقيت في سلطان الكنيسة بعد موت الرسل لأنها مُنحت وقتياً لتثبيت صدق دعوى السامريين بالمسيح بواسطة تلك الآيات لكي يجاهروا بدين المسيح.
    ١٦ «لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَلَّ بَعْدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَمِدِينَ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
    ص ١٩: ٢ متّى ٢٨: ١٩ وص ٢: ٣٨ و١٠: ٤٨ و١٩: ٥
    لَمْ يَكُنْ قَدْ حَلَّ عبّر عن تأثيرات الروح غير العادية بالحلول لأنها أتت من السماء بغتة. وعلة عدم حلوله قبلاً عجز غير الرسل عن منحه لا عدم إيمان السامريين.
    بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ انظر الشرح (ص ٢: ٣٨ وانظر ص ١٠: ٤٨ و١٩: ٥ و٦).
    ١٧ «حِينَئِذٍ وَضَعَا ٱلأَيَادِيَ عَلَيْهِمْ فَقَبِلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ».
    ص ٦: ٦ و١٩: ٦ وعبرانيين ٦: ٢
    وَضَعَا ٱلأَيَادِيَ عَلَيْهِمْ كان هذا العمل مقترناً بالصلاة بغية حلول الروح القدس وبياناً لمن طلبوا تلك البركة له وما ذلك بعادة جديدة لأنه كذا وضع يعقوب يديه على أفرايم ومنسى حين باركهما (تكوين ٤٨: ١٤) وهكذا وضع موسى يديه على يشوع حين أقامه خليفة له (عدد ٢٧: ٢٣ انظر متّى ٩: ١٨ و١٩: ٦ وعبرانيين ٦: ٢). ولم يبيّن الكاتب عدد الذين وضعوا الأيدي عليهم لكن يتضح مما ذُكر أنهم لم يضعوها على الكل بدليل أنهم لم يضعوها على سيمون.
    فَقَبِلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ أي قوة التكلم بألسنة غريبة والتنبوء وما شاكل ذلك ودل هذا على أمرين:
    الأول: صحة التعليم الذي علمه فيلبس والرسولان.
    الثاني: رضى الله بالتبشير في السامرة وبإخلاص السامريين الإيمان.
    ١٨، ١٩ «١٨ وَلَمَّا رَأَى سِيمُونُ أَنَّهُ بِوَضْعِ أَيْدِي ٱلرُّسُلِ يُعْطَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ قَدَّمَ لَهُمَا دَرَاهِمَ ١٩ قَائِلاً: أَعْطِيَانِي أَنَا أَيْضاً هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ، حَتَّى أَيُّ مَنْ وَضَعْتُ عَلَيْهِ يَدَيَّ يَقْبَلُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ».
    وَلَمَّا رَأَى سِيمُونُ ما رآه سيمون هو علامات قوة الروح القدس وهي أنه قدر المؤمنين على التكلم بالألسنة الغريبة وصنع المعجزات وقد شاهد مثل هذه القوة من فيلبس غير أنه لم يرَ بعد أن تلك القوة وُهبت من واحد لآخر فتحقق أنه كان للرسولين قوة أعظم من قوته وقوة فيلبس وتيقن أنه إذا حصل على مثل تلك القوة كان له سلطان عظيم ووسيلة إلى ربح لا يقدر.
    قَدَّمَ لَهُمَا دَرَاهِمَ ظن أن الرسل كانوا يحبون الدراهم كما يحبها هو فينيلونه المطلوب بها فكان يعتقد أن للمال سلطاناً على كل شيء.
    أَعْطِيَانِي أَنَا أَيْضاً هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ أي سلطان المنح كما للرسولين لا كما للسامريين. أراد أن السلطة التي كانت له على الناس تبقى له وتزيد لنفع نفسه وتحقق أن قوة مثل قوة الرسل أحسن الوسائل إلى إدراك بغيته.
    ٢٠ «فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ، لأَنَّكَ ظَنَنْتَ أَنْ تَقْتَنِيَ مَوْهِبَةَ ٱللّٰهِ بِدَرَاهِمَ».
    ٢ملوك ٥: ١٦ ومتّى ١٠: ٨ وص ٢: ٣٨ و١٠: ٤٥ و١١: ١٧
    لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ قصد بطرس بهذا الكلام إعلان كرهه لطلب سيمون فهو ليس له بلعنة أو طلب هلاكه لأنه أرشده في ع ٣٢ إلى طريق النجاة من الهلاك ويعني أنه رأى سيمون مشرفاً على الهلاك وأنه يستخف كل الاستخفاف بالدراهم التي قدمها سيمون ولا يرى لها أدنى قيمة تميل به إلى بيع الروح القدس وهو أيضاً نبوءة بما يحدث له إذا لم يتب وليس عليه وحده بل لكل محب للمال لأن الفضة والذهب يتلفان وهكذا كل من يتكل عليهما (١بطرس ٧: ١٨).
    مَوْهِبَةَ ٱللّٰهِ أي الروح القدس والمراد بهذا الروح مواهبه غير المعتادة. فالذي ظنه يُشترى بالمال إنما هو موهبة يهبها الله لمن يريد متى أراد (ص ١٠: ٤٥ و١١: ١٧). فالله باعتبار كونه ملكاً يمنح روحه القدوس مجاناً والظن أنه تعالى يبيع مواهبه بالمال إهانة لله وجهل وإلحاد. ويلزم من كون هبات الله لا تقتني بالمال أنها لا تقتنى بطريق أخرى تشبه ذلك كالتصدق على الفقراء والوقف للكنائس ولا بالصلوات والصوم وغيره من التقشفات والدموع والأعمال الصالحة. فعطية الروح القدس التي لا يُحصل عليها بكل أموال الأرض الله مستعد أن يمنحها لنا بلا فضة وبلا ثمن.
    ٢١ «لَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ وَلاَ قُرْعَةٌ فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ، لأَنَّ قَلْبَكَ لَيْسَ مُسْتَقِيماً أَمَامَ ٱللّٰهِ».
    لَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ وَلاَ قُرْعَةٌ هذا مجاز مبني على أخذ بني إسرائيل أنصبتهم في أرض الميعاد بالقرعة ثم أخذ أنسالهم إيّاها بالميراث وشعبه الآن ينال البركات الروحية بالإيمان بالمسيح لا بالميراث عن الآباء. فأبان بطرس أنه ليس لسيمون نصيب في المواهب الروحية وهو أن الله لا يعرفه ابناً له ولا يسرّ به.
    فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ أي في دين المسيح أو بركات الإنجيل. هذا مع تظاهره بالإيمان ومع تعمّده ويظهر من ذلك أن ليس في أسرار الكنيسة نفع ذاتي فعمل واحد من أعماله أبان أن قلبه لم يتغيّر وأن مقاصده دنيوية وأنه لم يدرك روحانية الإنجيل.
    لأَنَّ قَلْبَكَ لَيْسَ مُسْتَقِيماً أي لست مخلصاً ولا متجدداً إنما أنت دنيوي تحت سلطة الخطيئة والشيطان بدليل أنك طلبت الموهبة الروحية لغايات عالمية وأظهرت أن قلبك مولع بالذهب والشهرة والسلطان على الناس ولا رغبة له في الإنجيل ولا الخلاص بواسطته من الخطيئة.
    أَمَامَ ٱللّٰهِ الذي يعرف خفايا القلب وينظر إلى الغايات الحاملة على الفعل ويدين كل إنسان بها الآن وسوف يدينه بها أيضاً في اليوم الأخير.
    ٢٢ «فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هٰذَا، وَٱطْلُبْ إِلَى ٱللّٰهِ عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ».
    دانيال ٤: ٢٧ و٢تيموثاوس ٢: ٢٥
    غاية بطرس من توبيخه لسيمون نفع نفسه.
    فَتُبْ حكم بطرس بأن سيمون لم يتب بعد عن خطاياه ولم يتجدّد قلبه وبأنه لم تمض عليه الفرصة لنوال المغفرة بواسطة التوبة وأنه يجب عليه أن يتوب حالاً. ولم يأمره أولاً أن يصلي أو يدرس كتاب الله أو أن يفعل شيئاً آخر قبل التوبة لأن الخاطئ لا تُقبل صلواته قبل أن يكره الخطيئة ويتركها ويرجع إلى الله (مزمور ٦٦: ٨ وأمثال ١: ٢٨ وإشعياء ١: ١٥ وميخا ٣: ٤).
    وَٱطْلُبْ إِلَى ٱللّٰهِ إن الصلاة بعد التوبة هي الصلاة المقبولة فمن العبث أن نسأل الله مغفرة الخطايا ونحن لم نندم عليها ونتركها كما أنه من العبث أن يعالج الطبيب مسموماً وهو لا يفتأ يشرب السم. ونستدل من كلام بطرس هذا أنه لم يكن له سلطان على غفران الخطايا بناء على قول يسوع لرسله «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ» (يوحنا ٢٠: ٢٣) وإلا قال له سلني اغفر لك. ونستدل منه أيضاً أن صلاة البار من أجل الخاطئ لا تفيده ما لم يتب هو ويصلي.
    عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ هذا الكلام يحمل على رجاء نوال المغفرة لا على تيقّنه لأن بطرس لم يستطع أن يعلم أن سيمون يتوب توبة حقيقية ويطلب المغفرة بلجاجة. أو لعل بطرس لم يعلم هل ارتكب سيمون إثم التجديف على الروح القدس الذي لا مغفرة له أو لا (متّى ١٢: ٣١). وبيّن له أن المغفرة مرجوة لا متيقنة ليحذره من الخطر ويرغبه في طلب الغفران. فلو كان لبطرس السلطان الذي نسبه البعض إليه من إعطاء المسيح إيّاه مفاتيح ملكوت السماء لم يشك في ذلك بل كان قال غفرت لك أو لا مغفرة لك.
    فِكْرُ قَلْبِكَ أي ظنك أن موهبة الروح القدس تُشترى بدراهم وقصدك أن تتجر بها فأصل كل الشر في أفكار القلب والأفكار الشريرة تقود إلى الأقوال والأعمال الشريرة والذي لا يخطئ إلا في الفكر يحتاج إلى التوبة والمغفرة لأن الله يرى خفايا القلوب ويدين الناس بمقتضاها. وسيمون لم يرتكب هنا سوى إثم الفكر فطلبه الروح القدس ليس بإثم إنما الإثم طلبه إياه لغاية دنيوية بوسائط مهينة له تعالى.
    ٢٣ «لأَنِّي أَرَاكَ فِي مَرَارَةِ ٱلْمُرِّ وَرِبَاطِ ٱلظُّلْمِ».
    عبرانيين ١٢: ١٥
    لأَنِّي أَرَاكَ أي عرفت من قولك. فإن قول سيمون أظهر أنه لم يعرف حقيقة دين المسيح ولم يتجدد قلبه لأن غاياته كلها كانت عالمية. وما رآه بطرس من تقيد سيمون بقيود الإثم حمله على الشك هل يطلب المغفرة في الطريق التي تُنال فيها أو لا.
    فِي مَرَارَةِ ٱلْمُرِّ أي غاية المرارة والكلام مجاز أشير به إلى فظاعة أهواء القلب التي أظهرها سيمون من البخل والطمع والرياء. وهذا مثل قول موسى لبني إسرائيل في عبادة الأوثان «لِئَلاَّ يَكُونَ فِيكُمْ أَصْلٌ يُثْمِرُ عَلْقَماً وَأَفْسَنْتِيناً» (تثنية ٢٩: ١٨). وقول الرسول «لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ ٱنْزِعَاجاً، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ» (عبرانيين ١٢: ١٥ انظر أيضاً إرميا ٢: ١٩ و٤: ٨ ورومية ٣: ١٤ وأفسس ٤: ٣١) والمعنى أن قلب سيمون مملوءٌ من أفكار الإثم المكروهة.
    وَرِبَاطِ ٱلظُّلْمِ كنى هنا عن الخطيئة أنها عبودية لتسلّط على الخاطئ تسلط السيد على العبد وأن الخاطئ كأنه مقيّد بسلاسل. وجاء مثل هذا في (مزمور ١١٦: ١٦ وأمثال ٥: ٢٢ ورومية ٧: ٢٣ و٢٤). فرأى بطرس أن سيمون مرتبط بقوة الشر وأنه هو عبد للخطيئة فهو ليس بابن لله.
    ٢٤ «فَأَجَابَ سِيمُونُ: ٱطْلُبَا أَنْتُمَا إِلَى ٱلرَّبِّ مِنْ أَجْلِي لِكَيْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمَا».
    تكوين ٢٠: ٧ و١٧ وخروج ٨: ٨ وعدد ٦١: ٧ و١ملوك ١٣: ٦ وأيوب ٤٢: ٨ ويعقوب ٥: ١٦
    ٱطْلُبَا أَنْتُمَا إِلَى أمره بطرس أن يتوب ويصلي هو عن نفسه والظاهر أنه لم يرد ذلك بل استحسن أن بطرس ويوحنا يصليان من أجله فآثر الطلب إلى الناس على الطلب إلى الله فتبيّن من ذلك أنه لم يشعر بفظاعة إثمه وخطره كما هما وأنه أحبّ الخطيئة إلى حد لم يرد عنده أن يقلع عنها. فإن أبينا نحن أنفسنا أن نسأل البركات الروحية من الله فلا حق لنا أن نتوقعها بطلبات غيرنا من أجلنا.
    لاَ يَأْتِيَ عَلَيَّ الخ أمره بطرس أن يصلي ليخلص من رباط الخطيئة أما هو فلم يسأل سوى الخلاص من العقاب وأمره بطرس أن ينجو بتوبته وصلاته وأما هو فأراد أن ينجو بصلاة بطرس ويوحنا. كذلك كان فرعون حين وقوع المصاب فخاف وسأل موسى وهارون أن يصليا من أجله (خروج ٨: ٢٨ و٢٩ و٣٢ و٩: ٢٨ و١٠: ١٧) ثم قسا قلبه. وكذلك كان يربعام (١ملوك ١٣: ٦) والخلاصة أن سيمون رغب في المغفرة والنجاة بلا توبة ولا صلاة. وهذا كل ما ذكره لوقا في تاريخه من أمر سيمون ولكن نستنتج من سكوته عنه أنه بقي كما كان. والمرجح من تاريخ الكنيسة أنه بقي عبداً للخطيئة والشيطان واشتهر بالابتداع ومقاومة الإنجيل (انظر شرح ع ٩).
    ٢٥ «ثُمَّ إِنَّهُمَا بَعْدَ مَا شَهِدَا وَتَكَلَّمَا بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ، رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ وَبَشَّرَا قُرىً كَثِيرَةً لِلسَّامِرِيِّينَ».
    بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ يسوع لا بكلمتهما.
    رَجَعَا أي بطرس ويوحنا والأرجح أنهما بقيا في السامرة مدة كافية لتعليم الشعب وتثبيت المؤمنين وانتظام كنيسة وأنهما تركا فيلبس ليتمّم عمله.
    وَبَشَّرَا قُرىً الخ وهما راجعان إلى أورشليم. كان أحدهما وهو يوحنا الذي أتى السامريين ببشرى الخلاص قد طلب إلى يسوع أن يُنزل ناراً من السماء وتهلكهم فأتى الآن بنار أخرى أن نار الروح القدس لتنويرهم وتقديسهم وإنقاذهم من نار جهنم. فدين المسيح أزال البغض القديم بين اليهود والسامريين الذي أُشير إليه بقوله «إن اليهود لا يعاملون السامريين» (يوحنا ٤: ٩).
    والمؤمنون في السامرة قلما ذُكروا بعد ذلك. زارهم بولس وبرنابا بعد جولانهما الأول للتبشير في آسيا (ص ١٥: ٣) ففرحوا بإيمانهم وبزوال الحاجز بينهم وبين اليهود. وبعض هؤلاء الناس بقي على اعتقاده القديم والعبادة في جبل جرزيم إلى وقت خراب أورشليم ثم خُربت بلادهم وهُدم هيكلهم وأما شكيم فبُنيت في محلها مدينة جديدة سميت نابلس أي مدينة جديدة ولم تزل تسمّى بذلك إلى اليوم.

    اهتداء الوزير الحبشي ع ٢٦ إلى ٤٠


    ٢٦ «ثُمَّ إِنَّ مَلاَكَ ٱلرَّبِّ قَالَ لِفِيلُبُّسَ: قُمْ وَٱذْهَبْ نَحْوَ ٱلْجَنُوبِ، عَلَى ٱلطَّرِيقِ ٱلْمُنْحَدِرَةِ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى غَزَّةَ ٱلَّتِي هِيَ بَرِّيَّةٌ».
    تكوين ١٠: ١٩ ويشوع ١٥: ٤٧ و١صموئيل ٦: ١٧ و٢ملوك ١٨: ٨ وعاموس ١: ٦ إلى ٨ وزكريا ٩: ٥
    مَلاَكَ ٱلرَّبِّ أحد الجنود السماوية ممن يرسلهم الله لإجراء مقاصده (عبرانيين ١: ١٤ وتكوين ١٩: ١ و٢٢: ١١ وقضاة ٦: ١٢ ومتّى ٢: ١٣). وكثيراً ما استخدم الله الملائكة في بدء تأسيس كنيسته (ص ١: ١٠ و٥: ١٩ و١٠: ٣ و١٢: ٧ و٢٧: ٢٣) والأرجح أن ما ذُكر هنا حدث بعد قليل من ذهاب بطرس ويوحنا.
    قُمْ من السامرة.
    ٱذْهَبْ نَحْوَ ٱلْجَنُوبِ أي جنوبي السامرة حيث كان يبشر. قصد الله خلاص الخصي وذلك بوسائط بشرية نعم أنه غير مفتقر إليها ولكنه اختار أن يكون بواسطة فيلبس فلذلك أمره بالذهاب وأمال قلبه إلى الطاعة.
    إِلَى غَزَّةَ هي من أقدم مدن العالم وهي مذكورة في (تكوين ١٠: ١٩) وكانت تابعة للفلسطينيين وأعطاها يشوع سبط يهوذا يوم قسم الأرض للأسباط (يشوع ١٥: ٤٧) فأخذها (قضاة ١: ١٨) لكنهم ما قدروا أن يملكوها زماناً طويلاً فرجعت للفلسطينيين وكانت من مدنهم الخمسة الكبار (١صموئيل ١٦: ١٧). وأخذ شمشون مصراعي باب المدينة وما يتعلق بهما وحملها على كتفيه إلى رأس الجبل تجاه حبرون وهناك هدم البيت الذي كان أسيراً فيه وقتل نفسه مع ثلاثة آلاف من الفلسطينيين. واستولى عليها سليمان (١ملوك ٤: ٢٤) وهي على أمد ستين ميلاً في الجنوب الغربي من أورشليم ولا تزال قائمة إلى الآن معروفة بهذا الاسم.
    ٱلَّتِي هِيَ بَرِّيَّةٌ الأرجح أن هذا نعت للطريق لأنه لها طريقان إحداهما مستقيمة عامرة بالقرى والضياع والأخرى أبعد لكنها أكثر موافقة للمركبات وهي خالية من السكان ولذلك نعتها بكونها «برية» فأمر الملاك فيلبس أن يمر بهذه الطريق دون غيرها لكي يلاقي الحبشي (ع ٢٨).
    ٢٧ «فَقَامَ وَذَهَبَ. وَإِذَا رَجُلٌ حَبَشِيٌّ خَصِيٌّ، وَزِيرٌ لِكَنْدَاكَةَ مَلِكَةِ ٱلْحَبَشَةِ، كَانَ عَلَى جَمِيعِ خَزَائِنِهَا فَهٰذَا كَانَ قَدْ جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيَسْجُدَ».
    صفنيا ٣: ١٠ يوحنا ١٢: ٢٠
    حَبَشِيٌّ الحبش إحدى ممالك إفريقية جنوبي مصر مجاورة أحد فروع النيل وشرقيها البحر الأحمر وكانت قديماً مملكة كبيرة تشتمل على ما يسمى اليوم ببلاد الحبش وعلى جزء من مصر ونوبة وشنعار وكردوفان وقصبتها القديمة ميرو mepoe وسكانها من نسل حام (تكوين ١٠: ٦). وسمي العبرانيون بلاد الحبش كوشاً وكانت أحياناً تستقل وأحياناً تتبع مصر وكانت قبل ميلاد المسيح وما بعده مستقلة تملكها ملكات على التوالي واسم كل منها كنداكة كما سمي كل من ملوك مصر فرعون.
    خَصِيٌّ انظر الشرح (متّى ١٩: ١٢). وكثيراً ما ذُكر الخصيان في الكتاب المقدس من خدمة الملوك ولا سيما في بيوتهم وكانوا أحياناً يرتقون إلى المناصب العالية فيكونون مشيرين وولاة.
    كَنْدَاكَةَ علم جنسي لملكات الحبش كما أبان المؤرخان بليني وسترابو.
    كَانَ عَلَى جَمِيعِ خَزَائِنِهَا فكان ذا رتبة سامية وسلطان شامل وعمدة للملكة.
    قَدْ جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيَسْجُدَ يتبين من ذلك إما أنه يهودي أصلاً خدم كنداكة كما خدم يوسف في مصر ودانيال في بابل وإما أنه حبشي الأصل تعلم الدين اليهودي وهاد وأتى أورشليم ليحضر العيد لأنه ما كان على اليهود في الشريعة كان على الدخلاء (يوحنا ١٢: ٢٠).
    ٢٨ «وَكَانَ رَاجِعاً وَجَالِساً عَلَى مَرْكَبَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ ٱلنَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ».
    عَلَى مَرْكَبَتِهِ أُستعملت المركبات قديماً في الحرب وفي السفر وغلب في الأول. وكانت ذوات دولابين تسع اثنين أو ثلاثة (ع ٣٨ و١ملوك ٢٢: ٣٤ و٢ملوك ٩: ٢٠ و٢٤) ولم تُذكر في العهد الجديد في سوى هذا الموضع وفي (رؤيا ٩: ٩).
    وَهُوَ يَقْرَأُ ٱلنَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ الأرجح أنه كان يقرأ ذلك في ترجمة السبعين التي تُرجمت في مصر منذ ٢٨٠ سنة ق. م. وهي التي شاع استعمالها يومئذ. ويظهر من ع ٣٠ أنه كان يقرأ بصوت مسموع. ولم يتضح ماذا حمله على قراءة تلك النبوءة ولعله سمع في أورشليم نبأ موت يسوع وقيامته ودعواه أنه هو المسيح ودعوى تلاميذه أن كل ما أصابه موافق النبوءات المتلعقة بالمسيح فأخذ يراجع تلك النبوءات للفحص عن تلك الدعوى وكان الجزء الذي يقرأه أنباء بالمسيح بالتفصيل كأنه تاريخ ما وقع لا أنباء بما سيقع.
    يُعرف الإنسان من الكتب التي يقرأها كما يُعرف ممن يعاشرهم فكانت مطالعة ذلك الحبشي كتاب الله دليلاً على أطواره الحسنة إذ لم يشغل وقته بالكسل أو مطالعة الكتب القبيحة. ولنا من هذه القصة أن الإنسان الذي يستعمل المعرفة التي له ينال من الله معرفة أكمل منها وأن الاجتهاد في الدين لا يذهب سدى. فإن هذا الإنسان سافر مئات من الأميال وقاسى أتعاباً وأخطاراً كثيرة فأثابه الله على ذلك أن كشف له طريق الخلاص الأوضح وقاده فيه فوجد في البرية ما لم يجده في الهيكل وهو المسيح مخلصاً له.
    ٢٩ «فَقَالَ ٱلرُّوحُ لِفِيلُبُّسَ: تَقَدَّمْ وَرَافِقْ هٰذِهِ ٱلْمَرْكَبَةَ».
    فَقَالَ ٱلرُّوحُ لِفِيلُبُّسَ أي ألهمه بتأثيره في قلبه. وهذه الآية من الآيات التي تبرهن أن الروح القدس أقنوم لا صفة كما في (ص ١: ١٦ و١٠: ١٩ و٢٠ و١٣: ٢ و٢١: ١١) فإن الصفة لا تتكلم.
    تَقَدَّمْ الخ أي استعمل الوسائط المؤدية إلى أن يدعوك صاحب المركبة للجلوس معه وهي أن تتقدم إليه وتسلم عليه وما أشبه ذلك.
    ٣٠ «فَبَادَرَ إِلَيْهِ فِيلُبُّسُ، وَسَمِعَهُ يَقْرَأُ ٱلنَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ، فَسَأَلَهُ: أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ مَا أَنْتَ تَقْرَأُ؟».
    فَبَادَرَ إِلَيْهِ أي أسرع وأظهر بذلك رغبته في الطاعة لأمر الروح فكان يمكنه أن يعتذر بأن الحبشي غريب وأنه أسمى منه رتبة وأنه كان مهتماً بالقراءة. ولعله يغضب على من يخاطبه في تلك الحال. ولعل فيلبس سرّ بأن يبشر إنساناً واحداً بأمر الله كما لو سر بتبشير جماهير الناس في السامرة.
    سَمِعَهُ يَقْرَأُ هذا يدل على أنه كان يجهر في القراءة. بعض الناس يذكر ما يقرأه بصوت عال أكثر مما يذكر ما يقرأه ساكتاً. فطوبى للإنسان الذي يتخذ الكتاب المقدس رفيقاً في الطريق كما يتخذه عشيراً في البيت فإنه نافع للمبشيرين والعبيد والعلماء والبسطاء. وخير مرشد في العمل وخير معزّ في الضيق.
    ولا ريب أن روح الله أعدّ قلب الحبشي لقبول الحق كما أعد له مرشداً إليه وهو الذي أرشده إلى قراءة الموضوع الذي هو أحسن مقدمة للتبشير بالإنجيل.
    أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ الخ هذا سؤال يحسن أن يُسأله كل قارئ لأن مجرد القراءة بدون إدراك المعنى لا يفيد شيئاً كما أن الجوهرة لا تفيد صاحبها ما لم يعرف قيمتها.
    ٣١ «فَأَجَابَ: كَيْفَ يُمْكِنُنِي إِنْ لَمْ يُرْشِدْنِي أَحَدٌ؟ وَطَلَبَ إِلَى فِيلُبُّسَ أَنْ يَصْعَدَ وَيَجْلِسَ مَعَهُ».
    معنى جوابه النفي فكأنه قال لا أفهم وهذا الجواب يدل على أنه متواضع لا يستحي أن يعترف بجهله واحتياجه إلى التعليم وهذه الصفة نادرة بين أرباب المناصب إذ هم يأبون أن يقروا بجهلهم ولا سيما في الأمور الدينية فأظهر ذلك الوزير روح الولد الذي أشار إليه المسيح بقوله «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات». فالموضوع الذي كان يقرأه كان أسهل فهماً على الذين تربوا في دين اليهود لأن ظاهره يشير إلى المسيح ولكنه يذكر بعض ما لا يليق بشأن المسيح الملك المجيد المظفر على اعتقادهم لأنه تكلم على اتضاعه ومحاكمته وآلامه فيعسر جمع الوصفين المتضادين في شخص واحد.
    وَطَلَبَ إِلَى فِيلُبُّسَ الخ رضي أن يتعلم من الغريب الذي هو أدنى منه في الرتبة كما هو ظاهر.
    ٣٢ «وَأَمَّا فَصْلُ ٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي كَانَ يَقْرَأُهُ فَكَانَ هٰذَا: مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أَمَامَ ٱلَّذِي يَجُزُّهُ هٰكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ».
    إشعياء ٥٣: ٧ و٨
    هذا مأخوذ من (إشعياء ٥٣: ٧ و٨) على ما في ترجمة السبعين والفرق بينه وبين الأصل العبراني في اللفظ. واعتاد اليهود أن ينسبوا هذه النبوءة إلى المسيح وما عدلوا عن ذلك إلا بعد جدالهم للمسيحيين وعجزهم عن دفع بيانها أن يسوع هو المسيح.
    مِثْلَ شَاةٍ أي غنمة وكان المسيح مثلها في البراءة والصبر والحلم.
    سِيقَ إِلَى ٱلذَّبْحِ هذا إشارة إلى قتله ظلماً بلا شفقة.
    صَامِتٍ اختياراً للصبر والحلم.
    ٣٣ «فِي تَوَاضُعِهِ ٱنْتَزَعَ قَضَاؤُهُ، وَجِيلُهُ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ، لأَنَّ حَيَاتَهُ تُنْتَزَعُ مِنَ ٱلأَرْضِ؟».
    ما في هذه الآية دليل على الإهانة والجور والقساوة التي وقعت على المسيح عند المحاكمة.
    فِي تَوَاضُعِهِ هذا على ما في ترجمة السبعين وفي العبراني «من الضغطة» وكل من الأمرين إشارة إلى ما وقع على المسيح حين قُبض عليه وقُيّد وأُسر وأُخذ من محكمة إلى محكمة ومن دار الحكومة إلى الجلجثة أي محل الصلب.
    ٱنْتَزَعَ قَضَاؤُهُ أي امتنع القضاء الحق الذي له لأنه وقف للقضاء أمام حنّان وقيافا وهيرودس وبيلاطس فلم يحكموا عليه حكماً بالحق ولو جروا على سنن العدل لأطلقوه.
    وَجِيلُهُ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ معنى «الجيل» هنا أهل ذلك العصر. والاستفهام للتعجب من شر أولئك الناس الذين قتلوا مسيحهم ابن الله فكأنه قال لا أحد يستطيع أن يصف فظاعة إثم معاصري المسيح إذ ليس في اللغات كلام كاف لبيانها.
    لأَنَّ حَيَاتَهُ تُنْتَزَعُ مِنَ ٱلأَرْضِ أي يقتل ظلماً كما أنبأ دانيال النبي بقوله «وَبَعْدَ ٱثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أُسْبُوعاً يُقْطَعُ ٱلْمَسِيحُ» (دانيال ٩: ٢٦). فهذا هو الإثم الفظيع الذي لا يستطيع أحد أن يصفه وهو نزع حياة المسيح أشرف رسل السماء وأصل ذلك في العبراني ما نصه «وفي جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء» والمعنى أن قليلين من أهل عصره عرفوا غاية موته أنه ضُرب وقُطع فداء عن خطايا شعبه.
    ٣٤ «فَسَأَلَ ٱلْخَصِيُّ فِيلُبُّسَ: أَطْلُبُ إِلَيْكَ: عَنْ مَنْ يَقُولُ ٱلنَّبِيُّ هٰذَا؟ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ عَنْ وَاحِدٍ آخَرَ؟».
    عَنْ مَنْ يَقُولُ ٱلنَّبِيُّ هٰذَا كان هذا السؤال في محله لأن إشعياء لم يذكر اسم الذي يتكلم فيه. نعم أن قدماء اليهود قالوا هو المسيح ولكن الحبشي لم تكن له فرصة لسمع تفسيرهم وصعب عليه أن يوفق بين ما سمعه من عظمة المسيح ومجده وما قيل هنا من نبإ إهانته وآلامه ويقرب للعقل أنه سمع في أورشليم أنباء يسوع الناصري وأن بعض تلاميذ يسوع أخبره أنه المسيح المشار إليه في هذه النبوءة وأن بعض اليهود قال أنه إشعياء أو إرميا دفعاً لحجة المسيحيين كما لا يزالون يقولون إلى اليوم. وإذ قرأ ذلك الوزير الكتاب الإلهي واجتهد في البحث عن الحق وهو يتردّد في معنى النبوءة أرسل الله إليه مرشداً يعلمه ولا بد من أن الله يفعل كذلك دائماً على وفق وعده بأن «من له يُعطى ويزداد» (متّى ٢٥: ٢٩).
    ٣٥ «فَٱبْتَدَأَ فِيلُبُّسُ مِنْ هٰذَا ٱلْكِتَابِ يُبَشِّرَهُ بِيَسُوعَ».
    لوقا ٢٤: ٢٧ وص ١٨: ٢٨
    فَٱبْتَدَأَ فِيلُبُّسُ انظر شرح (متّى ٥: ٢).
    مِنْ هٰذَا ٱلْكِتَابِ أي الذي كان يقرأه وهو نبوءة إشعياء (ص ٥٣) وجعل ذلك موضوع كلامه.
    يُبَشِّرَهُ بِيَسُوعَ مبيناً أن النبي لم يتكلم في نفسه ولا في غيره من البشر إنما تكلم في من كان إنساناً وإلهاً معاً وأبان له كيف تمت النبوءة في أعمال يسوع وتعليمه وموته وقيامته وأنه رُفع ليكون رئيساً ومخلصاً فإذاً يسوع هذا هو المسيح.
    جعل روح الله تعليم فيلبس مؤثراً في قلب الحبشي فقبل التعليم بالإيمان والتواضع كما يتضح من سؤاله في الآية التالية.
    ٣٦ «وَفِيمَا هُمَا سَائِرَانِ فِي ٱلطَّرِيقِ أَقْبَلاَ عَلَى مَاءٍ، فَقَالَ ٱلْخَصِيُّ: هُوَذَا مَاءٌ. مَاذَا يَمْنَعُ أَنْ أَعْتَمِدَ؟».
    ص ١٩: ٤٧
    سَائِرَانِ فِي ٱلطَّرِيقِ إلى جهة الجنوب حيث كان وزير ملكة الحبشة متوجهاً.
    هُوَذَا مَاءٌ لا شيء في النبإ هنا يدل على أن ذلك الماء كان ماء بئراً أو عيناً أو بركة ومن المعلوم أنه ليس عند تلك الطريق نهر فإذاً لا دليل مما ذُكر هنا على كيفية المعمودية أبالتغطيس كانت أم بالصب أم بالرش إنما نعلم أن الماء كان كافياً للمعمودية. فلو كانت كيفية المعمودية إشارة إلى غسل النفس من الخطيئة بالروح القدس وتلك الإشارة قائمة بصفة الماء التطهيرية لا بكميته.
    مَاذَا يَمْنَعُ أَنْ أَعْتَمِدَ يلزم من هذا السؤال أن فيلبس كان قد علمه في أثناء الحديث معنى المعمودية ووجوبها على من يعترف بإيمانه بالمسيح ويدخل عضواً في كنيسته. ويلزم من السؤال نفسه أن الوزير آمن بأن يسوع هو المسيح وأراد أن يعترف بإيمانه ويطيع أمر المسيح ويقف حياته لخدمته فأظهر بسؤاله تواضعه لأنه لم يطلب المعمودية كأنه مستحق لها بل ترك حكم ذلك لفيلبس. وقد مر الكلام على المعمودية بالتفصيل في الشرح (متّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٦).
    ٣٧ « فَقَالَ فِيلُبُّسُ: إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ يَجُوزُ. فَأَجَابَ: أَنَا أُومِنُ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ».
    متّى ٢: ١٩ ومرقس ١٦: ١٦ متّى ١٦: ١٦ ويوحنا ٦: ٦٩ و٩: ٣٥ و٣٨ و١١: ٢٧ وص ٩: ٢٠ و١يوحنا ٤: ١٥ و٥: ٥ و١٣
    أظهر فيلبس في هذا الجواب شرط المعمودية على البالغين كما عيّنها المسيح في (مرقس ١٦: ١٦) وهي الإيمان أي قبول المسيح مخلصاً وأن يكون الإيمان من كل القلب أي من العواطف والإرادة لا من الذهن فقط. نعم أن سيمون آمن (ع ١٣) ولكنه لم يؤمن من كل قلبه (ع ٢١). ولم يحكم فيلبس بصحة إيمان ذلك الوزير واستعداده للمعمودية بل ترك الحكم لضميره لأنه لم تكن من وسيلة لمعرفة خلوص إيمانه.
    أَنَا أُومِنُ الخ هذا قاعدة إيمان مختصرة تشتمل على أمرين فقط وهما أن يسوع هو المسيح الموعود به وأنه إله وكلاهما جوهريان في الدين لأن كل مواعيد الكتاب تمت بالأول وأنه بالثاني تحققنا أن دم يسوع المسيح كاف لأن يكون كفارة عن خطايا العالم كله وأن حكمته وافية بإرشاد جميع البشر وأن قوته تكفي أن تحميهم وتخلصهم. ولم يكتف ذلك الحبشي أن يعترف باعتقاده أن المسيح كذلك بل اتخذه رباً وإلهاً إلى الأبد.
    ٣٨ «فَأَمَرَ أَنْ تَقِفَ ٱلْمَرْكَبَةُ، فَنَزَلاَ كِلاَهُمَا إِلَى ٱلْمَاءِ، فِيلُبُّسُ وَٱلْخَصِيُّ، فَعَمَّدَهُ».
    يظهر مما فعله فيلبس أنه تحقق إخلاص الوزير من جوابه ومن أنه لا داعي إلى الرياء وأنه لم يره باقياً في حاجة إلى تعليم ديني قبل المعمودية لأنه تعلم من كتاب الله ومن فيلبس ومن الروح القدس فلم ير مانعاً من أن يعمده بل رأى موجباً لذلك لأنه ذاهب إلى بلاد بعيدة لا وسائط فيها إلى المعمودية وأن فيلبس على وشك أن يفارقه.
    ِفَنَزَلاَ كِلاَهُمَا إِلَى ٱلْمَاء لا دليل هنا على كيفية المعمودية لاحتمال المعنى أنهما نزلا إلى الماء نفسه أو إلى حافته ولكن نستنتج أن الماء كان منخفضاً عن الطريق بئراً كان أم بركة أم عيناً ولو عرفنا أنه بركة لا يقتضي الكلام أن فيلبس غطّس الوزير فيها ويحتمل أنه وقف على جانبه وصب الماء عليه. وعدم وجود أمر إلهي بكيفية المعمودية دليل على أن الكيفية ليست بجوهرية.
    ٣٩ «وَلَمَّا صَعِدَا مِنَ ٱلْمَاءِ خَطَفَ رُوحُ ٱلرَّبِّ فِيلُبُّسَ، فَلَمْ يُبْصِرْهُ ٱلْخَصِيُّ أَيْضاً، وَذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ فَرِحاً».
    ١ملوك ١٨: و٢ملوك ٢: ١٦ وحزقيال ٣: ١٢ و١٤
    مِنَ ٱلْمَاءِ أي من الماء نفسه أو من جانبه إلى حيث وقفت المركبة.
    خَطَفَ رُوحُ ٱلرَّبِّ فِيلُبُّسَ أمر الروح القدس فيلبس بالمجيء إلى ذلك المكان (ع ٢٩) وهنا أمره بالذهاب عنه ليمارس عملاً آخر فلم يترك الحبشي بلا مرشد إذ كتاب الله وروحه لا يزالان يرشدانه. وقوله «خطف» لا يلزم منه أنه حدثت معجزة لأن لوقا ذكر ذلك على ما ظهر للوزير فإنه كما حضر بغتة غاب كذلك وأنه لم يحدث ذلك باختياره بل على رغمه والأرجح أن الوزير كان مسروراً بمرافقة فيلبس ورغب في أن يأخذه معه إلى بلاد الحبش ليعلمه. ولعل فيلبس أراد أن يبقى معه زماناً ولكن روح الله ألزمه بالمفارقة. فالمراد «بالخطف» هنا كالمراد «بالإصعاد» في (متّى ٤: ١). وذهب بعضهم أن معنى ما قيل هنا أن الروح القدس حمل فيلبس حقيقة.
    وَذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ فَرِحاً أي الوزير. والفرح نتيجة تأثير الإنجيل أبداً في مدينة كان (ع ٨) أم في قلب شخص واحدٍ. وموضوع فرحه أنه قد وجد المسيح الموعود به ونال منه مغفرة خطاياه ومصالحة الله ورجاء الحياة الأبدية وفرح أيضاً من مدح ضميره له على تكميله واجباته بالإقرار بإيمانه ولعله فرح أيضاً بتوقعه أن يخبر أصدقاءه بالكنز المخفي الذي وجده في البريّة (متّى ١٣: ٢٤). وكان حقه أن يفرح لأن الإنجيل «بشارة بفرح عظيم» (لوقا ٢: ١٠). فأتى أورشليم حاملاً أثقال الخطيئة ورجع عنها وهي عليه ووجد المسيح في الطريق فحملها عنه. ولا بد من أن ذلك الفرح زاد فيه على توالي الأيام وتم عند بلوغه السماء ومشاهدة المسيح ودخول السعادة الأبدية. ومثل هذا الفرح معد لكل من يؤمن من أولاد آدم الإيمان الذي آمنه ذلك الوزير. ولم نسمع بعدئذ شيئاً من أمر ذلك الشريف لكن ترجح مما أظهره من الإيمان والطاعة أنه كان شاهداً أميناً للمسيح في الحبشة وذلك موافق لنبوءة داود في قوله «كُوشُ تُسْرِعُ بِيَدَيْهَا إِلَى ٱللّٰهِ» (مزمور ٦٨: ٣١). ولكن التاريخ لم يذكر قبول أمة الحبش الدين المسيحي إلا نحو سنة ٣٣٣ ب. م. حين ذهب إليها فرومنشيوس مبشراً.
    ٤٠ «وَأَمَّا فِيلُبُّسُ فَوُجِدَ فِي أَشْدُودَ. وَبَيْنَمَا هُوَ مُجْتَازٌ كَانَ يُبَشِّرُ جَمِيعَ ٱلْمُدُنِ حَتَّى جَاءَ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ».
    بشوع ١٣: ٣ و١صموئيل ٥: ٥ وإشعياء ٢٠: ١ وإرميا ٢٥: ٢٠ ص ٢١: ٨
    فَوُجِدَ فِي أَشْدُودَ أي لم يُسمع من أمره شيء قبل بلوغه أشدود. وهذا لا يتقضي أنه معجزة. وأشدود مدينة أعطاها يشوع سبط يهوذا لكنهم لم يملكوها (يشوع ١٥: ٢٧) وهي إحدى مدن الفلسطينيين الخمسة الكبيرة (١صموئيل ٦: ١٧). وهنالك وضع الفلسطينيون تابوت الرب في هيكل داجون حين أخذوه من الإسرائيليين (١صموئيل ٥: ١ - ٣) وهدم أسوارها عزيّا ملك يهوذا وبنى مدناً في أرضها (٢أيام ٢٦: ٦). وموقعها على أمد نحو ثلاثة أميال من البحر المتوسط وعلى أمد نحو أربعة وعشرين ميلاً شمال غزة ونحو ٢٤ ميلاً نحو الجنوب من يافا وهي قرية حقيرة لم تزل تُسمى أشدود. ولعله تم بتشبير فيلبس فيها نبوءة داود في (مزمور ٨٧: ٤).
    جَمِيعَ ٱلْمُدُنِ على شاطئ البحر وما جاوره كيافا ولد وغيرها. وذُكرت نتيجة هذا التبشير في (ص ٩: ٣٢ و٣٦) وما أنبأ به لوقا من فعله في السامرة ومع الوزير الحبشي ما كان يفعله حيث كان وليس هو وحده بل سائر المؤمنين المتشتتين.
    قَيْصَرِيَّةَ مدينة كبيرة على شاطئ البحر على الطريق من صور إلى مصر وعلى أمد ستة وثلاثين ميلاً من عكاء جنوباً بناها هيرودس الكبير وعظمها بقصور من المرمر والهياكل الفاخرة والملاعب الواسعة وأنشأ فيها مرفأ للسفن وسماها «قيصرية» إكراماً لأوغسطس قيصر. وكانت مركز ولاة سورية الرومانيين كفيلكس وفستوس وغيرهما (ص ٢٣: ٣٣ و٢٥: ٦ و١٣). وكانت وطن أوريجانوس اللاهوتي وأوسابيوس المؤرخ المسيحي. واتخذها فيلبس وطناً وهناك وجده بولس حين أتى إليها بعد مرور خمس وعشرين سنة (ص ٢١: ٨). وكان بولس أسيراً فيها نحو سنتين وهي الآن خربة ونُقل أكثر حجارها إلى أماكن شتى للبناء.

    الأصحاح التاسع


    ذهاب شاول إلى دمشق وظهور الرب له في الطريق وما نشأ من ذلك ع ١ إلى ٢٥


    ١ «أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ ٱلرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ».
    ص ٨: ٣ وغلاطية ١: ١٣ و١تيموثاوس ١: ١٣
    الذي حمل لوقا على تفصيل الكلام على شاول هنا ما أتاه شاول من الخدمة ليسوع بعد أن آمن وتحوّل من عدوّ الكنيسة إلى محب لها وصار رسولاً للأمم. وهذه الآية متعلقة بالآية الرابعة من الأصحاح الثامن فما بينهما كلام معترض بياناً لأتعاب واحد من الذين تشتتوا من أورشليم بسبب الاضطهاد على أثر قتل استفانوس.
    شَاوُلُ هذا اسمه اليهودي الذي سماه والداه به وترجمته في اللاتينية بولس. وُلد في طرسوس (ص ٢١: ٣٩) وكان أبوه عبرانياً من العبرانيين من سبط بنيامين (ص ٢٢: ٢٨) وكان فريسياً (ص ٢٣: ٦) وله حقوق الرومانيين (ص ٢٢: ٢٨) وتعلم صناعة الخيام ومارسها أحياناً (ص ١٨: ٣) ودرس الشريعة اليهودية في أورشليم عند قدمي غمالائيل ص ٢٢: ٣). وكان في أول أمره مضطهداً الدين المسيحي ثم صار رسولاً له ثم شهيداً به. والأرجح أنه كان يهودياً إلى أن بلغ سن الثلاثين وجال مبشراً خمساً وعشرين سنة. والذي تعلمه يقيناً أنه كان أسيراً أربع سنين والأرجح أنه كان كذلك سبع سنين. وكتب أربع عشرة رسالة على القول بأنه كتب رسالة العبرانيين.
    ولم يكتب أحد من الكتبة الملهمين في العهدين مقدار ما كتب سوى موسى. والتغير الذي نشأ فيه دليل على قوة النعمة الإلهية على تغيير قلب الإنسان وكل مجرى أفكاره وسيرته وذلك التغيير من أمثلة عظمة رحمة الله وهو أنه أنقذ مثل ذلك المقاوم من الهلاك الأبدي وهذا موافق لقوله «لِهٰذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (١تيموثاوس ١: ١٦). وذلك التغير برهان أيضاً على صدق الديانة المسيحية لأنه لم يقبلها إلا بأوضح الأدلة ولأنه لم يحصل على ربح دنيوي بل خسر كل شيء لأجلها إذ ترك الدين الذي تربى فيه والأمة التي كان عضواً فيها والتصق بجماعة مبغضة مهانة وقاسى أتعاباً كثيرة في خدمته للدين الجديد وبذل حياته أخيراً في سبيله ومن المحال إتيانه ذلك دون اقتناع بأقوى البراهين. ودعوة شاول في العهد الجديد أمر ذو شأن كدعوة إبراهيم في العهد القديم. وأهميتها تتبيّن من ذكرها بالتفصيل ثلاث مرات في هذا السفر في (ص ٩: ٢٢ و٢٦).
    يَنْفُثُ هذا مجاز يشير إلى أن قلبه مملوء من الغضب والغيرة في الاضطهاد كأتون متقد فلم يتنفس إلا ليتفل أو ينفخ تهديداً ولعنة وقضاء بالموت على المسيحيين وذلك مثل قوله منبئاً بما أتاه «إِذْ أَفْرَطَ حَنَقِي عَلَيْهِمْ» (ص ٢٦: ١١).
    تَهَدُّداً إما في مسامع أصدقائه وهو ينبئهم بما عزم عليه أن يفعله بالنصارى أو في مسامع النصارى أنفسهم بأنه كان ينذر بالعذاب أو الموت إن لم يرجعوا عن إيمانهم بيسوع.
    وَقَتْلاً أي كان يجتهد أن يحكم عليهم المجلس بالقتل وكان يفرح بقتلهم (ص ٢٤: ١٠ و ١١) وذلك ليس لأنه كان قاسياً بالطبع بل لأنه ظن الديانة المسيحية بدعة قبيحة وأنه يجب عليه أن يمحوها بقتل أتباعها فارتكب بذلك خطأين ارتكبهما كثيرون غيره ونتج قتل ألوف من شهداء الحق.
    تَلاَمِيذِ ٱلرَّبِّ لم يكونوا قد سمّوا مسيحيين حينئذ (ص ١١: ٢٦).
    فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ لأنه رئيس المجلس الكبير وله حق أن يوقع المكاتيب ويضع عليها ختم المجلس (ع ١٤ وص ٢٢: ٥) والأرجح أن اسمه ثاوفيلس وأنه صدوقي من بيت حنان وقد عيّنه فيتاليوس الوالي الروماني سنة ٣٧ ب. م.
    ٢ «وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ إِلَى ٱلْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاساً مِنَ ٱلطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    ص ١٦: ١٧ و١٨: ٢٥ و١٩: ٩ و٢٣ و٢٢: ٤
    وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ لم يكتف شاول بما فعل بتلاميذ الرب في أورشليم فرغب في أن يضطهدهم في غيرها من المدن وأتى ذلك تبرعاً إذ لم يدعه أحد إليه. وكانت الرسائل التي طلبها تشتمل على استئذان أرباب الحكومة في تولية شاول السلطان على المسيحيين كما كان للمجلس سلطان على كل اليهود في اليهودية وغيرها.
    دِمَشْقَ هي من أقدم مدن العالم كانت عامرة في أيام إبراهيم (تكوين ١٤: ١٥ و١٥: ٢) أخذها داود (٢صموئيل ٨: ٦) وكثيراً ما حارب ملوكها الإسرائيليين (١ملوك ١١: ٢٤ و٢ملوك ١٤: ٢٥ و١٦: ٥) وأخذها الرومانيون سنة ٦٠ ق. م. والأرجح أنها كانت في زمان زيارة شاول إيّاها تحت حكم الحارث أحد أمراء العرب الغسانيين (٢كورنثوس ١١: ٣٢ و٣٣) وهي على أمد ١٤٠ ميلاً أو نحو مسافة سبعة أيام من أورشليم شمالاً.
    إِلَى ٱلْجَمَاعَاتِ أي شيوخ الجماعات انظر شرح (متّى ٤: ٢٣) وكان فيها وقتئذ كثير من اليهود والدليل على ذلك قول يوسيفوس المؤرخ أنه حين خربت أورشليم قُتل في دمشق مرة عشرة آلاف يهودي ومرة أخرى ثمانية عشر ألفاً.
    ولا نعلم من بشّر بالإنجيل هنالك ولا كم كان عدد المؤمنين بالمسيح هنالك. ولعل بعض الذين آمنوا في يوم الخمسين كانوا من أهلها ولما عادوا إليها بشروا بالإنجيل ولعل بعض الذين تشتتوا من الاضطهاد هربوا إليها.
    إِذَا وَجَدَ أُنَاساً يظهر من هذا أنه لم يكن متحققاً أن في دمشق قوماً من المسيحيين إنما رجّح ذلك وكان ترجيحه صحيحاً على وفق الواقع (ع ١٠).
    مِنَ ٱلطَّرِيقِ أي الديانة المسيحية (ص ١٩: ٩ و٢٢: ٤ و٢٤: ١٤ و٢٢). وهو طريق الله (ص ١٨: ٢٦) وطريق الإيمان وطريق القداسة والحياة وطريق السماء ولعل أصل استعماله قول المسيح «أنا هو الطريق» (يوحنا ١٤: ٦).
    رِجَالاً أَوْ نِسَاءً هذا يدل على أنه لم يكن في قلبه شفقة وإلا ما طلب أن يجر النساء مسافة بعيدة.
    مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ ليحاكموا هنالك على هرطقتهم. سلمت أرباب حكومة دمشق بسلطان مجلس السبعين وشيوخ الجماعات على اليهود المستوطنين هنالك وكانت مستعدة لمساعدتهم.
    ٣ «وَفِي ذَهَابِهِ حَدَثَ أَنَّهُ ٱقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
    ص ٢٢: ٦ و٢٦: ١٣ و١كورنثوس ١٥: ٨
    ٱقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ المكان غير المعروف والأرجح أنه غير بعيد عن المدينة وكانت منتصف النهار (ص ٢٦: ١٣).
    نُورٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ هذا ليس برقاً بدليل أن بولس وصفه في (ص ٢٦: ١٣) بأنه «نور من السماء أفضل من لمعان الشمس» فهو بهاء جلال يسوع وهو متمجّد وأن الكتاب صرح بأنه اقترن بظهور يسوع لبولس ومن ذلك قول حنانيا «قَدْ أَرْسَلَنِي ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلَّذِي ظَهَرَ لَكَ فِي ٱلطَّرِيقِ» (ع ١٧) وإنباء برنابا للرسل بأمر بولس من أنه «كَيْفَ أَبْصَرَ ٱلرَّبَّ فِي ٱلطَّرِيقِ وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ» (ع ٢٧) وقول بولس «وَآخِرَ ٱلْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا» (١كورنثوس ١٥: ٨). وهذا كظهور الله سابقاً للناس فإنه كذلك ظهر لموسى في العليقة (خروج ٣: ٢) ولشعب إسرائيل في عمود النار (خروج ١٢: ٢١ و٢٢) وفي خيمة الاجتماع (خروج ٤٠: ٣٤ و٣٨) وفي الهيكل (٢أيام ٧: ١ - ٣ وإشعياء ٤: ٤ - ٦) وكذلك ظهر عند ميلاد يسوع (لوقا ٢: ٩) وعند تجليه على الجبل (متّى ١٧: ١ - ٥) ومن اللائق أن تكون علامة ظهور المسيح نوراً لأنه «هو النور» (يوحنا ١: ٤ و٩) و «نور العالم» (يوحنا ٨: ١) وهو «بهاء مجد الآب» (عبرانيين ١: ٣).
    ٤ «فَسَقَطَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتاً قَائِلاً لَهُ: شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟».
    متّى ٢٥: ٤٠ الخ
    فَسَقَطَ عَلَى ٱلأَرْضِ للحيرة والخوف من ظهور لمعان النور العظيم بغتة ومن إعلان يسوع المسيح نفسه بالمجد وكذلك كان من أمر دانيال عندما شاهد مجد الله (دانيال ٨: ١٧ و١٠: ٨).
    وَسَمِعَ صَوْتاً رأى كل رفاقه النور ولكن لم ير أحد منهم يسوع سوى بولس وكلهم سمعوا الصوت (ع ٧) ولكن لم يميز أحد منهم كلمات المتكلم سواه. وجاء في ص ٢٦: ١٢ أن الرب كلمه باللغة العبرانية. ولا منافاة في ما قيل هنا لما قيل في (ص ٢٢: ٩) وهو قوله «وَٱلَّذِينَ كَانُوا مَعِي نَظَرُوا ٱلنُّورَ وَٱرْتَعَبُوا، وَلٰكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ ٱلَّذِي كَلَّمَنِي» أي لم يسمعوا كلمات مفهومة فكان هذا الحادث كالمذكور في (يوحنا ١٢: ٢٨) وهو قول الإنجيلي «فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ: مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضاً» وهذا الصوت ظنه بعضهم رعداً وظن غيرهم أنه صوت ملاك.
    شَاوُلُ، شَاوُلُ كرر اسمه لتقرير كلامه فيه كذلك فعل في خطابه لمرثا (لوقا ١٠: ٤١) ولسمعان بطرس (لوقا ٢٢: ٣١) فالمسيح يعرف كل إنسان عرفه ذلك الإنسان أم جهله.
    لِمَاذَا أظهر المسيح بهذا السؤال لكفه وتواضعه فإنه لم يهدده على فعله بل سأله بيان الحامل له عليه. والظاهر أن الاستفهام إنكاري ليكون المعنى ليس لشاول من سبب كافٍ لاضطهاده المسيح لأن المسيح لم يؤذه ولم يغظه. وكذلك كل مقاومة الأشرار للمسيح ولكنيسته بلا علة وذلك موافق لقول يسوع «أبغضوني بلا سبب» (يوحنا ١٥: ٢٥).ويقرب من هذا قوله تعالى بلسان حزقيال النبي «اِرْجِعُوا ٱرْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ ٱلرَّدِيئَةِ. فَلِمَاذَا تَمُوتُونَ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ» (حزقيال ٣٣: ١١).
    تَضْطَهِدُنِي يسوع وكنيسته واحد (يوحنا ١٥: ١ - ٦) فاضطهاد أحدهما اضطهاد للآخر (متّى ٢٥: ٤ و٤٥) وهذا موافق ما قيل في أن المؤمنين «أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ» (أفسس ٥: ٣٠). وقول الملاك عن فم الله «مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ» (زكريا ٢: ٨). ولنا من هذا أن المسيح وهو في المجد يحسب نفسه وشعبه واحداً وهذا كلام كله تعزية لكل مضطهد ومتألم.
    ٥ «فَسَأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ».
    ص ٥: ٣٩
    مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ لم يعرف شاول من هو المتكلم ولم يخطر على باله فسمع صوتاً كأنه صوت إنسان فسأل من هو صاحب الصوت ولم يظن أن الذي يناديه إله إسرائيل لأنه حكم عليه بأنه مضطهد له وهو يرى نفسه أشد غيرة من سائر الناس لشريعته وقد بلغ ذلك المكان وهو يقصد خدمته.
    ٱلرَّبُّ هذا اسم يسوع المسيح الشائع في الكتاب المقدس انظر شرح (ص ١: ٢٤).
    أَنَا يَسُوعُ هذا جواب صاحب الصوت فإن يسوع أتى بنفسه وظهر لشاول ليقنعه أنه هو المسيح ويحوله من عدو ومضطهد إلى صاحب ورسول. اختصر لوقا هنا ما قاله يسوع ولكن بولس ذكره كله بقوله «أَنَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ» (ص ٢٢: ٨) فكأنه قال أنا موضوع هزئك وبغضك ولم يقل أنا ابن الله وكلمته الأزلية والمسيح لئلا يقول شاول أنا لم أضطهد ذاك بل يسوع الناصري الذي صُلب.
    ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ باضطهادك تلاميذي وإخوتي وهذا كقوله «مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي» (متّى ١٠: ٤٠).
    صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ مجاز مأخوذ عن رفس الثور وهو يفلح منخس الفلاح فإنه لا يستفيد من ذلك سوى أن يجرح نفسه. والمعنى أنه كان ضرراً لشاول علاوة على كونه عبثاً أن يبقى عنيداً عاصياً مقاوماً ليسوع إذ يعاند بذلك من هو أقوى منه فلا يحصل على سوى أضرار نفسه. وهذا يصدق على الأشرار أبداً فمقاومتهم لله جهل وإثم معاً. وكذا مخالفة الضمير والتذمر على عناية الله في إرسال الضيقات ومثله مقاومة الروح القدس وهو يخاطب قلوبنا. والخلاصة أن المضطهدين يضرون بالمسيح وكنيسته ولكنهم يضرون أنفسهم أكثر جداً.
    ٦ «فَسَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: قُمْ وَٱدْخُلِ ٱلْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ».
    لوقا ٣: ١٠ وص ٢: ٣٧ و١٦: ٣٠
    مُرْتَعِدٌ خائف من شعوره بفظاعة إثمه ومن العقاب الذي يستحقه.
    وَمُتَحَيِّرٌ من أنه وجد أن يسوع الناصري هو المسيح أي أن الذي كان يظنه خادعاً ومجدفاً ومستحقاً أن يقاومه كل المقاومة هو الذي ظهر له في المجد السماوي وأوقفه عن السير في سبيل قصده وأظهر له أن ما كان يفعله غلط وخطيئة.
    مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟ هذا يدل على أنه اقتنع أن يسوع هو المسيح وأنه خضع له رباً وآمن به مخلصاً. وفي لمحة طرف تحول من فريسي متكبر متكل على بر نفسه إلى مسيحي متواضع متكل على بر يسوع ومن قاتل المؤمنين إلى رسول الأمم. وكان قبل ذلك يقول «ماذا أريد أن أفعل وماذا يحب الناس أن أفعله» والآن نظر إلى فوق وسأل الله عن إرادته تعالى بغية أن يطيع أمره منذ تلك الساعة إلى الأبد. وهكذا يجب على كل خاطئ أن يخضع إرادته لله كما أخضعها له شاول لكي يخلص.
    قُمْ وَٱدْخُلِ ٱلْمَدِينَةَ أي دمشق التي كان قد اقترب منها (ع ٣). كان قصد أن يدخلها إجابة لإرادته ولأمر مجلس السبعين فدخلها بأمر الله.
    فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا الخ يظهر من هذا أن شاول مع أن قلبه تجدد لم يفهم تمام الفهم ماذا يجب عليه وأن المولودين ثانية ليسوا سوى أطفال في المسيح يحتاجون إلى التعليم في العقائد والأعمال وأن الله يختار أن يعلم الناس بوسائط بشرية فكان يمكنه أن يعلم شاول كل تعليم روحي بالإعلان كما علمه به أنه هو المسيح الرب. وكان يمكنه أيضاً أن يرسل إليه ملاكاً يعلمه لكنه اختار أن يعلمه بواسطة حنانيا كما علم كرنيليوس بواسطة بطرس (ص ١٠: ٥) وهكذا يتخذ الله الناس وسطاء لنشر دينه في العالم. ويظهر من ذلك أيضاً وجوب رضى كل مسيحي أن يتعلم من غيره من المسيحيين المختبرين وأن يرضى المختبرون أن يعلموا المحتاجين إلى تعليمهم.
    ٧ «وَأَمَّا ٱلرِّجَالُ ٱلْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ، يَسْمَعُونَ ٱلصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَداً».
    دانيال ١٠: ٧ وص ٢٢: ٩ و٢٦: ١٣
    ٱلْمُسَافِرُونَ مَعَهُ لا نعلم أخدمه هم أم رفقاؤه والأول أرجح.
    فَوَقَفُوا صَامِتِينَ أي متحيرين حتى صاروا كأنهم لا يستطيعون النطق. فلا منافاة بين ما قيل هنا وما في قوله في (ص ٢٦: ١٤) «فَلَمَّا سَقَطْنَا جَمِيعُنَا عَلَى ٱلأَرْضِ» لأنه قصد أن يشير إلى صمتهم من الحيرة بقطع النظر عن وضعهم واقفين أو ساقطين. أو الواقع أنهم سقطوا أولاً من تأثير المنظر ثم قاموا ووقفوا منتظرين ماذا يصير بعد ذلك وهم في الحيرة.
    يَسْمَعُونَ ٱلصَّوْتَ ولكنهم لم يفهموا كلمات المتكلم وهذا معنى قوله في (ص ٢٢: ٩) «لٰكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ ٱلَّذِي كَلَّمَنِي» بدليل أنه كثيراً ما عبر الكتاب المقدس بالصوت عن التأثير في السمع دون الكلمات ومن ذلك قوله «صَوْتُ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلْمِيَاهِ. صَوْتُ ٱلرَّبِّ مُكَسِّرُ ٱلأَرْزِ، صَوْتُ ٱلرَّبِّ يَقْدَحُ لُهُبَ نَارٍ. صَوْتُ ٱلرَّبِّ يُزَلْزِلُ ٱلْبَرِّيَّةَ» (مزمور ٢٩: ٣ و٥ و٧ و٨) ومثله ما جاء في متّى ٢٤: ٣١ و١تسالونيكي ٤: ١٦). وكما حدث لمن كانوا مع شاول حدث لرفقاء دانيال (دانيال ١٠: ٧). فشاول رأى النور ورأى المسيح أيضاً وسمع صوته وكلماته أما رفاقه فرأوا النور ولم يروا المسيح وسمعوا الصوت ولم يسمعوا الكلمات.
    ٨ «فَنَهَضَ شَاوُلُ عَنِ ٱلأَرْضِ، وَكَانَ وَهُوَ مَفْتُوحُ ٱلْعَيْنَيْنِ لاَ يُبْصِرُ أَحَداً. فَٱقْتَادُوهُ بِيَدِهِ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى دِمَشْقَ».
    لاَ يُبْصِرُ أَحَداً أنه شاهد المسيح متجمداً (انظر شرح ع ٢) وهذا المنظر لا يستطيع النظر البشري احتماله بدون تأثر. والمراد بقوله «لا يبصر أحداً» أنه لم يبصر أحداً من رفاقه أو المارين في الطريق وبقي بصره كذلك ثلاثة أيام ولعل ذلك ليس سوى تأثير طبيعي من شدة النور «لأن ذلك النور كان عظيماً» (ص ٢٢: ٦). وبيّن ذلك أيضاً بقوله «إِذْ كُنْتُ لاَ أُبْصِرُ مِنْ أَجْلِ بَهَاءِ ذٰلِكَ ٱلنُّورِ» (ص ٢٢: ١١). فإن قيل لماذا لم يحدث مثل ذلك لأحد من رفقائه قلنا تأثير الضوء يختلف باختلاف العيون وعلينا أن نذكر أنه رأى علاوة على ما رأوه الرب في مجده.
    فَٱقْتَادُوهُ بِيَدِهِ لم يكن شاول يتوقع أن يدخل دمشق كالأعمى مقتاداً حزيناً متواضعاً بل كان ينتظر أن يدخلها في موكب يليق بنائب مجلس اليهود العظيم مكرماً من يهود المدينة مخيفاً للمسيحيين. ومثل هذه المعاكسة جرى عليه في خروجه فإنه كان متوقعاً الخروج بجمهور من الأسرى المرتعدين باحتفال عظيم فخرج مدلى ليلاً بسل من السور.
    ٩ «وَكَانَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يُبْصِرُ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ».
    ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يُبْصِرُ نعم أن عيني جسده لم تبصرا المواد لكن نفسه كانت تبصر الحقائق أحسن إبصار.
    فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ شغل الوقت بالصوم والتأمل والصلاة (ع ١١). ولعل اضطراب فكره أزال منه شهوة الطعام كما يحدث كثيراً للناس في أوقات الحزن الشديد. ومن أسباب اضطراب أفكار شاول تذكره أعماله الماضية وحزنه على ما سبق من عمايته وإثمه وأضراره المسيح وتلاميذه فكأنه كان يسمع على الدوام قول الرب له «شاول شاول لماذا تضطهدني». ومنها ريبه في ما يكون في المستقبل لأنه كان إلى ذلك الوقت لم يتم قول المسيح له «يقال لك ماذا ينبغي أن تفعل» فلم يعرف أعن رحمة يكون ذلك أم عن نقمة فلم يتحقق أن إثمه يُغفر.
    ١٠ «وَكَانَ فِي دِمَشْقَ تِلْمِيذٌ ٱسْمُهُ حَنَانِيَّا، فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ فِي رُؤْيَا: يَا حَنَانِيَّا. فَقَالَ: هٰئَنَذَا يَا رَبُّ».
    ص ٢٢: ١٢
    تِلْمِيذٌ من تلاميذ يسوع وزيد على ذلك أنه كان «رَجُلاً تَقِيّاً حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ، وَمَشْهُوداً لَهُ مِنْ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ» (ص ٢٢: ١٢). والأرجح أنه آمن منذ مدة ليست بقصيرة (ع ١٣).
    ٱلرَّبُّ أي يسوع الأقنوم الوحيد المذكور في نبإ هداية بولس. ودليل أنه يسوع قوله في الكلام على التلاميذ «قديسيك» (ع ١٣) وقوله «الذين يدعون باسمك» (ع ١٤) وقوله «أرسلني الرب يسوع» الخ (ع ١٧).
    فِي رُؤْيَا لم يبيّن أفي النوم كان ذلك أم في اليقظة وعلى كلا الوجهين تحقق أن ذلك إعلان إلهي.
    هٰئَنَذَا أي منتبه ومستعد للطاعة.
    ١١ «فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: قُمْ وَٱذْهَبْ إِلَى ٱلزُّقَاقِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمُسْتَقِيمُ، وَٱطْلُبْ فِي بَيْتِ يَهُوذَا رَجُلاً طَرْسُوسِيّاً ٱسْمُهُ شَاوُلُ لأَنَّهُ هُوَذَا يُصَلِّي».
    ص ٢١: ٣٩ و٢٢: ٣
    ٱلزُّقَاقِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمُسْتَقِيمُ كان هذا يومئذ الشارع الأول في دمشق وهو ممتد من الشرق إلى الغرب وعرضه ثماني أذرع ونصف وكان على جانبيه صفوف من عمد الحجارة الصلبة المنقوشة ولم تزل بقاياها إلى اليوم وقد يجدون بعضها مدفوناً تحت الأرض. وشارع دمشق العظيم اليوم من الشرق إلى الغرب ويُعرف بالمستقيم وبالسلطاني ولكن يعسر إثبات أنه الزقاق المستقيم عينه بعد مضي نحو ١٩٠٠ سنة مع ما حدث من التغيرات في تلك المدينة.
    فِي بَيْتِ يَهُوذَا يعرف يسوع كل إنسان وما يتعلق به بالتفصيل كاسمه ومسكنه وأصله وما أشبه ذلك وهذا عزاء عظيم للصالحين وهول شديد للأشرار.
    طَرْسُوسِيّاً طرسوس قاعدة ولاية كيليكية وهي جزء من آسيا الصغرى على أمد نحو ٢٠ ميلاً من مرسين شمالاً شرقياً وموقعها على نهر سدنس اشتهرت قديماً بعظمتها وتجارتها وما فيها من مدارس العلم والفلسفة كأثينا واسكندرية ولهذا وصفها بولس بأنها «مدينة غير دنية» (ص ٢١: ٣٩). ميزها أوغسطس قيصر بعدة أمور منها أنه حسبها مدينة رومانية لأنها تحزبت له في محاربته لبمبيوس وهي لا تزال إلى اليوم إلا أنها فقدت مجدها القديم.
    هُوَذَا يُصَلِّي هذا يبيّن ما فعله شاول في الأيام الثلاثة المذكورة في (ع ٩). أخبر يسوع حنانيا بذلك ليبين له أنه حدث في شاول تغيّر عظيم فإنه لم يبق فريسياً مضطهداً بل صار يصلي لرب مضطهديه وأنه إذ تغيرت أفكاره في شأن ربهم تغيرت في شأنهم أيضاً.
    ولا يلزم من قوله «هوذا يصلي» أنه لم يصل قبلاً لأن الفريسيين كانوا يحافظون على الصلوات المعينة بأوقاتها (لوقا ١٨: ١٠ وفيلبي ٣: ٤ و٦) لكنه يفيد أن المسيح لم يعتبر صلواته الأولى مقبولة لأنه قدمها وهو متكل على بر نفسه كالفريسيين أما صلواته الآن فاعتبرها حقيقية لأنه قدمها وهو متكل على رحمة الله بيسوع المسيح وصلاها من قلبه لا من شفتيه فقط. إنه من أول دليل على تجديد القلب تقديم الصلاة الحارة.
    ١٢ «وَقَدْ رَأَى فِي رُؤْيَا رَجُلاً ٱسْمُهُ حَنَانِيَّا دَاخِلاً وَوَاضِعاً يَدَهُ عَلَيْهِ لِكَيْ يُبْصِرَ».
    لا نعلم متى رأى شاول هذه الرؤيا ولا الطريقة التي رآها فيها ووهبت له تعزية لقلبه وإعداداً لمجيء حنانيا ليؤكد له صحة مرسليته فأخبره باسمه أيضاً لدفع كل ريب.
    ١٣، ١٤ «١٣ فَأَجَابَ حَنَانِيَّا: يَا رَبُّ قَدْ سَمِعْتُ مِنْ كَثِيرِينَ عَنْ هٰذَا ٱلرَّجُلِ، كَمْ مِنَ ٱلشُّرُورِ فَعَلَ بِقِدِّيسِيكَ فِي أُورُشَلِيمَ. ١٤ وَهٰهُنَا لَهُ سُلْطَانٌ مِنْ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ أَنْ يُوثِقَ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ بِٱسْمِكَ».
    هذا جواب يدل على حيرة حنانيا وخوفه لا على إباءته إطاعة أمر المسيح ومن الطبع أن يتقي مواجهة إنسان أول ما يخطر على باله الهرب والاختباء منه على أنه كان الأفضل أن يذهب بلا توقف بعد أن أمره المسيح.
    قَدْ سَمِعْتُ مِنْ كَثِيرِينَ الأرجح أن هؤلاء الكثيرين هم الذين هربوا على توالي الأوقات من أورشليم إلى دمشق اتقاء من الاضطهاد. ويظهر من هذا أن شاول كان مشهوراً بأنه مضطهد كنيسة الله شديد الاضطهاد حتى بلغ خبره مثل تلك المدينة البعيدة. ونستنتج من قول حنانيا أنه سمع من كثيرين أنه قد مر عليه وقت ليس بقليل بعد أن آمن بيسوع وإلا ما استطاع أن يسمع الأنباء من كل هؤلاء.
    بِقِدِّيسِيكَ لقب لتلاميذ الرب لأنهم مقدسون وواقفون أنفسهم له. وأُضيفوا إليه لأنه هو اختارهم ودعاهم واعتنى بهم وقدسهم وهم اتكلوا عليه (أفسس ١: ١ وفيلبي ١: ١).
    لَهُ سُلْطَانٌ مِنْ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ الأرجح أن الوسيلة إلى معرفة حنانيا ذلك أن مسيحي أورشليم أخبروا إخوتهم في دمشق بذلك تنبيهاً لهم على الخطر المقبل عليهم ولعل أعداءهم أنذروهم بذلك ليرجعوا عن إيمانهم الجديد ويمتنع غيرهم عن الإيمان بيسوع أو الالتصاق بهم.
    ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ بِٱسْمِكَ أي يصلون باسمك وهذا ما يميز المسيحيين غن غيرهم فدعاؤهم بيسوع في الصلاة إقرار بأنه إله مساوٍ للآب (١كورنثوس ١: ٢ و٢تيموثاوس ٢: ٢٢).
    ١٥ «فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: ٱذْهَبْ، لأَنَّ هٰذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ».
    ص ١٣: ٢ و٢٢: ٢١ و٢٦ ورومية ١: ١ و١كورنثوس ١٥: ١٠ وغلاطية ١: ١٤ وأفسس ٣: ٧ و٨ و١تيموثاوس ٢: ٧ و٢تيموثاوس ١: ١١ رومية ١: ٥ و١١: ١٣ وغلاطية ٢: ٧ و٨ ص ٢٥: ٢٢ و٢٣ و٢٦: ١ الخ
    ٱذْهَبْ آمناً أو خائفاً مقتنعاً أو مرتاباً فإلهك لا يأمر بما ليس بخير فأسباب الأمر كافية.
    إِنَاءٌ مُخْتَارٌ «الإناء» الوعاء يُحمل به الشيء من مكان إلى آخر فإذا أُستعير للإنسان كان المعنى أنه يكون الوسيلة لنقل بشارة الخلاص من الله إلى الناس (رومية ٩: ٢١ - ٢٣ و٢كورنثوس ٤: ٧ و١تسالونيكي ٤: ٤ و٢تيموثاوس ٢٠: ٢١) واختاره يسوع لهذه الخدمة كما اختار الاثني عشر رسولاً أولاً (غلاطية ١: ١٥ - ١٦). فشاول لم يختر أولاً يسوع رباً له لكن يسوع اختاره أولاً وذلك على وفق قوله تعالى «لَيْسَ أَنْتُمُ ٱخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ» (يوحنا ١٥: ١٦).
    لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أي معرفتي لأن أسماء المسيح تدل على صفاته وعمله.
    أُمَمٍ أي شعوب الأرض سوى اليهود. وهذا عمله الخاص لا الوحيد ولذلك سمي رسول الأمم (رومية ١١: ١٣ و١٥: ١٦ وغلاطية ٢: ٨). وعسر على المسيحيين الأولين الاعتقاد أن الأمم شركاء اليهود في نعمة الإنجيل وكان بولس أول المعتقدين ذلك والعاملين بمقتضاه.
    وَمُلُوكٍ نجز هذا الوعد حين وقف قدام هيرودس أغريباس الثاني في قيصرية (أعمال ٢٥: ٢٣) وقدام الملكة برنيكي (ص ٢٦: ٣٢) وأمام نيرون قيصر في (رومية ص ٢٧: ٢٤) ونجز أيضاً بوقوفه أمام نواب الملوك كفيلكس وفستوس وسرجيوس بولس وغاليون.
    وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أي اليهود. بولس مع أنه كان رسول الأمم ابتدأ يبشر اليهود في مجامعهم في أول دخوله المكان (ع ٢٠ - ٢٢ وص ١٣: ٤٦ و٢٨: ١٧).
    ١٦ «لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي».
    ص ٢٠: ٢٣ و٢١: ١١ و٢كورنثوس ١١: ٢٣
    ما قيل هنا أكدّ أن شاول تلميذ ليسوع ونفى كل ريب من قلب حنانيا لأنه من استعد أن يتألم من أجل شخص فهو صديق لذلك الشخص فتألم المسيح من أجلنا برهان على أنه أحبنا وتألمنا اختياراً من أجله برهان على صحة محبتنا إياه. وأمثلة تألم بولس على وفق هذا الإنباء فُصلت في (ص ٢٠: ٢٣ و٢١: ١١ و٢كورنثوس ١١: ٢٣ - ٢٧ وأفسس ٦: ٢٠ و٢تيموثاوس ١: ١١ و١٢ و٢: ٩). وهذه الآية تبين أن احتمال الشدائد جزء من استعداد المسيحي للخدمة المفيدة فإن المسيح نفسه «كمل رئيس خلاص بالآلام» (عبرانيين ٢: ١٠).
    ١٧ «فَمَضَى حَنَانِيَّا وَدَخَلَ ٱلْبَيْتَ وَوَضَعَ عَلَيْهِ يَدَيْهِ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلأَخُ شَاوُلُ، قَدْ أَرْسَلَنِي ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلَّذِي ظَهَرَ لَكَ فِي ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي جِئْتَ فِيهِ، لِكَيْ تُبْصِرَ وَتَمْتَلِئَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
    ص ٢٢: ١٢ و١٤ ص ٨: ١٧ ص ٢: ٤ و٤: ٣١ و٨: ١٧ و١٣: ٥٢
    فَمَضَى حَنَانِيَّا غير مبال بشكوكه وخوفه.
    وَوَضَعَ عَلَيْهِ يَدَيْهِ علامة لمنح البركة وهي تكون مقترنة بالصلاة انظر (شرح ٨: ١٧) وانظر أيضاً (متّى ٩: ١٨ و١٩: ١٣) وهذا الوضع ليس برسم إكليريكي لأن الله لم يرسل حنانيا ليرسمه بل ليشفيه وبولس نفسه لم يفتأ يبيّن تعيين رسولاً من المسيح نفسه لا من إنسان.
    أَيُّهَا ٱلأَخُ هذا كلام تودد وعلامة قبوله إياه تلميذاً حقيقياً للمسيح بشهادة الرب نفسه فكل المسيحيين إخوة باتحادهم بالرأس الذي هو المسيح. ولا ريب في أن شاول اعتبر ما أتاه حنانيا (من زياراته إياه في ضيقه ودعوته أخاً وهو ممن لم يأت إلا للإساءة إليهم) لطف عظيم.
    يَسُوعُ ٱلَّذِي ظَهَرَ لَكَ ذكر هذا ليوضح له انه أُرسل حقيقة من الرب وهذا مما أكدّ لشاول أن الرب يسوع ظهر له بذاته كما قال هو في (١كورنثوس ٩: ١ و١٥: ٨).
    لِكَيْ تُبْصِرَ أتى حنانيا إلى شاول ليمنحه بركتين إحداهما جسدية وهي ما ذُكر هنا والثانية روحية وستأتي.
    وَتَمْتَلِئَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ هذه هي البركة الروحية انظر شرح (ص ٢: ٤). وهي زيادة على ما وهبه الروح من الولادة الجديدة رأى الرب.
    ١٨ «فَلِلْوَقْتِ وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ، فَأَبْصَرَ فِي ٱلْحَالِ، وَقَامَ وَٱعْتَمَدَ».
    وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ هذا بيان ما حصل عليه من آية الشفاء لأنه بقي ثلاثة أيام بعد أن رأى الرب كأن على عينيه قشوراً منعته من الإبصار وهنا إعلان أنه حين وضع حنانيا يده على عينيه شعر بما كأنه قشور وقعت عنهما وكان شفاؤه في الحال تاماً. فكان العمى طبيعياً لأنه من تأثير النور الشديد. وأما الشفاء فكان معجزة بدليل أنه كان بلا وسائط مادية وأن حنانيا أُرسل لتلك الغاية وأُخبر بها قبل مجيئه إليه وبأن الشفاء حصل دفعة لا تدريجاً.
    وَٱعْتَمَدَ بلا عاقبة كسائر المؤمنين الأولين (ص ٢: ٤١ و٨: ١٢ و٣٦ - ٣٩). وأظهر بتلك المعمودية إيمانه بالمسيح ودخوله في كنيسة المسيح. والأرجح أنه اعتمد في بيت يهوذا وهو البيت الذي نزل فيه. والذي عمده هو الذي بشره وشفاه أي حنانيا.
    ١٩ «وَتَنَاوَلَ طَعَاماً فَتَقَوَّى. وَكَانَ شَاوُلُ مَعَ ٱلتَّلاَمِيذِ ٱلَّذِينَ فِي دِمَشْقَ أَيَّاماً».
    ص ٢٦: ٢٠
    اختصر لوقا هنا خبر أعمال بولس وقتئذ ولكن بولس نفسه بسطه في رسالته إلى (غلاطية ١: ١٦ - ١٨) وأفاد أنه ذهب على أثر تجدده إلى بلاد العرب ورجع إلى دمشق ومنها ذهب بعد ثلاث سنين إلى أورشليم.
    فَتَقَوَّى لعله كان قد ضعف من مشقة السفر والصوم والاضطراب.
    مَعَ ٱلتَّلاَمِيذِ أي المسيحيين فكان أخاً وصديقاً لهم. أتى كذئب ليفترس الخراف ولكنه صار خروفاً بينهم. تغيّرت صفته فتغيّرت زمرته وكان أصدقاؤه قبل ذلك رؤساء الكهنة وشيوخ المجامع فصاروا حينئذ تلاميذ يسوع المحتقرين المتواضعين.
    أَيَّاماً على أثر إيمانه وفي تلك الأيام تعرّف بالتلاميذ وتكلم معهم ثم توجّه إلى بلاد العرب ليعتزل ويتفرغ للتأمل والتعلم من المسيح استعداداً لممارسة وظيفته المهمة كما اعتزل موسى ويوحنا المعمدان في البرية وبقي هنالك ما بين سنتين وثلاث سنين ولعل السبب أن لوقا لم يذكر ذهابه هنا أن قصده بيان ما فعل بولس في خدمة الكنيسة ولم يكن في البرية مبشراً بل تلميذاً جالساً عند أقدام المسيح كما جلس في أورشليم سابقاً عند أقدام غمالائيل.
    ٢٠ «وَلِلْوَقْتِ جَعَلَ يَكْرِزُ فِي ٱلْمَجَامِعِ بِٱلْمَسِيحِ أَنْ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ».
    ص ٨: ٣٧
    لعل ما ذُكر هنا يصدق على ما فعله قبل ذهابه إلى العربية وبعد رجوعه منها فجمع لوقا الخبرين معاً.
    لِلْوَقْتِ جَعَلَ يَكْرِزُ أظهر صحة تجدّده بأنه حالما اقتنع بصحة دعوى المسيح أخذ يشهد له ويبني ما كان يسعى في هدمه ولم يمنعه من ذلك خوف الأذى والهزء. وما أتاه كان على وفق أمر المسيح لكل تلاميذه وهو أن يكونوا شهوداً له (ص ١: ٨) وعلى وفق أمر المسيح له خاصة كما ذُكر في (ص ٢٦: ١٩ و٢٠).
    فِي ٱلْمَجَامِعِ لأن هنالك أحسن الفرص لمناظرة اليهود الذين عرض عليهم الإنجيل قبل غيرهم (ص ١٣: ٤٦).
    بِٱلْمَسِيحِ مبرهناً لهم أن يسوع هو المسيح (ع ٢٢) وأنه كلمة الله الأزلي وأنّه تجسد وجال يعمل خيراً وعلم تعليماً حسناً وأنه حكم عليه الرؤساء ظلماً وصلبوه وأنه قام وصعد إلى السماء وجلس على يمين الله يشفع في كل من يؤمن به وأنه يحضر في الكنيسة بروحه القدوس.
    أَنْ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ هذا لقب ليسوع يثبت أنه إله وهو موافق لقول نثنائيل «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ» (يوحنا ١: ٤٩). وقول بطرس «أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ» (متّى ١٦: ١٦). وكان الفريسيون يعتقدون أن المسيح متى أتى كان ابن الله لكنهم أنكروا أن يسوع هو.
    ٢١ «فَبُهِتَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا: أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي أَهْلَكَ فِي أُورُشَلِيمَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ بِهٰذَا ٱلٱسْمِ، وَقَدْ جَاءَ إِلَى هُنَا: لِيَسُوقَهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ؟».
    ص ٨: ٣ وع ١ و٢ وغلاطية ١: ١٣ و٢٣
    فَبُهِتَ أي تعجبوا ثم أبغضوا ثم أرادوا أن يقتلوا وكان يحق لهم أن يتعجبوا لأن تغيره كان معجزة أعظم من شفاء المرضى أو فتح عيون العمي أو إخراج الشياطين فهو مما لم يستطعه سوى القدرة الإلهية.
    جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ يهوداً ومؤمنين أعداء وأصدقاء لأن صيته سبقه إلى دمشق وكذا نبأ توكيل الرؤساء إيّاه.
    أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ كان قد شاع أنه مضطهد في أورشليم فتوقعوا أن يفعل في دمشق كما فعل في اليهودية.
    وَقَدْ جَاءَ إِلَى هُنَا عُرفت غاية مجيئه وهي أن يستأصل دين يسوع من دمشق فتعجبوا من مخافة أعماله لما سمعوا من نبإ مقصده.
    ٢٢ «وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَزْدَادُ قُوَّةً، وَيُحَيِّرُ ٱلْيَهُودَ ٱلسَّاكِنِينَ فِي دِمَشْقَ مُحَقِّقاً أَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ».
    ص ١٨: ٢٨
    فَكَانَ يَزْدَادُ قُوَّةً في تيقّنه صحة الديانة المسيحية وفي إقامة البراهين المقنعة وفي دفع اعتراضات الخصوم وهذه القوة تستلزم الجراءة.
    وَيُحَيِّرُ ٱلْيَهُودَ (ص ٢: ٦) لأنهم لم يجدوا سبيلاً إلى مجاوبته فكان احتجاجه أقوى من احتجاجهم وانتصر عليهم لأنه كان منذ عهد قريب متعصباً مثلهم فعرف كل حججهم واعتراضاتهم لأنه كثيراً ما أوردها على المسيحيين ولا أحد يستطيع أن يوضح أغلاط الاعتقاد الفاسد مثل واحد من أهله.
    أَنَّ هٰذَا أي يسوع.
    هُوَ ٱلْمَسِيحُ هذا موضوع كل وعظ بولس وكتابته إلى نهاية حياته. والأرجح أنه أقام البراهين على أن يسوع هو المسيح من نبوءات العهد القديم التي تمت به ومن معجزاته ومن قيامته ثم من مشاهدته إياه ممجداً. فما أحب بولس الكلام عليه هو نفس ما كره اليهود أن يسمعوه أو يقبلوه.
    ٢٣ «وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامٌ كَثِيرَةٌ تَشَاوَرَ ٱلْيَهُودُ لِيَقْتُلُوهُ».
    ص ٢٣: ١٢ و٢٥: ٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٦
    أَيَّامٌ كَثِيرَةٌ نعرف من (غلاطية ١: ١٧) قدر تلك الأيام وهي نحو ثلاث سنين وأنه تقضى عليه أكثرها في بلاد العرب وأنه عاد منها إلى دمشق. ولعل سبب أن لوقا لم يذكر ذهابه إلى العربية كان غايته بيان خدمة بولس في التبشير لا ترجمته الشخصية ولا عجب من ضربه عن ذلك صفحاً لأنه صرف نظره عن كثير من أمور بولس التي بيّنت في (٢كورنثوس ص ١١) ولم يذكر أنه كتب شيئاً من رسائله. فالذي كان يجلس عند قدمي غمالائيل في أورشليم ليتعلم الشريعة اليهودية جلس عند قدمي يسوع في بادية العرب ليتعلم الشريعة السماوية.
    تَشَاوَرَ ٱلْيَهُودُ لِيَقْتُلُوهُ قابل هذا بما في (٢٣: ١٢ و٢٥: ٣). عجزوا عن دفع براهينه ومنع تأثير كلامه في الشعب فاغتاظوا وقصدوا أن يسكتوه بالقتل كما أسكت يهود أورشليم استفانوس قبل ذلك بما يزيد على ثلاث سنين.
    ٢٤ «فَعَلِمَ شَاوُلُ بِمَكِيدَتِهِمْ. وَكَانُوا يُرَاقِبُونَ ٱلأَبْوَابَ أَيْضاً نَهَاراً وَلَيْلاً لِيَقْتُلُوهُ».
    ٢كورنثوس ١١: ٣٢
    عَلِمَ شَاوُلُ لم يُذكر كيف علم. وأشار بولس إلى هذه المكيدة بقوله «فِي دِمَشْقَ وَالِي ٱلْحَارِثِ ٱلْمَلِكِ كَانَ يَحْرُسُ مدِينَةَ ٱلدِّمَشْقِيِّينَ يُرِيدُ أَنْ يُمْسِكَنِي» (٢كورنثوس ١١: ٣٢). والظاهر أن اليهود اتفقوا مع الوالي على مسك شاول.
    يُرَاقِبُونَ ٱلأَبْوَابَ ظانين أنه لا بد من أن يمرّ في واحد منها وكانت غايتهم من ذلك أن يقبضوا عليه ويقتلوه.
    ٢٥ «فَأَخَذَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ لَيْلاً وَأَنْزَلُوهُ مِنَ ٱلسُّورِ مُدَلِّينَ إِيَّاهُ فِي سَلٍّ».
    يشوع ٢: ١٥ و١صموئيل ١٩: ١٢
    أَنْزَلُوهُ مِنَ ٱلسُّورِ نستنتج من هذا أن بيت أحد الإخوة كان على السور ويتضح من قول بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس أنهم «دلوه من كوة» (٢كورنثوس ١١: ٣٣).
    فِي سَلٍّ أو زنبيل كما في (٢كورنثوس ١١: ٣٣ انظر متّى ١٥: ٣٧ ومرقس ٨: ٨ و٢٠). وكان هربه على وفق أمر المسيح بقوله «وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ فَٱهْرُبُوا إِلَى ٱلأُخْرَى» (متّى ١٠: ٢٣). لما قصد شاول دمشق وهو يحمل مكاتيب مجلس اليهود الكبير لم يتوقع أنه يخرج من تلك المدينة في ذلك الهوان بل توقع أن يخرج منها باحتفال عظيم من أصدقائه اليهود وبالخائفين من الأسرى المسيحيين فتم فيه حالاً قول المسيح «َإنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي» (ع ١٦).

    شاول في أورشليم ع ٢٦ إلى ٣١


    ٢٦ «وَلَمَّا جَاءَ شَاوُلُ إِلَى أُورُشَلِيمَ حَاوَلَ أَنْ يَلْتَصِقَ بِٱلتَّلاَمِيذِ، وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَخَافُونَهُ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ أَنَّهُ تِلْمِيذٌ».
    غلاطية ١: ١٧ و١٨
    وَلَمَّا جَاءَ شَاوُلُ إِلَى أُورُشَلِيمَ ترك شاول أورشليم منذ ثلاث سنين وهو بمنزلة وكيل مجلس اليهود مكرماً مفوضاً إليه أن يضطهد تلاميذ يسوع ويستأصل تعليمه من البلاد وما جاورها حتى دمشق وعاد إلى أورشليم مهاناً وهو تلميذ ذاك السيد الذي كان يكرهه راغباً في إثبات الدين الذي كان يبذل جهده في أن يلاشيه.
    حَاوَلَ أَنْ يَلْتَصِقَ بِٱلتَّلاَمِيذِ كواحد منهم فرغب خاصة في أن يرى بطرس لأنه كان قد سمع خبره (غلاطية ١: ١٨).
    وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَخَافُونَهُ لظنهم أنه جاسوس يريد إضرارهم بعد. ولا ريب في أنه بلغهم نبأ التغيّر العظيم الذي حدث له في دمشق ولكن بما أنهم لم يسمعوا شيئاً من أمره مدة ثلاث سنين (وهو منفرد في العربية) لم يعلموا ماذا يصدقون من أنبائه. واختبارهم قساوته والخوف الذي نشأ منه في قلوبهم غلبا أملهم أن يتحول من عدوّ إلى صديق.
    ٢٧ «فَأَخَذَهُ بَرْنَابَا وَأَحْضَرَهُ إِلَى ٱلرُّسُلِ، وَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ أَبْصَرَ ٱلرَّبَّ فِي ٱلطَّرِيقِ وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ، وَكَيْفَ جَاهَرَ فِي دِمَشْقَ بِٱسْمِ يَسُوعَ».
    ص ٤: ٣٦ و١٣: ٢ ع ٢٠ و٢٢
    بَرْنَابَا ذُكر في (ص ٤: ٣٦ و٣٧) وهو أحد التلاميذ الأولين لاوي الجنس قبرسي وكان من أغنيائهم باع ماله ووزعه على فقراء الكنيسة ولقّبه التلاميذ ابن الوعظ. وهذا عرف شاول وخلوصه بطريق ما وعرّف سائر التلاميذ به وأبان لهم أنه ممن يوثق بهم وكان رفيق بولس في سفره الأول للتبشير (ص ١٥).
    إِلَى ٱلرُّسُلِ أي بعضهم ونعرف من (غلاطية ١: ١٨ و١٩) أنه لم يرَ سوى بطرس ويعقوب فالأرجح أن سائر الرسل غائبين.
    ٢٨ «فَكَانَ مَعَهُمْ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ فِي أُورُشَلِيمَ وَيُجَاهِرُ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
    غلاطية ١: ١٨
    فَكَانَ مَعَهُمْ بمنزلة أخٍ وصديق في الرب ومبشر مثلهم ولم تكن إقامته معهم سوى خمسة عشر يوماً (غلاطية ١: ١٨).
    وَيُجَاهِرُ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ يعترف به علانية بلا خوف ويعلّم أنه هو المسيح.
    ٢٩ «وَكَانَ يُخَاطِبُ وَيُبَاحِثُ ٱلْيُونَانِيِّينَ، فَحَاوَلُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ».
    ص ٦: ١ و١١: ٢٠ ع ٢٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٦
    ٱلْيُونَانِيِّينَ أي اليهود الذين كانوا يسكنون بين اليونانيين ويتكلمون بلغتهم انظر شرح (ص ٦: ١) والأرجح أنه كان يناظرهم كربانيّ من اليهود في المجمع الكيليكي حيث ناظرهم استفانوس (ص ٦: ٩).
    فَحَاوَلُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ كيهود دمشق (ع ٢٣) وخافه يهود أورشليم كثيراًً لشهرته السابقة واقتداره في العلم والمناظرة.
    ٣٠ «فَلَمَّا عَلِمَ ٱلإِخْوَةُ أَحْدَرُوهُ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ وَأَرْسَلُوهُ إِلَى طَرْسُوسَ».
    ص ٢٢: ١٧ إلى ٢١
    ما فعله الإخوة دليل على حبهم إيّاه ورغبتهم في إنقاذه.
    قَيْصَرِيَّةَ هي مدينة على شاطئ البحر بين عكا ويافا (انظر شرح ص ٨: ٤٠). ولم يذكر لوقا هنا سوى ما أتاه الإخوة وعلة إتيانهم ذلك وأما بولس فذكر علة أخرى لهذا بعد عشرين سنة في خطابه الشعب وهو على السلم وهي أمر الرب له بالخروج من أورشليم (ص ٢٢: ١٧ - ٢١). ولا منافاة بين الخبرين لأنه لولا ذلك الأمر لبقي في أورشليم على رغم نصح الإخوة وتهديد الأعداء.
    إِلَى طَرْسُوسَ وطنه (ع ١١) وبقي هنالك إلى أن دعاه برنابا إلى أنطاكية ليساعده في التبشير (ص ١١: ٢٥ و٢٦) والأرجح أن مدة إقامته في طرسوس ما بين ثلاث سنين وأربع سنين ويغلب الظن أن شغل تلك المدة بالتبشير في مدينته وما جاورها من مدن كيليكية بدليل قوله «وَبَعْدَ ذٰلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ» (غلاطية ١: ٢١).
    ٣١ «وَأَمَّا ٱلْكَنَائِسُ فِي جَمِيعِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلْجَلِيلِ وَٱلسَّامِرَةِ فَكَانَ لَهَا سَلاَمٌ، وَكَانَتْ تُبْنَى وَتَسِيرُ فِي خَوْفِ ٱلرَّبِّ، وَبِتَعْزِيَةِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ كَانَتْ تَتَكَاثَرُ».
    ص ٨: ١
    وَأَمَّا ٱلْكَنَائِسُ... فَكَانَ لَهَا سَلاَمٌ منح الله بعنايته السلام للكنيسة بعد الاضطهاد ليكون لها فرصة للتعلم والبنيان. وكانت حينئذ قد انتهت الاضطهادات التي ثارت على أثر قتل استفانوس (ص ١١: ١٩) وأيّدها شاول وأطالها (ص ٨: ٣) وكان ذلك السلام لثلاثة أسباب:

    • الأول: تشتت أكثر المسيحيين.
    • الثاني: أن مهيّج الاضطهاد صار واحداً من التلاميذ وأن المجلس ارتبك بانفصال ذلك الشخص العظيم عنهم.
    • الثالث: اضطراب اليهود في أمورهم السياسية حتى لا يبقى في أماكنهم أن يضطهدوا المسيحيين لأنه في سنة ٣٩ ب. م أي قبل وقت هذه القصة بسنة أمر الأمبراطور كليغولا بترونيوس والي سورية أن يقود جيشاً إلى أورشليم ويقيم له تمثالاً في الهيكل وأمره بأن يقتل من يقاومه من اليهود ويستعبد سائرهم. فزحف بترونيوس إلى عكاء بجيشه فامتلأت قلوب اليهود خوفاً وهجر أهل المدن والقرى مساكنهم وأتوا إلى بترونيوس رجالاً ونساءً وأولاداً وطرحوا أنفسهم أمامه يرجونه أن لا يجري أمر كليغولا. فأُهمل كل زرع وحصاد في اليهودية فخاف بترونيوس من عموم الجوع وتوقف عن إنفاذ ما أُمر به وكتب إلى كليغولا وأبان له العواقب الوخيمة التي تنشأ عن إجراء أمره وبقوا مدة ينتظرون في ذلك فكانت تلك المدة وقت راحة الكنيسة المذكورة في هذه الآية وفي أثناء ذلك مات كليغولا وأُلغي أمره.


    وأقسام البلاد المذكورة هنا أي اليهودية والجليل والسامرة هي كل الأرض المقدسة (انظر شرح متّى ٢: ٢٢) ولا علم لنا في غير هذه الآية بإنشاء كنائس في الجليل. ولكن كان للمسيح أصدقاء في تلك الأرض من كفرناحوم والناصرة وقانا وبيت صيدا وكان الرسل أنفسهم منها ولذلك يكونون هم المنشئون لتلك الكنائس. ولعل فيلبس المبشر أتى إليها من قيصرية التي هي مجاورة لها وتبعه الرسل كما تبعه في السامرة. وأما دخول الإنجيل السامرة فسبق الكلام عليه في (ص ٨).
    وَكَانَتْ تُبْنَى لأن السلام منح الكنائس فرصة للتعليم والتعلّم والاتفاق على الصلاة والاجتماعات الروحية التي هي وسائل النمو والبنيان.
    وَتَسِيرُ فِي خَوْفِ ٱلرَّبِّ هذا وصف السيرة في سنن التقوى والصلاح لأن خوف الله كان ينشئ الطاعة لأوامره (٢أيام ١٩: ٧ وأيوب ٢٨: ٢٨ ومزمور ١: ١ و٢ و١٩: ٩ ولوقا ١: ٦ و١تسالونيكي ٤: ١ وكولوسي ١: ١٠ و١يوحنا ٢: ٦).
    بِتَعْزِيَةِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي التعزية التي ينشئها روح الله في قلب المؤمن فلذلك سمي «الفارقليط» أي المعزي (يوحنا ١٤: ١٦ و١٧ ورومية ٥: ١ - ٥) وتشتمل التعزية فوق التسلية على الإرشاد وقوة هذا الروح نفسها التي فعلت المعجزات في أجساد الناس أخذت تهب لقلوب المؤمنين الفوائد الروحية.
    تَتَكَاثَرُ هذا نتيجة تعزية الروح فالكنيسة بدون تأثير الروح القدس تفتر وتقف عن النمو ولكن حيث الروح فهنالك حياة وغيرة في إرشاد الغير ونمو بيّن.

    بطرس في لدّة ويافا ع ٣٢ إلى ٤٣


    ٣٢ «وَحَدَثَ أَنَّ بُطْرُسَ وَهُوَ يَجْتَازُ بِٱلْجَمِيعِ نَزَلَ أَيْضاً إِلَى ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلسَّاكِنِينَ فِي لُدَّةَ».
    ص ٨: ١٤
    يظهر من هذه الآية ما كان يفعله الرسل في ذلك الوقت فهم لم يستريحوا في أورشليم بل جعلوا تلك المدينة مركزاً للتبشير في البلاد المجاورة كما فعل بولس في أفسس حتى سمع كل سكان آسيا الإنجيل وكما فعل في كورنثوس فاختمرت وقتئذ كل أخائية بخميرة الإنجيل. ولم يذكر إلا جزءاً من خدمة بطرس لأنه سكت عن كل ما فعله مدة ثلاث سنين قبل ذلك ويبعد عن الظن أنه بقي كل تلك المدة لا يعمل شيئاً.
    وَهُوَ يَجْتَازُ بِٱلْجَمِيعِ أي اليهودية والسامرة والجليل لكنه لم يذهب إلا «إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ ٱلضَّالَّةِ» (متّى ١٠: ٦). وما ذُكر هنا من أعماله في لدة ويافا وقيصرية (ص ٩: ٣٢ - ص ١٢: ١٨) ليس سوى مثال لما كان يفعله في كل الوقت كما كان يفعل كل من الرسل أيضاً.
    ٱلْقِدِّيسِينَ وُصف بهذا في الإنجيل المؤمنون الساعون في القداسة على الأرض ووُصف به الذين حصلوا على القداسة في السماء. فوقفنا إلى هنا على أربعة أسماء للمسيحيين وهي «تلاميذ» (ص ١: ١٥) و «مؤمنين» (ص ٢: ٤٤) و «قديسين» (ص ٩: ١٣) و «إخوة» (ص ٩: ٣٠).
    لُدَّةَ هي مدينة على أمد تسعة أميال من يافا وعلى الشمال الشرقي منها أي على الطريق الشمالي المارة ببيت حورون من يافا إلى أورشليم وذُكرت في (حزقيال ٢: ٣٣) بنى الرومانيون فيها هيكلاً لزفس أي المشتري وسماها ديسبوليس أي مدينة الله وهي قرية صغيرة الآن.
    ٣٣ «فَوَجَدَ هُنَاكَ إِنْسَاناً ٱسْمُهُ إِينِيَاسُ مُضْطَجِعاً عَلَى سَرِيرٍ مُنْذُ ثَمَانِي سِنِينَ، وَكَانَ مَفْلُوجاً».
    إِينِيَاسُ لا نعرف من أمره شيئاً سوى ما ذُكر هنا واسمه يوناني ويظهر من هذا أنه ربي هو أو والداه حيث اللغة يونانية.
    مَفْلُوجاً (انظر شرح متّى ٤: ٢٤).
    ٣٤ «فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: يَا إِينِيَاسُ، يَشْفِيكَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ. قُمْ وَٱفْرُشْ لِنَفْسِكَ. فَقَامَ لِلْوَقْتِ»
    ص ٣: ٦ و١٦ و٤: ١٠
    يَشْفِيكَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ لم يدع بطرس قوة الشفاء البتة (قابل هذا بما في ص ٣: ٦ و١٦ و٤: ١٠) فلم يقل كما قال المسيح «احمل سريرك وامش» و «لعازر هلم خارجاً» و «يا صبية لك أقول قومي». ولم يسأل بطرس عن إيمانه والأرجح أنه تحققه من كلامه وإمارات وجهه.
    ٱفْرُشْ لِنَفْسِكَ ذلك شيء لم يستطعه ويلزم منه أن غيره كان يفرش له مدة السنين الثماني وأمره بذلك بياناً لصحة شفائه (متّى ٩: ٦ ومرقس ٢: ٩ و١١ ويوحنا ٥: ١٠ و١٢).
    فَقَامَ لِلْوَقْتِ بلا وسائط بشرية فنال ما لم يتوقعه قط وشُفي في الحال تمام الشفاء وبذلك تحقق أن شفاءه معجزة ودليل قاطع على أن يسوع هو المسيح لأنه باسمه شُفي وعلى أن بطرس رسوله وأن تعليمه حقٌ.
    ٣٥ «وَرَآهُ جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ فِي لُدَّةَ وَسَارُونَ ٱلَّذِينَ رَجَعُوا إِلَى ٱلرَّبِّ».
    ١أيام ٥: ١٦
    جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ أي كثيرون منهم. والمرجح أن إينياس كان مشهوراً وأنه تقضّى عليه ثماني سنين مفلوجاً فشاع خبر شفائه كثيراً.
    وَسَارُونَ سهل واسع على شاطئ البحر من يافا إلى قيصرية مشهور بالخصب والبهجة (١أيام ٥: ١٦ و٢٧: ٢٩ ونشيد ٢: ١ وإشعياء ٢٣: ٩ و٣٥: ٢ و٦٥: ١٠).
    رَجَعُوا إِلَى ٱلرَّبِّ هذا نتيجة المعجزة والمعنى أن كل الذين شاهدوا تلك المعجزة أو سمعوا نبأها آمنوا بأن يسوع هو المسيح وتجددت قلوبهم وذلك رجوع من الظلمة إلى النور ومن إنكار دعوى يسوع إلى التسليم بصحتها ومن الموت إلى الحياة (انظر ص ١١: ٢١ و٢كورنثوس ٣: ١٦).
    ٣٦ «وَكَانَ فِي يَافَا تِلْمِيذَةٌ ٱسْمُهَا طَابِيثَا، ٱلَّذِي تَرْجَمَتُهُ غَزَالَةُ. هٰذِهِ كَانَتْ مُمْتَلِئَةً أَعْمَالاً صَالِحَةً وَإِحْسَانَاتٍ كَانَتْ تَعْمَلُهَا».
    ١تيموثاوس ٢: ١٠ وتيطس ٣: ٨
    يَافَا ميناء على بحر الروم جنوبي قيصرية على غاية ثلاثين ميلاً منها وخمسة وأربعين ميلاً غربي أورشليم وهي أعظم مواني اليهودية جلب إليها سليمان الأرز للهيكل (١ملوك ٥: ٩ و٢أيام ٢: ١٦) ومثله فعل عزرا يوم جدد الهيكل (عزرا ٣: ٧) ومن هناك نزل يونان في السفينة وهو هارب من وجه الرب (يونان ١: ٣). وذُكرت في العهد الجديد هنا وفي (ص ١٠: ٥ و٢٣ و١١: ٥).
    طَابِيثَا اسم سرياني.
    مُمْتَلِئَةً أَعْمَالاً صَالِحَةً أي مهتمة بالخير كثيراً ومشهورة بذلك ومكرمة لأجله (١تيموثاوس ٢: ١٠ وتيطس ٢: ٧). والدين المسيحي يوجب عمل الخير على النساء كما يوجبه على الرجال. ولا ريب في أن المسيحيات في أورشليم وغلاطية وغيرهما خدمن الله بفعل الخير في أوطانهنّ كما خدمت طابيثا في يافا.
    ٣٧ «وَحَدَثَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أَنَّهَا مَرِضَتْ وَمَاتَتْ، فَغَسَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا فِي عُلِّيَّةٍ».
    ص ١: ١٣
    فَغَسَّلُوهَا جرياً على عادة اليهود واليونانيين والرومانيين إعداداً للدفن.
    وَوَضَعُوهَا فِي عُلِّيَّةٍ لم يكن من داع لذكر هذا سوى أنه خلاف العادة وهي أن يدفنوا الميت عند موته وإنما خالفوا العادة لأنهم كانوا منتظرين مجي بطرس.
    ٣٨ «وَإِذْ كَانَتْ لُدَّةُ قَرِيبَةً مِنْ يَافَا، وَسَمِعَ ٱلتَّلاَمِيذُ أَنَّ بُطْرُسَ فِيهَا، أَرْسَلُوا رَجُلَيْنِ يَطْلُبَانِ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَتَوَانَى عَنْ أَنْ يَجْتَازَ إِلَيْهِمْ».
    قَرِيبَةً مِنْ يَافَا لا تبعد عنها سوى تسعة أميال.
    أَرْسَلُوا رَجُلَيْنِ لم تتضح لنا علة إرسالهم إياهما ولا دليل على أنهم توقعوا أن يحييها لأن الرسل لم يحيوا استفانوس نفسه ولا غيره. وغسلهم إياها دليل على قصدهم أن يدفنوها على أن توقع إحيائه ليس من المستحيلات لأنه لا بد من أن بلغهم نبأ شفائه إينياس والأرجح أنهم سألوه الإتيان لدفن طابيثا بالإكرام ولتعزية النائحين ولوعظ الشعب المحتفل بالجنازة.
    لاَ يَتَوَانَى أي لا يبطئ لئلا يدفنوها قبل أن يجيء.
    ٣٩ «فَقَامَ بُطْرُسُ وَجَاءَ مَعَهُمَا. فَلَمَّا وَصَلَ صَعِدُوا بِهِ إِلَى ٱلْعُلِّيَّةِ، فَوَقَفَتْ لَدَيْهِ جَمِيعُ ٱلأَرَامِلِ يَبْكِينَ وَيُرِينَ أَقْمِصَةً وَثِيَاباً مِمَّا كَانَتْ تَعْمَلُ غَزَالَةُ وَهِيَ مَعَهُنَّ».
    فَقَامَ أي شرع أو أخذ في أول الفعل (انظر شرح لوقا ١٥: ١٨).
    جَمِيعُ ٱلأَرَامِلِ هنّ اللواتي كن ينلنَ إحسانها فأظهرن شكرهن لها بذكرهن حسناتها وبإقامة أدلة حسية على سخائها بعرض بعض ما منحتهنّ إياه ولعلهنّ كنّ لابسات تلك المنح وأشرنَ إليها.
    أَقْمِصَةً وَثِيَاباً مما يُلبس من شعار وقباء أي مما يُلبس مباشراً للجسد وما يُلبس فوقه. فعلى كل من يحب أن يُذكر بعد موته بمحبة وشكر أن ينكر نفسه ويبذل جهده في نفع غيره نفساً وجسداً والدين المسيحي يأمرنا بالاعتناء بنفع أجساد الناس وأرواحهم. وأحسن ما يتركه الإنسان ذكراً له آثار أعماله الصالحة في قلوب الناس لا تمثاله في أعلى مشاهد المدينة ولا مدفنه النفيس من حجارة المرمر وما شاكل ذلك.
    وَهِيَ مَعَهُنَّ أي وهي في الحياة.
    ٤٠ «فَأَخْرَجَ بُطْرُسُ ٱلْجَمِيعَ خَارِجاً، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى، ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْجَسَدِ وَقَالَ: يَا طَابِيثَا، قُومِي! فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا. وَلَمَّا أَبْصَرَتْ بُطْرُسَ جَلَسَتْ».
    متّى ٩: ٢٥ ص ٧: ٦٠ مرقس ٥: ٤١ و٤٢ ويوحنا ١١: ٤٣
    فَأَخْرَجَ بُطْرُسُ ٱلْجَمِيعَ كما فعل يسوع (متّى ٩: ٢٩) ويحتمل أنه فعل ذلك لأمرين:
    الأول: أن تكون له فرصة للصلاة بحرارة وذلك مما لا يمكنه والناس يزحمونه والنادبون يصرخون (٢ملوك ٤: ٣٣).
    الثاني: اعتزال شهرة ما فعله وشبهة تظاهره بالإعجاب بنفسه.
    وَصَلَّى يسأل قوة على إقامتها اعترافاً بأن تلك القوة من فوق لا من نفسه.
    يَا طَابِيثَا، قُومِي مناداته إياها تدل على تيقنه أن الله استجاب صلاته.
    ٤١ «فَنَاوَلَهَا يَدَهُ وَأَقَامَهَا. ثُمَّ نَادَى ٱلْقِدِّيسِينَ وَٱلأَرَامِلَ وَأَحْضَرَهَا حَيَّةً».
    ٱلْقِدِّيسِينَ (انظر شرح ع ١٣).
    وَأَحْضَرَهَا حَيَّةً أي أراهم إياها في الحياة (١ملوك ١٧: ٢٣).
    ٤٢ «فَصَارَ ذٰلِكَ مَعْلُوماً فِي يَافَا كُلِّهَا، فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِٱلرَّبِّ».
    يوحنا ١١: ٤٥ و١٢: ١١
    صَارَ ذٰلِكَ مَعْلُوماً كما يتوقع من مثل إقامة الموتى.
    فَآمَنَ كَثِيرُونَ كما آمن كثيرون حين أقام يسوع لعازر (يوحنا ١١: ٤٥). وهذا أول وقت أقام أحد الرسل فيه ميتاً. وأتى بطرس هذه المعجزة إثباتاً لصحة دعوى المسيح وواسطة لامتداد ملكوته وذلك علاوة على نفع الفقراء بتجديد حياة موقوفة لخدمتهم.
    بِٱلرَّبِّ أي يسوع المسيح الذي هو موضوع إيمانهم.
    ٤٣ «وَمَكَثَ أَيَّاماً كَثِيرَةً فِي يَافَا، عِنْدَ سِمْعَانَ رَجُلٍ دَبَّاغٍ».
    ص ١٠: ٦ و٣٢
    وَمَكَثَ أَيَّاماً كَثِيرَةً فِي يَافَا الأرجح أنه جعلها مركزاً للتبشير ولم نعلم مقدار الزمان المعبّر عنه بأيام كثيرة لكن نعلم أن معناه في ع ٢٣ ثلاث سنين.
    رَجُلٍ دَبَّاغٍ حسب اليهود المتعصبون في الدين أن الدباغة صناعة نجسة لأن جلد الميت كجثته. ولعل بيته كان في المدينة والدباغة في الخارج.


    الأصحاح العاشر


    خبر كرنيليوس وإرسال الملاك إليه ع ١ إلى ٨


    ١ «وَكَانَ فِي قَيْصَرِيَّةَ رَجُلٌ ٱسْمُهُ كَرْنِيلِيُوسُ، قَائِدُ مِئَةٍ مِنَ ٱلْكَتِيبَةِ ٱلَّتِي تُدْعَى ٱلإِيطَالِيَّةَ».
    متّى ٢٧: ٢٧ ومرقس ١٥: ١٦
    في هذا الأصحاح أمر مهم في تاريخ الكنيسة وهو قبول الأمم في الكنيسة المسيحية بدون أن يتهودوا أولاً أي بدون أن يختتنوا ويخضعوا لشريعة موسى الطقسية.
    فعسر على اليهود جداً أن يسلموا أن للأمم نفس الحقوق أمام الله التي لهم لأنهم ظنوا أنهم أمة ممتازة وظنوا أنه لا يمكن غيرهم أن يشتركوا في النعم إلا أن يخالطوا الأمة وأن يكونوا جزءاً منها.
    قد أمر المسيح رسله أن يبشروا في الإنجيل كل الخليقة (مرقس ١٦: ١٥) وأخبرهم قائلاً «لِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ» (يوحنا ١٠: ١٦) لكنهم لم يفهموا قصد المسيح من ذلك وقد مضى عليهم ثماني سنين بعد صعوده وهم لم يشرعوا في تبشير الأمم أو قبولهم في الكنيسة فاحتاجوا إلى إعلان إلهي مخصوص ليقنعهم بوجوب ذلك.
    عيّن المسيح بطرس ليأخذ الإعلان وليفتح أبواب الكنيسة المسيحية للأمم كما فتحها سابقاً لليهود (ص ٢) وهذا على وفق قوله «أُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متىّ ١٦: ١٩). وقبول الله الأمم في كنيسته مثل قبوله اليهود هو إعلان السر المكتوم منذ أجيال كثيرة الذي افتخر بولس بمعرفته (أفسس ٣: ٣ - ٦ وكولوسي ١: ٢٦ و٢٧).
    قَيْصَرِيَّةَ انظر شرح (ص ٨: ٤٠) وهي مسكن فيلبس المبشر. أتى إليها بولس بعد جولانه الثاني للتبشير (ص ١٨: ٢٢) وبعد جولانه الثالث (ص ٢١: ٨) وأرسل إليها للأمن بعد الفتنة في أورشليم (ص ٢٣: ٢٣) وبقي فيها أسيراً سنتين وسافر منها إلى رومية. وهي قاعدة القوة الرومانية في فلسطين كما كانت أورشليم قاعدة المملكة اليهودية.
    كَرْنِيلِيُوسُ اسم لاتيني ولا ريب في أن هذا الرجل الروماني الأصل ظن البعض أنه كان دخيلاً في الدين اليهودي وهذا مردود لأنه لو كان دخيلاً لكان له الحقوق اليهودية وما صدق عليه قول بطرس في ع ٢٨ ولا محاجة الأخوة في أورشليم لبطرس (ص ١١: ١ - ٣) وكل الأدلة تثبت أنه من الأمم لا من الدخلاء في الدين اليهودي.
    قَائِدُ مِئَةٍ في الجيش الروماني (أنظر شرح متّى ٨: ٥).
    ٱلْكَتِيبَةِ هي قسم من الجيش تشتمل على ست مئة عسكري إذا كانت كاملة ولا تطلق على أقل من أربع مئة (انظر الشرح متّى ٢٧: ٢٧).
    ٱلإِيطَالِيَّةَ أي المؤلفة من رجال من إيطاليا وقيدها بذلك تمييزاً لها عن الكتائب المؤلفة من رجال البلاد الخاضعة للرومانيين ولذلك حُسبت أشرف من غيرها.
    ٢ «وَهُوَ تَقِيٌّ وَخَائِفُ ٱللّٰهِ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ، يَصْنَعُ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً لِلشَّعْبِ، وَيُصَلِّي إِلَى ٱللّٰهِ فِي كُلِّ حِينٍ».
    ص ٨: ٢ وع ٢٢ و٢٢: ١٢ ع ٣٥
    وصفه لوقا بخمسة أمور لمدحه.

    • تَقِيٌّ هذه الصفة الأولى والمراد بها أنه كان يعبد الله لا الأوثان لأنه ترك ما كان يعبده من المخلوقات والأوثان (انظر الشرح لوقا ٢: ٢٥ وأعمال ٢: ٥ و٨: ٢) هذا مع أن العسكري عرضة لتجارب كثيرة من شأنها أن تُنسي الله فلا يتوقع أن يُشاهد أمثلة التقوى في الجيوش.
    • خَائِفُ ٱللّٰهِ هذه الصفة الثانية وهي آية تقواه والمعنى أنه كان لا يقصد أن يأتي إلا ما يرضي الله ويطيع أوامره مع أنه وثني الأصل فالظاهر أنه سمع بوسيلة من الوسائل وصف الإله الحق فأكرمه وعبده ولعل ذلك نتيجة سكناه في اليهودية وسمعه من اليهود ما يتعلق بمعبودهم وإطلاعه على كتبهم مع بركة الله على هذه الوسائط.
    • مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ أي أهله وعبيده وعسكره الخاص (ص ٧) فإنه لم يخف عنهم أنه ترك دين آبائه بل علمهم ما عرفه من أمر الإله الحق وهداهم بتعليمه وسيرته إلى خوفه تعالى. ولا ريب في أن كل تقي يجتهد في تعليم أهل بيته وخلاصهم.
    • يَصْنَعُ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً هذه الصفة الرابعة والمعنى أنه كان يسخو على الفقراء مع أن أكثرهم يهود وهذا من الأدلة على أنه كان عبداً لله وأنه تقي (مزمور ٤١: ١) فالديانة الوثنية لم تأمر الناس ان يعتنوا بالفقراء والمصابين. وكان أكثر العساكر الرومانيين يظلمون أهل الولايات التي استولوا عليها ويسلبونها.
    • وَيُصَلِّي... فِي كُلِّ حِينٍ هذه الصفة الخامسة والمعنى أنه كان مواظباً على الصلاة وهذا مقترن بالتقوى أبداً (مزمور ١١٩: ٢ وأمثال ٢: ٢ - ٥ ولوقا ١٨: ١ ورومية ١٢: ١٢). ولعله كان يصلي في الأوقات المعينة للصلاة عند اليهود وهي الصباح والظهر والعصر. واقتران الصلوات بالحسنات من خير اللائقات لأن الأولى تشير إلى محبتنا لله والثانية محبتنا للقريب وهذا خلاصة وصايا لوحي الشريعة الإلهية.


    ٣ «فَرَأَى ظَاهِراً فِي رُؤْيَا نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ مِنَ ٱلنَّهَارِ، مَلاَكاً مِنَ ٱللّٰهِ دَاخِلاً إِلَيْهِ وَقَائِلاً لَهُ: يَا كَرْنِيلِيُوسُ».
    ع ٣٠ وص ١١: ١٣
    فَرَأَى ظَاهِراً فِي رُؤْيَا (انظر شرح ص ٩: ١٠) وقوله «ظاهراً» يفيد أنه تحقق ما رآه وأنه ليس بتخيل وليس كما يرى الإنسان في الحلم كيوسف خطيب مريم (متّى ١: ٢٠) أو في غيبة كبطرس (ع ١٠) وبولس (ص ٢٢: ١٧). ومن وقت الرؤيا نستنتج أنه كان مستيقظاً حين أتاه الملاك.
    نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ أي الثالثة بعد الظهر وهي أحد أوقات الصلاة المعيّنة عند اليهود وفيه تقدم الذبيحة المسائية والظاهر أن كرنيليوس تبع اليهود في ذلك.
    مَلاَكاً حقيقي لا صورة خيالية وكان في هيئة بشرية وتكلم بصوت مسموع. وجاء في (ع ٣٠) أنه «وقف أمامه بلباس لامع» وكذلك ظهر لزكريا أبي يوحنا المعمدان (لوقا ١: ١١) ولمريم أم يسوع (لوقا ١: ٢٨).
    دَاخِلاً ذكر دخوله هنا كما ذكر المعرفة التي حصل عليها كما قد فعل أيضاً الوزير الحبشي (ص ٨: ٢٧ - ٣١) فمنح الله لكل منهما أكمل معرفة على وفق ما وعد بقوله «من له سيعطى ويزاد» (متّى ١٣: ١٢) ولعل كرنيليوس سأل الله الهدى أو زيادة المعرفة فأرسل الله الملاك إليه إجابة لطلبته.
    يَا كَرْنِيلِيُوسُ ناداه باسمه ليأنس به وينتبه لما يقوله ويعلم أن الإعلان له.
    ٤ «فَلَمَّا شَخَصَ إِلَيْهِ وَدَخَلَهُ ٱلْخَوْفُ قَالَ: مَاذَا يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ لَهُ: صَلَوَاتُكَ وَصَدَقَاتُكَ صَعِدَتْ تِذْكَاراً أَمَامَ ٱللّٰهِ».
    شَخَصَ إِلَيْهِ ليتحقق من المتكلم.
    دَخَلَهُ ٱلْخَوْفُ لتحققه أنه رسول من عالم الأرواح فيرهب طبعاً من منظر بغتي عجيب كهذا.
    مَاذَا يَا سَيِّدُ أي ماذا الذي تريده مني.
    صَلَوَاتُكَ وَصَدَقَاتُكَ صَعِدَتْ غايته من ذلك أن يسكّن خوفه ويمدحه على كل ما كان منه من الأمور الممدوحة ويعده لقبول بركات أخرى ويخبره بما يجب أن يعمله لينال تلك البركات.
    تِذْكَاراً أَمَامَ ٱللّٰهِ أي أن الله قبل صلواته وصدقاته كأنها البخور والذبائح التي كانت اليهود تقدمها في الهيكل (لاويين ٢: ٢). فسمع الصلوات وقصد أن يثيبه على الصدقات. أنه لم ينس الله بل ذكره في صلواته وإحسانه فالله لم ينسه بل ذكره وأثابه بإرسال الملاك أولاً إليه ثم بإرسال الرسول وببشرى الخلاص وبموهبة الروح القدس وهي الثواب الأعظم. فالأعمال التي يأتيها الإنسان حباً لله ولإخوته وكل صلاة قلبية تجد نعمة في عينيه تعالى وتسهل السبيل إلى نوال البركات العظمى.
    ولم يقل الملاك أن صلوات كرنيليوس وصدقاته كانت كافية لخلاصه وإلا لم يأمره أن يدعو بطرس ليخبره بالمسيح أو الخلاص به. وليس لأحد أن يستنتج مما ذُكر هنا أن أعماله الصالحة تكفيه الخلاص بدون المسيح لأنه لا برهان على أن كرنيليوس اتكل على أعماله الصالحة بغية نوال التبرير فإنه قبل المسيح بالإيمان عند سمعه البشير به.
    ٥ «وَٱلآنَ أَرْسِلْ إِلَى يَافَا رِجَالاً وَٱسْتَدْعِ سِمْعَانَ ٱلْمُلَقَّبَ بُطْرُسَ».
    أَرْسِلْ إِلَى يَافَا أتى الملاك إجابة لصلاته فأراد الله أن كرنيليوس يفعل شيئاً لينال الهدى الذي يطلبه ولذلك لم يأمر الملاك أن يعلمه ولا يرسل بطرس إليه ليعلمه من دون أنه هو نفسه يطلب حضوره.
    سِمْعَانَ ٱلْمُلَقَّبَ بُطْرُسَ هذا النعت ذُكر أربع مرات واحدة هنا وواحدة في (ص ١٠: ١٨ و٣٢: و١١: ١٣).
    ٦ «إِنَّهُ نَازِلٌ عِنْدَ سِمْعَانَ رَجُلٍ دَبَّاغٍ بَيْتُهُ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ. هُوَ يَقُولُ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ».
    ص ٩: ٤٣ ع ٣٢ وص ١١: ١٤
    نَازِلٌ عِنْدَ سِمْعَانَ (انظر شرح ص ٩: ٤٣).
    رَجُلٍ دَبَّاغٍ أخبر الملاك كرنيليوس بالتدقيق وكرره كرنيليوس كذلك في (ع ٣٢).
    بَيْتُهُ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ موضع مناسب للدباغة لأنها تحتاج إلى ماء كثير لإزالة ما ينشأ في تلك الصناعة مما يكرهه الحس ويضرّ بالصحة هذا إذا فرضنا بيته مجاوراً لدباغته ولكن هذا الفرض غير ضروري والأرجح أن البيت كان بعيداً عنها لأن الربانيين نهوا عن أن تكون الدباغة على أمد أقل من خمسين ذراعاً من المدينة أو القريبة لما فيها من المخالفة لشعائر الطهارة.
    هُوَ يَقُولُ لَكَ الخ استحسن الله أن يستخدم الإنسان ليبشر الإنسان ولم يكن يعسر عليه أن يسمح للملاك أن يخبر كرنيليوس بالمسيح وطريق الخلاص لكنه أحب أن يكرم البشر ببث البشرى (٢كورنثوس ٤: ٧) وهذا مما أوجب المسؤولية علينا لنكون مجتهدين وأمناء في المناداة بالإنجيل لئلا يهلك الخطأة بإهمالنا إيّاهم.
    ولا حق لأحد ممن سمعوا الإنجيل أن يتوقع مما ذُكر هنا مجيء ملاك من السماء ليحثه على أن يطلب خلاص نفسه لأن كرنيليوس لم يكن قد سمع الإنجيل قبل ذلك (لوقا ١٦: ٣١).
    كان فيلبس ساكناً في قيصرية (ص ٨: ٤٠ و٢١: ٨) لكن الله لم يختاره ليبشر كرنيليوس ويدخله في الكنيسة المسيحية بل اختار بطرس الرسول لأنه وعد بطرس بمثل ذلك في (متّى ١٦: ١٩) ولأن إدخال الأمم إلى الكنيسة أمر ذو شأن ومخالف لكل العوائد السابقة في الدين اليهودي والمسيحي فمن الضروري أن ينشأ عنه في فلسطين هياج عظيم فلاق أن يكون ابتداؤه على يد معتبر في الكنيسة ليقبله سائر المسيحيين ويعدوه حسناً في ذاته ومرضياً لله.
    ٧ «فَلَمَّا ٱنْطَلَقَ ٱلْمَلاَكُ ٱلَّذِي كَانَ يُكَلِّمُ كَرْنِيلِيُوسَ، نَادَى ٱثْنَيْنِ مِنْ خُدَّامِهِ، وَعَسْكَرِيّاً تَقِيّاً مِنَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يُلاَزِمُونَهُ».
    أطاع كرنيليوس في الحال الأمر السماوي فارسل رسله في ذلك النهار بدليل أنهم بلغوا يافا في غده.
    وَعَسْكَرِيّاً تَقِيّاً تقوى كرنيليوس وتعليمه لم يُحصر تأثيرهما في أهله وعبيده (ع ٢) بل أثرا في هذا العسكري أيضاً فصار هو أيضاً عبداً للإله الحق.
    ٨ «وَأَخْبَرَهُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى يَافَا».
    بِكُلِّ شَيْءٍ بالرؤيا جميعها والأمر وما يتوقعونه من الجواب.
    إِلَى يَافَا حيث مكث بطرس بعد إقامة طابيثا (ص ٩: ٤٣) ومن هناك أرسل الله النبي اليهودي يونان منذ ثماني مئة سنة قبل ذلك ليدعو سكان نينوى الوثنيين إلى التوبة.

    رؤيا بطرس وهو يصلي على السطح ع ٩ إلى ١٦


    ٩ «ثُمَّ فِي ٱلْغَدِ فِيمَا هُمْ يُسَافِرُونَ وَيَقْتَرِبُونَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ، صَعِدَ بُطْرُسُ عَلَى ٱلسَّطْحِ لِيُصَلِّيَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ».
    ص ١١: ٥ الخ
    فِي ٱلْغَدِ المسافة بين المدينة نحو خمس وثلاثين ميلاً فيقتضي قطعها فشغل ما بقي من نهار الرؤيا بعد العصر وشيئاً من الليل ونصف الغد.
    صَعِدَ بُطْرُسُ عَلَى ٱلسَّطْحِ لِيُصَلِّيَ كانت سطوح البيوت في الشرق مستوية كأكثرها اليوم (تثنية ٢٣: ٨ وإرميا ١٩: ١٣ وصفنيا ١: ٥ ومتّى ١٠: ٢٧ ولوقا ٥: ١٩ و١٧: ٣١) وكان السطح موافقاً للانفراد والصلاة.
    نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ أي نحو الظهر. كان مفروضاً على اليهود أن يصلوا كل يوم في الساعة الثالثة والساعة التاسعة وزاد الأتقياء على ذلك الصلاة في الساعة السادسة ومثال ذلك قول داود «مَسَاءً وَصَبَاحاً وَظُهْراً أَشْكُو وَأَنُوحُ فَيَسْمَعُ (أي الله) صَوْتِي» (مزمور ٥٥: ١٧). والقول في نبوءة دانيال «فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ، وَصَلَّى وَحَمَدَ قُدَّامَ إِلٰهِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ ذٰلِكَ» (دانيال ٦: ١٠ و١٣).
    إن الله يكرم الصلاة بدليل أنه أرسل الملاك إلى كرنيليوس وهو يصلي وأعلن الرؤيا لبطرس وهو كذلك.
    ١٠ «فَجَاعَ كَثِيراً وَٱشْتَهَى أَنْ يَأْكُلَ. وَبَيْنَمَا هُمْ يُهَيِّئُونَ لَهُ وَقَعَتْ عَلَيْهِ غَيْبَةٌ».
    ص ١١: ٥ و٢٢: ١٧ ورؤيا ١: ١٠
    فَجَاعَ نستنتج من ذلك أن الوقت كان الوقت الذي اعتاد أن يأكل فيه ولعله كان صائماً إلى ساعة الصلاة الظهرية وهذا علة جوعه والأرجح أن جوعه اقتضى صورة تلك الرؤيا لأن الجائع يرى في الحلم الأطعمة والعطشان يرى فيه الماء. فرؤيا بطرس مناسبة لحاله حينئذ فلما قصّ بطرس على شيوخ أورشليم هذه الحادثة لم يذكر شيئاً مما يتعلق بوقت الرؤيا ولا السطح والا الجوع لأن تلك الأمور عرضية لكنه ذكر أنه كان يصلي وذلك من الأمور ذات الشأن ليبيّن أنه كان طالباً حينئذ الإرشاد والحكمة.
    هُمْ يُهَيِّئُونَ لَهُ أي أهل البيت الماكث فيه.
    غَيْبَةٌ حال موافقة للرؤيا لأن النفس تقوى حينئذ على إدراك أمور لا ندركها بقواها الطبيعية. وهذا على وفق قوله للإخوة في أورشليم «رَأَيْتُ فِي غَيْبَةٍ رُؤْيَا» (ص ١١: ٥) وهذه الرؤيا ليست كرؤيا كرنيليوس (ع ٣) لأن كرنيليوس رأى أموراً حقيقية بقواه الطبيعية وهو مستيقظ. وأما الذي رآه بطرس فعُرض على عقله لا حواسه فكانت كرؤيا بلعام (عدد ٢٤: ٤) وكرؤيا بولس في (٢كورنثوس ١١: ٣).
    ١١ «فَرَأَى ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِنَاءً نَازِلاً عَلَيْهِ مِثْلَ مُلاَءَةٍ عَظِيمَةٍ مَرْبُوطَةٍ بِأَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ وَمُدَلاَّةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ».
    ص ٧: ٥٦ ورؤيا ١٩: ١١
    فَرَأَى ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً أي ظهر له كأنه يرى الجو منشقاً (انظر الشرح متّى ٣: ١٦ وأعمال ٧: ٥٦).
    إِنَاءً (انظر شرح ص ٩: ١٥).
    مُلاَءَةٍ ملحفة أي قطعة واسعة من النسيج. نظرها هابطة إليه من الجو على قرب منه حتى يمكنه أن يرى حسناً كل ما فيها.
    عَظِيمَةٍ لزم أن تكون كذلك لتسع كل الحيوانات على أنواعها.
    مَرْبُوطَةٍ بِأَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ لكي تصير إناء يسع ما ظهر فيها.
    وَمُدَلاَّةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ أي مرسلة بحبال مناطة بأطرافها.
    ١٢ «وَكَانَ فِيهَا كُلُّ دَوَابِّ ٱلأَرْضِ وَٱلْوُحُوشِ وَٱلزَّحَّافَاتِ وَطُيُورِ ٱلسَّمَاء».
    كانت الرؤيا مناسبة لما كان عليه من الجوع. والحيوانات المذكورة في هذه الآية كان بعضها طاهراً يجوز أكله وبعضها نجساً يحرم أكله على مقتضى شريعة اليهود. وكان قصد الله أن يفصل اليهود عن سائر الأمم ليعلمهم الدين الحق ولذلك منعهم عن أطعمتهم ومؤاكلتهم واعتقد اليهود أنه خير لكل منهم أن يموت جوعاً من أن يأكل طعاماً نجساً.
    ١٣ «وَصَارَ إِلَيْهِ صَوْتٌ: قُمْ يَا بُطْرُسُ، ٱذْبَحْ وَكُلْ».
    صَارَ إِلَيْهِ صَوْتٌ أي ظهر له أنه يسمع صوتاً.
    ٱذْبَحْ وَكُلْ من كل نوع شئت بلا تمييز. ويلزم من هذا الأمر إلغاء التمييز بين الطاهر والنجس من الحيوانات الذي كان قائماً من أيام نوح إلى تلك الساعة (تكوين ٧: ٢) وذُكرت شريعته في (لاويين ١١: ٢ - ٢٧ وتثنية ١٤: ٣ - ٢٠).
    ١٤ «فَقَالَ بُطْرُسُ: كَلاَّ يَا رَبُّ، لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئاً دَنِساً أَوْ نَجِساً».
    لاويين ١١: ٤ و٢٠: ٢٥ وتثنية ١٤: ٣ و٧ وحزقيال ٤٠: ١٤
    كَلاَّ يَا رَبُّ هذا ليس رفض الطاعة لله بل إظهار التعجب من أمر آتٍ من السماء بأن يذبح ويأكل من كل أنواع الحيوانات بلا تمييز وبيان خوفه من مخالفة أمر الشريعة التي أنزلها الله على موسى وتلك الشريعة كان يطيعها منذ صبائه ولم يعلم قط أن الله ألغاها. خاطب بطرس يسوع بمثل هذا الكلام قبلاً وهو قوله «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هٰذَا!» (متّى ١٦: ٢٢) وقوله «لن تغسل رجليّ أبداً».
    دَنِساً أَوْ نَجِساً بمقتضى الشريعة الموسوية لا بالذات فبعض ما كان طاهراً عند سائر الأمم كان نجساً عند اليهود لأنهم شعب ممتاز خاضع لشريعة خاصة من الأطعمة والملبوسات والغسل وما شاكل ذلك.
    ١٥ «فَصَارَ إِلَيْهِ أَيْضاً صَوْتٌ ثَانِيَةً: مَا طَهَّرَهُ ٱللّٰهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!»
    متّى ١٥: ١١ وع ٢٨ ورومية ١٤: ١٤ و١٧: ٢٠ و١كورنثوس ١٠: ٢٥ و١تيموثاوس ٤: ٤ وتيطس ١: ١٥
    صَوْتٌ ثَانِيَةً كان الصوت الأول «قُمْ يَا بُطْرُسُ، ٱذْبَحْ وَكُلْ» (ع ١٣). وقال بطرس في أخباره للإخوة بذلك إن هذا الصوت كان «من السماء» (ص ١١: ٩).
    مَا طَهَّرَهُ ٱللّٰهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ أي لا تحسب ما صرّح الله بطهارته نجساً. وأوضح جلياً بقوله «ما طهره الله» من هو المتكلم وما معنى الرؤيا. وقصد الله بهذا القول أن يعلم بطرس أمرين الأول أنه أُلغي التمييز بين الطاهر والنجس من المأكولات الحيوانية والثاني وهو الأهم أنه أُبطل التمييز أمام الله بين اليهود والأمم بالنظر إلى أن اليهود وحدهم الطاهرون وسائر الناس نجسون. وتم ذلك بناء على ما فعله يسوع المسيح لأنه باتخاذه الطبيعة البشرية أكرمها وجعلها مرضية لله وبموته عن الناس طهّر الجنس البشري بلا استثناء أمام الله فصارت للأمم الحقوق الروحية والبركات السماوية التي لليهود. فيجب أن يبشر أولئك بالإنجيل كهؤلاء في قيصرية كما في أورشليم.
    ولا مناقضة بقولنا أن الله ألغي التمييز الذي قد أمر به هو بين الطاهر والنجس لقوله «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ... مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (متّى ٥: ١٧) لأن المسيح طهّر بدمه كل الذين قبلوه فأكمل الناموس وما قيل هنا على وفق قول بولس «لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية ٣: ٢٨).
    من المبادئ البيّنة أن الشريعة تُلغى عند زوال العلة التي وُضعت لأجلها فشريعة الطهارة وُضعت لفصل اليهود عن سائر الأمم لكي يعلمهم الله الدين الحق فيحفظوه إلى أن يأتي المسيح والمسيح قد أتى والحاجز بين الإسرائيليين وسائر الأمم نحو ألفي سنة رُفع. ومحل إعلان رفعه قيصرية والوسيلة إلى ذلك الإعلان رؤيا سماوية والمعلن له بطرس الرسول وأول من استفاد من ذلك القائد الروماني كرنيليوس.
    ١٦ «وَكَانَ هٰذَا عَلَى ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ٱرْتَفَعَ ٱلإِنَاءُ أَيْضاً إِلَى ٱلسَّمَاءِ».
    تكوين ٤١: ٣٢
    ثَلاَثِ مَرَّاتٍ أي كرر الصوت كذلك لا الرؤيا وفائدة التكرار للتوكيد وتعليم بطرس أهمية الرؤيا وذلك على وفق ما قيل في تكوين ٤١: ٣٢ «وَأَمَّا عَنْ تَكْرَارِ ٱلْحُلْمِ عَلَى فِرْعَوْنَ مَرَّتَيْنِ، فَلأَنَّ ٱلأَمْرَ مُقَرَّرٌ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ، وَٱللّٰهُ مُسْرِعٌ لِيَصْنَعَهُ» وهو كتكرار قول المسيح لبطرس ثلاث مرات ارع غنمي (يوحنا ٢١: ١٥ - ١٧).
    ثُمَّ ٱرْتَفَعَ الخ أي عاد إلى المكان الذي هبط منه وهذا حقق لبطرس أن الرؤيا سماوية لا تخيل محض كما كان يظهر له لو اضمحل المنظر في محله.

    ذهاب بطرس إلى قيصرية ع ١٧ إلى ٤٤


    ١٧، ١٨ «١٧ وَإِذْ كَانَ بُطْرُسُ يَرْتَابُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا عَسَى أَنْ تَكُونَ ٱلرُّؤْيَا ٱلَّتِي رَآهَا؟ إِذَا ٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ كَرْنِيلِيُوسُ، كَانُوا قَدْ سَأَلُوا عَنْ بَيْتِ سِمْعَانَ وَوَقَفُوا عَلَى ٱلْبَابِ ١٨ وَنَادَوْا يَسْتَخْبِرُونَ: هَلْ سِمْعَانُ ٱلْمُلَقَّبُ بُطْرُسَ نَازِلٌ هُنَاكَ؟».
    يَرْتَابُ فِي نَفْسِهِ أي يحتار بمعنى الرؤيا أهي مجرد المعنى الظاهر أي أن الله ألغى التمييز بين الطاهر والنجس من الأطعمة أو أنه ألغى كل الشريعة الموسوية الرمزية التي هذا قسم منها أو تشتمل على ما فوقه وهو إزالة التمييز بين اليهود والأمم أيضاً الذي أُقيم تمييز الأطعمة لأجله ويحتار أيضاً بالمقصود منها عملاً.
    إِذَا ٱلرِّجَالُ اقتران مجيء الرجال بالرؤيا أعلن لبطرس جلياً معناها والمقصود منها وأن الله قصد أن تكون بياناً لإرادته وهكذا شهد بطرس في (ص ١١). وكثيراً ما يُظهر الله إرادته للإنسان بما يجريه من الحوادث التي تفتح له باب قصده أمامه أو يوصده دونه ولا سيما إذا سأل الله إرشاده في صلاة خاصة.
    ١٩، ٢٠ «١٩ وَبَيْنَمَا بُطْرُسُ مُتَفَكِّرٌ فِي ٱلرُّؤْيَا، قَالَ لَهُ ٱلرُّوحُ: هُوَذَا ثَلاَثَةُ رِجَالٍ يَطْلُبُونَكَ. ٢٠ لٰكِنْ قُمْ وَٱنْزِلْ وَٱذْهَبْ مَعَهُمْ غَيْرَ مُرْتَابٍ فِي شَيْءٍ، لأَنِّي أَنَا قَدْ أَرْسَلْتُهُمْ».
    ص ١١: ١٢ و١٥: ٧
    قَالَ لَهُ ٱلرُّوحُ لم يكلمه الروح بعد ذلك في رؤيا من السماء بل كان يكلم روحه رأساً مخبراً إياه بوصول رسل كرنيليوس وبما يجب أن يفعله وأتى ذلك ليرفع كل ريب في تلك الرؤيا.
    وكثيراً ما أعلن لوقا في سفر الأعمال فعل الروح القدس في إجراء الحوادث (انظر ص ١٠: ٤٥ و١١: ١٢ و١٥).
    هُوَذَا ثَلاَثَةُ رِجَالٍ لم يذكر من هم ولا ما هي غايتهم بل تركه ليعلمه بعد.
    ٱذْهَبْ مَعَهُمْ لم يقل له إلى أين يذهب إذ عليه أن يطيع الأمر.
    غَيْرَ مُرْتَابٍ علم الروح بما يعرض لبطرس من الشكوك حين يرى أن الذين أرسلوا إليه ليسوا من اليهود بل من الأمم فدعاه إلى اليقين والطاعة بلا مبالاة بتلك الشكوك. كذا دعاه سيده قبلاً للإيمان والطاعة له بقوله «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ ٱلآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلٰكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ» (يوحنا ١٣: ٧). وما قيل هنا يثبت أقنومية الروح القدس ولاهوته بدليل خطابه لبطرس بضمير المتكلم ومعرفته أفكاره وهذه المعرفة مما لا يستطيعها غير الله.
    لأَنِّي أَنَا قَدْ أَرْسَلْتُهُمْ أي أنا علة إرسالهم فالروح القدس أرسلهم بواسطة الملاك أولاً وبواسطة كرنيليوس ثانياً ع ٧ وهذا الروح أرسل بولس أيضاً (ص ١٣: ٢١ و١٦: ٦ و٧).
    ٢١ «فَنَزَلَ بُطْرُسُ إِلَى ٱلرِّجَالِ ٱلَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ كَرْنِيلِيُوسُ، وَقَالَ: هَا أَنَا ٱلَّذِي تَطْلُبُونَهُ. مَا هُوَ ٱلسَّبَبُ ٱلَّذِي حَضَرْتُمْ لأَجْلِهِ؟».
    فَنَزَلَ بُطْرُسُ أي من السطح حيث رأى الرؤيا إلى الدهليز أو الباب حيث وقف الرجال.
    ٱلَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ كَرْنِيلِيُوسُ هذا كلام لوقا لأن بطرس لم يكن قد عرف شيئاً من أمر كرنيليوس حينئذ ولا شيئاً مما حدث له في قيصرية.
    مَا هُوَ ٱلسَّبَبُ الخ أخبره الروح أنه هو الذي أرسل الرجال لكنه لم ينبئه بعلة حضورهم.
    ٢٢ «فَقَالُوا: إِنَّ كَرْنِيلِيُوسَ قَائِدَ مِئَةٍ، رَجُلاً بَارّاً وَخَائِفَ ٱللّٰهِ وَمَشْهُوداً لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةِ ٱلْيَهُودِ، أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَلاَكٍ مُقَدَّسٍ أَنْ يَسْتَدْعِيَكَ إِلَى بَيْتِهِ وَيَسْمَعَ مِنْكَ كَلاَماً».
    ع ١ و٢ الخ ص ٢٢: ١٢
    كَرْنِيلِيُوسَ قَائِدَ مِئَةٍ كان في الأرض المقدسة كثيرين من رؤساء الجيش الروماني في هذه الرتبة (متّى ٨: ٥ ومرقس ١٥: ٤٩ وأعمال ٢١: ٣٢ و٢٢: ٢٥ و٢٣: ١٧ و٢٣ و٢٤: ٢٣ و٢٧: ١) لأن الرومانيين كانوا يومئذ مستولين على هذه الأرض.
    رَجُلاً بَارّاً قيل في ع ٢ أنه «تقي» والبرّ أعمّ من التقوى لأنه يتضمن القيام بالواجبات للناس فضلاً عن القيام بالواجبات لله. قال المسيح في مدح إيمان قائد مئة آخر في كفرناحوم «إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٨: ١١).
    خَائِفَ ٱللّٰهِ أي الإله الحق إله إسرائيل (انظر شرح ع ٢).
    مَشْهُوداً لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةِ ٱلْيَهُودِ أي معتبراً محبوباً عند كل فرقة من الإسرائيليين وهم كثيرون كما كان كذلك بين أهل جنسه الرومانيين. ذكر لوقا هذا في كتابه لمعرفته أن اليهود يقفون عليه فأراد أن يخبرهم بكل شيء مما يرضيهم بقبول رجل من الأمم في شركة النعمة الإلهية وهو أمر يصعب عليهم.
    أُوحِيَ إِلَيْهِ كما قيل في نبإ يوسف (متّى ٢: ١٢ و٢٢). والمعنى أن الله أعلن له ما سبق في (ع ٣ - ٥).
    بِمَلاَكٍ مُقَدَّسٍ نعت الملاك بالقداسة تمييزاً له عن أحد «ٱلْمَلاَئِكَةُ ٱلَّذِينَ لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ» (يهوذا ٦).
    أَنْ يَسْتَدْعِيَكَ إِلَى بَيْتِهِ الروح القدس لم يأمر كرنيليوس بالذهاب إلى يافا حيث بطرس فذكر الرسل ذلك عذراً لكرنيليوس في عدم مجيئه إلى بطرس.
    وَيَسْمَعَ مِنْكَ كَلاَماً هذا على حسب الوعد في (ع ٦).
    ٢٣ «فَدَعَاهُمْ إِلَى دَاخِلٍ وَأَضَافَهُمْ. ثُمَّ فِي ٱلْغَدِ خَرَجَ بُطْرُسُ مَعَهُمْ، وَأُنَاسٌ مِنَ ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مِنْ يَافَا رَافَقُوهُ».
    ع ٤٥ وص ١١: ١٢
    فَدَعَاهُمْ إِلَى دَاخِلٍ وَأَضَافَهُمْ هذا لا يقتضي أنهم لم يزالوا خارج الباب والمراد أنه رحب بهم ضيوفاً يبيتون عنده تلك الليلة إذ لم يحسن السفر في ذلك النهار لأن رسل كرنيليوس كانوا قد أعيوا ولأن بطرس كان محتاجاً إلى وقت لتأهبه ورفقائه للسفر.
    فِي ٱلْغَدِ أي غد يوم الرؤيا ووصول رسل كرنيليوس.
    خَرَجَ بُطْرُسُ أي من البيت والمدينة.
    أُنَاسٌ مِنَ ٱلإِخْوَةِ الخ ممن آمنوا بالمسيح من اليهود (ع ٤٥ ) وهم ستة (ص ١١: ١٢) ولا ريب في أن بطرس أخذهم ليكونوا شهوداً بكل ما يحدث جرياً على القانون المذكور في (تثنية ١٧: ٦ و١٩: ١٥) ولكي يخبروا كنيسة يافا وغيرها من الكنائس بكل ما جرى في أمر غريب ذي شأن كهذا. ونعلم أن هؤلاء الستة ذهبوا بعد ذلك إلى أورشليم وثبتوا ما قاله بطرس بشهادتهم (ص ١١: ١٢). وكان عدد المسافرين عشرة بطرس وستة متنصرين من اليهود وثلاثة من الأمم أحدهم عسكري.
    ٢٤ «وَفِي ٱلْغَدِ دَخَلُوا قَيْصَرِيَّةَ. وَأَمَّا كَرْنِيلِيُوسُ فَكَانَ يَنْتَظِرُهُمْ، وَقَدْ دَعَا أَنْسِبَاءَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ ٱلأَقْرَبِينَ».
    فِي ٱلْغَدِ أي غد خروجهم من يافا وهو اليوم الرابع من ظهور الملاك فالمسافة بين يافا وقيصرية وهي نحو ٣٥ ميلاً شغلوا بقطعها يوماً وبعض يوم.
    أَمَّا كَرْنِيلِيُوسُ فَكَانَ يَنْتَظِرُهُمْ لأنه عرف الوقت الضروري لذهاب رسله ورجوعهم ببطرس وأظهر شدة اهتمامه ورجائه بتركه كل الأعمال الدنيوية واستعداده لقبوله رسول الله وكلامه.
    قَدْ دَعَا أَنْسِبَاءَهُ الخ نعلم من ع ١٧ أنهم كانوا كثيرين والأرجح أن بعضهم من العسكر ولعل من جملتهم عبيده الخاصة لأنهم كانوا مشاركين له في الآراء الدينية وعلى كل حال كان كرنيليوس يحب أن يستفيدوا معه من ذلك الإعلان الإلهي. وهذا كان مما يوجب له المدح ويُظهر أنه متعلم من الله لأن كل محبي الله محبو إخوتهم البشر ولا يكتفون بأن يعرفوا الحق بل يرغبون في أن يعرفه كل من يحبونهم أيضاً. فعلى الوالدين أن يقتدوا بكرنيليوس وذلك أنهم متى أتوا إلى المسيح وجب عليهم أن يجتهدوا في أن يقودوا أولادهم إليه. وكذا يجب على الأولاد لوالديهم والإخوة للإخوة وهلم جراً. وهذا على وفق قوله تعالى «ومن يسمع فليقل تعال» (رؤيا ٢٢: ١٧). وتسليم أولئك الذين من الأمم بمطلوب كرنيليوس وهو أن يحضروا ويسمعوا كلام بطرس في المسيح دليل على أن الروح القدس كان قد فعل في قلوبهم واستمالهم إلى قبول الإنجيل قبل أن سمعوا به أو اجتمعوا بأحد المبشرين به.
    ٢٥ «وَلَمَّا دَخَلَ بُطْرُسُ ٱسْتَقْبَلَهُ كَرْنِيلِيُوسُ وَسَجَدَ وَاقِعاً عَلَى قَدَمَيْهِ».
    وَلَمَّا دَخَلَ أي الباب الخارجي بدليل ما جاء في (ع ٢٧).
    وَسَجَدَ الخ هذا يدل على أن كرنيليوس قصد أن يكرم بطرس إكراماً أعظم من إكرام الإنسان لمن هو أعلى منه من البشر أي أنه كان كالعبادة التي لا تجوز لغير الله. ولا عجب لأن كرنيليوس وُلد وربيّ وثنياً ومن عقائده أن الآلهة كثيرون وأنهم كثيراً ما يزورون البشر في هيئة بشرية. ومما حمله أن يعتبر بطرس أعظم من بشر أن الملاك أمره أن يستدعيه وأخبره بأنه يأتيه بإعلان الله. وما أتاه كرنيليوس لبطرس كان مثل الذي أتاه يوحنا للملاك (رؤيا ٢٢: ٨).
    ٢٦ «فَأَقَامَهُ بُطْرُسُ قَائِلاً: قُمْ، أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ».
    ص ١٤: ١٤ و١٥ ورؤيا ١٩: ١٠ و٢٢: ٨ و٩
    فَأَقَامَهُ أي رفعه عن موقعه.
    أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ أي مخلوق مثلك يُحظر أن يوجه إليّ مثل هذا لأنه مختص بالله وحده. ومثل قوله هنا قول بولس في لسترة (ص ١٤: ١٥). وقول الملاك في (رؤيا ٢٢: ٩). ومما يستحق الانتباه والاعتبار أن المسيح لم يأب قط قبول مثل هذا الإكرام (متّى ٨: ٢ و٩: ١٨ و١٤: ٣٣ و١٥: ٢٥ و٢٠: ٢٠ و٢٨: ٩ و١٧ ويوحنا ٩: ٣٨).
    ٢٧ «ثُمَّ دَخَلَ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَعَهُ وَوَجَدَ كَثِيرِينَ مُجْتَمِعِينَ».
    دَخَلَ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ الظاهر أنهما تخاطبا في أثناء الإتيان من باب الدار إلى باب الردهة أو محل الاجتماع بالتحيات المألوفة. ونعلم من النتيجة أنهما اتفقا قبل الدخول على أن يجعلا موضوع الخطاب في الردهة تفصيل الأحوال التي أوجبت اجتماعها. وإطاعة لأمر الله خالف بطرس بدخوله بيت كرنيليوس عوائد اليهود وتقاليدهم وكل ما سبق من أعماله في مثل هذه الحال. على أن الشريعة الموسوية لم توجب على الإسرائيليين مثل هذا الانفصال عن الأمم إنما حرمت عليهم بعض الأطعمة فقط ونتج عن ذلك تحريم مواكلتهم لمن أجازوا أكل ما حرّم. أما هم فزادوا على ذلك تحريم أن يجلس أحدهم مع أممي على سرير واحد أو أن يأكل أو يشرب من إناء أكل أو شرب الأممي منه. انظر شرح (مرقس ٧: ٣ و٤). ومما يستحق الاعتبار أن هذه أول مرة وطئت أقدام مبشري السلام بيت رجل من الأمم.
    وَوَجَدَ كَثِيرِينَ هؤلاء هم أصدقاء كرنيليوس وأنسباؤه الذين ذُكروا في (ع ٢٤) والظاهر أن بطرس ورفقاءه تعجبوا من كثرتهم إذ لم يكونوا قد انتظروا مثل ذلك.
    ٢٨ «فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ كَيْفَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى رَجُلٍ يَهُودِيٍّ أَنْ يَلْتَصِقَ بِأَحَدٍ أَجْنَبِيٍّ أَوْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَرَانِي ٱللّٰهُ أَنْ لاَ أَقُولَ عَنْ إِنْسَانٍ مَا إِنَّهُ دَنِسٌ أَوْ نَجِس».
    يوحنا ٤: ٩ و١٨: ٢٨ وص ١١: ٣ وغلاطية ٢: ١٢ و١٤ ص ١٥: ٨ و٩ وأفسس ٣: ٦
    أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ كَيْفَ هُوَ مُحَرَّمٌ هذا مقدمة خطاب بطرس في بيان مخالفته لعوائد اليهود المعلومة عند كرنيليوس وقومه وأنه لم يأت تلك المخالفة جهلاً أو سهواً لأنها إذا كانت معروفة عندهم فبالأولى تكون معروفة عنده.
    أَنْ يَلْتَصِقَ اكتفى بأن أشار بهذه الكلمة وحدها إلى كل ما أوجبته التقاليد اليهودية من انفصال اليهود عن الأمم لكونه أمراً مشهوراً.
    يَأْتِيَ إِلَيْهِ القرينة تدل على منع إتيان اليهودي إلى بيت أجنبي إتيان الإنسان إلى بيته أو الخليل إلى خليله ولا سيما إتيانه للمواكلة (ص ١١: ٣ وغلاطية ٢: ١٢).
    أَرَانِي ٱللّٰهُ قال هذا بناء على أن المجتمعين كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الحق وأنه ذو السلطان الأسمى وأبان بقوله «أراني» أنه فهم المقصود بالرؤيا التي رآها في يافا وكل ما تضمنته من الأمور ذات الشأن وهو أن الله قد أبطل بذلك التمييز بين اليهود والأمم كما أبطل التمييز بين المحلل والمحرم من الأطعمة. ولم يقص عليهم الرؤيا إذ لم يكن من حاجة إلا إلى بيان أن ما فعله كان بأمر الله.
    لاَ أَقُولَ عَنْ إِنْسَانٍ الخ أن ابن الله باتخاذه الطبيعة البشرية وبموته على الصليب ليفديها طهّر البشر بأسرهم من نجاسة الإثم برش دمه عليهم. والنتيجة أنه كان على بطرس أن لا يفرز نفسه عن أحد من الناس ولو أجنبياً فيسوغ له أن يأكل ويشرب معه. وهذا خلاف ما اعتقده بطرس سابقاً وعمل به من جهة السيرة مع الأمم.
    ٢٩ «فَلِذٰلِكَ جِئْتُ مِنْ دُونِ مُنَاقَضَةٍ إِذِ ٱسْتَدْعَيْتُمُونِي. فَأَسْتَخْبِرُكُمْ: لأَيِّ سَبَبٍ ٱسْتَدْعَيْتُمُونِي؟».
    فَلِذٰلِكَ أي بناء على إعلان الله.
    جِئْتُ مِنْ دُونِ مُنَاقَضَةٍ أي بلا جدال ولا تردد لعلة ما عُهد من التقاليد وما سبق من عوائده ومراعاة أفكار اليهود وأقوالهم فإن أمر الله دفع كل ما يعترضه في هذا السبيل.
    أَسْتَخْبِرُكُمْ الخ عرف بطرس من رسل كرنيليوس بعض المقصود من إرسالهم إليه (ع ٢٢) وأعلن له الروح القدس أنه هو علة إرسال أولئك الرسل لكنه لم يعرف كل المقصود فأراد من كرنيليوس التفصيل لنفع نفسه ونفع رفقائه الذين أتوا معه من يافا.
    ٣٠ «فَقَالَ كَرْنِيلِيُوسُ: مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ إِلَى هٰذِهِ ٱلسَّاعَةِ كُنْتُ صَائِماً. وَفِي ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ كُنْتُ أُصَلِّي فِي بَيْتِي، وَإِذَا رَجُلٌ قَدْ وَقَفَ أَمَامِي بِلِبَاسٍ لاَمِعٍ».
    متّى ٢٨: ٣ ومرقس ١٦: ٥ ولوقا ٢٤: ٤ وص ١: ١٠
    فَقَالَ كَرْنِيلِيُوسُ كرر كرنيليوس هنا ما جاء في (ع ٣ - ٦) بتصرف زهيد.
    مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ شغل رسل كرنيليوس يومين بالذهاب من قيصرية إلى يافا ويومين بالرجوع منها إلى قيصرية.
    إِلَى هٰذِهِ ٱلسَّاعَة أي ساعة التكلم والأرجح أنها ساعة الظهر بدليل القرينة.
    كُنْتُ صَائِماً قرنه الصوم بالصلاة يدل على غيرته وإخلاصه وأنه تبع عوائد اليهود في أوقات الصلاة والصوم. وأنه ترك العبادة الوثنية وأخذ يعبد الإله الحق. وكان من عوائد اليهود المتدينين أن يجعلوا الظهر أحد أوقات الصلاة المعيّنة وأن يصوموا من الصبح إليه. وهذه هي القرينة التي أشرنا إليها في الآية السابقة وهي المعيّنة أن تلك الساعة كانت ساعة الظهر.
    فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ أي العصر وهي أحد أوقات الصلاة الثلاثة المعيّنة عند اليهود (ص ٣: ١) والآخران الساعة الثالثة والساعة السادسة (مزمور ٥٥: ١٧ ودانيال ٦: ١٠ وأعمال ٢: ١٥).
    فِي بَيْتِي بالانفراد والخفاء غير مبتغٍ إظهار بره للناس. وهذا على وفق أمر المسيح (متّى ٦: ٥ و١٦ و١٧).
    وَإِذَا رَجُلٌ قال لوقا في ع ٣ أنه ملاك ووصفه كرنيليوس بالهيئة التي ظهر له فيها فإن الملاك اتخذ صورة إنسان وقتياً.
    بِلِبَاسٍ لاَمِعٍ كذا ظهر الملائكة عند قبر المسيح (لوقا ٢٤: ٤). وكذا الملاكان اللذان ظهرا على جبل الزيتون يوم الصعود (ص ١: ١٠). وهذا اللمعان أثر مشاهدة الملائكة المجد السماوي ودليل على كونهم رسلاً سماوية والمقصود منه إيقاع الهيبة في قلوب المشاهدين وتنبيههم.
    ٣١، ٣٢ «٣١ وَقَالَ: يَا كَرْنِيلِيُوسُ، سُمِعَتْ صَلاَتُكَ وَذُكِرَتْ صَدَقَاتُكَ أَمَامَ ٱللّٰهِ. ٣٢ فَأَرْسِلْ إِلَى يَافَا وَٱسْتَدْعِ سِمْعَانَ ٱلْمُلَقَّبَ بُطْرُسَ. إِنَّهُ نَازِلٌ فِي بَيْتِ سِمْعَانَ رَجُلٍ دَبَّاغٍ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ. فَهُوَ مَتَى جَاءَ يُكَلِّمُكَ».
    دانيال ١٠: ١١ و١٢ وع ٤ الخ وعبرانيين ٦: ١٠
    ترك كرنيليوس مقدمة خطاب الملاك في (ع ٣) واقتصر على ذكر خلاصة معنى ذلك الخطاب بغير لفظه.
    سُمِعَتْ صَلاَتُكَ أي قُبلت فانتظر إجابتها. والنتيجة تدلنا على أن موضوع الصلاة كان طلب معرفة الحق والإرشاد إلى طريق الخلاص.
    صَدَقَاتُكَ (انظر شرح ع ٤).
    فَأَرْسِلْ إِلَى يَافَا فتجد من ذلك دليلاً على أن الله استجاب دعاءك.
    يُكَلِّمُكَ في المسائل التي شغلت أفكارك من جهة عبادة الإله الحق ومعرفة طريق الخلاص.
    ٣٣ «فَأَرْسَلْتُ إِلَيْكَ حَالاً. وَأَنْتَ فَعَلْتَ حَسَناً إِذْ جِئْتَ. وَٱلآنَ نَحْنُ جَمِيعاً حَاضِرُونَ أَمَامَ ٱللّٰهِ لِنَسْمَعَ جَمِيعَ مَا أَمَرَكَ بِهِ ٱللّٰهُ».
    فَأَرْسَلْتُ الفاء سببيّة. وهذا يدل على أنه فعل ما فعل إطاعة لأمر الله وتوقعاً لإنجاز وعده.
    فَعَلْتَ حَسَناً أبان بذلك شكره لبطرس على لطفه وتكرمه بالإتيان إليه.
    وَٱلآنَ أي بعد كل هذه الحوادث الغريبة التي اختبرناها والمواعيد الكريمة التي توقعناها.
    نَحْنُ جَمِيعاً حَاضِرُونَ أَمَامَ ٱللّٰهِ أبان ذلك أنهم شعروا بأن عين الله العالم كل شيء كانت مراقبة لهم حينئذ وأن لهم إرشاداً من العناية الإلهية وأنهم اجتمعوا بأمر الله وأنه هو يكلمهم بفم بطرس.
    لِنَسْمَعَ جَمِيعَ مَا أَمَرَكَ بِهِ ٱللّٰهُ أي أنهم منتبهون ومستعدون أن يطيعوا ما يقول الله بفم بطرس قولاً وفعلاً. فالحق أن تربة تلك القلوب الجيدة كانت مهيأة لقبول ذلك الزرع الجيد. وهنا ميّز كرنيليوس أحسن تمييز بين الله المتكلم وبطرس ناقل كلامه الذي سجد له أولاً (ع ٢٥). فهم لم يجتمعوا ليسمعوا آراء بطرس بل حقائق الله فإنهم شعروا بحضور السيد غير المنظور أكثر مما شعروا بحضور عبده المنظور.
    ولنا من هذه العبارة أنه يجب علينا أن نشعر في كل اجتماعاتنا الدينية بحضور الله الفاحص القلوب والكلي وأنه تعالى يخاطبنا بكتابه وصوت خادمه.
    ٣٤ «فَقَالَ بُطْرُسُ: بِٱلْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ ٱللّٰهَ لاَ يَقْبَلُ ٱلْوُجُوه».
    تثنية ١٠: ١٧ و٢أيام ١٩: ٧ وأيوب ٣٤: ١٩ وورمية ٢: ١١ وغلاطية ٢: ٦ وأفسس ٦: ٩ وكولوسي ٣: ٢٥ و١بطرس ١: ١٧
    فَقَالَ بُطْرُسُ هذا يدل على ابتداء التكلم في أمر ذي بال (متّى ٥: ٢). وهذه الآية والتي تليها مقدمة لمناداة بطرس بالإنجيل بشرى الخلاص.
    بِٱلْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أي أن الله أعلن إراداته ببراهين قاطعة أزالت كل شكوكي. وأشار بذلك إلى ما كان له من الرؤيا وموافقتها لما وقع لكرنيليوس وما رآه في الحاضرين من الاستعداد لقبول كلمة الله.
    لاَ يَقْبَلُ ٱلْوُجُوهَ معنى ذلك كمعنى ما في (رومية ٢: ١١ وأفسس ٦: ٩ ويعقوب ٢: ١ - ٤ و٩). وبمثل هذا شُهد للمسيح ( متّى ٢٢: ١٦). والمقصود أن الله لا يفضل أحد الناس على غيره بالنظر إلى جمال منظره (١صموئيل ١٦: ٧) أو إلى رتبته ومقامه أو غناه أو شرف نسبه أو ما شاكل ذلك في شأن خلاص النفوس لأنه ينظر إلى قلب الإنسان لا إلى ظاهره ولا إلى جنسه. وهذا خلاف معقتد اليهود أن الله فضلهم على سائر الناس لأنهم نسل إبراهيم (لوقا ٣: ٨). فكأن بطرس قال هنا أني رأيت غلطي في اعتقادي السابق وتيقنت أن الله لا يخلص أحداً لكونه يهودياً ولا يرفض أحداً لكونه أممياً وأن الخلاص مباح لكل من يؤمن. وهذا على وفق ما قيل في (رومية ٢: ١١ وكولوسي ٣: ٢٥). ولا شيء في هذا ينافي تعليم الاختيار لأن ذلك يعم اليهود والأمم معاً ولا مما يفيد أن الله يعتبر الشرير كالصالح لأنه سبحانه وتعالى يحب الصديق ويسخط على الخاطئ كل يوم وهو يحب الأمي الصالح كما يحب اليهودي الصالح ويسخط على اليهودي الشرير كما يسخط على الأمي الشرير.
    وليس معناه أن الله يخلص المخلِص الرأي بلا نظر إلى إيمانه أو عدم إيمانه وإلا لم يرسل إلى كرنيليوس من يعلمه وجوب الخلاص بواسطة الإيمان بالمسيح.
    وخلاصة ما تعلمناه من هذه الآية أربعة أمور:

    • الأول: أنه قد اُزيل الحاجز بين اليهود والأمم.
    • الثاني: أن الخلاص مباح لجميع الناس بشرط التوبة والإيمان والطاعة.
    • الثالث: أن البشر كلهم خطأة فلا استحقاق لأحد منهم (رومية ص ١ وص ٢ وص ٣).
    • الرابع: أن كل الذين يخلصون إنما يخلصون بالرحمة (رومية ٣: ٢٢ و١٠: ١٢ وغلاطية ٢: ٦).


    ٣٥ «بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ٱلَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ ٱلْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ».
    ص ١٥: ٩ ورومية ٢: ١٣ و٢٧ و٣: ٢٢ و٢٩ و١٠: ١٢ و١٣ و١كورنثوس ١٢: ١٣ وغلاطية ٣: ٢٨ وأفسس ٢: ١٣ و١٨ و٣: ٦
    أبان بطرس في هذه الآية مراده من قوله «أن الله لا يقبل الوجوه» وهو أن البركات الإلهية التي تمتع بها اليهود مباحة للأمم بالشروط التي على اليهود نفسها.
    فِي كُلِّ أُمَّةٍ هذا هو المحور التي تدور عليه هذه الآية ومقتضاه أن الله ينظر إلى قلب الإنسان وسيرته بقطع النطر عن تسلسله من إبراهيم أو غيره. وأن كل من يريد يمكنه أن يأخذ ماء الحياة مجاناً وهذا مثل ما أجمع عليه مجمع أورشليم (ص ١٥: ٩ و١١). ورأى يوحنا أن المفديين في السماء من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة (رؤيا ٥: ٩).
    يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ ٱلْبِرَّ كما فعل كرنيليوس. (انظر شرح ص ٩: ٣١). فالتقوى والبرّ (أي القيام بالواجبات لله والناس) مقترنان أبداً.
    مَقْبُولٌ عِنْدَهُ كما قُبل كرنيليوس لأنه لم يتبرر بتقواه وصدقاته بل حُسب مستحقاً أن يسمع إنجيل المسيح وأن يُعطى فرصة نوال الخلاص بإيمانه بالمسيح. والمقصود من ذلك أن كل إنسان مهما كانت أمته إذا سلك بمقتضى ما أدركه من معرفة الله ومعرفة واجباته فهو سينال كل ما يحتاج إليه من معرفة المسيح وطريق الخلاص حتى يمكنه أن يخلص بإيمانه الحي العامل. وأبان بطرس أن هذا معناه إذ أخذ وقتئذ يبشره بالإنجيل الذي بشر به اليهود قبل وبعد.
    اتخذ بعضهم هذه الآية دليلاً على أن معرفة الإنجيل ليست بضرورية لخلاص الأمم أي الوثنيين لكن الآية لا تفيد هذا المعنى بل تفيد أن الإنجيل لهم كما هو لغيرهم والخلاص مباح لهم بالشروط التي على الذين في البلاد المسيحية. وليس مراد بطرس هنا أن يبيّن معاملة الله للأمم لكنه يعترف بغلطه باعتقاده السابق أن النعمة مقصورة على أمته اليهود. فقد تحقق هنا أن التمييز بين إنسان وآخر أمام الله متوقف على صفاته لا على أمته وأن المقبول عنده يجب أن يكون مقبولاً عند الناس.
    ٣٦ «ٱلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي أَرْسَلَهَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ يُبَشِّرُ بِٱلسَّلاَمِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ رَبُّ ٱلْكُلِّ».
    إشعياء ٥٧: ٢٩ وأفسس ٢: ١٤ الخ وكولوسي ١: ٢٠ متّى ٢٨: ١٨ ورومية ١٠: ١٢ و١كورنثوس ١٥: ٢٧ وأفسس ١: ٢٠ و٢٢ و١بطرس ٣: ٢٢ ورؤيا ١٧: ١٤ و١٩: ١٦
    ٱلْكَلِمَةُ مبتدأ خبره محذوف تقديره «تعلمونها» بدليل قوله «تعلمون الأمر» في الآية التالية فإن «الأمر» هناك بمعنى «الكلمة» هنا والمراد بالكلمة هذه المناداة بالإنجيل أو الإنجيل عينه أو الديانة الجديدة المنادى بها فهي التي أرسل الله بطرس ليبشر بها كرنيليوس وأصدقاءه لأنها كما سبق الكلام غير مقصورة على الإسرائيليين بل هي لكل أمة.
    ٱلَّتِي أَرْسَلَهَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أي التي بُشر بها أولاً في أورشليم بموجب أمر المسيح (لوقا ٢٤: ٤٧).
    بِٱلسَّلاَمِ هذا خلاصة موضوع تلك الكلمة وهو المصالحة بين الله الملك البار والإنسان العبد الخاطئ (إشعياء ٥٧: ١٩ ورومية ٥: ١). وسلام الضمير الذي يتوقف على الشعور بتلك المصالحة ومغفرة الخطايا. والسلام بين اليهود والأمم (أفسس ٢: ١٤ - ١٧).
    بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ غاية مجيء المسيح والتبشير بالإنجيل إنشاء هذا السلام فإن يسوع أوجده لنا بطاعته لله عنا وبموته على الصليب من أجلنا وبشر به وهو على الأرض وأرسل روحه القدوس ليوصله إلى المؤمنين به وأرسل رسله وغيرهم لينادوا به في أقطار الأرض.
    هٰذَا هُوَ رَبُّ ٱلْكُلِّ أي كل البشر. هذه الجملة معترضة عرف بطرس حقيقتها لا من لحم ودم بل من الآب السماوي (لوقا ١٦: ١٧) وأراد بطرس بها منع كرنيليوس وجماعته من الظن أن يسوع مجرد نبي أو معلم وصرّح فيها بلاهوته وعظمته. وينتج من كونه رب كل البشر أن اليهود والأمم سواء لديه فإنه يحب الفريقين ويريد أن ينادى بالسلام لهما كليهما. فهذه الجملة المعترضة تشتمل على أمرين مهمين:
    الاول: أن المسيح الله.
    والثاني: أن كل الناس سواء أمامه (قابل ما في متّى ٢٨: ١٨ بما في يوحنا ١٧: ٢ ورومية ٣: ٢٩ و٣٠ و١٠: ١٢ وأفسس ١: ٢٠ - ٢٨).
    ٣٧ «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٱلأَمْرَ ٱلَّذِي صَارَ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ، بَعْدَ ٱلْمَعْمُودِيَّةِ ٱلَّتِي كَرَزَ بِهَا يُوحَنَّا».
    لوقا ٤: ١٤
    أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٱلأَمْرَ «الأمر» هنا بمعنى «الكلمة» في الآية السابقة أي المناداة بالإنجيل أو الإنجيل نفسه أو الديانة الجديدة المنادى بها. ومعنى العبارة أنكم لا بد من أن علمتم بعض حقائق الدين المسيحي لأنه نودي به في كل اليهودية التي أنتم مقيمون بقاعدتها وفيها فيلبس المبشر (ص ٨: ٤٠). ولمعرفتهم ذلك اختصر بطرس الكلام في أمور الإنجيل خلافاً لما كان يفعله لو خاطب جهلاء الوثنيين. والذي جهله كرنيليوس واحتاج إلى أن يعلمه بطرس إياه هو نسبة الإنجيل إلى الأمم الذين هو منهم وطريق نيلهم فوائده.
    فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ (مرقس ١: ٣٩ ولوقا ٤: ١٤ و٤٤ و٢٣: ٥). إن الجليل مجاورة لقيصرية فكان يسهل على كرنيليوس سمع أبناء البشارة.
    بَعْدَ ٱلْمَعْمُودِيَّةِ الخ قال بعد المعمودية لأن المسيح لم يبشر قبلها ولم يعمل شيئاً من المعجزات. وذُكر يوحنا لأنه سابق المسيح لتمهيد الطريق أمامه ولأن خدمته كانت الفاصل بين العهد القديم والعهد الجديد. وذكر المعمودية لأنها علامة التوبة والاعتراف بالإيمان بالمسيح الآتي.
    ٣٨ «يَسُوعُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ ٱللّٰهُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلْقُوَّةِ، ٱلَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ ٱلْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ، لأَنَّ ٱللّٰهَ كَانَ مَعَهُ».
    لوقا ٤: ١٨ وص ٢: ٢٢ و٤: ٢٧ وعبرانيين ١: ٩ يوحنا ٣: ٢
    يَسُوعُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ في هذا إشارة إلى ناسوته وفي الآية السادسة والثلاثين تصريح بلاهوته ونسبه إلى الناصرة لأنه وطنه (متّى ٢: ٢٣). ولاشتهاره بأنه نبي منها (انظر شرح ص ٢: ٢٢).
    كَيْفَ هذا بيان للأمر في قوله في الآية السابقة «تعلمون الأمر».
    مَسَحَهُ ٱللّٰهُ لذلك سمي يسوع «المسيح» كما في الآية السادسة والثلاثين (انظر شرح متّى ١: ١ ولوقا ٤: ١٨). وكان مسحه شهادة له من الله الآب وعلامة تعيينه ملكاً وكاهناً ونبياً ليقوم بعمل الوسيط بين الله والناس.
    بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي بتأثيره ليقوم بإتمام واجبات عمله (لوقا ٤: ١ و١٤ و١٨) والأرجح أن بطرس أكثر ما أشار بهذا إلى حلول الروح عليه وهو يعتمد (متّى ٣: ١٦).
    وَٱلْقُوَّةِ هذه نتيجة ضرورية من حلول الروح القدس عليه والمراد بهذه القوة القدرة على صنع المعجزات الذي اشتهر يسوع به بين سكان البلاد من اليهود والأمم.
    ٱلَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً هذا مختصر تاريخ حياة يسوع على الأرض أراد بطرس توجيه أفكار الحاضرين إليه. وبيان أن يسوع لم يستعمل قوته كملوك الأرض في تحصيل النفع لنفسه والانتقام من أعدائه بل في الإحسان إلى الناس لأن كل معجزاته كانت لنفعهم. وأحب بطرس أن ينادي بالمسيح باعتبار أنه منعم قبلما ينادي به باعتبار أنه ديّان كما أبان في الآية الثانية والأربعين.
    وَيَشْفِي جَمِيعَ ٱلْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ اقتصر بطرس على ذكر مثل واحد من صنع المسيح الخير وهو شفاء المرضى نفساً وجسداً. وذكر شفاء الذين تسلط عليهم الشيطان لأنه من أعظم مظهرات القوة ومما يشتهر بين الناس. وتسلط إبليس عليهم تسلط الظالم على المظلوم. وإبليس معرب ديابلس في اليونانية ومعناه قاذف أو مجرب أو مشتك. والأرجح أن بطرس لم يُشر هنا إلى إخراج المسيح الشياطين من الناس خاصة بل أشار إلى ما فعله المسيح من شفاء «جَمِيعَ ٱلسُّقَمَاءِ ٱلْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَٱلْمَجَانِينَ وَٱلْمَصْرُوعِينَ وَٱلْمَفْلُوجِينَ» (متّى ٤: ٢٤). ونسب أمراض هؤلاء كلها إلى الشيطان وفقاً لما في (لوقا ٣: ١١ و١٦ و٢كورنثوس ١٢: ٧).
    لأَنَّ ٱللّٰهَ كَانَ مَعَهُ هذا مثل شهادة نيقوديموس له (يوحنا ٣: ٢). وكون الله معه يتضمن أمرين:
    الأول: أنه كان معه كما كان مع سائر الأنبياء.
    الثاني: أنه كان مختصاً به باعتبار أنه الأقنوم الثاني في اللاهوت. فكان السامعون يعتقدون صحة الأول مما سمعوا وعلموا. فكانوا محتاجين إلى أن يتعلموا الأمر الثاني.
    ٣٩ «وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. ٱلَّذِي أَيْضاً قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ».
    ص ٢: ٣٢ ص ٥: ٣٠
    وَنَحْنُ شُهُودٌ علم كرنيليوس وغيره ما علموه من أمور المسيح بالسمع فقط ولكن بطرس ورفقاءه الرسل علموا تلك الأمور بالمشاهدة وشهدوا بها (ص ١: ٨) وبذلك أمرهم يسوع (لوقا ٢٤: ٤٨ وص ١: ٨) وأقام بطرس بذلك فعلاً في وعظه الأول (ص ٢: ٣٢) ووعظه الثاني (ص ٣: ١٥) وفي وعظه الثالث أمام محفل اليهود (ص ٤: ١٠) وفي وعظه الرابع أمام مجلس السبعين (ص ٥: ٣٢) وفي وعظه الخامس هنا وبطرس باعترافه بأنه أحد من الشهود للمسيح دفع كل ما يوهم أنه يستحق الإكرام الزائد الذي أراد كرنيليوس أن يكرمه إياه (ع ٢٥).
    بِكُلِّ مَا فَعَلَ في خدمته العلنية مما يهم الناس أن يعرفوه ويلتزم الرسل بالشهادة به من سيرته وتعليمه وموته وقيامته وصعوده.
    فِي كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ قسم خدمة المسيح قسمين ما أتاه منها في مدينة أورشليم وهذا أنبأ به يوحنا في بشارته وما أتاه في غير هذه المدينة من تلك الأرض وهذا أنبأ به البشيرون متى ومرقس ولوقا.
    قَتَلُوهُ نسب بطرس قتل المسيح إلى اليهود الذين كانوا علة قتله لا إلى الرومانيين الذين أنقذوا مقصد اليهود (انظر شرح ص ٢: ٢٣ و٢٤ و٣: ١٥ و٤: ١٠ و٥: ٣٠). إن بطرس لم يعرض عن ذكر هذا الأمر المتعلق باتضاع المسيح مع أنه لا بد من أن يحط عند الرومانيين شأن الذي نعته آنفاً بأنه «رب الكل» لأنه قصد أن يرشدهم إلى الإيمان بذلك المصلوب لخلاص أنفسهم (ع ٤٣).
    مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ (انظر شرح ص ٥: ٣٠).
    ٤٠ «هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ، وَأَعْطَى أَنْ يَصِيرَ ظَاهِراً».
    ص ٢: ٢٤
    هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ ذكر بطرس في الآية السابقة ما فعله الناس بالمسيح وذكر في هذه الآية ما فعله الله به على وجه المقابلة. وقيامته هي المقصد الأسمى في خطبة بطرس هنا وسائر خطبه وخُطب سائر الرسل كما جاء في (ص ٢: ٢٤ و٣: ١٥ و٤: ١٠ و٥: ٣٠ و١٧: ٣١ و٢٦: ٢٣).
    أَنْ يَصِيرَ ظَاهِراً بشهادة المشاهدين لا بمجرد الإشاعة.
    ٤١ «لَيْسَ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ، بَلْ لِشُهُودٍ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَٱنْتَخَبَهُمْ. لَنَا نَحْنُ ٱلَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
    يوحنا ١٤: ١٧ و٢٢ وص ١٣: ٣١ لوقا ٢٤: ٣٠ و٤٣ ويوحنا ٢١: ١٣
    لَيْسَ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ أي ليس لكل اليهود وهذا موافق لشهادة البشيرين الأربعة فإنهم لم يذكروا قط أنه ظهر لغير مؤمن لأن ذلك لم يكن ضرورياً لإثبات قيامته إذ لم يلق بالمسيح الذي مُجّد بعد قيامته أن يظهر للذين قتلوه وهم لم يستحقوا ذلك فإن الله اختار أن تثبت قيامته بشهادة أفضل الثقات الذين لا يُخدعون ولا يَخدعون إذ لا غاية لهم في الخداع بهذا الأمر وهم كثيرو العدد. وقيامة المسيح من الأمور التي تثبت بشهادة المشاهدين ومما يُقبل بالإيمان عند كل المؤمنين في كل عصر. فلو ظهر المسيح لكل أهل الأرض على أثر قيامته لاضطر الذين بعدهم (وهم أكثر المؤمنين) من ذلك الوقت إلى نهاية الأيام إلى أن يؤمنوا بها بشهادة الذين شاهدوا.
    لِشُهُودٍ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَٱنْتَخَبَهُمْ أي انهم لم يختاروا أنفسهم شهوداً بل الله نفسه اختارهم للشهادة. فأي عاقل يقول أنه كان الأفضل أن يشهد بذلك بيلاطس بدلاً من بطرس ورؤساء الكهنة وشيوخ الشعب الكذبة الحاسدون والمبغضون القاتلون بدلاً من سائر الرسل الأمناء الذي ختموا شهادتهم بدمائهم. والمراد بقوله «سبق الله فانتخبهم» أنه اختارهم شهوداً بقيامة المسيح قبل أن قام.
    لَنَا نَحْنُ أي الرسل الذين أنا بطرس واحد منهم.
    ٱلَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ الخ أشار بذلك إلى ما حدث للمسيح مع تلاميذه في مدة الأربعين يوماً بين وصعوده التي ذكرها لوقا ويوحنا (لوقا ٢٤: ٣٠ و٣٢ و٤٣ ويوحنا ٢١: ١٢ - ١٥). وقصد بقوله «أكلنا وشربنا معه» شدة مخالطتهم إيّاه في تلك المدة لا مجرد الأنباء بالأكل والشرب. ومثل هذه المخالطة لا تُبقي ريباً في صحة القيامة إذ لم يبق فيها موضع للقول بتخيل الرسل أو بأنهم بنوا ذلك على رؤيا اتفقت لهم جميعاً.
    ٤٢ «وَأَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ لِلشَّعْبِ، وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمُعَيَّنُ مِنَ ٱللّٰهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ».
    متّى ٢٨: ١٩ و٢٠ وص ١: ٨ يوحنا ٥: ٢٢ و٢٧ وص ١٧: ٣١ رومية ١٤: ٩ و١٠ و٢كورنثوس ٥: ١٠ و٢تيموثاوس ٤: ١ و١بطرس ٤: ٥
    أَوْصَانَا أي لم يترك ذلك لاستحسان رسله بل فرضه عليهم وجعله من أول واجباتهم (متّى ٢٨: ١٨ ومرقس ١٦: ١٥ وأعمال ١: ٨ و٤: ١٨ و١٩ و٥: ٢٨ و٢٩).
    نَكْرِزَ أي ننادي بالخبر وقد أتوا ذلك طوعاً للأمر (ص ٨: ٥ و٩: ٢٠).
    نَشْهَدَ بكل ما يتعلق بالمسيح أبداً شهادة واضحة وهذا كما جاء في (ص ٢: ٤ و٨: ٢٥).
    بِأَنَّ هٰذَا أي الذي مات وقام.
    ٱلْمُعَيَّنُ مِنَ ٱللّٰهِ دَيَّاناً صرّح لهم بطرس سابقاً بأن يسوع هو رب الكل (ع ٣٦) وأنه المسيح (ع ٣٨) وزاد على ذلك هنا أن الله عيّنه ديّاناً. وهذه أول مرة وُصف المسيح بذلك في هذا السفر وصرّح به بطرس لأولئك الرومانيين ليبيّن لهم جلاله وقوته. كذا فعل بولس في خطابه لليونانيين في أثينا (ص ١٧: ٣١). وقد جاء الكلام على تعيينه ديّاناً في (يوحنا ٥: ٢٢) فانظر الشرح هناك. وكون المسيح ديّاناً من أعظم التعازي لأصحابه وأعظم المرهبات لأعدائه.
    لِلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ أي لكل أجيال البشر الماضية والحاضرة والآتية (رومية ١٤: ٩ و١تسالونيكي ٤: ١٦ و١٧ و٢تيموثاوس ٤: ١ و١بطرس ٤: ٥).
    ٤٣ «لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِٱسْمِهِ غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا».
    إشعياء ٥٣: ١١ وإرميا ٣١: ٣٤ ودانيال ٩: ٢٤ وميخا ٧: ١٨ وزكريا ١٣: ١ وملاخي ٤: ٢ وص ٢٦: ٢٢ ص ١٥: ٩ و٢٦: ١٨ ورومية ١٠: ١١ وغلاطية ٣: ٢٢
    لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أشار بطرس سابقاً إلى معجزات المسيح إثباتاً لصحة دعواه (ع ٣٨) وهنا اتخذ أقوال الأنبياء برهاناً على ذلك على تسليم أنهم سمعوا أنباءهم ووثقوا بأقوالهم وأراد بيان أن شهادة هؤلاء الماضين على وفق شهادة الرسل الأحياء وأنها مثبتة لها. وقد جاء الكلام على شهادة الأنبياء في شرح (لوقا ٢٤: ٢٧ و٤٤). ولا يلزم من قوله «له يشهد جميع الأنبياء» أن كلا منهم صرّح باسم المسيح فالمعنى أن خلاصة سفر الأنبياء هو الشهادة له ويوضح ذلك قول الملاك ليوحنا «فَإِنَّ شَهَادَةَ يَسُوعَ هِيَ رُوحُ ٱلنُّبُوَّةِ» (رؤيا ١٩: ١٠) وقد تقدم الكلام على ذلك في شرح (ص ٣: ٢٤).
    أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ غاية بطرس من كل ما سبق من كلامه أن يقود السامعين إلى الإيمان بالمسيح ولذلك ذكر شهادة يوحنا المعمدان له ثم معجزاته هو ومسحه بالروح القدس وشهادة الأنبياء والرسل له وموته وقيامته وأنه أوصى رسله بالمناداة به وأنه معيّن من الله وأنه ديّان العالمين في اليوم الأخير. وقصد بقوله «كل من يؤمن» أن لا فرق بين اليهودي وغيره في ذلك إذ الشرط الوحيد على الجميع الإيمان وأن البار لا يحيا ببرّ نفسه بل بالإيمان.
    بِٱسْمِهِ أي به نفسه (انظر شرح ص ٢: ٢١ و٤: ١٢).
    غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا هذا آخر الأمور التي ذكرها بطرس هنا. وقد تقدم الكلام على نوال المغفرة بواسطة الإيمان في شرح (ص ٢: ٣٨ و٥: ٣١). وقوله «أن كل من يؤمن» الخ يتضمن أمرين جوهريين لكرنيليوس وأصحابه:
    الأول: أن شرط المغفرة الوحيد هو الإيمان بيسوع المسيح.
    والثاني: أن الوعد بالمغفرة لكل البشر الذين يقومون بذلك الشرط. وقوله هنا كقول بولس في (رومية ١: ١١ و١٢). ولا بد من أنه كان في كلام بطرس هذا فرج لهموم تلك الجماعة فإنهم عرفوا منه أن خلاصهم متوقف على الإيمان بيسوع المسيح لا على خضوعهم للختان وسائر رسوم الشريعة اليهودية.

    حلول الروح القدس على مؤمني الامم وتعميدهم ع ٤٤ إلى ٤٨


    ٤٤ «فَبَيْنَمَا بُطْرُسُ يَتَكَلَّمُ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَى جَمِيعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ».
    ص ٤: ٣١ و٨: ١٥ الخ و١١: ١٥
    فَبَيْنَمَا بُطْرُسُ يَتَكَلَّمُ أي قبلما فرغ من كلامه فإذا ما حدث كان بدون انتظاره.
    حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أي أنزل الروح القدس عليهم المواهب من السماء كما أنزلها على اليهود في أورشليم يوم الخمسين. ويتضح أن هذا معنى ذلك مما جاء في (ع ٤٦ وص ١١: ١٥) وبيان ماهية تلك المواهب في (ص ٢: ٤ و١كورنثوس ١٤: ٧ - ٩). وهذا الحلول شهادة إلهية بأن ما تكلم به بطرس حق وأنه موافق للمقاصد الإلهية وهو أن الله وهب للأمم الخلاص كما وهبه لليهود بدون خضوعهم لرسوم شريعتهم.
    ٱلَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ أي كرنيليوس وأصحابه الذين سمعوا كلمة الله أي الإنجيل من فم بطرس.
    ٤٥ «فَٱنْدَهَشَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ مِنْ أَهْلِ ٱلْخِتَانِ، كُلُّ مَنْ جَاءَ مَعَ بُطْرُسَ لأَنَّ مَوْهِبَةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ عَلَى ٱلأُمَمِ أَيْضاً».
    ع ٢٣ ص ١١: ١٨ وغلاطية ٣: ١٤
    ٱلَّذِينَ مِنْ أَهْلِ ٱلْخِتَانِ أي مؤمنو اليهود الذين جاءوا مع بطرس من يافا وقد ذُكروا في (ع ٢٣ وفي ص ١١: ١٢). وأتى بطرس بهم ليكونوا شاهدين بما يحدث.
    مَوْهِبَةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي معجزة التكلم بألسنة غريبة.
    ٱنْسَكَبَتْ عَلَى ٱلأُمَمِ المراد «بالأمم» كل البشر سوى اليهود. نُسب هنا ما حدث لبعض الأمم أي كرنيليوس وأصحابه إلى الأمم عامة لأن ما صح على هؤلاء يصح على الجميع في هذا الشأن. نعم أن تلك الموهبة لم تنسكب حينئذ إلا على بعض الأمم لكن ما كان لهم صار مبدأ للجميع في كل مكان وزمان. وعلة اندهاش مؤمني يافا من ذلك الانسكاب أنهم لم يكونوا مستعدين لمشاهدة مثله إذ لم يكن لهم ما كان لبطرس من الرؤيا فلم يتوقعوا أن تنال الأمم البركة الروحية التي نالها اليهود بلا خضوع لرسوم الشريعة الموسوية.
    ٤٦ «لأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ وَيُعَظِّمُونَ ٱللّٰهَ. حِينَئِذٍ قَالَ بُطْرُس».
    يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أي بلغات جديدة لم يكونوا يعرفونها. وقد سبق الكلام على مثل ذلك في شرح (ص ٢: ٤) واختصر لوقا الكلام هنا استغناء بما فصّله هناك. وكانت تلك الموهبة علامة حضور الله ورضاه بما جرى. وهي دليل ظاهر على فعل الروح القدس في الباطن.
    يُعَظِّمُونَ ٱللّٰهَ أي كان موضوع تكلمهم باللغات الغريبة تمجيد الله وإعلان عظمته ورحمته. فكان ذلك اليوم أهلاً لأن يُسمى بعنصرة الأمم أي عيد الخمسين عندهم. وكان الأنبياء قديماً يعظمون الله حين كانوا يتنبأون.
    ٤٧ «أَتُرَى يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ ٱلْمَاءَ حَتَّى لاَ يَعْتَمِدَ هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ قَبِلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ كَمَا نَحْنُ أَيْضاً؟».
    ص ١١: ١٧ و١٥: ٨ و٩ ورومية ١٠: ١٢
    أَتُرَى يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ ٱلْمَاءَ أي ماء المعمودية. كانت العادة أن الروح القدس كان يحل على الناس بعد المعمودية ووضع الأيدي وما حدث هنا خلاف ذلك والغاية منه إزالة كل ريب من قلوب أهل الختان في أهلية أولئك الأمم لقبول ذلك السر. فالاستفهام هنا إنكاري فالمعنى لا يقدر أحد أن يمنع من تعميد هؤلاء بأنه لم يسبق قط أن يُعمد أحد من الأمم قبل أن يُختتن. والله قد أعلن جلياً أنه حسبهم من خاصته. ولا حق أن تُمنع الإشارة الخارجية إلى النعمة الإلهية بعد تحقق المشار إليها داخلاً.
    يَعْتَمِدَ كما رسم المسيح (متّى ١٨: ١٩).
    كَمَا نَحْنُ أَيْضاً قال هذا مخاطباً متنصري اليهود الذين جاءوا معه من يافا.
    ٤٨ «وَأَمَرَ أَنْ يَعْتَمِدُوا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ. حِينَئِذٍ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ أَيَّاماً».
    ١كورنثوس ١: ١٧ ص ٢: ٣٨ و٨: ١٦
    أَمَرَ أَنْ يَعْتَمِدُوا هذا دليل على أنه لا أحد من أهل الختان الذين جاءوا مع بطرس اعترض على معمودية كرنيليوس وأصحابه وعلى أنهم جميعاً اقتنعوا بجوازها. ولنا من قوله «أمر» أنه لم يعمدهم هو نفسه جرياً على سنن يسوع وبولس اللذين وكلا التعميد إلى غيرهما (يوحنا ٤: ٢ و١كورنثوس ١: ١٤ و١٧). ولعل بطرس وكل التعميد إلى غيره دفعاً لتهمة أن ما كان لم يكن إلا منه. ولعل فيلبس المبشر مستوطن قيصرية كان قد نظم كنيسة هنا فدعاه بطرس لتعميد تلك الجماعة (ص ٨: ٤٠ و٢١: ٨). ولعل بعض الإخوة الذين من يافا كان قسيساً.
    ولا ريب في أن علة امتناع يسوع وبولس وبطرس هنا عن التعميد الحذر أن تعتبر الكنيسة في المستقبل سر المعمودية اعتباراً لا تستحقه أو أن تُنسب الفاعلية الروحية إلى الذي يُعمد.
    فإن قيل أي نفع من الإشارة مع وجود المشار إليه قلنا أن المعمودية ختم العهد المسيحي كما أنها إشارة وأنها ضرورية لأن رب الكنيسة أمر بها وهي علامة الدخول إلى الكنيسة المنظورة.
    بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أي يسوع المسيح كما كُتب في بعض النسخ القديمة وأشار بذلك إلى المعمودية المسيحية لا إلى بسملتها المشهورة. والأرجح أنهم استعملوا حينئذ تلك البسملة وهي التي عيّنها المسيح في (متّى ص ٢٨: ١٩). والمقصود من قوله «باسم الرب» أنهم اعتمدوا إجابة لأمره وتعهداً بطاعته واعترافاً بإيمانهم به ظاهراً وبالاتحاد به باطناً.
    إنه بما فعله بطرس حينئذ في قيصرية وبتصديق الرسل والكنيسة إيّاه في أورشليم صُرح أنه ليس من الضروري أن يتهود الأمم ويجروا على سنن الرسوم الموسوية قبل أن يتنصروا وأنهم صاروا منذ ذلك الوقت يُقبلون في العضوية التامة في الكنيسة المسيحية بالمعمودية وحدها إظهاراً لإيمانهم.
    ظلت الكنيسة اليهودية الإناء الوحيد المختار للنعمة الإلهية نحو ألف وخمس مئة سنة والله يعد اليهود ليكونوا شهوداً لتوحيده وروحانية عبادته ولكي يُستأمنوا على أقواله في الأسفار المقدسة ولكي تكون مدينتهم أورشليم مركز عمل الفداء العظيم وتأسيس الكنيسة المسيحية. ولما تم كل ما قصده الله في ذلك أباح لسائر أهل الأرض الفوائد التي كانت محصورة في الكنيسة الإسرائيلية.
    أَنْ يَمْكُثَ أَيَّاماً سأله ذلك كرنيليوس وأصحابه بعد أن تعمدوا. ونستدل مما قيل في (ص ١١: ٢) أنه أجاب طلبهم هو والذين أتوا معه من يافا معتبرين إياهم إخوة في المسيح وخالطوهم كل المخالطة بلا أدنى خوف من التدنس حسب تقاليدهم السابقة.


    الأصحاح الحادي عشر


    محاماة بطرس عن نفسه في أورشليم مما أتاه في قيصرية ع ١ إلى ١٨


    ١ «فَسَمِعَ ٱلرُّسُلُ وَٱلإِخْوَةُ ٱلَّذِينَ كَانُوا فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ أَنَّ ٱلأُمَمَ أَيْضاً قَبِلُوا كَلِمَةَ ٱللّٰهِ».
    فَسَمِعَ ٱلرُّسُلُ وَٱلإِخْوَةُ.. فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ الأرجح أنه كان بعض الرسل باقياً في أورشليم وبعضهم جائلاً في غيرها من الأرض المقدسة للتبشير كما كان بطرس حينئذ. وحدوث أمر مثل قبول الأمم في ما يحق لليهود بلا ختان أو غيره من الرسوم الموسوية في مدينة عظيمة كقيصرية مما يتوقع أن يشيع بين كل الكنائس اليهودية المؤلفة من متنصري اليهود الكثيري الغيرة لناموس موسى وأن ينشأ عنه تأثير عظيم فيهم.
    أَنَّ ٱلأُمَمَ أَيْضاً قال ذلك لأنهم اعتبروا كرنيليوس وأصحابه نواباً عن كل الأمم وأن ما سُوغ لهم سُوغ للجميع.
    قَبِلُوا كَلِمَةَ ٱللّٰهِ أي الإنجيل أو الديانة الجديدة المسيحية باعتبار أنه إعلان الله. ومعنى قبولهم إياه إقرارهم بصدقه وتسليمهم بشروطه لنوال المغفرة والخلاص. وفي هذا تلميح إلى أنهم قُبلوا في شركة الكنيسة.
    ٢ «وَلَمَّا صَعِدَ بُطْرُسُ إِلَى أُورُشَلِيمَ خَاصَمَهُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَهْلِ ٱلْخِتَانِ».
    ص ١٠: ٥٤ وغلاطية ٢: ١٢
    وَلَمَّا صَعِدَ بُطْرُسُ من قيصرية.
    خَاصَمَهُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَهْلِ ٱلْخِتَانِ أي متنصرو اليهود كما مرّ في (ص ١٠: ٤٥). إلا أنه يتضمن إشارة إلى أن هؤلاء فضلاً عن كونهم من اليهود كانوا ممن اعتبروا الختان من الضروريات الدينية التي لا بد منها وكان أمثال هؤلاء قسماً كبيراً من القسمين اللذين صارت إليهما الكنيسة بعد ذلك. وكانوا يعادون بولس في كل مكان بشّر فيه وهم علة كتابته الرسالة إلى أهل غلاطية (انظر غلاطية ٩: ١٥). والمراد بقوله «خاصمه الخ» أنهم جادلوه جدالاً عادياً بناء على أنهم اعتبروا ما أتاه مخالفاً للشريعة الإلهية التي أعلنها لهم بواسطة موسى.
    ٣ «قَائِلِينَ: إِنَّكَ دَخَلْتَ إِلَى رِجَالٍ ذَوِي غُلْفَةٍ وَأَكَلْتَ مَعَهُمْ».
    ص ١٠: ٢٨ وغلاطية ٢: ١٢
    خلاصة شكواهم عليه أنه عمل ما لا يجوز للإسرائيلي لأنه خالط الأمم مخالطته لليهود حتى أنه أكل معهم. وقد أقر بطرس أنه كان مثلهم في الاعتقاد في (ص ١٠: ٢٨). ومن العجب أنهم لم يشكوه بما هو أعظم من ذلك وهو تعميد أولئك الغلف. ولعلم عدلوا عن ذلك للزومه عن الأول لأنه إذا كانت مواكلتهم حراماً فالأولى أن يكون تعميدهم كذلك. أو لعلهم جعلوا ذلك افتتاحاً للشكوى عليه بالأمر الثاني. ولكن تبرير بطرس نفسه من الشكوى الأولى دفع كل اعتراضاتهم على كل ما فعله من الأول إلى الآخر فلم يبق لهم من سبيل إلى الكلام.
    ومن الواضح أن أفكار الرسل والكنيسة كانت كأفكار بطرس قبل أن رأى الرؤيا في يافا وأنهم كانوا في حاجة إلى زيادة المعرفة الروحية كما أوضح المسيح بقوله «إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ، وَلٰكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا ٱلآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ» (يوحنا ١٦: ١٢ و١٣).
    ومن الواضح أيضاً أنهم لم يعتبروا بطرس معصوماً من الغلط وإلا ما خاصموه على ما فعل.
    ٤ «فَٱبْتَدَأَ بُطْرُسُ يَشْرَحُ لَهُمْ بِٱلتَّتَابُعِ قَائِلاً».
    لوقا ١: ٣
    كان احتجاج بطرس أن ذكر الحوادث كما جرت وختم كلامه بسؤال مبني على تلك الحوادث. وفي مراجعته نبأ تلك الحوادث ذكر كل الأمور الجوهرية وترك العرضيات القليلة.
    ٥ - ١٠ «٥ أَنَا كُنْتُ فِي مَدِينَةِ يَافَا أُصَلِّي فَرَأَيْتُ فِي غَيْبَةٍ رُؤْيَا: إِنَاءً نَازِلاً مِثْلَ مُلاَءَةٍ عَظِيمَةٍ مُدَلاَّةٍ بِأَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَأَتَى إِلَيَّ. ٦ فَتَفَرَّسْتُ فِيهِ مُتَأَمِّلاً، فَرَأَيْتُ دَوَابَّ ٱلأَرْضِ وَٱلْوُحُوشَ وَٱلزَّحَّافَاتِ وَطُيُورَ ٱلسَّمَاءِ. ٧ وَسَمِعْتُ صَوْتاً قَائِلاً لِي: قُمْ يَا بُطْرُسُ ٱذْبَحْ وَكُلْ. ٨ فَقُلْتُ: كَلاَّ يَا رَبُّ، لأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فَمِي قَطُّ دَنِسٌ أَوْ نَجِسٌ. ٩ فَأَجَابَنِي صَوْتٌ ثَانِيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ: مَا طَهَّرَهُ ٱللّٰهُ لاَ تُنَجِّسْهُ أَنْتَ. ١٠ وَكَانَ هٰذَا عَلَى ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ٱنْتُشِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ أَيْضاً».
    ص ١٠: ٩ الخ
    (انظر ص ١٠: ٩ - ١٦).
    رُؤْيَا اختصر بطرس النبأ بترك وقت الرؤيا وكونها على السطح وأنه كان جائعاً حينئذ إذ لم يكن من ضرورة لذكرها هنا.
    مُلاَءَةٍ عَظِيمَةٍ مُدَلاَّةٍ بِأَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ (ع ٥) ترك ذكر كونها مربوطة.
    إِلَيَّ أي إلى حيث كان (ص ١٠: ١١).
    فَتَفَرَّسْتُ فِيهِ مُتَأَمِّلاً (ع ٦) هذا يدلنا على أن الذي رآه كان قريباً منه وأمعن النظر إليه ليميّز ما فيه من أنواع الحيوانات.
    لَمْ يَدْخُلْ فَمِي (ع ٨) هذا بمعنى قوله قبلاً «لم آكل قط».
    ٱنْتُشِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ (ع ١٠) أي ارتفع (ص ١٠: ١٦).
    ١١، ١٢ «١١ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَالٍ قَدْ وَقَفُوا لِلْوَقْتِ عِنْدَ ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِي كُنْتُ فِيهِ مُرْسَلِينَ إِلَيَّ مِنْ قَيْصَرِيَّةَ. ١٢ فَقَالَ لِي ٱلرُّوحُ أَنْ أَذْهَبَ مَعَهُمْ غَيْرَ مُرْتَابٍ فِي شَيْءٍ. وَذَهَبَ مَعِي أَيْضاً هٰؤُلاَءِ ٱلإِخْوَةُ ٱلسِّتَّةُ. فَدَخَلْنَا بَيْتَ ٱلرَّجُلِ».
    يوحنا ١٦: ١٩ وص ١٠: ١٩ و١٥: ٧ ص ١٠: ٢٣
    (انظر ص ١٠: ١٧ - ٢٣).
    وَإِذَا «إذا» هنا فجائية للدلالة على أن ما حدث كان مما لم يتوقع حدوثه.
    غَيْرَ مُرْتَابٍ فِي شَيْءٍ ارتياباً يؤدي إليه اعتقادك السابق وعوائدك اليهودية.
    هٰؤُلاَءِ ٱلإِخْوَةُ ٱلسِّتَّةُ هذا يدل على أنهم كانوا حاضرين حينئذ وعلمنا هنا عددهم وهو لم يُذكر في النبإ الأول.
    ٱلرَّجُلِ لم يذكر بطرس اسمه لعلمهم أنه كرنيليوس المشار إليه بقولهم «دَخَلْتَ إِلَى رِجَالٍ ذَوِي غُلْفَةٍ وَأَكَلْتَ مَعَهُمْ» (ص ١١: ٣).
    ١٣، ١٤ «١٣ فَأَخْبَرَنَا كَيْفَ رَأَى ٱلْمَلاَكَ فِي بَيْتِهِ قَائِماً وَقَائِلاً لَهُ: أَرْسِلْ إِلَى يَافَا رِجَالاً، وَٱسْتَدْعِ سِمْعَانَ ٱلْمُلَقَّبَ بُطْرُسَ، ١٤ وَهُوَ يُكَلِّمُكَ كَلاَماً بِهِ تَخْلُصُ أَنْتَ وَكُلُّ بَيْتِكَ».
    ص ١٠: ٣٠ الخ
    ٱلْمَلاَكَ لام التعريف هنا عهدية كما يظهر من الأصل اليوناني فهي تدل على أن بطرس كان يكرر لهم نبأ سمعوه قبلاً. فإذاً لم يذكره هنا على سبيل إفادتهم معرفة مجهول بل على سبيل الاحتجاج وتبرئة نفسه من الخطإ بمخالفته الشريعة الرمزية بمخالطة أولئك الرجال.
    فِي بَيْتِهِ حيث لم يكن عرضة لأن يُخدع كما لو كان في مكان غريب.
    كَلاَماً بِهِ تَخْلُصُ لا بمجرد سمعه إيّاه بل بالسمع والطاعة. وذلك الكلام لم يكن موضوعه العقائد الدينية فقط بل ما يجب عليه أن يقوم به من التوبة والإيمان والأعمال الصالحة وأنه بقيامه بذلك يخلص الخلاص الأبدي.
    فائدة هذه العبارة تستحق أن تكتب بأحرف ذهبية وتُعلق في كل كنيسة مسيحية لإفادة الواعظين والسامعين. ففيها أن غاية الواعظ العظمى أن يتكلم كلاماً به يخلص السامعون وأن غاية السامعين العظمى أن يسمعوا كلاماً به يخلصون.
    والكلام في الآية هنا هو ما في قول المسيح «اَلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا ٦: ٦٣). وخلاصته الأنباء بالمسيح مصلوباً (١كورنثوس ٢: ٢) وهو الكلام الذي يصاحبه الروح القدس.
    وَكُلُّ بَيْتِكَ فيشاركونك في النعمة لأنهم شاركوك في مخالفة الرب (ص ١٠: ٢). ولا ريب في أنهم كانوا شركاءه في صلواته وصدقاته واشتياقه إلى معرفة طريق الخلاص.
    ١٥ «فَلَمَّا ٱبْتَدَأْتُ أَتَكَلَّمُ، حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَيْنَا أَيْضاً فِي ٱلْبَدَاءَةِ».
    ص ٢: ٤
    لم يذكر بطرس هنا ما قاله في قيصرية إذ لم يكن مما يبرره من الخطاء بما فعل إذ تبريره متوقف على ما فعله الله لا ما فعله هو.
    فَلَمَّا ٱبْتَدَأْتُ أي على أثر شروعي في الكلام.
    حَلَّ أي نزل من السماء. ومما يستحق الاعتبار أن الكتاب حين يعبّر عن معمودية الروح القدس يعبّر عنها بإشارات تدل على السكب أو الرش لا على التغطيس.
    كَمَا عَلَيْنَا أَيْضاً أي كما حلّ علينا نحن الرسل وعلى سائر المؤمنين الأولين في يوم الخمسين.
    فِي ٱلْبَدَاءَةِ أي بداءة الكنيسة المسيحية أو نظام العهد الجديد. كانت بداءة العهد القديم في يوم إعطاء الله الشريعة لموسى على سيناء واعتبر اليهود عيد الخمسين تذكاراً لذلك فعلى اعتبارهم يكون يوم الخمسين بداءة زمن كل من النظامين أو العهدين.
    ١٦ «فَتَذَكَّرْتُ كَلاَمَ ٱلرَّبِّ كَيْفَ قَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَاءٍ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتُعَمَّدُونَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
    متّى ٣: ١١ ويوحنا ١: ٢٦ و٣٣ و٢ ١: ٥ و١٩: ٤ إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨ و٣: ١٨
    في هذه الآية إشارة إلى ما حدث في آخر اجتماعات يسوع مع تلاميذه (ص ١: ٥).
    تَذَكَّرْتُ رأيت ما حدث إنجازاً لمضمون تلك النبوءة.
    يُوحَنَّا أي المعمدان. أن معموديته كانت رمزاً إلى المعمودية بالروح القدس والرمز يحمل على توقع المرموز إليه وتلك المعمودية المرموز إليها تمت في يوم الخمسين وتمت أيضاً في بيت كرنيليوس وتتم أيضاً ما دامت الكنيسة على الأرض.
    ١٧ «فَإِنْ كَانَ ٱللّٰهُ قَدْ أَعْطَاهُمُ ٱلْمَوْهِبَةَ كَمَا لَنَا أَيْضاً بِٱلسَّوِيَّةِ مُؤْمِنِينَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، فَمَنْ أَنَا؟ أَقَادِرٌ أَنْ أَمْنَعَ ٱللّٰهَ؟».
    ص ١٥: ٨ و٩ ص ١٠: ٤٧
    فَإِنْ كَانَ ٱللّٰهُ قَدْ أَعْطَاهُمُ غاية كل احتجاجه الوصول إلى هذا القول وهو أن الله هو الذي حكم بما حدث فهو فعله تعالى لا فعل بطرس وتحققه ذلك أقنعة وأقنع رفقاءه من اليهود بتعميد أولئك الأمم.
    ٱلْمَوْهِبَةَ كَمَا لَنَا أَيْضاً بِٱلسَّوِيَّةِ في الكمية والماهية.
    مُؤْمِنِينَ بِٱلرَّبِّ حال تحتمل أنها واقعة من الضمير المنصوب في «أعطاهم» الراجع إلى الأمم الذين آمنوا أو من ضمير المتكلمين في «لنا» أي اليهود المؤمنين أو منهما والأرجح الآخر لأنهما كانا متساويين في الإيمان والموهبة.
    فَمَنْ أَنَا الاستفهام هنا للتحقير فكأنه يقول احكموا هل يسوغ لمثلي أن يؤثر رأيه وما سبق من اعتقاده وعوائده على أمر الله.
    أَقَادِرٌ أَنْ أَمْنَعَ ٱللّٰهَ بأن لا أسلم بما أراده جلياً وهذا ما لا يستطيع وإن أستطيع فهذا إثم فظيع.
    ١٨ «فَلَمَّا سَمِعُوا ذٰلِكَ سَكَتُوا، وَكَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: إِذاً أَعْطَى ٱللّٰهُ ٱلأُمَمَ أَيْضاً ٱلتَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ!».
    رومية ١٠: ١٢ و١٣ و١٥: ٩ و١٦
    أثر احتجاج بطرس فيهم حالاً وأقنعهم بأن ما فعله كان صواباً وإجابة لأمر الله.
    سَكَتُوا، وَكَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ هذا يفيد أنهم علاوة على عدولهم عن الخصام اقتنعوا كل الاقتناع وسلموا بوجوب ما خاصموا عليه قبلاً والدليل على ذلك أنهم «مجدوا الله» لما تحققوا من فيضان نعمته على الأمم وفرحوا فرحاً مقدساً لنوال الأمم الخير ولتمجد المسيح بخلاصهم.
    إِذاً أي أن النتيجة كانت وقوع ما استبعدنا وقوعه.
    ٱلأُمَمَ أَيْضاً أي فضلاً عن اليهود بدون أن يتهودوا كما كنا نعتقد.
    ٱلتَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ أي التوبة الضرورية لنوال الحياة الأبدية. وهي هنا تشتمل على الإيمان والأعمال الصالحة التي تليق بالتوبة.
    كان الواجب أن ينتهي الأصحاح هنا لأنه نهاية الكلام على الموضوع وما يليه كلام على موضوع جديد.

    امتداد الإنجيل إلى أنطاكية وإرسال برنابا إلى هناك ع ١٩ إلى ٢٤


    ١٩ «أَمَّا ٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا مِنْ جَرَّاءِ ٱلضِّيقِ ٱلَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ ٱسْتِفَانُوسَ فَٱجْتَازُوا إِلَى فِينِيقِيَّةَ وَقُبْرُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ، وَهُمْ لاَ يُكَلِّمُونَ أَحَداً بِٱلْكَلِمَةِ إِلاَّ ٱلْيَهُودَ فَقَطْ».
    ص ٨: ١
    هنا بداءة فصل ذُكر فيه السطوع الرابع لأشعة الإنجيل من أورشليم فكان السطوع الأول منها إلى السامرة (ص ٨). والثاني منها إلى الحبشة بواسطة فيلبس وإلى لدّ ويافا بواسطة بطرس (ص ٩). والثالث منها إلى الأمم في قيصرية. والرابع منها إلى أنطاكية وهو ما في هذا الفصل.
    ٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا الكلام هنا متعلق بالكلام في (ص ٨: ٤) وهو قوله «فالذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة» وقد ذُكر أمثال ذلك في ما سبق من مقدمة هذا الفصل.
    ٱلضِّيقِ ٱلَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ ٱسْتِفَانُوسَ أي بسب غضب اليهود الذي هيّجه وعظ استفانوس وهذا حمل التلاميذ على الهرب من أورشليم (انظر شرح ص ٨: ١). فالله جعل نتيجة هذا الاضطهاد خيراً لأنه بتشتت التلاميذ انتشرت بشرى الخلاص التي حملوها وامتدت الكنيسة وما في هذا الفصل هو من البراهين على ذلك.
    فِينِيقِيَّةَ أي أرض النخل وهي اسم يوناني لما سماه أهله كنعان أي الأرض المختصة وهي ساحل البحر المتوسط بين البحر ولبنان أعظم مدنها صور وصيدا وهي تمتد من الرأس الأبيض جنوبي صور إلى اللاذقية شمالاً طولها نحو مئة ميل وعشرين ميلاً وعرضها مختلف من أقل من ميل إلى نحو عشرين ميلاً.
    قُبْرُسَ جزيرة كبيرة في بحر الروم غربي سوريا كان فيها كثير من اليهود (انظر شرح ص ٤: ٣٦).
    أَنْطَاكِيَةَ مدينة عظيمة على عدوة نهر العاصي وعلى أمد خمسة عشر ميلاً من مصبه. كانت قصبة سورية زمناً طويلاً بناها سلوقس سنة ٣٠١ قبل الميلاد وسماها باسم أبيه أنطيوخس وهي مشهورة بكثرة السكان وثروتهم وترفههم ووفرة أصنامها وهياكلها وبهاء تلك الهياكل وما في عبادتها من الفحشاء وكان أكثر سكانها من الوثنيين وكثيرون منهم يهوداً ذوي امتياز كالرومانيين. والذي جعل هذه المدينة من مشاهير المدن عند النصارى وهو أن المؤمنين بيسوع سُموا أولاً فيها «مسيحيين» وأنها صارت مركز البشارة الثاني لذلك الدين الجديد الذي أورشليم مركزه الأول.
    لاَ يُكَلِّمُونَ أَحَداً بِٱلْكَلِمَةِ أي الإنجيل.
    إِلاَّ ٱلْيَهُودَ فَقَطْ جرياً على رأي اليهود جميعاً أن بشرى الخلاص لهم دون الأمم. والأرجح أنهم لم يسمعوا نبأ كرنيليوس إذ ذلك حدث بعد الاضطهاد والتشتت.
    ٢٠ «وَلٰكِنْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَهُمْ رِجَالٌ قُبْرُسِيُّونَ وَقَيْرَوَانِيُّونَ، ٱلَّذِينَ لَمَّا دَخَلُوا أَنْطَاكِيَةَ كَانُوا يُخَاطِبُونَ ٱلْيُونَانِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِٱلرَّبِّ يَسُوع».
    قُبْرُسِيُّونَ كبرنابا (ص ٤: ٣٦).
    وَقَيْرَوَانِيُّونَ أي من أهل القيروان وهي بلاد شمالي إفريقية تابعة للرومانيين وتُعرف اليوم بتونس وكان فيها يومئذ كثيرون من مهاجري اليهود (متّى ٢٧: ٣٢). ونستنتج من القرينة أن هؤلاء المذكورين كانوا قد استوطنوا أورشليم وآمنوا بالرب فيها واضطروا أن يهربوا منها مع غيرهم من الإخوة زمن الاضطهاد ولجأوا إلى أنطاكية. والأرجح أنه كان منهم مناسون (ص ٢١: ١٦) ولوكيوس (ص ١٣: ١). وبما أن هؤلاء كانوا يهوداً غرباء قل تعصبهم عن تعصب يهود اليهودية.
    ٱلْيُونَانِيِّينَ تحتمل هذه الكلمة معنيين الأول أنهم يهود وُلدوا خارج اليهودية يتكلمون باللغة اليونانية. والثاني أنهم يونانيون أصلاً وديناً أي هم من الأمم والأرجح أن المراد هنا المعنى الثاني. لأنه لو كان المراد المعنى الأول لما كان من داع لذكر أن التلاميذ بشروهم لأن ذلك كان عادة الكنيسة منذ نشأتها انظر (ص ١: ٥ و٦: ١ و٩: ٢٩). وإن لم يكن المراد المعنى الثاني أي أن أولئك اليونانيين من الأمم لم يبقَ لنا في الإنجيل من نبإ بدخول الأمم كنيسة أنطاكية والمحقق أنه كان فيها كثيرون من الأمم (ص ١٥: ٣٠ و٣١).
    مُبَشِّرِينَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ كان المؤمنون بالمسيح من اليهود الغرباء أقل تعصباً من يهود اليهودية وأقل منهم خوفاً من الملامة اليهودية ولذلك لم يعتزلوا تبشير اليونانيين على سنن إخوتهم الذين لم يكلموا بالكلمة أحداً إلا اليهود (ع ١٩).
    ٢١ «وَكَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُمْ، فَآمَنَ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَرَجَعُوا إِلَى ٱلرَّبِّ».
    لوقا ١: ٦٦ وص ٢: ٤٧ ص ٩: ٣٥
    يَدُ ٱلرَّبِّ أي قوته. وعبّر عنها «باليد» جرياً على اصطلاح العبرانيين في الكتابات. وعبّر عنها أحياناً بالذراع (إشعياء ٥٣: ١ ويوحنا ١٢: ٢٨). وعبّر لوقا في بشارته «بيد الرب» عن قوة عمل المعجزات (لوقا ٤: ٢٩) ولعله لمّح هنا إلى ذلك بها.
    مَعَهُمْ أي مع المبشرين للأمم. ففي إظهار تلك القوة الإلهية برهان رضى الله بتبشيرهم الأمم وتشجيع لهم على مزاولة ذلك والمواظبة عليه.
    فَآمَنَ عَدَدٌ كَثِيرٌ صارت كنيسة أنطاكية سريعاً كنيسة كبيرة ذات تأثير (ص ١١: ٢٤ و٢٦ و١٣: ١).
    إِلَى ٱلرَّبِّ أي يسوع المسيح.
    ٢٢ «فَسُمِعَ ٱلْخَبَرُ عَنْهُمْ فِي آذَانِ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَأَرْسَلُوا بَرْنَابَا لِكَيْ يَجْتَازَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ».
    ص ٩: ٢٧
    ٱلْخَبَرُ أي خبر تبشير الأمم وإيمانهم بالمسيح.
    فِي آذَانِ هذا لا يشير إلى الأنباء سراً كما في (متّى ١٠: ٢٧) إنما هو عبارة عبرانية تمثل الجماعة شخصاً ذا جوارح وقوىً.
    ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ غلب في الإنجيل الإشارة بالكنيسة إلى كل جماعة الله في كل مكان وزمان ومن ذلك ما في (متّى ١٦: ١٨ وأفسس ١: ٢٢ وكولوسي ١: ١٨) ونذرت الإشارة بها إلى جماعة خاصة كما هنا وفي (١كورنثوس ١: ١ وغلاطية ١: ٢) وكانت كنيسة أورشليم أم الكنائس المسيحية وكانت لم تزل مركز الدين المسيحي في كل العالم وعلة ذلك قدمها وموقعها. وبما أن ما حدث في أنطاكية ظهر لمؤمني أورشليم أنه خارق العادة ومغائر لنظام الكنيسة أخذوا يسألون عن ذلك بالتدقيق كأنه مما يجب عليهم.
    فَأَرْسَلُوا أي أهل الكنيسة وهذا يشتمل على الرسل أيضاً كما يظهر من (ص ١٥: ٢). ولعل علة إرسالهم أيضاً أن مسيحي أنطاكية الذين من اليهود أرسلوا إلى كنيسة أورشليم يسألونها الإرشاد إلى ما يجب أن يتصرفوا في شأن الذين آمنوا من الأمم.
    بَرْنَابَا سبق الكلام عليه في (ص ٤: ٣٦). والأرجح أنهم اختاروه لهذه الخدمة لما فيه من الصفات التي اقتضتها الحال من الحكمة والمعرفة والتقوى ولشهرته بالوعظ بدليل أنه لقب «بابن الوعظ» فكان قادراً على التعليم وهو قبرسي الجنس فيكون أكثر قبولاً عند مبشري أنطاكية القبرسيين.
    لِكَيْ يَجْتَازَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ هذا يدل على أن الكنيسة وكلت إليه أن يبشر في كل مكان يدخله في طريقه لا في أنطاكية فقط.
    ٢٣ «ٱلَّذِي لَمَّا أَتَى وَرَأَى نِعْمَةَ ٱللّٰهِ فَرِحَ، وَوَعَظَ ٱلْجَمِيعَ أَنْ يَثْبُتُوا فِي ٱلرَّبِّ بِعَزْمِ ٱلْقَلْبِ».
    ص ١٣: ٤٣ و١٤: ٢٢
    نِعْمَةَ ٱللّٰهِ أي تأثير نعمة الله الذي ظهر بإنارة الأمم وتجديد قلوبهم.
    فَرِحَ يحتمل أنه توقع أن يجد ما يوجب الملام لأنه يهودي الأصل والتربية والاعتقاد لكنه لم يجد إلا ما يوجب السرور والمدح. وعلة فرحه مثل ما ذُكر في بشارة لوقا (ص ١٥: ٧ و١٠) من فرح ملائكة السموات.
    وَوَعَظَ ٱلْجَمِيعَ الخ اشتهر برنابا بالفصاحة بالوعظ بدليل تلقيبهم إياه «بابن الوعظ» وهو رسول كنيسة أورشليم ونائبها في أمر ذي شأن فيتوقع أن يكون وعظه مما يستحق كل الاعتبار ومما يتخذ قاعدة ومثالاً. وهذا الواعظ لم يوبخ الذين بشروا اليونانيين ولم يشر عليهم بالعدول عن مثل ذلك التبشير ولم يعلم المؤمنين هناك تعليماً جديداً. وما لنا من وعظه هنا سوى بضع كلمات خلاصتها ثلاثة أمور:

    • الأول: الثبات وهذا يبين لنا أهمية هذه الفضيلة في كل زمان ومكان. وكان مؤمنو أنطاكية في حاجة إلى النصح بذلك لأنه كان في تلك المدينة الوثنية تجارب شديدة تحتمل على الارتداد عن الدين الحق.
    • الثاني: الالتصاق بالرب نفسه باعتبار كونه حياً حاضراً فاعلاً بينهم بالروح وإن كان غائباً بالجسد. وهذا يعلمنا أن ما يقتضيه الدين الصحيح الثبات في المسيح نفسه لا مجرد الثبات في كنيسته أو تعليمه وجوهر الغرض من هذه النصيحة أن لا حاجة لهم إلى أن يحملوا نير الشريعة الموسوية ذريعة إلى قبول الإنجيل وأنه يكفيهم الثبات في من آمنوا به.
    • الثالث: أن يكون ذلك الثبات مبنياً على عزم القلب أي على الانفعالات القلبية والقصد الراسخ.


    ٢٤ «لأَنَّهُ كَانَ رَجُلاً صَالِحاً وَمُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلإِيمَانِ. فَٱنْضَمَّ إِلَى ٱلرَّبِّ جَمْعٌ غَفِيرٌ».
    ص ٦: ٥ ص ٥: ١٤ وع ٢١
    لأَنَّهُ كَانَ رَجُلاً صَالِحاً هذا علة لما ذُكر في الآية السابقة والمراد بكونه «صالحاً» أنه مخلص غير ذي ظنة ولا منتقد. ولكونه صالحاً فرح بالصالح أي خلاص الأمم مع أن طريق بلوغهم الخلاص كان غير ما كانت تقتضيه عقائده اليهودية. وكان بعض هذا الصلاح من أخلاقه الطبيعية وبعضه من تأثير النعمة الإلهية. وقد أظهر صلاحه سابقاً ببيع حقله ووضع ثمنه عند أقدام الرسل ليوزعوه على المحتاجين في أورشليم (ص ٤: ٣٧).
    وَمُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلإِيمَانِ هذا علة أخرى لفرحه ووعظه. وليس المراد من «امتلائه بالروح القدس» الوحي أو الإلهام بل كثرة تأثير الروح الإلهي من إنارة وتقديس. ومثل هذا يجعل كل مؤمن صالح الأفكار والأقوال والأعمال.
    فَٱنْضَمَّ الخ هذا نتيجة وعظ برنابا وهي زيادة على ما شاهده عند مجيئه وفرح به (ع ٢١) واستمرار للنجاح. وانضمام ذلك الجمع الغفير إلى الكنيسة إن لم يكن قد انضم أولاً إلى الرب بالإيمان فهو قليل النفع.

    دعوة برنابا لشاول إلى الاشتراك في التبشير ونتيجة أتعابهما ع ٢٥ و٢٦


    ٢٥ «ثُمَّ خَرَجَ بَرْنَابَا إِلَى طَرْسُوسَ لِيَطْلُبَ شَاوُلَ. وَلَمَّا وَجَدَهُ جَاءَ بِهِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ».
    ص ٩: ٣٠
    طَرْسُوسَ هي مدينة مشهورة كانت قصبة كيليكية في آسيا الصغرى واشتهرت بالتجارة والعلم وبكونها مولد بولس الرسول ووطنه (أعمال ٩: ١١ و٢١: ٣٩ و٢٢: ٣). وجد برنابا أن العمل في كرم الرب بين أمم أنطاكية عظيم حتى احتاج إلى معين. وعلم أهلية شاول لإعانته لأنه عرف ما كان من تجديد قلبه بمعجزة على طريق دمشق وهو الذي عرف الرسل به في أورشليم (ص ٩: ٢٧) وعرف حكمته وغيرته ومجاهرته اليهود في دمشق واليونانيين في أورشليم (ص ٩: ٢٩). والأرجح أنه علم قول الرب له حين أناره «مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ» (ص ٢٦: ١٧). وقوله فيه لحنانيا «هٰذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ الخ» (ص ٩: ١٥). وقوله له في رؤيا أورشليم «ٱذْهَبْ، فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى ٱلأُمَمِ بَعِيداً» (ص ٢٢: ٢١). ولا نعلم ما مرّ من الزمان منذ ترك شاول أورشليم وذهب إلى طرسوس (ص ٩: ٣٠) فذهب بعضهم إلى أنه تسع سنين وبعضهم إلى أنه لا يزيد على سنة. ولا نعلم بماذا شغل ذلك الزمان لكن مما اختبرنا من صفاته وتصرفه قبل ذلك وبعده نستنتج أنه لم يقعد بلا عمل. وظن الأكثرون أنه هو الذي أسس كنائس كيليكية التي ذُكرت بعد ذلك بزمن قصير (ص ١٥: ٤١). وأنه فعل وقتئذ الأفعال واحتمل المشقات المذكورة في (٢كورنثوس ١١: ٢٣ - ٢٧) ولا نرى محلاً لها في تاريخ سيرته إلا في ذلك الوقت.
    وَلَمَّا وَجَدَهُ هذا يدل على أن برنابا كان غير متحقق أفي طرسوس شاول أم في غيرها يبشر وأنه تعب حتى وجده.
    جَاءَ بِهِ الخ لا بد أن تكون علة تسليم شاول بطلب برنابا أن الله دعاه إلى عمل أعظم من العمل الذي كان يعمله فلم يسلم به لمجرد أن يرضي صاحبه برنابا ويساعده.
    ٢٦ «فَحَدَثَ أَنَّهُمَا ٱجْتَمَعَا فِي ٱلْكَنِيسَةِ سَنَةً كَامِلَةً وَعَلَّمَا جَمْعاً غَفِيراً. وَدُعِيَ ٱلتَّلاَمِيذُ «مَسِيحِيِّينَ» فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلاً» .
    ٱجْتَمَعَا أي حضرا معاً في بيت الله مع الشعب لقصد العبادة والتعليم وأتيا ذلك نحو سنة وهذا الأمر الأول مما ذُكر من أمور خدمتهما.
    جَمْعاً غَفِيراً هذا الأمر الثاني وهو أن الذين سمعوا تعليمهما كانوا كثيرين جداً وهذا وإن لم يلزم منه ضرورة أنهم اقتنعوا وآمنوا وتجددوا يدل مع القرينة على أنهم حصلوا على التعليم الذي هو وسيلة الخلاص وعلى أن التعليم كان مؤثراً.
    وَدُعِيَ ٱلتَّلاَمِيذُ «مَسِيحِيِّينَ» الخ هذا هو الأمر الثالث وهو أنه في ذلك الزمان وذلك المكان لقب أتباع يسوع بلقب جديد. ولم يذكر الكتاب من لقبهم به لكن المقام يقتضي أن غيرهم دعاهم به لأنهم هم كانوا يدعوا بعضهم بعضاً إخوة وتلاميذ. ويبعد عن الظن أن اليهود سموهم بذلك لأن به تسليماً بأن يسوع الناصري هو المسيح. وذهب بعضهم إلى أنهم لُقبوا به بالوحي بدليل أن الكلمة التي تُرجمت هنا بلفظة «دُعي» هي في الأصل اليوناني عين الكلمة التي تُرجمت بلفظة «أُوحي» في (متّى ٢: ١٢). وذهب آخرون إلى أن المسيحيين رومانيون بدليل أن صيغة الكلمة χριστιανοι (أي مسيحيين) رومانية الأصل أي لاتينية. ولا نعلم أللتحقير لقبوهم بذلك أم للتمييز عن سائر اليهود على أن هذا اللقب ذُكر بعد ذلك مرتين كان في كليهما للتحقير (ص ٢٦: ٢٨ و١بطرس ٤: ١٦). ولعل علة تلقيب الرومانيين لأتباع يسوع «بالمسيحيين» كثرة ذكرهم للمسيح الذي هو موضوع تبشيرهم وكانوا ينادون به نبياً وكاهناً وملكاً واتكلوا على موته لنوال التبرير وعلى اسمه لقبول صلواتهم. وكان محور تسبيحهم في أغانيهم الروحية واتخذوا كلامه شريعة لهم وسيرته مثالاً لحياتهم. وانتظروا مجيئه إلى الأرض دياناً للعالم وحفظوا يوم قيامته وقدسوه ودعوه «يوم الرب» واعتمدوا باسمه وذكروا موته بسر العشاء الرباني.
    وكان تلقبهم «بالمسيحيين» في نحو السنة العاشرة للصلب في مدينة أنطاكية وهي المدينة الثالثة في العظمة عند الرومانيين (والأولى رومية والثانية الاسكندرية) واشتهرت أنطاكية بعظمتها وحسن موقعها وبهاء أبنيتها ونفاستها وكثرة أصنامها وهياكلها وترفه أهلها وخلاعتهم. وكثيراً ما جلب هذا اللقب على أهله العار والخسارة والموت لكنهم اتحدوا به بالمسيح واشتركوا في بره ومجده.

    إرسال برنابا وشاول إلى أورشليم ع ٢٧ إلى ٣٠


    ٢٧ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ ٱنْحَدَرَ أَنْبِيَاءُ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ».
    ص ٢: ١٧ و١٣: ١ و١٥: ٣٢ و٢١: ٩ و١كورنثوس ١٢: ٢٨ وأفسس ٤: ١١
    فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي مدة تبشير برنابا وشاول في أنطاكية.
    أَنْبِيَاءُ أناس ألهمهم الله أن يُعلنوا إرادته وكان من عملهم أن ينبئوا ببعض الأمور المستقبلة. ولا نعلم هل كان جولانهم للتبشير كما ذُكر هنا من فروضهم العامة أو كان أمراً خاصاً وهو أن ينذروا كنيسة أنطاكية بجوع يأتي ليجمعوا من إحسانهم ما يساعدون به الفقراء من الإخوة في أورشليم.
    ٢٨ «وَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ ٱسْمُهُ أَغَابُوسُ، وَأَشَارَ بِٱلرُّوحِ أَنَّ جُوعاً عَظِيماً كَانَ عَتِيداً أَنْ يَصِيرَ عَلَى جَمِيعِ ٱلْمَسْكُونَةِ ٱلَّذِي صَارَ أَيْضاً فِي أَيَّامِ كُلُودِيُوسَ قَيْصَرَ».
    ص ٢١: ١٠
    وَقَامَ وَاحِدٌ في أثناء اجتماع الكنيسة ليخاطبهم علناً.
    أَغَابُوسُ لم نسمع من أمره غير ما ذُكر هنا وما ذُكر في (ص ٢١: ١٠).
    أَشَارَ بِٱلرُّوحِ أي أعلن إعلاناً نبوياً.
    أَنَّ جُوعاً عَظِيماً (انظر شرح ص ٧: ١١).
    عَلَى جَمِيعِ ٱلْمَسْكُونَةِ جرى الكاتب على اصطلاح اليونانيين والرومانيين من ذكر العام وإرادة الخاص لأنه كان كل من الفريقين يعبر عن بلاده أو مملكته بالمسكونة تعظماً وافتخاراً وعلى ذلك يكون مراد لوقا «بالمسكونة» هنا بلاد سورية وفلسطين لأنه يهودي أو المملكة الرومانية (انظر شرح لوقا ٢: ١). وإذا كان المراد «بالمسكونة» هنا فلسطين كان الجوع المشار إليه ما حدث في السنة الرابعة (وهي سنة ٤٤ ب.م). والخامسة والسادسة من سني ملك كلوديوس قيصر ومات به كثيرون في اليهودية كما شهد المؤرخون يوسيفوس وأوسابيوس وأوروسيوس. وفي السنة التاسعة من ملكه حدث جوع شديد في بلاد اليونان على قول أوسابيوس. وعلمنا مما كتبه المؤرخان الرومانيان تاسيطوس وسويتونيوس أنه حدث جوع في رومية حتى أن أهل المدينة رموا الأمبراطور بالحجارة وهو مار في الطريق. ولحصول هذه المجاعات في أوقات يقرب بعضها من بعض صح أن تُعتبر مجاعة واحدة وأنها عامة جميع المسكونة أي المملكة الرومانية كما سبق.
    ٢٩ «فَحَتَمَ ٱلتَّلاَمِيذُ حَسْبَمَا تَيَسَّرَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يُرْسِلَ كُلُّ وَاحِدٍ شَيْئاً، خِدْمَةً إِلَى ٱلإِخْوَةِ ٱلسَّاكِنِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ».
    رومية ١٥: ٢٦ و١كورنثوس ١٦: ١ و٢كورنثوس ٩: ١
    حَتَمَ ٱلتَّلاَمِيذُ أي حكم مسيحيو أنطاكية وجوباً.
    حَسْبَمَا تَيَسَّرَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أي على قدر طاقة كل من الأغنياء والفقراء من مؤمني أنطاكية.
    أَنْ يُرْسِلَ... خِدْمَةً أي إحساناً. وهذا يدل على أمرين الأول شدة اتحاد بعض المسيحيين ببعض ومواساة بعضهم لبعض مع اختلافهم في الجنس. والثاني أن مؤمني أنطاكية كانوا أحسن حالاً من مؤمني أورشليم. والظاهر مما سبق ومما يأتي في هذا السفر أن كنائس اليهودية كانت في حاجة دائمة وأن سائر الكنائس كان يُدعى إلى مساعدتها. وكانت كنيسة أنطاكية وسائر الكنائس الأولى توجب على نفسها مساعدة كنيسة أورشليم لأنه أم الكنائس (رومية ١٥: ٢٥ - ٢٧ و١كورنثوس ١٦: ١ - ٤ و٢كورنثوس ٨: ١ - ١٥ و٩: ١ - ١٥).
    واعلم أن قانون العطاء الذي سنّه مسيحيو أنطاكية على أنفهسم وهو أن كل واحد يعطي باختياره ما استطاع يجب أن يسنّه كل المسيحيين على أنفسهم في كل زمان ومكان. وبمثل هذا أنبأ بولس كنيسة كورنثوس (١كورنثوس ١٦: ٢ و٢كورنثوس ٨: ١٢).
    ٱلإِخْوَةِ أي المؤمنين وهو وصف ثان لهم في هذه الآية ولعل علة وصفهم هنا «بالإخوة» محبتهم الظاهرة في إرسال هذا الإحسان كأنهم أهل بيت واحد.
    ٣٠ «فَفَعَلُوا ذٰلِكَ مُرْسِلِينَ إِلَى ٱلْمَشَايِخِ بِيَدِ بَرْنَابَا وَشَاوُلَ».
    ص ٢٠: ١٧ و٢٨ وتيطس ١: ٥ ص ١٢: ٢٥
    فَفَعَلُوا ذٰلِكَ أي أجروا ما قصدوا حالاً وأظهروا محبتهم لأم الكنائس فعلاً.
    ٱلْمَشَايِخِ المرجح أن المراد «بالمشائخ» هنا عمدة الكنيسة. ولعلهم كانوا حينئذ يشتملون على الرسل لأن كلاً من الرسولين بطرس ويوحنا دعا نفسه شيخاً من المشائخ (١بطرس ٥: ١ و٢يوحنا ١ و٣يوحنا ١).
    وقفنا في الإنجيل على تعيين الرسل وتعيين الشمامسة بين اليهود المتنصرين ولم نقف فيه على تعيين شيخ إنما وقفنا على أن المشائخ كانوا في الكنيسة. والأرجح أن علة عدم ذكر تعيينهم أن رتبة المشائخ كانت دائماً ضرورية في نظام اليهود ديناً وسياسة. ولما انتظمت الكنيسة المسيحية بقيت رتبة المشائخ كالعادة بدون ذكر لذلك. ولكن لم يكن مثل هذا بين الأمم فلما انتظمت كنيسة مسيحية منهم اقتضى أمرها أن تعين المشائخ تعييناً خاصاً (ص ١٤: ٢٣). ومن سماهم اليهود مشائخ استحسن الأمم أن يسموهم قسوساً وأساقفة أي نظاراً. ولما كانت إحدى الكنائس تتألف من اليهود والأمم سموهم مشائخ وأحياناً قسوساً والمعنى واحد (انظر ص ٢٠: ١٧ و١٨ وتيطس ١: ٥ و٧ ويعقوب ٥: ١٤).
    بِيَدِ أي بواسطة. لم يبقوا ما جمعوه من الإحسان عندهم إلى عود برنابا إلى أورشليم في نهاية سنة خدمته هنالك (ع ٢٦) بل أرسلوه وشاول بمال الإحسان خاصة (ص ١٢: ٢٥). فيظهر من ذلك أن هذين كانا معتبرين جداً في كنيسة أنطاكية وأن مؤمني أنطاكية اعتبروا توزيع الإحسان من أهم الفروض المسيحية. ويبين من تقديم برنابا على شاول هنا وفي ص ١٣: ١ و٢ أن برنابا كان إلى تلك الساعة أكثر من شاول اعتباراً.


    الأصحاح الثاني عشر


    استشهاد يعقوب وسجن بطرس ونجاته ع ١ إلى ١٩


    ١ «وَفِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ مَدَّ هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ يَدَيْهِ لِيُسِيءَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ ٱلْكَنِيسَةِ».
    فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي وقت مجيء برنابا وشاول إلى اليهودية المذكور في ص ١١: ٣٠) وكان سنة ٤٤ ب. م.
    هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ هو أغريباس الأول أخو هيروديا المذكورة في (متّى ١٤: ٣) فهو غير هيرودس المذكور في (متّى ٢: ١ و٣) وغير المذكور في (مرقس ٦: ١٤). إنما هو حفيد الأول وابن أخي الثاني أي أرستبولس الذي قتله جده هيرودس الكبير في سنة ٧ ب. م. وكان هيرودس أغريباس الأول قد أرسل عند مقتل أبيه إلى رومية ورُبي هنالك مع كليغولا وكلوديوس وهم في سن الصباء. ولما صار طيباريوس أمبراطوراً واغتاظ منه وسجنه ولما خلفه كليغولا أخرجه من سجنه وصاغ له سلاسل من ذهب وزنها كوزن سلاسل الحديد التي قيّد بها وولاه جزءاً من مملكة جده هيرودس الكبير. ولما خلفه كلوديوس ولاه بقية مملكة هيرودس الكبير وكانت منقسمة بعد وفاته بين أرخيلاوس وفيلبس وأنتيباس (انظر شرح متّى ٢: ٢٢).وهذا الملك مع أنه رُبي بين الوثنيين تظاهر حين استولى على اليهودية بالغيرة للدين اليهودي والشريعة الموسوية لكي يرضي اليهود لأنه استولى عليهم بأمر الرومانيين وكانوا يكرهون أن يستولوا على بلادهم كل الكراهة وصعب عليهم أن يقبلوا ملكاً يعينه الرومانيون عليهم.
    يَدَيْهِ لِيُسِيءَ أي شرع في أن يظلم ويضطهد المسيحيين إما بالسجن وإما بالنفي وإما بسلب الأموال وإما بالقتل لغاية سياسية وهي تثبيت ملكه. وهذا أول اضطهاد ثار على المسيحيين من الرؤساء السياسيين وما سبق من الاضطهاد أثاره الرؤساء الدينيون.
    وكانت بداءة هذا الاضطهاد السياسي سنة ٤٤ ب. م. وهي سنة نهاية السلام الذي تمتعت الكنيسة به أيام أمبراطورية كليغولا كما ذُكر في (ص ٩: ٣١) فانظر شرح ذلك.
    أُنَاسٍ مِنَ ٱلْكَنِيسَةِ لم يذكر هنا عددهم ولا أسماؤهم والأرجح أن هؤلاء الناس من عامة الكنيسة والذين ذُكروا بعدهم هم من الرؤساء. وغاية الكاتب من ذلك أن يفهم القارئ أنه إن كان مثل ذلك قد وقع على الرؤساء فكم يكون الواقع على العامة المرؤوسة.
    ٢ «فَقَتَلَ يَعْقُوبَ أَخَا يُوحَنَّا بِٱلسَّيْفِ».
    متّى ٤: ٢١ و٢٠: ٢٣
    يَعْقُوبَ هو ممن دعاهم المسيح أولاً رسلاً (متّى ١٠: ١). وكان أحد الثلاثة الذين قربهم المسيح إليه خاصة إذ أخذهم معه حين أقام ابنة يايرس (مرقس ٥: ٣٧). وحين تجلّى على الجبل (متّى ١٧: ١). وحين تألم في بستان جثسيماني (متّى ٢٦: ٣٧).
    أَخَا يُوحَنَّا مات يعقوب قبل أن كتب لوقا هذا السفر بسنين ولكن يوحنا كان حياً مشهوراً فذكر أنه «أخو يوحنا» بياناً لمن يجهلونه.
    بِٱلسَّيْفِ أي قطع رأسه على ما يرجح كما فعل عمه بيوحنا المعمدان. وهذا القتل مما عده اليهود إهانة ولو حكم مجلس السبعين عليه بالتجديف مثلاً لحكم بقتله رجماً. فيحق أن يُحسب ما حدث له إيضاحاً لقول المسيح له ولأخيه «أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ» (متّى ٢٠: ٢٢). وكان يعقوب أول من مات من الرسل وأخوه يوحنا آخر من مات منهم على الأرجح. وكانت آلام يوحنا في خدمة المسيح أطول مدة من آلام يعقوب وإن كانت أقل شدة. ولنا من كونه أول من قبض عليهم هيرودس أنه كان من المتقدمين المشهورين بين المسيحيين.
    ٣ «وَإِذْ رَأَى أَنَّ ذٰلِكَ يُرْضِي ٱلْيَهُودَ، عَادَ فَقَبَضَ عَلَى بُطْرُسَ أَيْضاً. وَكَانَتْ أَيَّامُ ٱلْفَطِيرِ».
    خروج ١٢: ١٤ و١٥ و٢٣: ١٥
    وَإِذْ رَأَى أَنَّ ذٰلِكَ يُرْضِي ٱلْيَهُودَ عامتهم لا رؤساءهم فقط فالظاهر أن أفكار عامة اليهود تغيرت من جهة المسيحيين عما كانت عليه قبلاً كما بُين في (ص ٢: ٤٧ و٥: ١٣) من «أنه كان لهم نعمة عند الشعب وأن الشعب كان يعظمهم». والأرجح أن علة هذا التغير الحسد من كثرتهم والبغض لهم من الجدال العنيف بينهم ولعل الذي هيّج غضبهم هنا قبول المسيحيين المبغضين. والظاهر أنه لم يكن عارفاً أنه يسر بذلك الشعب إلى هذا الحد قبل الامتحان. وكانت غايته من ذلك الاضطهاد كغاية هيرودس الكبير من ترميم الهيكل لا الرغبة في الدين اليهودي ويتضح ذلك مما ذُكر في ع ٢٢ من استعداده أن يقبل لنفسه العبادة التي لا تجوز لغير الله.
    قَبَضَ عَلَى بُطْرُسَ أَيْضاً لأنه من أكبر الرسل منزلة واعتباراً ولعله رجح أن يلاشي المسيحيين إذا قتل رؤساءهم وكذا ظن الأمبراطور ديسيوس سنة ٢٤٩ - ٢٥١ ب. م واجتهد في أن يقتل كل مبشري الكنيسة ورؤساءها. وظن دوكليانوس أنه يلاشي الدين المسيحي بملاشاته المساجد والكتب المسيحية وكان كل ذلك باطلاً لأن الكنيسة كانت تزداد بزيادة الاضطهاد.
    أَيَّامُ ٱلْفَطِيرِ أي الأيام السبعة التي لا يحل لليهود فيها أن يكون في بيوتهم شيء من الخمير (خروج ١٢: ٨ و٢٧ وتثنية ١٦: ٣٨ ومتّى ٢٦: ١٧ ومرقس ١٤: ١٢ ولوقا ٢٢: ١ و٧). وكانت بداءة تلك الأيام اليوم الرابع عشر من نيسان وهي هنا في السنة الحادية عشرة من صلب المسيح. ولعل علة اختيار هيرودس ذلك الوقت لما فعل كثرة اليهود حينئذ في أورشليم وسرعة انتشار نبإ اضطهاده غيرة للدين اليهودي بذلك.
    ٤ «وَلَمَّا أَمْسَكَهُ وَضَعَهُ فِي ٱلسِّجْنِ، مُسَلِّماً إِيَّاهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَرَابِعَ مِنَ ٱلْعَسْكَرِ لِيَحْرُسُوهُ، نَاوِياً أَنْ يُقَدِّمَهُ بَعْدَ ٱلْفِصْحِ إِلَى ٱلشَّعْبِ».
    يوحنا ٢١: ١٨
    مُسَلِّماً إِيَّاهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَرَابِعَ فضلاً عن السجن العادي. وهذا دليل على شدة الحرص عليه كأنه أسير ذو شأن يخشى أن ينقذه أصدقاؤه. والمراد «بالأربعة الأرابع» ستة عشر جندياً كان من نظام الرومانيين أن يقسموهم أربعة أقسام نوبة كل أربعة منهم ثلاث ساعات يحرس اثنان من الأربعة خارج باب السجن واثنان داخله ويد كلٍ منهما مربوطة بيد المسجون.
    أَنْ يُقَدِّمَهُ... إِلَى ٱلشَّعْبِ لا للمحاكمة بل لمشاهدتهم قتله والدليل على أنه قصد قتله ما تقدم آنفاً من قتل يعقوب ورضى الشعب بذلك. وغاية هيرودس من تأخير قتل بطرس إلى نهاية العيد إظهار غيرته في حفظ السنن اليهودية فإنهم كانوا يحسبون القتل في أيام الأعياد تنجيساً لها (يوحنا ١٨: ٢٨). فأظهر بذلك اعتباراً للعقائد اليهودية لم يظهره رؤساء الكهنة أنفسهم لأنهم أجبروا بيلاطس على صلب يسوع في العيد على خلاف ما ذُكر. نعم أنهم لم يشاءوا في أول الأمر أن يُصلب في العيد لكن علة ذلك خوفهم من حدوث شغب في الشعب (متّى ٢٦: ٥) لا من مخالفة سنتهم الدينية وعلته معرفته أن أفكار اليهود تكون مشغولة بممارسة الرسوم مدة أيام العيد فلا يسرون بقتل بطرس السرور الذي قصده لهم.
    ٥ «فَكَانَ بُطْرُسُ مَحْرُوساً فِي ٱلسِّجْنِ، وَأَمَّا ٱلْكَنِيسَةُ فَكَانَتْ تَصِيرُ مِنْهَا صَلاَةٌ بِلَجَاجَةٍ إِلَى ٱللّٰهِ مِنْ أَجْلِهِ».
    ٢كورنثوس ١: ١١ وأفسس ٦: ١٨ و١تسالونيكي ٥: ١٧
    مَحْرُوساً فِي ٱلسِّجْنِ هذا تقرير لما سبق ساق الكاتب إليه بيان علة صلوات الكنيسة من أجل بطرس فكأنه قال حين كان هيرودس يحرس بطرس بجنوده كانت الكنيسة تصلي من أجله. وفي ذلك تلميح إلى العلاقة بين الصلاة وما عقبها من النجاة.
    وَأَمَّا ٱلْكَنِيسَةُ... صَلاَةٌ هذا الأمر ذو شأن عظيم لأن قوة الصلاة أعظم من قوة الملك وجيشه فإنها تحرّك يد الله القادر على كل شيء. وقد أصابت الكنيسة ما ذُكر لأن الضيقات الخاصة تقتضي صلوات خاصة.
    بِلَجَاجَةٍ هذا دليل على شدة محبة الكنيسة لبطرس وشعورها بعظمة الخطر المحيط به واحتياجها إلى بقائه معها. ولعل علة أن الكنيسة لم تصل كذلك بغية نجاة يعقوب أنه قُبض عليه وقُتل بغتة فلم يكن لها فرصة للصلاة من أجله.
    إِلَى ٱللّٰهِ لا لهيرودس لكي يعفو عن بطرس ولا لأحد من أهل الجاه ليشفع فيه عند الملك. وفي ذلك مثال لكل المظلومين والمضطهدين لأجل البر وهو أن يسألوا الله نفسه الذي في يده قلوب جميع الناس وبسلطانه كل ما يحدث قبل أن يتخذوا غير ذلك من الوسائل وأن يتوكلوا على الله أعظم التوكل.
    ٦ «وَلَمَّا كَانَ هِيرُودُسُ مُزْمِعاً أَنْ يُقَدِّمَهُ، كَانَ بُطْرُسُ فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ نَائِماً بَيْنَ عَسْكَرِيَّيْنِ مَرْبُوطاً بِسِلْسِلَتَيْنِ، وَكَانَ قُدَّامَ ٱلْبَابِ حُرَّاسٌ يَحْرُسُونَ ٱلسِّجْنَ».
    مُزْمِعاً أَنْ يُقَدِّمَهُ للقتل أمام الناس في نهاية العيد كما نوى (ع ٤).
    فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ أي ليلة اليوم المعين لقتله. أخّر الله نجاة بطرس إلى أن بقي لوقت مقتله المقصود بضع ساعات. لأن نجاته لم تكن إلا في آخر ليلة بقيت وفي الهزيع الرابع منها بدليل قوله في ع ١٨ أن العسكر لم يشعروا بذهاب بطرس إلا عند طلوع النهار وهم يتبدلون كل ثلاث ساعات فلو أُخرج قبل الهزيع الأخير لكانوا شعروا وهم يتبدلون. وكثيراً ما اختبر المسيحيون أمثال ما كان من أمر بطرس.
    وإذا الأمور تعسرت وتعقّدت نزل القضاء من السماء فحلّها
    نَائِماً هذا يدل على اطمئنان بطرس أي أنه لم يضطرب من خطره وقرب موته (وهو أمر لا بد أن يكون قد عرفه) لأنه حفظ قول سيده «لاَ تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ وَلٰكِنَّ ٱلنَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا» (متّى ١٠: ٢٨). فما أعظم اطمئنان المسيحي الذي الله متوكله ومن ضميره مستريح ومن يعرف أن الموت ربح له.
    مَرْبُوطاً بِسِلْسِلَتَيْنِ بيديه اليمنى بيسرى أحد العسكريين واليسرى بيمين الآخر. كذا كانت العادة قديماً عند شدة الاحتراس. قال يوسيفوس أنه كذا رُبط هيرودس أغريباس الأول بأمر طيباريوس.
    ٧ «وَإِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ أَقْبَلَ، وَنُورٌ أَضَاءَ فِي ٱلْبَيْتِ، فَضَرَبَ جَنْبَ بُطْرُسَ وَأَيْقَظَهُ قَائِلاً: قُمْ عَاجِلاً. فَسَقَطَتِ ٱلسِّلْسِلَتَانِ مِنْ يَدَيْهِ».
    ص ٥: ١٩
    وَإِذَا أي أن ما حدث لم يكن متوقعاً.
    مَلاَكُ ٱلرَّبِّ (انظر شرح ص ٥: ١٩) الأرجح أنه ظهر في هيئة بشرية ولعل بطرس كان ينتظر حين استيقظ قدوم الجلاد ليقوده إلى القتل وإذا ملاك قادم لإنقاذه. أتاه رسول الله بدلاً من رسول هيرودس.
    وَنُورٌ انظر شرح (ص ٩: ٣). يحتمل أن يكون هذا النور من خواص الملائكة المقبلين من سماء النور والمجد أو أنه نور عادي أرسله الله تسهيلاً لخروج بطرس. وكذا ظهر الملاك للرعاة ببشرى ميلاد المسيح (لوقا ٢: ٩).
    فِي ٱلْبَيْتِ أي السجن وعبّر عنه بالبيت تلطيفاً.
    فَضَرَبَ أي ضرباً خفيفاً كافياً للتنبيه.
    أَيْقَظَهُ قَائِلاً أي نبهه بالضرب والصوت ولا ريب في أن الحراس داخلاً وخارجاً ظلوا في سباتهم.
    قُمْ عَاجِلاً أي بلا توقف لريب أو سؤال.
    فَسَقَطَتِ ٱلسِّلْسِلَتَانِ كأنه كان ماسكاً إياهما لا مربوطاً بهما. ومثل ذا حدث في سجن فيلبي لكل مسجونيه (ص ١٦: ٢٦) وهذا يرينا أن الله يجري مقاصده بكل سهولة.
    ٨ «وَقَالَ لَهُ ٱلْمَلاَكُ: تَمَنْطَقْ وَٱلْبَسْ نَعْلَيْكَ. فَفَعَلَ هٰكَذَا. فَقَالَ لَهُ: ٱلْبَسْ رِدَاءَكَ وَٱتْبَعْنِي».
    تَمَنْطَقْ هذا يدل على أن بطرس كان قد حلّ ثيابه للنوم حتى لم يحسن أن يخرج بها وهي على تلك الحال.
    وَٱلْبَسْ نَعْلَيْكَ كان النعل يومئذ جلداً يمكّن بأخمص القدم بسيور من الجلد تربط على ظهرها. كان من أمثال اليونانيين حثاً على السرعة قولهم لا نتعوّق حتى تربط نعليك. ولعل بطرس كان عازماً للإسراع على أن يذهب بلا حذاء فكان الملاك قصد بما أمره أن يبيّن له أن لا موجب للإسراع خوفاً.
    ٱلْبَسْ رِدَاءَكَ الرداء ثوب يُلبس فوق الثياب. لم يلبس الملاك بطرس بل أمره بأنه يلبس إذ لم تكن من حاجة إلى ذلك فاقتصر على عمل ما لا يستطيعه بطرس. وأمره إيّاه بما يشغل وقتاً كالتمنطق ولبس الرداء لا ينافي قوله له «قم عاجلاً» لأنه قصد بأمره إيّاه بسرعة القيام أن لا يتعوق لريب أو سؤال وأمره بما ذُكر مما يشغل وقتاً ليمنع منه الخوف الناتج من ضعف الإيمان كخوف الآراميين الذين هربوا من أمام السامرة وطرحوا ثيابهم في الطريق من عجلتهم (٢ملوك ٧: ١٥). ولعله كان من غاية الملاك من كل تلك الأوامر أن يؤكد لبطرس أن الحادثة حق واقع لا حلم أو رؤيا.
    ٩ «فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ وَكَانَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ ٱلَّذِي جَرَى بِوَاسِطَةِ ٱلْمَلاَكِ هُوَ حَقِيقِيٌّ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْظُرُ رُؤْيَا».
    مزمور ١٢٦: ١ وص ١٠: ٣ و١٧ و١١: ٥
    فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ طوعاً لأمره.
    وَكَانَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ ٱلَّذِي جَرَى... هُوَ حَقِيقِيٌّ لأن الحوادث غريبة لم تتوقع وقد حدثت في السرعة والهدوء وكانت من الأمور التي تظهر أنها مستحيلة. وكان بطرس في أول يقظته من النوم بين منتبه ونائم وقد شاهد نوراً غير عادي فحيّره ذلك وعربسه كما يتضح من قول الكاتب فيه بعد ذلك «قد رحع إلى نفسه» (ع ١١).
    يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْظُرُ رُؤْيَا أن بطرس من عهد قريب رأى رؤيا في يافا (ص ١٠: ١١ و١٢) فرحج أن ما حدث له في السجن كان مثل تلك الرؤيا لا أمراً حقيقياً. كذلك يصعب على شعب الله أن يصدقوا في أول الفرج مداخلة الله في أمورهم عند الضيق إذ يظهر لهم أن تلك المداخلة مما لا يمكن نواله.
    ١٠ «فَجَازَا ٱلْمَحْرَسَ ٱلأَوَّلَ وَٱلثَّانِيَ، وَأَتَيَا إِلَى بَابِ ٱلْحَدِيدِ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْمَدِينَةِ، فَٱنْفَتَحَ لَهُمَا مِنْ ذَاتِهِ، فَخَرَجَا وَتَقَدَّمَا زُقَاقاً وَاحِداً، وَلِلْوَقْتِ فَارَقَهُ ٱلْمَلاَكُ».
    ص ١٦: ٢٦
    ٱلْمَحْرَسَ ٱلأَوَّلَ وَٱلثَّانِيَ هما قسمان من السجن في كل منهما بعض الحراس. وهذا يرجح لنا أن بطرس كان في السجن الداخلي كما كان بولس وسيلا في فيلبي (ص ١٦: ٢٤).
    إِلَى بَابِ ٱلْحَدِيدِ ذكر لوقا هذا الباب بناء على كونه معروفاً أو بناء على وجود مثله في كل سجن.
    فَٱنْفَتَحَ لَهُمَا مِنْ ذَاتِهِ كذا ظهر لبطرس لأنه لم تكن له يد في فتحه ولم ير الملاك واضعاً يده عليه ولم يشاهد شيئاً من أدوات الفتح المنظورة ونحن نعلم أن يد الله فتحته.
    وَتَقَدَّمَا زُقَاقاً وَاحِداً أي قطعاه واحداً طولاً حتى قطعه زقاق ثانٍ.
    فَارَقَهُ ٱلْمَلاَك أي توارى عن عينيه لأنه أجرى كل ما أرسل له فترك بطرس وحده لكنه تركه طليقاً قادراً أن يعتني بنفسه.
    ١١ «فَقَالَ بُطْرُسُ، وَهُوَ قَدْ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ: ٱلآنَ عَلِمْتُ يَقِيناً أَنَّ ٱلرَّبَّ أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَأَنْقَذَنِي مِنْ يَدِ هِيرُودُسَ، وَمِنْ كُلِّ ٱنْتِظَارِ شَعْبِ ٱلْيَهُودِ».
    مزمور ٣٤: ٧ ودانيال ٣: ٢٨ و٦: ٢٣ وعبرانيين ١: ١٤ أيوب ٥: ١٩ ومرقس ٣٣: ١٨ و١٩ و٣٤: ٢٢ و٤١: ٢ و١٧: ١٠ و٢كورنثوس ١: ١٠ و٢بطرس ٢: ٩
    رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ جمع كل ما تشتت من أفكاره حتى استطاع أن يحكم بحقيقة ما حدث صواباً ويعلم أرؤيا هو أو أمرٌ واقع في عالم الحس وهذا إصلاح ما ذُكر من أمره في (ع ٩).
    ٱلآنَ عَلِمْتُ يَقِيناً بعد ما تأمل في كل الأحوال اتضح له أربعة أمور:

    • الأول: أنه حصل على النجاة فلم يصبه ما أصاب يعقوب.
    • الثاني: أن تلك النجاة لم تكن إلا بقوة الله بواسطة خادمه الملاك.
    • الثالث: أن تلك النجاة حصلت على رغم هيرودس مع كل ما اتخذه من عظم الوسائط.
    • الرابع: أنها كانت خيبة لليهود الحاسدين المتعصبين الذين ابتهجوا بقتل يعقوب وتوقعوا المسرة بمشاهدة قتل ثانٍ من الرؤساء المسيحيين.


    شَعْبِ ٱلْيَهُودِ عبّر عن أعداء المسيحيين من اليهود بالشعب كله لكثرتهم.
    ١٢ «ثُمَّ جَاءَ وَهُوَ مُنْتَبِهٌ إِلَى بَيْتِ مَرْيَمَ أُمِّ يُوحَنَّا ٱلْمُلَقَّبِ مَرْقُسَ، حَيْثُ كَانَ كَثِيرُونَ مُجْتَمِعِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ».
    ص ٤: ٢٣ وع ٢٥ و١٠: ٣٧ ع ٥
    وَهُوَ مُنْتَبِهٌ أي متأمل في ما يجب أن يعمله.
    إِلَى بَيْتِ مَرْيَمَ هذا يدل على أنه عزم أن يواجه بعض أصحابه المسيحيين قبل أن يتوارى عن جواسيس هيرودس. ولعل علة إتيانه هذا البيت قربه من المكان الذي كان فيه وأن صاحبة البيت كانت من أصدقائه وأنه اعتاد الإتيان إلى بيتها.
    يُوحَنَّا ٱلْمُلَقَّبِ مَرْقُسَ هو كاتب البشارة الثانية والأرجح أن يوحنا اسمه الشائع بين اليهود ومرقس اسمه المشهور بين الأمم وقد كان ذلك حسب عادة كثيرين في تلك الأيام. ذُكر مراراً بعد هذا أنه رافق برنابا وبولس في أسفارها (ع ٢٥ و١٣: ١٣ و١٥: ٣٧ و٣٩) وذكره بولس معيناً له في ثلاث من رسائله (كولوسي ٤: ١٠). دعاه بطرس ابنه بالإيمان بمعنى أنه كان ممن أرشدهم إلى الحق ولعل الصداقة التي نشأت عن هذا كان من أسباب مجيئه إلى بيت أمه في ذلك الوقت.
    حَيْثُ كَانَ كَثِيرُونَ مُجْتَمِعِينَ الخ كان اجتماعهم لغاية مخصوصة وهي أن يصلوا من أجل بطرس. ولعل من علل اجتماعهم ليلاً أن شدة الاضطهاد منعتهم من الاجتماع نهاراً. والأرجح أنهم اجتمعوا على خلاف العادة وشغلوا أكثر الليل بالصلاة لشدة ضيق بطرس ومعرفتهم أنه لم يبق من فرصة لهم في غير تلك الليلة للصلاة من أجله لعلمهم أن هيرودس عازم على أن يقتله صباحاً. ولعلهم قووا رجاءهم بأن تذكروا كيف نجى الله دانيال من جب الأسود وشدرخ وميشخ وعبدنغو من أتون النار.
    فانظر ما أقوى فاعلية تلك الصلاة أنها كانت أقوى من عزم هيرودس وحراسة العسكر فإنها حلت سلسلتي بطرس وفتحت أبواب سجنه وأتت به إلى البيت الذي كانت الصلاة لأجله تصعد منه.
    ١٣ «فَلَمَّا قَرَعَ بُطْرُسُ بَابَ ٱلدِّهْلِيزِ جَاءَتْ جَارِيَةٌ ٱسْمُهَا رَوْدَا لِتَسْمَعَ».
    قَرَعَ بُطْرُسُ كان الباب موصداً لأنه كان ليل فضلاً عن أن ذلك الوقت كان وقت شدة الاضطهاد والخوف.
    رَوْدَا لفظة يونانية معناها وردة.
    لِتَسْمَعَ جواب قولها مَن ذا.
    ١٤ «فَلَمَّا عَرَفَتْ صَوْتَ بُطْرُسَ لَمْ تَفْتَحِ ٱلْبَابَ مِنَ ٱلْفَرَحِ، بَلْ رَكَضَتْ إِلَى دَاخِلٍ وَأَخْبَرَتْ أَنَّ بُطْرُسَ وَاقِفٌ قُدَّامَ ٱلْبَابِ».
    عَرَفَتْ صَوْتَ بُطْرُسَ لأنها كانت قد سمعته بتكلم مراراً إما في البيت وإما في المعبد أو في كليهما.
    لَمْ تَفْتَحِ ٱلْبَابَ مِنَ ٱلْفَرَحِ ذهلت عن فتح الباب فرحاً بنجاة بطرس ورغبة في سرعة التبشير بمجيئه للمجتمعين. ومثل هذا كثيراً ما يحدث للناس في مثل تلك الحال. وسرورها دليل على أنه كان صديقها وأنه كان متواضعاً يصادق الناس على اختلاف مراتبهم.
    ١٥ «فَقَالُوا لَهَا: أَنْتِ تَهْذِينَ!. وَأَمَّا هِيَ فَكَانَتْ تُؤَكِّدُ أَنَّ هٰكَذَا هُوَ. فَقَالُوا: إِنَّهُ مَلاَكُهُ!».
    تكوين ٤٨: ١٦ ومتّى ١٨: ١٠
    فَقَالُوا كان لهم إيمان كاف بفاعلية الصلاة ليحلهم على أن يصلوا من أجل بطرس لكنه لم يكن كافياً ليحملهم على تصديق وقوع الإجابة عندما أخذت مفعولها. وعلى ذلك عظمة البركة التي حصلوا عليها في موانع ظهر لهم أن إزالتها ضرب من المحال فمالت قلوبهم إلى اليأس أكثر من ميلها إلى الرجاء. كذا صعب على يعقوب تصديق البشارة بأن ابنه يوسف حي (تكوين ٢٥: ٤١) وتصديق رسل المسيح في أول الأمر نبأ قيامته (لوقا ٢٤: ٤١).
    تَهْذِينَ أظهروا ضعف ثقتهم أولاً بأن حكموا على الجارية باختلال العقل لذلك النبإ كأنهم ظنوا اختلال عقلها أقرب وقوعاً من مجيء بطرس.
    فَكَانَتْ تُؤَكِّدُ هذا خلاف ما يأتيه مختلو العقول لأن من شأنهم أن ينتقلوا سريعاً من وهم إلى آخر.
    فَقَالُوا إِنَّهُ مَلاَكُهُ حكموا بهذا بعد أن تيقنوا أن الجارية لم تهذِ وهو أنه قد أتى الملاك الذي عينه الله لحراسة بطرس متكلماً بمثل صوته وأنه وقف بالباب لينبئ بموته أو بقرب أجله. وزعمهم أن لكل إنسان ملاكاً حارساً ليس له من سند كاف في كتاب الله إلا أن الكتاب يؤكد لنا حراسة الملائكة للمؤمنين إجمالاً ومن ذلك ما جاء في (تكوين ٤٨: ١٦ ومزمور ٩١: ١١ وجامعة ٥: ٦ ومتّى ١٨: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤).
    ١٦ «وَأَمَّا بُطْرُسُ فَلَبِثَ يَقْرَعُ. فَلَمَّا فَتَحُوا وَرَأَوْهُ ٱنْدَهَشُوا».
    يتبيّن من هذه الآية أنه مهما يكن من توقعهم نتائج صلاتهم لم يكونوا يتوقعون ما حدث على سرعته وكماله.
    ١٧ «فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ لِيَسْكُتُوا، وَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ أَخْرَجَهُ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسِّجْنِ. وَقَالَ: أَخْبِرُوا يَعْقُوبَ وَٱلإِخْوَةَ بِهٰذَا. ثُمَّ خَرَجَ وَذَهَبَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ».
    ص ١٣: ١٦ و١٩: ٣٣ و٢١: ٤٠
    فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ كعادة الخطباء في بداءة خطابهم تنبيهاً للسامعين.
    لِيَسْكُتُوا الأرجح أنهم كانوا يتكلمون جميعاً إظهاراً لمسرتهم بنجاته.
    أَخْرَجَهُ ٱلرَّبُّ أي بواسطة الملاك.
    وَقَالَ أي بطرس للمجتمعين.
    يَعْقُوبَ أي يعقوب بن حلفى (ص ١: ٣١) لأن يعقوب بن زبدي كان قد قُتل (ع ٢). ولعل علة تخصيصه بالأخبار أنه لم يكن غيره من الرسل في أورشليم أو لأنه عيّن ناظراً لكنيسة أورشليم.
    وَٱلإِخْوَةَ أي سائر المسيحيين في أورشليم.
    خَرَجَ إما من بيت مريم وإما من المدينة.
    مَوْضِعٍ آخَرَ حيث يأمن هيرودس أو جواسيسه إلى أن ينتهي الخطر. ذهب بعضهم إلى أنه سافر حينئذ إلى رومية وهذا لا سند له لأنه كان في أورشليم أيام حدوث ما ذُكر في (ص ١٥: ٧).
    ١٨ «فَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ حَصَلَ ٱضْطِرَابٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ بَيْنَ ٱلْعَسْكَرِ: تُرَى مَاذَا جَرَى لِبُطْرُسَ؟».
    فَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ هذا يقتضي أن إخراج بطرس من السجن كان في الهزيع الرابع لان العساكر الأربعة تُبدل كل ثلاث ساعات ولو كان ذلك الإخراج قبل الهزيع الرابع لعرفوا قبل وقت الصباح بواسطة البدل في الساعة الثالثة أو السادسة أو التاسعة من الليل.
    ٱضْطِرَابٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ الخ لفرار أسير معتبر وعدم أدنى أثر يدل على كيفية فراره ولتوقع الحراس أن يُقتلوا عقاباً على ذلك الفرار.
    ١٩ «وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا طَلَبَهُ وَلَمْ يَجِدْهُ فَحَصَ ٱلْحُرَّاسَ، وَأَمَرَ أَنْ يَنْقَادُوا إِلَى ٱلْقَتْلِ. ثُمَّ نَزَلَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ وَأَقَامَ هُنَاكَ».
    فَحَصَ ٱلْحُرَّاسَ ليعرف منهم كيف نجا بطرس. والأمر واضح أنه لم يحصل على شيء منهم يفيده معرفة أو يفيدهم تبريراً.
    وَأَمَرَ أَنْ يَنْقَادُوا إِلَى ٱلْقَتْلِ يحتمل أنه أمر بذلك لأربعة أسباب:

    • الأول: أنه كان بمقتضى ما أوجبته الشريعة الرومانية على من ينام من الحرّاس في نوبته أو لا يمنع الأسير أو المسجون من الفرار (متّى ٢٨: ١٤ وأعمال ١٦: ٢٧). وكان هيرودس لتربيته في رومية يعلم الشريعة العسكرية الرومانية.
    • الثاني: أنه اغتاظ جداً حين خاب أمله من أنه يحصل على اعتبار الشعب بقتل بطرس أمامهم فشفى غيظه بسفك دم الحراس كما فعل جده بقتل أطفال بيت لحم حين خاب أمله من مسك يسوع وهو طفل.
    • الثالث: أنه حكم بأن فرار بطرس لم يكن إلا بإرادة الحراس فقتلهم.
    • الرابع: أنه إن كان لم يحكم بأن فراره كذلك فلا بد من أنه عاقبهم كمجرمين دفعاً لاعتقاد الناس ان الله نجى بطرس بمعجزة. والمرجح أن أكثر اليهود ظنوه فرّ بخيانة الحراس كما ظنوا تلاميذ يسوع سرقوا جسده من القبر والحراس نيام (متّى ٢٨: ١٥).


    ثُمَّ نَزَلَ... إِلَى قَيْصَرِيَّةَ هذه المدينة ثاني أورشليم في مملكة هيرودس وهي على شاطئ البحر في التخم الشمالي من تلك المملكة جعلها الرومانيين قصبة المملكة فجرى هيرودس على ما جروا عليه. ولا دليل لنا على أن هيرودس فتش عن بطرس أو اضطهد المسيحيين بعد ذلك.
    وَأَقَامَ هُنَاكَ هذا لم يلزم منه أن هيرودس لم يقم هناك قبلاً والمعنى أنه بقي هناك سائر أيام حياته والمرجح أنها لم تكن كثيرة.

    موت هيرودس أغريباس ع ٢٠ إلى ٢٥


    ٢٠ «وَكَانَ هِيرُودُسُ سَاخِطاً عَلَى ٱلصُّورِيِّينَ وَٱلصَّيْدَاوِيِّينَ، فَحَضَرُوا إِلَيْهِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَٱسْتَعْطَفُوا بَلاَسْتُسَ ٱلنَّاظِرَ عَلَى مَضْجَعِ ٱلْمَلِكِ، ثُمَّ صَارُوا يَلْتَمِسُونَ ٱلْمُصَالَحَةَ لأَنَّ كُورَتَهُمْ تَقْتَاتُ مِنْ كُورَةِ ٱلْمَلِكِ»
    ١ملوك ٥: ٩ و١١ وعزرا ٣: ٧ وحزقيال ٢٧: ١٧
    سَاخِطاً لا نعلم ماذا كان سبب غيظه لكن يحتمل أن يكون المباراة بين تجّار قيصرية التي جُعلت ميناء جديدة للتجارة البحرية وتجّار المدينتين الفينيقيتين الذين كانت تلك التجارة لهم دون غيرهم.
    ٱلصُّورِيِّينَ وَٱلصَّيْدَاوِيِّينَ أي أهل صور وصيدا وهما من أمهات مدن فينيقية التي كانت خاضعة للرومانيين وكانت مهنتهم الاتجار بحراً في البلاد الأجنبية.
    بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أي متفقين كل الاتفاق وفي هذا تلميح إلى أن أهل المدينتين لم يكونوا كذلك قبلاً.
    بَلاَسْتُسَ المرجح أنه روماني لأن اسمه لاتيني ولا عجب من أن هيرودس كان قد استخدم الرومانيين لأنه تقضى عليه أكثر الحياة في رومية.
    ٱلنَّاظِرَ عَلَى مَضْجَعِ ٱلْمَلِكِ الشائع عند كل الملوك أن يستخدموا أناساً في هذه الرتبة مارسوا الخدمة بأنفسهم أم لا ولا يجعلون في تلك الرتبة إلا من كان من أصدقائهم الخاصة وأهل مشورتهم.
    كُورَتَهُمْ تَقْتَاتُ مِنْ كُورَةِ ٱلْمَلِكِ المُراد «بكورة الملك» مملكة هيرودس وهي اليهودية وتوابعها. كانت فينيقية ساحلاً ضيقاً فكانت غلالها لا تقوم بحاجة أهلها فاضطرت أن تجلب الحنطة وغيرها من مواد التغذية من البلاد المجاورة ولا سيما اليهودية وتُعطى بدلاً منها المنسوجات وأشكالها مما أتت به من البلاد الأجنبية بحراً (١ملوك ٥: ١١ وحزقيال ٢٧: ١٧) ولم يكن لهيرودس أن يحارب الذين سخط عليهم بدون إذن الرومانيين بالأرجح أنه منع التجارة بين فينيقية وما استولى عليه من البلاد فاضطر الفينيقيون ببداءة المجاعة التي أنبأ بها أغابس (ص ١١: ٢٨).
    ٢١ «فَفِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ لَبِسَ هِيرُودُسُ ٱلْحُلَّةَ ٱلْمُلُوكِيَّةَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْمُلْكِ وَجَعَلَ يُخَاطِبُهُمْ».
    فَفِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ كان هيرودس قد بنى قيصرية منذ نحو خمسين سنة وعيّن عيداً في كل خمس سنين يُحتفل فيه إكراماً لأوغسطس قيصر الذي نسب المدينة إليه. قال يوسيفوس المؤرخ أن ذلك العيد كان في شهر آب في ما يوافق سنة ٤٤ ب. م وأن هيرودس عيّن اليوم الثاني من العيد لمقابلة سفراء صور وصيدا وإظهار الصفح عنهم والمسالمة لهم وأنه دخل في ذلك اليوم مشهد قيصرية الكبير في الحلة الملكية الفاخرة الموشاة بالأسلاك الفضية فلما وقعت الشمس عليها ضاءت بيضاء جهرت به العيون وهذا على وفق قول لوقا هنا «لَبِسَ هِيرُودُسُ ٱلْحُلَّةَ ٱلْمُلُوكِيَّةَ» .
    كُرْسِيِّ ٱلْمُلْكِ أي مرتقي يختص بالملوك والولاة في ذلك المشهد.
    وَجَعَلَ يُخَاطِبُهُمْ الأرجح أنه أظهر لهم أن عفوه عنهم وحلمه عليهم من أعظم الهبات وأن تعدّيهم عليه كان من شر الذنوب.
    ٢٢ «فَصَرَخَ ٱلشَّعْبُ: هٰذَا صَوْتُ إِلٰهٍ لاَ صَوْتُ إِنْسَانٍ!».
    فَصَرَخَ ٱلشَّعْبُ الخ كان الصوريون والصيداويون وثنيين وكذا كان أكثر سكان قيصرية فلم يروا من إثم في إقامة هيرودس مقام إلهٍ. والأرجح أن الذين ابتدأوا ذلك الصراخ هم الفينيقيون إظهاراً لامتنانهم لحلم الملك وأن وثني قيصرية اقتدوا بهم وصرخوا معهم. ولا يمكن أن يقول يهودي قولهم لأنه يعتقده تجديفاً محضاً ولكن الملك سر بذلك وقبله كأنه مما يستحقه كما يظهر من الآية التالية. وما أعظم الفرق بينه وبين بطرس إذ لم يسمح لكرنيليوس أن يسجد له (ص ١٠: ٢٦).
    ٢٣ «فَفِي ٱلْحَالِ ضَرَبَهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ لأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ ٱلْمَجْدَ لِلّٰهِ، فَصَارَ يَأْكُلُهُ ٱلدُّودُ وَمَاتَ».
    ١صموئيل ٢٥: ٣٨ و٢صموئيل ٢٤: ١٧ مزمور ١١٥: ١
    فَفِي ٱلْحَالِ كانت الضربة في الحال لا الموت.
    ضَرَبَهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ لا يلزم من ذلك أن الملاك ظهر للحاضرين فالمراد أن ما أصابه كان من الله بواسطة ملاك. وكثيراً ما نسب الكتاب المقدس الإصابة بالمرض والموت إلى الملائكة الذين هم الواسطة لهما. ومن ذلك ما جاء في (٢صموئيل ٢٤: ١٦ و١أيام ٢١: ١٢ و١٥ و٢أيام ٣٢: ٢١).
    لأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ ٱلْمَجْدَ لِلّٰهِ أي لأنه قبل لنفسه المجد المختص بالله ولم يوبخ الذين قدموه له.
    فَصَارَ يَأْكُلُهُ ٱلدُّودُ وَمَاتَ وهذا مرض مكروه شديد الإيلام وله في التاريخ أمثال منها مصاب أنطيوخس أبيفانس الذي اضطهد اليهود شديداً. ومصاب فراتيما ملكة القيروان التي اشتهرت بقساوتها ومصاب الأمبراطور كاليريوس آخر مضطهدي الكنيسة من الملوك الرومانيين. وما قاله لوقا في موت هيرودس يوافق ما قاله يوسيفوس في ذلك إلا أنه لم يشخص مرضه كما شخصه لوقا الطبيب واكتفى بأن قال أصابه مرض شديد في أحشائه وأنه مات بعد خمسة أيام من ضربته. ومما قاله يوسيفوس أن هيرودس مات في سن الرابعة والخمسين والسنة الرابعة من ملكه.
    ٢٤ «وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱللّٰهِ فَكَانَتْ تَنْمُو وَتَزِيدُ».
    إشعياء ٥٥: ١١ وص ٦: ٧ و١٩: ٢٠ وكولوسي ١: ٦
    كَلِمَةُ ٱللّٰهِ أو الديانة المسيحية أي الكنيسة التي نشأت بكلمة الله أعني الإنجيل وتمسكت بالحق لمعلن فيه. ولهذا المجاز نظائر في الكتاب منها ما في (ص ٦: ٧ و١٩: ٢).
    فَكَانَتْ تَنْمُو وَتَزِيدُ أي يكثر أعضاؤها وتتوفر نعمتها (على رغم الاضطهاد الذي أثاره هيرودس) لما شاهده الناس من شجاعة المؤمنين المسيحيين وصبرهم على الاضطهاد وكان ذلك نتيجة موت هيرودس وسكون الاضطهاد وتمكن المبشرين من فرص التبشير. ولعل نجاة بطرس العجيبة شاع نبأها حينئذ فتحقق كثيرون من الناس أن الديانة المسيحية من الله.
    ويحسن هنا أن نقول انظر عظمة الفرق بين الأحوال المذكورة في بداءة هذا الأصحاح ونهايته ففي أوله كان هيرودس الملك في كل سلطته وافتخاره يتيقن قدرته ان يقتل بطرس ويلاشي الكنيسة المسيحية. وكانت الكنيسة في ضيق وكان بطرس في السلاسل مسجوناً محكوماً عليه بالقتل. وفي نهايته كان بطرس في الحرية التامة والكنيسة تنمو عدداً وقوة وهيرودس يأكله الدود إلى أن مات. وكان كل ذلك التغيّر العظيم نتيجة صلوات المسيحيين فما أعظم قوة الصلاة وما أشد بطلان مقاومة الأعداء للكنيسة. فكأن هذا الأصحاح جاء إيضاحاً وإثباتاً للمزمور الثاني.
    ٢٥ «وَرَجَعَ بَرْنَابَا وَشَاوُلُ مِنْ أُورُشَلِيمَ بَعْدَ مَا كَمَّلاَ ٱلْخِدْمَةَ، وَأَخَذَا مَعَهُمَا يُوحَنَّا ٱلْمُلَقَّبَ مَرْقُسَ».
    ص ١١: ٢٩ و٣٠ ع ١٢ وص ١٣: ٥ و١٣ و١٥: ٣٧
    رَجَعَ بَرْنَابَا وَشَاوُلُ مِنْ أنطاكية إلى أُورُشَلِيمَ.
    بَعْدَ مَا كَمَّلاَ ٱلْخِدْمَةَ التي وكلها إليها كنيسة أنطاكية وهي تأدية الكنيسة في أورشليم مال الإحسان الذي أرسلته مساعدة لها في المجاعة المتوقعة (ص ١١: ٣٠).
    القرينة تدل على حدوث الحوادث المذكورة في هذا الأصحاح أو أكثرها مدة وجودهما في أورشليم للقيام بتلك الخدمة.
    يُوحَنَّا ٱلْمُلَقَّبَ مَرْقُسَ المذكور في (ع ١٢) والأرجح أن من أسباب استخدام برنابا إيّاه كونه ابن أخته (كولوسي ٤: ١٠).


    الأصحاح الثالث عشر


    تعيين برنابا وشاول لخدمة معيّنة ع ١ إلى ٣


    ١ «وَكَانَ فِي أَنْطَاكِيَةَ فِي ٱلْكَنِيسَةِ هُنَاكَ أَنْبِيَاءُ وَمُعَلِّمُونَ: بَرْنَابَا، وَسِمْعَانُ ٱلَّذِي يُدْعَى نِيجَرَ، وَلُوكِيُوسُ ٱلْقَيْرَوَانِيُّ، وَمَنَايِنُ ٱلَّذِي تَرَبَّى مَعَ هِيرُودُسَ رَئِيسِ ٱلرُّبْعِ، وَشَاوُلُ».
    ص ١١: ٢٧ و١٤: ٢٦ و١٥: ٣٥ ١كورنثوس ١٢: ٢٨ وأفسس ٤: ١١ ص ١١: ٢٢ و٢٦ رومية ١٦: ٢١
    هذا الأصحاح بداءة القسم الثاني من قسمي هذا السفر العظيمين اللذين يصح أن تقسمه إليهما. ومعظم الأول بيان أعمال بطرس ومعظم الثاني بيان أعمال بولس. ويشتمل الأول على نمو كنيسة المسيح حول أورشليم باعتبار أنها مركز البشارة ومعظم هذا النمو بين اليهود. ويشتمل الثاني على نمو الكنيسة من أنطاكية باعتبار أنها مركز البشارة في سورية وآسيا الصغرى حتى رومية ومعظم هذا النمو بين الأمم.
    فِي أَنْطَاكِيَةَ هذه المدينة صارت مركزاً ثانياً للإنجيل ومنها امتدت الكنيسة في العالم ولا سيما الأمم. وابتدأ منها الجولان للتبشير في البلاد التي هي خارج اليهودية. هذا توسيع دائرة التبشير الذي ابتدأه الاثنا عشر رسولاً والسبعون تلميذاً.
    واشتهرت أنطاكية لأمرين الأول تسمية اتباع يسوع مسيحيين فيها (ص ١١: ٢٦). والثاني ابتداء الجولان للتبشير في البلاد الأجنبية.
    فِي ٱلْكَنِيسَةِ هُنَاكَ قصد الكاتب بذكر «الكنيسة» بيان أنها كانت محكمة النظام والترتيب في عمدتها وخدمها.
    أَنْبِيَاءُ وَمُعَلِّمُونَ يحتمل أن في هذا إشارة إلى نوعين من المعلمين أحدهما ملهم والثاني غير ملهم والأرجح أن الأنبياء والمعلمين هنا صفتان لجماعة واحدة من خدم الدين تستطيع النبوءة والتعليم. وعلى ذلك يكون كل من برنابا ومن ذُكر بعده هنا نبياً ومعلماً أي ينبئ بأمور المستقبل ويفسر أقوال الوحي.
    بَرْنَابَا تقدم الكلام أنه من أقدم مبشري الكنيسة المسيحية (ص ٤: ٣٦) وأنه رسول كنيسة أنطاكية (ص ١١: ١٢). ولعله كان راعي تلك الكنيسة أو شيخها.
    سِمْعَانُ اسم شائع بين اليهود واسمه الروماني نيجر أي أسود ولكونه كان في كنيسة أنطاكية بعض القيروانيين (ص ١١: ٢٠) ذهب بعضهم إلى أنه سمعان القيرواني الذي حمل صليب المسيح (متّى ٢٧: ٣٢).
    لُوكِيُوسُ ٱلْقَيْرَوَانِيُّ لا نعرف من أمره غير ما ذُكر هنا وذهب بعضهم إلى أنه لوقا كاتب هذا السفر ولكن ليس من دليل كافٍ لإثبات مذهبهم.
    مَنَايِنُ لفظ هذا الاسم منحيم في العبراني (٢ملوك ١٥: ١٤).
    تَرَبَّى مَعَ هِيرُودُسَ أي أمه أرضعت هيرودس معه على ما يفيد الأصل اليوناني ويُحتمل أنه كان رفيق هيرودس منذ الطفولة. وهيرودس هذا كثيراً ما ذُكر في البشائر واشتهر بأنه قاتل يوحنا المعمدان وهو هيرودس أنتيباس.
    شَاوُلُ حُسب من الأنبياء والمعلمين لكنه ذُكر آخراً لأنه لم يكن قد عُرف بأن الله عيّنه رسولاً.
    ٢ «وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ وَيَصُومُونَ قَالَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ: أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ».
    عدد ٨: ١٤ وص ٩: ١٥ و٢٢: ٢١ ورومية ١: ١ وغلاطية ١: ١٥ و٢: ٩ متّى ٩: ٣٨ وص ١٤: ٢٦ ورومية ١٠: ١٥ وأفسس ٣: ٧ و٨ و١تيموثاوس ٢: ٧ و٢تيموثاوس ١: ١١ وعبرانيين ٥: ٤
    يَخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ في كل ما يتعلق بالعبادة الجمهورية في الكنيسة ولا سيما الصلاة والتعليم.
    وَيَصُومُونَ لم يعيّن الإنجيل الصوم من فروض الدين كالصلاة وقراءة الإنجيل لكنه أشار إلى أنه مفيد ولائق في بعض الأحوال بشرط أن يقترن بالصلاة. وهو يمكن الإنسان من أحكامها. وليس من دليل على أن الصوم بلا صلاة يفيد شيئاً روحياً لأن الله لا يسر بألم الإنسان من الجوع والعطش. ولا ريب في أنه كان القصد من تلك الصلاة وذلك الصوم التضرع لله لينشر دينه في العالم ويبيّن لهم ما يجب عليهم في ذلك.
    قَالَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ إما بصوت سمعه الجميع وإما بإعلان خاص لاحد الأنبياء ليخبر الجميع به.
    أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ أي نحّوهما عن الخدمة هنا والاجتماع معكم ليخدموني خدمة مخصوصة.
    لِلْعَمَلِ الخ أي للتبشير في البلاد الأجنبية علاوة على التنبوء والتعليم اللذين كانا يأتيانهما مع سائر الأنبياء والمعلمين المذكورين آنفاً. ودعوة الله برنابا وشاول هنا تضمنها أمر المسيح لجميع تلاميذه منذ إحدى عشرة سنة وهو قوله «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها». ولكن الكنيسة غفلت عن الإسراع إلى ذلك فلزم أن نبهها الروح القدس عليها ودعا بعض أفرادها إلى القيام به. والروح الذي دعاهما إلى ذلك لم يزل يدعو المبشرين الوطنيين للخدمة في الوطن أو في الخارج رعاة أو مرسلين فليس لأحد أن يباشر تلك الخدمة ما لم يدعُهُ الله إليها وليس لمن دعاه الله إليها أن يأباها. وكما كان على كنيسة أنطاكية فضلاً عن أن تجعل نورها يضيء في مكانها أن تمد هذا النور إلى أماكن مختلفة كذلك على كل كنيسة أن تكون مركزاً لنشر نور الإنجيل في العالم فإنه ضروري لحياتها ونموها.
    ٣ «فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ٱلأَيَادِيَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا».
    ص ٦: ٦
    فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا كما كان عليه أو كُرر ذلك هنا للتقرير. وأتوا ذلك بغية الحصول على بركة الله في مشروعهم الجديد.
    وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ٱلأَيَادِيَ علامة إفرازهما للخدمة الخاصة وبيان أنه هما اللذان طلبوا حلول النعمة الإلهية عليهما (انظر ص ٦: ٨ و٨: ١٧ و٩: ١٢) وهذا ليس رسماً لهما للعمل القسيسي لأنهما عُرفا أنهما مارسا ذلك العمل مدة ليست بقليلة على أحسن أسلوب وكانا قد عُرفا مبشرين فعُرفا الآن رسولين (ص ١٤: ٤ و١٤) إلا أن بولس صرح بأن رسولتيه من المسيح نفسه لا من إنسان (٢كورنثوس ١٢: ٥ وغلاطية ١: ١٧). على أن بولس لم يكن من الاثني عشر رسولاً بدلاً من يهوذا إذ قيل أن «متياس حُسب مع الاحد عشر رسولاً» (ص ١: ٢١). إنما كان رسولاً للأمم عيّنه المسيح علاوة على الاثني عشر.
    هذا النبأ لا يلزم منه أن برنابا وشاول لم يكونا عارفين به قبلاً لاحتمال أن الله أعلنه لهما على انفراد وكانا يتوقعان الإعلان جهراً بالتفصيل. وقد وقع ذلك لشاول بدليل قوله في خطابه لشعب أورشليم «فَقَالَ لِي: ٱذْهَبْ، فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى ٱلأُمَمِ بَعِيداً» (ص ٢٢: ٢١). وهذا كان قبل إعلان الروح إفرازه وبرنابا في كنيسة أنطاكية. ولعلهما دعوا الكنيسة عند أمر الروح إلى إقامة الصلاة والصوم لطلب إرشاد الله إلى ما يجب أن يعملاه.

    جولان برنابا وشاول الأول للتبشير ووصولهما إلى قبرس ع ٤ إلى ١٢


    ٤ «فَهٰذَانِ إِذْ أُرْسِلاَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱنْحَدَرَا إِلَى سَلُوكِيَةَ، وَمِنْ هُنَاكَ سَافَرَا فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى قُبْرُسَ».
    ص ٤: ٣٦
    إِذْ أُرْسِلاَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ قيل في الآية السابقة أن الكنيسة أرسلتهما فدفعاً للخطأ كرّر قوله بياناً أن المرسل لهما هو الروح القدس بواسطة الكنسية.
    ٱنْحَدَرَا نزلا من أنطاكية إلى شاطئ البحر.
    إِلَى سَلُوكِيَةَ هي مدينة اسمها اليوم السويدية بناها سلوكس ونسبها إلى اسمه وهي قرب مصب العاصي كانت يومئذ مينا أنطاكية وهي على أمد ستة عشر ميلاً منها غرباً.
    ِ إِلَى قُبْرُسَ جزيرة كبيرة كانت يومئذ للرومانيين وكان فيها كثيرون من اليهود وكانت مشهورة بالخصب وغنى السكان وترفههم. ولا نعلم لماذا اختارا هذه الجزيرة لافتتاح تبشيرهما إلا قربهما من أنطاكية (فإنها لا تبعد أكثر من خمسين ميلاً عن سلوكية) وكونها مولد برنابا (ص ٤: ٣٦) وكون بعض مؤمني أنطاكية أصله من قبرس فرغب في أن يبشرا أهله وأقاربه قبلاً.
    ٥ «وَلَمَّا صَارَا فِي سَلاَمِيسَ نَادَيَا بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ فِي مَجَامِعِ ٱلْيَهُودِ. وَكَانَ مَعَهُمَا يُوحَنَّا خَادِماً».
    ع ٤٦ ص ١٢: ٢٥ و١٥: ٣٧
    سَلاَمِيسَ مدينة قديمة في الجنوب الشرقي من قبرس تسمى اليوم فماغسطا وكانت يومئذ أوفر مدن قبرس تجارة.
    بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ أي ببشارة الفداء بالمسيح.
    فِي مَجَامِعِ ٱلْيَهُودِ أتيا ذلك طوعاً لأمر المسيح بأن يبشر اليهود أولاً ولتكون لهما فرصة التبشير لجمهور من الناس كانوا يجتمعون هناك لسمع كلام العهد القديم وشرحه. واعتاد شاول أن يدخل المجمع في كل مدينة دخلها ومن ذلك ما أتاه في دمشق (ص ٩: ٢٠) وفي انطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٤) وفي تسالونيكي (ص ١٧: ١) وفي كورنثوس (ص ١٨: ٤).
    يُوحَنَّا خَادِماً في الجسديات أو الروحيات أو كليهما استعداداً لعمل إنجيلي أعظم من هذه الخدمة ويوحنا هذا هو مرقس ابن أخت برنابا.
    ٦ «وَلَمَّا ٱجْتَازَا ٱلْجَزِيرَةَ إِلَى بَافُوسَ وَجَدَا رَجُلاً سَاحِراً نَبِيّاً كَذَّاباً يَهُودِيّاً ٱسْمُهُ بَارْيَشُوعُ».
    ص ٨: ٩
    ٱجْتَازَا ٱلْجَزِيرَةَ من سلاميس غرباً إلى بافوس شرقاً والمسافة بينهما نحو مئة ميل وطول الجزيرة كله ١٥٠ ميلاً. والمرجح أنهما بشرا في المدن الصغيرة على طريقهما كعادة المبشرين (انظر ص ٨: ٢٥ و٤٠ و٩: ٣٢).
    بَافُوسَ مدينة على شاطئ الجزيرة الغربي فيها دار الولاية الرومانية اشتهرت قديماً بعبادة الزهرة وكان لها هيكل عظيم قرب تلك المدينة. واعتبروا بافوس مولد تلك الإلاهة وأنها نشأت من زبد البحر هنالك.
    سَاحِراً (انظر شرح ص ٨: ٩).
    نَبِيّاً كَذَّاباً يَهُودِيّاً أي يهودي الأصل ادعى الإلهام ومعرفة ما في الغيب كذباً من أن شريعته حرمت السحر (لاويين ١٩: ٣١ و٢٠: ٦ وتثنية ١٨: ٩ - ١٢). وكثر مثل هذا في تلك الأيام ومنهم سيمون الساحر (ص ٨: ٩) وجارية فيلبي (ص ١٦: ٢٦) وبنو سكاوا (ص ٩: ١٣) وأرباب كتب السحر في أفسس (ص ١٩: ١٩). وكانت غايتهم الربح والشهرة والسلطة كما عُلم من أمر سيمون وسندوا دعواهم الباطلة إلى معرفتهم كتبهم الدينية وكتب رقىً وعزائم نسبوها إلى سليمان الحكيم زوراً.
    ٱسْمُهُ بَارْيَشُوعُ أي ابن يشوع.
    ٧ «كَانَ مَعَ ٱلْوَالِي سَرْجِيُوسَ بُولُسَ، وَهُوَ رَجُلٌ فَهِيمٌ. فَهٰذَا دَعَا بَرْنَابَا وَشَاوُلَ وَٱلْتَمَسَ أَنْ يَسْمَعَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ».
    كَانَ مَعَ ٱلْوَالِي رفيقاً ومشيراً. ذهب بعضهم إلى أن علة استخدام الوالي الروماني الوثني لهذا اليهودي الساحر أن كثيرين من عقلاء الرومانيين وحكمائهم كانوا في ريب شديد من دينهم الوثني. وقد أنبأهم اليهود بمجيء معلم عظيم ومنقذ قدير من اليهود فأثر فيهم ذلك البنأ فجعلهم عرضة لخداع مثل هذا الساحر اليهودي.
    رَجُلٌ فَهِيمٌ ذو بصيرة ونظر يحب معرفة الخفيات التي ادعى بار يشوع إعلانها ومما يثبت فهمه دعوته الرسولين والتسليم بصحة تعليمهما.
    دَعَا بَرْنَابَا وَشَاوُلَ المرجح أنهما كانا قد ناديا بالإنجيل في المدينة وسمع الوالي نبأهما ويتوقع من مثله أن يستحضر ذينك المعلمين المشهورين اللذين أتيا من سورية بتعليم جديد.
    أَنْ يَسْمَعَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ أي التعليم الجديد الذي أعلن برنابا وشاول بمناداتهما أنهما أخذاه عن الله. والأرجح أنه طلب سمعهما كفيلسوف يبغي معرفة المحدثات لا لأنه كان مهتماً وقتئذ بخلاص نفسه أو مقتنعاً أن تعليمهما من الله.
    ٨ «فَقَاوَمَهُمَا عَلِيمٌ ٱلسَّاحِرُ، لأَنْ هٰكَذَا يُتَرْجَمُ ٱسْمُهُ، طَالِباً أَنْ يُفْسِدَ ٱلْوَالِيَ عَنِ ٱلإِيمَانِ».
    خروج ٧: ١١ و٢تيموثاوس ٣: ٨
    فَقَاوَمَهُمَا عَلِيمٌ عليم كلمة آرامية كالعربية لفظاً ومعنىً وهي اسم ثان لبار يشوع بُني على ما ادعاه من علم الغيب. وكانت مقاومته الرسولين بالجدال والاستهزاء وحمل كلامهما على غير المعنى الذي أراداه. ولا ريب في أنه اتخذ الصداقة القديمة التي بينه وبين الوالي وسيلة إلى تلك المقاومة. وكانت غايته منها منع الوالي من أن يتأثر من تعليمهما فيفقد هو أرباحه منه وسلطته عليه.
    يُفْسِدَ ٱلْوَالِيَ عَنِ ٱلإِيمَانِ أي يمنعه عن الديانة الجديدة التي ناديا بها بكل ما استطاع من الوسائل أو عن التسليم بفداء المسيح وصحة إنجيله تسليماً قلبياً.
    ٩ «وَأَمَّا شَاوُلُ، ٱلَّذِي هُوَ بُولُسُ أَيْضاً، فَٱمْتَلأَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَشَخَصَ إِلَيْهِ».
    ص ٤: ٨
    شَاوُلُ، ٱلَّذِي هُوَ بُولُسُ أَيْضاً نرى في نبإ سفر الرسولين هنا تغيّرين نشأ عند زيارة بولس لوالي قبرس فليس لنا إلا أن نحكم بتعلقهما بتلك الزيارة.
    الأول: تغيّر اسم رسول الأمم فإنه كان يسمى قبل الزيارة شاول وسُمي بعدها بولس. وهو سمى نفسه بولس في كل ما كتبه من الرسائل. وبهذا سماه مجمع أورشليم في رقيمه إلى كنائس الأمم. وبه سماه بطرس بعد سنين (٢بطرس ٣: ١٥). وكان من عادة اليهود يومئذ أن يكون للواحد منهم اسمان اسم عبراني واسم يوناني أو لاتيني كما جاء في (ص ١: ٢٣ و٥: ١ و٩: ٣٦ و١٢: ١٢). فالمرجح أن شاول قبل أن تنصر دُعي أوقاتاً باسم لاتيني هو بولس باعتبار كونه يهودياً مولوداً خارج اليهودية له ما للرومانيين الأصليين من الحقوق (ص ٢٢: ٢٧ و٢٨) ولكنه عُرف غالباً واشتهر قبل هذه الزيارة باسمه العبراني وهو شاول إلا أنه من وقتها استحسن أن يدعى باسمه الروماني ولعل ذلك لأمرين الأول تذكار لتنصيره سرجيوس بولس وآية الصداقة المبنية على ذلك. والثاني إتيان الزمان المعيّن من الله لإظهار أنه عينه رسولاً للأمم إذ أجرى المعجزة الأولى على يده. ولكون معظم عمله منذ ذلك اليوم بين الأمم ناسب أن يدعى بالاسم المأنوس عند الأمم السهل اللفظ على ألسنتهم.
    والتغير الثاني: تقديم لوقا إيّاه على برنابا بعد أن كان يقدم برنابا عليه.
    فَٱمْتَلأَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي ألهمه الروح القدس حديثاً بقوة خاصة ليكشف خداع عليم الساحر وأن يصرّح بتوبيخه إيّاه ويعلن ما قضى الله به عليه من العقاب.
    وَشَخَصَ إِلَيْهِ لينتبه له هو وكل من حضر.
    ١٠ «وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلْمُمْتَلِئُ كُلَّ غِشٍّ وَكُلَّ خُبْثٍ! يَا ٱبْنَ إِبْلِيسَ! يَا عَدُوَّ كُلِّ بِرٍّ! أَلاَ تَزَالُ تُفْسِدُ سُبُلَ ٱللّٰهِ ٱلْمُسْتَقِيمَةَ؟».
    متّى ١٣: ٣٨ ويوحنا ٨: ٤٤ و١يوحنا ٣: ٨
    ٱلْمُمْتَلِئُ كُلَّ غِشٍّ أي الذي شغل الخداع كل قواه العقلية حتى لم يبق فيها محل لشيء من الحق وبنى بولس هذا الوصف على ما اشتهر من أمره باعتبار كونه ساحراً ونبياً كذاباً وعلى ما بدا منه في مقاومته له ولبرنابا.
    وَكُلَّ خُبْثٍ هذا يدل على أنه أتى الخداع بدناءة وأنه قصد إضرار من خدعهم.
    ٱبْنَ إِبْلِيسَ أي مثل إبليس في صفاته وأعماله لأن إبليس كذاب وأبو الكذاب (يوحنا ٨: ٤٤) وصدق عليه ذلك لما سلف من أقواله وأعماله.
    عَدُوَّ كُلِّ بِرٍّ دعاه بهذا لأنه قاوم المبشرين بالبر واجتهد في أن يمنع الوالي من السير في سنن البر فضلاً عن أنه خال من كل بر. فكل من يربح من الشر عدو للخير وكل من يعيش بالغش عدو للحق.
    أَلاَ تَزَالُ هذا الاستفهام للتوبيخ وهو أشد من التوبيخ الصريح فكأنه قال له أنت لا تكف عن الشر أبداً.
    تُفْسِدُ سُبُلَ الخ كان ذلك يحمله كلام الرسولين على غير ما قصداه وبقدحه فيهما بمثل أنهما يهوديان مرتدان عن دينهما ومبتدعان. وأتى كل ذلك ليحمل الوالي على أن ينفر منهما ومن تعليمهما. ومعنى «سبل الله» هنا الموصلات إلى الخلاص أو ما قضى الله به من وسائل رحمته. وهذه السبل مستقيمة أي موافقة لعدل الله ورحمته واضحة لكل قاصد. أما عليم فاجتهد في أن يُري الوالي أنها معوجة فصدق عليه قول إشعياء «وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْراً وَلِلْخَيْرِ شَرّاً، ٱلْجَاعِلِينَ ٱلظَّلاَمَ نُوراً وَٱلنُّورَ ظَلاَماً» (إشعياء ٥: ٢٠).
    ١١ «فَٱلآنَ هُوَذَا يَدُ ٱلرَّبِّ عَلَيْكَ، فَتَكُونُ أَعْمَى لاَ تُبْصِرُ ٱلشَّمْسَ إِلَى حِينٍ. فَفِي ٱلْحَالِ سَقَطَ عَلَيْهِ ضَبَابٌ وَظُلْمَةٌ، فَجَعَلَ يَدُورُ مُلْتَمِساً مَنْ يَقُودُهُ بِيَدِهِ».
    خروج ٩: ٣ و١صموئيل ٥: ٦
    يَدُ ٱلرَّبِّ عَلَيْكَ معنى «اليد» هنا القدرة والمراد بالعبارة أن الله يُظهر قوته بعقابه على شره. قال الرسول ذلك لئلا يُنسب ما يصيبه إلى الاتفاق أو إلى بولس نفسه ولكي ينسبه إلى الله وحده. والكلام هنا خبر لا إنشاء أي لا دعاء على عليم وهو يفيد أن الله قد رفع يده ليضربه وأن المصاب قريب.
    فَتَكُونُ أَعْمَى لاَ تُبْصِرُ الجزء الأخير من هذه العبارة توكيد للجزء الأول. وغاية الله من هذه المعجزة إعلان أن ذلك الرجل خادع وأن كل ما أتاه من اتهامه الرسولين وقدحه في تعليمهما حق خالص وأن يعاقب ذلك الكاذب المقاوم.
    إِلَى حِينٍ أي إلى ما شاء الله. كان بولس قد عمي ثلاثة أيام فأُنير قلبه بنور من السماء ثم أبصر كعادته. فلعله أشار بقوله «إلى حين» إلى أن عمى عليم لا يدوم بالضرورة ما لم يبق مزاولاً الخداع والمقاومة للحق. وأظهر الله بضربة عليم أنه ساخط عليه لسيرته وأنه أعطاه فرصة ليتأمل في إثمه ويتوب. وما لمح به بولس هنا بقوله لعليم صرح به بطرس بقوله لسيمون الساحر «تُبْ مِنْ شَرِّكَ هٰذَا، وَٱطْلُبْ إِلَى ٱللّٰهِ عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ» (ص ٨: ٢٢).
    فَفِي ٱلْحَالِ أي لم يفرغ بولس من كلامه إلا قد وقع القضاء على عليم على وفق قوله له «يد الرب عليك».
    ضَبَابٌ وَظُلْمَةٌ أي ضعف بصره أولاً ثم عمي. طلب عليم عمى قلب الوالي وغيره من الناس فصُرب هو بعمى عينيه.
    مُلْتَمِساً مَنْ يَقُودُهُ بِيَدِهِ لم يستطع المشي كالعميان المختبرين لأنه كان في أول عماه الفجائي. وأبان الكاتب هذه الحال ليُظهر أنه عمي عمىً كاملاً.
    ندرت معجزات العقاب في كتاب الله ولا سيما العهد الجديد وأشهرها اثنتان ما أصاب حنانيا وسفيرة وما وقع على عليم. وعقابهم لم يكن على خطايا عادية لأن العقاب الأول كان للرياء في الدين والكذب على الروح القدس. والعقاب الثاني كان لمقاومة الرسولين التي ليست إلا المقاومة لعمل ذلك الروح. ولا نعلم شيئاً مما كان بعد من أمر سرجيوس بولس ولا من أمر عليم الساحر.
    ١٢ «فَٱلْوَالِي حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى مَا جَرَى، آمَنَ مُنْدَهِشاً مِنْ تَعْلِيمِ ٱلرَّبِّ».
    فَٱلْوَالِي... آمَنَ لأنه شاهد المعجزة وهي عمى عليم على أثر أنباء بولس به وكان إيمانه إما بالمسيح الذي بشر به بولس أو بصحة الدين المسيحي.
    مُنْدَهِشاً ذُكر اندهاشه هنا من علل إيمانه ونُسب مثل هذا التأثير إلى معجزات المسيح وتعاليمه (متّى ٧: ٢٨ و٢٢: ٣٣ ومرقس ١: ٢٢ و١١: ١٨ ولوقا ٤: ٣٢).
    مِنْ تَعْلِيمِ ٱلرَّبِّ أي من كيفية تعليم الرب إيّاه قولاً وفعلاً بواسطة بولس. ولم يذكر الكاتب هنا أن الوالي اعتمد لأنه غني عن البيان إذ كلمة الإيمان في الإنجيل يلزم عنها غالباً الثقة في الباطن والاعتراف في الظاهر بدخول الكنيسة بواسطة المعمودية. ومن أمثال ذلك ما جاء في (ص ٤: ٤ و١١: ٢١). وما جاء هنا يوافق قول الرسول «لأَنَّنَا رَائِحَةُ ٱلْمَسِيحِ ٱلذَّكِيَّةِ لِلّٰهِ، فِي ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي ٱلَّذِينَ يَهْلِكُونَ. لِهٰؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولٰئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ» (٢كورنثوس ٢: ١٥ و١٦). فلكل إنسان يسمع أن يختار أن يكون كسرجيوس بولس الذي سمع الحق وخلص به أو أن يكون كعليم الذي سمعه وقاومه فعوقب على مقاومته.

    وصول الرسولين إلى أنطاكية بيسيدية وما حدث لهما هناك ع ١٣ إلى ٥٢


    ١٣ «ثُمَّ أَقْلَعَ بُولُسُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَافُوسَ وَأَتَوْا إِلَى بَرْجَةَ بَمْفِيلِيَّةَ. وَأَمَّا يُوحَنَّا فَفَارَقَهُمْ وَرَجَعَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    ص ١٥: ٣٨
    أَقْلَعَ أي سافر بحراً.
    بُولُسُ وَمَنْ مَعَهُ أي هو وبرنابا ويوحنا وغيرهما من الرفاق. ولعل لوقا استعمل هذه العبارة هنا ليشير إلى التغير الذي أُبتدئ هنا في مقام بولس ورفيقه برنابا فإنه كان يقدم قبلاً برنابا على بولس.
    بَرْجَةَ بَمْفِيلِيَّةَ بمفيلية ولاية في آسيا الصغرى غربي كيليكية وبرجة قاعدتها وموقعها على أمد سبعة أميال من البحر على عدوة نهر سستروس وبينها وبين بافوس نحو مئة ميل وثلاثين ميلاً. والمرجح أن بولس وبرنابا قصدا التبشير بالإنجيل في بمفيلية لقربها من بافوس ولكثرة اليهود فيها وفي ما جاورها من الولايات. وكانت برجة مشهورة بعبادة الإلاهة أرطاميس وكان هيكلها فيها ثاني هيكلها في أفسس ولم يبق من هذه لمدينة اليوم سوى أطلالها.
    وَأَمَّا يُوحَنَّا فَفَارَقَهُمْ أي يوحنا مرقس الذي ذُكر في (ع ٥) أنه رافق الرسولين خادماً ولم يذكر لوقا على مفارقته لهما ولكن ذهب بعضهم إلى أنها وجدانه الخدمة شاقة وذات خطر أكثر مما كان يتوقع وذهب البعض إلى أنها اشتياقه إلى والدته ووطنه ورأى آخر غيظه من تقدم بولس على خاله برنابا. ومهما تكن العلة فالظاهر أنهما لم يكونا يتوقعان أن يفارقهما وأن بولس رأى أنه مستحق اللوم على ذلك (ص ١٥: ٣٩). وكانت هذه المفارقة بعدئذ علة اختلاف بين بولس وبرنابا وانفصال أحدهما عن الآخر (ص ١٥: ٣٧ - ٣٩). لكن مرقس حصل في ما بعد على ثقة بولس واعتباره (كولوسي ٤: ١٠ و٢تيموثاوس ٤: ١١).
    إِلَى أُورُشَلِيمَ وطنه (ص ١٢: ١٣ و٢٤).
    ١٤ «وَأَمَّا هُمْ فَجَازُوا مِنْ بَرْجَةَ وَأَتَوْا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ بِيسِيدِيَّةَ، وَدَخَلُوا ٱلْمَجْمَعَ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَجَلَسُوا».
    ص ١٦: ١٣ و١٧: ٢ و١٨: ٤
    فَجَازُوا مِنْ بَرْجَةَ الظاهر أن الرسولين لم يبشرا في برجة ولا في غيرها من مدن بمفيلية وأنهما ذهبا رأساً إلى ولاية بيسيدية لكنهما رجعا إليها بعد ذلك وبشرا فيها (ص ١٤: ٢٥).
    أَنْطَاكِيَةَ بِيسِيدِيَّةَ أي قصبة ولاية بيسيدية وهي على أمد نحو ست مراحل من برجة شمالاً واسمها اليوم يلوباش وطريقها وعرة جبلية وكانت يومئذ ذات خطر من اللصوص. ولعل بولس أشار إلى المشقات التي احتملها في السفر إليها بقوله «بِأَخْطَارِ سُيُولٍ. بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ... بِأَخْطَارٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ» (٢كورنثوس ١١: ٢٦). بنى هذه المدينة سلوقس باني أنطاكية سورية وسماها بذلك نسبة إلى ابنه كما سمى تلك. كان فيها كثيرون من اليهود ومن الدخلاء من اليونانيين.
    ٱلْمَجْمَعَ كعادته في كل مكان فيه يهود مع أنه رسول الأمم (انظر شرح ع ٥ وص ٦: ٩ ومتّى ٤: ٢٣).
    جَلَسُوا ظن بعصهم أنهم اتخذوا المحل المختص بالمعلمين وإلا ما كان من حاجة إلى ذكر جلوسهم.
    ١٥ « وَبَعْدَ قِرَاءَةِ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُؤَسَاءُ ٱلْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، إِنْ كَانَتْ عِنْدَكُمْ كَلِمَةُ وَعْظٍ لِلشَّعْبِ فَقُولُوا».
    لوقا ٤: ١٦ وع ٢٧ عبرانيين ١٣: ٢٢
    قِرَاءَةِ ٱلنَّامُوسِ أي أسفار موسى. اعتاد اليهود ذلك منذ أول اجتماعاتهم الروحية التي ذكرها التاريخ.
    وَٱلأَنْبِيَاءِ أي أسفارهم. أول ما ورد ذكر قراءة أسفار الأنبياء في المجامع كان في أيام أنطيوخس أبيفانيس فإنه منع قراءة الناموس في الاجتماعات الدينية فاعتاضوا عنها بقراءة أسفار الأنبياء ثم اعتادوا بعد ذلك قراءة كليهما في كل اجتماع قانوني.
    رُؤَسَاءُ ٱلْمَجْمَعِ الظاهر أن هؤلاء كانوا من المتقدمين في السن والمقام ورؤوس البيوت الذين يحق لهم ترتيب العبادة الجمهورية.
    قَائِلِينَ الخ رأوهم غرباء وعرفوا من هيئتهم ولبسهم وجلوسهم أنهم علماء فدعوهم إلى التكلم كعادتهم في المجامع والمرجح أن هؤلاء الرؤساء لم يكونوا قد سمعوا أن المسيحيين طائفة مستقلة حرمها رؤساء اليهود في أورشليم وإلا لم يرحبوا بهم ويكرمهوهم «أيها الرجال الإخوة» ويدعوهم إلى التكلم.
    ١٦ «فَقَامَ بُولُسُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ وَٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ ٱللّٰهَ، ٱسْمَعُوا».
    ص ١٢: ١٧ ع ٢٦ و٤٢ و٤٣ وص ١٠: ٣٥
    فَقَامَ بُولُسُ للتبشير متخذاً هنا كما في سائر الأماكن مقام رئيس الخطاب بناء على كونه معيّناً رسولاً للأمم والظاهر أن برنابا سلم بذلك مع أنه من مشاهير الوعاظ (ص ٤: ٣٦). وهذا الخطاب أول مواعظ بولس المكتوبة.
    أَشَارَ بِيَدِهِ تنبيهاً للحاضرين واستلفاتاً وإكراماً لهم كما في (ص ١٢: ١٧).
    ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ أي اليهود أصلاً نسل يعقوب.
    وَٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ ٱللّٰه يصح أن يوصف بهذا أهل الدين الحق يهوداً وغيرهم لكنه غلب أن يوصف به المتهودين من الأمم (ص ٢: ١٠ و٦: ٥) والذين مالوا إلى الدين اليهودي وتركوا عبادة الأوثان ولكنهم لم يختتنوا (ص ١٠: ٢ و٢٢: ٣٥). وكان أمثال هؤلاء يجتمعون مع اليهود في اجتماعاتهم الدينية ونصّر الرسل من هؤلاء كثيرين.
    ٱسْمَعُوا يشير بهذا إلى أن ما يتكلم به أمرٌ حديث يستحق الإصغاء إليه.
    ١٧ «إِلٰهُ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ هٰذَا ٱخْتَارَ آبَاءَنَا، وَرَفَعَ ٱلشَّعْبَ فِي ٱلْغُرْبَةِ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَبِذِرَاعٍ مُرْتَفِعَةٍ أَخْرَجَهُمْ مِنْهَا».
    تثنية ٧: ٦ و٧ خروج ١: ١ ومزمور ١٠٥: ٢٣ و٢٤ وص ٧: ١٧ خروج ٦: ٦ و١٣: ١٤ و١٦
    في الآيات الخمس الأولى من هذا الخطاب مختصر تاريخ بني إسرائيل من أول دعوتهم إلى عصر المسيح وهو مقدمة وتمهيد للمناداة به باعتبار أنه ابن داود المخلص الموعود به لأنه لو ابتدأ بولس التبشير بأن يسوع هو المسيح لنفروا منه ولم يصغوا فسلك سنن الحكمة بأن أظهر أولاً أنه مؤمن بكتبهم الدينية وبانٍ خطابه عليها وأنه عارف بتاريخ أمتهم ومواعيد الله لهم التي أعظمها الوعد بمجيء المسيح ثم أعلن لهم أنه قد أتى.
    إِلٰهُ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ هٰذَا ٱخْتَارَ آبَاءَنَا أي الإله الحق الذي هو إلههم وهم شعبه دعا أفرادهم إلى أن يكونوا شعباً خاصاً له من بين كل أمم الأرض ونظمهم أمة وصرح بأنه خليلهم والمحامي عنهم. وقصد «بالآباء» إبراهيم وإسحاق ويعقوب ورؤساء الأسباط وهذا موافق لما ذُكر (تثنية ٧: ٦ و٧) ولما قاله غيره من الرسل والمبشرين (انظر ص ٣: ١٣ و٢٥ و٥: ٣٠ و٧: ٢ و١١ و١٥ و١٩ و٣٨ و٣٩ و٤٥). وقصد بقوله «آباءنا» لا آباءكم بيان أنه واحد منهم.
    رَفَعَ ٱلشَّعْبَ أي أعلى شأنهم وذلك بأن ميّزهم أولاً على سائر الأمم باختياره إياهم شعباً لنفسه ثم نقلهم من حال الذل والعبودية إلى حال العز والحرية وأنجحهم وكثرهم على رغم الاضطهاد الذي ثار عليهم في مصر.
    فِي ٱلْغُرْبَةِ فِي أَرْضِ مِصْرَ لأنهم لم يتخذوا مصر وطناً ولم يخالطوا أهلها كأنهم منهم ديناً أو أمة.
    وَبِذِرَاعٍ مُرْتَفِعَةٍ الخ هذا مختصر نبإ الخروج وأراد «بالذراع المرتفعة» كما أراد «بالذراع الممدودة» وهو إظهار الله قدرته في عنايته بهم من ضربه المصريين بالضربات العشر وشقه البحر الأحمر أمامهم ونصره إيّاهم على أعدائهم. قابل هذا بما في (خروج ٦: ٦ وتثنية ٥: ١٥ وإرميا ٣٢: ٢١ ومزمور ١٣٦: ١٢).
    ١٨ «وَنَحْوَ مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ٱحْتَمَلَ عَوَائِدَهُمْ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ».
    خروج ١٦: ٣٥ وعدد ١٤: ٣٣ و٣٤ وتثنية ١: ٣١ ومزمور ٩٥: ٩ و١٠ وص ٧: ٣٦
    في هذه الآية مختصر تاريخ التيه في البرية أربعين سنة وذلك من يوم خروجهم من مصر إلى يوم دخولهم أرض كنعان (خروج ١٦: ٣٥ وعدد ٣٣: ٣٨).
    ٱحْتَمَلَ عَوَائِدَهُمْ أي تأنى عليهم وصبر وهم يتذمرون عليه ويعصونه.
    ١٩ «ثُمَّ أَهْلَكَ سَبْعَ أُمَمٍ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ وَقَسَمَ لَهُمْ أَرْضَهُمْ بِٱلْقُرْعَةِ».
    تثنية ٧: ١ يشوع ١٤: ١ و٢ ومزمور ٧٨: ٥٥
    في هذه الآية مختصر تاريخ الاستيلاء على أرض كنعان.
    أَهْلَكَ شتت شملهم فلم يبقوا أمماً.
    سَبْعَ أُمَمٍ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ الحثيين والجرجشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليابوسيين (تثنية ٧: ١ ويشوع ٣: ١٠ ونحميا ٩: ٨) وهؤلاء أعظم شعوب أرض الميعاد ونسبها إلى الكنعانيين لأنهم من أعظم أممها. ولعله أتى ذلك باعتبار معنى كنعان وهو الأرض المنخفضة بين الأردن والبحر تمييزاً لها عن الأرض المرتفعة عنها شرقي الأردن وهي تسمى آرام أي الأرض المرتفعة.
    وَقَسَمَ... بِٱلْقُرْعَةِ أشار بهذا إلى عمل يشوع المذكور في ص ١٤ و١٥ من سفر يشوع.
    ٢٠ «وَبَعْدَ ذٰلِكَ فِي نَحْوِ أَرْبَعِمِئَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً أَعْطَاهُمْ قُضَاةً حَتَّى صَمُوئِيلَ ٱلنَّبِيّ».
    قضاة ٢: ١٦ و١صموئيل ٣: ٢٠
    في هذه الآية مختصر تاريخ القضاة.
    نَحْوِ أَرْبَعِمِئَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً لم يكن من غرض بولس هنا أن يبيّن لهم عدد السنين التي كانت فيها القضاة إنما تكلم على وفق اعتقاد اليهود في عصره. والدليل على ذلك الاتفاق بين بولس وبين يوسيفوس المؤرخ الذي كتب تاريخه قرب عصر بولس فقال في الفصل ١١١ من الكتاب السابع من تاريخه أن سليمان ابتدأ يبني الهيكل في السنة الرابعة من ملكه وذلك سنة ٥٩٢ بعد الخروج من مصر. ولسنا مضطرين إلى أن نبيّن كيف اتصل يوسيفوس وبولس وسائر اليهود إلى ذلك ولكن نقول أنه على هذا الحساب تكون سنو التيه ٤ وسنو حكم يشوع ١٨ وحكم القضاة ٤٥٠ وسنو حكم صموئيل وشاول ٤٠ وسنو حكم داود ٤٠ وسنو جزء ملك سليمان ٤ فالمجموع ٥٩٢. والظاهر أنهم حسبوا سني استيلاء الأجانب عليهم مع سني القضاة لأنه كان ذلك في عصر القضاة. فإنهم بعد موت يشوع استولى عليهم كوشان رشعتايم ملك آرام النهرين ثماني سنين. ثم قضى فيهم عثنيئيل ٤٠ سنة. ثم استولى عليهم المؤابيون ١٨ سنة. ثم قضى فيهم أهود وشمجر ٨٠ سنة. ثم استولى عليهم يابين وسيسرا ٢٠ سنة ثم قضى فيهم دبورة وباراق ٤٠ سنة. ثم استولى عليهم المديانيون سبع سنين. ثم قضى فيهم جدعون ٤٠ سنة. ثم استولى عليهم بنو عمون ١٨ سنة. ثم قضى فيهم يفتاح ٦ سنين. وأبصان ٧ سنين. وأيلون ١٠ سنين. وعبدون ٨ سنين. ثم استولى عليهم الفلسطينيون ٤٠ سنة. ثم قضى فيهم شمشون ٢٠ سنة. وعالي الكاهن ٤٠ سنة. ومجموع ذلك ٤٥٠ سنة. منها مدة حكم القضاة ٣٣٩ سنة ومدة استيلاء الأجانب ١١١ سنة.
    وما ذكرناه بيان لتوصلهم إلى ذلك العدد لا إثباتاً لصحة قولهم لأن بولس تكلم على ما ذهب إليه علماء عصره. ولا يخفى على القارئ أنه يصعب علينا اليوم أن نقف على تعيين سني التارخ اليهودي بالضبط والتفصيل لأنهم دلوا على العدد بالحروف لا بالأرقام وهي مما يكون بها الناسخ عرضة للغلط. ويتعذر علينا اليوم معرفة بداءة سني القضاة ونهايتها بمقتضى حساب بولس وعلماء عصره من اليهود. فالظاهر أنهما سلكوا طريقاً غير الطريق التي سلكها كاتب سفر الملوك الأول لأن ما جاء في (١ملوك ٦: ١) هو أنه من خروج بني إسرائيل من مصر إلى السنة الرابعة من ملك سليمان ٤٨٠ سنة.
    وذهب البعض إلى أن قوله في «نحو أربع مئة وخمسين سنة» صلة «ذلك» لا متعلق «أعطاهم قضاة». و «ذلك» إشارة إلى الغربة وقسمة الأرض فيكون المعنى أنه بعد بداءة الغربة وقسمة الأرض في نحو أربع مئة وخمسين سنة أعطاهم قضاة. الخ وعلى ذلك فلا إشكال في الحساب.
    ٢١ «وَمِنْ ثَمَّ طَلَبُوا مَلِكاً، فَأَعْطَاهُمُ ٱللّٰهُ شَاوُلَ بْنَ قَيْسٍ، رَجُلاً مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، أَرْبَعِينَ سَنَةً».
    ١صموئيل ٨: ٥ و١٠: ١
    طَلَبُوا مَلِكاً (انظر ١صموئيل ٨: ٥ و١٩). هذا والآية التالية مختصر تاريخ الملوك.
    فَأَعْطَاهُمُ ٱللّٰهُ عن غير مسرّة (١ملوك ٨: ٧ و٨).
    أَرْبَعِينَ سَنَةً لم يذكر العهد القديم ذلك ولكنه يوافق قول يوسيفوس أن شاول ملك ثماني عشرة سنة قبل وفاة صموئيل واثنتين وعشرين سنة بعدها.
    ٢٢ «ثُمَّ عَزَلَهُ وَأَقَامَ لَهُمْ دَاوُدَ مَلِكاً، ٱلَّذِي شَهِدَ لَهُ أَيْضاً، إِذْ قَالَ: وَجَدْتُ دَاوُدَ بْنَ يَسَّى رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِي، ٱلَّذِي سَيَصْنَعُ كُلَّ مَشِيئَتِي».
    ١صموئيل ١٥: ٢٣ و٢٦ و٢٨ و١٦: ١ وهوشع ١٣: ١١ و١صموئيل ١٦: ١٣ و٢صموئيل ٢: ٤ و٥: ٣ مزمور ٨٩: ٢٠ و١صموئيل ١٣: ١٤ وص ٧: ٤٦
    عَزَلَهُ كما ذُكر في (١صموئيل ١٥: ١١ و٢٣ و٣٥ و١٦: ١).
    وَأَقَامَ لَهُمْ دَاوُدَ مَلِكاً أي عيّنه ومسحه كما ذُكر في (١صموئيل ١٦: ١ و ١٣) وهذا غير تتويجه المذكور في (٢صموئيل ٢: ٤).
    ٱلَّذِي شَهِدَ لَهُ أراد بولس هنا مضمون ما قيل على داود في ثلاث عبارات:

    • الأولى: قوله «قَدِ ٱنْتَخَبَ ٱلرَّبُّ لِنَفْسِهِ رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِهِ» (١صموئيل ١٣: ١٤).
    • الثانية: قوله «وَجَدْتُ دَاوُدَ عَبْدِي» (مزمور ٨٩: ٢٠).
    • الثالثة: قوله «تَعَالَ أُرْسِلْكَ إِلَى يَسَّى ٱلْبَيْتَلَحْمِيِّ، لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ لِي فِي بَنِيهِ مَلِكاً... فَقَالَ ٱلرَّبُّ: قُمِ ٱمْسَحْهُ لأَنَّ هٰذَا هُوَ» (١صموئيل ١٦: ١ و١٢).


    ٱلَّذِي سَيَصْنَعُ كُلَّ مَشِيئَتِي أي يقوم بكل أوامري باعتبار كونه ملكاً على شعبي. خلافاً لما فعله شاول الذي عصى أوامر الله (١صموئيل ١٥: ١١ و٢٣). فليس المعنى أن داود لا يخطأ باعتبار كونه إنساناً. وما قيل هنا موافق لقول الله بفم أخيّا النبي ليربعام «لَمْ تَكُنْ كَعَبْدِي دَاوُدَ ٱلَّذِي حَفِظَ وَصَايَايَ وَٱلَّذِي سَارَ وَرَائِي بِكُلِّ قَلْبِهِ لِيَفْعَلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فَقَطْ فِي عَيْنَيَّ» (١ملوك ١٤: ٨).
    ٢٣ «مِنْ نَسْلِ هٰذَا حَسَبَ ٱلْوَعْدِ أَقَامَ ٱللّٰهُ لإِسْرَائِيلَ مُخَلِّصاً، يَسُوعَ».
    إشعياء ١١: ١ ولوقا ١: ٣٢ و٦٩ وص ٢: ٣٠ ورومية ١: ٣ و٢صموئيل ٧: ١٢ ومزمور ١٣٢: ١١ متّى ١: ٢١ ورومية ١١: ٢٦
    كل ما قيل قبل هذه الآية مقدمة للكلام هنا على المسيح الذي هو غاية كل مواعظ الرسل وهو تاج كل ما ذكره الرسول من نعم الله على بني إسرائيل (انظر شرح ص ٢: ٣٠).
    مِنْ نَسْلِ هٰذَا حَسَبَ ٱلْوَعْدِ (٢صموئيل ٧: ١٢ و١٣ و١٦ انظر شرح ص ٢: ٣٠ وقابل هذا بما في مزمور ٨٩: ٣٦ و٣٧). قد تم ذلك بولادة يسوع من مريم التي هي نسل داود وهذا لا بد منه وإلا لم يكن يسوع هو المسيح (انظر شرح متّى ١: ١).
    أَقَامَ ٱللّٰهُ لإِسْرَائِيلَ شعبه الخاص لأن المسيح أتى إلى اليهود أولاً.
    مُخَلِّصاً يَسُوعَ فكان الاسم مطابقاً للمسمى كما أعلن في (متّى ١: ٢١). بعد أن صرّح بولس بكون يسوع ابن داود وأنه هو الموعود به وأن اسمه دليل على عمله أورد شهادة يوحنا المعمدان له الذي عرف الجميع أنه نبي عظيم (ع ٢٤ و٢٥). ثم دعا السامعين إلى الخلاص بذلك المخلص (ع ٢٦). ثم ذكر رفض اليهود إياه (ع ٢٧) وموته ودفنه وقيامته (ع ٢٨ - ٣١). ثم أبان أن كل هذه الامور أُنبئ بها قديماً وتمت بيسوع (ع ٣٢ - ٣٧) ثم دعاهم ثانية إلى الخلاص به (ع ٣٨ و٣٩). وحذرهم من الهلاك برفضهم إيّاه (ع ٤٠ و٤١).
    ٢٤ «إِذْ سَبَقَ يُوحَنَّا فَكَرَزَ قَبْلَ مَجِيئِهِ بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ».
    متّى ٣: ١ ولوقا ٣: ٣
    إِذْ سَبَقَ يُوحَنَّا ذكر بولس مناداة يوحنا وشهادته ليسوع ولمعرفة أكثر اليهود إيّاه واعتقادهم أنه نبيٌ.
    قَبْلَ مَجِيئِهِ أي قبل خدمته لا ولادته.
    بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ أي المعمودية التي شرطها التوبة ومدلولها التطهير.
    ٢٥ «وَلَمَّا صَارَ يُوحَنَّا يُكَمِّلُ سَعْيَهُ جَعَلَ يَقُولُ: مَنْ تَظُنُّونَ أَنِّي أَنَا؟ لَسْتُ أَنَا إِيَّاهُ، لٰكِنْ هُوَذَا يَأْتِي بَعْدِي ٱلَّذِي لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ أَحُلَّ حِذَاءَ قَدَمَيْهِ».
    متّى ٣: ١١ ومرقس ١: ٧ ولوقا ٣: ١٦ ويوحنا ١: ٢٠ و٢٧
    سَعْيَهُ باعتبار أنه سابق المسيح ومهيء طريقه. والسعي هنا باعتبار الأصل اليوناني الجري في الميدان وهو مستعار للعمل المقتضي السرعة والاجتهاد وهذا معناه في قول بولس «جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ» (٢تيموثاوس ٤: ٧). ومعنى قوله «صار يوحنا يكمل سعيه» صار على وشك تكميل عمله.
    يَقُولُ في أوقات مختلفة لا وقت واحد. والمنقول معناه لا لفظه (متّى ٣: ١١ ولوقا ٣: ١٥ و١٦ ويوحنا ١: ٢٠ و٢٧).
    مَنْ تَظُنُّونَ أَنِّي أَنَا هناك لام محذوف دلت عليه القرينة تقديره أتظنوني المسيح.
    لَسْتُ مُسْتَحِقّاً الخ أراد بولس أنه إذا كان يوحنا النبي العظيم رأى أنه ليس بأهل لأن يكون خادما ليسوع كعبد فكم يكون سمو يسوع وعظمته.
    ٢٦ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ بَنِي جِنْسِ إِبْرَاهِيمَ، وَٱلَّذِينَ بَيْنَكُمْ يَتَّقُونَ ٱللّٰهَ، إِلَيْكُمْ أُرْسِلَتْ كَلِمَةُ هٰذَا ٱلْخَلاَصِ».
    متّى ١٠: ٦ ولوقا ٢٤: ٤٧ وص ٣: ٢٦ وع ٤٦
    حثّ بولس هنا السامعين على أن يقبلوا الرب يسوع مسيحاً ومخلصاً.
    أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ دعاهم إخوة إظهاراً للطفه وحبه ليميلوا إليه فيقبلوا كلامه.
    بَنِي جِنْسِ إِبْرَاهِيمَ أي اليهود أصلاً. نسبهم إلى إبراهيم ليذكرهم ما وعده الله به ويرغبهم في الحصول على فوائد ذلك.
    وَٱلَّذِينَ بَيْنَكُمْ يَتَّقُونَ ٱللّٰهَ أي الدخلاء المتّقين كما مر في تفسير (ع ١٦) وخاطبهم ليشتركوا في الخلاص الذي أتى به يسوع.
    إِلَيْكُمْ أُرْسِلَتْ الخ في مواعيد العهد القديم حسب قصد الله. والمراد بقوله «كلمة هذا الخلاص» بشارة الخلاص بيسوع المسيح. ومعنى الجملة أن البشارة ليست مقصورة على يهود اليهودية فهي لكم أيها الحاضرون من يهود وأمم. ورفض أولئك أن يسوع هو المسيح لا يلزم منه أنكم أنتم ترفضونه.
    ٢٧ «لأَنَّ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ وَرُؤَسَاءَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا هٰذَا. وَأَقْوَالُ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلَّتِي تُقْرَأُ كُلَّ سَبْتٍ تَمَّمُوهَا، إِذْ حَكَمُوا عَلَيْهِ».
    لوقا ٢٣: ٣٤ وص ٣: ١٧ و١كورنثوس ٢: ٨ ع ١٤ و١٥ وص ١٥: ٢١ لوقا ٢٤: ٢٠ و٤٤ وص ٢٦: ٢٢ و٢٨: ٢٣
    لم يخف بولس رفض يهود أورشليم ورؤسائهم دعاوي يسوع خيفة أن يحملهم ذلك على أن يرفضوه هم أيضاً إذ اتخذ ذلك الرفض دليلاً على صحة تلك الدعاوي لأنه كان مما اقتضته النبوءات المتعلقة بالمسيح.
    لأَنَّ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ وَرُؤَسَاءَهُمْ أي عامة الشعب وخاصته جهلاءه وعلماءه.
    لَمْ يَعْرِفُوا هٰذَا أي أن يسوع هو المسيح (١كورنثوس ٢: ٨) فإنهم ظنوه مجرد إنسان وأنه خادع (انظر شرح ص ٣: ١٧).
    وَأَقْوَالُ ٱلأَنْبِيَاءِ أي ما أنبأوا به من أمور المسيح الآتي. لأنهم فهموا منها أن المسيح يكون ملكاً أرضياً مجيداً ظافراً وهذا مباين لتعليم الأنبياء فإنهم أبانوا أن المسيح يكون رجل الأوجاع ومختبراً الأحزان فقيراً مهاناً يتألم ويموت.
    ٱلَّتِي تُقْرَأُ كُلَّ سَبْتٍ في مجامعهم. فمن أعجب العجاب أن اليهود حتى علماءهم جهلوا حقيقة أحوال مسيحهم مع سمعهم يوماً فيوماً ما يتعلق به من أنباء الأنبياء الواضحة وهذا لا يتصور منهم ما لم تكن قلوبهم قد عميت بالكبرياء والتعصّب.
    تَمَّمُوهَا إِذْ حَكَمُوا عَلَيْهِ فإذاً حكمهم عليه لم يضعف دعواه بل قواها لأنه مما أنبأ به الأنبياء عينهِ.
    ٢٨ «وَمَعْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا عِلَّةً وَاحِدَةً لِلْمَوْتِ طَلَبُوا مِنْ بِيلاَطُسَ أَنْ يُقْتَلَ».
    متّى ٢٧: ٢٢ ومرقس ١٥: ١٣ و١٤ ولوقا ٢٣: ٢١ و٢٢ ويوحنا ١٩: ٦ و١٥ ص ٣: ١٣ و١٤
    لَمْ يَجِدُوا مع طلبهم ذلك باجتهاد.
    عِلَّةً وَاحِدَةً لِلْمَوْتِ أي توجب أمانته شرعاً وعدلاً كما يظهر من قول بيلاطس في (لوقا ٢٣: ٢٢). وشهادة الحاكم الذي حكم عليه بالقتل بأنه لم يجد فيه علة للموت تبطل كل قول بأنه مات بذنب. وأعداؤه الذين اتهموه بالتجديف لم يستطيعوا أن يثبتوا دعواهم ولا بشهود الزور (متّى ٢٦: ٦٠).
    طَلَبُوا مِنْ بِيلاَطُسَ الخ (متّى ٢٧: ١ و٢ ولوقا ٢٣: ٤ و٥).
    ٢٩ «وَلَمَّا تَمَّمُوا كُلَّ مَا كُتِبَ عَنْهُ، أَنْزَلُوهُ عَنِ ٱلْخَشَبَةِ وَوَضَعُوهُ فِي قَبْرٍ».
    لوقا ١٨: ٣١ و٢٤: ٤٤ ويوحنا ١٩: ٢٨ و٣٠ و٣٦ و٣٧ متّى ٢٧: ٥٩ ومرقس ١٥: ٤٦ ولوقا ٢٣: ٥٣ ويوحنا ١٩: ٣٨
    لَمَّا تَمَّمُوا كُلَّ مَا كُتِبَ عَنْهُ مثل تسليمه بخيانة واحد من تلاميذه وإهانته وجلده وإيلامه كما جاء في (مزمور ٢٢ وإشعياء ص ٥٣ وزكريا ١١: ١٢ و١٣ و١٢: ١٠ و١٣: ٧). فكل ما سعوا فيه مما يظهر أنه يلاشي يسوع ودعاويه معاً لم يكن إلا إنجازاً للنبوءات المتعلقة به وإثباتاً لدعواه واستعداداً لانتصاره وتمجده.
    أَنْزَلُوهُ لم يقل بولس أن الذين قتلوه هم الذين أنزلوه ودفنوه بل نسب كل ما جرى على يسوع إلى يهود أورشليم ورؤسائهم فيوسف الرامي ونيقوديموس اللذين أنزلاه ودفناه (يوحنا ١٩: ٣٨ و٣٩) هما من اليهود ومن رؤسائهم وإن كانا من تلاميذ يسوع سراً. ويصح أن ننسب ذلك إلى الرؤساء لأنهم اشتركوا في ذلك بختمهم القبر ووضعهم الحراس عليه (متّى ٢٨: ٦٦).
    ٱلْخَشَبَةِ سبق الكلام على استعمال هذه اللفظة بمعنى الصليب في شرح (ص ٥: ٣٠).
    ٣٠ «وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
    متّى ٢٨: ٦ وص ٢: ٢٤ و٣: ١٣ و١٥ و٢٦ و٥: ٣٠
    انظر شرح (ص ٢: ٢٣ و٢٤) فإن ظن أحد أن موت يسوع ينافي دعواه أنه المسيح فما ذُكر في هذه الآية ينفي ذلك كل النفي لأن من رفضه الناس وقتلوه أقامه الله وأكرمه. وبذلك ثبتت كل أقواله في نفسه أنه المسيح ابن الله ومنها قوله «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنا ٢: ١٩). وقد جعل بولس قيامة المسيح أمراً مهماً في خطابه كسائر الرسل في خطبهم لأنه يتوقف عليها صحة الدين المسيحي كلها وكل رجاء الخاطئ للخلاص.
    ٣١ «وَظَهَرَ أَيَّاماً كَثِيرَةً لِلَّذِينَ صَعِدُوا مَعَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى أُورُشَلِيمَ، ٱلَّذِينَ هُمْ شُهُودُهُ عِنْدَ ٱلشَّعْبِ».
    متّى ٢٨: ١٦ وص ١: ٣ و١كورنثوس ١٥: ٥ الخ ص ١: ١١ ص ١: ٨ و٢: ٣٢ و٣: ١٥ و٥: ٣٢
    لم تكن قيامته بلا برهان ولا مما يسلم بها تقليداً ممن لم يشاهدوا بل أثبت القيامة بشهادة الذين عاينوه حياً بعد الموت لا يوماً واحداً بل أياماً كثيرة. وأولئك الشهود لم يكونوا غرباء بل كانوا هم الذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم فعرفوه حسناً وتيّقنوا قيامته وكانوا حين هذا الكلام أحياء لم يستروا شهادتهم له بل كانوا «شهوده عند الشعب» المختارين.
    أَيَّاماً كَثِيرَةً أي أربعين يوماً (ص ١: ٣ و١كورنثوس ١٥: ٣ - ٨).
    لِلَّذِينَ صَعِدُوا مَعَهُ في سفره الأخير وهم الرسل وغيرهم وظهر أيضاً لأكثر من خمس مئة مثل هؤلاء (١كورنثوس ١٥: ٦).
    ٣٢ «وَنَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِٱلْمَوْعِدِ ٱلَّذِي صَارَ لآبَائِنَا».
    تكوين ٣: ١٥ و١٢: ٣ و٢٢: ١٨ وص ٢٦: ٦ ورومية ٤: ١٣ وغلاطية ٣: ١٦
    معنى الآية أن الشهادة التي أداها رفقاء المسيح في اليهودية يؤديها بولس وبرنابا في أنطاكية لا كخبر تاريخي بل كخبر يسرهم. وذلك الخبر ليس بأمر حديث غريب إنما هو إنجاز وعد متوقع بشوق على توالي العصور لأنه وعد للآباء ومن بعدهم من أولادهم. والموعود به هو المسيح.
    ٣٣ «إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَكْمَلَ هٰذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ، إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَيْضاً فِي ٱلْمَزْمُورِ ٱلثَّانِي: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ».
    مزمور ٢: ٧ وعبرانيين ١: ٥ و٥: ٥
    نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ طبيعين وروحيين.
    إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ أي أرسله إلى العالم متجسداً. فمعنى «أقام» هنا ليس كمعنى أقام في الآية الآتية فميّز فيها عن الأول بقوله «من الأموات».
    فِي ٱلْمَزْمُورِ ٱلثَّانِي تعيين عدد ما اقتبس منه هو على خلاف عادة كتبة أسفار الوحي. وعلة يسوع أنه المسيح. وما أورده بولس هنا هو من جملة المواعيد الكثيرة في كتب الأنبياء. وفي هذا المزمور صرح الله بشرائع ملكوت المسيح وبالنسبة القربى بينه وبين المسيح.
    أَنْتَ ٱبْنِي الخ كان المسيح ابن الله منذ الأزل وأعلن الآب ذلك عند إرساله إياه إلى العالم كما هنا. وأعلنه ثانية بإقامته أياه من الأموات كما في (رومية ١: ٤). وقصد «باليوم» هنا وقت القضاء بإرسال المسيح فكأنه تعالى قال أنا الذي ولدتك منذ الأزل أعلن اليوم أني أبٌ لك.
    ٣٤ «إِنَّهُ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، غَيْرَ عَتِيدٍ أَنْ يَعُودَ أَيْضاً إِلَى فَسَادٍ، فَهٰكَذَا قَالَ: إِنِّي سَأُعْطِيكُمْ مَرَاحِمَ دَاوُدَ ٱلصَّادِقَةَ».
    إشعياء ٥٥: ٣
    أراد بولس بيان أن وعد الله بأنه يقيم المسيح لم يكن مقصوراً على ما جاء في المزمور الثاني من إرساله إلى العالم بل كان يتضمن إقامته من الأموات أيضاً كما ذُكر في (إشعياء ٥٥: ٣).
    غَيْرَ عَتِيدٍ أَنْ يَعُودَ أَيْضاً إِلَى فَسَادٍ إراد بولس «بالفساد» هنا الموت (لأنه يعقبه الفساد عادة) وإلا لم يستقم المعنى لأن جسد المسيح لم ير فساداً كما تبيّن في الآية الآتية.
    فَهٰكَذَا قَالَ الخ اقتبس بولس هنا من ترجمة السبعين والمقتبس يختلف عما في الأصل العبراني بلفظة واحدة دون الاختلاف في المعنى ومضمون ذلك أن قيامة المسيح انتصار على الموت كامل أبديٌ. فإن قيامته لم تكن كقيامة لعازر أو ابن الأرملة في نايين أو ابنة يايرس فإنهم ماتوا ثانية ولكن المسيح قام ليحيا إلى الأبد. ومعنى «الأقداس» هنا مراحم (لأن المراحم تختص بالله وكل مختصات الله تسمى أقداساً) وُعد بها داود كما في الأصل العبراني وهي مذكورة في (٢صموئيل ٧: ٨ - ١٦ و١أيام ١٧: ١١ - ١٤ ومزمور ٨٩: ١ و٥ و١٣٣: ١١ و١٢). ومعظم تلك الأقداس الموعود بها أن الله يقيم لداود خليفة من أولاده يحيا ويدوم ملكه إلى الأبد. وهذا الوعد قد أُنجز بالمسيح (قابل هذا بما في إشعياء ٩: ٦ و٧ ولوقا ٩: ٣٢ و٣٣) وإنجازه يلزم منه أن لا يموت ثانية بل يبقى بعد قيامته حياً إلى الأبد. وصرّح بولس بوجوب هذا الأمر في (رومية ٦: ٩ قابل هذا بما في رؤيا ١: ١٨).
    ٣٥ «وَلِذٰلِكَ قَالَ أَيْضاً فِي مَزْمُورٍ آخَرَ: لَنْ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً».
    مزمور ١٦: ١٠ وص ٢: ٢١
    فِي مَزْمُورٍ آخَرَ أي المزمور السادس عشر (انظر الآية العاشرة منه).
    لِذٰلِكَ أي يلزم من مراحم الله الصادقة أن المسيح بعد ما قام من الموت مرة لا يسود عليه الموت بعد.
    لَنْ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً وجوب أن لا ينحلّ جسد المسيح موضوع نبوءة ووعد لا نتيجة عقلية فقط فاقتبس بولس دليلاً على ذلك العبارة عينها التي اقتبسها بطرس وفسّرها في وعظه يوم الخمسين وقال هو من المحال أن يصدق ما قيل في هذا المزمور على داود وصرح بأنه يصدق على المسيح.
    ٣٦، ٣٧ «٣٦ لأَنَّ دَاوُدَ بَعْدَ مَا خَدَمَ جِيلَهُ بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ رَقَدَ وَٱنْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ، وَرَأَى فَسَاداً. ٣٧ وَأَمَّا ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ فَلَمْ يَرَ فَسَاداً».
    مزمور ٧٨: ٧٢ وع ٢٢ و١ملوك ٢: ١٠ وص ٢: ٢٩
    وصف بولس داود هنا بأنه كان خادماً لله وللناس مدة الحياة ولكنه اضطجع مع آبائه منذ عدة عصور وخضع لسلطان الفساد فلذلك لا يصدق عليه ما قيل في الآية العاشرة من المزمور السادس عشر فهو ليس موضوعها. وأما يسوع الذي أقامه الله قبل بداءة انحلال جسده فهو لم يخضع لسلطان الفساد فثبت أنه هو المسيح وقد أوضحنا ذلك في شرح (ص ٢: ٣٢).
    خَدَمَ جِيلَهُ أي قام بواجباته لأهل عصره فخدمهم بكتابته المزامير وبانتصاراته في الحروب وبسياسته وقضائه بالعدل.
    بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ متعلق بخدم أي أنه قام بالواجبات بمقضتى إرادة الله وإرشاده.
    رَقَدَ أي مات كما قيل في (١ملوك ٢: ١٠) ويستعار الرقاد في الكتاب المقدس لموت الصالحين (انظر شرح ص ٧: ٦٠).
    وَٱنْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ أي اجتمع بهم إما باجتماع جسده بأجسادهم في المدفن أو باجتماع روحه بأرواحهم في عالم الأرواح.
    رَأَى فَسَاداً أي اعترى جسده الانحلال بأن رجع إلى التراب الذي أُخذ منه.
    ٣٨ «فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، أَنَّهُ بِهٰذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا».
    إرميا ٣١: ٣٤ ودانيال ٩: ٢٤ ولوقا ٢٤: ٤٧ و١يوحنا ٢: ٢١
    بعدما أوضح بولس أن كل النبوءات المتعلقة بالمسيح التي ذُكرت في مزامير داود ونبوءة إشعياء قد أُنجزت بيسوع الذي مات وقام زاد على ذلك قولاً ذا شأن وهو أن البركتين العظيمتين المغفرة والتبرير وُعد الناس بنوالهما بواسطة المسيح فيسوع هو مصدرهما الوحيد الآن ويحصل عليهما الذين قبلوه رباً ومسيحاً. وأعلن بولس ذلك لهم لا مجرد خبر بل دعوة إلى أن يؤمنوا به ويقبلوه غافراً ومبرراً.
    فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً هذا مقدمة وتنبيه على أمر ذي شأن غفل عنه السامعون واستعمله لمثل هذا بطرس في وعظه يوم الخمسين (ص ٢: ١٤) وفي نسبته شفاء المقعد إلى اسم يسوع (ص ٤: ١٠). والفاء الداخلة على ليكن تفيد أن ما جاء هنا نتيجة كل ما سبق.
    عِنْدَكُمْ لأنكم مفتقرون إلى المغفرة والتبرير كل الافتقار ولكم البشارة بالحصول عليهما بيسوع المسيح.
    أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ هذا تكرير لقوله في (ع ٢٦) أتاه إظهاراً لإكرامه إيّاهم ومحبته لهم.
    بِهٰذَا أي بالذي قتله يهود أورشليم وبرهنت لكم أنه هو المسيح الموعود به.
    بِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا (انظر شرح ص ٢: ٣٨ و٥: ٣١ و١٠: ٤٣).
    ٣٩ «وَبِهٰذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى».
    إشعياء ٥٣: ١١ ورومية ٣: ٢٨ و٨: ٣ وعبرانيين ٧: ١٩
    صرح بولس في هذه الآية بالقانون العظيم وهو أن التبرير بالإيمان. وهذا القانون أحبه بولس وكتب فيه في كل رسائله ولا سيما رسالته إلى أهل رومية وأهل غلاطية. والتبرير أعظم من الغفران فإن الغفران ينقذنا من العقاب ولكن التبرير ينقذنا من الإثم نفسه فالمتبرر بمنزلة البريء. وكان الناموس عاجزاً عن أن يبرر.
    بِهٰذَا أي بطاعة يسوع عن الخاطئ وبموته عنه. وهنا قابل الرسول المسيح بناموس موسى.
    يَتَبَرَّرُ أي أن الله يحسبه باراً ويعامله على وفق ذلك الحسبان.
    كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ الشرط الوحيد للتبرير هو الإيمان بيسوع مخلصاً. وكذا قال بطرس في خطابه لكرنيليوس وأصدقائه في (ص ١٠: ٤٣).
    مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ هذا متعلق بقوله يتبرر ومعناه كل خطايا الإنسان إلى الله وإلى الناس ظاهراً وباطناً.
    بِنَامُوسِ مُوسَى هذا الناموس قاصر عن كل تبرير إنما هو يُري الإنسان ما يجب عليه ويعد من يحفظه بالثواب ويهدد مخالفه بالعقاب لكنه لا يستطيع أن يبرّر من أقل التعديات أو النقائص. أما يسوع فحمل كل خطايا العالم وهو على الصليب وبره كافٍ لستر كل الآثام.
    ٤٠ «فَٱنْظُرُوا لِئَلاَّ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ مَا قِيلَ فِي ٱلأَنْبِيَاءِ».
    إشعياء ٢٩: ١٤ وحبقوق ١: ٥
    فَٱنْظُرُوا هذا تنبيه على الخطر. وكثيراً ما يقترن في الكتاب المقدس الوعد بالوعيد. والفاء هنا للتعليل والمعنى أنه بناء على إتيان المسيح ورفضه في أورشليم وإمكان أنكم تخطأون خطاء أولئك وجب أن تنتبهوا وتحذورا من الخطيئة والخطر.
    يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ العقاب الإلهي.
    فِي ٱلأَنْبِيَاءِ أراد بالأنبياء هنا قسماً من الكتاب المقدس سبق الكلام عليه في شرح (ع ١٥ وص ٧: ٤٢). حذرهم الرسول من أن يجلبوا على أنفسهم بعدم إيمانهم الويلات التي أنذر الأنبياء الأشرار بها.
    ٤١ «اُنْظُرُوا أَيُّهَا ٱلْمُتَهَاوِنُونَ وَتَعَجَّبُوا وَٱهْلِكُوا، لأَنَّنِي عَمَلاً أَعْمَلُ فِي أَيَّامِكُمْ، عَمَلاً لاَ تُصَدِّقُونَ إِنْ أَخْبَرَكُمْ أَحَدٌ بِهِ».
    المقتبس هنا من ترجمة السبعين وهو الآية الخامسة من الأصحاح الأول من نبوءة حبقوق. تنبأ به هذا النبي بما سيأتي على يهود عصره من العقاب بواسطة الكلدانيين على عدم إيمانهم وقساوتهم. وكان ذلك العقاب شديداً هائلاً وقع عليهم يوم أتى نبوخذ نصر وجنوده وهدم هيكلهم ومدينتهم وسبى الشعب إلى بابل. وحذرهم بولس من أن يُعرضوا أنفسهم لمثل ذلك العقاب برفضهم المسيح وخلاصه.
    ومن الذين حضروا خطاب بولس يومئذ وسمعوا إنذاره ورفضوا يسوع وفداءه قوم اختبروا هول مثل ذلك العقاب من الرومانيين بعد نحو عشرين سنة من ذلك إذ أتى الرومانيون أورشليم بجنوده وهدموا مدينتهم وأحرقوا هيكلهم وقتلوا كثيرين من اليهود وباعوا الباقين عبيداً.

    نجاح كلمة الرب في أنطاكية بيسيدية وطرد الرسولين منها ع ٤٢ إلى ٥٢


    ٤٢ «وَبَعْدَمَا خَرَجَ ٱلْيَهُودُ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ جَعَلَ ٱلأُمَمُ يَطْلُبُونَ إِلَيْهِمَا أَنْ يُكَلِّمَاهُمْ بِهٰذَا ٱلْكَلاَمِ فِي ٱلسَّبْتِ ٱلْقَادِمِ».
    جوهر هذه الآية أن الرسولين دُعيا إلى المجمع للوعظ في السبت القادم. وقرئ في بعض النسخ «بعدما خرجا جعلوا يطلبون إليهما الخ».
    ٱلْكَلاَمِ التعليم الجديد المتعلق بيسوع (انظر شرح ص ٥: ٢٠).
    ٤٣ «وَلَمَّا ٱنْفَضَّتِ ٱلْجَمَاعَةُ، تَبِعَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلْيَهُودِ وَٱلدُّخَلاَءِ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ بُولُسَ وَبَرْنَابَا، ٱللَّذَيْنِ كَانَا يُكَلِّمَانِهِمْ وَيُقْنِعَانِهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا فِي نِعْمَةِ ٱللّٰهِ».
    ص ١١: ٢٣ و١٤: ٢٢ وتيطس ٢: ١١ وعبرانيين ١٢: ١٥ و١بطرس ٥: ١٢
    تفيدنا هذه الآية أنه فضلاً عن دعوة الرسولين إلى التبشير في السبت القادم تبعهما جمهور من الحاضرين من اليهود والدخلاء الذين أثر فيهم كلامهما إلى مبيتهما ليظهروا مسرتهم بما سمعوا منهما وليستفيدوا أيضاً من تعليمهما.
    أَنْ يَثْبُتُوا فِي نِعْمَةِ ٱللّٰهِ هذا ما اقتصر الكاتب على ذكره من تعليم الرسولين ونصحهما. وهو معنى كلام برنابا الذي خاطب به المسيحيين في أنطاكية سورية يوم أتى إليها من أورشليم (ص ١١: ٢٣). والمراد بهذه النصيحة أن يواظبوا على الرغبة في معرفة الحق أي جديد الإعلان برحمة الله التي بيسوع المسيح وأن لا يرجعوا إلى الاتكال على التبرير بأعمال الناموس.
    والأرجح أن الرسولين كانا يعملان بين السبتين بأيديهما ليحصلا على وسائط المعاش بدليل ما قيل في (١كورنثوس ٩: ٦). وأن كثيرين من الناس كانوا يأتون إليهما كل يوم للبحث عن أمور ذلك الدين الجديد.
    ٤٤ «وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱلتَّالِي ٱجْتَمَعَتْ كُلُّ ٱلْمَدِينَةِ تَقْرِيباً لِتَسْمَعَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ».
    ما ذُكر هنا نتيجة الوعظ في السبت الماضي وتأمل الناس بين السبتين في ما سمعوه وقتئذ ومحاورة بعضهم لبعض وللرسل أيضاً فيه وتأثير الروح القدس فوق كل ذلك. ولم يذكر لوقا محل الاجتماع ولكن المرجح أنه المجمع. ولم يذكر أن الرسولين فعلا شيئاً من المعجزات أرغب الناس في الاجتماع لمشاهدته. فكان كل ذلك من رغبتهم في سمع التعليم. وفي هذا دليل واضح على أنه قد أتى الوقت الذي عيّنه الله لدعوة الأمم إلى الخلاص.
    ٤٥ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْيَهُودُ ٱلْجُمُوعَ ٱمْتَلأُوا غَيْرَةً، وَجَعَلُوا يُقَاوِمُونَ مَا قَالَهُ بُولُسُ مُنَاقِضِينَ وَمُجَدِّفِينَ».
    ص ١٨: ٦ و١بطرس ٤: ٤ ويهوذا ١٠
    لم يظهر مما قيل هنا قبول اليهود أو رفضهم التعليم الجديد لو قُصر عليهم ولم يُبشر به الأمم. ولم يذكر الكاتب علة لمقاومتهم غير مشاهدتهم الوثنيين آتين أفواجاً إلى الرسولين بغية أن يسمعوا تعليمهما. ولا بد من أن ذلك المشهد أبهج قلبَي الرسولين وقلوب كل محبي الحق.
    ٱلْجُمُوعَ التي أكثرها من الأمم الوثنية.
    ٱمْتَلأُوا غَيْرَةً من الكبرياء والتعصب. والذي هيّج حسدهم أن الديّانة المسيحية الجديدة حصلت على اعتبار لم تحصل عليه قط الديانة اليهودية القديمة وإن وعظ ذينك المعلمين يوماً واحداً أثّر في الأمم تأثيراً لم يكن لتعليم رؤساء اليهود مدة حياتهم كلها وخافوا أنه إن بقيت الحال كذلك لا يبقى شيءٌ من الاعتبار للدين اليهودي ولا لهم باعتبار كونهم رؤساء. وفوق ذلك كله لم يستطيعوا أن يسلّموا بأن يكون الأمم مساوين لهم في بركات مجيء المسيح التي كانوا يحسبونها أبداً مقصورة على اليهود ولذلك اتقدت نيران الحسد في كل قلوبهم حين شاهدوا أولئك الغلف يدخلون مجمعهم أفواجاً وينجسونها بحضورهم على ما يعتقدون.
    يُقَاوِمُونَ مَا قَالَهُ بُولُسُ مُنَاقِضِينَ بقولهم أن يسوع ليس هو المسيح الموعود به وأن أقوال الأنبياء لا تدل على أن المسيح الموعود به يكون مهاناً يتألم ويموت فلذلك لا تصدق على يسوع البتة.
    وَمُجَدِّفِينَ ناسبين الخداع إلى يسوع وهازئين بالرسولين وتعليمهما طاعنين في صفاتهما وأقوالهما. وكان ذلك كله داخل المجمع ولا بد من أن يكون قد نشأ عن ذلك لغطٌ وضجيج.
    ٤٦ «فَجَاهَرَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا وَقَالاَ: كَانَ يَجِبُ أَنْ تُكَلَّمُوا أَنْتُمْ أَوَّلاً بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ، وَلٰكِنْ إِذْ دَفَعْتُمُوهَا عَنْكُمْ، وَحَكَمْتُمْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ، هُوَذَا نَتَوَجَّهُ إِلَى ٱلأُمَمِ».
    متّى ١٠: ٦ وص ٣: ٢٦ وع ٢٦ ورومية ١: ١٦ خروج ٣٢: ١٩ وتثنية ٣٢: ٢١ وإشعياء ٥٥: ٥ ومتّى ٢١: ٤٣ ورومية ١٠: ١٩ ص ١٨: ٦ و٢٨: ٢٨
    فَجَاهَرَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا أي أظهرا بكلامهما كل الجراءة غير مبالين بصراخ الرؤساء الذين كانت غايتهم منه تخويفهما وتسكيتهما.
    كَانَ يَجِبُ أَنْ تُكَلَّمُوا أَنْتُمْ أَوَّلاً بمقتضى أمر المسيح (لوقا ٢٤: ٤٧ وأعمال ١: ٨ ورومية ١: ١٦) ومقاصد الله. فالمسيح لم يقصد أن يقصر الإنجيل عليهم ولا أذن فقط في تبشير الأمم بعد رفض اليهود البشارة أو لذلك الرفض. ولكنه قصد منذ البدء أن يبشر اليهود أولاً ثم اليوناني. وقصد أيضاً أن يجعل اليهود وسيلة إلى بث البشرى بين الأمم على وفق الوعد لإبراهيم في قوله تعالى «يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلأَرْضِ» (تكوين ٢٢: ١٩) لكن لما رفض اليهود الإنجيل أُرسل إلى الأمم رأساً.
    دَفَعْتُمُوهَا عَنْكُمْ فأنتم الجانون على أنفسكم فسوء العاقبة ليس منا بل منكم.
    ِوَحَكَمْتُمْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّة هذا ما دلت عليه أعمالهم وهم يرفضون بشرى الخلاص وإن كانوا لم يروا عدم استحقاقهم. ولعل الرسولين أولاً ظناهم مستحقين أعظم البركات والحياة الأبدية ولذلك عرضوها عليهم بيسوع المسيح ولكنهم لكبريائهم وحسدهم رفضوا المسيح وحكموا على أنفسهم غير ما حكم الرسولان عليها. فإن قيل ما الذي يجعل الخاطئ مستحقاً للحياة الأبدية فالجواب في هذه الآية وهو الإرادة أن يقبلها بواسطة المسيح. وإن قيل ما الذي يجعل الخاطئ غير مستحق للحياة الأبدية فالجواب عدم تلك الإرادة لا كثرة ما ارتكب من الذنوب ولا فظاعة آثامه.
    هُوَذَا نَتَوَجَّهُ إِلَى ٱلأُمَمِ أي نعرض عليهم بشرى الخلاص. وعلة هذا مناقضتهم وتجديفهم (ع ٤٥). إن بولس لم ير سبيلاً إلى رجاء أن يغيّر أفكارهم ببراهينه لأنهم أوصدوا أبواب قلوبهم دون كل دليل وهزئوا بكل ما قاله. ولا يلزم من قوله «هوذا نتوجه إلى الأمم» أنه لا يبشر بعد ذلك أحداً من اليهود وأنه يقصر كل وعظه على الأمم لكنه قصد أن لا يتكلم أيضاً في ذلك المجمع. وما قاله بولس هنا على وفق قول المسيح له في هيكل أورشليم وهو في غيبة «ٱذْهَبْ، فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى ٱلأُمَمِ بَعِيداً» (ص ٢٢: ٢١).
    ٤٧ «لأَنْ هٰكَذَا أَوْصَانَا ٱلرَّبُّ: قَدْ أَقَمْتُكَ نُوراً لِلأُمَمِ، لِتَكُونَ أَنْتَ خَلاَصاً إِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ».
    إشعياء ٤٢: ٦ و٤٩: ٦ ولوقا ٢: ٣٢
    استشهد الرسول آية من كتاب الله ليبرز نفسه في ما فعله وتلك الآية هي الآية السادسة من الأصحاح التاسع والأربعين من نبوءة إشعياء والقائل الله والمقول له المسيح.
    نُوراً (يوحنا ١: ٤).
    لِلأُمَمِ (إشعياء ٤٣: ١ و٥٤: ٣ و٦٠: ٣ و٥ و١٦ و٦١: ٦ و٩ و٦٢: ٢ و٦٦: ١٢ قابل هذا بما في رومية ١٥: ٩ - ١٢).
    ٤٨ «فَلَمَّا سَمِعَ ٱلأُمَمُ ذٰلِكَ كَانُوا يَفْرَحُونَ وَيُمَجِّدُونَ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ، وَآمَنَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا مُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ».
    ص ٢: ٤٧
    ٱلأُمَمُ ذٰلِكَ أي أن يُبشروا بالإنجيل على رغم اليهود وأنهم يستطيعون أن يخلصوا من دون أن يخضعوا للرسوم اليهودية.
    وَيُمَجِّدُونَ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ المقصود بكلمة الرب هنا المناداة بالخلاص بالإيمان بيسوع المسيح ومجدوها بأن اعتبروها من الله وبأن قبلوها وسبحوا الله من أجلها.
    وَآمَنَ... ٱلَّذِينَ كَانُوا مُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ لنا من هذا أربعة أمور:

    • الأول: أنه وإن كان كثيرون من أهل أنطاكية رفضوا المسيح آمن بعضهم به.
    • الثاني: أن الله الذي أعدّ الخلاص أعدّ قلوب بعض أهل تلك المدينة لقبوله بفعل روحه القدوس كما هو مُبيّن في (تيطس ٣: ٥ و٦ ويوحنا ١: ١٣ و٦: ٣٧ و٤٤) ولم يقصر أحد من هذا البعض عنه.
    • الثالث: أن أولئك الذين آمنوا وإن كانوا معيّنين للحياة لم يفتروا عن استعمال الوسائط المعيّنة للخلاص إذ قيل أنهم آمنوا.
    • الرابع: أن سبب كون الآخرين لم ينالوا الخلاص أنهم رفضوه اختياراً بعدما عُرض عليهم ولا سبب آخر لذلك فهم «حكموا أنهم غير مستحقين للحياة الأبدية» (ع ٤٦) لأن الله «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (١تيموثاوس ٢: ٤).


    ٤٩ «وَٱنْتَشَرَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ فِي كُلِّ ٱلْكُورَةِ».
    فِي كُلِّ ٱلْكُورَةِ أي في ما حول أنطاكية من آسيا الصغرى وكان انتشار الإنجيل هنالك على رغم رؤساء اليهود بعد كل مقاومتهم ولم ينتشر إلا ببذل الرسولين كل الجهد وبفعل الروح القدس معهما.
    ٥٠ «وَلٰكِنَّ ٱلْيَهُودَ حَرَّكُوا ٱلنِّسَاءَ ٱلْمُتَعَبِّدَاتِ ٱلشَّرِيفَاتِ وَوُجُوهَ ٱلْمَدِينَةِ، وَأَثَارُوا ٱضْطِهَاداً عَلَى بُولُسَ وَبَرْنَابَا، وَأَخْرَجُوهُمَا مِنْ تُخُومِهِمْ».
    ٢تيموثاوس ٣: ١١
    حَرَّكُوا بتحريف أقوال الرسولين وتهييج روح التعصّب اليهودي.
    ٱلنِّسَاءَ ٱلْمُتَعَبِّدَاتِ ٱلشَّرِيفَاتِ كانت هؤلاء النساء وثنية الأصل آمنّ بالإله الحق وتهوّدن. قال يوسيفوس المؤرخ أن عدد الوثنيات اللواتي رفضن الديانة الوثنية واخترن الدين اليهودي في ذلك العصر كان وافراً جداً.
    وَوُجُوهَ ٱلْمَدِينَةِ أي الحكام وهم بالضرورة وثنيون لأن المدينة كانت يومئذ رومانية ولعلهم أقرباء أولئك النساء الشريفات فتحرّكوا بتحركهن وإلا فاليهود حركوهم بالرشوة وبما اختلفوا على الرسولين من التهم الباطلة كقولهم بأنهما يعلمان البدع القبيحة ويهيجان الفتن.
    وَأَثَارُوا... وَأَخْرَجُوهُمَا مِنْ تُخُومِهِمْ إجباراً وإهانة. ونستدل على شدة هذا الاضطهاد بأن بولس أشار إليه في رسالته إلى تيموثاوس التي كتبها في آخر حياته بعد سنين كثيرة (٢تيموثاوس ٣: ١١).
    ٥١ «أَمَّا هُمَا فَنَفَضَا غُبَارَ أَرْجُلِهِمَا عَلَيْهِمْ، وَأَتَيَا إِلَى إِيقُونِيَةَ».
    متّى ١٠: ١٤ ومرقس ٦: ١١ ولوقا ٩: ٥ وص ١٨: ٦
    فَنَفَضَا غُبَارَ أَرْجُلِهِمَا أتيا ذلك علامة أنهما لم يريدا أدنى علاقة بينهما وبين أهل المكان حتى لم يريدا أن يبقيا غبار أرضهم على أحذيتهما وأتيا ذلك على وفق أمر المسيح (متّى ١٠: ١٤ ومرقس ٦: ١١ ولوقا ٩: ٥ و١٠ و١١).
    عَلَيْهِمْ أي شهادة عليهم كما في (لوقا ٩: ٥).
    وَأَتَيَا إِلَى إِيقُونِيَةَ هي مدينة في آسيا الصغرى على غاية خسمين ميلاً في الجنوب الشرقي من أنطاكية بيسيدية واسمها اليوم قونية وهي لا تزال مدينة كبيرة ذات أسوار محيطها نحو ميلين.
    ٥٢ «وَأَمَّا ٱلتَّلاَمِيذُ فَكَانُوا يَمْتَلِئُونَ مِنَ ٱلْفَرَحِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
    متّى ٥: ١٢ ويوحنا ١٦: ٢٢ وص ٢: ٤٦
    ٱلتَّلاَمِيذُ أي اليهود والأمم الذين تنصروا في أنطاكية بيسيدية.
    يَمْتَلِئُونَ مِنَ ٱلْفَرَحِ مع كثرة ما يوجب الحزن من اضطهاد رؤساء اليهود ووجوه المدينة وطرد مرشديهم الرسولين مع شدة افتقارهم إلى تعليمهما.
    وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ هذا علة فرحهم وثبوتهم وتقدمهم بعد ترك مرشديهم إيّاهم.


    الأصحاح الرابع عشر


    نبأ تبشير الرسولين في أيقونية ع ١ إلى ٧


    ١ «وَحَدَثَ فِي إِيقُونِيَةَ أَنَّهُمَا دَخَلاَ مَعاً إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ وَتَكَلَّمَا، حَتَّى آمَنَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ».
    دَخَلاَ مَعاً إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ كعادتهما لتمكنها بذلك من مخاطبة اليهود والمتعبدين من الأمم.
    تَكَلَّمَا، حَتَّى آمَنَ أي بذلا كل ما في وسعهما من الحرارة والقوة مع مساعدة الروح القدس حتى تنصّر كثيرون.
    مِنَ ٱلْيَهُودِ لم يفترا عن مخاطبة الذين هادوا مع كل ما أصباهما منهم في أنطاكية بيسيدية.
    وَٱلْيُونَانِيِّينَ الوثنيين أصلاً الذين هادوا أو مالوا إلى اليهودية أو الذين أتوا المجمع بغية أن يسمعوا شيئاً جديداً.
    ٢ «وَلٰكِنَّ ٱلْيَهُودَ غَيْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَرُّوا وَأَفْسَدُوا نُفُوسَ ٱلأُمَمِ عَلَى ٱلإِخْوَةِ».
    ٱلأُمَمِ الوثنيين أصلاً واعتقاداً. فهم غير اليونانيين الذين ذكروا في الآية الأولى. وفي هذه الآية أمران يستحقان الاعتبار الأول شدة معاداة اليهود للحق فإنهم لم يقتصروا على رفضه بل أرادوا منع غيرهم من قبوله. والثاني قوة تأثير اليهود في الأمم حتى استطاعوا أن يهيجوهم على المسيحيين. ومما يستوجب الذكر أن كل اضطهادات المسيحيين التي ذُكرت في أعمال الرسل ابتدأها اليهود إلا اضطهادين. وعلة عداوتهم خوفهم أن يخسروا البركات المختصة بهم باعتبار كونهم شعب الله المختار وورثة المواعيد إذا قُبل الأمم في شركة النعمة بالمسيح.
    ٱلإِخْوَةِ أي المؤمنين بالمسيح من اليهود والأمم. ومما هيّج غضب اليهود غير المؤمنين دعوة بعض اليهود لبعض الأمم أخوة.
    ٣ «فَأَقَامَا زَمَاناً طَوِيلاً يُجَاهِرَانِ بِٱلرَّبِّ ٱلَّذِي كَانَ يَشْهَدُ لِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، وَيُعْطِي أَنْ تُجْرَى آيَاتٌ وَعَجَائِبُ عَلَى أَيْدِيهِمَا».
    مرقس ١٦: ٢٠ وعبرانيين ٢: ٤
    زَمَاناً طَوِيلاً أي كافياً لإتمام قصد الله تبليغ الحق لأهل أيقونية وتأثيره في بعضهم.
    بِٱلرَّبِّ أي بيسوع المسيح. وكانا يجاهران بسلطانه والاتكال عليه وهو الذي شجعهما وجعل كلامهما مؤثراً.
    ٱلَّذِي كَانَ يَشْهَدُ أظهر الله رضاه في عمل الرسولين وأن تعليمهما تعليمه.
    لِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ أي لإنجيله الذي علّته النعمة الإلهية وغايته إظهارها للخطأة.
    آيَاتٌ وَعَجَائِبُ لم يذكر الكاتب أن الرسولين أتيا شيئاً من المعجزات في أنطاكية بيسيدية والظاهر أن إيمان الإخوة في أيقونية نتج عن سماع البراهين لا من مشاهدة الآيات بدليل قوله «تكلما حتى آمن» الخ (ع ١).
    ٤ «فَٱنْشَقَّ جُمْهُورُ ٱلْمَدِينَةِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ مَعَ ٱلْيَهُودِ وَبَعْضُهُمْ مَعَ ٱلرَّسُولَيْنِ».
    ص ١٣: ٣ و١٧: ٤ و٢٨: ٢٤ و٢٨
    فَٱنْشَقَّ جُمْهُورُ ٱلْمَدِينَةِ أن ديانة المسيح ديانة السلام لكن نتيجة إعلانها في العالم الانقسام على وفق أنباء المسيح في (متّى ١٠: ٣٤ و٣٥). وحيث ينجح الحق يهيّج عدوه جنوده على المقاومة.
    ٱلْيَهُودِ غير المؤمنين وهم المذكورون في (ع ٢).
    ٱلرَّسُولَيْنِ أي بولس وبرنابا وسميّا رسولين (مع أن برنابا ليس من الرسل الأصليين) لأنهما أرسلا للتبشير من كنيسة أنطاكية. وبمثل هذا المعنى جاءت لفظة رسول في (يوحنا ١٣: ١٦ ورومية ١٦: ٧ و٢كورنثوس ٨: ٢٣ وفيلبي ٢: ٢٥).
    ٥ «فَلَمَّا حَصَلَ مِنَ ٱلأُمَمِ وَٱلْيَهُودِ مَعَ رُؤَسَائِهِمْ هُجُومٌ لِيَبْغُوا عَلَيْهِمَا وَيَرْجُمُوهُمَا».
    ٢تيموثاوس ٣: ١١
    فَلَمَّا حَصَلَ... هُجُومٌ أي قصد الهجوم لأن القرينة تدل على أنهم لم يهجموا فعلاً. والمراد بالرؤساء هنا رؤساء الأمم واليهود كليهما.
    لِيَبْغُوا أي ليظلموا ويجوروا ولا يخفى ما في ذلك من قصد الإهانة والأضرار.
    وَيَرْجُمُوهُمَا إما تشفياً من غيظهم أو عقاباً على ما اتهموهما به من التجديف في قولهم أن يسوع هو المسيح ابن الله (ص ٧: ٥٧ - ٥٩).
    ٦، ٧ «٦ شَعَرَا بِهِ، فَهَرَبَا إِلَى مَدِينَتَيْ لِيكَأُونِيَّةَ: لِسْتِرَةَ وَدَرْبَةَ، وَإِلَى ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ. ٧ وَكَانَا هُنَاكَ يُبَشِّرَانِ».
    متّى ١٠: ٢٣
    شَعَرَا بِهِ أي بما سبق من قصد الهجوم والبغي وعرفا ذلك بطريق لم يذكره الكاتب. كذا علم بولس بمكيدة اليهود في دمشق فهرب (ص ٩: ٢٤). ولم يهربا جبانة بل إطاعة لأمر المسيح (متّى ١٠: ٢٣). نعم إنهما تركا المكان لكنهما لم يتركا التبشير.
    لِيكَأُونِيَّةَ ولاية داخلية في آسيا الصغرى تحيط بها فريجية وغلاطية وكبدوكية وكيليكية وفيها سهل هو أكبر سهول آسيا الصغرى.
    لِسْتِرَةَ مدينة في جنوبي ليكأونية على أمد نحو أربعين ميلاً من أيقونية وهي مولد تيموثاوس أحد أصدقاء بولس المخلصين واسمها الآن بيك بيركليسة أي ألف كنيسة وكنيسة سُميّت بذلك لكثرة آثار الكنائس فيها.
    دَرْبَةَ مدينة شرقي لسترة موقعها مجهول اليوم والأرجح أنها على غاية خمسة وعشرين ميلاً من لسترة. وربح بولس هنالك صديقاً واحداً إن لم يكن قد ربح سواه وهو «غايوس الدربي» (ص ٢٠: ٤).
    يُبَشِّرَانِ بالمسيح وخلاصه. وزمان إقامتهما هنالك غير مذكور لكن القرينة تدل على أنه كان كافياً لنشر البشرى في الولاية التي هاتان القصبتان منها. والمرجح أن اليهود كانوا قليلين في تلك الأرض إذ لم يذكر لوقا ما يدل على أنه كان مجمع في لسترة أو دربة وأنهما بشرا في الساحات والأسواق وأن معظم السامعين من الأمم.

    تبشير الرسولين في لسترة ودربة وما نشأ عنه ع ٨ إلى ٢٠


    ٨ «وَكَانَ يَجْلِسُ فِي لِسْتِرَةَ رَجُلٌ عَاجِزُ ٱلرِّجْلَيْنِ مُقْعَدٌ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَمْ يَمْشِ قَطُّ».
    ص ٣: ٢
    ذكر لوقا من الحوادث التي جرت للرسولين في خدمتهما في ليكأونية معجزة أتاها بولس في لسترة وما نشأ منها من الرفعة والضعة. ولعلها واحدة من معجزات كثيرة صُنعت في أيقونية (ع ٣).
    كَانَ يَجْلِسُ فِي لِسْتِرَةَ رَجُلٌ المرجّح أنه كان جالساً في ساحة في المدينة يحمله إليها أصدقاءه للتسول وأن بولس اتخذ تلك الساحة مكاناً للتبشير لأنها كانت مجتمعاً للناس.
    عَاجِزُ ٱلرِّجْلَيْنِ الخ فكان في حال يمتنع فيها الشفاء بوسائط بشرية فلم يكن من أمل أن يمشي البتة.
    ٩، ١٠ «٩ هٰذَا كَانَ يَسْمَعُ بُولُسَ يَتَكَلَّمُ، فَشَخَصَ إِلَيْهِ، وَإِذْ رَأَى أَنَّ لَهُ إِيمَاناً لِيُشْفَى ١٠ قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: قُمْ عَلَى رِجْلَيْكَ مُنْتَصِباً. فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي».
    متّى ٨: ١٠ و٩: ٢٨ و٢٩ إشعياء ٣٥: ٦
    يَسْمَعُ بُولُسَ يَتَكَلَّمُ في يسوع المسيح وديانته علناً.
    فَشَخَصَ إِلَيْهِ أي أمعن بولس النظر فيه لكي يرى على وجهه إمارات تأثير الكلام في قلبه. ولعل الله وهب لبولس قوة غير عادية ليرى خفايا أفكاره.
    إِيمَاناً لِيُشْفَى أي ثقة بأن يسوع المسيح قادرٌ أن يشفي أمراض الجسد والنفس وأنه مستعد أن يتحنن عليه. والمرجّح أن بولس كان يذكر في خطابه ما فعله المسيح مما يقوي إيمان السامعين به وينشئ فيهم الرجاء. والإيمان هنا شرط للشفاء كما هو كذلك في أكثر معجزات العهد الجديد.
    قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ كما صرخ يسوع لما أمر لعازر بالخروج من القبر (يوحنا ١١: ٤٣). وهذا نتيجة الانفعال الشديد في قلب المتكلم.
    فَوَثَبَ أي قفز وهذا من الحركات التي يأتيها الإنسان في أول شروعه في المشي قبل أن يختبره. فأظهر بما أتاه طاعته لأمر بولس وقوة إيمانه والقوة التي وهبها الله لبولس. وهذا يذكرنا بالمُقعد الذي شفي في أورشليم عند باب الهيكل الجميل إلا أن ذاك كان ينتظر قبل الشفاء الصدقة فقط من بطرس ويوحنا وأما هذا فكان يصغي إلى بولس قبله ويتأثر بتعليمه وذاك أمسكه بطرس بيده وأقامه وهذا عند سمعه أمر بولس وثب ومشى.
    ١١ «فَٱلْجُمُوعُ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ بُولُسُ، رَفَعُوا صَوْتَهُمْ بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا».
    ص ٨: ١٠ و٢٨: ٦
    فَٱلْجُمُوعُ الذين أكثرهم أو كلهم من الوثنيين.
    مَا فَعَلَ بُولُسُ وهو شفاء المقعد.
    رَفَعُوا صَوْتَهُمْ علامة لدهشتهم ومسرتهم.
    بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ لا يُعلم الآن ما تلك اللغة ولكنها كانت تختص بتلك الكورة البربرية. لكن اليونانية التي تكلم بولس بها كانت معروفة هنالك لأنها كانت اللغة العامة في تلك الأيام. ومن الأمور الطبيعية أن الإنسان إذا اشتد فيه الخوف أو العجب أو غيرهما من الانفعالات يظهر انفعاله بلغته الأصلية لا الأجنبية مهما أحكمها ومارسها. وذكر لوقا تكلمهم بلغتهم الخاصة بياناً أن بولس وبرنابا لم يمنعاهم في أول الأمر من قصدهم عند الصراخ من تقديم العبادة لهما لأنهما لم يفهما ما تكلموا به. ولا شيء في ذلك مناف لما ثبت من أنه كان لبولس موهبة التكلم بالألسنة إذ لا دليل على أن تلك الموهبة كانت غير منفكة عمن وُهبت لهم بل نعم أنها كانت آية على أن صاحبها ملهم من الروح القدس وأنها لا تقتضي أن يفهم صاحبها معنى اللغة الأجنبية التي يتكلم بها غيره (١كورنثوس ١٥: ٢٧ و٢٨).
    ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ الخ اعتقد الوثنيون أن آلهتهم يتخذون أحيانا هيئة الناس ويخالطون البشر. وكتبوا أمثال ذلك في كتب تقاليدهم المعروفة بالميثولوجيا. وفي تلك الكتب أنه ظهر في تلك الناحية زفس وهرمس متنكرين بهيئتي رجلين وأن أهل تلك الناحية الشرسين البخلاء أبوا ضيافتهما لكن قبلهما شخصان فقيران كانا يسكنان في كوخ في الصحراء اسم أحدهما بوخس والآخر فيليمون. وأن ذينك الإلهين سخطا على أهل تلك الأرض فأغرقهم زفس بطوفان عقاباً على ما فعلوا. أما بوخس وفيليمون فأثابهما على كرمهما بأن جعل كوخهما هيكلاً عظيماً لعبادته وجعلهما كاهنين فيه. ولأن أهل لسترة لم يعهدوا قط بشراً يفعل ما فعل بولس وتيقنوا أن ما فعله فوق طاقة البشر استنتجوا ان زفساً افتقدهم كما سبق في تقاليدهم.
    ١٢ «فَكَانُوا يَدْعُونَ بَرْنَابَا «زَفْسَ» وَبُولُسَ «هَرْمَسَ» إِذْ كَانَ هُوَ ٱلْمُتَقَدِّمَ فِي ٱلْكَلاَمِ» .
    زَفْس هو المشتري في العربية وزفس اسمه في اليونانية. وهو جوبيتر الرومانيين وكانوا يعتبرونه ملك الآلهة ويدعونه أبا الآلهة والناس.
    هَرْمَسَ هو عطارد في العربية وهرمس اسمه في اليونانية ومركوريوس اسمه في الرومانية. وكان عند الوثنيين رسول الألهة وترجمان زفس وخادمه في زيارته البشر وكان يُعتبر أنه إله الفصاحة.
    ٱلْمُتَقَدِّمَ فِي ٱلْكَلاَمِ لم يدعوه هرمس إلا لهذا التقدم. فإنه على اعتقادهم أن من يتوقع زيارته من الآلهة زفس وترجمانه هرمس. وأن هرمس هو الذي يتكلم. فعلى ذلك حسبوا بولس المتكلم هرمس وبرنابا زفس بالضرورة. فلا داعي إلى أن ننسب تسميتهم إياهما إلى شيء من هيئتهما ووقارهما.
    ١٣ «فَأَتَى كَاهِنُ زَفْسَ ٱلَّذِي كَانَ قُدَّامَ ٱلْمَدِينَةِ بِثِيرَانٍ وَأَكَالِيلَ عِنْدَ ٱلأَبْوَابِ مَعَ ٱلْجُمُوعِ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ».
    دانيال ٢: ٤٦
    ما رآه أولئك الناس فكراً وأعلنوه قولاً عزموا على أن يجروا ما يقتضيه فعلاً.
    زَفْسَ ٱلَّذِي كَانَ قُدَّامَ ٱلْمَدِينَةِ أي صنمه أو الهيكل الذي كان فيه وثنه لأن الوثنيين اعتادوا أن يضعوا تمثال الإله عند مدخل المدينة التي هو معبودها وحاميها.
    بِثِيرَانٍ كانت تُعدّ من أنفس الذبائح التي تليق بإله الآلهة عندهم.
    وَأَكَالِيلَ كانوا كثيراً ما يستعملونها في العبادة الوثنية ولا تزال مستعملة عند وثنيي الهند اليوم وكانت عندهم زينة للذبيحة الوثنية وكل متعلقاتها من الكهنة والذبائح والهيكل والصنم.
    عِنْدَ ٱلأَبْوَابِ أي قرب الهيكل أو الوثن. ولنا من ذلك أن بولس وعظ وصنع المعجزة قرب تلك الأبواب أو أن الناس جذبوه إلى هنالك.
    كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ أي للرسولين لاعتقاده أنهما إلهان متجسدان لو لم يمنعاه لذَبَحَ.
    ١٤ «فَلَمَّا سَمِعَ ٱلرَّسُولاَنِ، بَرْنَابَا وَبُولُسُ، مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا، وَٱنْدَفَعَا إِلَى ٱلْجَمْعِ صَارِخَيْنِ».
    متّى ٢٦: ٦٥
    سَمِعَ ٱلرَّسُولاَنِ أي سمعا نبأ ما أرادوا إذ لا بد من أنهما سمعا الصراخ قبلاً ولم يفهما المراد فالأرجح أنهما سألا عن ذلك وغايته مما رأيا من الثيران والأكاليل فأُخبرا.
    مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا هذا من عادة اليهود عند إرادة إظهارهم شدة النفور من الأمر أو الحزن لوقوعه. فقصد الرسولان إعلان اقشعرارهما ونفورهما من أن يقدم لهما العبادة المختصة بالله والحزن على جهل أهل لسترة وإثمهم (٢صموئيل ١: ٢ ومتّى ٢٦: ٦٥). ومنع الرسولين قبول ذلك الإكرام يذكرنا رفض بطرس أن يقبل سجود كرنيليوس (ص ١٠: ٢٥) ويذكرنا أيضاً ما أصاب هيرودس من ضرب الملاك إياه لأنه رضي لنفسه الإكرام المختص بالله (ص ١٢: ٢٢).
    وَٱنْدَفَعَا إِلَى ٱلْجَمْعِ صَارِخَيْنِ لأن صراخ الجمهور كان يمنعه من سمع كلامهما ما لم يدخلا فيه ويكفوه عن فعله بالأصوات والإشارات.
    ١٥ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هٰذَا؟ نَحْنُ أَيْضاً بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ، نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هٰذِهِ ٱلأَبَاطِيلِ إِلَى ٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا».
    ص ١٠: ٢٦ يعقوب ٥: ١٧ ورؤيا ١٩: ١٠ و١صموئيل ١٢: ٢١ و١ملوك ١٦: ١٣ وإرميا ١٤: ٢٢ وعاموس ٢: ٤ و١كورنثوس ٨: ٤ و١تسالونيكي ١: ٩ تكوين ١: ١ ومزمور ٢٣: ٦ و١٤٦: ٦ ورؤيا ١٤: ٧
    لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هٰذَا أي لا تفعلوه فإنه محرّم.
    نَحْنُ أَيْضاً بَشَرٌ أي لسنا آلهة كما توهمتم.
    تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ أي لا فرق بيننا وبينكم في أننا عرضة للجوع والعطش والوجع والمرض والموت مما عُلم أن الإله منزّه عنه. والنتيجة أننا غير مستحقين العبادة الإلهية.
    أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هٰذِهِ ٱلأَبَاطِيلِ لعلهما أشارا حينئذ إلى الهيكل والصنم والمذبح الخ وسماهما «أباطيل» لأنها مختصة بالآلهة التي لا حياة لها ولا قوة على نفع عبادها ولا وجود لها إذ هي وهمية لا حقيقية. ومراد الرسولين أنهما أتيا تلك المدينة ليرشدا أهلها إلى الإله الحق الذي تصير معرفتهم إياه سروراً لهم حتى تستحق المناداة به أن تسمى بشارة.
    ٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ هذا وصف ليهوه في العهد القديم للتمييز بينه وبين «الأوثان البكم» التي لا حس لها ولا حياة (١صموئيل ١٧: ٢٦ وتثنية ٥: ٢٦ ويشوع ٣: ١٠ و١تسالونيكي ١: ٩).
    ٱلَّذِي خَلَقَ الخ فهو محيي ومصدر كل بركة ولذلك هو الذي يستحق العبادة لا سواه. ولا بد من أن تعليم التوحيد كان تعليماً جديداً عندهم لأنهم اعتقدوا وجود آلهة أُبدعت من لا شيء بكلمة الله.
    كان على الناس أن يعرفوا من مشاهدة الخليقة وجود الله وبعض صفاته لكنهم جهلوه وعبدوا المخلوق دون الخالق.
    ١٦ «ٱلَّذِي فِي ٱلأَجْيَالِ ٱلْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ».
    مزمور ٨١: ١٢ وص ١٧: ٣٠ و١بطرس ٤: ٣
    فِي ٱلأَجْيَالِ ٱلْمَاضِيَةِ أي العصور التي كانت قبل مجيء المسيح وإعلان إنجيله وهي نحو ٤٠٠٠ سنة.
    تَرَكَ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ المراد بالأمم جميع الناس إلا الإسرائيليين. ومعنى تركه إياهم أنه لم يعلن نفسه لهم بالوحي ولم يمنعهم عما اعتقدوا وفعلوا. ولا يلزم من ذلك أنه رضي اعتقادهم وفعلهم. ولا نعلم علة تركه إيّاهم لإرشاد عقولهم ولأحكامهم ولاختيارهم ما يشاؤون من الدين ولعلها قصده أن يرى عجز العقل عن أن يرشد الإنسان ويحفظه من السقوط إلى شر الضلال وأفظع الآثام وليبرهن شدة افتقاره إلى الوحي.
    فِي طُرُقِهِمْ أي لا طريق الله التي أمر بها.
    ١٧ «مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً، يُعْطِينَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً».
    ص ١٧: ٢٧ ورومية ١: ٢٠ ولاويين ٢٦: ٤ وتثنية ١١: ١٤ وأيوب ٥: ١٠ ومزمور ٦٥: ١٠ و١٤٧: ٨ وإرميا ١٤: ٢٢ ومتّى ٥: ٤٥
    مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ نعم أن الله لم يرسل إليهم الوحي لكنهم أذنبوا بجهلهم وضلالهم وليس لهم من عذر لأنه كان يبرهن لهم دائماً وجوده وصفاته بأعمال الخليقة والعناية كما أبان بولس في رسالته إلى الرومانيين (رومية ١: ١٨ - ٢١).
    يَفْعَلُ خَيْراً هذا بعض الشاهد. ففعله الخير يشهد بأنه محب للناس محسن إليهم يسر بمسرتهم وذلك خلاف الأوثان التي لا تفعل من الخير شيئاً.
    أَمْطَاراً وهذه أيضاً تشهد بعنايته وقدرته وحكمته ومحبته لأنه يرسل الماء بالقدر الذي تحتاج الأرض إليه (مرقس ٨: ١٢ ولوقا ٩: ٥٤ و١٧: ٢٩ و٢١: ١١ ويوحنا ٦: ٣١ و٣٢).
    وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً وهذا يشهد بجودة الله فإنه يندر أن تكون الأزمنة عقيماً لأنه ثبت قول الرب منذ أيام نوح «مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا تزال».
    طَعَاماً وَسُرُوراً الخصب علة السرور والقحط علة الغمّ فامتلاء القلوب سروراً من امتلاء الأفواه طعاماً شاهد بجودة الله المعتني بالخلق.
    إن الرسل حين خاطبوا اليهود كانوا يبرهنون تعليمهم بآيات كتابهم كما جاء في مواضع كثيرة منها (ص ٢: ١٦ - ٣٦ و٣: ٢٢ - ٢٦). وحين كانوا يخاطبون الأمم كانوا يبرهنون مطاليبهم من آيات الخليقة كما جاء هنا وفي خطاب بولس في أثينا (ص ١٧).
    ١٨ «وَبِقَوْلِهِمَا هٰذَا كَفَّا ٱلْجُمُوعَ بِٱلْجَهْدِ عَنْ أَنْ يَذْبَحُوا لَهُمَا».
    هذا إيضاح أن الرسولين نالا مرادهما وهو منع أولئك الناس من تقديم العبادة لهما بعد بذل كل الجهد وأنهم لم يصدقوا تعليمهما وهو أن الأوثان أباطيل وأنهما ليسا بإلهين لأن صنع تلك المعجزة أوهمهم خلاف ذلك. والخلاصة أنهم مُنعوا وما قنعوا.
    ١٩ «ثُمَّ أَتَى يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَقْنَعُوا ٱلْجُمُوعَ، فَرَجَمُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ».
    ص ١٣: ٤٥ و٢كورنثوس ١١: ٢٥ و٢تيموثاوس ٣: ١١
    يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ أي من المدينتين اللتين طُردا منهما بواسطتهم. وهؤلاء المضطهدون لشدة غيظهم وحسدهم تبعوهما مسافة طويلة ليفسدوا أفكار الناس ويهيجوهم عليهما.
    أَقْنَعُوا ٱلْجُمُوعَ لعل الذي مكّن اليهود من إقناع الأمم بوجوب اضطهاد الرسولين غيظهم من قولهما في أوثانهم المعبودة أنها «أباطيل» وخيبة ظنهم أن الآلهة افتقدوهم ورفضهما إكرامهم إياهما بعلامات النفور وأعظم من كل ذلك افتراء اليهود عليهما أنهما فعلا المعجزة ببعلزبول رئيس الشياطين كما افترى يهود أورشليم على يسوع (متّى ١٢: ٢٤).
    فَرَجَمُوا بُولُسَ لم يظهر من الكلام من هم الذين رجموا بولس الأمم أنفسهم أم اليهود بإذنهم والأرجح الثاني لأنهم قصدوا ذلك في إيقونية وما استطاعوه. والرجم عقاب لم يعتده غير اليهود. ورجموا بولس دون برنابا لأنه كان المتقدم في الكلام والعمل. وهذا الرجم ذكره بولس في (٢كورنثوس ١١: ٢٦ و٢تيموثاوس ٣: ١١). ولا يبعد عن الظن أن بولس ذكر وقتئذ يوم رُجم استفانوس لعلة كعلّة رجمه هو وأنه كان من عصابة الراجمين.
    وَجَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ فإذاً رجموه داخل المدينة بخلاف رجمهم لاستفانوس لأنهما أخرجوه من المدينة قبلما رجموه لاعتبارهم أورشليم مدينة مقدسة تُنَّجس بالقتل داخلها. أما لسترة فكانت مدينة وثنية فلم يعتبروا أنها تتدنّس بذلك. ولم يجرّوا بولس خارجاً بغية دفنه بل ليطرحوه للوحوش طعاماً.
    ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ لا يلزم من هذا أنه مات حقاً أو لم يمت أما هم فقصدوا أن يميتوه بالرجم وحسبوا أنهم نالوا مقصودهم. ونرى من ذلك بطل المجد العالمي وسرعة زواله لأن الذين كانوا مستعدين أن يعبدوا بولس إلهاً قتلوه بعد قليل وطرحوه خارجاً كبهيم لا يستحق الدفن. ومثل هذا أن الذين صرخوا أمام المسيح أوصنا صرخوا بعد قليل قائلين اصلبه اصلبه.
    ٢٠ «وَلٰكِنْ إِذْ أَحَاطَ بِهِ ٱلتَّلاَمِيذُ قَامَ وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ، وَفِي ٱلْغَدِ خَرَجَ مَعَ بَرْنَابَا إِلَى دَرْبَةَ».
    وَلٰكِنْ إِذْ أَحَاطَ بِهِ ٱلتَّلاَمِيذُ أي المسيحيون فمعنى التلاميذ هنا كمعنى الإخوة في (ع ٢) وأحاط به بعضهم للنوح عليه الآخرون ليروا أحيّ هو أم ميت. فبولس لم يشغل هناك سوى وقت قصير ولكنه لم يتعب باطلاً إذ أرشد جماعة إلى الرب والأرجح أن منهم تيموثاوس بدليل قول بولس له «أنت تعلم ما أصابني في لسترة» (٢تيموثاوس ٣: ١١).
    قَامَ وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ ظن بعضهم أن بولس كان قد أغمي عليه فظهر أنه قد مات ثم أفاق بعد قليل. وظن بعضهم أنه مات حقيقة ثم قام بمعجزة إلهية. وليس في التاريخ ما يثبت أحد الرأيين والأرجح أن الله حفظه بعناية خارقة العادة حتى لم يمته الرجم ثم قوّاه حتى عاد إلى قوته العادية بعد كل ما أصابه فاستطاع أن يمشي ويسافر ويعظ كعادته.
    مَعَ بَرْنَابَا لم يظهر أنه أصاب برنابا شيء من الشر في الهياج الذي حدث في لسترة وعلّة ذلك أنه ترك الكلام لبولس فلم يهيّج على نفسه شيئاً من غضب القوم.
    إِلَى دَرْبَةَ (انظر شرح ع ٦). هذا دليل على أن بولس عاد إلى قوته المعتادة حتى استطاع السفر.

    رجوع الرسولين في الطريق التي أتيا فيها إلى برجة ومنها إلى أنطاكية سورية ع ٢١ إلى ٢٨


    ٢١ «فَبَشَّرَا فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ وَتَلْمَذَا كَثِيرِينَ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى لِسْتِرَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَنْطَاكِيَةَ».
    متّى ٢٨: ١٩
    فَبَشَّرَا فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ لم نسمع أن بولس اضطُهد في دربة لأن أعداءه اعتقدوا أنه مات فلم يسألوا عنه بعد.
    وَتَلْمَذَا كَثِيرِينَ منهم غايوس الدربي (ص ٢٠: ٤). ولا ريب في أن الرسولين تعزيا بما حدث لهما من الراحة والنجاح عما وقع عليهما من بلاء المقاومة في لسترة وغيرهما.
    ثُمَّ رَجَعَا إِلَى لِسْتِرَةَ الخ كان الرسولان وهما في دربة على تخم كيليكيّة وكانت المسافة بين دربة وطرسوس مسقط رأس بولس قريبة (بواسطة مضيق طورس) وكذا المسافة بين طرسوس وأنطاكية سورية. لكنهما فضلا الرجوع في طريق أطول من تلك وأكثر مشقة وخطراً لما ذُكر في الآية التالية. ولم نسمع نبأ اضطهادات جديدة في الأماكن التي اضطُهد فيها قبلاً والمرجح أن علة ذلك أنهما لم يعظا جهراً بل اجتمعا مع الإخوة فقط لأن غايتهما تثبيت المؤمنين لا إفحام غير المؤمنين. ولنا من ذلك أنه يجب على الرعاة أن يسقوا بعد أن يزرعوا وأن يبنوا بعد وضع الأساس.
    ٢٢ «يُشَدِّدَانِ أَنْفُسَ ٱلتَّلاَمِيذِ وَيَعِظَانِهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا فِي ٱلإِيمَانِ، وَأَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
    ص ١١: ٢٣ متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤ ورومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢ و٣: ١٢
    يُشَدِّدَانِ أَنْفُسَ ٱلتَّلاَمِيذِ حديثي الإيمان فافتقروا إلى زيادة التعليم في العقائد والأعمال المسيحية وإلى الحث على القيام بها.
    أَنْ يَثْبُتُوا فِي ٱلإِيمَانِ هذا كنصح برنابا للتلاميذ في أنطاكية سورية (ص ١١: ٢٣). ووعظ الرسولين في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٤٣). وافتقروا إلى ذلك لكثرة التجارب المحيطة بهم.
    بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ الخ هذا قانون يصدق على المؤمنين في كل زمان ومكان. ذكره الرسولان لهم لكي لا ييأسوا ويرتدوا عند وقوعهم في البلاء لأن وقوع المؤمن في الضيق ليس من غرائب الأمور في اختبار المؤمنين بل مما يجب أن يُتوقع. وليس هو بدليل على أن المبتلي به ضال سخط الله عليه أو أن الله قد نسبه أو تغافل عنه. وهذا القانون وُضع على المسيح وعلى تلاميذه أجمعين حتى أعزّهم فلا يعثر أحد بالرزايا بل ليثبت كالذين سبقوه إلى السماء.
    والاضطرار المشار إليه بقوله «ينبغي» مصدره الأول مشيئة الله والثاني ما تقتضيه أحوال المسيحيين في هذا العالم عدوّ الله الحق.
    والمراد «بملكوت الله» هنا ملكوته حين يكمل في السماء حيث الثواب والراحة فالذي يستثقل حمل الصليب هنا لا يستطيع أن يتوقع لبس إكليل الحياة هناك (رؤيا ٧: ١٤).
    ٢٣ «وَٱنْتَخَبَا لَهُمْ قُسُوساً فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ، ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ وَٱسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ ٱلَّذِي كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ».
    ص ٢٠: ١٧ وتيطس ١: ٥
    إن الرسولين فضلاً عن تعليم التلاميذ وحثهم في كل مدينة نظموهم كنائس. وهذا النظام ضروري للثبوت والتقدم والاقتدار على النفع ببشرى الإنجيل. نعم أن المسيح لم يعيّن لتلاميذه شروط النظام بل ترك لهم أن يحكموا بما تحتاج إليه الكنيسة بإرشاد الروح القدس الذي حل عليهم.
    وَٱنْتَخَبَا لَهُمْ قُسُوساً القسوس جمع قس من قاشيشو في السريانية ومعناه شيخ ويسمون أيضاً أساقفة (قابل الآية السابعة عشرة بالآية الثامنة والعشرين من ص ٢٠ فالذين سموا قسوساً في الأولى سموا أساقفة في الثانية).
    انتظمت الكنائس المسيحية الأولى على مثال نظام البيوت الموقرين المتقدمين في السن وكانت وظيفتهم ترتيب العبادة والتعليم والسياسة في الروحيات. ولما انتظمت الكنائس المسيحية اختبر رؤساؤها اختيار رؤساء المجامع وسموا بأسمائهم وقاموا مقامهم ووكل إليهم ما وكل إلى أولئك في الروحيات.
    ولم يذكر الكاتب شيئاً من كيفية انتخاب القسوس أبالقرعة كان كما في (ص ١: ٢٦) أم بالصوت الحي ورسم الرسولين كما في (٦: ٥ و٦) أم باختيارهما. ولم يذكر الكاتب شيئاً من طريقة رسمهم قسوساً والذي نعلمه أنهما رسما البعض بالانتخاب والصلاة والصوم لخدمة الكنيسة في التعليم والتعزية والسياسة والتعميد وكسر الخبز في العشاء الرباني وفي دفن الموتى.
    ومن البديه أن القسوس في تلك الكنائس لم يكونوا متعلمين كما يقتضيه عملهم الروحي لكنهم كانوا من أفضل المؤمنين يومئذ معرفة وتقوى وكان الروح القدس يكمل نقصهم. والأرجح أنهم لم يتركوا مهنتهم بل كانوا يحصلون بها على كل النفقة أو بعضها وهم يخدمون الكنائس.
    فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ لا يستلزم الكلام هنا أن الرسولين رسما في كل كنيسة قسيساً واحداً أو قسوساً. ولا يبعد عن الظن أنهما رسما في بعض الكنائس قسيسين أو أكثر كما نعلم أنه كان في كنيسة أفسس قسوس (ص ٢٠: ٧) وكذلك في فيلبي (فيلبي ١: ١).
    ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ أتت كنيسة أنطاكية سورية مثل هذا في رسامة بولس وبرنابا لخدمتهما الخاصة (ص ١٣: ٢ و٣). وأتى مثله الرسولان في رسامة أولئك القسوس فنستنتج من ذلك أنه يليق ويجب اقتران الصلاة بالصوم في إفراز الناس للخدمة الروحية لأن إفرازهم بلا صلاة هزءٌ وعبثٌ والصوم مساعد على الصلاة.
    تأخر الرسولين عن تنظيم الكنائس إلى حين رجوعهما يحتمل أنه كان عن عمد لتكون للمؤمنين فرصة أن يتقدموا شيئاً في الحياة الروحية وليظهر منهم الذين هم أهل لأن يكونوا مرشدي الباقين وأنه كان عن اضطرار لأن الرسولين طُردا بالسرعة في أول جولانهما.
    وَٱسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ بالصلاة كأنهم وديعة ثمينة سلمها الرسولان إلى الرب يسوع ليحفظها وكذا فعل بولس في كنيسة أفسس (ص ٢٠: ٣٢) وذلك يدل على ثقة الرسولين بالمسيح ومحبتهما للإخوة.
    آمَنُوا بِهِ أي آمنوا بأنه فاديهم.
    ٢٤، ٢٥ «٢٤ وَلَمَّا ٱجْتَازَا فِي بِيسِيدِيَّةَ أَتَيَا إِلَى بَمْفِيلِيَّةَ، ٢٥ وَتَكَلَّمَا بِٱلْكَلِمَةِ فِي بَرْجَةَ، ثُمَّ نَزَلاَ إِلَى أَتَّالِيَةَ».
    فِي بِيسِيدِيَّةَ زائرين أنطاكية قصبتها.
    فِي بَرْجَةَ أتياها قبلاً لكنهما لم يبشرا فيها وهنالك تركهما يوحنا مرقس (ص ١٣: ١٣). والظاهر أنهما لم يقاوما فيها ولم ينجحا نجاحاً يُذكر.
    أَتَّالِيَةَ مدينة في بمفيلية على شاطئ البحر تُعرف اليوم بأضاليا ولا تزال مدينة كبيرة مشهورة بالتجارة كما كانت يومئذ. ولم يذكر الكاتب أنهما بشرا فيها ولعلهما ذهبا إليها ليجدا سفينة يسافران فيها إلى سورية.
    ٢٦ «وَمِنْ هُنَاكَ سَافَرَا فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، حَيْثُ كَانَا قَدْ أُسْلِمَا إِلَى نِعْمَةِ ٱللّٰهِ لِلْعَمَلِ ٱلَّذِي أَكْمَلاَهُ».
    ص ١٣: ١ الخ و١٥: ٤
    أَنْطَاكِيَةَ أي أنطاكية سورية.
    أُسْلِمَا أي سلمتهما الكنيسة عند انطلاقهما بالصلاة إلى عناية الله المنعم ليحفظهما في سفرهما وأعمالهما وأنها ثابرت على الصلاة من أجلهما في غيابهما. ولم يكن تسليمهم عبثاً لأنهما نجحا في عملهما ورجعا بالسلامة.
    لِلْعَمَلِ أي للتبشير بالإنجيل في البلاد الأجنبية وهو العمل الذي دعاهما إليه الروح القدس وأفرزتهما له الكنيسة.
    ٢٧ « وَلَمَّا حَضَرَا وَجَمَعَا ٱلْكَنِيسَةَ، أَخْبَرَا بِكُلِّ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مَعَهُمَا، وَأَنَّهُ فَتَحَ لِلأُمَمِ بَابَ ٱلإِيمَانِ».
    ص ١٥: ٤ و١٢ و٢١: ١٩ و١كورنثوس ١٦: ٩ و٢كورنثوس ٢: ١٢ وكولوسي ٤: ٣ ورؤيا ٣: ٨
    ٱلْكَنِيسَةَ التي أرسلتهما للتبشير بأمر الروح القدس (ص ١٣: ٢ و٣).
    أَخْبَرَا كانت وسائط الأخبار بين أنطاكية والأماكن التي ذهب إليها الرسولان نادرة في تلك الأيام فكانت الكنيسة في غيابهما تجهل أمورهما فلا ريب في أنها كانت شديدة الرغبة في سمع خبرهما بالتفصيل.
    بِكُلِّ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مَعَهُمَا أي بواسطتهما كأنهما آلتان له. وهذا مثل ما جاء في (١كورنثوس ٣: ٩) وعليه يكون العامل هو الله وكل المجد له.
    وَأَنَّهُ فَتَحَ لِلأُمَمِ بَابَ ٱلإِيمَانِ المؤدي إلى بيت الله السماوي. وهو الباب الذي كان قد أُوصد منذ ١٥٠٠ سنة على الجميع إلا اليهود أو من خضعوا لناموس موسى مثلهم. وفتحه بطرس للأمم شيئاً في أول الأمر فدخل كرنيليوس وأصحابه (ص ١٠: ٤٥). وثم فتحه لهم بولس كل الفتح في جولاته للتبشير وهو لا يزال مفتوحاً لهم. وسمي «باب الإيمان» تمييزاً له عن باب أعمال خلاص النفوس بالإيمان بيسوع المسيح دون حفظ الرسوم الموسوية.
    ٢٨ «وَأَقَامَا هُنَاكَ زَمَاناً لَيْسَ بِقَلِيلٍ مَعَ ٱلتَّلاَمِيذِ».
    زَمَاناً لَيْسَ بِقَلِيلٍ أي ليس أقل من سنتين ويحتمل أن يكون أكثر من سنتين لأنه صعد إلى أورشليم بالإحسان وقت الجوع وموت هيرودس المذكور في (ص ١٢) وكان ذلك سنة ٤٤ ب. م. وشرع في الجولان للتبشير مع برنابا سنة ٤٥ فشغل ما بين سنة ٤٥ وسنة ٥٠ أي خمس سنين بالسفر وبالإقامة المذكورة هنا لأن المجمع الأورشليمي المذكور في (ص ١٥) التأم سنة ٥٠ ب. م.
    مَعَ ٱلتَّلاَمِيذِ هذا يفيد أنهما رجعا إلى عملهما الأول بين «الأنبياء والمعلمين» (ص ١٣) ليخدما الكنيسة ويستعدا لعمل آتٍ بين الأمم فلم يقيما بطّالين.

  3. #3
    الأصحاح الخامس عشر

    مباحثة في أنه هل يجب على مؤمني الأمم حفظ الرسوم الموسوية ع ١ إلى ٣٥


    ١ «وَٱنْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ ٱلإِخْوَةَ أَنَّهُ: إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى، لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا».
    غلاطية ٢: ١٢ يوحنا ٧: ٢٢ وع ٥ وغلاطية ٥: ٢ وفيلبي ٣: ٢ وكولوسي ٢: ٨ و١١ و١٦ تكوين ١٧: ١٠ ولاويين ١٢: ٣
    وَٱنْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ هذه الآية متعلقة بالآية الثامنة والعشرين من (ص ١٤) والمعنى أنه في أثناء إقامة بولس وبرنابا في أنطاكية للتبشير انحدر القوم. والظاهر بما أنبأ به بطرس من رؤياه في يافا وحلول الروح القدس على كرنيليوس وأصدقائه في قيصرية مما دل على جواز دخول مؤمني الأمم الكنيسة المسيحية بدون أن يتهودوا أولاً ويخضعوا لكل الرسوم الموسوية. وأنه حملت بعضهم الغيرة للشريعة الموسوية على النزول إلى أنطاكية ليجذبوا الإخوة فيهم إلى رأيهم وهو أن يوجبوا على المؤمنين من الأمم حفظ ناموس موسى.
    يُعَلِّمُونَ في هذا تلميح إلى دعواهم أنهم أُرسلوا نواباً عن الكنيسة في أورشليم لأنها إذ كانت أم الكنائس اعتنت بطهارة سائر الكنائس في العقائد والأعمال.
    ٱلإِخْوَةَ كان أكثر هؤلاء الإخوة من متنصري الأمم.
    أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا ما ذُكر في هذه الآية خلاصة تعليمهم لا قولهم بلفظه. وكنوا بالختان هنا عن كل الرسوم الموسوية كما كُني بالصليب عن الإنجيل كله (١كورنثوس ١: ١٨ وغلاطية ٦: ١٢ و١٤ وفيلبي ٣: ١٨).
    لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا ما اكتفوا أن يعتبروهم غير أهل للشركة معهم في الكنيسة المنظورة حتى حكموا بأنهم لا شركة لهم مع المخلصين في السماء. فيكون تعليمهم أن الإيمان بالمسيح لا يخلصهم ما لم يختتنوا ويحفظوا سائر ناموس موسى. وهذا المبدأ الأعظم عند الفرقة الأبيونية التي اشتهرت في القرون المسيحية الأولى.
    ٢ «فَلَمَّا حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ وَمُبَاحَثَةٌ لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ مَعَهُمْ، رَتَّبُوا أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى ٱلرُّسُلِ وَٱلْمَشَايِخِ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ أَجْلِ هٰذِهِ ٱلْمَسْأَلَةِ».
    غلاطية ٢: ١ و٣
    فَلَمَّا حين نتج عن ذلك التعليم الفاسد ما ذُكر بعد.
    حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ لأنهما اعتقدا غير اعتقادهم وحكما بأن تعليمهم ضار لراحة الكنيسة وتقدمها ومضاد لروح الإنجيل. ولعل بعض الإخوة اقتنع بما قالوا وتحزّب لهم وقلقت ضمائر كثيرين من متنصري الأمم الذين دخلوا الكنيسة بلا ختان.
    رَتَّبُوا لم يذكر الكاتب من هم الذين رتبوا والأرجح أنهم الحزبان.
    أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا باعبتار كونهما من «الأنبياء والمعلمين» وأنهما رسولا الأمم اللذين نظما مؤمني الأمم كنائس بلا التفات إلى مبادئ أولئك المعلمين الذين انحدروا من اليهودية (ص ١٤: ٢٣) فاضطرا أن يفندا مبادئهم الفاسدة دفعاً عن أنفسهما وعن الحق وعن الحرية المسيحية. وذهب أكثر المفسرين أن صعود بولس إلى أورشليم وقتئذ هو الصعود الذي ذكره في (غلاطية ٢: ١ - ٩) وقوله في هذه الرسالة أنه صعد بموجب إعلان لا ينافي ما قيل هنا من أنه صعد بأمر كنيسة أنطاكية فيحتمل أنه بالإعلان وبأمر الكنيسة معاً كما قيل أن الروح أرسله وبرنابا للتبشير وأن الكنيسة أرسلتهما أيضاً.
    وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ أي من أعضاء الكنيسة ولعل تيطس كان من جملتهم (غلاطية ٢: ١).
    إِلَى ٱلرُّسُلِ الذين اتخذوا أورشليم مركزاً يذهبون منه إلى التبشير ويرجعون إليه كما اتخذ بولس وبرنابا أنطاكية مركزاً كذلك.
    وَٱلْمَشَايِخِ هذه ترجمة اللفظة اليونانية التي تُرجمت في (ص ١٣: ٢٣) بالقسوس والظاهر أن المسيحيين في ذلك العصر لم يعتقدوا أن أحداً من الرسل كان رأس الكنيسة وأنه معصوم من الغلط حتى يسألوه دون غيره.
    مِنْ أَجْلِ هٰذِهِ ٱلْمَسْأَلَةِ أي مسئلة حفظ متنصري الأمم ناموس موسى. وعلة رفعها إلى كنيسة أورشليم ثلاثة أمور:

    • الأول: أن كنيسة أنطاكية لم تكن قادرة على أن تحكم بشيء من تلك المسئلة حكماً جازماً يقنع الجميع به وأنها رأت إطالة الجدال فيها ضارة.
    • الثاني: أن كنيسة أورشليم أم الكنائس المسيحية واعتاد اليهود منذ القديم أن يرفعوا كل المسائل الدينية إلى أورشليم كأنها مصدر السلطان الديني وبقوا على ذلك بعد أن تنصروا واقتدى بهم الأمم.
    • الثالث: أنه كان فيها الرسل وهم أرباب الاختبار ومن شاهدوا المسيح نفسه وتعلموا منه شفاهاً.


    ٣ «فَهٰؤُلاَءِ بَعْدَ مَا شَيَّعَتْهُمُ ٱلْكَنِيسَةُ ٱجْتَازُوا فِي فِينِيقِيَّةَ وَٱلسَّامِرَةِ يُخْبِرُونَهُمْ بِرُجُوعِ ٱلأُمَمِ، وَكَانُوا يُسَبِّبُونَ سُرُوراً عَظِيماً لِجَمِيعِ ٱلإِخْوَةِ».
    رومية ١٥: ٢٤ و١كورنثوس ١٦: ٦ و١١ ص ١٤: ٢٧
    شَيَّعَتْهُمُ ٱلْكَنِيسَةُ إظهاراً للمودة والإكرام. ونُسب التشييع إلى الكنيسة لأن الذين خرجوا معهم للوداع كانوا نواباً عن الكنيسة كلها. وهذا يدل على أن الكنيسة كانت راضية آراء بولس وبرنابا لا آراء المعلمين الذين انحدروا من اليهودية.
    فِينِيقِيَّةَ (انظر شرح ص ١١: ١٩).
    ٱلسَّامِرَةِ (انظر شرح ص ٨: ٥).
    بِرُجُوعِ ٱلأُمَمِ من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الحي الحقيقي.
    لِجَمِيعِ ٱلإِخْوَةِ لأن الإخوة الذين في فينيقية والسامرة لم يكونوا متعصبين في ناموس موسى كالمسيحيين في اليهودية فلم يكن من مانع لسرورهم بما يوجب الفرح والشكر.
    ٤ «وَلَمَّا حَضَرُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَتْهُمُ ٱلْكَنِيسَةُ وَٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِكُلِّ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مَعَهُمْ».
    ص ١٤: ٢٧ وع ١٢: وص ٢١: ١٩
    قَبِلَتْهُمُ أي رحبت بهم.
    بِكُلِّ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مَعَهُمْ معظم الأخبار لبولس وبرنابا فإنهما قصا عليهم حوادث سفرهما إلى قبرس ثم إلى آسيا الصغرى ذاكرين مقاومة اليهود لهما وخصوصاً قبول الأمم للإنجيل. ولا ريب في أنهما ذكرا أنهما عمّداهم وقبلاهم في شركة الكنيسة بدون أن يجبراهم على حفظ الناموس. وهذا الاجتماع كان قبل التئام المجمع فكان مقدمة له.
    ٥ «وَلٰكِنْ قَامَ أُنَاسٌ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا مِنْ مَذْهَبِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا، وَيُوصَوْا بِأَنْ يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى».
    ع ١
    ما في هذه الآية كلام لوقا كاتب هذا السفر لا جزء من خبر بولس وبرنابا.
    قَامَ أُنَاسٌ للخطاب بعدما فرغ بولس وبرنابا من حديثهما وهؤلاء أتوا قصد أن يعترضوا على الرسولين.
    مِنْ مَذْهَبِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ امتاز هذا المذهب بين اليهود بشدة تمسك أربابه برسوم الشريعة الموسوية فبقي المتنصرون من أهله شديدي التمسك بتلك الرسوم وكان بولس أصلاً منهم لكنه آمن بأن يسوع مسيح العالم ومخلصه أما هم فآمنوا بأنه مسيح اليهود ومخلصهم فقط.
    يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا ذكروا الختان قبل غيره من رسوم الناموس لأنه كان عندهم أهمها.
    يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى هذا تفسير لقولهم «ينبغي» وبيان لوجوب الختان وغيره من الرسوم الناموسية.
    ٦ «فَٱجْتَمَعَ ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ لِيَنْظُرُوا فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ».
    لم يحكم الرسل بهذه المسئلة وحدهم بل دعوا المشائخ للنظر فيها ولعلهم دعوا بعض مشائخ الكنائس المجاورة لأورشليم لأهمية الأمر لنجاح الكنيسة وراحتها في المستقبل. وهذا هو المجمع الأول في الكنيسة المسيحية حضره أكثر رؤساء النصرانية في ذلك الوقت وهذه المسئلة ليست أقل أهمية من غيرها في المسائل الثلاث العظمى التي شغلت أفكار الكنيسة منذ تأسيسها وهي أولها وكانت سنة ٥٠ ب. م. والثاني مسئلة تأسيسها وهي للأقانيم الثلاثة جوهراً واحداً وأنهم متساوون في القدرة والمجد وكانت هذه هي القرن الرابع. والثالثة مسئلة التبرير بالإيمان وكانت في القرن السادس عشر. ومما يحقق أهمية المسألة الأولة أنه يتوقف عليها أن تكون الكنيسة المسيحية فرعاً من الكنيسة اليهودية محصورة في دائرتها الصغيرة أو أن تكون كنيسة جامعة تفتح أبوابها لكل بشر الأرض.
    ٧ «فَبَعْدَ مَا حَصَلَتْ مُبَاحَثَةٌ كَثِيرَةٌ قَامَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْذُ أَيَّامٍ قَدِيمَةٍ ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ بَيْنَنَا أَنَّهُ بِفَمِي يَسْمَعُ ٱلأُمَمُ كَلِمَةَ ٱلإِنْجِيلِ وَيُؤْمِنُونَ».
    ص ١٠: ٢٠ و١١: ١٢
    مُبَاحَثَةٌ كَثِيرَةٌ بين الحزبين اليهودي العتيق الذي كان يريد أن يضع نير الرسوم الموسوية على أعناق المؤمنين واليوناني الجديد الراغب في الحرية. وكان موضوع المباحثة نسبة الناموس الرمزي إلى الإنجيل ونسبة موسى إلى المسيح. ولم يبيّن الكاتب من هم المتباحثون ولا ماذا كان كلامهم لكنه اقتصر على ذكر الكلام الختامي.
    قَامَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَه لم يستطع بطرس أن ينسى الرؤيا في يافا واختباره في قيصرية حيث سكب الله روحه على كرنيليوس وأصدقائه ودفعه حينئذ عن نفسه أمام كنيسة أورشليم حين شكاه أهل الختان لمخالطته أناساً من الأمم وإدخاله إياهم الكنيسة المسيحية (ص ١١: ٢). ولا ريب في أنه كان لكلامه في المجمع تأثير عظيم لأنه من فائقي الرسل وأكبرهم سناً.
    أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْذُ أَيَّامٍ قَدِيمَةٍ أشار بذلك إلى قصة كرنيليوس الذي هو أدخله الكنيسة بلا ختان ولا غيره من الرسوم الموسوية قبل هذه المباحثة بنحو عشر سنين.
    ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ (انظر متّى ١٦: ١٨ وأعمال ص ١٠).
    بَيْنَنَا أي نحن الرسل وسائر المؤمنين.
    بِفَمِي أي بوعظي. كانت الشكوى على بولس وبرنابا أنهما أتيا أمراً جديداً في الدين حسبوه تعديّاً لحقوق اليهود لكن بطرس الذي هو رسول الختان سبقهما إلى ذلك منذ عدة سنين إذ وعظ أناساً من الأمم وقبلهم في الكنيسة.
    ٨ «وَٱللّٰهُ ٱلْعَارِفُ ٱلْقُلُوبَ شَهِدَ لَهُمْ مُعْطِياً لَهُمُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ كَمَا لَنَا أَيْضاً».
    ١أيام ٢٨: ٩ وص ١: ٢٤ ص ١٠: ٤٤
    ٱللّٰهُ أي أن بطرس لم يأت ما ذُكر من تلقاء نفسه إنما الله هو الذي أمره بما فعل. فاحتجاجه هنا كاحتجاجه في (ص ١١: ٧).
    ٱلْعَارِفُ ٱلْقُلُوبَ مرّ هذا النعت في (ص ١: ٢٤) ولأنه تعالى عارف القلوب لا يمكن أن يخفى عليه مؤمنون بالحق شهُد لهم أم لم يُشهد.
    شَهِدَ لَهُمْ الخ أي لمؤمني الأمم بسكب روحه عليهم كما سكبه يوم الخمسين علينا نحن مؤمني اليهود (ص ١٠: ٤٥ و٤٦).
    ٩ «وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ، إِذْ طَهَّرَ بِٱلإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ».
    رومية ١٠: ١١ الخ ص ١٠: ١٥ و٢٨ و٤٣ و١كورنثوس ١: ٢٢ و١بطرس ١: ٢٢
    بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ نحن اليهود أهل الختان المؤمنين بيسوع والوثنيين أهل الغرلة المؤمنين به. إن الله أعلن للفريقين معجزة واحدة (أي حلول الروح القدس) وتأثيراً قلبياً واحداً.
    إِذْ طَهَّرَ بِٱلإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ أشار بهذا إلى قوله تعالى في الرؤيا «مَا طَهَّرَهُ ٱللّٰهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ» (ص ١٠: ١٥). إن اليهود حسبوا الأمم نجسين لأنهم غلف وإنهم يطهرون بالختان. ولكن بطرس قال هنا إن الله طهرهم بالإيمان ختان القلب الحقيقي. والبرهان على ذلك أنه تعالى سكب الروح القدس على المؤمنين من الأمم وهم غير مختونين كما سكب على المؤمنين من اليهود. وقوله هنا «طهر بالإيمان» موافق لقول المسيح «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا ١٧: ١٧). لأن كرنيليوس وأصدقاءه آمنوا بإنجيل المسيح الذي يقدس به الروح قلوب المؤمنين.
    ١٠ «فَٱلآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللّٰهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟».
    متّى ٢٣: ٤ وغلاطية ٥: ١
    فَٱلآنَ أي وإذا كان الأمر كما ذُكر.
    تُجَرِّبُونَ ٱللّٰهَ أي صبره وطول أناته بطلب براهين أُخر على ما أوضحه أحسن إيضاح لأن الله قد صرّح بأن الإيمان هو الشرط الوحيد لدخول الكنيسة فمن يطلب زيادة برهان على ذلك أو شروطاً أُخر فوق الشرط الذي وضعه الله فهو يجربه تعالى.
    نِيرٍ أي رسوم الشريعة الموسوية. ولعله قصد أيضاً بهذا النير كل الناموس الذي ظن الناس أنهم يحصلون على البر بحفظه (غلاطية ٥: ١).
    لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا الخ هذا إقرار بضعف البشر لا شكوى على الناموس نفسه ولا على الله واضعه. والمعنى أنه إذا كان هذا اختبار آبائنا واختبارنا لذلك النير وجب أن لا نضعه على الأمم أو نوجب عليهم حمله.
    ١١ «لٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضاً».
    رومية ٣: ٢٤ وأفسس ٢: ٨ وتيطس ٢: ١١ و٣: ٤ و٥
    الكلمة ذات الشأن في هذه الآية هي «النعمة» وهي مقابلة الناموس. فالنعمة هي رجاؤنا الخلاص لا أعمال الناموس. نعم نمارس تلك الأعمال لكنا لا نخلص بها فإذا مارسها الأمم لا يخلصون بها إنما يخلصون بالنعمة فلماذا نوجب عليهم ما لا يجديهم نفعاً (رومية ٨: ١ وغلاطية ٢: ١٦). وتعليم الخلاص بالنعمة وهو محور كل تعاليم الإنجيل ففيه الرجاء الوحيد للخطأة الهالكين فليس في الصالحين من يغنيه صلاحه عن النعمة وليس في الأشرار من يمنعه شره منها. وخلاصة خطاب بطرس ثلاثة أمور:

    • الأول: إن الله قضى بتلك المسئلة منذ سنين فإباءة قضائه الآن تجربة له تعالى.
    • الثاني: إن شريعة موسى نير بدليل اختبار السلف للخلاص.
    • الثالث: إن نعمة الرب يسوع وحدها كافية للخلاص. وهذا آخر ما ذُكر في هذا السفر من أمور بطرس.


    نُؤْمِنُ أي مؤمنو اليهود.
    أُولَئِكَ أي مؤمنو الأمم.
    ١٢ «فَسَكَتَ ٱلْجُمْهُورُ كُلُّهُ. وَكَانُوا يَسْمَعُونَ بَرْنَابَا وَبُولُسَ يُحَدِّثَانِ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلآيَاتِ وَٱلْعَجَائِبِ فِي ٱلأُمَمِ بِوَاسِطَتِهِمْ».
    ص ١٤: ٢٧
    فَسَكَتَ عن الجدال وكان هذا من تأثير كلام بطرس ومنه أنه صار لبولس وبرنابا فرصة للتكلم وإصغاء من القوم إليهم ولم يكن لكلامه سلطان إنفاذ الحكم في المسئلة.
    ٱلْجُمْهُورُ كُلُّهُ نستنتج من هذا أنه كان في المجمع كثيرون من أعضاء الكنيسة غير الرسل والمشائخ كما يظهر أيضاً من (ع ٢٢).
    مِنَ ٱلآيَاتِ وَٱلْعَجَائِبِ فِي ٱلأُمَمِ أخبرا قبلاً الكنيسة بمناداتهما الأمم بالإنجيل وتأثيرهما وأخبراها هنا بالآيات والعجائب التي أجراها الله على أيديهما برهاناً على أنه تعالى هو الذي أرسلهما ليبشرا الأمم وأنه رضي تعميدهما الأمم ونظمهما إياهم كنائس بلا خضوع لناموس موسى وإثباتاً لما قاله بطرس في (ع ٨).
    ١٣ «وَبَعْدَمَا سَكَتَا قَالَ يَعْقُوبُ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، ٱسْمَعُونِي».
    ع ١٢: ١٧
    قَالَ يَعْقُوبُ كان كلامه بمنزلة الجواب لما سبق من كلام بطرس وبولس وبرنابا وللمسئلة التي اجتمعوا للنظر فيها. وكان جوابه قاطعاً لكل قول في تلك المسئلة.
    ويعقوب المذكور هنا هو أخو الرب (انظر غلاطية ١: ١٩ و٢: ٩) وهو كاتب الرسالة المشهورة واعتقد أكثرهم أنه كان رئيس هذا المجمع. ظن بعضهم أنه ليس من الرسل وأنه لم يؤمن بالمسيح قبل صلبه (يوحنا ٧: ٥) لكنه اقتنع من ظهور المسيح له بعد قيامته (١كورنثوس ١٥: ٧). وظن آخرون أنه يعقوب بن حلفي وأنه ابن خالة المسيح وسُمي أخاه في اصطلاح اليهود (تكوين ١٤: ١٦ و٢٩: ١٢ و١٥) والأرجح أنه أقام بأورشليم أكثر من سائر الرسل واعتنى بكنيستها اعتناء خاصاً بمنزلة راع لها (ص ١٢: ١٧ و٢١: ١٨ و١كورنثوس ١٥: ٧ وغلاطية ١: ١٩ و٢: ٩ و١٢).
    ١٤، ١٥ «١٤ سِمْعَانُ قَدْ أَخْبَرَ كَيْفَ ٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ أَوَّلاً ٱلأُمَمَ لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْباً عَلَى ٱسْمِهِ. ١٥ وَهٰذَا تُوافِقُهُ أَقْوَالُ ٱلأَنْبِيَاءِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ».
    ع ٧ عاموس ٩: ١١ و١٢
    سِمْعَانُ أي بطرس (متّى ١٠: ٢ و٢بطرس ١: ١).
    ٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ أَوَّلاً ٱلأُمَمَ أي قبل أن أخذ بولس وبرنابا يبشرانهم. فإذاً الله حكم في المسئلة لا هما وأجاز ما فعله بطرس وما فعلاه هما.
    لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْباً كما أخذ أمة اليهود قديماً.
    عَلَى ٱسْمِهِ أي له ومنسوباً إليه ومتكلاً عليه ويتضمن ذلك أن يكون لمجده وإكرامه كما كان الإسرائيليون قبلاً.
    أَقْوَالُ ٱلأَنْبِيَاءِ أخذ يعقوب هنا يبرهن أن ما فعل الله بواسطة بولس وبرنابا من قبول الأمم يوافق كلامه للأنبياء وعلى ذلك تكون «الآيات والعجائب» التي ظهرت عند إيمان كرنيليوس وقبوله في الكنيسة والتي اقترنت بتبشير بولس وبرنابا للأمم ليست إلا ختم الله لما أنبأ به بالأنبياء منذ قرون كثيرة.
    الطريق التي اتخذها يعقوب لتصديق ما فعله الرسولان يجب أن تكون طريق كل مسيحي في كل عصر وهو أن يقابل كل أمر ديني بأقوال الله فإن وافقها سلم به وإلا وجب رفضه.
    ١٦ «سَأَرْجِعُ بَعْدَ هٰذَا وَأَبْنِي أَيْضاً خَيْمَةَ دَاوُدَ ٱلسَّاقِطَةَ، وَأَبْنِي أَيْضاً رَدْمَهَا وَأُقِيمُهَا ثَانِيَةً».
    اقتصر يعقوب على قول واحد من أقوال الأنبياء مثالاً لسائرها وهذا القول من نبوءة عاموس (عاموس ٩: ١١ و١٢) على ما في ترجمة السبعين التي اعتاد اليهود استعمالها. وهو إنباء بدعوة الأمم إلى الشركة في فوائد مجيء المسيح بدون ذكر الختان أو غيره من الرسوم الموسوية شرطاً ضرورياً لذلك.
    سَأَرْجِعُ بَعْدَ هٰذَا أي أنه تعالى يرجع بنعمه وبركاته بعد حدوث المشقات والضيقات المذكورة في (عاموس ٩: ٨ - ١٠).
    وَأَبْنِي أَيْضاً خَيْمَةَ دَاوُدَ ٱلسَّاقِطَةَ صرّح الله هنا بأن الكنيسة اليهودية قد سقطت وأنه قصد أن يبنيها جديداً على أطلالها القديمة. ويتضمن هذا الوعد مسرته بشعبه وتمتع الشعب بكل ما سبق من بركاته الروحية وهو أنباء بمجيء المسيح ابن داود وإنشاء مملكة روحية هي الكنيسة المسيحية التي كنيسة اليهود لم تكن إلا استعدادية لها.
    ١٧ «لِكَيْ يَطْلُبَ ٱلْبَاقُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلرَّبَّ، وَجَمِيعُ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ دُعِيَ ٱسْمِي عَلَيْهِمْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ ٱلصَّانِعُ هٰذَا كُلَّهُ».
    ٱلْبَاقُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ أي الذين خارج الكنيسة اليهودية. فالذي فهمه مترجمو السبعينية هو ما فهمه يعقوب وهو أن الله قصد الأمم بما قاله هنا. وهو مفاد الأصل العبراني إلا أنه ذكر أدوم زيادة على ذلك بناء على أن الآدوميين كانوا أعداء للإسرائيليين منذ أول عهدهم ولكنهم مع ذلك لا يخرجون عن دائرة الوعد. فإذاً وعده تعالى أن يبني خيمة داود بالمسيح يتضمن أن الأمم تشارك اليهود في فوائد هذا البناء. وعلامة إنجاز هذا الوعد أنهم يطلبون ذلك بالرغبة كما يفيد قوله في أول هذه الآية «لكي يطلب الخ».
    ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ دُعِيَ ٱسْمِي عَلَيْهِمْ كما دُعي على الإسرائيليين قبلاً والمعنى أن الله يجعلهم شعبه. وخلاصة ما اقتبسه يعقوب من نبوءة عاموس أن إقامة خيمة داود الروحية الحقة تتضمن قبول كل مؤمن من نسل آدم من اليهود والأمم في كنيسة المسيح بلا أدنى تلميح إلى وجوب حفظ الرسوم الموسوية.
    ٱلرَّبُّ ٱلصَّانِعُ هٰذَا كُلَّهُ الذي ينجز ما وعد لا محالة.
    ١٨ «مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ».
    جَمِيعُ أَعْمَالِهِ أي كل ما يتعلق بإقامة خيمة داود الساقطة ودعوة الأمم. وذلك إنشاء ملكوت روحي يشتمل على اليهود والأمم سواء بدون حفظ الرسوم الموسوية بشرط الإيمان فقط. وهذا مما قصده الله الذي لا يمكن أن يتغيّر وقال يعقوب هذا دفعاً لقول المتهمين بأن قبول الأمم في الكنيسة المسيحية بدعة في الدين. ويلزم من كلام يعقوب حظر مقاومة ما قضى الله به فإنهم إن منعوا الأمم عن الخلاص لعدم اختتانهم قاوموا الله.
    ١٩ «لِذٰلِكَ أَنَا أَرَى أَنْ لاَ يُثَقَّلَ عَلَى ٱلرَّاجِعِينَ إِلَى ٱللّٰهِ مِنَ ٱلأُمَمِ».
    ع ٢٨ ١تسالونيكي ١: ٩
    لِذٰلِكَ أي بناء على ما أعلنه الله وشهد به الأنبياء.
    أَنَا أَرَى كواحد من المجمع لا كحاكم حكماً فاصلاً. لكن المجمع اقتنع بما قاله هو وما قاله غيره قبله فإنه لم يعترض بعد كلامه أحد أو يتكلم شيئاً وهو عرض على المجمع الرقيم الذي رضيه كلهم (ص ١٦: ٤).
    لاَ يُثَقَّلَ بإجبارهم على حفظ الرسوم الموسوية كأنه شرط ضروري للخلاص علاوة على الإيمان.
    عَلَى ٱلرَّاجِعِينَ إِلَى ٱللّٰهِ الخ من الآلهة الباطلة إلى الله الحق.
    ٢٠ «بَلْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ نَجَاسَاتِ ٱلأَصْنَامِ، وَٱلزِّنَا، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلدَّمِ».
    تكوين ٤٦: ٢ وخروج ٢٠: ٣ و٢٣ وحزقيال ٢٠: ٣٠ و١كورنثوس ٨: ١ و١٠: ٢٠ و٢٩ ورؤيا ٢: ١٤ و٢٠ و١كورنثوس ٦: ٧ و١٨ وغلاطية ٥: ١٩ وأفسس ٥: ٣ وكولوسي ٣: ٥ و١تسالونيكي ٤: ٣ و١بطرس ٤: ٣ تكوين ٩: ٤ ولاويين ٣: ١٧ و١٧: ١٣ و١٤ وتثنية ١٢: ١٦ و٢٣ و٢٤
    بَلْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ ارتأى يعقوب أنهم يكتبون إلى مؤمني الأمم أن يمتنعوا عن أربعة أمور اثنان منها من متعلقات الدين الوثني الذي تركوه. والمقصود من النهي عنهما نفعهم وهو أن يتخلصوا من كل تجارب سيرتهم الأولى ولكي لا يكونوا عثرة لغيرهم. واثنان من متعلقات الشريعة الموسوية والمقصود بالنهي عنهما توقي أن يُعثروا إخوتهم من مؤمني اليهود.
    نَجَاسَاتِ ٱلأَصْنَامِ أي مشاركة الوثنيين في ولائمهم الهيكلية والبيتية وحيث يكون اللحم الذي يأكلونه مما ذُبح للأوثان إكراماً وعبادة لها. ولعله قصد أيضاً أن يمتنعوا من أكل ما بقي من ذلك اللحم وبيع في الأسواق. وهو ما قال فيه بولس أن ليس أكله محرماً بنفسه لكنه أوجب اعتزاله حذراً من إعثار الإخوة من مؤمني اليهود الذين حسبوه نجساً ومنجساً (١كورنثوس ١: ١٩ - ٣٣).
    وَٱلزِّنَا عجب بعضهم من ذكر الزنا مع بعض الرسوم والأرجح أن عطف الزنا على نجاسات الأمم منعطف المسبب على السبب. والمعنى أن مشاركتهم الأمم في الأول سبب لمشاركتهم إياهم في الثاني أو عرضة لها لأن عبادة الأوثان كثيراً ما تقترن بتلك الرذيلة. لأن الهياكل كثيراً ما كانت بمنزلة المزاني وكاهناتها زانيات فلم يستطع أحد أن يأتي ولائم الهياكل الوثنية بدون أن يتهم بالزنا. والوثنيون القدماء لم يحسبوا ذلك خطيئة البتة لأن ديانتهم أحلّته لهم. فكان على مؤمني الأمم أن يظهروا مقتهم لذلك الإثم الفظيع قولاً وفعلاً.
    وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلدَّمِ المخنوق المقتول بلا سفك دم. أراد يعقوب أن يمتنع مؤمنو الأمم عن هذين الأمرين لأنهما من المحرمات عند اليهود إذ نهى عنهما (تكوين ٩: ٤ و٥ ولاويين ٣: ١٧ و٧: ٢٦ وتثنية ١٢: ١٦). فلم يكن في وسع مؤمني الأمم أن يأكلوهما بدون أن يعثروا إخوتهم من مؤمني اليهود فيحصل من ذلك الخصام والتشويش.
    وهذه النصائح الأربع اقتضتها أحوال المسيحيين في ذلك الزمان فلم تكن واجبة إلا مع دوام الموجب لحفظها. نعم وجوب حفظ الثاني دائم ولكن لما انتشرت الديانة المسيحية بين الأمم وهنت الوثنية وهُجرت هياكل الأوثان وانتهت نجاساتها. ولما انتشرت بين اليهود رأى المؤمنون منهم أن الذبيحة العظيمة قد قدمت وأنه لم يبق من حاجة إلى الرموز إليها والامتناع عما يحط شأن تلك الرموز.
    ٢١ «لأَنَّ مُوسَى مُنْذُ أَجْيَالٍ قَدِيمَةٍ لَهُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مَنْ يَكْرِزُ بِهِ، إِذْ يُقْرَأُ فِي ٱلْمَجَامِعِ كُلَّ سَبْتٍ».
    ص ١٣: ١٥ و٢٧
    لأَنَّ هذا إما تعليل للكتابة إلى الأمم دون اليهود (انظر ع ٢٣) إذ اليهود لا يحتاجون إليها لسمعهم مثلها في مجامعهم دائماً وأما احتراز من أن مؤمني الأمم يغيظون مؤمني اليهود أو يعثرونهم لأن مؤمني الأمم لم يكونوا منفصلين عن مؤمني اليهود الذين لم يفتأوا يسمعون شريعة موسى ويحفظونها بل كانوا يخالطونهم دائماً.
    مُوسَى هذا دليل واضح على أن يعقوب اعتقد أن موسى هو كاتب أسفار الشريعة وأنه هو المشترع في أمور العبادة.
    فِي كُلِّ مَدِينَةٍ كان لليهود مهاجر في كل المدن الكبيرة شرقي أورشليم وغربيها كمدن قبرس ومصر والمملكة الرومانية وفي أكثرها مجامع اليهود.
    إِذْ يُقْرَأُ أي تُقرأ كتبه.
    فِي ٱلْمَجَامِعِ سبق الكلام على المجامع في (ص ٦: ٩ ومتّى ٤: ٢٣) وكان دخول تلك المجامع مباحاً للمسيحيين والأمم فلا يصعب عليهم أن يعرفوا عقائد اليهود وأعمالهم فلا حجة لهم في ارتكاب ما يكدّر مؤمني اليهود أو يجرح ضمائرهم ويضع أمامهم حجر صدمة.
    كُلَّ سَبْتٍ أي اليوم السابع الذي هو راحة مقدسة لليهود فإذا كانوا لا يسمعون كتب موسى المعيّن للعبادة عندهم.
    ٢٢ «حِينَئِذٍ رَأَى ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ مَعَ كُلِّ ٱلْكَنِيسَةِ أَنْ يَخْتَارُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَيُرْسِلُوهُمَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ مَعَ بُولُسَ وَبَرْنَابَا: يَهُوذَا ٱلْمُلَقَّبَ بَرْسَابَا، وَسِيلاَ، رَجُلَيْنِ مُتَقَدِّمَيْنِ فِي ٱلإِخْوَةِ».
    ص ١: ٢٣
    رَأَى أي حكم.
    ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ مَعَ كُلِّ ٱلْكَنِيسَةِ وهم أعضاء المجمع لا الرسل فقط ولا الرسل والمشائخ دون سائر الكنيسة.
    رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ أي من أعضاء كنيسة أورشليم التي هي أم الكنائس ولعل ذينك الرجلين كانا من مشائخ الكنيسة.
    إِلَى أَنْطَاكِيَةَ أرسلوهما إلى أنطاكية لأن الدعوة رُفعت منها إليهم.
    مَعَ بُولُسَ وَبَرْنَابَا إظهاراً لثقة كنيسة أورشليم بهما واعتبارهما إياهما ولدفع اتهامهما بتزوير الكتابة إن كانت معهما دون غيرهما أو دفعاً لتوهم أن هذه الكتابة رأي بعض الكنيسة لا كلها.
    بَرْسَابَا أي ابن سابا كيوستس الذي ذُكر في (ص ١: ٢٣) ولذلك ظنه بعضهم أخاه ولا نعلم من أمره سوى أنه نبي (ع ٣٢).
    سِيلاَ هو سلوانس سُمي بالأول في سفر الأعمال وبالثاني في الرسائل (١تسالونيكي ١: ١ و٢تسالونيكي ١: ١ و٢كورنثوس ١: ١٩ و١بطرس ٥: ١٢) وهو كان رفيق بولس في سفره الثاني للتبشير (ص ١٥: ٤٠) وسجن معه في فيلبي (ص ١٦: ٢٥).
    مُتَقَدِّمَيْنِ فِي ٱلإِخْوَةِ يحتمل أنهما كانا ممن رافقوا المسيح وهو على الأرض ولذلك كان لهما احترام زائد.
    ٢٣ «وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ هٰكَذَا: اَلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ وَٱلإِخْوَةُ يُهْدُونَ سَلاَماً إِلَى ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلأُمَمِ فِي أَنْطَاكِيَةَ وَسُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ».
    كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ أي كتبوا الرقيم وأرسلوه بواسطة الأربعة بولس وبرنابا ويهوذا وسيلا ففي العبارة إيجاز الحذف.
    اَلرُّسُلُ من هذه الكلمة إلى نهاية (ع ٢٧) مقدمة للرقيم تتضمن تخطئة المعلمين الكذبة وذمهم وتصويب الرسولين ومدحهما.
    يُهْدُونَ سَلاَماً أي يسألون الله سلاماً لكم ومثل هذه التحية لم يُذكر في رسائل المسيحيين في غير هذا الموضع من العهد الجديد إلا في رسالة يعقوب (يعقوب ١: ١) وهذا مما يدل على أن الرسالة كانت من إنشاء يعقوب كما يدل على ذلك موافقة الرقيم لأسلوب خطابه.
    ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلأُمَمِ لأن الكتابة إليهم دون غيرهم. وهنا أظهرت كنيسة أورشليم مودتها لمؤمني الأمم بأن دعتهم إخوة.
    أَنْطَاكِيَةَ وَسُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ هذا يدلنا على غيرة بولس وغيره في زرع كلمة الله في تلك الأماكن وعظمة الحصاد الذي كان منه بنعمة الله. ولولا هذا ما عرفنا أن الأمم في سورية التي هي البلاد المحيطة بأنطاكية وفي كيليكية وهي البلاد المجاور لطرسوس مولد بولس آمنوا بالمسيح جماعات وانتظموا كنائس. ولعل سبب كتابتهم إلى الإخوة في سورية وكيليكية أن المعلمين المفسدين ذهبوا إليهم وأزعجوهم فأرسلوا نواباً عنهم إلى أورشليم.
    ٢٤ «إِذْ قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ أُنَاساً خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا أَزْعَجُوكُمْ بِأَقْوَالٍ، مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ، وَقَائِلِينَ أَنْ تَخْتَتِنُوا وَتَحْفَظُوا ٱلنَّامُوسَ ٱلَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ».
    ع ١ وغلاطية ١: ٧ و٢: ٤ و٣: ١ و٥: ١٢ وتيطس ١: ١٠ و١١
    أُنَاساً خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا هذا دليل على أن أولئك المعلمين ادعوا أنهم رسل كنيسة أورشليم ونوابها في ما قالوا فالكنيسة نفت صحة ادّعاء أولئك الذين أزعجوا الكنائس المنتظمة من مؤمني الأمم.
    أَزْعَجُوكُمْ أي أزالوا راحة ضمائركم وشكوكم في قبول الله إياكم بمجرد إيمانكم بالمسيح.
    مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ هذا مصاب شر من الإزعاج نشأ عن أقوال أولئك المعلمين الفريسية لأنهم أضروا أنفسهم به وجعلوهم عرضة للهلاك الأبدي بأن عدلوا بهم عن الخلاص بالإيمان إلى الخلاص بالأعمال.
    ٱلنَّامُوسَ أي الناموس الرمزي الذي زال بإتيان المرموز إليه أو الناموس رمزياً وأدبياً باعتبار جعلهم حفظة علة التبرير والخلاص.
    ٱلَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ نفت كنيسة أورشليم أنها أعطت أولئك المعلمين شيئاً من سلطان التعليم ولو استشاروا الرسل قبلاً ما وقع هذا الخلاف.
    ٢٥، ٢٦ «٢٥ رَأَيْنَا وَقَدْ صِرْنَا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَنْ نَخْتَارَ رَجُلَيْنِ وَنُرْسِلَهُمَا إِلَيْكُمْ مَعَ حَبِيبَيْنَا بَرْنَابَا وَبُولُسَ، ٢٦ رَجُلَيْنِ قَدْ بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا لأَجْلِ ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
    ص ١٢: ٥٠ و١٤: ١٩ و١كورنثوس ١٥: ٣٠ و٢كورنثوس ١١: ٤٣ و٢٦
    وَقَدْ صِرْنَا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ في هذا تلميح إلى أنهم وإن كان قد حدث شيء بين أعضاء كنيسة أورشليم من اختلاف الآراء (ع ١٤ و١٥) اتفقوا بعد المحاورة كل الاتفاق.
    أَنْ نَخْتَارَ رَجُلَيْنِ وَنُرْسِلَهُمَا صرّح المجمع أنه هو الذي اختار النائبين وأرسلهما لا بولس وبرنابا.
    حَبِيبَيْنَا هذه شهادة حسنة لهما وبيان لثقة الرسل والمشائخ بهما وإكرام لهما وإقرار بسلطانهما على تعليم الأمم ونظمهما مؤمنيهم كنائس.
    بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا الخ هذا يدل على أن أعضاء المجمع عرفوا حوادث أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٠) ولسترة ص ١٤: ١٩). ويتضمن مدحهم شجاعتهما وأنهما عرضا أنفسهما للخطر رغبة في إكرام المسيح وخدمته باعتبار كونه مخلصاً وملكاً ممسوحاً. وأبانوا بقولهم «ربنا» العلاقة بينهم وبين الرسولين وهي أن الذي بذلا أنفسهما لأجله هو ربّنا وربهما.
    لم يكن من عادة المسيحيين الأولين أن يمدح بعضهم بعضاً ولعل الموجب لمدح بولس وبرنابا هنا طعن المعلمين المفسدين في صيتهما وسلطانهما وفي معرفة الرسل إياهما رسولين.
    ٢٧ «فَقَدْ أَرْسَلْنَا يَهُوذَا وَسِيلاَ، وَهُمَا يُخْبِرَانِكُمْ بِنَفْسِ ٱلأُمُورِ شِفَاهاً».
    يُخْبِرَانِكُمْ بِنَفْسِ ٱلأُمُورِ التي أخبرناكم بها كتابة. فكان لهما أن يؤكدا لهم أن ذلك الرقيم من المجمع نفسه وأن كل أعضائه اتفقوا عليه وأن بولس وبرنابا مكرمان ومحبوبان لدى جميع الرسل وسائر المسيحيين الذين في أورشليم وكانا مستعدَّين أن يجاوبا كل من يسألهما من كنيسة أنطاكية ويفسرا ما يحتاج إلى التفسير وكل ذلك لكي يجعلا الاتفاق بين أعضاء الكنيسة ويريحوا ضمائر المزعجين.
    ٢٨، ٢٩ «٢٨ لأَنَّهُ قَدْ رَأَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ وَنَحْنُ، أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلاً أَكْثَرَ، غَيْرَ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءِ ٱلْوَاجِبَةِ: ٢٩ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَمَّا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ ٱلدَّمِ، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلزِّنَا، ٱلَّتِي إِنْ حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ. كُونُوا مُعَافَيْنَ».
    ع ٢٠ وص ٢١: ٢٥ ورؤيا ٢: ١٤ و٢٠ لاويين ١٧: ١٤
    هاتان الآيتان تشتملان على حكم المجمع وما قبله مقدمة له.
    رَأَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ هذا تصريح الرسل والمشائخ والكنيسة بأن ما حكموا به في المجمع هو ما حكم به الروح القدس. وهذا على وفق قول المسيح «إِنِ ٱتَّفَقَ ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا» (متّى ١٨: ١٩ و٢٠). وقوله «وَأَمَّا ٱلْمُعَزِّي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلَّذِي سَيُرْسِلُهُ ٱلآبُ بِٱسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ» (يوحنا ١٤: ٢٦).
    وَنَحْنُ باعتبار كوننا وسائل لإعلان المشيئة الإلهية. وما قيل هنا في ما حكم به المجمع لا يدل على أن ما حكم به غيره من المجامع كان بسلطان إلهي إلا أن يبرهن أنه التأم بإرشاد الروح القدس وسياسته.
    غَيْرَ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءِ ٱلْوَاجِبَةِ كان وجوبها من مقتضى الأحوال يومئذ فهي وقتية سوى المنع عن الزنا. وحكم بها المجمع لأربع غايات:

    • الأولى: حفظ سلام الكنائس المنتظم من مؤمني اليهود والأمم.
    • الثانية: إراحة ضمائر مؤمني الأمم.
    • الثالثة: حمل مؤمني الأمم على اعتزال التجارب التي اعتادوها في ديانتهم الأولى.
    • الرابعة: نفور الكنيسة المسيحية جهراً من رذائل الديانة الوثنية.


    عَمَّا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ هذا تفسير «لنجاسات الأصنام» في (ع ٢٠) فراجع التفسير هناك. وسائر الآية هنا كما سبق في الآية العشرين إلا في الترتيب إذ جمع هنا الأطعمة المحرمة وأفرد الزنا أخيراً.
    مِنْهَا أي أربعة الأمور المنهيّ عنها.
    فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ يحتمل هذا ثلاثة معانٍ:

    • الأول: أنهم بذلك يفعلون ما يجب عليهم أمام الله.
    • الثاني: أنهم يفعلون ما يجب عليهم لإخوتهم حتى لا يعثر الضعفاء منهم.
    • الثالث: إنهم ينفعون أنفسهم. وهنا المجمع مدح من قبل نصحهُ من دون أن يأمر بطاعته أو يحرم من خالفه.


    كُونُوا مُعَافَيْنَ هذا ختام الرقيم بالصورة التي اعتادها اليونانيون (ص ٢٣: ٣٠) ومعناه إرادة دوام النجاح نفساً وجسداً.
    أباحت كنيسة أورشليم المؤلفة من مؤمني اليهود لمؤمني الأمم ترك الرسوم الموسوية ولكنها بقيت مع سائر مؤمني اليهود تحفظها مع الرسوم المسيحية حفظاً كاملاً وقتاً ثم أخذت تتركها شيئاً فشيئاً إلى أن هدم الرومانيون مدينة أورشليم والهيكل ومن ذلك اليوم تركتها كلها.
    ٣٠، ٣١ «٣٠ فَهٰؤُلاَءِ لَمَّا أُطْلِقُوا جَاءُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَجَمَعُوا ٱلْجُمْهُورَ وَدَفَعُوا ٱلرِّسَالَةَ. ٣١ فَلَمَّا قَرَأُوهَا فَرِحُوا لِسَبَبِ ٱلتَّعْزِيَةِ».
    لَمَّا أُطْلِقُوا أي حين أذن لهم في الذهاب وشيعتهم الكنيسة تودداً وإكراماً.
    ٱلْجُمْهُورَ جماعة الكنيسة التي أرسلت بولس وبرنابا إلى أورشليم لأن الرقيم أرسل إليهم جميعاً.
    قَرَأُوهَا أي قرأها بعضهم على مسمع الكنيسة كلها.
    فَرِحُوا لِسَبَبِ ٱلتَّعْزِيَةِ وهي انقطاع أسباب الجدال. وأعظم منه تحققهم أن إيمانهم لم يكن باطلاً وأن نفوسهم ليست بعرضة لخطر الهلاك من عدم حفظهم ناموس موسى وأن الكنيسة لم تحملهم ثقل الختان وغيره من الرسوم. وأن الأسلوب التي جرت عليه الكنيسة بإرشاد بولس وبرنابا كان مرضياً للروح القدس ولأمّ الكنائس. والذي حملهم على الفرح كان من شأنه أن يفرحهم وغيرهم من ذلك اليوم إلى هذه الساعة لأنه زال به الحاجز الذي منع امتداد الكنيسة ولأنه إعلان الحرية المسيحية التي منحها للكنيسة رئيسها وتفضيل شريعة النعمة على شريعة الأعمال. والحقائق التي تضمنها ذلك الرقيم شرحها وأوضحها بولس في رسالته إلى أهل رومية ورسالته إلى أهل غلاطية.
    ٣٢ «وَيَهُوذَا وَسِيلاَ، إِذْ كَانَا هُمَا أَيْضاً نَبِيَّيْنِ، وَعَظَا ٱلإِخْوَةَ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ وَشَدَّدَاهُمْ».
    ص ١٤: ٢٢ و١٨: ٢٣
    قبل أن أرسلتهما كنيسة أورشليم وسبق الكلام على الأنبياء في (ص ١١: ٢٧ و١٣: ١).
    وَعَظَا الوعظ هنا يتضمن معنى التعزية. فوعظ في هذه الآية والتعزية في الآية السابقة مشتقان في اليونانية من أصل واحد فالمعنى أنهما عزّياهم بوعظهما في أمر الرقيم الذي أُرسل إليهم وشرحهما إياه وبيان ما أُثبت به من البراهين كما في خطاب بطرس وخطاب يعقوب.
    شَدَّدَاهُمْ أي قوّياهم وثبّتاهم في إيمانهم بالمسيح بتعليمهما.
    ٣٣ «ثُمَّ بَعْدَ مَا صَرَفَا زَمَاناً أُطْلِقَا بِسَلاَمٍ مِنَ ٱلإِخْوَةِ إِلَى ٱلرُّسُلِ».
    ١كورنثوس ١٦: ١١ وعبرانيين ١١: ٣١
    زَمَاناً كافياً لإتمام ما وُكل إليهما.
    أُطْلِقَا بِسَلاَمٍ أي سلمت الكنيسة برجوعهما وشيعتهما بالصلاة لله والشكر لهما على غيرتهما المسيحية وتعزيتهما إياهم.
    إِلَى ٱلرُّسُلِ أي إلى أورشليم مقام الرسل.
    ٣٤ «وَلٰكِنَّ سِيلاَ رَأَى أَنْ يَلْبَثَ هُنَاكَ».
    يظهر من هذا أن سيلا رجع بعد أن غاب قليلاً أو أنه بدا له أن يقيم بأنطاكية وقتاً إجابة لطلب الإخوة.
    ٣٥ «أَمَّا بُولُسُ وَبَرْنَابَا فَأَقَامَا فِي أَنْطَاكِيَةَ يُعَلِّمَانِ وَيُبَشِّرَانِ مَعَ آخَرِينَ كَثِيرِينَ أَيْضاً بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ».
    ص ١٣: ١
    أَمَّا بُولُسُ وَبَرْنَابَا فَأَقَامَا مواظبين على العمل الذي كانا يمارسانه قبل ذهابهما إلى أورشليم (ص ١٤: ٢٨).
    مَعَ آخَرِينَ كَثِيرِينَ المرجّح أن أنطاكية كانت مركز التبشير لكل سورية ولذلك كثر فيها المبشرون فكان بعضهم يخرج منها ويعظ في الأماكن المختلفة والباقون يعلّمون الذين يأتون إليهم بغية التعلّم.

    مفارقة بولس لبرنابا وشروعه في السفر الثاني ع ٣٦ إلى ٤١


    ٣٦ «ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ قَالَ بُولُسُ لِبَرْنَابَا: لِنَرْجِعْ وَنَفْتَقِدْ إِخْوَتَنَا فِي كُلِّ مَدِينَةٍ نَادَيْنَا فِيهَا بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ، كَيْفَ هُمْ».
    ص ١٣: ٤ و١٣ و١٤ و١٥ و١٤: ١ و٦ و٢٤ و٢٥
    بَعْدَ أَيَّامٍ لا نعلم عددها لكن ظنها بعضهم نحو سنة بعد حكم المجمع الأورشليمي وأن بولس شرع في السفر الثاني للتبشير سنة ٥١ ب. م. وظن أكثر الكتبة أنه في المدة بين المجمع وسفر بولس الثاني حدث ما ذُكر في (غلاطية ٢: ١١ - ١٣) من تصرف بطرس في أنطاكية وتوبيخ بولس إياه.
    قَالَ بُولُسُ أظهر بولس بهذا شدة عنايته بالكنائس التي أنشأها كما أظهرها في رسائله إليها ويؤيد ذلك قوله «عليّ الاهتمام بجميع الكنائس» (٢كورنثوس ١١: ٢٨ انظر أيضاً أفسس ١: ١٦ وفيلبي ١: ٣).
    فِي كُلِّ مَدِينَةٍ في آسيا الصغرى ولعله قصد مدن قبرس أيضاً إذ كان قد أتى إليها في سفره الأول.
    بِكَلِمَةِ ٱلرَّبّ أي إنجيل يسوع المسيح.
    كَيْفَ هُمْ رغب في أن يعرف هل كثر أعضاء الكنائس وهل تقدم كل عضو منهم في الفضائل الروحيّة.
    ٣٧، ٣٨ «٣٧ فَأَشَارَ بَرْنَابَا أَنْ يَأْخُذَا مَعَهُمَا أَيْضاً يُوحَنَّا ٱلَّذِي يُدْعَى مَرْقُسَ، ٣٨ وَأَمَّا بُولُسُ فَكَانَ يَسْتَحْسِنُ أَنَّ ٱلَّذِي فَارَقَهُمَا مِنْ بَمْفِيلِيَّةَ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمَا لِلْعَمَلِ، لاَ يَأْخُذَانِهِ مَعَهُمَا».
    ص ١٢: ١٢ و٢٥ و١٣: ٥ وكولوسي ٤: ١٠ و٢تيموثاوس ٤: ١١ وفليمون ٢٤ ص ١٣: ١٣
    فَأَشَارَ بَرْنَابَا... مَرْقُسَ رغب برنابا في أخذ مرقس معه لانه ابن اخته (كولوسي ٤: ١٠) ولهذا غض النظر عن سوء تصرفه سابقاً بتركه الخدمة في بداءتها.
    وَأَمَّا بُولُسُ الخ حسب مرقس أنه غير أهل لخدمة الإنجيل لأنه تركه وبرنابا سابقاً في أول وضعه يده على المحراث (ص ١٣: ١٣). ولعله خاف أيضاً أن يتركهما وهما في شدة الاحتياج إليه. وإن صحّ ما قيل في شرح (ص ١٣: ١٣) من احتمال أنه تركهما إذ لم يرد أن يعرف بولس رسول الأمم كما عيّن الله وأن لذلك يستحق التقدّم على خاله كان ذلك سبباً أعظم مما ذُكر لعدم قبول بولس مرافقته.
    ٣٩، ٤٠ «٣٩ فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ حَتَّى فَارَقَ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ. وَبَرْنَابَا أَخَذَ مَرْقُسَ وَسَافَرَ فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى قُبْرُسَ. ٤٠ وَأَمَّا بُولُسُ فَٱخْتَارَ سِيلاَ وَخَرَجَ مُسْتَوْدَعاً مِنَ ٱلإِخْوَةِ إِلَى نِعْمَةِ ٱللّٰهِ».
    ص ١٤: ٢٦
    اختلافهما في الرأي أدى إلى الاختلاف في ما اعتمداه قبلاً إذ لم يرض أحد أن يعدل عن رأيه إلى رأي الآخر. ولكن هذا الاختلاف لم يكن إلا وقتياً ولم ينشأ عنه بغض البتة لأن بولس ذكر برنابا بعدئذ شريكاً له في عمل الرب (١كورنثوس ٩: ٦) ورضي عن مرقس ومدحه (٢تيموثاوس ٤: ١١ وكولوسي ٤: ١٠ و١١) على أن ذلك الاختلاف يثبت قول بولس لأهل لسترة نحن أيضاً بشر (ص ١٤: ١٥) وسمح الله بوقوعه لأعظم خير لأنه صار به فرقتان للتبشير بدلاً من واحدة وأربعة وعشرين بدلاً من اثنين.
    مما يثبت صدق الكتاب المقدس أنه لا يستر زلات أفاضل أهله بخلاف كتب المزوّرين فإنها تقتصر على ذكر فضائل أهلها.
    وَبَرْنَابَا أَخَذَ مَرْقُسَ الذي اختار أن يأخذه وأبى بولس أخذه.
    إِلَى قُبْرُسَ موطنه الأصلي (ص ٤: ٣٦).
    فَٱخْتَارَ سِيلاَ وَخَرَجَ لم يذكر الكاتب المدة بين ذهابه وذهاب برنابا ولعله كان بعد وقت كاف لأن يكتب بولس إلى أورشليم يستدعي سيلا منها إن كان قد وصل إليها كما يستنتج من (ع ٣٣) وما ذُكر في الآية الرابعة والثلاثين يشير إلى ما كان بعد رجوعه من أورشليم. وكان سيلا بعد وقت رفيق بطرس الرسول (١بطرس ٥: ١٢).
    مُسْتَوْدَعاً مِنَ ٱلإِخْوَةِ الخ أي سألت الكنيسة عناية الله به وحفظه إيّاه وهذا دليل على أن الكنيسة استحسنت ما فعله أي لم تلمه على إباءته استخدام مرقس. وفي هذه الآية أنباء ببداءة سفر بولس الثاني الذي شغل به نحو ثلاث سنين ونصف سنة وذلك من سنة ٥١ إلى سنة ٥٤ ب. م وما بين رجوعه من سفره الأول وشروعه في الثاني خمس سنين.
    ٤١ «فَٱجْتَازَ فِي سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ يُشَدِّدُ ٱلْكَنَائِسَ».
    ص ١٦: ٥
    فَٱجْتَازَ فِي سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ اللتين قصبتاهما أنطاكية وطرسوس وهاتان مما لم يذهب إليه في سفره الأول ولا نعلم من أسس الكنائس فيهما. والمرجح أن مؤسسيها في سورية بولس وبرنابا وغيرهما من كنيسة أنطاكية (ع ٣٥) وأن مؤسسها في كيليكية بولس قبل أن دعاه برنابا إلى أنطاكية (ص ٩: ٣٠ و١١: ٢٥ و٢٦).
    يُشَدِّدُ ٱلْكَنَائِسَ أي يقويها ويثبتها في الإيمان المسيحي ويتلو عليها رقيم المجمع المرسل إليهم (ع ٢٣).
    كان سفر بولس الثاني في البرّ لا في البحر كالأول فاضطر أن يجتاز في سورية وكيليكيّة إلى المدن التي بشّرها في الأول.

    الأصحاح السادس عشر


    سفر بولس في آسيا الصغرى ع ١ إلى ١٠


    ١ «ثُمَّ وَصَلَ إِلَى دَرْبَةَ وَلِسْتِرَةَ، وَإِذَا تِلْمِيذٌ كَانَ هُنَاكَ ٱسْمُهُ تِيمُوثَاوُسُ، ٱبْنُ ٱمْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ مُؤْمِنَةٍ وَلٰكِنَّ أَبَاهُ يُونَانِيٌّ».
    ص ١٤: ٦ ص ١٩: ٢٢ ورومية ١٦: ٢١ و١كورنثوس ٤: ١٧ وفيلبي ٢: ١٩ و١تسالونيكي ٣: ٢ و١تيموثاوس ١: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٥
    ثُمَّ وَصَلَ أي بولس مع رفيقه سيلا.
    دَرْبَةَ وَلِسْتِرَةَ زارهما في السفر الأول (انظر شرح ص ١٤: ٦) وذهب إليهما في الثاني من طرسوس في مضيق طورس وهو سلسلة جبال ممتدة من الشمال إلى الجنوب طولها نحو ثمانين ميلاً.
    قدم الكاتب في (ص ١٤: ٦) لسترة على دربة لأن بولس أتى إليهما من الغرب فبلغ لسترة قبل دربة وقدم هنا دربة على لسترة لأن بولس أتى إليها من الشرق فبلغ دربة قبل لسترة وهذا من الأدلة على صدق الكاتب.
    وَإِذَا تِلْمِيذٌ أي مؤمن بالمسيح لا نعلم أمن دربة هو أم من لسترة لكن القرينة تشير إلى أنه من لسترة وكان ممن تلمذهم بولس في سفره الأول منذ ست سنين قبل هذا لأن بولس دعاه ابنه (١كورنثوس ٤: ١٧ و١تيموثاوس ١: ٢ و١٨ و٢تيموثاوس ١: ٢ و٢: ١). وكتب إليه رسالتين ووضع اسمه في عنوان خمس من رسائله. وهذا التلميذ خدم كنيسة كورنثوس (١كورنثوس ١٦: ١٠) وكنيسة أفسس (١تيموثاوس ١: ٣) وسُجن مع بولس في رومية المرة الأولى (فيلبي ٢: ١٩). وطلب بولس أن يأتي إليه أيام سُجن ثانية هناك في آخر حياته (٢تيموثاوس ٤: ٩ و٢١).
    ٱمْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ نعلم من ٢تيموثاوس ١: ١٥ أن اسمها أفنيكي وأنها علّمت ابنها الكتاب المقدس.
    أَبَاهُ يُونَانِيٌّ الأرجح أنه وثني إذ لم يذكر الكاتب أنه آمن بالمسيح وهو ليس ممن هادوا ولو كان كذلك لأختتن وختن ابنه ولكنه لم يختن ابنه. ومثل هذا الزواج منعته شريعة موسى (تثنية ٧: ٤ وعزرا ١٠: ٢ و٤٤ ونحميا ١٣: ٢٣). وندر في اليهودية لكنه كثر في مثل ليكأونية مما بعد عن أورشليم واستند من أتوه على ما أتته أستير الملكة زوجة أحشويروس.
    ٢ «وَكَانَ مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ فِي لِسْتِرَةَ وَإِيقُونِيَةَ».
    ص ٦: ٣
    لعل تيموثاوس بشّر بالإنجيل في تينك المدينتين بإرشاد مشائخ كنائسها قبل أن استخدمه بولس وكان حديث السن بدليل قول بولس له يوم أمره بخدمة كنيسة أفسس «لا يستهن أحد بحداثتك» (١تيموثاوس ٤: ١٢ قابل هذا بما في ١تيموثاوس ١: ١٣). ولنا من نبإ تيموثاوس معرفة الصفات الواجب أن تكون للمبشر وهي أن يكون عارفاً بالكتب المقدسة حسناً (٢تيموثاوس ٣: ١٥) وأن يكون مشهوداً له من الإخوة وأن يتعلّم خدمة الكنيسة بإرشاد من يزيده علماً واختياراً.
    إِيقُونِيَةَ ارجع إلى شرح (ص ١٤: ٢١).
    ٣ «فَأَرَادَ بُولُسُ أَنْ يَخْرُجَ هٰذَا مَعَهُ، فَأَخَذَهُ وَخَتَنَهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ فِي تِلْكَ ٱلأَمَاكِنِ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَبَاهُ أَنَّهُ يُونَانِيٌّ».
    ١كورنثوس ٩: ٢٠ وغلاطية ٢: ٣ و٥: ٢
    أَنْ يَخْرُجَ هٰذَا مَعَهُ أي يجول معه للتبشير ويكون بمنزلة مرقس في السفر الأول كما كان سيلا بمنزلة برنابا.
    خَتَنَهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْيَهُودِ لم يحسب بولس هذا الختان ضرورياً لتيموثاوس بمقتضى اعتقاده بدليل قوله «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً» (غلاطية ٦: ١٥) وبمقتضى اعتقاد مؤمني اليهود إذ حكموا بعدم وجوبه في المجمع (ص ١٥: ١ و٢٨ و٢٩). ولكنه استحسنه ليتمكن تيموثاوس من تبشير اليهود إذ كانوا يعرفون أنه ابن وثني فلو لم يختتن ما سمحوا له أن يتكلم في مجامعهم ولا قبلوه معلماً دينياً. وفعل ذلك على وفق المبدإ الذي ذكره في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وهو قوله «فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ ٱلْيَهُودَ، وَلِلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لأَرْبَحَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (١كورنثوس ٩: ٢٠ انظر أيضاً رومية ١٤: ٢١ و١كورنثوس ٨: ٨ و ١٠: ٢٥ و٢٨ وأعمال ٢١: ٢٣ - ٢٦). ولم يختن تيطس كما ختن تيموثاوس لأن تيطس كان مقتصراً على تبشير الأمم ولو ختنه لكان ذلك اعترافاً بضرورية الختان للخلاص (غلاطية ٢: ٣ و٤). ولنا من ذلك أنه يجب على المسيحيين أن يكونوا راسخين في جوهريات الدين وأن يتساهلوا في العرضيات إذا كان التساهل وسيلة إلى ربح النفوس. وليس في هذا شيء يسند ذلك المبدأ القبيح وهو «أن نفعل السيئات لكي تأتي الخيرات».
    ٤ «وَإِذْ كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي ٱلْمُدُنِ كَانُوا يُسَلِّمُونَهُمُ ٱلْقَضَايَا ٱلَّتِي حَكَمَ بِهَا ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ ٱلَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ لِيَحْفَظُوهَا».
    ص ١٥: ٢٨ و٢٩
    ٱلْمُدُنِ التي بشروا فيها سابقاً وهي دربة ولسترة وإيقونية وأنطاكية بيسيدية وغيرهما مما فيها كنائس مسيحيّة.
    ٱلْقَضَايَا التي سبق الكلام عليها في (ص ١٥: ٢٢ - ٢٨) وكانت حينئذ ضرورية لراحة الكنيسة ووحدتها مع أن أكثرها وقتيّ.
    ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ بالنيابة عن الكنيسة كلها.
    ٥ «فَكَانَتِ ٱلْكَنَائِسُ تَتَشَدَّدُ فِي ٱلإِيمَانِ وَتَزْدَادُ فِي ٱلْعَدَدِ كُلَّ يَوْمٍ».
    ص ١٥: ٤١
    تَتَشَدَّدُ فِي ٱلإِيمَانِ أي تزيد ثقة بحقائق الإنجيل وبأن يسوع المسيح هو المخلّص. وما جاء في هذه الآية كان نتيجة افتقاد بولس وسيلا تلك الكنائس وكل ما اقترن به من تعليم وتعزية. فزال بما قصّاه من حكم المجمع موانع انتشار الإنجيل وهي فساد التعليم بوجوب حفظ شريعة موسى فإنهم عدلوا عن الجدال في العرضيات إلى البحث في الجوهريات.
    ٦ «وَبَعْدَ مَا ٱجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ، مَنَعَهُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِٱلْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا».
    فِرِيجِيَّةَ هي القسم الأكبر من أواسط آسيا الصغرى وهي غربي بيسيدية ومن أعظم مدنها كولوسي وهيرابوليس ولاودكية.
    غَلاَطِيَّةَ هي قسم من آسيا الصغرى شرقي فريجية استولى عليها الغاليون وهم سكان فرنسا القدماء ومكثوا فيها سنة ٣٠٠ ق. م ونسبوها إلى اسمهم واستولى عليها الرومانيون سنة ٢٦ ب. م وكان اكثر سكانها من الوثنيين وفيها كثيرون من اليهود. ولم يذكر لوقا ما كان من أتعاب بولس ورفيقيه فيها إذ اعتاد أن لا يذكر إلا ما يحدث في المدن الكبيرة لكننا نعلم أنهم شغلوا زمناً طويلاً هناك وحصلوا على نجاح عظيم ونظموا عدة كنائس وكتب بولس إليها رسالة ظهر منها أنه كان محبوباً إلى أهلها كثيراً (غلاطية ٤: ١٤ و١٥).
    مَنَعَهُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ لا نعلم بأي وساطة منعهم.
    فِي أَسِيَّا المراد بأسيا هنا الغربي من آسيا الصغرى الذي قصبته (أفسس ص ٢: ٩) وهبها أتالوس ملك آسيا للجمهورية الرومانية وفيها الكنائس السبع التي كتب إليها يوحنا الرسول سفر الرؤيا. أراد بولس ان يذهب إليها للتبشير بالإنجيل فلم يأذن له الروح القدس حينئذ لكنه أذن له بعد فبشر فيها ونجح نجاحاً عظيماً.
    ٧، ٨ «٧ فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ، فَلَمْ يَدَعْهُمُ ٱلرُّوحُ. ٨ فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا وَٱنْحَدَرُوا إِلَى تَرُوَاسَ».
    ٢كورنثوس ٢: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ١٣
    مِيسِيَّا قسم الشمال الغربي من آسيا الصغرة.
    بِثِينِيَّةَ شرقي ميسيا على شاطئ البحر الأسود قاعدتها نيقية التي التأم فيها المجمع العام في أيام قسطنطين سنة ٣٢٥.
    لَمْ يَدَعْهُمُ ٱلرُّوحُ مع أنهم اجتهدوا في أن يأتوها بغية تبشير أهلها بالإنجيل. ولا ريب في أن سبب منع الروح إيّاهم من الذهاب إلى أسيا وبيثينية قصد الله أن يذهبوا إلى أوربا وأن يعرفوا مقصد الروح بالتدريج.
    فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا ولم يمكثوا.
    تَرُوَاسَ هي فرضة ميسيا على البوصفور قرب آثار مدينة تروادة التي اشتهرت قديماً بمحاربة اليونانيين إيّاها. ونظم هوميروس الشاعر اليوناني قصيدته المشهورة في تلك الحرب. وذُكرت ترواس أيضاً في (٢كورنثوس ٢: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ١٣ وأعمال ٢٠: ٥) وهذا غاية ما بلغه بولس وسيلا من قارة آسيا. واختصر لوقا تاريخ حوادث هذا السفر بثماني آيات من هذا الأصحاح وآية واحدة من الأصحاح الخامس عشر. وهذا التاريخ وإن كان وجيزاً اشتمل على حوادث شهور كثيرة.
    ٩ «وَظَهَرَتْ لِبُولُسَ رُؤْيَا فِي ٱللَّيْلِ: رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ قَائِمٌ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!».
    رُؤْيَا هذه من الطرق التي اعتاد الله أن يُظهر بها إرادته لعبيده وفي هذا إيضاح الروح ما أُبهم عليهم من قصد الله بمنعهم من الذهاب إلى أسيا وبيثينية قابل بهذا (ص ٩: ١٠ و١٢ و١٠: ٣ و١٧ و١٩ و١١: ٥)
    رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ عرفه بولس من ملبوسه أو لهجته أو أخباره. كانت بلاد اليونان يومئذ قسمين الشمالي مكدونية والجنوبي أخائية. وكانت قديماً مكدونية صغيرة لا يعبأ بها وظلت كذلك إلى أيام فيلبس ثم عظمت في أيامه وزادت عظمتها في أيام بولس خاضعة للرومانيين وقصبتها تسالونيكي مقام الحاكم الروماني واشتهرت عند المسيحيين بكونها أول أرض في أوربا بُشر فيها بالإنجيل.
    ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ أي اقطع البحر بين ترواس ومكدونية.
    وَأَعِنَّا أي ساعد أهل مكدونية ثم سائر اليونان ثم باقي أوربا على الشيطان والجهل والإثم والهلاك ببث بشرى الخلاص. واقتصر على ذكر مكدونية لأنها أول أرض أوربا. ومفاد هذه الاستغاثة أن أهل تلك البلاد في احتياج وخطر وأنهم عاجزون عن إنقاذ أنفسهم وأن الإنجيل الذي بشر به بولس هو وسيلة نجاتهم. وكان اليونانيون والرومانيون مولعين بالفلسفة والفنون ومشهورين بالتجارة والغنى والاقتدار على الرحب ولكنهم كانوا يجهلون الإله الحق وطريق الخلاص وكانوا في غاية الافتقار إلى الغنى الروحي وفي رقّ الشيطان والمعصية.
    أعلن الله في هذه الرؤيا احتياج أهل مكدونية إلى بشرى الخلاص وإرادته أن يذهب بولس إليها ويبشر أهلها. ولا دليل فيها على أن أهل مكدونية شعروا بذلك الاحتياج واشتاقوا إلى إرشاد المعلمين المسيحيين فالأمر كله من الله فإنه هو الذي دعا بولس وسيلا أن يناديا للوثنيين الجهلاء الهالكين بخلاص يسوع المسيح وأن يحتملا بتلك المنادة المشقات والأخطار. ونتيجة هذه الرؤيا إدخال الديانة المسيحية إلى أوربا وما ينتج عنها من الفوائد كالتمدن وما يتعلق به. ولو كانت الدعوة إلى الشرق بدلاً من أن تكون إلى الغرب لرجح أن تكون أحوال الهند والصين اليوم كأحوال أوربا وأميركا فيه من معرفة الدين الحق والتمدن وأن تكون أحوال أوربا وأميركا كأحوال الهند والصين فيه.
    ١٠ «فَلَمَّا رَأَى ٱلرُّؤْيَا لِلْوَقْتِ طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، مُتَحَقِّقِينَ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَعَانَا لِنُبَشِّرَهُمْ».
    ٢كورنثوس ٢: ١٣
    لِلْوَقْتِ أجاب بولس وسيلا دعوة الله بسرعة ومسرة فكانا بذلك قدوة لكل المسيحيين عندما يدعوهم الله إلى التبشير بإنجيله. ولا يزال اليوم مثل استغاثة المكدونيين يُسمع من كل أقطار المسكونة لأنه حيث تكون نفس تجهل طريق الخلاص تصرخ مستغيثة بأهل الإنجيل. وعلى المسيحيين أن يجيبوا الدعوة بالذهاب للتبشير أو ببذل نفقات من يذهبون لذلك. فويل للكنيسة التي تسمع مثل هذه الاستغاثة ولا تغيث نعم وويل لكل من أفرادها إن لم يغث وطوبى لمن يسمع ويغيث (دانيال ١٢: ٣).
    طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ أي حاولنا الحصول على وسائل السفر بحراً إلى مكدونية. وصيغة التكلم هنا تدل على اجتماع لوقا كاتب هذا السفر ببولس وسيلا ومشاركته لهما في كل الحوادث الآتية. والظاهر أن هذا بدء مرافقته بولس.
    وكان لوقا طبيباً بدليل ما في (كولوسي ٤: ١٠) ومبشراً بدليل قوله في هذه الآية «لنبشرهم» وأقوال كثيرة في رسائل بولس ولم نعرف شيئاً من أمر تنصره ولكن من المحتمل أنه سمع الإنجيل من بولس في طرسوس أو أنطاكية ثم ذهب إلى ترواس وبشر بالإنجيل وأنشأ كنيسة فيها لأن بولس لم يبشر هناك إلا بعد رجوعه من هذا السفر ووُجد فيها عند وصوله عدة من المسيحيين مجتمعين للعبادة (ص ٢٠: ٧) ولعله رافق بولس ليعتني بصحته فضلاً عن التبشير لأن بولس كان قد أتى من غلاطية بعد أن مرض فيها (غلاطية ٤: ١٣ - ١٥) وظل مرافقاً لبولس في أكثر أيام خدمته وكان معه في آخر أيام حياته حين تركه كل من سواه (٢تيموثاوس ٤: ١١).
    مُتَحَقِّقِينَ الخ ما رأى الرؤيا سوى بولس لكن رفقاءه تحققوها بشهادته وصدقوا أن الدعوة دعوة الله لا أمر تخيّليّ. كان قصد بولس في أول عزمه على هذا السفر أن يفتقد الكنائس التي أسسها لكن روح الله قاده في طريق لم يقصدها فتبعه راضياً مسروراً.

    بلوغ بولس أوربا وحوادث فيلبي ع ١١ إلى ٤٠


    ١١ «فَأَقْلَعْنَا مِنْ تَرُوَاسَ وَتَوَجَّهْنَا بِٱلٱسْتِقَامَةِ إِلَى سَامُوثْرَاكِي، وَفِي ٱلْغَدِ إِلَى نِيَابُولِيسَ».
    فَأَقْلَعْنَا أي شرعنا في السفر بحراً.
    بِٱلٱسْتِقَامَةِ هذا يدل على أن الريح كانت موافقة لأن سفن تلك الأيام كانت شراعية (أي ذات قلوع).
    سَامُوثْرَاكِي جزيرة في منتصف الطريق بين ترواس ونيابوليس.
    فِي ٱلْغَدِ شغلوا بهذا السفر يومين فقط وشغلوا به غير مرّة خمسة أيام (ص ٢٠: ٦).
    نِيَابُولِيسَ أي المدينة الجديدة وهي فرضة فيلبي واسمها اليوم كفالو. والقرينة تدل على أنهم لم يمكثوا فيها وعلة ذلك خلوها من اليهود أو الرغبة في بلوغ المدينة الكبرى لانتهاز أحسن الفرص لفعل الخير بين الكثيرين.
    ١٢ «وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى فِيلِبِّي، ٱلَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ مِنْ مُقَاطَعَةِ مَكِدُونِيَّةَ، وَهِيَ كُولُونِيَّةُ. فَأَقَمْنَا فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ أَيَّاماً».
    فيلبي ١: ١
    فِيلِبِّي هي مدينة كبيرة نُسبت إلى فيلبس ملك مكدونية إكراماً له فإنه جدّد بناءها وحصنها. حدث فيها سنة ٤٢ ق. م حرب شديدة بين حزبين قائدا أحدهما بروتوس وكاسيوس وقائدا الآخر أوغسطس وأنطونيوس فنتج عنها أن الجمهورية الرومانية تحولت ملكية.
    أَوَّلُ مَدِينَةٍ أي أول المدن التي يبلغها المسافر من الشرق إلى الغرب وتستحق أن تعد بين المدن الأولى في مكدونية لأنه لم يُفقها مقاماً سوى تسالونيكي. وهي ليست اليوم إلا قرية صغيرة يحيط بها أطلال كثيرة.
    كُولُونِيَّةُ أي مهجر أسكنه أوغسطس قيصر جمهوراً من الجند الروماني تذكاراً لانتصاره هناك وجعل لسكانه كل ما لسطان رومية من الحقوق فساوتها في نظام حكومتها وشرائعها المدنية. وأتى هذه المدينة وقتئذ بولس رسولاً مسيحياً مزمعاً أن ينتصر انتصاراً أعظم من الانتصار على بروتوس ويؤسس مملكة أبقى من مملكة أوغسطس.
    ١٣ «وَفِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ خَرَجْنَا إِلَى خَارِجِ ٱلْمَدِينَةِ عِنْدَ نَهْرٍ، حَيْثُ جَرَتِ ٱلْعَادَةُ أَنْ تَكُونَ صَلاَةٌ، فَجَلَسْنَا وَكُنَّا نُكَلِّمُ ٱلنِّسَاءَ ٱللَّوَاتِي ٱجْتَمَعْنَ».
    تفيد هذه الآية أنه لم يكن في تلك المدينة مجمع لليهود لقلتهم ولذلك اتخذوا معبداً في البرية واختاروا أن يكون عند النهر لما تقتضيه عبادتهم من التطهيرات واسم ذلك النهر كنجس وهو جدول أي نهر صغير.
    نُكَلِّمُ ٱلنِّسَاءَ بحقائق الإنجيل. ولم يذكر الكاتب علة وجود النساء فقط وربما كانت العلة خلوّ فيلبي من رجال يهود فإن كلوديوس قيصر كان قد نفى كل اليهود من رومية (ص ١٨: ٢) وكانت فيلبي يومئذ حصناً عسكرياً وشرائعها المدنية كشرائع رومية فربما كان رجال اليهود قد نفوا منها كما نفوا من رومية. أو أن الرجال كانوا غير مكترثين بالدين أو أنه لم يكن وقت الاجتماع القانوني حينئذ ومهما يكن من ذلك فإن بولس رأى فرصة للتبشير فاغتنمها كعادته.
    ١٤ «فَكَانَتْ تَسْمَعُ ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا لِيدِيَّةُ، بَيَّاعَةُ أُرْجُوانٍ مِنْ مَدِينَةِ ثِيَاتِيرَا، مُتَعَبِّدَةٌ لِلّٰهِ، فَفَتَحَ ٱلرَّبُّ قَلْبَهَا لِتُصْغِيَ إِلَى مَا كَانَ يَقُولُهُ بُولُسُ».
    رؤيا ٢: ١٨ لوقا ٢٤: ٤٥
    لِيدِيَّةُ اسم شائع بين اليونانيين والرومانيين.
    بَيَّاعَةُ أُرْجُوانٍ... ثِيَاتِيرَا كانت ثياتيرا مدينة في آسيا الصغرى واقعة بين برغامس وسرديس وهي إحدى المدن التي كتب يوحنا الرسول سفر الرؤيا إلى كنائسها (رؤيا ٢: ١٨). واشتهرت قديماً بصبغ أحمر كانوا يستخرجونه من ضرب من الصدف في البحر المتوسط. والمحتمل أن ليدية أتت من ثياتيرا إلى فيلبي لكي تبيع ذلك الصبغ والأرجح أنها أتت لتبيع المنسوجات المصبوغة به.
    مُتَعَبِّدَةٌ لِلّٰهِ اصطلح لوقا على التعبير عمن تركوا عبادة الأوثان وعبدوا الإله الحق من الأمم بالمتعبدين لما سمعوه من كتب اليهود أو في مجامعهم. فالظاهر أن ليدية كانت من هؤلاء (انظر ص ١٣: ٤٣ و٥٠).
    فَتَحَ ٱلرَّبُّ قَلْبَهَا القلب هنا بمعنى مركز الإرادة والعواطف والذهن وفتحه من أعمال الروح القدس فإنه من شأنه أن يلين القلب ويميل به إلى الحق والتسليم بالحق. فالروح الذي أرسل بولس إلى هنالك وفتح شفتيه للتكلم هو فتح قلبها للإصغاء. ولم يفتح الروح قلبها إجباراً بل أظهر لها الحق وهي التفتت إليه وسلمت به اختياراً. ومُغلقات القلب دون الحق الكبرياء والتعصب الجهلي وكره الحق.
    ١٥ «فَلَمَّا ٱعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ بَيْتِهَا طَلَبَتْ قَائِلَةً: إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ أَنِّي مُؤْمِنَةٌ بِٱلرَّبِّ، فَٱدْخُلُوا بَيْتِي وَٱمْكُثُوا. فَأَلْزَمَتْنَا».
    تكوين ١٩: ٣ و٣٣: ١١ وقضاة ١٩: ٢١ ولوقا ٢٤: ٢٩ وعبرانيين ١٣: ٢
    فَلَمَّا ٱعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ بَيْتِهَا لا يقتضي هذا أنها أتت ذلك في أول سمعها كلام الحق فتعميدها كان بعد أن اختبرت صحة إيمانها. ولاعتماد أهل بيتها معها نظائر في الإنجيل (ص ١٠: ٤٨ و١٦: ٣٣ و١كورنثوس ١: ١٦) وهذا مما يستدل به على جواز تعميد الأطفال إجراء للمعمودية مجرى الختان عند اليهود. ومن أول إجراء إيمان ليدية أنها اعترفت بإيمانها جهاراً واعتنت بواجباتها الدينية لأهل بيتها فمن لم يعتن بخلاص أهل بتيه يُشك في صحة إيمانه.
    إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ لأنكم بتعميدكم أياي قد سلمتم بصحة إيماني.
    ٱمْكُثُوا أي أقيموا ببيتي مدة إقامتكم بفيلبي. بنت دعوتها إياهم على أنه من استحق أن يعتمد استحق أن يدعو خدم الإنجيل إلى بيته. وهذا أيضاً من أثمار إيمانها لأن إضافة الغرباء من الواجبات المسيحية (رومية ١٢: ١٣ و١تيموثاوس ٣: ٢). إن محبتها للمسيح حملتها على الإحسان إلى عبيده كما فعل السجان هنالك حين آمن (ع ٣٤) والمسيح يحسب إكرام عبيده إكراماً له (متّى ٢٥: ٤٠).
    فَأَلْزَمَتْنَا بإلحاحها ولذلك قبل بولس ضيافتها مع رفقائه على خلاف عادته (ص ٢٠: ٣٣ و٣٤) لئلا يُتهم بأنه يخدم الإنجيل لربح دنيوي. والأرجح أنهم كانوا أولاً في الفندق وأن بولس كان ينفق عليهما مما كان يحصله من صناعته ومما يحصله لوقا من معالجة المرضى.
    ١٦ «وَحَدَثَ بَيْنَمَا كُنَّا ذَاهِبِينَ إِلَى ٱلصَّلاَةِ، أَنَّ جَارِيَةً بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ ٱسْتَقْبَلَتْنَا. وَكَانَتْ تُكْسِبُ مَوَالِيَهَا مَكْسَباً كَثِيراً بِعِرَافَتِهَا».
    تثنية ١٨: ١٠
    ذَاهِبِينَ من بيت ليدية.
    إِلَى ٱلصَّلاَةِ في المعبد الخارجي المذكور في الآية الثالثة عشرة أو مكان في المدينة اتخذوه مجتمعاً دينياً.
    جَارِيَةً القرينة تدل على أنها أَمة أي مملوكة.
    بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ الحق أنه كان فيها شيطان كما يظهر من (ع ١٨) ولكن لوقا تكلم بمقتضى اعتقاد أهل فيلبي فإن الوثنيين ذهبوا يومئذ إلى أن في هيكل دلفي في بلاد اليونان كاهنات تُعلن الأسرار بوحي أبلو إله ذلك الهيكل ولهذا قصده كثيرون من المحتارين في أمورهم. فظن أهل فيلبي أن تلك الجارية مثل تلك الكاهنات. ولعلها كانت تصاب بالصرع وتصرخ صراخ تلك الكاهنات. وكان مواليها يفسرون صراخها كما شاءوا ليخدعوا الناس.
    مَوَالِيَهَا أي أسيادها وعلة أن لها عدة أسياد كثرة ثمنها لكثرة الربح بها.
    بِعِرَافَتِهَا أي بإظهارها الخفايا وحوادث المستقبل وهذا إما باطل بجملته وإما حق في بعض الأمور لأنه ربما كان الشيطان الذي فيها يساعدها على إعلان بعض ما لم يستطع البشر معرفته.
    ١٧ «هٰذِهِ ٱتَّبَعَتْ بُولُسَ وَإِيَّانَا وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسُ هُمْ عَبِيدُ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ ٱلْخَلاَصِ».
    متّى ٨: ٢٩ ولوقا ٤: ٣٤
    ٱتَّبَعَتْ... وَصَرَخَتْ كانت تأتي ذلك كلما كانوا يذهبون إلى الصلاة.
    قَائِلَةً الخ لا بد من أنها سمعت بولس في المعبد إذ تبعته إلى هناك وهو يعظ في الإله العلي وطريق الخلاص فرددت قوله إما مستهزئة بها وإما غير مدركة معناه ولا مكترثة به. أو أن قولها كان شهادة بالحق أُجبر الروح النجس على تأديتها كما شهد الشياطين للمسيح (مرقس ١: ٨ و٥: ٧ ولوقا ٤: ٣٤ و٨: ٢٤).
    ١٨ «وَكَانَتْ تَفْعَلُ هٰذَا أَيَّاماً كَثِيرَةً. فَضَجِرَ بُولُسُ وَٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلرُّوحِ وَقَالَ: أَنَا آمُرُكَ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا. فَخَرَجَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».
    مرقس ١: ٢٤ و٣٤ مرقس ١٦: ١٧
    فَضَجِرَ بُولُسُ بعد الاحتمال مراراً. وعلة ضجره أنها كانت تمنع الناس بصراخها من سمع تعليمه وينشأ عنها ازدحام كثيرين من الأرذلين الذين لا يستفيدون من وعظه ولا يتركون بلغطهم سبيلاً إلى استفادة غيرهم. وأنه كان يعد مثل تلك الشهادة من مثل ذلك الشاهد تضر بالحق (وإن كانت حقاً) اقتداء بربه يسوع (مرقس ١: ٣٤). ولعله شفق عليها أيضاً وسئم من استعباد الشيطان إياها.
    ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلرُّوحِ أي إلى الجارية التي فيها الروح وهي تتبعه. وهذا دليل على أن ما أصابها لم يكن مرضاً أو فساد عقل بل كان تأثير روح نجس سكنها كما ذُكر في (ص ٥: ١٦).
    بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بسلطانه وبالنيابة عنه. ففي هذا اقتدى بولس بيسوع في إخراجه اللجئون من المجنون في كورة الجدريين (لوقا ٨: ٢٦ - ٣٥).
    فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ أي حالاً. وما تبيّن هنا من أمر بولس وإطاعة الشيطان له أنه كان الشيطان ساكن تلك الجارية حقيقة. ولا نسمع من أمر هذه الجارية شيئاً بعد ذلك ولكن لا يبعد عن الظن أن المرأتين اللتين جاهدتا مع بولس في الإنجيل هنالك (فيلبي ٤: ٢) اعتنتا بها نفساً وجسداً.
    ١٩ «فَلَمَّا رَأَى مَوَالِيهَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ، أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ وَجَرُّوهُمَا إِلَى ٱلسُّوقِ إِلَى ٱلْحُكَّامِ».
    ص ١٩: ٢٥ و٢٦ و٢كورنثوس ٦: ٥ متّى ١٠: ١٨
    رَأَى مَوَالِيهَا علموا من سكوت الجارية أو تغيّر هيئتها وكلامها أنها برئت.
    خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ أي خرج الشيطان الذي كان علة ربحهم في الحال ورجائهم الربح في المستقبل.
    أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ غضباً وانتقاماً لخسارتهم ربحهم المحرم ولم يبالوا بما حصلت عليه الجارية من النفع بتحريرها من عبودية الشيطان الجائرة. وما هيّجهم على الرسل كان في كل عصر علة مقاومات كثيرة للديانة المسيحية. والظاهر انهم لم يمسكوا لوقا وتيموثاوس لكونهما لم يتظاهرا في الكلام ولا في العمل وهما في منزلة دون منزلة بولس وسيلا.
    إِلَى ٱلسُّوقِ حيث دار الحكومة ومجتمع الناس.
    ٢٠، ٢١ «٢٠ وَإِذْ أَتَوْا بِهِمَا إِلَى ٱلْوُلاَةِ قَالُوا: هٰذَانِ ٱلرَّجُلاَنِ يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ، ٢١ وَيُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلاَ نَعْمَلَ بِهَا، إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ».
    ١ملوك ١٨: ١٧ وص ١٧: ٦
    ٱلْوُلاَةِ صنف من الحكام المذكورين في ع ١٩.
    قَالُوا لم يذكروا للحكام علة شكواهم الحقة إذ عرفوا أنها ليست بذنب شرعاً. ولم يكونوا مبالين لتعليم بولس وسيلا ولولا غيظهم من إضاعة مكسبهم ما شكوا عليهما بشيء ولا التفتوا إليهما. ومثل ذلك جرى على المسيح فإن مجلس السبعين حكم عليه بالعقاب بدعوى أنه جدف ولكنهم شكوه إلى بيلاطس بأنه يهيج الفتن (لوقا ٢٢: ٦٦ - ٧١ ويوحنا ١٨: ١٩ و١٩: ١٢).
    يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا أي يقلقان أفكار أهل المدينة وما في الآية الحادية والعشرين تفسير لهذه العبارة.
    يَهُودِيَّانِ ذكروا ذلك ليحملوا الحكام على كرههما لأن الرومانيين كانوا يكرهون اليهود ويحسبونهم أهل شغب ومكايد وبناء على مثل هذا أمر كلوديوس قيصر بنفيهم من رومية ولا بد من أن ذلك كان معروفاً في فيلبي. ولعل اليهود كانوا قد نفوا منها بناء على ذلك الأمر وعلى أن فيلبي كانت كرومية ثانية (انظر شرح ع ١٢) ولم يفرق الوثنيون بين اليهود والمسيحيين فكان المسيحيون عرضة للنوازل أكثر من غيرهم فاليهود اضطهدوهم لأنهم ليسوا منهم والوثنيون اضطهدوهم باعتبار أنهم يهود.
    بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا أشاروا بذلك إلى عقائد اليهود ورسومهم الدينية.
    إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ أشاروا بهذا إلى امتيازاتهم عن سائر المدن اليونانية بكون مدينتهم كولونية (ع ١٢) فلم يكن لأهل تسالونيكي مثلاً الحق أن يقولوا مثل هذا. وذكروا أنهم «رومانيون» أي أنهم أشرف الناس ليقابلوا بذلك اليهوديَّين اللذين هما عندهم من أدنى الناس وأن ذنبهما اجتهادهما في تحويلهم عن دينهم وعوائدهم الشريفة إلى دينهما وعوائدهما الدنيئة على قولهم فأقلقا بذلك المدينة. وكان الرومانيون أباحوا لمن استولوا عليهم أن يبقوا في دينهم ويمارسوا رسومه بلا معارضة لكنهم لم يسمحوا بأن يحول أحدٌ أحداً من الرومانيين عن دينه وأن ينشئ ديناً جديداً بغير إذن الحكومة.
    ٢٢ «فَقَامَ ٱلْجَمْعُ مَعاً عَلَيْهِمَا، وَمَزَّقَ ٱلْوُلاَةُ ثِيَابَهُمَا وَأَمَرُوا أَنْ يُضْرَبَا بِٱلْعِصِيِّ».
    ٢كورنثوس ٦: ٥ و١١: ٢٣ و٢٥ و١تسالونيكي ٢: ٢
    ٱلْجَمْعُ مَعاً عَلَيْهِمَا حرّك موالي الجارية جهلاء الشعب على بولس وسيلا فاتفقوا معهم في الشكوى إلى الولاة فجعلوا الشكاية عامة لا خاصة. والذي حمل الجمع على مشاركة الموالي في ذلك مواساتهم لأهل جنسهم في كره اليهود المبغضين وزعمهم أنهم خسروا نفعاً عظيماً بإزالة بولس وسيلا روح العرافة من الجارية. ولا واسطة للتهييج كظن التعدي على الدين ومثاله التهييج في أفسس (ص ١٩: ٢٧ - ٣٤).
    مَزَّقَ ٱلْوُلاَةُ ثِيَابَهُمَا أي أمروا الجلادين بتعريتهما كعادتهم عند الأمر بجلد المذنبين فعروهما بالعنف حتى مزقوا ثيابهما. وعاملوهما كمذنبين بلا فحص تسكيتاً وتسكيناً للجمع الذي كان يصرخ ويهيج وإظهاراً لبغضهم اليهود.
    أَنْ يُضْرَبَا بِٱلْعِصِيِّ كان هذا العقاب شديد الألم كثير الإهانة لا يجوز أن يُعاقب به روماني بمقتضى الشريعة الرومانية لما فيه من وفرة الهوان. وكان هذا الضرب إحدى المرات الثلاث التي ذكرها بولس بقوله «ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِٱلْعِصِيِّ» (٢كورنثوس ١١: ٢٥). ولا نعلم أين ضُرب المرتين الأخريين. فإن قيل لماذا لم يطلب بولس وسيلا حقوقهما باعتبار أنهما رومانيان في الحال لا في الغد بعد أن ضُربا (ع ٣٧) قلت لعلهما أتيا ذلك ولم يُسمعا لكثرة ضجيج القوم وعدم تصديقهما إن كانا قد سُمعا.
    ٢٣ «فَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً فَأَلْقَوْهُمَا فِي ٱلسِّجْنِ، وَأَوْصُوا حَافِظَ ٱلسِّجْنِ أَنْ يَحْرُسَهُمَا بِضَبْطٍ».
    ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً هذا يدل على أنهم ضربوهما أكثر مما اعتادوا. والشريعة الرومانية لم تحدد عدد الضربات كالشريعة الموسوية (تثنية ٢٥: ٣) فكانوا يضربون المذنبين ما شاءوا. ولا بد أن ظهر كل منهما كان دامياً لما أنشأ فيه الضرب الشديد على لحمه. وأشار بولس إلى ذلك في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي بقوله «بَعْدَ مَا تَأَلَّمْنَا قَبْلاً وَبُغِيَ عَلَيْنَا كَمَا تَعْلَمُونَ، فِي فِيلِبِّي» (١تسالونيكي ٢: ٢).
    أَوْصُوا حَافِظَ ٱلسِّجْنِ جهاراً ليسمع الجميع وليكفوا عن الصراخ والضجيج وليفهموا أن الحكام سيحاكمون بولس وسيلا ويعاقبونهما كما يستحقان. وتوصيتهم السجان تدل على أنهم حسبوهما من شر المذنبين وأكثرهم أضراراً وأنه يقتضي شديد الاحتراس منهما.
    ٢٤ «وَهُوَ إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هٰذِهِ أَلْقَاهُمَا فِي ٱلسِّجْنِ ٱلدَّاخِلِيِّ، وَضَبَطَ أَرْجُلَهُمَا فِي ٱلْمِقْطَرَةِ».
    إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هٰذِهِ ذكر لوقا هذا بياناً لعلة قساوة السجان فإنه فعل ما فعله إطاعة لتوصية الحكام الخاصة.
    ٱلسِّجْنِ ٱلدَّاخِلِيِّ كان السجن غالباً ثلاثة أقسام الأول يدخله النور ويتجدد فيه الهواء والثاني داخل بابا حديد محكم الإيصاد والثالث وراء الثاني غلب أن يكون تحت الأرض مثل الكهف وأن لا يُسجن فيه إلا من وجب عليه الموت.
    أَرْجُلَهُمَا فِي ٱلْمِقْطَرَةِ هذه واسطة ثانية للاحتراس بمقتضى الوصية. والمقطرة آلة تعذيب وضبط وهي خشبة صلبة ثقيلة فيها خروق لضبط أعضاء المسجونين وغلب أن تكون خروقها خمسة واحد لضبط الرأس واثنان لليدين واثنان للرجلين وكل من خرقَي الرجلين بعيد عن الآخر إلى حد ينشئ ألماً شديداً للمسجون. وسجان فيلبي لم يضبط سوى أرجلهما. واستعمل الناس المقطرة من قديم العصور (أيوب ١٣: ٢٧ وإرميا ٢٠: ٢ و٢٩: ٢٦).
    ٢٥ «وَنَحْوَ نِصْفِ ٱللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ ٱللّٰهَ، وَٱلْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا».
    نِصْفِ ٱللَّيْلِ حرمهما النوم ألم الجراح الناشئة من الضرب وتعذيب المقطرة والجوع (ع ٣٤) ولكن مع تعبهما الجسدي كان ضمير كل منهما مستريحان وقلب كلّ مسنوداً بالنعمة الإلهية.
    يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ ٱللّٰهَ لم يستطيعا أن يجثوا للصلاة لكنهما استطاعا أن يرفعا الصوت والقلب إلى السماء ولم يعوّلا لما اصابهما ولم يتذمراً على الله بأن جعل ذلك من عواقب إطاعتهما لأمره في رؤيا ترواس لكنهما وجدا في ذلك كله ما حملهما على الصلاة والتسبيح. ولعل بعض موضوع صلاتهما أن يكون ما أصابهما وما سيصيبهما من محاكمتهما في الغد وسيلة إلى انتشار الإنجيل. وبعض علل التسبيح أنهما حُسبا مستأهلين أن يُهانا من أجل اسم الرب (ص ٥: ٤١) وأنهما ذكرا قول السيد «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١١ و١٢) وأن الله شددهما في ذلك الضيق. اطمئنان بطرس في سجنه مكنه من النوم في شدة ضيقه لكن أحوال بولس وسيلا لم تسمح لهما بالنوم فاعتاضا عنه بالصلاة والتسبيح. والمرجح أنهما ترنما ببعض مزامير داود التي توافق ما كانا فيه.
    وَٱلْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا ذكر الكاتب ذلك بياناً أنهما صليا وترنما بأصوات الشجاعة والنشاط والسرور إظهاراً لبرآتهما من الذنب وفرحهما بالروح القدس وأن المسجونين فضلوا الاستماع على النوم وأصغوا بعجب ومسرة إلى تلك الأصوات التي لم يعهدوا مثلها في ذلك المكان.
    ولنا من ذلك ثلاث فوائد:

    • الأولى: أن الديانة المسيحية تنشئ فرحاً داخلياً لا يدفعه شيء من الأحوال الخارجية.
    • الثانية: أنه لا يستطيع أعداء المسيحي أن يسلبوه سروره فإن حرموه كل المنافع الدنيوية لم يستطيعوا أن يحرموه نعمة الله.
    • الثالثة: إن من شأن الضمير الصالح منح صاحبه وهو في السجن سلاماً وسعادة لا يمنحها الغنى صاحبه وهو في الفرج.


    ٢٦ «فَحَدَثَ بَغْتَةً زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ ٱلسِّجْنِ، فَٱنْفَتَحَتْ فِي ٱلْحَالِ ٱلأَبْوَابُ كُلُّهَا، وَٱنْفَكَّتْ قُيُودُ ٱلْجَمِيعِ».
    ص ٤: ٣١ ص ٥: ١٩ و١٢: ٧ و١٠
    زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ لم تكن الزلزلة عادية بل جعلها الله آية حضوره ليؤكد لعبديه حمايته إياهما وعنايته بهما وإجابته لصلاتهما (ص ٤: ٣١) وتبرئتهما جهاراً من كل ذنب ولتكون وسيلة لنجاتهما وشهادة بصحة الديانة التي بشرا بها.
    حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ ٱلسِّجْنِ الأرجح أن علة ذكر هذا كون السجن الداخلي تحت الأرض عند الأساس حتى تزعزع هو أيضاً.
    فَٱنْفَتَحَتْ فِي ٱلْحَالِ ٱلأَبْوَابُ كُلُّهَا أي دفعة واحدة لا على التوالي كما لو فتحها إنسان وانفتحت من الباب الخارجي إلى الباب الداخلي وهذا جزء من المعجزة ونتيجة الزلزلة.
    وَٱنْفَكَّتْ قُيُودُ ٱلْجَمِيعِ وهذا جزء آخر من المعجزة وغايته الشهادة بصحة الديانة التي بشر بها بولس وسيلا اللذان سمع المسجونون صلاتهما وتسبيحهما. ولا بد من أنهم عرفوا علة سجنهما واستنتجوا أن ما حدث كان مما سمعوه منهما وأن الله أعلن أنه أخذ في تبرئتهما وإنقاذهما. ولولا انفكاك القيود لكان لهم أن يظنوا الزلزلة عادية وانفتاح الأبواب من شدة تأثيرها. ولا بد من أن الله جعل في قلوب المسجونين أن يبقوا في السجن مع الفرص للهرب على أنه يمكن أنهم بقوا فيه من تأثير هول الزلزلة وجهلهم كل الأحوال لظلام الليل.
    إن لله كل الوسائط لإنقاذ عبيده فيمكنه أن يرسل ملاكه ليقودهم بسكون من السجن كما أنقذ بطرس (ص ١٢) وأن يرسل زلزلة يزعزع أسس السجن ويخيف المضطهدين ويُطلق من له كما فعل هنا.
    ٢٧ «وَلَمَّا ٱسْتَيْقَظَ حَافِظُ ٱلسِّجْنِ، وَرَأَى أَبْوَابَ ٱلسِّجْنِ مَفْتُوحَةً، ٱسْتَلَّ سَيْفَهُ وَكَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، ظَانّاً أَنَّ ٱلْمَسْجُونِينَ قَدْ هَرَبُوا».
    كان من الطبع أن يظن المسجونين هربوا لما رأى أبواب السجن مفتوحة وعلم أن الشريعة الرومانية توجب قتل من نام في نوبة الحراسة وسمح للمسجونين الموكولين إلى حراسته بالهرب (ص ١٢: ١٩ قابل هذا بما في ص ٢٧: ٤٢) فعزم أن ينتحر خوفاً من عار القتل جهاراً وحسب هذا العار شراً ما يمكن أن يصيبه في عالم الأرواح. وكثيراً ما أتى الرومانيون الانتحار في مثل هذه الأحوال. فإن في تلك المدينة عينها انتحر بروتس وكاسيوس وكثيرون من أعوانهما حين غُلبا في محاربة أوغسطس وأنطونيوس. ورأى مؤرخو ذلك العصر أن ذلك من شجاعتهما ومما يوجب لهما المدح واتخذوهما قدوة في ذلك. ومن فوائد الدين المسيحي أنه أبان فظاعة الانتحار وقلله كثيراً.
    رَأَى أَبْوَابَ ٱلسِّجْنِ مَفْتُوحَةً مع أنه أوصدها بأحكام قبل نومه.
    ٱسْتَلَّ سَيْفَهُ الذي كان اقتناؤه من واجبات كل سجّان وكان ذلك السيف قريباً منه وقتئذ أو على مقلده وهو نائم.
    ٢٨ «فَنَادَى بُولُسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيّاً، لأَنَّ جَمِيعَنَا هٰهُنَا».
    بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ليسمعه السجّان ويكف عن عزمه. ولا ريب في أن الله أعلن لبولس عزم السجان على الانتحار وأن المسجونين لم يهربوا لأنه كان في السجن الداخلي حيث لا شيء من النور كما يظهر من (ع ٢٩).
    لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيّاً أي لا تضر جسدك بإزالة حياته ولا روحك بارتكاب القتل لأنه إثم نهى الله عنه بقوله «لا تقتل» وقال له ذلك إذ شفق عليه ولم يرد أن يهلك نفساً وجسداً. فلو أراد بولس الانتقام منه لقساوته عليهما لسكت وتركه ينتحر. فالديانة المسيحية لا تبرح تقول لكل إنسان يضر جسده ونفسه بالمسكرات وإطلاقه لها العنان في ميدان الشهوات والإصغاء إلى أقوال الكفر «لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً».
    جَمِيعَنَا هٰهُنَا أي نحن بولس وسيلا وسائر المسجونين فلا علة لأن تخاف أو تضر نفسك.
    ٢٩ «فَطَلَبَ ضَوْءاً وَٱنْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ، وَخَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ».
    فَطَلَبَ ضَوْءاً لإنارة السجن كله ليتحقق وجود جميع المسجونين ولينفع بولس وسيلا.
    ٱنْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ أي إلى السجن الداخلي حيث بولس وسيلا. فالظاهر أنه تحقق أن الزلزلة غير عادية جعلها إلههما آية مسرّته بهما وأنه عرض نفسه لغضب ذلك الإله لاعتدائه عليهما.
    خَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ احتراماً وتوقيراً لهما واعترافاً بأنهما في حماية قوة إلهية وأنه قسا عليهما جهلاً.
    وَهُوَ مُرْتَعِدٌ خوفاً مما حدث ومما يمكن أن يحدث. وهنا يظهر لما حدثت الزلزلة امتلأ السجان رهبة وكآبة ويأساً وندماً ولكن الرسولين كانا حينئذ في اطمئنان وسلام وفرح. أراد ذاك أن يقتل نفسه وأراد هذان أن يفعلا خيراً بإنقاذ غيرهما من الهلاك نفساً وجسداً. وكذا يكون الفرق في أوقات المرض والموت وفي يوم الدين. فما أجدر بكل إنسان أن يتمسك بالرجاء الموضوع أمامه بيسوع المسيح الذي به وحده ينال الراحة والأمن.
    ٣٠ «ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟».
    لوقا ٣: ١٠ وص ٢: ٣٧ و٩: ٦
    أَخْرَجَهُمَا من السجن الداخلي إلى السجن الخارجي لأنه أرحب من ذاك وأوفق للتكلم.
    يَا سَيِّدَيَّ خاطبهما بلطف واحترام مخاطبة الأدنى للأعلى.
    مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ الخ عرفنا معنى السؤال من الجواب أي أنه سأل عن وسيلة خلاص نفسه الأبدي إذ لم يكن في خوف من الحكام لأنه لم يهرب أحد من المسجونين وعلى فرض أنه كان في خوف منهم لم يتوقع أن يستعين ببولس وسيلا. ولا بد أنه كان قد علم في الأيام والأسابيع التي تقضت على الرسولين في فيلبي أن غاية وعظهما خلاص النفوس. ولا ريب في أنه كان قد سمع قول الجارية وهي تتبعهم «هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسُ هُمْ عَبِيدُ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ ٱلْخَلاَصِ» (ع ١٧) وأن روح الله أيقظ ضميره وأبان له أن نفسه في خطر من العقاب على إثمه وأنه مفتقر إلى خلاص أبدي من غضب ذلك الإله (الذي تحقق قوته بالزلزلة) والهلاك الأبدي. وليس ببعيد أنه سمع يوماً بولس وسيلا يبشران بالمسيح وخلاصه. فعلى كل منا ان يسأل هذا السؤال وأن يتأمل حسناً في الجواب لأنه يهمهما كما كان يهم السجان. وهذا الخلاص نزل ابن الله من السماء إلى الأرض وتألم ومات لكي نحصل عليه.
    ٣١ «فَقَالاَ: آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ».
    يوحنا ٣: ١٦ و٣٦ و٦: ٤٧ و١يوحنا ٥: ١٠
    فَقَالاَ أي بولس وسيلا كلاهما.
    آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أي تنجو من الخطيئة وعقابها في هذا العالم وفي العالم الآتي بواسطة الإيمان بالمسيح. هذا الجواب جامع لشروط الخلاص بأحسن إيجاز وأوضح بيان وقد صار بركة لألوف وربوات من الناس. ولا ذكر فيه لشيء من الوسائل الاستعدادية كالصلاة وقراءة الكتاب وتوقع نعمة الله إنما هو أمر بمجرد الإيمان في الحال. ولا ذكر فيه لشيء من الأعمال الصالحة كإيفاء القوانين والنذور وزيارة الأماكن المقدسة ولا لوسيط غير المسيح من ملائكة أو قديسين أو رسل. وكان سؤال الناس يوم الخمسين مثل سؤال السجان (ص ٢: ٣٧). وجواب بطرس كجواب بولس معنىً لا لفظاً وهو ما نصه «توبوا وليتعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا» فإن الإيمان يقترن بالتوبة أبداً ووجود أحدهما يستلزم وجود الآخر. وبولس عمّد السجان مع أن وجوب المعمودية لا ذكر له في جوابه هنا.
    أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ أي أنت تخلص بإيمانك وأهل بيتك بإيمانهم كما آمنت لا بإيمانك نيابة عنهم. وأظهرا بقولهما ذلك أن أهل بيته في حاجة إلى الخلاص مثله وأن الخلاص معروض عليهم ليشاركوه في الفرح والسلام والأمن.
    ٣٢ «وَكَلَّمَاهُ وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ».
    جَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ من أهله وخدمه ويحتمل أن المسجونين كانوا من السامعين أيضاً. فما أغرب محل هذا الوعظ أنه دار السجن وما أغرب وقته فإنه كان بين منتصف الليل والصبح.
    بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ أي بما يشرح ما قاله سابقاً من ان الخلاص بالإيمان بالرب يسوع المسيح فبينا أن اسم يسوع وأعماله وأقواله تُعلن أنه هو المخلص. ولا بد من أنهم أنبآه بذوات الشأن من حوادث حياته وموته وقيامته وأعلماه كيف أوجد المغفرة للمؤمنين وما يجب على من آمن به لله وللناس. ولا بد من أنهما ذكرا من جملة تلك الواجبات المعمودية والعشاء الرباني.
    ٣٣ «فَأَخَذَهُمَا فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ ٱلْجِرَاحَاتِ، وَٱعْتَمَدَ فِي ٱلْحَالِ هُوَ وَٱلَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ».
    فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ ذكر لوقا الوقت ليبيّن أن السجان أتى تلك الخدمة في وقت لم يعتد أن تكون في مثله.
    وَغَسَّلَهُمَا مِنَ ٱلْجِرَاحَاتِ أي من دم الجراح التي أنشأها الضرب ومن الوسخ الذي تراكم على تلك الجراح من طرحهما على الظهرين في السجن الداخلي وهما في المقطرة. وهذا أول أثمار إيمانه فإنه رحمة للمتألمين المحتاجين. وقد أتت الديانة المسيحية بمثل تلك الأثمار في كل مكان بلغته فبنت المستشفيات العامة وملاجئ العمي والبكم والعاجزين واليتامى.
    كان لبولس قوة على شفاء غيره كما كان لسائر الرسل ولكنه لم ينفع نفسه بتلك القوة.
    وَٱعْتَمَدَ بموجب أمر المسيح (متّى ٢٨: ١٩) وضرورة الحال تشير إلى أن تلك المعمودية بالرش.
    فِي ٱلْحَالِ حذراً من فوات الفرصة مع تحقق الرسولين صحة إيمانه ووجوب المعمودية التي هي علامة المغفرة وختمها.
    وَٱلَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ هذا مما يسند القول بمعمودية الأطفال لأنه إن كان لذلك السجان من صغار فالعبارة تشملهم.
    ٣٤ «وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً، وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِٱللّٰهِ».
    لوقا ٥: ٢٩ و١٩: ٦
    أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ من السجن تحت إلى منزله فوق.
    قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً كان من أثمار إيمانه أيضاً أن لان قلبه بعد القسوة وقام بضيافة من لم يلتفت إلى طعامهما حين سجنهما. ولا بد من أن الرسولين كانا محتاجين إلى الغذاء حينئذ لأنهما على ما يرجح لم يذوقا طعاماً منذ أمسكا وهما ذاهبان إلى الصلاة في الساعة الثالثة من النهار وهي إحدى أوقات الصلاة المفروضة عند اليهود. ولا يبعد عن الظن أن بولس وسيلا اتخذا فرصة تناول الطعام مع السجان وأهله للغذاء فرصة «لوليمة المحبة التي اعتاد المسيحيون الأولون أن يتخذوها علامة أخوتهم بيسوع المسيح» (ص ٢: ٤٢ و٤٦).
    وَتَهَلَّلَ الخ أي فرح. وعلة فرحه وفرح بيته اتكالهم على رحمة الله بيسوع المسيح للخلاص. والحق أنه كان له ما يوجب الفرح لأنه حين اضطجع في مرقده كان وثنياً يجهل المسيح وطريق الخلاص عرضة لغضب الله والهلاك الأبدي واستيقظ نصف الليل خائفاً يؤنبه ضميره وقد عزم على الانتحار هرباً من الأخطار المحيطة به ولكنه لم يطلع النهار إلا وهو مسيحي مستريح الضمير يعرف طريق الخلاص وقد شرع في السير فيه وأهل بيته وكما أنشأ الإنجيل الفرح لهؤلاء أنشأه لأهل السامرة (ص ٨: ٨) وللحبشي (ص ٨: ٣٩) ولكل من آمن به على هذه الأرض.
    ٣٥ «وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ أَرْسَلَ ٱلْوُلاَةُ ٱلْجَلاَّدِينَ قَائِلِينَ: أَطْلِقْ ذَيْنِكَ ٱلرَّجُلَيْنِ».
    ٱلْجَلاَّدِينَ الذين ضربوا الرسولين قبلاً.
    قَائِلِينَ الخ على خلاف ما قصدوه حين أمروا بسجنهما فإنهم قصدوا أن يأتوا بهما إلى المحاكمة ويحكموا عليهما بالعقاب أو الموت بحسب الشريعة الرومانية فإنها تأمر بقتل كل مبتدع ديناً جديداً لا تأذن في نشره أرباب الحكومة. ولا نعلم ماذا ثناهم عن عزمهم ولعله تأثير الزلزلة (ويؤيد ذلك أنهم أرسلوا الجلادين في أول الصباح) أو ندمهم على مخالفة الشريعة بأمرهم بضربهما وحبسهما بلا محاكمة أو سؤال عما سبق منهما فأرادوا أن يتخلصوا من ذلك بإطلاقهما خفية.
    ٣٦ «فَأَخْبَرَ حَافِظُ ٱلسِّجْنِ بُولُسَ أَنَّ ٱلْوُلاَةَ قَدْ أَرْسَلُوا أَنْ تُطْلَقَا، فَٱخْرُجَا ٱلآنَ وَٱذْهَبَا بِسَلاَمٍ».
    فَأَخْبَرَ حَافِظُ ٱلسِّجْنِ بُولُسَ لا بد من أنه فرح بإطلاق صديقيه الجديدين وبنجاتهما مما خاف من أن يصيبهما بعد المحاكمة وسره أنه نجا بذلك من الارتباك في ما يجب عليه للولاة في أمرهما وما يجب عليه لله في ذلك ولا ريب في أنه حسب إطلاق الولاة لهما تنازلاً ولطفاً منهم يقبله بولس وسيلا بفرح وشكر.
    فَٱخْرُجَا ٱلآنَ لأن الولاة أذنوا في ذلك فلم يبق من مانع لخروجكما.
    ٱذْهَبَا بِسَلاَمٍ حيّاهم تحية الأصدقاء عند المفارقة (ص ١٥: ٣٣) ظاناً أنهما يغتنمان فرصة الذهاب في الحال.
    ٣٧ «فَقَالَ لَهُمْ بُولُسُ: ضَرَبُونَا جَهْراً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ رَجُلاَنِ رُومَانِيَّانِ، وَأَلْقَوْنَا فِي ٱلسِّجْنِ أَفَٱلآنَ يَطْرُدُونَنَا سِرّاً؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا».
    ص ٢٢: ٢٥
    فَقَالَ لَهُمْ بُولُسُ أي للجلادين. كانت كل كلمة مما قاله بولس دعوة على الولاة لو أراد أن يقيمها فمفاد الأولى أن ضربهم كان شديداً فوق المعتاد فإن ما تُرجم «بالضرب» هنا هو السلخ في الأصل اليوناني. والثانية أنهم أتوا ذلك جهراً أمام كل الجمهور فزاد ذلك الرسولين عاراً فوق الألم الشديد. الثالثة أنهم أتوا ذلك بلا فحص أو محاكمة. والرابعة أنهم فعلوا بهما ذلك وهما ممن حكمت الشريعة الرومانية بمنع ضربهم مطلقاً وسجنهم قبل المحاكمة وإثبات الذنب. وحصل بولس على هذا الحق (مع أنه يهودي) بالإرث (ص ٢٢: ٢٩) ولا نعلم بأي وسيلة حصل سيلا عليه لكنا علمنا أنه كان يسمى بسلوانس (٢كورنثوس ١: ١٩ و١تسالونيكي ١: ١) وهو اسم روماني فلعل أحد أسلافه كأبيه أو جده خدم الدولة الرومانية بالحرب فحصل على ذلك الحق له ولنسله. فالذين اشتكوا عليهم قالوا أنهم هم رومانيون (ع ٢١) ليثبتوا أن الرسولين تعديا على حقوقهم وقالوا أنهما يهوديان ليعيروهما فقال بولس أنهما رومانيان مثلهم ليثبت إنهم تعدوا على حقوقهما وأنهما مستحقان تبرئة الولاة إياهما.
    أَفَٱلآنَ أي أبعد هذا الظلم.
    يَطْرُدُونَنَا حسب الرسول إطلاقهما على هذا الأسلوب طرداً.
    لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا أي ضربونا جهراً فيجب أن يطلقونا جهراً. وغاية بولس من كل هذا ليس بغية الشرف له ولسيلا ولا تخجيل الولاة وتخويفهم انتقاماً بل إكرام الديانة التي ناديا بها وأُهينت بإهانتهما والحصول على الأمن لسائر مؤمني فيلبي بعد ذلك ولتشجيع قلوبهم ولعله أراد أن يعلم الولاة أن يحكموا في الدعاوي بمقتضى الشريعة لا بمجرد صراخ المشتكين.
    يحق للمسيحيين أن يطلبوا حماية الشريعة المدنية كغيرهم وأن يطلبوا منها الإنصاف. فالدين المسيحي لا يجبر أهله على ترك حقوقهم.
    ٣٨ «فَأَخْبَرَ ٱلْجَلاَّدُونَ ٱلْوُلاَةَ بِهٰذَا ٱلْكَلاَمِ، فَٱخْتَشَوْا لَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُمَا رُومَانِيَّانِ».
    فَٱخْتَشَوْا كان اختشاؤهم في محله لأنهم بمعامتلهم بولس وسيلا على خلاف ما اقتضته الشريعة الرومانية (Lex Porcia) كانت أموالهم وحياتهم عرضة للفقدان لأنهم كانوا بذلك التعدي كأنهم تعدوا على حقوق كل الشعب الروماني. فلو أراد بولس وسيلا رفع دعواهما لصار المشكو عليهما شاكين والولاة مشكوّا عليهم. ولا حجة لهم لأنهم إن لم يعرفوا أنهما رومانيان كان عليهم أن يسألوهما قبل ضربهما.
    ٣٩ «فَجَاءُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِمَا وَأَخْرَجُوهُمَا، وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ».
    متّى ٨: ٣٤
    فَجَاءُوا لا ريب في أن هذا التنازل كان صعباً عليهم لكنهم سروا بأن يخلصوا به من نتائج ما ارتكبوه من الخطإ.
    وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ وقاية لهما وحفظاً لراحة المدينة.
    ٤٠ «فَخَرَجَا مِنَ ٱلسِّجْنِ وَدَخَلاَ عِنْدَ لِيدِيَّةَ، فَأَبْصَرَا ٱلإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ ثُمَّ خَرَجَا».
    ع ١٤
    عِنْدَ لِيدِيَّةَ أي بيتها الذي نزلوه ضيوفاً وكان يجتمع فيه الإخوة على ما يرجّح.
    فَأَبْصَرَا ٱلإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ لم يذهبا من المدينة على أثر خروجهما من السجن بل بقيا وقتاً ليقويا قلوب الإخوة المضطربة بما أصابهما ومما خافوا أن يقع عليهما من أمثاله فعزياهم بذكر حوادث الليل وأقوال الإنجيل. ولم نعرف من أمور الإخوة هنا سوى أمر السجان لكن بولس في رسالته إلى أهل هذه المدينة ذكر شدة محبتهم إياه ومحبته إياهم وليس في تلك الرسالة كلمة لوم لأحد منهم بل فيها كثير من المدح وخص فيها بالذكر أبفروديتوس في (ص ٢: ٢٥). وتلك الكنيسة الوحيدة التي رضي بولس قبول مساعدتها إياه. وهم لم يقتصروا على مساعدته مرة بل ساعدوه مراراً (٢كورنثوس ١١: ٧ - ١٢ وفيلبي ٤: ١٤ - ١٩).
    ثُمَّ خَرَجَا من المدينة لأنهما أكملا معظم ما قصداه فيها فإنهما بشرا بالإنجيل وأسسا كنيسة وكانا على أهبة السفر إلى غيرها على أنهما لم يريدا أن يمكثا لأن بقاءهما هنالك ينشأ عنه خطر عليهما وعلى الإخوة. والظاهر أن لوقا لم يخرج معهما بل بقي هنالك للتبشير لأنه عدل عن صيغة التكلم إلى صيغة الغيبة إلى أن رجع الرسولان إلى فيلبي (ص ٢٠: ٥).


    الأصحاح السابع عشر


    بولس وسيلا في تسالونيكي ع ١ إلى ٩


    ١ «فَٱجْتَازَا فِي أَمْفِيبُولِيسَ وَأَبُولُونِيَّةَ، وَأَتَيَا إِلَى تَسَالُونِيكِي، حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ ٱلْيَهُودِ».
    أَمْفِيبُولِيسَ اسم هذه المدينة مركب من لفظتين يونانيتين معناهما حول المدينة فأمفي حول وبوليس المدينة. وسُميت بذلك لأن نهر ستريمون يحيط بها إلا قليلاً. واسمها اليوم أمبولي وهي مما اشتهر في قديم التواريخ اليونانية وموقعها على أمد ثلاثة وثلاثين ميلاً من فيلبي غرباً.
    أَبُولُونِيَّةَ مدينة على غاية ثلاثين ميلاً من أمفيبوليس غرباً. اجتاز بولس وسيلا في هاتين المدينتين ولم يمكثا للتبشير والمرجح أن على ذلك خلوهما من اليهود ليفتتحا التبشير بواسطتهم.
    تَسَالُونِيكِي قصبة مكدونية على غاية سبعة وثلاثين ميلاً من أبولونية وعلى غاية مئة ميل من فيلبي في جهة الجنوب الغربي. كان اسمها ثرما جدد بناءها كسندر وحصنها وسماها تسالونيكي إكراماً لزوجته تساليا أخت اسكندر الكبير. وهي فرضة على رأس خليج ثرما اشتهرت في كل عصر بأنها مركز تجاري وسياسي واسمها اليوم سالونيك ولا تزال مدينة كبيرة ناجحة سكانها نحو سبعين ألفاً.
    حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ ٱلْيَهُودِ هذا أول مجمع يهودي وجده بولس وسيلا في مكدونية كان في المدينة كثيرون من اليهود يومئذ ولا يزالون كثيرين فيها اليوم. وكان المجمع من أحسن الوسائل لنشر الإنجيل ولم يغفل لوقا عن ذكره في كل مكان وُجد فيه من الأمكنة التي ذهب الرسولان إليها للتبشير.
    ٢ «فَدَخَلَ بُولُسُ إِلَيْهِمْ حَسَبَ عَادَتِهِ، وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ مِنَ ٱلْكُتُبِ».
    لوقا ٤: ١٦ وص ٩: ٢٠ و١٣: ٥ و١٤ و١٤: ١ و١٦: ١٣ و١٩: ٨
    حَسَبَ عَادَتِهِ قيل مثل هذا على المسيح (لوقا ٤: ١٦). فكون بولس رئيس الأمم لم يجعله يكف عن بذل جهده في سبيل إرشاد اليهود إلى الإيمان بيسوع المسيح حيث توجه (انظر شرح ص ١٣: ٤٦). وكان يمكنه علاوة على تبشير اليهود في المجمع أن يبشر من مال من الأمم إلى الدين الحق.
    وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ لم يلزم من ذلك أن الرسول لم يقم بتسالونيكي سوى ثلاثة أسابيع لان ما ذكره لوقا في سفر الأعمال من نجاح الإنجيل فيها وما ذُكر في رسالتي بولس إليها يستلزم أنه بقي فيها زماناً طويلاً لانه لم يتركها قبل أن أنشأ فيها كنيسة كبيرة أكثر أعضائها من الأمم. وكان يعمل فيها بيديه لتحصيل أسباب المعاش وهو يبشر (١تسالونيكي ٢: ٩). وأتته مساعدة أهل فيلبي وهو هنالك مرتين (فيلبي ٤: ١٦) وذلك مما يريد القول ببقائه في تسالونيكي أكثر من ثلاثة أسابيع لان المسافة بين المدينتين نحو مئة ميل فتقتضي المراسلة بينهما مدة ليست بقليلة. فنستنتج مما ذُكر أن بولس خص من مدة إقامته هنالك ثلاثة سبوت بمخاطبة اليهود دون غيرهم أو أن الربانيين لم يسمحوا له أن يخاطب الشعب في المجمع أكثر من ذلك.
    مِنَ ٱلْكُتُبِ أي أسفار العهد القديم فإن أقوال تلك الكتب ينبوع كل تعليم بولس وأساسه.
    ٣ «مُوَضِّحاً وَمُبَيِّناً أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ».
    لوقا ٢٤: ٢٦ وص ١٨: ٢٨ وغلاطية ٣: ١
    هذه الأية تفسير للآية الثانية وهي محاجته اليهود من الكتب.
    مُوَضِّحاً وَمُبَيِّناً مفسراً ما هو مبهم أو عسر الفهم (كما جاء في لوقا ٢٤: ٣٢) ومذكراً إياهم ما علموه ليكون أساساً لاحتجاجه.
    يَنْبَغِي بموجب قضاء الله الأزلي المعلن في كتابه.
    أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ هذا أول الأمرين اللذين قصد إثباتهما والمعنى أن فحوى العهد القديم هي أن المسيح الموعود به يموت كفارة عن الإثم. وقد سبق الكلام على ذلك في الشرح (لوقا ٢٤: ٢٦ و٢٧). ومع أن الكتاب صرح بهذا التعليم أبى اليهود قبوله وقتئذ ولم يزالوا يأبونه إلى الآن معتقدين أن المسيح يملك كملك أرضي على عرش داود بأعظم المجد الدنيوي الذي لم ينله أحد من ملوك نسبه.
    هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ الخ هذا ثاني الأمرين اللذين قصد إثباتهما وهو أن يسوع الناصري هو المسيح الذي تألم ومات وقام وأن حوادث تاريخه على وفق نبوءات الكتاب. وإثبات ذلك من كتب اليهود يؤثر فيهم أشد التأثير لأنهم يعتقدون أن كل كلمة فيها موحى بها من الله بل يعتقدون أن كل حرف من حروفه كذلك. ومن النبؤات التي استشهدها بولس وتمت بالمسيح:

    • أولاً: أنه يولد في بيت لحم (ميخا ٥: ٢).
    • ثانياً: أنه يكون من سبط يهوذا (تكوين ٤٩: ١٠).
    • ثالثاً: أنه يكون من نسل يسى وسلالة داود (إشعياء ١١: ١ و١٠).
    • رابعاً: تعيين وقت مجيئه (دانيال ٩: ٢٤ و٢٧).
    • خامساً: هيئته وصفاته وعمله الخ (إشعياء ص ٥٣).


    ولا بد من أن بولس ذكر المعجزات التي فعلها يسوع برهاناً على أنه المسيح لأنه ادعى ذلك والله لا يعمل معجزة إثباتاً لدعوى كاذب. ولا بد من أنه ذكر قيامته أيضاً دليلاً على أنه هو المسيح.
    ٤ «فَٱقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَٱنْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ، وَمِنَ ٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ، وَمِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
    ص ٢٨: ٢٤ ص ١٥: ٢٢ و٢٧ و٣٢ و٤٠
    كان لتبشير بولس تأثير عظيم في الحال.
    فَٱقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أي من اليهود والدخلاء فإنهم سلموا بصحة ما قاله بولس أي الإنجيل.
    ٱنْحَازُوا المعنى في الأصل اليوناني أنهم اختاروا نصيب بولس وسيلا نصيباً لهم أي أنهم انضموا إلى الكنيسة المسيحية معترفين بإيمانهم بواسطة المعمودية.
    ٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ هم من عبدوا الإله الحق الوحيد من الأمم سواء اعتقدوا صحة الدين اليهودي أم لا (١تسالونيكي ١: ٩ و٢: ١٤ و٤: ٥).
    مِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْمُتَقَدِّمَاتِ الخ أي المرتفعات المقام أو الشريفات. ولا بد أن يكون بعض هؤلاء النساء أزواج أعيان من الأمم كن وسيلة لبولس وسيلا إلى مخاطبة رجالهن بالإنجيل.
    ٥ «فَغَارَ ٱلْيَهُودُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَاتَّخَذُوا رِجَالاً أَشْرَاراً مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ، وَتَجَمَّعُوا وَسَجَّسُوا ٱلْمَدِينَةَ، وَقَامُوا عَلَى بَيْتِ يَاسُونَ طَالِبِينَ أَنْ يُحْضِرُوهُمَا إِلَى ٱلشَّعْبِ».
    رومية ١٦: ٢١
    نجاح الإنجيل هيّج حسد اليهود هنا كما هيّجه في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٠) فإنه كان يشق عليهم أن يروا كثيرين من الأمم يفرحون بالبركات التي اعتقدوا أنها لهم دون غيرهم.
    اتَّخَذُوا رِجَالاً أَشْرَاراً مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ كان اليهود غرباء هنالك ولم يستطيعوا أن ينشئوا شغباً في المدينة إلا بواسطة وطنيي المدينة فاتخذوا واسطة لإنفاذ قصدهم جماعة من أدنياء الشعب البطالين الجهلاء الأردياء القساة واتخذوهم كذلك بالرشوة أو ما شاكلها فإنه كان أهل السوق في اصطلاحهم ما نسميهم اليوم بالأوباش.
    سَجَّسُوا ٱلْمَدِينَةَ أي هيّجوا أهلها وكدروهم بازدحامهم وصراخهم.
    يُحْضِرُوهُمَا أي بولس وسيلا ضيفي ياسون.
    قَامُوا عَلَى بَيْتِ يَاسُونَ أي هجموا عليه. وياسون في اليونانية كيشوع في العبرانية وكان بولس وسيلا في بيته وكان من أقارب بولس (رومية ١٦: ٢١).
    إِلَى ٱلشَّعْبِ كانت تسالونيكي مدينة مستقلة كطرسوس يسوسها ولاة رومانيون. وميّز تسالونيكي بالاستقلال أوغسطس قيصر إثابة لها على تحزبها له يوم محاربته بروتس وكاسيوس سنة ٤٢ ق. م. وكان لأرباب المجلس المحلي سلطان الموت والحياة.
    ٦ «وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوهُمَا، جَرُّوا يَاسُونَ وَأُنَاساً مِنَ ٱلإِخْوَةِ إِلَى حُكَّامِ ٱلْمَدِينَةِ صَارِخِينَ: إِنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ حَضَرُوا إِلَى هٰهُنَا أَيْضاً».
    ص ١٦: ٢٠
    ٱلإِخْوَةِ هم الذين آمنوا حديثاً بالمسيح (ع ٤).
    حُكَّامِ ٱلْمَدِينَةِ الحكام هنا في اليونانية غير الحكام المذكورين في (ص ١٦: ١٩) وعلة ذلك الفرق بين سياسة المدينتين وهذا من تدقيقات لوقا وما وافق به التاريخ العالمي فكان من الأدلة على صحة ما كتبه في هذا السفر.
    فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ أي أقلقوها وبلبلوها. هذه الشكوى تدل على أنه قد بلغ تسالونيكي نبأ انتشار الديانة المسيحية انتشاراً عجيباً وهي مع أنهم قصدوا بها تعيير الديانة المسيحية لا تخلو من بعض الحق لأن غايتها «نقض أعمال إبليس» (١يوحنا ٣: ٨) ونفي كل أنواع الشر من العالم كالظلم والقساوة وعبادة الأوثان والفجور والأوهام الباطلة وإقامة عبادة الإله الحق الروحانية موضعها وهذا لا يكون بلا بلبلة إذ الشيطان لا يسلم مملكته باختياره.
    إِلَى هٰهُنَا أَيْضاً بغية تفتين مدينتنا.
    ٧ «وَقَدْ قَبِلَهُمْ يَاسُونُ. وَهٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ قَائِلِينَ إِنَّهُ يُوجَدُ مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ!».
    لوقا ٢٣: ٢ ويوحنا ١٩: ١٢ و١بطرس ٢: ١٣
    هٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ أي بولس وسيلا وحزبهما وسائر المسيحيين.
    ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ اتهموهم بجرم سياسي وهو عصيان قيصر الأمبراطور الروماني والحق أن الذي أغاظهم وحملهم على الشكوى خوفهم إضرار الديانة اليهودية بانتشار الإنجيل وهذه الشكوى تشبه التي كانت عليهما في فيلبي (ص ١٦: ٢٠). وهي مثل شكوى اليهود على المسيح إلى بيلاطس (متّى ٢٧: ١١ و١٢ ومرقس ١٥: ٢ و٣ ويوحنا ١٨: ٣٣ - ٣٧ و١٩: ١ و٢). والمراد بالأحكام هنا السلطة «وقيصر» اسم عام لكل أمبراطور روماني من أيام يوليوس قيصر الأول.
    مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ! ملكوت السموات الذي بشر به بولس ليس من هذا العالم (لوقا ٢٣: ٢) فإنه اتى ليملك قلوب الناس لا أجسادهم فلم يكن مبارياً لقيصر ولا مضاداً له. والمشتكون عرفوا ذلك أو كان لهم أن يعرفوه لو أرادوا ولعلهم بنوا شكواهم على ما جاء في تبشير بولس من أن يسوع رب. ولا بد من أن بولس استعمل في وعظه في تسالونيكي عبارات تشبه بعض عباراته في رسالتيه إليها. ولعلهم أشاروا في شكواهم إلى مثلها (كما في ١تسالونيكي ٢: ١٢ و٥: ١ و٢تسالونيكي ١: ٥ و٢: ١). وحولوا ما قاله في مجيء المسيح الثاني للملك إلى أنه يملك الآن على الأرض.
    ٨ «فَأَزْعَجُوا ٱلْجَمْعَ وَحُكَّامَ ٱلْمَدِينَةِ إِذْ سَمِعُوا هٰذَا».
    أَزْعَجُوا ٱلْجَمْعَ أي أقلقوا أهل المدينة جملة بتهييجهم إياهم على المسيحيين.
    وَحُكَّامَ ٱلْمَدِينَةِ لأنهم لم يعرفوا أحقة شكواهم أم باطلة ولا ما يجب عليهم أن يفعلوه وخافوا من أن يُشتكى إلى رومية بحدوث العصيان في تسالونيكي.
    إِذْ سَمِعُوا هٰذَا أي ما ذُكر من الشكوى على المسيحيين.
    ٩ «فَأَخَذُوا كَفَالَةً مِنْ يَاسُونَ وَمِنَ ٱلْبَاقِينَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ».
    فَأَخَذُوا كَفَالَةً الأرجح أنهم أخذوا مقداراً من الدراهم ضمانة أنهم لا يأتون شيئاً ينافي راحة المدينة أو أن يسافر بولس وسيلا منها.
    ٱلْبَاقِينَ الذين قبض عليهم من المسيحيين عند الهياج. والظاهر أن أولئك الحكام كانوا عادلين لا كحكام فيلبي الذين ظلموا الرسولين ليرضوا سفلة الشعب وكان المضطهدون من اليهود والأمم والمضطهدون المسيحيين كلهم لا بولس وسيلا دون غيرهما بدليل ما جاء في (١تسالونيكي ٢: ١٤).

    بولس في بيرية ع ١٠ إلى ١٥


    ١٠ «وَأَمَّا ٱلإِخْوَةُ فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلُوا بُولُسَ وَسِيلاَ لَيْلاً إِلَى بِيرِيَّةَ. وَهُمَا لَمَّا وَصَلاَ مَضَيَا إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ».
    ص ٩: ٢٥ وع ١٤
    فَلِلْوَقْتِ الأرجح أنهم أرسلوهما في مساء ذلك اليوم عينه وقاية لهما وللكنيسة من سجس جديد وإنجازاً لوعدهم للحكام.
    لَيْلاً كما خرج بولس من دمشق (ص ٩: ٢٥).
    إِلَى بِيرِيَّةَ هي مدينة في الجنوب الغربي من تسالونيكي وعلى غاية ستين ميلاً منها وتسمى الآن قيرية وسكانها نحو عشرين ألفاً.
    مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ كان يهود بيرية أقل عدداً من يهود تسالونيكي لكن كان لهم مجمع حضره الرسولان للتبشير فيه.
    ١١ «وَكَانَ هٰؤُلاَءِ أَشْرَفَ مِنَ ٱلَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا ٱلْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هٰذِهِ ٱلأُمُورُ هٰكَذَا؟».
    ص ٣٤: ١٦ ولوقا ١٦: ٢٩ ويوحنا ٥: ٣٩
    أَشْرَفَ عقلاً وأدباً لا نسباً. وأظهروا أشرفيتهم بإخلاصهم وخضوعهم لسلطان الحق واستعدادهم للنظر في دعاوي الديانة الجديدة بلا هوىً.
    مِنَ ٱلَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي لأن هؤلاء كانوا كأكثر اليهود الذين رفضوا دعاوي تلك الديانة بلا فحص لأنها لم توافق ما ألفوه من الآراء ولكن أهل بيرية لم يفعلوا فعلهم فإنهم أطاعوا قول المسيح «فَتِّشُوا ٱلْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (يوحنا ٥: ٣٩).
    فَقَبِلُوا ٱلْكَلِمَةَ أي سمعوها وسلموا بها.
    بِكُلِّ نَشَاطٍ أظهروا بذلك ما كان لهم من الاستعداد وأنهم وجدوا الديانة الجديدة كافية للقيام بحاجات نفوسهم فرغبوا فيها.
    فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ الخ أي أسفار العهد القديم فقابلوا ما فيها بتعاليم بولس ليروا صحة هذه التعاليم أو بطلانها ولم يأتوا ذلك في السبوت فقط بل في كل يوم. ومن ذلك العصر صار أهل بيرية مثالاً في لبحث عن الحق.
    ١٢ «فَآمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْيُونَانِيَّاتِ ٱلشَّرِيفَاتِ، وَمِنَ ٱلرِّجَالِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
    فَآمَنَ أي أن النتيجة كانت كما توقع من سجاياهم الحسنة وميلهم إلى الحق ومطالعتهم الأسفار المقدسة إذ لا يؤمن الناس ما لم يسمعوا (رومية ١٠: ٤). وعلى تكذيب بعض الناس أقوال الإنجيل حكمهم عليها قبل أن يسمعوها. فلا يستطيع أحد قراءة الكتاب المقدس بالإخلاص والصلاة ولا يقتنع بصحة دعاوي الدين المسيحي.
    مِنْهُمْ أي من يهود بيريّة.
    ٱلنِّسَاءِ ٱلْيُونَانِيَّاتِ ٱلشَّرِيفَاتِ أي اللواتي أصلهن وثني وهن من أعيان المدينة كاللواتي آمنّ في تسالونيكي (ع ٤).
    ٱلرِّجَالِ الذين أصلهم وثني. المرجح أن بولس وسيلا بقيا في بيرية عدة أسابيع أو بضعة أشهر بدليل كثرة أعمالهما فيها وقول بولس أنه في تلك المدة اجتهد أن يزور أهل تسالونيكي مرة أو مرتين (١تسالونيكي ٢: ١٧ و١٨). ومن العجب أن بولس لم يذكر مسيحي بيريّة في شيء من رسائله مع أنهم كانوا كثيري العدد ممدوحي الأعمال.
    ١٣ «فَلَمَّا عَلِمَ ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ مِنْ تَسَالُونِيكِي أَنَّهُ فِي بِيرِيَّةَ أَيْضاً نَادَى بُولُسُ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ، جَاءُوا يُهَيِّجُونَ ٱلْجُمُوعَ هُنَاكَ أَيْضاً».
    هذا يدل على شدة بغض اليهود لبولس وتعليمه. فمن خواص الإنجيل أن من الناس من يحبونه حتى يريدوا أن يبذلوا أموالهم وحياتهم في سبيله وأن منهم من يبغضونه حتى يحبوا أن يقاصوا مشقة السفر الطويل ليهيّجوا الناس عليه كما فعل اليهود هنا وفي أنطاكية بيسيدية وإيقونية (ص ٢٤: ١٩). ووصفهم بولس بقوله «هُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ لِلّٰهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (١تسالونيكي ٢: ١٥).
    ١٤ «فَحِينَئِذٍ أَرْسَلَ ٱلإِخْوَةُ بُولُسَ لِلْوَقْتِ لِيَذْهَبَ كَمَا إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَأَمَّا سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ فَبَقِيَا هُنَاكَ».
    متّى ١٠: ٢٣
    كَمَا إِلَى ٱلْبَحْرِ كان البحر على غاية ستة عشر ميلاً من شرقي بيريّة وكان السفر في البحر أهون وأقصر مدّة منه في البر لأنه لا يشغل سوى ثلاثة أيام. وطريقه في البر صعبة وطولها لا يقل عن ٢٥٠ ميلاً فيشغل قطعها نحو عشرة أيام. والأرجح أن بولس سافر بحراً لأنه لو سافر براً لذكر لوقا كعادته المدن التي مر بها بولس ولعله قال «كما إلى البحر» لا «إلى البحر» لأن رفاق بولس لم يكونوا قد قصدوا فرضة معيّنة حين تركوا بيريّة بل عزموا على أن ينزلوا إلى البحر حيث يجدون سفينة متأهبة للسفر إلى أثينا. ولعل بولس لم يعتمد حين ترك بيريّة أن يتوجه في البحر إلى تسالونيكي شمالاً كما كان يشتهي (١تسالونيكي ٢: ١٧) أو يتوجه فيه إلى أثينا جنوباً أو لعل الكاف في كما للتوكيد كما يفيد أصله اليوناني أحياناً. وهذه نهاية زيارة بولس لمكدونية إجابة لدعوة الرؤيا في ترواس وفي القول «اعبر إلى مكدونية وأعنّا» فزار ثلاث مدن كبيرة فيها وأسس كنيسة مسيحية في كل منها. وعلى تقدمه في السفر غرباً لفتوحات جديدة بالإنجيل ليست كدعوة الرؤيا بل شر أعداء المسيح فإنه منعه من الرجوع وأجبره على التقدم ولا بد من أن كل ذلك كان إتماماً لقصد الله.
    وَأَمَّا سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ الخ علة بقائهما إما إخفاء سفر بولس وإما كون سفره وحده أكثر أمناً له.
    ١٥ «وَٱلَّذِينَ صَاحَبُوا بُولُسَ جَاءُوا بِهِ إِلَى أَثِينَا. وَلَمَّا أَخَذُوا وَصِيَّةً إِلَى سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسَ أَنْ يَأْتِيَا إِلَيْهِ بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ، مَضَوْا».
    ص ١٨: ٥
    وَٱلَّذِينَ صَاحَبُوا بُولُسَ لإرشاده ووقايته.
    وَصِيَّةً إِلَى سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسَ الخ طلبهما ليساعداه على التبشير في أثينا أو في كورنثوس فأتى تيموثاوس إليه وهو في أثينا ولكن بولس أرجعه حالاً من هنالك إلى تسالونيكي. والأرجح أن علة ذلك ما بلغه من أخبار أهلها (١تسالونيكي ٣: ١ - ٥).

    بولس في أثينا وخطابه في أريوس باغوس ع ١٦ - ٣٤


    ١٦ «وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا فِي أَثِينَا ٱحْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى ٱلْمَدِينَةَ مَمْلُؤَةً أَصْنَاماً».
    ٢بطرس ٢: ٨
    بَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا هذا يدل على أن بولس لم يقصد الإقامة بأثينا إلا أن يأتي سيلا وتيموثاوس.
    أَثِينَا هي قاعدة أخائية كما أن تسالونيكي قاعدة مكدونية. وكانت عند اليونان منذ العصور الخالية مركز العلم والحكمة والتمدن والصناعة والقوة والسياسة واشتهرت بأنها خدمت البشر بالعلم والحرية. وكانت يوم أتى بولس إليها قد فقدت سلطتها السياسية باستيلاء الرومانيين عليها سنة ٤٠ ق. م لكنها لم تزل ذات مدارس عظيمة (قصدها أفضل الشبان) وأبنية فاخرة جداً.
    مَمْلُؤَةً أَصْنَاماً الذي أثر في بولس أكثر من سائر مشاهدها النفيسة أوثانها الكثيرة لأنه رأى حيثما توجه هياكل وتماثيل ومذابح.
    قال بيترونيس المؤرخ «أن تجد إلهاً في أثينا أسهل من أن تجد فيها أناساً». وقال برسانياس «أن آلهة أثينا أكثر من آلهة سائر بلاد اليونان». وقال زينفون «ما أثينا سوى مذبح وتقدمة». وقال يوسيفوس المؤرخ الروماني «أن في أثينا تماثيل مختلفة الأنواع والمواد لكل الآلهة». وكانت تماثيلها محيطة بكل ساحة وقائمة في كل زاوية من زوايا الأزقة والشوارع وفي باحة كل دار وفي كل مخدع.
    ٱحْتَدَّتْ رُوحُهُ لما في ذلك من الإهانة لله الإله الحق والمخالفة لوصيته والاضرار للناس لما يقترن به من الفواحش والجور (كما بُيّن في رومية ١: ٢٤ - ٢٧). وكثير من تلك الآلهة لم يكن سوى شهوات الإنسان مشخصة. قال سنيكا الفيلسوف «من المحال أن عبدة مثل هذه الآلهة تستحي بشيء من أنواع الفجور».
    ١٧ «فَكَانَ يُكَلِّمُ فِي ٱلْمَجْمَعِ ٱلْيَهُودَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ، وَٱلَّذِينَ يُصَادِفُونَهُ فِي ٱلسُّوقِ كُلَّ يَوْمٍ».
    فِي ٱلْمَجْمَعِ ٱلْيَهُودَ كعادته. كان موضوع مخاطبته اليهود أن يسوع هو المسيح وأن قيامته من الموت برهان على ذلك.
    فِي ٱلسُّوقِ محل التجارة والتنزه واجتماع الناس لسمع الأخبار والمحاورات والمناظرات فكان لبولس أن يصادف هنالك الفلاسفة والمعلمين واتباعهم على اختلاف مذاهبهم الفلسفية ولا ريب في أنه دفع عن الحق في كل وقت سمع فيه بعضهم ينكره.
    ١٨ «فَقَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَلاَسِفَةِ ٱلأَبِيكُورِيِّينَ وَٱلرِّوَاقِيِّينَ، وَقَالَ بَعْضٌ: تُرَى مَاذَا يُرِيدُ هٰذَا ٱلْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ؟ وَبَعْضٌ: إِنَّهُ يَظْهَرُ مُنَادِياً بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ لأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَٱلْقِيَامَةِ».
    قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَلاَسِفَةِ كانت فرق الفلاسفة كثيرة ذكر الكاتب اثنتين منها هما اشهرها.
    ٱلأَبِيكُورِيِّينَ هم أتباع أبيكوريوس وهو فيلسوف يوناني وُلد في جزيرة ساموس سنة ٣٤٢ ق. م أقام بأثينا مدة طويلة ومات فيها سنة ٢٧٠ ق. م وأوصى بأن يكون بيته وبستانه بعد موته مدرسة لفلسفته ولذلك كثيراً ما دُعي أتباعه بالبستانيين. ومن فلسفته أن في الوجود آلهة لكنهم بعيدون عن العالم لا يبالون بأحزان الناس ولا بآثامهم ولا بشيء من سائر أعمالهم كأنهم أعدام وأن الآلهة في راحة تامة لا يحتاجون إلى قرابين الناس ولا يسمعون صلواتهم وأن المادة أزلية نُظمت ورُتبت اتفاقاً وأن اللذة غاية الإنسان العظمى وأن للإنسان أن يتبع ما شاء من الشهوات ما لم ينشأ عنها ألم. وأن لا حياة سوى الحياة الدنيا فلا خوف من حساب ولا عقاب. وأن النفس مادة كالجسد تموت بموته. وأشار بولس إلى خلاصة فلسفتهم بقوله نقلاً عن قولهم «فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ» (١كورنثوس ١٥: ٣٢). وأتباع هذا المذهب يقاومون الإنجيل لأنه يقاومهم على شهواتهم.
    ٱلرِّوَاقِيِّينَ هم أتباع زينو وهو فيلسوف يوناني وُلد في قبرس في سنة ٣٥٠ ق. م علم في أثينا ٥٨ سنة وانتحر سنة ٢٥٨ ق. م وكان يعلم تلاميذه في رواق مزين بالصور ولذلك دُعي أتباعه بالرواقيين. والحكمة عنده هي أن لا يتأثر الإنسان بشيء من الحوادث مفرحاً أو محزناً وأن يسود على الحوادث ولا تسود عليه. وأن يتلقى مهما حدث من لذة أو ألم بالطمأنينة. وأن الدين الحق يقوم بعدم الاكتراث بالانفعالات. وكان مؤمناً بالله لكنه لم يميّز بين الله والعالم إذ العالم والله عنده شيء واحد. وأن كل شيء بقضاء وقدر على الله والعالم سواء. وأن النفوس تعود أخيراً إلى الله أصلها وتفنى فيه. وكان الرواقيون يقاومون الإنجيل لأنه قاومهم على اعتمادهم البر الذاتي وافتخارهم بالحكمة.
    ٱلْمِهْذَارُ الكثير الكلام الباطل. وصف الأثينيون بولس بذلك تحقيراً وأصله في اليونانية ملتقط الفتات. وأرادوا به هنا من يلتقط قليلاً من متفرقات الأفكار ويوزعها على الناس فهو قريب من النُتفة في العربية.
    بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ قسم الآثينيون الآلهة ثلاثة أقسام وأصل الآلهة هنا في اليونانية تفيد القسم الأدنى من هذه الثلاثة. سجن اليونانيون سقراط الفيلسوف وحكموا عليه بالموت سنة ٣٩٩ ق. م لمثل هذه الدعوى عينها.
    لأَنَّهُ... بِيَسُوعَ وَٱلْقِيَامَةِ هذا علة قولهم «منادياً بآلهة غريبة» والمعنى أنه نادى لهم بيسوع والذي أقامه. ولا يعقل أن أولئك الفلاسفة حسبوا القيامة إلهاً وأن بولس جمجم كلامه وأبهم مراده حتى أوهمهم ذلك.
    ١٩، ٢٠ «١٩ فَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى أَرِيُوسَ بَاغُوسَ، قَائِلِينَ: هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ ٱلَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ. ٢٠ لأَنَّكَ تَأْتِي إِلَى مَسَامِعِنَا بِأُمُورٍ غَرِيبَةٍ، فَنُرِيدُ أَنْ نَعْلَمَ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ».
    فَأَخَذُوهُ أخذ الصديق للصديق كما أخذه برنابا من طرسوس (ص ٩: ٢٧).
    أَرِيُوسَ بَاغُوسَ أي أكمة المرّيخ وهي تل صخري مشرف على المدينة يُصعد إلى قنته بدرج. وكانت مجالسهم العظمى هنالك وكانت مقاعد القضاة منحوتة في صخرها ولم تزل باقية إلى هذا اليوم. وأخذوا بولس إلى هنالك لأن المكان مناسباً لمخاطبة الجمهور.
    هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ ظاهر هذه العبارة لطف وافر ولكنها لا تخلو من بعض التهكم.
    ٱلَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ في السوق (ع ١٧).
    ٢١ «أَمَّا ٱلأَثِينِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَٱلْغُرَبَاءُ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ، فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ إِلاَّ لأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئاً حَدِيثاً».
    هذه الآية من كلام لوقا وهي بيان لرغبة رجال أثينا في أن يسمعوا كلام بولس خلافاً لسائر أهل المدن التي زارها لكنهم لم يأتوا ذلك محبة للإنجيل أو رغبة في قبوله.
    ٱلأَثِينِيُّونَ بأسرهم أغنياء وفقراء علماء وجهلاء.
    ٱلْغُرَبَاءُ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ الذين اتخذوا تلك المدينة وطناً وقتياً لأن طلبة العلم كانوا يقصدونها من سائر البلدان ليحضروا حلقات الفلسفة المتنوعة وكانوا يجرون مجرى أهل المدينة.
    فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ هذا من المبالغة والمراد به أن معظم أعمالهم الأُلفة والبحث عن غرائب الحوادث والتعاليم.
    شَيْئاً حَدِيثاً أحدث مما سمعوه أمس.
    ٢٢ «فَوَقَفَ بُولُسُ فِي وَسَطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلأَثِينِيُّونَ، أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيراً».
    مدح كثيرون خطاب بولس هنا لأنه كان على وفق مقتضى الحال ولأن بولس أظهر فيه غاية الحكمة بالأسلوب الذي اختاره لإعلان الحق للأثنيين إذ بنى ما أعلنه على ما اعتقدوه قبلاً.
    أَرَاكُمْ مما اختبرته وشاهدته في مدينتكم.
    مُتَدَيِّنُونَ كَثِيراً اشتهر أهل أثينا بشدة مراعاتهم الأمور الدينية وافتخروا بذلك فاتخذ بولس ذكر ذلك وسيلة إلى أن يرضوه ويصغوا إليه. وهذا ليس من التملق لأنه لم يمدحهم ولم يذمهم على ذلك بل ذكر ما هو الواقع من رغبتهم في العبادة حسب معرفتهم واعتقادهم. وأحب بولس أن يحولهم عن رغبتهم في العبادة الباطلة إلى الرغبة في العبادة الحقة ويقودهم من اعتقادهم آلهة كثيرة موهومة إلى معرفة الإله الواحد القدوس غير المنظور وغير المحدود الأزلي المحب.
    ٢٣ «لأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ، وَجَدْتُ أَيْضاً مَذْبَحاً مَكْتُوباً عَلَيْهِ: لإِلٰهٍ مَجْهُولٍ. فَٱلَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، هٰذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ».
    يوحنا ٤: ٢٢
    أَجْتَازُ في أزقة مدينتكم وساحاتها.
    مَعْبُودَاتِكُمْ أراد بذلك كل ما يتعلق به من الهياكل والمذابح والتماثيل.
    وَجَدْتُ أَيْضاً مَذْبَحاً فوق المذابح المختصة بآلهة معروفة الأسماء والصفات.
    لإِلٰهٍ مَجْهُولٍ هذا إثبات لقوله «متدينون كثيراً». وشهد يوسانياس وفيلستريتوس بأنه كان في أثينا مذابح مكتوب عليها «لإله مجهول». وجاء في التواريخ اليونانية أنه تفشى وباء شديد في أثينا ونسبوه إلى غضب أحد الآلهة وأرادوا أن يعرفوا من هو فاستشاروا أبيميندس فأمرهم أن يُطلقوا الغنم في المدينة وأنه حيث تربض إحداها قرب هيكل أو صنم يذبحونها هناك رجاء أن تأتي الغنمة إلى مقام الإله الذي غضب عليهم فيرفع نقمته عنهم. لكن بعضها ربض حيث لا صنم ولا هيكل فأقاموا في المربض مذبحاً وكتبوا عليه «لإله مجهول» اعتقاداً أنه هو الذي أرسل النقمة وهو الذي يقدر أن يرفعها. وبهذا سلموا بأن ديانتهم مع وفرة آلهتها غير وافية بأن تبيّن لهم كل المعبودات حتى لا تتركهم يجهلون من عبادته لا بد منها لدفع البلاء. فأخذ بولس في أن يُعلن لهم من سلموا باحتياجهم إلى معرفته. وفي هذا العنوان برهان على «أن العالم لم يعرف الله بالحكمة» (١كورنثوس ١: ٢١) وأنه لا يستطيع الإنسان بواسطة حكمته أن يعرف من شأنه تعالى ما فيه الكفاية لراحة العقل.
    وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ الخ أي وأنتم لا تعلمون اسمه ولا صفاته ولا العبادة التي ترضيه. فبذلك العنوان أقررتم بوجود إله يستحق العبادة مجهول الاسم والصفات فإيّاه أعلن لكم وهو الإله الواحد الحي. وبهذا خلّص بولس نفسه من التهمة التي بها حُكم على سقراط بالموت وهي أنه نادى بآلهة جديدة وأنبأهم بمن اعترفوا بجهلهم إيّاه وتوصل إلى مقدمة لطيفة لخطابه. ولو خاطب اليهود في مجمعهم لكان أخذ موضوع خطابه من ناموس موسى لكنه في خطابه اليونانيين في أريوس باغوس اتخذ موضوع خطبته عنوان أحد مذابحهم الوثنية.
    لم يطعن بولس في العبادة الوثنية بل اتخذ المبدأ الغريزي الحامل على العبادة الإلهية وبيّن لهم وجوب الجري بمقتضاه في سنن الصواب.
    ٢٤ «ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هٰذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلأَيَادِي».
    ص ١٤: ١٥ متّى ١١: ٢٥ ص ٧: ٤٨
    شرع بولس في ما يأتي يبيّن صفات الإله الحق الواحد وأعماله وطريق عبادته الواجبة.
    ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ هذا تصريح بتوحيد الله مناف لاعتقادهم كثرة الآلهة وبأنه مبدع كل شيء خلافاً للمعتقدين أزلية المادة وانتظامها اتفاقاً.
    إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ هذا لازم عن كونه خالق كل شيء. ومعناه أن الله متسلط على كل ما خلق وسائسه ومعتنٍ به. وينتج من ذلك أنه الإله الذي يجب أن نعبده وتخافه وحده وأنه ليس من إله سواه.
    لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ الخ لأنه خالق الكل فهو مالئ الكل غير محدود فلا يُحصر في هيكل أحدثه الناس. ولا بد من أنهم شعروا بغرابة هذا القول وهم محاطون بهياكل فاخرة فاعتبروها مساكن الآلهة. إن بولس سمع هذه العبارة في خطاب استفانوس (ص ٧: ٤٨ و٥٨) ولا ريب في أنه اغتاظ حينئذ منها كسائر اليهود الذين اعتبروا هيكلهم في أورشليم مسكن الله وأن القول بخلاف ذلك تجديف. ولكنه هنا نادى بتلك العبارة عينها وفي هذا منافاة لضلالهم في أمر المعابد فتعليمه هنا على وفق تعليم المسيح للمرأة السامرية في قوله «تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ» (يوحنا ٤: ١٢).
    لا شيء في قول بولس هنا مناقض لكون الله أعلن آية مجده في قدس الأقداس في خيمة الاجتماع وفي هيكل سليمان ولا مانع فيه للمسيحيين من أن يحسبوا الكنيسة بيت الله وأنها مقدسة لأن ذلك لا يلزم منه أن الله محدود أو محصور في مكان.
    ٢٥ «وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ».
    مزمور ٥٠: ٨ تكوين ٢: ٧ وعدد ١٦: ٢٢ وأيوب ١٢: ١٠ و٢٧: ٣ و٣٣: ٤ وإشعياء ٤٢: ٥ و٥٧: ١٦ وزكريا ١٢: ١
    وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ المراد بأيدي الناس هنا الناس باعتبار أن أيديهم آلة خدمتهم. هذا تصريح آخر بما يخالف اعتقادهم في شأن الله وطريق عبادته أبان به عدم افتقار الله إلى خدمة الإنسان وغناه عن ذبائحهم. فالأثينويون كسائر الوثنيين قدّموا لآلهتهم قرابين نفيسة وذبائح وافرة وأولموا ولائم فاخرة لها وأنفقوا ثروتهم على تزيين هياكلهم كأن تلك الآلهة اقتاتت بالذبائح وافتقرت إلى القرابين وسروا بها. وصرح بولس بأن الله غني عن كل ذلك بناء على قوله آنفاً «أنه خالق الكل ورب الكل» .وهذا على وفق قول داود «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مزمور ٥١: ١٦ انظر ايضاً مزمور ٥٠: ١ - ١٢). هذا وأن الله مع غناه عن عبادة الإنسان بغية مسرّته تعالى ومجده يرضى عبادتنا بغية خيرنا وسعادتنا وإظهار شكرنا له على كل آلائه الزمنية والروحية فيليق بالإنسان ويجب عليه أن يقدمها (يوحنا ٤: ٢٣).
    إِذْ هُوَ يُعْطِي مبدأ العبادة الوثنية هو أن العابد يجعل معبوده مديوناً له لكن بولس أبان أنه لا يمكن أن يكون الله مديوناً لعباده لأنه هو الواهب كل شيء لهم ولاحاجة له إلى شيء.
    حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ المراد بالحياة والنفس هنا شيء واحد فالعطف للتفسير فهو كقوله «فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً» (تكوين ٢: ٧). وأراد «بكل شيء» مقومات الحياة فالله الذي وهب الحياة هو الذي يحفظها على الدوام ويعتني بكل نفس من أنفاسها. وهذا يبيّن شدة افتقار الإنسان إلى الله وينتج عن ذلك أن الله في غاية الغنى عنه.
    ٢٦ «وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ، وَحَتَمَ بِٱلأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ».
    تثنية ٣٢: ٨
    علّم بولس آنفاً توحيد الله وأخذ هنا يعلّم وحدة الأصل البشري وهذا مما لم يعلّمه أحد من المعلمين الوثنيين فإنهم كما اعتقدوا آلهة كثيرة اعتقدوا أصولاً كثيرة للبشر. ولعل بولس قصد في هذه الآية توبيخ اليونانيين على زهوهم بأنهم أشرف الناس أصلاً لأنهم نشأوا من تربة أتيكا على زعمهم. فقسموا البشر قسمين اليونان والبربر فحسبوا أن الطبع يقضي بأن تكون نسبة البربر إلى اليونان كنسبة العبيد إلى السادة.
    مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ أي كل صنوف البشر ذات طبيعة واحدة من أصل واحد. وهذا موافق لما قيل في الأصحاح الأول من سفر التكوين من ان كل البشر من أب واحد هو آدم. ولا ينافي هذا ما يُشاهد من اختلاف صنوف البشر في الألوان والهيآت واللغات لأن ذلك الاختلاف لعللٍ معروفة كأحوال الإقليم واختلاف المأكولات والعادات وأمثال ذلك.
    وَحَتَمَ بِٱلأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ في تاريخ الأمم. وذلك من جهة أزمنة ارتقاء بعضها وانخفاض الآخر وانتصار هذه وانكسار تلك وحضرهم ومهاجرتهم.
    بِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ بمقادير ممالك الأمم ومواقعها على اختلافها. وأمضى ذلك بفصل بعضها عن بعض بتخوم طبيعية كالجبال والبحار والأنهر وبعنايته الإلهية وسياسته وهي الفاعل الأعظم. وصرّح الرسول في هذه الآية بأن الله قضى بكل الأحوال التي تؤثر في أخلاق الناس وخلقهم. وهذا مناف لآراء الفلاسفة الوثنيين فإنهم نسبوا كل شيء إلى الاتفاق أو الاضطرار (المعروف بالقدر الأعمى).
    ٢٧ «لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللّٰهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً».
    رومية ١: ٢٠ إرميا ٢٣: ٢٣ وص ١٤: ١٧ ورومية ١٠: ٦ و٨
    صرّح الرسول هنا بغاية الله من خلقه الإنسان ووضعه إيّاه حيث يشاهد أعماله وهي أن يعرف خالقه ويعبده.
    لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللّٰهَ أي يرغبوا في الحصول على معرفته بمشاهدة آيات حكمته وقوته وجودته في أعماله. أنه تعالى لم يعلن نفسه للناس في طريق يجبرهم على الاعتراف بوجوده وصفاته لكنه أراد أن يكون الإنسان حراً في ما يعتقده ولذلك أعلن نفسه في طريق يمكن الذين يطلبونه من أن يجدوه.
    لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ بمشاهدتهم أعماله واستدلالهم بها فهم يستطيعون معرفة وحدانية الله ومعرفة صفاته من أعمال الخليقة والعناية والوسائط محصورة في هذا دون الوحي. وعلّم بولس وثنيي لسترة مثل هذه الحقيقة (ص ١٤: ١٥ و١٧ قابل هذا بما في رومية ١: ١٨ - ٢١). وبقوله «يتلمسونه» شبه الأمم الذين يطلبون معرفة الله بمشاهدة أعماله بالإنسان الملتمس مراده في الظلمة وهذا حال الوثنيين الذين لا وحي لهم. وقوله «لعلهم» الخ دلالة على أن أكثرهم لم يجدوا الله. ويثبت ذلك أيضاً كتابتهم على المذبح «لإله مجهول» ووفرة آلهتهم دليل قاطع على جهلهم أواحد المعبود أم ألوف. ويثبته أيضاً عجزهم عن معرفة أنه أظلت الآلهة تعتني بالعالم أم تركته لشأنه بعدما خلقته ومثل هذا ريبهم في طريق العبادة المرضية.
    مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً أي مع قربه إليهم حتى لا يحتاجوا إلا إلى مد أيديهم ليجدوه لأن الله أوجد وسائط كافية لمعرفته إذا اتخذت (وهي شواهد أعماله) فالحق على الإنسان في الجهل لا على الله لأنه نتيجة عماية الإنسان الاختيارية. وفي قول «ليس بعيداً» منافاة لقول الأبيكوريون أن الآلهة بعد الخلق اعتزلت العالم وكل التفات إلى البشر وكل عناية بهم ومنافاة لاعتقاد أكثر الوثنيين على اختلاف فرقهم لأنهم اعتقدوا أن مسكن الآلهة قنة جبل أولمبوس أو هياكل بعيدة عن أكثرهم. وأراد بقوله «كل واحد منا» كل فرد من أفراد البشر. وشهادة ضمائرهم من قواطع البرهان على ذلك وأشار إلى هذه الشهادة بقوله «شَاهِداً أَيْضاً ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً» (رومية ٢: ١٥). وقوله هنا كقول موسى «إِنَّ هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةَ ٱلَّتِي أُوصِيكَ بِهَا ٱلْيَوْمَ لَيْسَتْ عَسِرَةً عَلَيْكَ وَلاَ بَعِيدَةً مِنْكَ. لَيْسَتْ هِيَ فِي ٱلسَّمَاءِ حَتَّى تَقُولَ: مَنْ يَصْعَدُ لأَجْلِنَا إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَيَأْخُذُهَا لَنَا وَيُسْمِعُنَا إِيَّاهَا لِنَعْمَلَ بِهَا؟ وَلاَ هِيَ فِي عَبْرِ ٱلْبَحْرِ حَتَّى تَقُولَ: مَنْ يَعْبُرُ لأَجْلِنَا ٱلْبَحْرَ وَيَأْخُذُهَا لَنَا وَيُسْمِعُنَا إِيَّاهَا لِنَعْمَلَ بِهَا؟ بَلِ ٱلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ جِدّاً، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ لِتَعْمَلَ بِهَا» (تثنية ٣٠: ١١ - ١٤).
    ٢٨ «لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ».
    كولوسي ١: ١٧ وعبرانيين ١: ٣ تيطس ١: ١٢
    لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ هذا برهان على قربه تعالى منا لأنه علة وجودنا وبقائنا. وذهب بعضهم إلى أن الرسول أشار بذلك إلى ثلاثة أمور:

    • الأول: حياتنا الروحية.
    • والثاني: حياتنا الحيوانية.
    • والثالث: وجودنا المطلق. ورأى آخر أن مراد الرسول إنّا لولا الله لم نكن ذوي حياة بشرية ولم نستطع الحركة كما يتحرك الجماد كالنجوم وأشكالها التي هي ليست حية ولم نوجد مطلقاً. والأرجح أن الرسول قصد بتلك الأمور الثلاثة حياتنا وكل ما يتعلق بها من القوى الجسدية والعقلية وأفعالها وانفاعلاتها. وصرّح بأن علة هذا كله قربنا من الله وقرب الله منا.


    كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ استشهد بعض شعراء اليونان ليدل على أن ما قاله ليس من رأيه أو رأي اليهود خاصة بل هو رأي علمائهم أيضاً. والذي استشهده من أولئك الشعراء أراتوس اليوناني. وُلد هذا الشاعر في كيليكية نحو سنة ٢٧٧ ق. م وما ذكره الرسول من قوله أخذه عنه بلفظه. وجاء مثل معناه في قول كلينش وهو شاعر آخر من اليونانيين كان في نحو سنة ٣٠٠ ق. م. وتربية بولس وهو صغير في طرسوس التي اشتهرت بمدارسها العلمية جعلته يألف أقوال الشعراء اليونانيين ويختبرها. واقتبس في بعض رسائله بعض أقوال شاعرين آخرين وهما مينندر وأبيمنديس (١كورنثوس ١٥: ٣٣ وتيطس ١: ١٢).
    ذُرِّيَّتُهُ أي نسله.
    ٢٩ «فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ ٱللّٰهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ ٱللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ».
    إشعياء ٤٠: ١٨
    فَإِذْ أي بناء على شهادة عقولكم وشعرائكم.
    ذُرِّيَّةُ ٱللّٰهِ المستلزمة أننا مماثلون له. والمعنى أنا من طبيعة الإنسان نقدر أن نتوصل إلى صفات الله خالقه. فالإنسان نفس حية عاقلة فيلزم أن يكون خالقه روحاً حياً عاقلاً.
    لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ لأن هذا الظن هذيان. وقال نظن ولم يقل تظنوا تلطفاً كأنه يجب عليه كما يجب عليهم الاحتراس من الضلال المذكور. وفيه تلميح إلى أن ذلك الضلال عام أكثر الناس كما هو الواقع منذ العصور وهو ضلال كل العالم الوثني.
    ٱللاَّهُوتَ أي الجوهر الإلهي.
    شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ لأن كلا منها جماد لا يستطيع أن يهب ما ليس له من الصفات. وصفات الإنسان معروفة ومعلوم أنها ليست للجماد فمن الهذيان أن نعتبر الجماد كالإنسان الحي العاقل. فالأولى أن يكون هذياناً أن نعتبر الجماد كالله خالق الإنسان وواهب الحياة والعقل وأن نعبده كما اعتبر أهل أثينا وعبدوا تمثال زفس الذهب وأهل أفسس تماثيل هيكل أرطاميس الفضية وسائر الوثنيين تماثيل الرخام التي لا تحصى في أثينا.
    نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ أي منحوتات. كانت منحوتات أثينا في غاية الإتقان لم يقدر على أن ينحت الناس مثلها قبلها وبعدها ولكن ليس من اتفاق يستطيع أن يجعل الجماد حياً ويجعل له صفات إلهية فالحجر المنحوت لا يزال حجراً فتغير الهيئة لا يغير الجوهر.
    ٣٠ «فَٱللّٰهُ ٱلآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ».
    لوقا ٢٤: ٤٧ وتيطس ٢: ١١ و١٢ و١بطرس ١: ١٤ و٤: ٣ ص ١٤: ١٦ ورومية ٣: ٢٥
    ٱلآنَ أي أيام التشبير بالإنجيل وإعلان الله نفسه لكل الناس لا لأمة واحدة لأنه انتهت أيام جهل الإنسان وأوقات صبر الله.
    يَأْمُرُ بسلطان كملك لا يغض الطرف عن العصيان وهو يأمر بواسطة الإنجيل والمنادين به.
    جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ قوله في كل مكان زيادة لتقرير الشمول والمعنى أنه يأمر كل فرد من أفراد البشر بلا استثناء بخلاف ما فعل قبل عهد الإنجيل من اختصاصه اليهود بأوامره.
    أَنْ يَتُوبُوا أي يرجعوا عن أفكارهم الباطلة وأعمالهم السيئة ولا سيما عبادة الأوثان. والتوبة لفظة غريبة عن أذهان الأثينويين فمع كل علمهم لم يفهموا معناها ولم يشعروا بوجوبها ففلسفتهم لم تعلمهم أن يبغضوا الخطيئة ويرجعوا عن ارتكابها. وهنا يجب على المسيحيين الآن أن ينشروا أمر الله بين الوثنيين ويدعوهم إلى معرفة الحق وطريق الخلاص.
    مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ لم يخَف بولس من أنه نسب الجهل إلى الأثينويين المتفاخرين بأنهم فاقوا سائر البشر بالمعرفة لأنه بنى ذلك على شهادة ما كتبوه على مذبحهم. والمراد «بأزمنة الجهل» كل الأوقات التي مضت قبل الإنجيل لأن أكثر الناس فيها جهلوا الله وعبدوا الأوثان. وكانت جديرة بأن تسمى بأزمنة الخطيئة والفساد ولكنه اقتصر على إضافتها إلى الجهل تلطفاً.
    ومعنى «تغاضى الله عن تلك الأزمنة» أنه ترك أهلها الوثنيين يرتشدون بشهادة الطبيعة ولم يمنعهم عن العبادة الباطلة بوحي إو إعلان لهم كما فعل لليهود ولم يعاقبهم كما يستحقون. وهذا مثل ما جاء في (ص ١٤: ١٦) فراجع التفسير هناك وقابله بما في (رومية ٣: ٢٥).
    ٣١ «لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
    ص ١٠: ٤٢ ورومية ٢: ١٦ و١٤: ١٠ ص ٢: ٢٤
    ذكر بولس في هذه الآية العلة التي أوجبت التوبة على الوثنيين وهي أن الإله الذي أمر بالتوبة قاصد أن يلاحظ أيطيع الناس أم لا وأن يعاقب العصاة. فإنه قد مضى يوم جهل الإنسان وأناة الله وأتى يوم إعلان إرادته وأمره بالتوبة وبعده يأتي يوم الحساب أمام الديان الذي عيّنه الله.
    أَقَامَ يَوْماً أي عيّن وقتاً للدينونة الآخرة كما قال بطرس في خطابه للأمم في قيصرية (ص ١٠: ٢٢).
    ٱلْمَسْكُونَةَ كل البشر من يهود وأمم.
    بِٱلْعَدْلِ بلا محاباة ولا ظلم في المحاكمة. وفي هذا تلميح إلى أن عدل الله يقتضي الحساب والجزاء وأنه بواسطة تلك المحاكمة يظهر عدل الله أعظم ظهور أمام كل خلائقه.
    إن آريوس باغوس حيث خطب بولس كان محل المحاكمة. وفي هذا تلميح إلى أن عدل الله يقتضي الحساب والجزاء وأنه بواسطة تلك المحاكمة يظهر عدل الله أعظم ظهور أمام كل خلائقه.
    بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ أي اختاره الله ديّانا وهذا الرجل هو المسيح كما يظهر من (ص ١٠: ٤٢ ويوحنا ٥: ٢٥ ومتّى ص ١٥). ولا ريب في أنه كان يريد أن يبيّن ذلك لو صبروا عليه.
    مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً أي اتى البيان المقنع لكل من يصغي إليه.
    إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ صرّح بولس في خطبته هنا كما صرح في سائر خطبه أن قيامة المسيح أثبتت كل دعاويه (انظر شرح ص ١: ٢٢) ومن تلك الدعاوي أن الله عيّنه ديّاناً للعالمين.
    ٣٢ «وَلَمَّا سَمِعُوا بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ: سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هٰذَا أَيْضاً!».
    لَمَّا سَمِعُوا بِٱلْقِيَامَةِ كانت القيامة عند قدماء اليونان من ضروب المحال وخلاصة عقائدهم في الموتى قول استيلوس الشاعر اليوناني «من مات فليس له قيامة» فذكر بولس القيامة أثّر في السامعين تأثيراً أوقفه عن الخطاب وكما جرى هنا جرى على استفانوس في أورشليم من اليهود (ص ٧: ٥٧).
    كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ الاستهزاء هنا كالاستهزاء في (ص ٢: ١٣) فإنهم حسبوا كلام بولس كلام مجنون أو سكران يستحق أن يضحك به.
    وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ لم يلزم مما قالوه أنهم اعتبروا إمكان القيامة أكثر ممن استهزئوا لكنهم كانوا ألطف منهم كلاماً.
    سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هٰذَا أَيْضاً أي عن كل فحوى خطابه لا القيامة فقط. وهذا أسلوب لطيف للاستعفاء من السمع. ولعل المستهزئين منهم هم الأبيكوريون أهل الطيش واللهو والآخرين الرواقيون الذين أكثر من هؤلاء وقاراً ورصانة. ولعل كلامه أثر في بعضهم وقتياً فأجابوا عليه مثل جواب فيلكس الوالي (أعمال ٢٤: ٢٥) ولم يبالوا بعد ذلك بشيء مما سمعوا من خطابه. ومهما يكن السبب فإنهم لم يسمحوا لبولس أن يتمم خطبته وينبئهم بالمسيح وطريق الخلاص به.
    ٣٣ «وَهٰكَذَا خَرَجَ بُولُسُ مِنْ وَسَطِهِمْ».
    وَهٰكَذَا خَرَجَ أي على الحال التي سبقت ترك رسول الأمم آريوس باغوس وفارق أيّمة اليونانيين المفتخرين بالحكمة والتمدن والدين وبعضهم مستهزئ وبعضهم غير مكترث بالأمر والباقون يتوقعون فرصة أخرى لم تكن. وقوله «خرج» يدل على أنه كان حراً لم يؤخذ إلى آريوس باغوس إجباراً للمحاكمة (ع ١٩).
    ولم نسمع بعد هذا أن بولس زار أثينا ثانية ومع أنه كتب خمس رسائل إلى ثلاث مدن أُخر يونانية (كتب إلى فيلبي واحدة وإلى تسالونيكي اثنتين وإلى كورنثوس اثنتين) لم يذكر أثينا في واحدة منها فبقيت إلى بعد أيام قسطنطين الكبير مركز الديانة والفلسفة الوثنية وكانت آخر مدن أوربا التي قبلت الديانة المسيحية.
    ٣٤ «وَلٰكِنَّ أُنَاساً ٱلْتَصَقُوا بِهِ وَآمَنُوا، مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ ٱلأَرِيُوبَاغِيُّ، وَٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا دَامَرِسُ وَآخَرُونَ مَعَهُمَا».
    وَلٰكِنَّ هذا الاستدراك يدل على أن خدمة بولس في أثينا لم تكن بلا ثمر على أن ذلك الثمر كان قليلاً بالنسبة إلى ما جنى في فيلبي وتسالونيكي.
    أُنَاساً ٱلْتَصَقُوا بِهِ أي اتبعوه وسلموا بتعليمه غير مكترثين بهزء المستهزئين ومقاومة المقاومين.
    وَآمَنُوا بما قاله في خطابه للفلاسفة وبالمسيح الذي كان ينادي به دائماً.
    مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ ٱلأَرِيُوبَاغِيُّ أي هذا كان ممن آمنوا ولا ريب في أنه كان ذا شأن لأن نسبته إلى آريوس باغوس دليل على أنه من أعضاء ذلك المجلس الذي كان يومئذ أسمى مجالس العالم فإنه لم يعيّن فيه عضو ما لم يكن قد بلغ سن الستين وكان قبل ذلك قاضياً في مجلس آخر. وما قيل هنا كل ما نعرف من أمره.
    دَامَرِسُ لا نرى علة لذكرها إلا أنه لم يؤمن سواها من النساء في أثينا.
    إن تأثير خطاب بولس في أثينا وإن يكون قليلاً على ما ظهر لم يكن عبثاً لأن كنيسة المسيح انتفعت بما فيه من الحكمة والقوة من ذلك اليوم إلى هذه الساعة فتعلم منه المبشرون بالإنجيل الحجج المناسبة لإقناع الوثنيين بعبادة الإله الوحيد الحي ودعوتهم إلى التوبة وإنذارهم بالدينونة الآتية.


    الأصحاح الثامن عشر


    بولس في كورنثوس ع ١ إلى ١٧


    ١ «وَبَعْدَ هٰذَا مَضَى بُولُسُ مِنْ أَثِينَا وَجَاءَ إِلَى كُورِنْثُوسَ».
    وَبَعْدَ هٰذَا أي بعد حوادث أثينا والمدة مجهولة لكن يُستنتج من القرينة وما في (ص ١٧: ١٦) أنها كانت قصيرة.
    مَضَى بُولُسُ مِنْ أَثِينَا لأنه لم يتوقع النجاح فيها.
    جَاءَ إِلَى كُورِنْثُوسَ مدينة على غاية خمسين ميلاً من أثينا غرباً هي قصبة أخائية أحد قسمي بلاد اليونان كما أن فيلبي قصبة مكدونية القسم الآخر. كانت مبنية على برزخ ضيق لها فرضتان غربية واسمها ليكيوم وشرقية واسمها كنخريا هدمها الرومانيون سنة ١٤٦ ق. م لأن أهلها أهانوا سفراءهم وبقيت خربة نحو مئة سنة ثم بناها يوليوس قيصر. ولما زارها بولس كان قد مر على تجديدها سبع وثمانون سنة وكان مجدها حينئذ أعظم من مجدها الأول. واشتهرت بعظمة متجرها وغناها وبهاء صروحها وهياكلها وفجورها بدليل قول المؤرخين أنه كان في هيكل موقوف للزهرة ألف كاهنة زانية حصلت المدينة على كثير من ثروتها من دخل ذلك الهيكل من التقدمات. وأشار بولس في بعض رسائله إلى تلك الحالة الأدبية (١كورنثوس ٥: ١ و٦: ٩ و١١ و١٣ - ١٩). قصد بولس التبشير في هذه المدينة لوفرة أهلها وكثرة زوارها وغزارة اليهود المهاجرين إليها. ولا ريب في أن الروح القدس الذي دعاه إلى مكدونية أومأ إليه أن يأتي إلى كورنثوس. وصارت هذه المدينة مركزاً رابعاً للديانة المسيحية تنتشر منه أشعة الإنجيل في آخائية. بقي فيها بولس سنة ونصف سنة (ع ١١) وكتب فيها الرسالتين إلى تسالونيكي.
    ٢ «فَوَجَدَ يَهُودِيّاً ٱسْمُهُ أَكِيلاَ، بُنْطِيَّ ٱلْجِنْسِ، كَانَ قَدْ جَاءَ حَدِيثاً مِنْ إِيطَالِيَا، وَبِرِيسْكِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ لأَنَّ كُلُودِيُوسَ كَانَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يَمْضِيَ جَمِيعُ ٱلْيَهُودِ مِنْ رُومِيَةَ. فَجَاءَ إِلَيْهِمَا».
    رومية ١٦: ٣ ١كورنثوس ١٦: ١٩ و٢تيموثاوس ٤: ١٩
    فَوَجَدَ يَهُودِيّاً ٱسْمُهُ أَكِيلاَ أي يهوديا في الأصل لكنه كان حينئذ مسيحياً تنصر في رومية على أرجح الأقوال من تأثير حوادث يوم الخمسين (ص ٢: ٩).
    بُنْطِيَّ ٱلْجِنْسِ أي ممن ولدوا في بنطس من متشتتي اليهود الذين كتب بطرس رسالته الأولى إليهم (١بطرس ١: ١) وهي بلاد في القسم الشمالي الشرقي من آسيا الصغرى.
    بِرِيسْكِلاَّ مصغر بريسكا في الرومانية وهذا يدل على أن هذه المرأة رومانية وذُكرت بلا تصغير في (٢تيموثاوس ٤: ١٩). فهذه وزوجها أكيلا علّما أبلّس وبذلك نستدل على أنها كانت امرأة عاملة مختبرة الكتاب المقدس ذُكر اسمها غالباً قبل اسم زوجها (ع ١٨ ورومية ١٦: ٣ و٢تيموثاوس ٤: ١٩).
    لأَنَّ كُلُودِيُوسَ... مِنْ رُومِيَةَ كلوديوس هو أمبراطور رومية الرابع ملك من سنة ٤١ ب. م إلى سنة ٥٤. ذكر سويتونيوس المؤرخ الروماني أنه نفى اليهود من رومية لكثرة فتنهم.
    فَجَاءَ إِلَيْهِمَا أي إلى مسكنهما كأنه عرفهما صديقين وفي ذلك ما يثبّت أنهما تنصرا قبل مشاهدته.
    ٣ «وَلِكَوْنِهِ مِنْ صِنَاعَتِهِمَا أَقَامَ عِنْدَهُمَا وَكَانَ يَعْمَلُ، لأَنَّهُمَا كَانَا فِي صِنَاعَتِهِمَا خِيَامِيَّيْنِ».
    ص ٢٠: ٣٤ و١كورنثوس ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨
    اعتاد اليهود جميعاً أن يعلموا أولادهم الصنائع حتى الموقوفين منهم للعلم والشريعة والدين لكي يستطيعوا المعاش بها إذا اقتضت الحال ويخلصوا من تجارب البطالة. قيل في التلمود جواباً لقولهم «ما الواجبات على الوالد لولده» أن يختنه ويفقهه بالتوارة ويعلمه صناعة.
    وَكَانَ يَعْمَلُ للحصول على أسباب المعاش له وللذين معه كما عمل في أفسس (ص ٢٠: ٣٤ و١كورنثوس ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨).
    خِيَامِيَّيْنِ كانت الخيام تُصنع قديماً إما من الجلود وهو مما ندر وإما من منسوجات شعر المعزى وهذا مما غلب. وكان هذا الشعر كثيراً في كيليكية ولم يزل اسم نسيح هذا الشعر في الفرنسية والإسبانية والإيطالية ما معناه كيليكياً ولعل بولس مولود كيليكية تعلم تلك الصناعة هنالك.
    ٤ «وَكَانَ يُحَاجُّ فِي ٱلْمَجْمَعِ كُلَّ سَبْتٍ وَيُقْنِعُ يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ».
    ص ١٧: ٢
    هذا مثل ما فعل في سلاميس (ص ١٣: ٥). وفي أنطاكية (١٣: ١٤). وإيقونية (ص ١٤: ١) وتسالونيكي (ص ١٧: ٢). وبيرية (ص ١٧: ١٠). وأثينا (ص ١٧: ١٧).
    يُونَانِيِّينَ متهودين أو مائلين إلى الدين اليهودي.
    ٥ «وَلَمَّا ٱنْحَدَرَ سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، كَانَ بُولُسُ مُنْحَصِراً بِٱلرُّوحِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِلْيَهُودِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
    ص ٧: ١٤ و١٥ أيوب ٣٢: ١٨ وص ١٧: ٣ وع ٢٨
    سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ أي من تسالونيكي إحدى مدنها. انتظرهما بولس في أثينا (ص ١٧: ١٦) فأتى إليه تيموثاوس وهو فيها فأرجعه إلى تسالونيكي وقتياً (١تسالونيكي ٣: ١ و٢).
    مُنْحَصِراً بِٱلرُّوحِ اشتدت روحه غيرة للشهادة بما للمسيح لشدة محبته له ولشدة حاجة الكورنثيين إلى تلك الشهادة لتوقف خلاصهم عليها وأنشأ الروح القدس فيه هذه الغيرة. وصريح العبارة أن سيلا وتيموثاوس وجداه في تلك الحال. والكلمة في الأصل اليوناني تشير إلى شدة انفعالاته وقتئذ وهذا مثل قول المسيح في نفسه «لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟» (لوقا ١٢: ٥٠).
    بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي أن المسيح الموعود به في العهد القديم هو يسوع وهذه خلاصة محاجته في الآية الرابعة.
    ٦ «وَإِذْ كَانُوا يُقَاوِمُونَ وَيُجَدِّفُونَ نَفَضَ ثِيَابَهُ وَقَالَ لَهُمْ: دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ. أَنَا بَرِيءٌ. مِنَ ٱلآنَ أَذْهَبُ إِلَى ٱلأُمَمِ».
    ص ١٣: ٤٥ و١بطرس ٤: ٤ نحميا ٥: ١٣ ومتّى ١٠: ١٤ وص ١٣: ٥١ لاويين ٢٠: ٩ و١١ و١٢ و٢صموئيل ١: ١٦ وحزقيال ١٨: ١٣ و٣٣: ٤ حزقيال ٣: ١٨ و١٩ و٣٣: ٩ وص ٢٠: ٢٦ ص ١٣: ٤٦ و٢٨: ٢٨
    شدة غيرته للحق أنشأت فيهم مثلها للمقاومة كما حدث في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٤ - ٥٧).
    يُجَدِّفُونَ يحتمل الأصل اليوناني أنهم شتموا بولس ورفاقه وحقروهم أو خطئوا إلى الله بأن نكروا لاهوت المسيح.
    نَفَضَ ثِيَابَهُ كما في (ص ١٣: ٥١) وذلك إشارة إلى أن الله رفضهم لأنهم رفضوا الحق وإلى أن بولس فعل كل ما في طاقته ليقنعهم ولكنهم أبوا تركهم في العماية التي اختاروها وللهلاك الذي استحقوه. وهذه الإشارة من مصطلحات اليهود أمر المسيح رسله بها (متّى ١٠: ١٤).
    دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ أي اللوم على أنفسكم في هلاككم. والعبارة من (حزقيال ٣٣: ٤) وبمثل هذا الكلام حمل اليهود على أنفسهم وأولادهم مسؤولية قتل المسيح (متّى ٢٧: ٢٥).
    أَنَا بَرِيءٌ هذا تفسير لمراده من نفض ثيابه أي ليس عليّ شيء بهلاككم.
    مِنَ ٱلآنَ أَذْهَبُ باعتبار كوني رسولاً ومبشراً. وكلامه مقصور على يهود كورنثوس كما قُصر على يهود أنطاكية بيسيدية في (ص ١٣: ٣٦).
    ٧ «فَٱنْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَجُلٍ ٱسْمُهُ يُوسْتُسُ، كَانَ مُتَعَبِّداً لِلّٰهِ، وَكَانَ بَيْتُهُ مُلاَصِقاً لِلْمَجْمَعِ».
    ٱنْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ أي من المجمع حيث كان يحاجّ اليهود المجدفين.
    وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ اتخذه بمنزلة مجمع لمقابلة الناس وتعليمه إيّاهم فلا يلزم من هذا أنه ترك منزله مع أكيلا.
    يُوسْتُسُ اسم روماني.
    كَانَ مُتَعَبِّداً لِلّٰهِ أي الإله الحق. واصطلح لوقا على الإشارة بمثل هذه العبارة إلى الأمم الذين تهودوا وعبدوا يهوه كما جاء في (ص ١٣: ٤٣ و٥٠ و١٦: ١٤ و١٧: ٤ و١٧). وزاد ويستس على إيمانه بالله اعتقاده أن يسوع هو المسيح.
    بَيْتُهُ مُلاَصِقاً لِلْمَجْمَعِ اختار بولس هذا البيت لمناسبته لاجتماع الناس ولإعلان انفصاله عن يهود ذلك المجمع المقاومين المجدفين.
    ٨ «وَكِرِيسْبُسُ رَئِيسُ ٱلْمَجْمَعِ آمَنَ بِٱلرَّبِّ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ، وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلْكُورِنْثِيِّينَ إِذْ سَمِعُوا آمَنُوا وَٱعْتَمَدُوا».
    ١كورنثوس ١: ١٤
    كِرِيسْبُسُ اسم روماني لكن من الواضح أن كريسبس كان يهودياً أصيلاً أو دخيلاً. وكونه دخيلاً لم يكن عند اليهود مانعاً أن يكون رئيس مجمع.
    آمَنَ بِٱلرَّبِّ أي أن يسوع هو المسيح الحق وأنه رب ومخلص.
    مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ أي أهل بيته من كبير وصغير.
    إِذْ سَمِعُوا بشارة الإنجيل.
    آمَنُوا أي تنصروا.
    وَٱعْتَمَدُوا كان ممن اعتمدوا واحد عمده بولس بيده على خلاف عادته وهو كريسبس (١كورنثوس ١: ١٤). ومن البينات على قوة تأثير الإنجيل أنه انتصر هذا الانتصار في تلك المدينة الشريرة وانتظمت فيها كنيسة ناجحة. فيجب أن لا نيأس من مثل ذلك التأثير أين بُشر بالإنجيل وليس من مكان مظلم لا يقدر الإنجيل على إنارته ولا من مكان نجس لا يقدر على تطهيره.
    ٩ «فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِبُولُسَ بِرُؤْيَا فِي ٱللَّيْلِ: لاَ تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ».
    ص ٢٣: ١١
    الرؤيا هنا إعلان من الله ولا نعلم هل ظهر له المعلن أو لا.
    لاَ تَخَفْ في هذا إشارة إلى أن بولس كان حينئذ عرضة للخوف واليأس نظراً لشدة مقاومة اليهود وللشر المستولي على تلك المدينة. نعم إن بولس كان شجاعاً كثير الأمل لكنه كان إنساناً فلا عجب من احتياجه أحياناً إلى التعزية والتشجيع وهو محاط بالتجارب والبلايا كما أشار إلى ذلك بقوله «كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ» (١كورنثوس ٢: ٣).
    ١٠ «لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ، لأَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ».
    إرميا ١: ١٨ و١٩ ومتّى ٢٨: ٢٠
    أبان أن كونه معه وحمايته إياه علة الاطمئنان.
    أَنَا مَعَكَ بنوع خاص للإعانة والوقاية. ووعد المسيح رسله بمثل هذا الوعد في (متّى ٢٨: ٢٠).
    لاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ أي لا يوقع بك ضراً. وما أراد الرب بذلك أنه لا يقاومه أحدٌ لأنه قاومه كثيرون بعد ذلك (ع ١٢ - ١٧) إنما أراد أن المقاومين لا يستطيعون إضراره أو منعه من التبشير.
    لأَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً هذا علة أن يكون شجاعاً يتكلم بجراءة. قصد الله أن يأتي بكثيرين من أهل كورنثوس إلى الإيمان والخلاص وأن يكون ذلك بواسطة تبشير بولس. وبإعلانه هذا القصد لبولس أكد له أنه لا يقدر أحد أن يقتله فيبطل قصد الله. ولا شيء ينشط المبشر كأمل النجاح بإرشاد الناس إلى المسيح. ولم تكن علة رجاء إيمان الوثنيين في كورنثوس إلا قصد الله خلاصهم ولا علة لتوبة خطاة العالم وإيمانهم بالمسيح وخلاصهم إلا قصد المنعم الأزلي خلاص المختارين. وقول الله «أن ليس شعباً» الخ لتشجيع بولس يذكرنا قوله تعالى لتشجيع إيليا النبي «قَدْ أَبْقَيْتُ فِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَةَ آلاَفٍ، كُلَّ ٱلرُّكَبِ ٱلَّتِي لَمْ تَجْثُ لِلْبَعْلِ» (١ملوك ١٩: ١٨).
    ١١ «فَأَقَامَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ يُعَلِّمُ بَيْنَهُمْ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ».
    يظهر من هذا أن بولس صدق الوعد وأطاع الأمر.
    أَقَامَ مستريحاً مطمئناً.
    سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ هذا أطول وقت تقضّى عليه في موضع واحد منذ ابتدأ أسفاره للتبشير إلى تلك الساعة وأتى فيه الأعمال الوافرة التي أشار إليها في رسالتيه إلى أهل كورنثوس وهي أنه جمع المؤمنين في تلك المدينة ونظمهم كنيسة وبشر أهل المدن والقرى المجاورة لها ومن ذلك تأسيسه كنيسة في كنخريا (رومية ١٦: ١) ويؤيد ذلك قوله في مقدمة رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس «كَنِيسَةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ أَجْمَعِينَ ٱلَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ» وأخائية نحو نصف بلاد اليونان. وفوق هذا كله كتب في تلك المدة رسالتيه إلى أهل تسالونيكي اللتين لم يقصر نفعهما على تلك الكنيسة بل عم كل الكنائس المسيحية منذ ذلك العهد إلى هذه الساعة.
    بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ أي بشارة الخلاص بيسوع المسيح.
    ١٢ «وَلَمَّا كَانَ غَالِيُونُ يَتَوَلَّى أَخَائِيَةَ، قَامَ ٱلْيَهُودُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى بُولُسَ، وَأَتَوْا بِهِ إِلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ».
    غَالِيُونُ هو أخو سنيكا الرواقي الفيلسوف الروماني المشهور الذي كان استاذ نيرون الأمبراطور. تولى كورنثوس سنة ٥٣ ب. م. شهد مؤرخو ذلك العصر بجودة أخلاقه وحسن سجاياه وبأنه كان حليماً مترفقاً بالجميع محبوباً إلى الجميع غير مداهن ولا مراء. ولعله تولى يوم كان بولس يبشر هنالك. وطمع اليهود لحلمه في أنهم يقدرون على الإيقاع ببولس ورفقائه كما يريدون.
    أَخَائِيَةَ القسم الجنوبي من قسمي بلاد اليونان اللذين قسمهما إليهما الرومانيون بعد استيلائهم عليها وكانت كورنثوس قاعدتها.
    قَامَ كما فعل اليهود في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٠). ويهود تسالونيكي (ص ١٧: ٥).
    كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ اعتاد الولاة الرومانيين أن يطوفوا في أيام معينة في ساحة المدن المتولين عليها ليسمعوا دعاوي عامة الناس وينظروا فيها. ونقل بعضهم كرسي الحكومة ليجلس عليه عند الحكم وكان عندهم لذلك الكرسي شأن عظيم واحترام خاص فانتهز اليهود الفرصة حين جلس غاليون على كرسيه فقبضوا على بولس وأتوا به إليه وشكوه له.
    ١٣ «قَائِلِينَ: إِنَّ هٰذَا يَسْتَمِيلُ ٱلنَّاسَ أَنْ يَعْبُدُوا ٱللّٰهَ بِخِلاَفِ ٱلنَّامُوسِ».
    بِخِلاَفِ ٱلنَّامُوسِ إن الذي أغاظ اليهود هو تعليم بولس تعليماً يخالف ناموس موسى لكنهم لم يصرحوا بذلك لغاليون فتركوا لفظة الناموس مبهمة آملين أنه يفهم بها الشريعة الرومانية المانعة من كل الأديان الحديثة التي لم يأذن أرباب الحكومة الرومانية فيها. وهذه مثل الشكوى على بولس وسيلا في فيلبي وعليها ضُربا وسُجنا بأمر الولاة.
    ١٤ «وَإِذْ كَانَ بُولُسُ مُزْمِعاً أَنْ يَتَكَلَّمَ، قَالَ غَالِيُونُ لِلْيَهُودِ: لَوْ كَانَ ظُلْماً أَوْ خُبْثاً رَدِيّاً أَيُّهَا ٱلْيَهُودُ، لَكُنْتُ بِٱلْحَقِّ قَدِ ٱحْتَمَلْتُكُمْ».
    ص ٢٣: ٢٩ و٢٥: ١١ و١٩
    أَنْ يَتَكَلَّمَ للمحاماة عن نفسه ولدفع الشكوى.
    قَالَ غَالِيُونُ المرجح أنه حكم وقتاً كافياً هنالك ليسمع أنباء بولس وتعليمه ولا بد من أنه علم تعصب اليهود وميلهم إلى التشويش. وكان مضمون جوابه أن الدعوى باطلة بنفسها فلا حاجة للمشكو عليه ان يتفوه بشيء للدفع عن نفسه وأن ما اتهموه به ليس بجرم بمقتضى الشريعة الرومانية.
    لَوْ كَانَ فرض غير الواقع.
    ظُلْماً تعدياً على أحد في ماله أو شخصه أو شيء من حقوقه.
    خُبْثاً رَدِيّاً معظم الفرق بين الظلم والخبث هنا أن الأول تعدٍّ ظاهر والثاني تعدٍّ خفي وأن الخبث أكثر ما يكون في الأدبيات والظلم أكثر ما يكون في الماديات. ويشتمل الاثنان على كل أنواع الجرائم التي ينظر فيها الرومانيون بمقتضى شريعتهم ويعاقبون عليها.
    بِٱلْحَقِّ قَدِ ٱحْتَمَلْتُكُمْ أي سمعت دعواكم مهما كانت طويلة أو مما يثقل سمعها لأن ذلك من مقتضيات رتبتي وفي كلامه تعريض بأنه كان يستثقل كل دعاوي اليهود.
    ١٥، ١٦ «١٥ وَلٰكِنْ إِذَا كَانَ مَسْأَلَةً عَنْ كَلِمَةٍ، وَأَسْمَاءٍ، وَنَامُوسِكُمْ، فَتُبْصِرُونَ أَنْتُمْ. لأَنِّي لَسْتُ أَشَاءُ أَنْ أَكُونَ قَاضِياً لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ. ١٦ فَطَرَدَهُمْ مِنَ ٱلْكُرْسِيِّ».
    إِذَا كَانَ هذا تسليم بالواقع لا فرض غير الواقع كالسابق.
    مَسْأَلَةً أراد بها البحث أو الجدال.
    كَلِمَةٍ أراد بالكلمة القول تمييزاً للعمل كالظلم والخبث فاعتبر المسائل الدينية مجرد ألفاظ.
    وَأَسْمَاءٍ ليست أموراً محسوسة حقيقية. ولا ريب في أن غاليون عرف أن اليهود اغتاظوا من تسمية بولس يسوع الناصري بالمسيح ولم يرد أن يحكم بينهم وبين بولس بأنه هل كان يسوع يستحق ذلك الاسم أو لا.
    وَنَامُوسِكُمْ أي شريعتكم اليهودية. فأوضح لهم أنه لم يُخدع بما أتوه من الإبهام في الشكوى بلفظة الناموس. ويظهر أيضاً أنه كان عارفاً الجماعة المسيحية ولم يعتبرها سوى فرقة من اليهود وأن المسيحيين كما لليهود من الحقوق.
    فَتُبْصِرُونَ أَنْتُمْ فهذا كقول رؤساء الكهنة ليهوذا الاسخريوطي حين ندم على تسليمه يسوع ورد أجرة الخيانة (متّى ٢٧: ٣ - ٥). والمعنى أن الشريعة الرومانية لا تعاقب الإنسان على آرائه في الدين فمن متعلقات الشريعة اليهودية أن تثبت إن كان يسوع هو المسيح أو أن تنفي ذلك. فكأنه قال لهم انظروا في ذلك بموجب شريعتكم واقضوا بمقتضاها. وهو كقول بيلاطس لليهود في أمر المسيح «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَٱحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ» ولكنهم أبوا ذلك لأنهم أرادوا أن تكون الدعوى جنائية عقابها الموت لا دينية عقابها القطع من المجمع (يوحنا ١٨: ٣١).
    لَسْتُ أَشَاءُ... قَاضِياً لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ أراد «بهذه الأمور» مجادلات اليهود الدينية ولا سيما جدالهم في شأن يسوع ورفضهم إياه. ولم يخطر على بال غاليون أن تلك المسئلة التي استخف بها كأنها مما لا يستحق الالتفات إليها ولو دقيقة واحدة هي من أعظم المسائل التي تعرض للعقل البشري. ولم يعرف أن يسوع الناصري موضوع هذا الجدال الذي حسبه يهودياً حقيراً هو ملك الملوك ورب الأرباب وأنه «تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبي ٢: ١٠ و١١).
    فَطَرَدَهُمْ مِنَ ٱلْكُرْسِيِّ عامله بمقتضى قوله لهم. أبى أن يسمع كلامهم بعد وأن يحتمل حضورهم أمامه. وقوله «طردهم» يدل على أنهم ذهبوا على رغمهم.
    ١٧ «فَأَخَذَ جَمِيعُ ٱلْيُونَانِيِّينَ سُوسْتَانِيسَ رَئِيسَ ٱلْمَجْمَعِ، وَضَرَبُوهُ قُدَّامَ ٱلْكُرْسِيِّ، وَلَمْ يَهُمَّ غَالِيُونَ شَيْءٌ مِنْ ذٰلِكَ».
    ١كورنثوس ١: ١
    ٱلْيُونَانِيِّينَ إن هؤلاء الوثنيين أبغضوا اليهود دائماً وشاهدوا اضطهادهم لبولس وسمعوا شكواهم عليه ولم يرضوا بشيء من ذلك ولما رأوا أن غاليون حكم ببطلان دعوى اليهود واستخف بهم انتهزوا الفرصة لأن يتشفوا من بغضهم إياهم.
    سُوسْتَانِيسَ رَئِيسَ ٱلْمَجْمَع اعتبروه نائب سائر اليهود ولعله كان قائد المضطهدين لبولس.
    وَضَرَبُوهُ قُدَّامَ ٱلْكُرْسِيِّ فعلوا به ما قصد اليهود أن يُفعل ببولس.
    وَلَمْ يَهُمَّ غَالِيُونَ لم يتعرض لإنقاذ سوستانيس ولا لمنع اليونانيين عن ارتكابهم ما يخالف النظام. والظاهر أنه لعلة لا نعرفها لم يصعب عليه ضربهم لذلك الرئيس. وقلما أهم الرومانيين أن يهان اليهود.
    كان معظم علماء الرومانيين في عصر بولس غير مكترث بأمور الديانة إذ تحققوا ما في عبادتهم الوثنية من الجهالة ولم يتعلموا شيئاً مما يتعلق بالإله الحق وعبادته الروحية. ولكنه لم يتضح من تصرف غاليون في هذه المسئلة شيء سوى أنه اعتبرها دعوى دينية لا علاقة لها بالشريعة الرومانية. وكذا أبى فيلكس وفستوس واليا سورية أن يحكما على بولس بما أراده اليهود بناء على أن تلك الأمور ليست من متعلقات الشريعة الرومانية (ص ٢٤ وص ٢٦).

    رجوع بولس إلى سورية ع ١٨ إلى ٢٣


    ١٨ «وَأَمَّا بُولُسُ فَلَبِثَ أَيْضاً أَيَّاماً كَثِيرَةً، ثُمَّ وَدَّعَ ٱلإِخْوَةَ وَسَافَرَ فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى سُورِيَّةَ، وَمَعَهُ بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ، بَعْدَمَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي كَنْخَرِيَا لأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ».
    عدد ٦: ١٨ وص ٢١: ٢٤ رومية ١٦: ١
    فَلَبِثَ أَيْضاً بعد سكوت هياج اليهود ولم يكن من معارض له.
    ٱلإِخْوَةَ أي المؤمنين من أهل كورنثوس الذين انتظموا كنيسة مسيحية.
    فِي ٱلْبَحْرِ أي بحر إيجيا وهو جزء من البحر المتوسط فاصل بين اليونان وآسيا.
    إِلَى سُورِيَّةَ قاصداً أنطاكية مقامه الذي ابتدأ السفر منه ولكنه كان عازماً أن يزور أورشليم أولاً للعيد القادم (ع ٢١).
    بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ المذكورين في (ع ٢). وقدم الكاتب هنا بريسكلا على زوجها ولعل ذلك لأنها أكثر منه علماً ونباهة لأن ذلك لا يكون بلا علة فلا نعلم غير العلة المذكورة.
    بَعْدَمَا حَلَقَ رَأْسَهُ الضمير هنا لبولس ولو كان الذي حلق رأسه أكيلا لم يكن من داع أن يذكر لوقا ذلك إذ هو إنسان غير مشهور ولا ممن يهم الناس أمرهم.
    كَنْخَرِيَا هي فرضة كورنثوس الشرقية كان فيها كنيسة مسيحية (رومية ١٦: ١).
    عَلَيْهِ نَذْرٌ النذر هو الوعد لله والمرجّح أن نذره كان مقصوراً على شخصه لعلة ما. وهل كان ذلك النذر لنجاة من خطر أو لنجاح في تبشيره أو ليُري اليهود أنه لم يكره الديانة اليهودية وأنه ليس عدواً لها كما اتهموه ذلك لا نعلمه. وأمثال النذور الشخصية كثيرة في الكتاب المقدس منها ما في (تكوين ٢٢: ٢٠ ولاويين ٢٧: ٢ وعدد ٣٠: ٢ وتثنية ٢٣: ٢١ وقضاة ١١: ٣٠ و١صموئيل ١: ١١ و٢صموئيل ١٥: ٧ ومزمور ٦٥: ١ وجامعة ٥: ٤). وكان حلق الراس عند نهاية مدة النذور من الرسوم المتلعقة بإيفائه كما هو مفصل في (عدد ٦: ١ - ٢١ انظر أيضاً أعمال ٢١: ٢٤). وليس في ما أتاه بولس ما ينافي إيمانه وأعماله المسيحية. نعم أنه لم يرد أن يجبر مؤمني الأمم على حفظ الرسوم الناموسية ولم يحسبها ضرورية للخلاص إلا أنه استحسن أن يمارسها هو كعادته منذ صغره.
    ١٩ «فَأَقْبَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ. وَأَمَّا هُوَ فَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ وَحَاجَّ ٱلْيَهُودَ».
    أَفَسُسَ مدينة كبيرة في آسيا الصغرى (انظر الكلام عليها في شرح ص ١٩: ١). المرجّح أن السفن كانت قد اعتادت أن تُرسي في مرفإها بين مرسى كورنثوس ومرسى أفسس يومان أو ثلاثة أيام.
    وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ أي أن بولس ترك بريسكلا وأكيلا في أفسس وظل سائراً إلى سورية.
    وَأَمَّا هُوَ بعد أن ذكر لوقا ترك بولس رفيقيه في أفسس عاد إلى ذكر ما فعله بولس مدة تربصه القصيرة في أفسس.
    فَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ يظهر من ذلك أن رغبته في خلاص أمته اليهودية لم تفتر بجور يهود كورنثوس عليه واعتزاله اجتماعاتهم (ع ٦).
    حَاجَّ سبق شرح هذا في (ع ٤ وص ١٧: ٢ و١٧.
    قال يوسيفوس إن اليهود كانوا كثيرين في أفسس وحصلوا على مثل حقوق الرومانيين المدنية كسائر سكان كورنثوس.
    ٢٠، ٢١ «٢٠ وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ زَمَاناً أَطْوَلَ لَمْ يُجِبْ. ٢١ بَلْ وَدَّعَهُمْ قَائِلاً: يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ أَعْمَلَ ٱلْعِيدَ ٱلْقَادِمَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَلٰكِنْ سَأَرْجِعُ إِلَيْكُمْ أَيْضاً إِنْ شَاءَ ٱللّٰهُ. فَأَقْلَعَ مِنْ أَفَسُسَ».
    ص ١٩: ٢١ و٢٠: ١٦ ١كورنثوس ٤: ١٩ وعبرانيين ٦: ٣ ويعقوب ٤: ١٥
    الظاهر أن يهود أفسس استحسنوا وعظ بولس حتى سألوه أن يبقى عندهم واعظاً.
    يَنْبَغِي... ٱلْعِيدَ ٱلْقَادِمَ فِي أُورُشَلِيمَ ظن أكثر المفسرين أن ذلك العيد كان عيد الخمسين وعلى ذلك أنه نذر السفر في ذلك البحر قبل عيد الفصح لشدة الخطر على السفن لأنها كانت شراعية يومئذ وكان يؤمَن بعد الفصح. والذي يسافر بحراً من هنالك حينئذ يمكنه أن يصل أورشليم قرب عيد الخمسين. ولا نعلم علة عزمه الشديد على أن يحضر ذلك العيد في أورشليم ولعلها رغبته في اجتماعه باليهود الكثيرين الآتين أورشليم في ذلك الحين من كل أقطار المسكونة وتبشيره إياهم بالمسيح ومشاهدته مؤمني اليهود هنالك ليشجعهم ويثبتهم في إيمانهم ويخبرهم بنتائج تبشيره الأمم أو لعلها مما أوجبته متعلقات نذره. قال يوسيفوس أن الشريعة اليهودية أوجبت على الناذرين أن يحضروا أورشليم ويقوموا ببعض الرسوم الدينية في الهكيل قبل مرور ثلاثين يوماً من حلق رؤوسهم فلو فاته عيد الخمسين في أورشليم لم يكن له عيد آخر قبل تشرين الأول وحينئذ يكون «السفر في البحر خطراً» (ص ٢٧: ٩).
    سَأَرْجِعُ كما فعل (ص ١٩: ١) ومكث هنالك ثلاث سنين (ص ٢٠: ٣١).
    ٢٢ «وَلَمَّا نَزَلَ فِي قَيْصَرِيَّةَ صَعِدَ وَسَلَّمَ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ، ثُمَّ ٱنْحَدَرَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ».
    قَيْصَرِيَّةَ انظر شرح (ص ٨: ٤٠) وكانت يومئذ مينا أورشليم كيافا اليوم. ولا ريب في أن بولس ابتهج بمشاهدة فيلبس المبشر هناك (ص ٨: ٤٠ و٢١: ٨).
    صَعِدَ إلى أورشليم وهذه زيارته الرابعة إيّاها بعد تنصره.
    سَلَّمَ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ أي كنيسة أورشليم أم الكنائس فأظهر بذلك احترامه ومودته لها. وفي هذا غاية الاختصار لأنباء هذه الزيارة ولا بد من أن اجتماعه بالرسل وسائر الإخوة كان ساراً جداً بعد تلك المفارقة الطويلة.
    ٱنْحَدَرَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ أي أنطاكية سورية التي سبق ذكرها في (ص ١١: ١٩ و٢٦) وبوصوله إليها انتهى سفره الثاني للتبشير وشغل بهذا السفر نحو ثلاث سنين وهي من سنة ٥١ إلى سنة ٥٤ ب. م وهذه الزيارة آخر زيارات بولس لأنطاكية.
    ٢٣ «وَبَعْدَمَا صَرَفَ زَمَاناً خَرَجَ وَٱجْتَازَ بِٱلتَّتَابُعِ فِي كُورَةِ غَلاَطِيَّةَ وَفِرِيجِيَّةَ يُشَدِّدُ جَمِيعَ ٱلتَّلاَمِيذِ».
    غلاطية ١: ٢ و٤: ١٨ ص ١٤: ٢٢ و١٥: ٣٢ و٤١
    هذا بداءة سفر بولس الثالث للتبشير شغل به نحو أربع سنين من سنة ٥٤ إلى سنة ٥٨.
    غَلاَطِيَّةَ وَفِرِيجِيَّةَ كورتان في آسيا الصغرى أسس بولس في مدنهما كنائس مسيحيّة في سفره السابق (ص ١٦: ٦).
    يُشَدِّدُ جَمِيعَ ٱلتَّلاَمِيذِ عقلاً وروحاً. لا ريب في أن الكنائس حصلت على تعزية ومساعدة من تلك الزيارة وأنها كلفت بولس تعباً ليس بقليل. والمرجّح أنه لم تحدث حينئذ حوادث ذات شأن ولذلك لم يذكر لوقا شيئاً منها لكنه أسرع إلى ذكر الجزء الأهم من أتعاب بولس مدة إقامته الطويلة في أفسس.

    أبلّوس الاسكندري ع ٢٤ إلى ٢٨


    ٢٤ «ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَفَسُسَ يَهُودِيٌّ ٱسْمُهُ أَبُلُّوسُ، إِسْكَنْدَرِيُّ ٱلْجِنْسِ، رَجُلٌ فَصِيحٌ مُقْتَدِرٌ فِي ٱلْكُتُبِ».
    ١كورنثوس ١: ١٢ و٣: ٥ و٦ و٤: ٦ وتيطس ٣: ١٣
    هذا الفصل مقدمة مجيء بولس إلى أفسس.
    يَهُودِيٌّ أصلاً وتربية.
    إِسْكَنْدَرِيُّ اسكندرية مدينة في مصر نُسبت إلى بانيها اسكندر الكبير وكانت وقتئذ المدينة الثانية عظمة واشتهاراً في المملكة الرومانية. اشتهرت بوفرة متجرها وإحكام مدارس العلوم اليونانية والعلوم العبرانية فيها. سكنها كثيرون من اليهود منذ عهد الملوك البطليموسيين خلفاء اسكندر وفيها اختلطت عقائدهم الدينية بالفلسفة اليونانية. وكان الشروع في ذلك سنة ٢٨٥ ق. م. وعُرفت تلك الترجمة بترجمة السبعين. وكان في تلك المدينة مكتبة هي أعظم مكاتب العالم في ذلك العصر.
    فَصِيحٌ أي قادر على التعبير عن المراد بأحسن كلام وأسلوب وتحتمل الكلمة اليونانية أيضاً أنه كان قد أحكم كل العلوم ولا سيما علم التاريخ.
    مُقْتَدِرٌ فِي ٱلْكُتُبِ أي ممتازاً بمعرفة أسفار الله واستطاعة تفسيرها ليشعروا بقوتها.
    ٢٥ «كَانَ هٰذَا خَبِيراً فِي طَرِيقِ ٱلرَّبِّ. وَكَانَ وَهُوَ حَارٌّ بِٱلرُّوحِ يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ بِتَدْقِيقٍ مَا يَخْتَصُّ بِٱلرَّبِّ. عَارِفاً مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا فَقَطْ».
    رومية ١٢: ١١ ص ١٩: ٣
    كَانَ هٰذَا خَبِيراً قبل مجيئه إلى أفسس.
    فِي طَرِيقِ ٱلرَّبِّ أي ديانة المسيح كما في ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣ و٢٢: ٤ و٢٤: ١٤ و٢٢.
    حَارٌّ بِٱلرُّوح شعر قلبه بما أدركه عقله ومن كان كذلك فلا بد أن يظهر حرارة روحه قولاً وفعلاً.
    يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ عبر بذلك عن محادثته أفراد الناس ووعظه الجماعات.
    بِتَدْقِيقٍ على قدر ما عرف من الإنجيل.
    مَا يَخْتَصُّ بِٱلرَّبِّ مما عرف من إنجيل يسوع المسيح.
    عَارِفاً مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا فَقَطْ أي يوحنا المعمدان. كانت معمودية يوحنا أمراً امتازت به خدمته عن خدمة من سلفه ولذلك لُقب بالمعمدان (متّى ٣: ١). وأُطلقت المعمودية على كل خدمته من باب تسمية الكل باسم الجزء ولأن الذين اعتقدوا اعتقاد يوحنا أظهروا ذلك بقبولهم معموديته. ولا نعلم أتعلّم أبلوس من يوحنا المعمدان رأساً أم تعلّم من تلاميذه الذين ذهبوا إلى مصر. وإذ كان لم يعرف من أمر يسوع سوى ما عرفه واختبره يوحنا مدة حياته لم يكن كفوء للتبشير المسيحي. نعم أن يوحنا علم أن المسيح قد أتى لأنه عمّده وشهد له وتحقق أنه صنع معجزات. ولا بد من أن أبلّوس بلغه في اسكندرية نبأ صلب يسوع وقيامته. والمرجح أنه لم يبلغه خبر حلول الروح القدس يوم الخمسين وما عرفه التلاميذ وقتئذ من روحانية ملكوت المسيح أي أنه لم يكن ملكاً ظاهراً منتصراً على الأرض كما ظن قبلاً التلاميذ كلهم من تلاميذ يوحنا وتلاميذ يسوع. ولم يكن عالماً بأن موت المسيح كفارة عن خطايا العالم وأن الناس استغنوا به عن كل ذبائح الهيكل وسائر رسوم الشريعة الموسوية.
    ٢٦ «وَٱبْتَدَأَ هٰذَا يُجَاهِرُ فِي ٱلْمَجْمَعِ. فَلَمَّا سَمِعَهُ أَكِيلاَ وَبِرِيسْكِلاَّ أَخَذَاهُ إِلَيْهِمَا، وَشَرَحَا لَهُ طَرِيقَ ٱلرَّبِّ بِأَكْثَرِ تَدْقِيقٍ».
    يُجَاهِرُ فِي ٱلْمَجْمَعِ الظاهر من هذا أن أبلّوس حضر المجمع بمنزلة رباني (Rabbi) على سنن بولس وأبان أن عنده نبأ يريد قصه على أهل المجمع فدعاه الشيوخ إلى التكلم كعادتهم في مثل هذه الاحوال (ص ١٣: ١٥). وكان فحوى خطابه كفحوى مناداة يوحنا المعمدان في البرية ودعاهم إلى التوبة والإيمان بالمسيح على قدر معرفته.
    سَمِعَهُ أَكِيلاَ وَبِرِيسْكِلاَّ يتضح من ذلك أنهما كانا يحضران المجمع ليسمعا أبلّوس. ولعل أكيلا اعتاد أن يخاطب الناس هنالك.
    شَرَحَا لَهُ طَرِيقَ ٱلرَّبِّ الخ أي أوضحا له كل التعليم الإنجيلي كما تعلماه من بولس ومن ذلك أن المسيح قد أكمل الناموس كله وأن موته كان فداء للعالم وأنه لم يبق من حاجة إلى ذبائح الهيكل. وأنبآه بموهبة الروح القدس وبأن التبرير بالإيمان بمعنى المعمودية المسيحية والعشاء الرباني. وإصغاء أبلوس إلى هذين ورضاه أن يعلماه دليل قاطع على فرط تواضعه وشدة رغبته في معرفة الحق لأنه كان عالماً فصيحاً متعلماً في مدارس الاسكندرية العليا وهما بالنسبة إليه بسيطان جداً.
    ٢٧ «وَإِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَجْتَازَ إِلَى أَخَائِيَةَ كَتَبَ ٱلإِخْوَةُ إِلَى ٱلتَّلاَمِيذِ يَحُضُّونَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوهُ. فَلَمَّا جَاءَ سَاعَدَ كَثِيراً بِٱلنِّعْمَةِ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا».
    ١كورنثوس ٣: ٦
    إِلَى أَخَائِيَةَ لا ريب أن أبلّوس قصد كورنثوس قصبة أخائية بناء على أخبار أكيلا وبريسكلا إياه بنجاح الكنيسة هناك ويؤيد ذلك ما في (ص ١٩: ١ و١كورنثوس ١: ١٢)
    كَتَبَ ٱلإِخْوَةُ هذا أول ذكر رسائل التوصية في الإنجيل التي اعتادتها الكنيسة كثيراً بعد ذلك (٢كورنثوس ٣: ١) لأن المسيحيين كانوا يومئذ يكثرون الجولان يجول بعضهم للتبشير والبعض هرباً من الاضطهاد. فالذي كان يحمل رسالة توصية من كنيسة مسيحية يجد الترحيب به في غيرها من الكنائس حين يقدم لها الرسالة. وإعطاء الإخوة في أفسس تلك الرسالة لأبلّوس دليل على اعتبارهم إياه كثيراً. واتخذ حزب أبلّوس بعدئذ إتيانه إليهم بتلك التوصية دليلاً على أنه أفضل من بولس لأنه أتاهم بلا توصية فأجاب بولس على ذلك بقوله أنه لم يحتج إلى مثلها لأن الكنيسة التي أسسها هي نفسها رسالته وأوضح ذلك بقوله «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (٢كورنثوس ٣: ٢).
    سَاعَدَ كَثِيراً بِٱلنِّعْمَةِ الخ أي أن النعمة الخاصة التي وهبها له الروح القدس قدرته على نفع كنيسة كورنثوس كثيراً لا مجرد عمله وفصاحته. وشهد بولس لجودة خدمته الرب هناك بقوله لكنيسة كورنثوس «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى الخ» (١كورنثوس ٣: ٦ - ١٠). وساعد المؤمنين إما بتقويته إيّاهم في المعرفة والإيمان وإما بمحاورته عنهم اليهود غير المؤمنين.
    ٢٨ «لأَنَّهُ كَانَ بِٱشْتِدَادٍ يُفْحِمُ ٱلْيَهُودَ جَهْراً، مُبَيِّناً بِٱلْكُتُبِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ».
    ص ٩: ٢٢ و١٧: ٣ وع ٥
    لأَنَّهُ هذا تعليل لمساعدته الكثيرة وهو دليل على أن معظم مساعدته للكنيسة كان بمناظرته اليهود الذين لم يؤمنوا. والذي أعده لذلك تمرّنه في مدارس الاسكندرية المشهورة واقتداره في أسفار الوحي (ع ٣٤). وكان بولس قد اعتزل المجمع لشدة مقاومة أهله له وعنادهم. والظاهر أن ذلك العالم الإسكندري الفصيح كان قوي الحجة متقلداً سيف الروح الذي هو كلمة الله فغلبهم وقطع حجتهم فلم يستطيعوا جواباً. وفي هذه الآية والتي قبلها صفتان ضروريتان للمبشر المسيحي. الأولى القدرة على إفادة المؤمنين والثانية القوة على إقناع غير المؤمنين.
    وما هنا كل ما ذكره لوقا من أمر أبلّوس لكنا نعلم من رسائل بولس أنه كان مكرماً معتبراً في كنيسة كورنثوس حتى صار له حزب فيها (١كورنثوس ١: ٢٢). ولما كتب بولس من أفسس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس كان أبلّوس معه في أفسس وألحّ عليه أن يرجع إلى كورنثوس فلم يُرد ولعل ذلك لخوفه من التحزب فيها لكنه وعده أن يرجع بعد حين (١كورنثوس ١٦: ١٢). ثم ذكره بولس قرب نهاية حياته نحو ٦٥ ب. م بقوله «جَهِّزْ زِينَاسَ ٱلنَّامُوسِيَّ وَأَبُلُّوسَ بِٱجْتِهَادٍ لِلسَّفَرِ» (تيطس ٣: ١٣) وهذا يدلنا على أن الصداقة بينهما بقيت شديدة إلى آخر حياة بولس وذلك نحو عشر سنين.


    الأصحاح التاسع عشر


    خدمة بولس في أفسس ع ١ إلى ٤١


    ١ «فَحَدَثَ فِيمَا كَانَ أَبُلُّوسُ فِي كُورِنْثُوسَ أَنَّ بُولُسَ بَعْدَ مَا ٱجْتَازَ فِي ٱلنَّوَاحِي ٱلْعَالِيَةِ جَاءَ إِلَى أَفَسُسَ. فَإِذْ وَجَدَ تَلاَمِيذَ»
    ١كورنثوس ١: ١٢ و٣: ٥ و٦
    فِيمَا كَانَ أَبُلُّوسُ فِي كُورِنْثُوسَ أي قبل وصول بولس إلى أفسس.
    ٱجْتَازَ فِي ٱلنَّوَاحِي ٱلْعَالِيَةِ أي كورة غلاطية وكورة فريجية وهما مرتفعتان عن أفسس لأنها في الساحل (ص ١٨: ٢٣). وسكت لوقا عن حوادث هذا السفر الطويل جرياً على عادته أن لا يفصل غير أمور الأماكن التي دخلها بولس حديثاً.
    جَاءَ إِلَى أَفَسُسَ إنجازاً لوعده في (ص ١٨: ٢). وتلك المدينة مركز خدمته في ذلك السفر وهو سفره الثالث كما كانت كورنثوس مركز الجزء الآخر من خدمته في السفر الثاني. وأفسس مدينة كبيرة قديمة جعلها الرومانيون قصبة كورة آسيا. موقعها على مصب نهر كيستر على التخم الغربي من آسيا الصغرى. اشتهرت يومئذ بسعة متجرها وثروتها وعبادتها للأوثان وممارسة أهلها السحر وكان فيها ملعب يسع ثلاثين ألف مشاهد. قصد بولس أن يجعلها حصن الدين المسيحي في آسيا كما جعل كورنثوس حصن هذا الدين في بلاد اليونان. كان فيها هيكل أرطاميس وهذا الهيكل بُني سنة ٦٠٠ ق. م واحترق ليلة ولادة اسكندر الكبير سنة ٣٥٦ ق. م ثم جُدد فصار إلى بهاء أعظم من بهائه الأول حتى حُسب يومئذ من عجائب الدنيا السبع. وهُدمت أفسس سنة ٢٦٢ ب. م ولم تزل في موقعها أطلال كثيرة واسعة وقرية صغيرة اسمها اليوم أيّاسالوك.
    فَإِذْ وَجَدَ تَلاَمِيذَ كان هؤلاء التلاميذ يهوداً في الأصل تتلمذوا أولاً ليوحنا المعمدان ثم اعترفوا بالمسيح على قدر ما عرفه يوحنا.
    ٢ «سَأَلَهُمْ: هَلْ قَبِلْتُمُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لَمَّا آمَنْتُمْ؟ قَالُوا لَهُ: وَلاَ سَمِعْنَا أَنَّهُ يُوجَدُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ».
    ص ٨: ١٦
    هَلْ قَبِلْتُمُ حين اعتمدتم.
    ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ أي تأثيره العجيب كالتكلم بالألسنة والتنبوء اللذين كانا يليان المعمودية والإقرار بالإيمان (ص ٢: ٣٨ و٨: ١٧ و٩: ١٧ و١٠: ٤٤ - ٤٨ و١١: ١٥ و١٦ و١٥: ٨). ونستنتج من سؤال بولس أن ذلك التأثير كان كثيراً ما يحدث على أثر المعمودية لا أنه حسبه من الضروريات.
    لَمَّا آمَنْتُمْ بالمسيح كما أعلنه يوحنا المعمدان. وكان ذلك الإيمان غير كامل.
    وَلاَ سَمِعْنَا أَنَّهُ يُوجَدُ الخ أي لم يبلغنا حين آمنا واعتمدنا أن الروح القدس يوجد في الكنيسة أو في المؤمنين إذ لم يذكر لنا أحد حينئذ اسم الروح القدس. ومن المحال أن يكون هؤلاء باعتبار كونهم يهوداً أصلاً أو تلاميذ يوحنا أو تلاميذ المسيح لم يسمعوا شيئاً من أمور الروح القدس لأن أسفار العهد القديم مملوءة بذكره. وذكره يوحنا المعمدان بقوله «هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ» (متّى ٣: ١١). فيلزم أن يكون معناهم أحد أمرين إما ما ذكرناه آنفاً أنهم حين المعمودية لم يسمعوا اسمه وإما أنهم لم يسمعوا أنه أُعطي للناس بعلامات ظاهرة كما جاء معناه في قوله «لأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ» (يوحنا ٧: ٣٩). فإذاً هم كأبلّوس لم يسمعوا شيئاً من أنباء حوادث يوم الخمسين وإعطائه مواهبه العجيبة للمؤمنين (ص ١٨: ٢٥) لأن المرجح أنهم تركوا اليهودية قبل صلب المسيح. ولأن غاية مناداة يوحنا كانت تمهيد الطريق لمجيء المسيح لم يكن من داع إلى أن يعلن لتلاميذه كثيراً من أمور الروح القدس فلا عجب من نقص معرفة تلاميذه بذلك الروح. ووجود مثل هؤلاء التلاميذ في أفسس بعيدين عن موضع كرازة يوحنا بعد ثلاثين سنة من وفاته دليل قاطع على شدة ما كان له من التأثير.
    ٣ «فَسَأَلَهُمْ: فَبِمَاذَا ٱعْتَمَدْتُمْ؟ فَقَالُوا: بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا».
    ص ١٨: ٢٥
    فَبِمَاذَا ٱعْتَمَدْتُمْ أي ما الإيمان الذي اعترفتم به حين اعتمدتم أو كيف أمكنكم أن تعتمدوا وأنتم لم تسمعوا شيئاً من أمور الروح القدس.
    بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا هذا علة كافية لعدم سمعهم نبأ الروح القدس لأنهم لو تعمدوا بالمعمودية المسيحية لسمعوا ذكر الروح القدس لا محالة لأنها هي «بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» كما أمر المسيح (متّى ٢٨: ١٩). وكانت معمودية يوحنا علامة التوبة والإيمان بالمسيح المتوقع أن يأتي. نعم أنّه علّم أن يسوع الناصري هو المسيح يوحنا ١: ٢٩ و٣٦ و٣: ٢٦ و٣٠) لكن لم يكن لتلاميذه أن يعرفوا شيئاً من تعليم المسيح ومن نبإ موته كفارة عن الخطيئة ونبإ قيامته وصعوده وسكبه الروح القدس على التلاميذ. ولا دليل على أن يوحنا ذكر في معموديته اسم أحد الأقانيم فلم تكن معموديته سوى علامة التوبة والإيمان على ما ذُكر.
    ٤ «فَقَالَ بُولُسُ: إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ قَائِلاً لِلشَّعْبِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ، أَيْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
    متّى ٣: ١١ ويوحنا ١: ١٥ و٢٧ و٣٠ وص ١: ٥ و١١: ١٦ و١٣: ٢٤ و٢٥
    أبان بولس هنا أن خدمة يوحنا لم تكن سوى خدمة إعداد لطريق الرب فلم تكن كافية لبيان حقيقة الديانة المسيحية ولا مما يمنح الخلاص إنما دلت الناس على المسيح الذي هو «حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩).
    ٥ «فَلَمَّا سَمِعُوا ٱعْتَمَدُوا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
    ص ٨: ١٦
    هذه الآية من كلام لوقا ذكرها بياناً لتأثير كلام بولس في نفوس السامعين ولا ريب في أنه بسط الكلام في المسيح أكثر مما ذُكر هنا فآمنوا وأظهروا إيمانهم بقبولهم المعمودية المسيحية.
    بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوع أي بالمعمودية المسيحية كما رُسمت في (متّى ٢٨: ١٩ انظر شرح ص ٢: ٣٨ و١١: ٤٨).
    يتضح مما قيل هنا أن معمودية يوحنا غير معمودية المسيح وأنها لا تغني عنها لأنها ليست سوى إعداد لتلك (متّى ٣: ١١). فالمرجح أن كثيرين من الثلاثة الآلاف الذين اعتمدوا يوم الخمسين كانوا من تلاميذ يوحنا. وبين المعموديتين أربعة فروق:

    • الأول: أن معمودية يوحنا كانت بالإيمان بالمسيح الذي سيأتي والمعمودية المسيحية كانت للإيمان بالمسيح الذي قد أتى.
    • الثاني: أن الأولى كانت وقتية كسائر خدمة يوحنا والثانية دائمة إلى نهاية العالم.
    • الثالث: أن الأولى كانت إعداداً للنظام المسيحي لا بدل الختان والثانية كانت سراً أعطاه المسيح للكنيسة بدلاً من الختان.
    • الرابع: أن الثانية كانت باسم أقانيم اللاهوت الثلاثة والأولى لا دليل على أنها كانت باسم أحد تلك الأقانيم.


    ٦، ٧ «٦ وَلَمَّا وَضَعَ بُولُسُ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْهِمْ، فَطَفِقُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ وَيَتَنَبَّأُونَ. ٧ وَكَانَ جَمِيعُ ٱلرِّجَالِ نَحْوَ ٱثْنَيْ عَشَرَ».
    ص ٦: ٦ و٨: ١٧ ص ٢: ٤ و١٠: ٤٦
    ما ذُكر هنا كما ذُكر في (ص ١٠: ٤٦) إلا أن الروح القدس هناك حل قبل المعمودية وبدون وضع الأيادي.
    وَضَعَ بُولُسُ يَدَيْهِ علامة موهبة الروح (انظر شرح ص ٨: ١٧).
    يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ (انظر شرح ص ٢: ١٧ و١٨ و١٠: ٤٦).
    وَيَتَنَبَّأُونَ (انظر شرح ص ٢: ١٧ و١١: ٢٧).
    نَحْوَ ٱثْنَيْ عَشَرَ فقط لا كل مؤمني أفسس المشار إليهم في (ص ١٨: ٢٧) وذكر لوقا دفعاً لتوهم أنهم كلهم كانوا مثل هؤلاء الاثني عشر في طفولية الإيمان.
    ٨ «ثُمَّ دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ، وَكَانَ يُجَاهِرُ مُدَّةَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ مُحَاجّاً وَمُقْنِعاً فِي مَا يَخْتَصُّ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
    ص ١٧: ٢ و١٨: ٤ ص ١: ٣ و٢٨: ٢٣
    وجه بولس أفكاره إلى اليهود وبذل أتعابه في سبيل نفعهم كعادته وأتى ذلك أيضاً إجابة لطلبهم السابق (ص ١٨: ٢٠). والمراد «بملكوت الله» هنا التعليم المسيحي أو الديانة الجديدة كما في (ص ١: ٣ و٨: ١٢). ومعنى قوله «محاجاً ومقنعاً» أنه بيّن حقيقة تلك الديانة بالأدلة القاطعة ودفع الاعتراضات عليها وحث اليهود على قبولهم إياها. وفعله هنا كفعله في كورنثوس (ص ١٨: ٤).
    ٩ «وَلَمَّا كَانَ قَوْمٌ يَتَقَسَّوْنَ وَلاَ يَقْنَعُونَ، شَاتِمِينَ ٱلطَّرِيقَ أَمَامَ ٱلْجُمْهُورِ، ٱعْتَزَلَ عَنْهُمْ وَأَفْرَزَ ٱلتَّلاَمِيذَ، مُحَاجّاً كُلَّ يَوْمٍ فِي مَدْرَسَةِ إِنْسَانٍ ٱسْمُهُ تِيرَانُّسُ».
    ٢تيموثاوس ١: ١٥ و٢بطرس ٢: ٢ ويهوذا ١٠ ص ٩: ٢ وع ٢٣ وص ٢٢: ٤ و٢٤: ١٤
    لَمَّا «لما» هنا ظرفية تعليلية وهي تشير إلى زمن انفصال بولس من مجمع اليهود وعلة ذلك الانفصال.
    يَتَقَسَّوْنَ بعدم إيمانهم بحقائق الإنجيل ورفضهم أن يقبلوا يسوع مسيحاً والخلاص بموته. وعلة ذلك التقسي إما تحذير رؤساء الدين في أورشليم من بولس وتعليمه وإما حسدهم إذ رأوا الأمم المبغضين يشاركون اليهود في مواعيد نسل إبراهيم.
    شَاتِمِينَ شتماً كالتجديف في (ص ١٣: ٤٨ و١٨: ٦).
    ٱلطَّرِيقَ أي الدين المسيحي ويعبر عنه أيضاً «بطريق الرب» (ص ١٨: ٢٥) و «طريق الخلاص» (ص ١٦: ١٧). واحتقارهم هذا الطريق احتقار لمنشئه الله ولذلك يحق أن يُحسب تجديفاً.
    أَمَامَ ٱلْجُمْهُورِ المجتمع في المجمع. الظاهر أن مقاومتهم كانت بعنف وصراخ حتى تعذرت المحاورة. ولعل معنى «الجمهور» أهل السوق من الوثنيين قصد اليهود تهييجهم على بولس بما فعلوا كما فعل يهود تسالونيكي (ص ١٧: ٥).
    ٱعْتَزَلَ عَنْهُمْ اعتزالاً دائماً.
    أَفْرَزَ ٱلتَّلاَمِيذَ عن اليهود غير المؤمنين ومن المجمع ونظمهم كنيسة ما فعل في كورنثوس (ص ١٨: ٦ و٧). ومن الغريب أن الذين حملوه على ذلك هم اليهود الذين دعوه سابقاً إلى المكث عندهم ومخاطبته إياهم (ص ١٨: ٢٠).
    مُحَاجّاً علم بهذا الأسلوب لأنهم أجبروه بمقاومتهم على إيراد تعليمه على طريق الجدال.
    كُلَّ يَوْمٍ ليلاً ونهاراً (ص ٢٠: ٣١) وهذا دليل على كثرة أتعابه في التبشير وهو يعمل في صناعته ليحصل على أسباب المعاش (ص ٢٠: ٣٤).
    فِي مَدْرَسَةِ... تِيرَانُّسُ هل تيرانس هذا رابيّ يهودي فتح تلك المدرسة لتدريس الشريعة الموسوية وتقاليد الشيوخ أو هو فيلسوف يوناني فتح تلك المدرسة لتعليم المنطق والبيان أو الفلسفة ذلك لا نعلمه والأرجح أنه فيلسوف يوناني. ومهما يكن أصله فلا ريب أنه كان قد تنصر. ولا نعلم أسكن بولس معه في تلك المدرسة أم انفرد بها. أو مجاناً أخذها أم بالأجرة وليس في ذلك شيء من الأهمية.
    ١٠ «وَكَانَ ذٰلِكَ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ، حَتَّى سَمِعَ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أَسِيَّا، مِنْ يَهُودٍ وَيُونَانِيِّينَ».
    ص ٢٠: ٣١
    مُدَّةَ سَنَتَيْنِ من وقت اعتزاله المجمع. وبشّر فيهما بولس في مدرسة تيرانّس لأنه لم يكن للتلاميذ حينئذ كنيسة مسيحية فكانوا يجتمعون للعبادة في أي مكان وجدوه مناسباً لذلك.
    كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ أي الكلمة التي الرب مصدرها وموضوعها.
    أَسِيَّا قُسمت أسيا الصغرى عند اليونان إلى اثنتي عشر قسماً ثلاثة منها على الجنوب وهي كيليكية وبمفيلية وليكية وثلاثة على الغرب وهي كاريا وليديا وميسيا وثلاثة على الشمال وهي بيثينية وبفلاغونية وبنتس وثلاثة في وسطها وهي كبدوكية وغلاطية وفريجية وأما بيسيدية وليكأونية المذكورتان في (ص ١٣ وص ١٤) فهما جزءان مما جاورهما وكانا متغيرين فيُحسبان جزئين من هذه وجزئين من تلك. وجمع الرومانيون ثلاثة منها وهي كاريا وليديا وميسيا إلى كورة واحدة سموها آسيا وجعلوا قاعدتها أفسس وهي المرادة في الآية. وكان فيها الكنائس السبع التي كتب إليها يوحنا سفر الرؤيا وهي كنائس أفسس وسميرنا وبرغامس وثياتيرا وسرديس وفيلادلفيا ولاودكية إلا أن لاودكية كانت داخلة في فريجية.
    وكان من وسائل انتشار الإنجيل في تلك الكورة على ما ذُكر أن الناس كانوا يأتون أفسس من كل أقطار كورتها للتجارة أو للعبادة فكانت لهم فرصة لسمع الإنجيل. ومن تلك الوسائل أنهم كانوا يسمعون الإنجيل من شفاه بولس ورفقائه الذين منهم لوقا وتيموثاوس وتيطس وأبفراس وهم يجولون للتبشير في المدن والقرى هناك. والأرجح أنه أُسست يومئذ كنائس آسيا الصغرى المذكورة آنفاً وحينئذ كتب بولس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وذكر فيها أعماله في أفسس.
    ١١، ١٢ «١١ وَكَانَ ٱللّٰهُ يَصْنَعُ عَلَى يَدَيْ بُولُسَ قُوَّاتٍ غَيْرَ ٱلْمُعْتَادَةِ، ١٢ حَتَّى كَانَ يُؤْتَى عَنْ جَسَدِهِ بِمَنَادِيلَ أَوْ مَآزِرَ إِلَى ٱلْمَرْضَى، فَتَزُولُ عَنْهُمُ ٱلأَمْرَاضُ، وَتَخْرُجُ ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ مِنْهُمْ».
    مرقس ١٦: ٢٠ وص ١٤: ٣ و٢ملوك ٤: ٢٩ وص ٥: ١٥
    قُوَّاتٍ غَيْرَ ٱلْمُعْتَادَةِ الذي جعل هذه المعجزات تمتاز عن غيرها هو أنها صُنعت على بعدٍ بواسطة أمتعة مست جسد بولس لا كثرة تلك المعجزات ولا عظمتها. ولم يُذكر في الكتاب أن بولس صنع شيئاً من المعجزات مدة خمس سنين قبل ذلك وهي منذ أخرج روح العرافة من الجارية في فيلبي (ص ١٦: ١٨).
    عَنْ جَسَدِهِ أي مما لبسه أو مما مس جسده من غير ملبوساته.
    بِمَنَادِيلَ معنى أصلها اليوناني ما يُمسح به العرق عن الوجه ثم أُطلقت على القطع الصغيرة من المنسوجات (لوقا ١٩: ٢٠ ويوحنا ١١: ٢٤ و٢٠: ٧).
    مَآزِرَ هي في اليوناني ما يلبسها الصناع عند العمل على مقدم الجسد وقاية لما تحتها من الثياب. ويحتمل المعنى أن تلك الأمتعة كانت مما استعمله بولس وأن الناس استعاروها منه وحملوها إلى المرضى ليشفوا بها ثم ردوها إليه. ويحتمل أن الناس اتوا بها من بيوتهم ومسوا بها جسد بولس وأخذوها إلى المرضى.
    لا داعي أن نظن شفاء المرضى بتلك الوسيلة كان وهماً من الأغبياء لم يصدقه بولس فإن تلك الأمتعة كانت بمنزلة ظل بطرس (ص ٥: ١٥) ومنزلة هدب ثوب يسوع (متّى ٩: ٢٠ و٢١). ومنزلة الطين الذي طلى به المسيح عيني الأعمى (يوحنا ٩: ٦). والجاعل لتلك الوسائل هذا الفعل قوة الله العاملة بها للشفاء وإيمان الذي شُفي. فتلك الوسائل كلها لولا علم الله عبث وكان أقلها بنعمة الله فعالاً.
    قضى الله أن يشفي المرضى بتلك الوسائل لأن بها شُفي كثيرون على مسافات بعيدة لا يمكن أن يشفوا بغيرها من الوسائط ولكي لا يكون شيء من الريب في مصدر ذلك الشفاء كما يمكن أن يكون لو حدث بكلمة من فم بولس دون أمر محسوس. وتلك المناديل والمآزر لم تكن لها قوة في نفسها بل كانت أدلة على قوة الله التي وهبها لرسوله تصديقاً لتعليمه فتعلم أهل أفسس بذلك أن لصلاة الإيمان ومنديل من الرسول قوة أعظم من قوى كل تعاويذهم ورقاهم وتمائمهم.
    ٱلْمَرْضَى البعيدين عن بولس والعاجزين عن المجي إليه.
    ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ كان شر الأمراض ينتج من دخول الشياطين في الإنسان وكان إخراجها من أعظم الأدلة على القوة الإلهية كما في (ص ٥: ١٦ و٨: ٧). فكان لبولس أن يقول في نفسه لأهل أفسس ما قاله فيها لأهل كورنثوس «إِنَّ عَلاَمَاتِ ٱلرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ» (٢كورنثوس ١٢: ١٢).
    ١٣ «فَشَرَعَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْيَهُودِ ٱلطَّوَّافِينَ ٱلْمُعَزِّمِينَ أَنْ يُسَمُّوا عَلَى ٱلَّذِينَ بِهِمِ ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، قَائِلِينَ: نُقْسِمُ عَلَيْكَ بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يَكْرِزُ بِهِ بُولُسُ!».
    متّى ١٢: ٢٧ مرقس ٩: ٣٨ ولوقا ٩: ٤٩
    كثر في تلك الأيام الذين ادعوا القوة على إخراج الشياطين بالعزائم والرقي والتعاويذ وأنهم على قول يوسيفوس اتصل بهم أكثرها بالتسلسل من سليمان الحكيم. وكثر يومئذ هؤلاء المدعون لزيادة عدد الذين سكنتهم الشياطين في عصر المسيح والرسل على ما كانوا قبل ذلك وبعده (انظر ص ٥: ١٦ وقابل به متّى ١٢: ٢٧). واشتهرت أفسس يومئذ أكثر مما سواها من المدن بكثرة هؤلاء وشهرتهم وكان منهم أولاد سكاوا. ومن أمثالهم سيمون الساحر في السامرة (ص ٨: ٩) وعليم الساحر في قبرس (ص ١٣: ٦) وكثيراً ما حرّم الكتاب المقدس السحر ومشاورة أهله والاتكال عليهم (لاويين ١٩: ٣١ وإشعياء ٨: ١٩).
    ٱلطَّوَّافِينَ أي الذين يجولون من مدينة إلى مدينة لإخراج الشياطين من المسكونين ومن المرضى الذين ادعى هؤلاء الطوافون أن علة أمراضهم سكن الشيطان فيهم.
    أَنْ يُسَمُّوا... بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أي يتخذون اسمه وسيلة إلى إخراج الأرواح النجسة. ولا ريب في أنهم سمعوا بولس يستعمل هذا الاسم ورأوا أن له فاعلية عظيمة على يده فقصدوا أن يمتحنوا فاعلية ذلك الاسم ليُخرجوا به الشياطين توصلاً إلى الربح. وكان هؤلاء يستعملون سابقاً يهوه اسم الله الأعظم أو أسماء بعض الملائكة أو اسم سليمان فلما شاهدوا بولس ينجح باستعمال اسم يسوع رغبوا في الاقتداء به.
    نُقْسِمُ عَلَيْكَ ظنوا أنهم بهذه العبارة يجبرون الأرواح الشريرة على طاعتهم.
    بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يَكْرِزُ بِهِ بُولُسُ كان اسم يسوع أو يشوع شائعاً بين اليهود فنعتوه «بالذي» الخ تمييزاً له عن غيره ممن سموا بهذا الاسم.
    ١٤ «وَكَانَ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا هٰذَا سَبْعَةَ بَنِينَ لِسَكَاوَا، رَجُلٍ يَهُودِيٍّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ».
    ما ذُكر في هذه الآية مثال من أمثلة كثيرة أو هو بيان لما سبق.
    يَهُودِيٍّ أصلاً بقطع النظر عن اعتقاده حينئذ.
    رَئِيسِ كَهَنَةٍ كان هذا لقب كبير الأحبار في أورشليم أو زعيم قسم من الأربعة والعشرين التي قُسم كهنة اليهود إليها. لكن يعسر تصديق أن من كان في مثل تلك الرتبة الدينية العالية يكون في أفسس ويمارس بنوه مثل تلك المهنة الدنيئة المحرمة في الشريعة اليهودية. فالمحتمل أن ذلك اللقب كان لذي رتبة دينية في مجمع اليهود في أفسس أو أنه دعى ذلك اللقب كذباً ترويجاً لسحره والأرجح أنه يهودي مرق من دينه إلى الوثنية وصار كاهناً في هيكل أرطاميس فإنه كثيراً ما شوهد اسم «رئيس الكهنة» على المسكوكات والحجارة من آثار أفسس المختصة بالعبادة الوثنية.
    ١٥ «فَقَالَ ٱلرُّوحُ ٱلشِّرِّيرُ لَهُمْ: أَمَّا يَسُوعُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ، وَبُولُسُ أَنَا أَعْلَمُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَنْ أَنْتُمْ؟».
    فَقَالَ ٱلرُّوحُ ٱلشِّرِّيرُ على قسم بني سكاوا. وهذا الروح كالمذكور في (متّى ٨: ٢٨) في شدة قوته واستخدامه لسان الإنسان ليعبر به عن أفكاره هو.
    يَسُوعُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ وأُسلّم بسلطانه الإلهي على إخراج الشياطين (متّى ٨: ٢٩ ومرقس ١: ٢٤ ولوقا ٤: ٣٤).
    بُولُسُ أَنَا أَعْلَمُهُ أنه خادم يسوع وأنه أُعطي سلطاناً على إخراج الأرواح (ع ١٢).
    وَأَمَّا أَنْتُمْ الخ هذا كلام غيظ واستخفاف فكأنه قال أي سلطان لكم فإنكم لستم بيسوع ولا ببولس فأي حق لكم أن تقسموا عليّ بذلك الاسم الذي نقشعر منه (يعقوب ٢: ١٩).
    ١٦ «فَوَثَبَ عَلَيْهِمُ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱلرُّوحُ ٱلشِّرِّيرُ، وَغَلَبَهُمْ وَقَوِيَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى هَرَبُوا مِنْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ عُرَاةً وَمُجَرَّحِينَ».
    وَثَبَ عَلَيْهِمُ ٱلإِنْسَانُ نسب في الآية السابقة التكلم الذي هو للإنسان إلى الروح النجس وهنا نسب قوة الروح النجس إلى الإنسان وكل من النسبتين حق لأن الإنسان والروح النجس اشتركا في العمل فالروح أعطى الإنسان القوة حتى قدر أن يثب على السبعة ويغلبهم.
    عُرَاةً لما وثب عليهم مزق أثوابهم وعرّاهم كل التعرية أو بعضها.
    ١٧ «وَصَارَ هٰذَا مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أَفَسُسَ. فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَكَانَ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ يَتَعَظَّمُ».
    لوقا ١: ٦٥ و٧: ١٦ وص ٢: ٤٣ و٥: ٥ و١١
    ذُكرت هذه الحادثة هنا لشدة تأثيرها في الناس لأن المعزّمين كفوا بعد ذلك عن التعزيم على الأرواح باسم يسوع ولتحقيقها لكل أهل أفسس أن معجزات بولس امتازت عن أعمال السحر والخداع.
    فَوَقَعَ خَوْفٌ كما وقع في أورشليم حين ضرب الله حنانيا وسفيرة بالموت لكذبهما على الروح القدس لأنه ظهر للجميع وجود قوة سرية لا تُقاوم ولم يُشاهد لها من نظير في تلك المدينة المشهورة بمهارة سحرتها وهي ليست إلا قوة الله الفاعلة بيد بولس رسوله فوجب عليهم أن يخافوه تعالى خوف الهيبة والوقار. ولا ريب في أنه وقع مثل ذلك الخوف في مصر لما ظهر الفرق بين عجائب موسى وأعمال السحرة.
    وَكَانَ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ يَتَعَظَّمُ يجب هنا أن ننتبه إلى الاسم الذي تعظم فإنه ليس هو اسم بولس الذي صنع المعجزات بل هو اسم يسوع الذي كرز به بولس (ع ١٣) وفعل المعجزات به وهذا الاسم أهانه المعزّمون فانكسارهم تعظيم لاسم من أهانوه.
    ١٨ «وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُوا يَأْتُونَ مُقِرِّينَ وَمُخْبِرِينَ بِأَفْعَالِهِمْ».
    متّى ٣: ٦
    ما ذُكر في هذه الآية نتيجة الحادثة في ما قبلها.
    ٱلَّذِينَ آمَنُوا ما نُسب إليهم يمكن أنهم أتوه عند إيمانهم والأرجح أنهم لم يأتوه إلا بعد حين أي أنهم بقوا وقتاً بعد إيمانهم يمارسون السحر سراً وهم لم يشعروا بالخطيئة في ذلك لكنهم بعد الحادثة المذكورة انتبهت ضمائرهم وأجبرتهم على ترك السحر وعلى الاعتراف بسوء فعلهم وذلك لأنهم تحققوا بها أن الله مع بولس وأن إنذاره حق وأنه تعالى يغضب على كل من يشتغل بالسحر.
    يَأْتُونَ مُقِرِّينَ أي معترفين جهراً على مشهد من الناس كما يتبين من الآية التالية مما اقترن باعترافهم من أعمالهم.
    مُخْبِرِينَ بِأَفْعَالِهِمْ أي بما فعلوه من الشر بعد معموديتهم وتعهدهم أنهم يعتزلون كل خداع وما يتعلق بخدمة الشيطان لأنه لا يخلو من أنهم ادعوا إخراج الشياطين كذباً أو مارسوا السحر أو استشاروا السحرة المعزمين. والاعتراف العلني بالأعمال الجهرية مما يجب لنوال المغفرة.
    ١٩ «وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ ٱلسِّحْرَ يَجْمَعُونَ ٱلْكُتُبَ وَيُحَرِّقُونَهَا أَمَامَ ٱلْجَمِيعِ. وَحَسَبُوا أَثْمَانَهَا فَوَجَدُوهَا خَمْسِينَ أَلْفاً مِنَ ٱلْفِضَّةِ».
    ذكر في هذه الآية أعمالهم المقارنة باعترافهم الموافقة له ولولا تلك الأعمال كان اعترافهم عبثاً.
    يَسْتَعْمِلُونَ ٱلسِّحْرَ من عرافة وغيرها كتفسير الأحلام وإعلان الأسرار كإبانة المسروق والسارق وكشف الكنوز والخبايا ووسائل المحبة والقبول وتمييز أيام السعد من أيام النحس وحوادث الإنسان المستقبلة والتمائم العرافية والعزائم والرقى وأمثالها من المدعيات الباطلة. وكل ذلك محرم لانه اجتهاد الإنسان في إدراك السرائر المختصة بالله فهو مخالف لقول الكتاب «ٱلسَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلٰهِنَا، وَٱلْمُعْلَنَاتُ لَنَا وَلِبَنِينَا إِلَى ٱلأَبَدِ» (تثنية ٢٩: ٢٩).
    ٱلْكُتُبَ اشتهر في الأزمنة القديمة ما عُرف «بالكتب الأفسسية» وهي ما نُقل من الألفاظ المكتوبة على أثواب أرطاميس وتاجها وزنارها وقدميها وقواعد تماثيلها ولم يكن لها معنى في لغة من اللغات ومنها «أسكيون» و «كتكيون» و «ليكس» و «تيتراس». وكان الناس يكتبونها ويحملونها أحرازاً ويلفظون بها في أوقات الخطر. قال يوستاتيوس اليوناني أنه في الألعاب الأولمبيادية صرع مصارع أفسسي كل من صارعه ثم وجدوا رباطاً على وظيفه مكتوباً فيه بعض ألفاظ الكتب الأفسسية فلما أُخذ الرباط منه كان يُصرع بسهولة. ولا بد من أنه كان من كتب السحر المذكورة في هذه الآية غير الكتب الأفسسية مما يشتمل على الوسائل إلى كل ما ذكرناه من تفسير الأحلام وما بعده.
    خَمْسِينَ أَلْفاً مِنَ ٱلْفِضَّةِ إن كان المقصود بالفضة هنا الدرهم اليوناني (كما يرجح) فقيمته خمسة غروش ونصف غرش وقيمة المجموع ٢٧٥٠٠٠ غرش أو ما يزيد على ألفي ليرة إنكليزية. وإن كان المقصود بها الشاقل اليهودي كان المبلغ ما يقرب من ثلاثة أضعاف ذلك. ولا يخفى أن قيمة النقود يومئذ كانت أغلى من قيمتها اليوم كثيراً وبلغت أثمان تلك الكتب المبلغ المذكور لقلتها ولعظمة الأسرار التي تعلنها على زعمهم.
    أتى يسوع نوراً للعالم ليزيل كل ظلماته فكانت ظلمة هذه الأباطيل تتبدد أمام إنجيله حيث دخل. فمهما خسر الإنسان من تركه من المحرمات كالسحر وبيع المسكرات والمقامرة والربا الزائد يجب أن لا يحسب خسارته مصاباً وأن يقتدي بمؤمني أفسس لأنه «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه».
    ٢٠ «هٰكَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ تَنْمُو وَتَقْوَى بِشِدَّةٍ».
    ص ٦: ٧ و١٢: ٢٤
    في هذا الوقت كتب بولس من أفسس إلى أهل كورنثوس قوله الموافق لما في هذه الآية «لأَنَّهُ قَدِ ٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ عَظِيمٌ فَعَّالٌ، وَيُوجَدُ مُعَانِدُونَ كَثِيرُونَ» (١كورنثوس ١٦: ٩).
    هٰكَذَا أي بواسطة تبشير بولس ومعجزاته وانتصاره على السحر.
    ٢١ «وَلَمَّا كَمَلَتْ هٰذِهِ ٱلأُمُورُ، وَضَعَ بُولُسُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ بَعْدَمَا يَجْتَازُ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ يَذْهَبُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، قَائِلاً: إِنِّي بَعْدَ مَا أَصِيرُ هُنَاكَ يَنْبَغِي أَنْ أَرَى رُومِيَةَ أَيْضاً».
    ص ٢٠: ٢٢ ورومية ١٥: ٢٥ وغلاطية ٢: ١ ص ١٨: ٢١ ورومية ١٥: ٢٤ إلى ٢٨
    هٰذِهِ ٱلأُمُورُ أخص هذه الأمور ما جرى بينه وبين السحرة والأرجح أنها تشتمل على الحوادث المتعلقة بتبشير بولس ورفاقه بالإنجيل في أفسس والمدن المجاورة لها وتأسيس الكنائس فيها وهي ما شغل ثلاث سنين (ص ٢٠: ٣١). ومنها ثلاثة أشهر شغلها بوعظه في مجمع اليهود وسنتان شغلهما بالتعليم في مدرسة تيرانس وجولانه في تلك الكورة قبل مقاومته الطوافين المعزمين (ع ١٣) وتسعة أشهر بعد ذلك قبل الشغب الذي هيجه ديمتريوس (ع ٢٣).
    فِي نَفْسِهِ بإرشاد الروح القدس.
    مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ هما القسمان اللذان قسم الرومانيون بلاد اليونان إليهما حين استولوا عليها. وغاية بولس من السفر إليهما إنهاض غيرة التلاميذ الروحية وإصلاح ما نشأ من الخلل في الكنائس الحديثة ولا سيما كنيسة كورنثوس كما ذُكر في الرسالتين إليها وإكمال جمع الإحسان لفقراء المسيحيين في أورشليم كما ذُكر في (رومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ - ٣).
    إِلَى أُورُشَلِيمَ ليحمل إليها ما جمع من الإحسان كما يظهر من (ص ٢٦: ٣١ و١كورنثوس ١٦: ١ - ٩ ورومية ١٥: ٢٥).
    قَائِلاً لأصدقائه.
    أَنْ أَرَى رُومِيَةَ أيضاً ليبشر بالإنجيل هناك على وفق قصده أن يجعل كل مركز كبير في المملكة الرومانية مركزاً للدين المسيحي أيضاً لأنه اعتبر ملكوت المسيح الروحي مما يجب أن يكون في كل مملكة أرضية. فإنه بنشوء هذا الملكوت في رومية يكون قد تأسس في مراكز العالم الثلاثة الكبرى وهي أورشليم وبلاد اليونان ورومية. فالأولى مركز الديانة اليهودية والثانية مركز الفلسفة والثالثة مركز السلطة. ولا يتم هذا القصد إلا بأن يذهب إلى رومية ويبشر فيها. وكان قد قصد ذلك منذ زمان طويل (رومية ١: ٣ و١٥: ٢٣ و٢٤ و٢٨). نعم أنه أتم هذا القصد لكنه لم يكن كما توقع لأنه ذهب إليها أسيراً مقيّداً.
    ٢٢ «فَأَرْسَلَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ ٱثْنَيْنِ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَخْدِمُونَهُ: تِيمُوثَاوُسَ وَأَرَسْطُوسَ، وَلَبِثَ هُوَ زَمَاناً فِي أَسِيَّا».
    ص ١٣: ٥ رومية ١٦: ٢٣ و٢تيموثاوس ٤: ٢٠
    إِلَى مَكِدُونِيَّةَ أي فيلبي وتسالونيكي أكبر مدنها كما هو المرجّح.
    يَخْدِمُونَهُ أي يساعدونه في الجسديات والتبشير (ص ١٣: ٥ و١تسالونيكي ٣: ٢ و٢كورنثوس ٨: ٢٣ ورومية ١٦: ٢١ وفيلبي ٢: ٢٥ وكولوسي ٤: ١١ وفليمون ١٣).
    تِيمُوثَاوُسَ أمر بولس تيموثاوس بأنه بعد إكمال خدمته في مكدونية يذهب إلى كورنثوس لكي يُعد الكنيسة لمجيئه وليجمع إحسانها للفقراء أورشليم (١كورنثوس ٤: ١٧ - ١٩ و١٦: ١٠).
    أَرَسْطُوسَ المرجح أنه هو المذكور في (رومية ١٦: ٢٣ و٢تيموثاوس ٤: ٢٠). وكونه «خازن مدينة أفسس» لا يمنع من أن يكون مساعداً لبولس لاحتمال أنه كان في تلك الوظيفة قبل خدمته لبولس أو بعدها وإن كان خازناً مدة إقامة بولس هناك فمن المحتمل أن واجبات مأموريته لا تمنعه من أن يترك أفسس وقتياً.
    زَمَاناً بعد ذهاب تيموثاوس وأرسطوس على أنه كان يقصد أن يذهب على أثرهما بعد قليل (ع ٢١) ولعله أقام زمناً أكثر مما قصد أولاً.
    ٢٣ «وَحَدَثَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ شَغَبٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ بِسَبَبِ هٰذَا ٱلطَّرِيقِ»
    ٢كورنثوس ١: ٨ ص ٩: ٢ و١٨: ٢٦
    وَحَدَثَ... شَغَبٌ هذا يدل على أنه كان في راحة وسكون بعد انتصاره على الطوّافين المعزّمين إلى ذلك الوقت.
    هٰذَا ٱلطَّرِيقِ أي الدين المسيحي. وسُمّي هذا الدين «بالطريق» لأنه طريق الإيمان والصلاح والقداسة والخلاص والسعادة والسماء (ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٢: ٤ و٢٤: ١٤ و٢٢).
    ٢٤ «لأَنَّ إِنْسَاناً ٱسْمُهُ دِيمِتْرِيُوسُ، صَائِغٌ صَانِعُ هَيَاكِلِ فِضَّةٍ لأَرْطَامِيسَ، كَانَ يُكَسِّبُ ٱلصُّنَّاعَ مَكْسَباً لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
    ص ١٦: ١٦ و١٩
    صَانِعُ هَيَاكِلِ فِضَّةٍ هذا بيان لقوله «صائغ». وكانت هذه الهياكل تماثيل صغيرة لهيكل الإلاهة أرطاميس الكبير. وكانت تُباع كثيراً والمشترون يأخذونها لتساعدهم على عبادة تلك الإلاهة. وكانت أيضاً بمثابة إحراز للمسافرين وللسكان وتذكاراً لزوار هيكلها الذين قصدوه من الأقطار. وكان حمل أمثال هذه الهياكل من عوائد الوثنيين القديمة التي سقط فيها الإسرائيليون أيضاً بدليل قوله «بَلْ حَمَلْتُمْ خَيْمَةَ مُولُوكَ، وَنَجْمَ إِلٰهِكُمْ رَمْفَانَ، ٱلتَّمَاثِيلَ ٱلَّتِي صَنَعْتُمُوهَا لِتَسْجُدُوا لَهَا» (ص ٧: ٤٣). فاشتغل كثيرون بصنع تلك الهياكل وحصلوا به على أرباح وافرة.
    ٱلصُّنَّاعَ الصاغة شركاء ديمتريوس وغيرهم من أرباب تلك الصناعة.
    ٢٥ «فَجَمَعَهُمْ وَٱلْفَعَلَةَ فِي مِثْلِ ذٰلِكَ ٱلْعَمَلِ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ سِعَتَنَا إِنَّمَا هِيَ مِنْ هٰذِهِ ٱلصِّنَاعَةِ».
    ٱلْفَعَلَةَ أي الأجراء في الصياغة.
    سِعَتَنَا الخ أي ثروتنا. يتضح من ذلك أن الغاية العظمى من هذا الاجتماع والخطاب الربح الشخصي وأما المحاماة عن الدين فكان أمراً ثانوياً.
    ٢٦ «وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَتَسْمَعُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفَسُسَ فَقَطْ، بَلْ مِنْ جَمِيعِ أَسِيَّا تَقْرِيباً، ٱسْتَمَالَ وَأَزَاغَ بُولُسُ هٰذَا جَمْعاً كَثِيراً قَائِلاً: إِنَّ ٱلَّتِي تُصْنَعُ بِٱلأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً».
    مزمور ١١٥: ٤ وإشعياء ٤٤: ١٠ إلى ٢٠ وإرميا ١٠: ٣
    وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَتَسْمَعُونَ أي أن الأمر واضح مسلّم به لا موهوم.
    أَفَسُسَ... جَمِيعِ أَسِيَّا تَقْرِيباً هذا على وفق ما في الآية العاشرة من جهة وعظ بولس في الكور المجاورة لأفسس وهو دليل على تأثير كلمة الله ببركة الروح على أتعاب الرسول. وشهادة ديمتريوس في هذه الآية كشهادة أفلينيوس والي بيثينية المجاورة لأفسس للأمبراطور ترجانوس بانتشار الديانة المسيحية بعد مدة ليست بطويلة قال فيها انتشر هذا الوهم (أراد به الدين المسيحي) كالعدوى بين عدد وافر من الناس ذكوراً وأناثاًً كباراً وصغاراً أغنياء وفقراء شرفاء وأدنياء فتُركت هياكل الآلهة بلا عبدة ومذابحها بلا ذبائح.
    ٱلَّتِي تُصْنَعُ بِٱلأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً هذا كما قال بولس في أثينا (ص ١٧: ٢٩) فتفسير ديمتريوس كلام بولس حق وخوفه من زوال الديانة الوثنية وانقطاع ربحه بانتشار الدين المسيحي كان في محله.
    ٢٧ «فَلَيْسَ نَصِيبُنَا هٰذَا وَحْدَهُ فِي خَطَرٍ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ فِي إِهَانَةٍ، بَلْ أَيْضاً هَيْكَلُ أَرْطَامِيسَ ٱلإِلٰهَةِ ٱلْعَظِيمَةِ أَنْ يُحْسَبَ لاَ شَيْءَ، وَأَنْ سَوْفَ تُهْدَمُ عَظَمَتُهَا، هِيَ ٱلَّتِي يَعْبُدُهَا جَمِيعُ أَسِيَّا وَٱلْمَسْكُونَةِ».
    نَصِيبُنَا أي ربحنا لأن التبشير بالإنجيل قلل اعتبار الأوثان فنتج عن ذلك كساد التماثيل.
    بَلْ أَيْضاً لو نادى ديمتريوس ورفقاؤه في الشعب لنقصان ربحهم في تجارتهم بسبب مناداة بولس ما هيّج ذلك الشعب عليه فاضطروا أن ينادوا بأضرار تهم الجميع ولم يروا وسيلة لذلك أحسن من قولهم أن دينهم في خطر من قبل التبشير بالإنجيل.
    هَيْكَلُ أَرْطَامِيسَ كان هيكل أرطاميس مبنياً من رخام أبيض اشترك في نفقة بنائه كل مدن آسيا حتى أن النساء بذلت جواهر حلاها في سبيل ذلك. وكان طوله ٤٢٥ قدماً وعرضه ٢٢٠ قدماً وكانت دعائم ما سُقف منه ١٢٧ عموداً علو كل منها ٦٠ قدماً وكانت من أنفس الرخام وكل منها هدية ملك ٩١ منها بيض و٣٦ ملونة. وكان معلقاً عليها هدايا لا تثمن هي تقدمات الشكر ممن حصلوا على نجاح عظيم أو نجاة من خطر. وكان فيه تماثيل وصور صنعها أمهر النحاتين والمصورين اليونانيين. قيل أن إحدى الصور التي من صنع أباليس بلغت نفقتها ما يساوي خمسة آلاف ليرة إنكليزية.
    ٱلإِلٰهَةِ ٱلْعَظِيمَةِ نُعتت بالعظيمة تمييزاً لها عن آلهة أخرى أدنى منها وعن تماثيلها في غير أفسس. زعم عبدتها أن تمثالها هبط من السماء. وكان ذلك التمثال من خشب وكثيراً ما طبعوا صورة أرطاميس على مسكوكات النقود ويظهر من تلك الصورة أنها كانت قبيحة المنظر. كان نصف بدنها الأعلى مغطى بالثديّ الكبيرة إشارة إلى أنها مانحة الخصب والتغذية وكان النصف الأسفل منشوراً مربعاً مغطى بصور النحل وسنابل الحنطة والأزهار. وكانت عظمة تلك الإلاهة متوقفة على عظمة هيكلها.
    يُحْسَبَ لاَ شَيْءَ هذا ينتج بالضرورة من تسليم الناس بقول بولس «ٱلَّتِي تُصْنَعُ بِٱلأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً» (ع ٢٦).
    سَوْفَ تُهْدَمُ عَظَمَتُهَا تنبأ ديمتريوس بما تمّ أخيراً وهو لا يعلم أنه نبي. ولم تكن الواسطة لهدم تلك العظمة إلا ما ذكره وهو التبشير بالإنجيل. فإن ذلك الهيكل لم يبق منه اليوم سوى أطلاله.
    يَعْبُدُهَا جَمِيعُ أَسِيَّا وَٱلْمَسْكُونَةِ ليس في هذا القول كثير من المبالغة إذا أُريد «بالمسكونة» المملكة الرومانية كما كان شائعاً فإنه لم يكن في العالم كله نظير هيكلها في العظمة إلا هيكل أبلون في دلفي. وكان عبدتها لا يُحصون يقصدون هيكلها من كل دان وقاص.
    خلاصة ما استطاعه ديمتريوس من تبجيل أرطاميس أن هيكلها زينة المدينة وأنها مصدر ربح الصاغة. فما أعظم الفرق بين هذا الوصف ووصف المبشرين المسيحيين للديانة المسيحية فإنهم يصفونها بأن مجدها قدرتها على أن تجعل الناس أتقياء على الأرض وممجدين في السماء.
    ٢٨ «فَلَمَّا سَمِعُوا ٱمْتَلأُوا غَضَباً، وَطَفِقُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ ٱلأَفَسُسِيِّينَ».
    يظهر من هذه الآية ما كان لخطاب ديمتريوس من شديد التأثير في أهل صناعته فإنهم اتقدوا غيظاً خوفاً على ربحهم وغيرة لدينهم.
    عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الخ قوله «عظيمة» هي الكلمة ذات الشأن في هذه العبارة. وفي هذه العبارة جوهر اعتقادهم وهو أن هذه الإلاهة التي عبدوها تستحق أن توصف بالعظمة فهي عظيمة الآن وتبقى كذلك مهما افترى الناس عليها. وتضمن صراخهم شكوى عليهم. بعض الناس أنهم تآمروا على إهانة أرطاميس التي هي فخر الأفسسين ومجدهم وإلا لم يكن من داع إلى ذلك الصراخ وقد عرفوا أن هذه الشكوى لا تقع إلا على اليهود وحسبوا بولس منهم.
    ٢٩ «فَٱمْتَلأَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا ٱضْطِرَاباً، وَٱنْدَفَعُوا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى ٱلْمَشْهَدِ خَاطِفِينَ مَعَهُمْ غَايُوسَ وَأَرِسْتَرْخُسَ ٱلْمَكِدُونِيَّيْنِ، رَفِيقَيْ بُولُسَ فِي ٱلسَّفَرِ».
    رومية ١٦: ٢٣ و١كورنثوس ١: ١٤ ص ٢٠: ٤ و٢٧: ٢ وكولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤
    ٱمْتَلأَتِ ٱلْمَدِينَةُ انتشر الهياج من الصاغة إلى جمهور المدينة على خلاف رتبهم وصنائعهم فإنهم استنتجوا من الصراخ أن بعض اليهود الأجانب أهان إلاهتهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الأمر حدث في شهر أيار الذي وقفه كل أهل آسيا على عبادة أرطاميس ولذلك كثر عدد المجتمعين في المدينة وزادوا غيرة في عبادتها وهم كانوا على غاية الاستعداد للتهيج بمثل ذلك الأمر. وأُستدل على حدوثه في شهر أيار من اجتماع وجوه آسيا حينئذ في أفسس فإن هؤلاء كانوا يأتون إلى أفسس في ذلك الشهر للقيام بواجبات العيد (انظر شرح ع ٣١).
    ٱنْدَفَعُوا... إِلَى ٱلْمَشْهَدِ مقتدياً بعضهم ببعض كعادة الناس في مثل تلك الحال. وذهبوا إلى المشهد لأنه مجتمع الجمهور ومنازلة بعض الأبطال لبعض والمحاربة للوحوش في ساحته. وكان ذلك المشهد يسع ثلاثين ألف مشاهد ولم تزل آثاره إلى اليوم.
    خَاطِفِينَ مَعَهُمْ غَايُوسَ وَأَرِسْتَرْخُسَ الأرجح أنهم مروا بمحلة اليهود وخطفوا هذين الرجلين وأن بولس كان حينئذ في شديد الخطر منهم (١كورنثوس ١٥: ٣٢ و٤: ٩) لكنه نجا منه كما نجا من مثله في تسالونيكي (ص ١٧: ٦) ولعل هذا الوقت هو ما أنقذه فيه بريسكلا وأكيلا معرضين نفسيهما للموت بذلك (رومية ١٦: ٣ و٤). وغايوس اسم يوناني (وهو كابوس في اللاتينية) كان شائعاً يومئذ وذُكر في الإنجيل أربعة سموا به غايوس الكورنثي الذي عمّده بولس ونزل عليه ضيفاً (١كورنثوس ١: ١٤ ورومية ١٦: ٢٣). وغايوس الدربي (ص ٢٠: ٤) وغايوس الأفسسي وهو الذي كتب إليه يوحنا الرسول رسالته الثالثة. وغايوس المذكور هنا ولعله هو الذي كتب إليه يوحنا. وأرسترخس رجل من تسالونيكي (ص ٢٠: ٤) رافق بولس إلى فلسطين وكان معه حين غرقت السفينة (ص ٢٧: ٢) وكان معه في رومية يوم حبسه الأول (كولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤).
    ٣٠ « وَلَمَّا كَانَ بُولُسُ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَ ٱلشَّعْبِ لَمْ يَدَعْهُ ٱلتَّلاَمِيذُ».
    يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ المشهد حيث اجتمع الجمهور وأراد هذا الدخول لاهتمامه برفيقيه آملاً أن يساعد على تسكين الهيجان بما يقوله. وكيف كان الأمر فإنه لم يرد أن يكونا عرضة للخطر دون مشاركته لهما فيه ومحاماته عنهما.
    لَمْ يَدَعْهُ ٱلتَّلاَمِيذُ أي المسيحيون من أهل أفسس فإنهم كانوا مختبرين غيرة أهل أفسس لأرطاميس وعارفين بما يقع من الخطر على بولس من أولئك الجمهور المتقد غيظاً.
    ٣١ «وَأُنَاسٌ مِنْ وُجُوهِ أَسِيَّا كَانُوا أَصْدِقَاءَهُ أَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ إِلَى ٱلْمَشْهَدِ».
    وُجُوهِ أَسِيَّا أي أهل الرتب الخاصة على ما يفيد الأصل اليوناني وهم عشرة يُختارون كل سنة من مدن آسيا المختلفة وكانت أعمالهم ترتيب الذبائح والملاعب التي تؤتى في شهر أيار عبادة لأرطاميس وكانت النفقة كلها على وفرتها من أموالهم لأن الذبائح كانت كثيرة وكان عليهم أن يأتوا بوحوش الملاعب من بلاد بعيدة وأن يستأجروا الأبطال المشهورين من بلادهم وغيرها فمن الضرورة أنهم كانوا من أرباب الثروة والمراتب العالية. ويظهر لنا قدر الاحترام الذي كان لبولس من هؤلاء أنهم حسبوه من أصدقائهم واعتنوا بسلامته.
    أَصْدِقَاءَهُ كانت صداقتهم له شخصية لا يلزم منها أنهم آمنوا بتعاليمه وإلا لم يبقوا يخدمون الإلاهة.
    أَرْسَلُوا الأرجح أنهم أرسلوا رسلاً بكلام شفاهي.
    لاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ الخ إلى الجمهور الهائج بنار التعصب الديني الطالب من يشفي غيظه به.
    ٣٢ «وَكَانَ ٱلْبَعْضُ يَصْرُخُونَ بِشَيْءٍ وَٱلْبَعْضُ بِشَيْءٍ آخَرَ، لأَنَّ ٱلْمَحْفَلَ كَانَ مُضْطَرِباً، وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَدْرُونَ لأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا قَدِ ٱجْتَمَعُوا!».
    هذا بيان لما يتوقع أن يكون فيه مثل ذلك الجمهور. وكان كل ما فعلوا نتيجة توهمهم وقوع الاعتداء أما على مدينتهم أو على دينهم أو على الاهتهم أو هيكل أرطاميس لكنهم كانوا لم يعرفوا ما هو ذلك التعدي ولا من هم المعتدون.
    ٣٣ «فَٱجْتَذَبُوا إِسْكَنْدَرَ مِنَ ٱلْجَمْعِ، وَكَانَ ٱلْيَهُودُ يَدْفَعُونَهُ. فَأَشَارَ إِسْكَنْدَرُ بِيَدِهِ يُرِيدُ أَنْ يَحْتَجَّ لِلشَّعْبِ».
    ١تيموثاوس ١: ٢٠ و٢تيموثاوس ٤: ١٤ ص ١٢: ١٧
    إِسْكَنْدَرَ... وَكَانَ ٱلْيَهُودُ يَدْفَعُونَهُ بغية أن يتقدمهم خطيباً. وبما أن اليهود كانوا أعداء بولس نستنتج أن اسكندر كان عدوه. ولعله هو الذي أشار إليه بولس بقوله «إِسْكَنْدَرُ ٱلنَّحَّاسُ أَظْهَرَ لِي شُرُوراً كَثِيرَةً» (٢تيموثاوس ٤: ١٤). والأرجح أن قصدهم من دفعهم إياه إلى الخطابة ليبين للجمهور أن اليهود ليسوا بمسيحيين فهم ليسوا شركاء بولس ورفيقيه وأنهم كرهوه وكرهوا كل أعماله.
    ٣٤ «فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ يَهُودِيٌّ، صَارَ صَوْتٌ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمِيعِ صَارِخِينَ نَحْوَ مُدَّةِ سَاعَتَيْنِ: عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ ٱلأَفَسُسِيِّينَ!».
    ١ملوك ١٨: ٢٦ ومتّى ٦: ٧
    عَرَفُوا أَنَّهُ يَهُودِيٌّ عرفوا ذلك من هيئته أو ثيابه ولهجته. وكان الوثنيون يبغضون اليهود دائماً وكان كافياً لنفارهم من سمع اسكندر أنه كان من أولئك المبغضين. وعرفوا أنه من المحال أن يتكلم يهودي بما يرفع شأن أرطاميس التي ظنوا وقوع الإهانة عليها.
    عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الخ ما أتوا به هنا مثل ما أتى به كهنة البعل فإنهم كانوا «مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى ٱلظُّهْرِ (يصرخون) «يَا بَعْلُ أَجِبْنَا» (١ملوك ١٨: ٢٦). وهذا يذكرنا قول المسيح «حِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا ٱلْكَلاَمَ بَاطِلاً كَٱلأُمَمِ» (متّى ٦: ٧). وكان ما فعلوه جزءاً من عبادتهم لأرطاميس كما في (ع ٢٨) أيضاً. وقصدوا فوق ذلك أن يظهروا فرط غيرتهم وإكرامهم لإلاهتهم المهانة.
    ٣٥ «ثُمَّ سَكَّنَ ٱلْكَاتِبُ ٱلْجَمْعَ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلأَفَسُسِيُّونَ، مَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي لاَ يَعْلَمُ أَنَّ مَدِينَةَ ٱلأَفَسُسِيِّينَ مُتَعَبِّدَةٌ لأَرْطَامِيسَ ٱلإِلٰهَةِ ٱلْعَظِيمَةِ وَٱلتِّمْثَالِ ٱلَّذِي هَبَطَ مِنْ زَفْسَ؟».
    ثُمَّ سَكَّنَ ٱلْكَاتِبُ ٱلْجَمْعَ الظاهر أن نار غضبهم خمدت قليلاً بعد أن صرخوا نحو ساعتين فحضر بعض الحكام وأمرهم بالسكوت فسكتوا. وكان هذا الكاتب رب منزلة سامية في أفسس وكان من واجبات منزلته أن يحفظ سجلات المحكمة ويحضرها عند الحاجة وكان الناس قد اعتادوا أن يكرموه ويطيعوه.
    مَنْ... لاَ يَعْلَمُ أي كل إنسان يعلم فلا حاجة لأن تنادوا كذلك كأن ما تنادون به أمر مجهول يُفتقر إلى إعلانه. وعلى فرض أن يهودياً أنكر ذلك فهل إنكاره ينفي شهادة كل العالم.
    مَدِينَةَ ٱلأَفَسُسِيِّينَ مُتَعَبِّدَةٌ والكلمة اليونانية المترجمة بمتعبدة ( νεωκορον) أي مكنسة هيكلها كناية عن شدة تعبدها لها. وكانت هذه الكلمة مكتوبة على كثيرين من مسكوكاتها ولم يزل بعض تلك المسكوكات محفوظاً إلى الآن. وكان الأفسسيون يحسبون من أعظم ممجدات مدينتهم امتيازها عن سائر المدن بخدمتها وحراستها لهيكلها العظيم فحسدها على ذلك الملوك والأمبراطورون.
    ٱلَّذِي هَبَطَ قال أفلينيوس المؤرخ «أن ذلك التمثال من أقدم العاديات فإن الهيكل خرب وجدد سبع مرات وذلك التمثال محفوظ فيه» وأن الناس اعتقدوا أنه هبط من السماء.
    زَفْسَ أي المشتري وهو عندهم إله الآلهة. ما قاله الكاتب في هذه الآية للأفسسين سكن غضبهم بعض التسكين فحوّل أذهانهم من الغضب إلى الافتحار بمدينتهم وهيكلهم وإلاهتهم. والظاهر أن ذلك الكاتب لم يكن من المتعصبين ولا ممن يميلون إلى الاضطهاد.
    ٣٦ «فَإِذْ كَانَتْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءُ لاَ تُقَاوَمُ، يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا هَادِئِينَ وَلاَ تَفْعَلُوا شَيْئاً ٱقْتِحَاماً».
    هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءُ أي أن مدينة أفسس حارسة الهيكل والتمثال الذي هبط من السماء.
    ًلاَ تَفْعَلُوا شَيْئاً ٱقْتِحَاما أي بلا تأمل ونظر في العواقب فإنكم إذا بقيتم هائجين ارتكبتم الاقتحام الذي لا يحسن بكم.
    ٣٧ «لأَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِهٰذَيْنِ ٱلرَّجُلَيْنِ، وَهُمَا لَيْسَا سَارِقَيْ هَيَاكِلَ، وَلاَ مُجَدِّفَيْنِ عَلَى إِلٰهَتِكُمْ».
    ع ٢٩
    أشار الكاتب بما في هذه الآية إلى أنهم قد وقعوا في ما حذرهم منه لأنهم قبضوا على رجلين لم يذنبا بشيء إلى الهيكل أو إلى الإلاهة.
    أَتَيْتُمْ بالإجبار والإهانة.
    هٰذَيْنِ ٱلرَّجُلَيْنِ لعله أشار بيده إلى أرسترخس وغايس حين قال ذلك.
    لَيْسَا سَارِقَيْ هَيَاكِلَ لم يتهمها أحد بهذا الذنب ولم يدع أحد فقدان شيء من الهيكل.
    وَلاَ مُجَدِّفَيْنِ الخ نعم أن بولس تكلم في مواعظه على بطلان العبادة الوثنية وعلى أنها جهل كما يتبين من خطابه لأهل أثينا (ص ١٧: ٢٩) لكنه لم يطعن في معبود خاص من معبودات اليونانيين أو الرومانيين لعلمه أن ذلك لا يحمل عبدتها إلا على الغضب والمقاومة. والطريق التي اختارها بولس لمفارقة الضلال هي أفضل الطرق في كل عصر وهي أنه أظهر الحق ليُظهر فضله على الباطل بالمقابلة أي أنه نسخ الظلمة بالنور بدون أن يطعن في الظلمة فإنه لم يخفض مقام أرطاميس أمام عبدتها بل رفع شأن المسيح لينظروا الفرق بينهما ويختاروا الأفضل. وزاد الكاتب على ما قاله في الآية السادسة والثلاثين من أن ما فعلوه لا يحسن بهم أنه ظلم لأنهم قبضوا على رجلين لم يذنبا بشيء.
    ٣٨ «فَإِنْ كَانَ دِيمِتْرِيُوسُ وَٱلصُّنَّاعُ ٱلَّذِينَ مَعَهُ لَهُمْ دَعْوَى عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّهُ تُقَامُ أَيَّامٌ لِلْقَضَاءِ، وَيُوجَدُ وُلاَةٌ، فَلْيُرَافِعُوا بَعْضُهُمْ بَعْضاً».
    ص ١٦: ١٩ و١٧: ٦
    أشار الكاتب في هذه الآية إلى طريق أفضل من القبض على الأبرياء اقتحاماً وجرهم إلى المشهد وهي طريقة شرعية مظهرة للحق وحكم بأن الدعوة ليست بجمهورية وإنما هي شخصية.
    كَانَ دِيمِتْرِيُوسُ وَٱلصُّنَّاعُ... لَهُمْ دَعْوَى أي إن ظنوا أن أحداً اعتدى عليهم وجب أنهم هم يشتكون عليه لا المدينة كلها وأن محل إقامة الدعوى المحكمة لا المشهد. فأظهر بما قاله أنه عرف أن غيرة ديمتريوس وجماعته لعبادة أرطاميس خداعاً ورياء والغرض ربحهم لا شرفها.
    تُقَامُ أَيَّامٌ لِلْقَضَاءِ في أماكن مخصوصة إما في السوق كما في فيلبي (ص ١٦: ١٩) وإما في غيرها كما في كورنثوس (ص ١٨: ١٣).
    يُوجَدُ وُلاَةٌ أي قضاة ينظرون في الدعاوي ويحكموا بمقتضى الشريعة.
    فَلْيُرَافِعُوا بَعْضُهُمْ بَعْضاً أي المشتكي يبسط شكواه والمُشتكى عليه يحامي عن نفسه ما استطاع.
    ٣٩ «وَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ شَيْئاً مِنْ جِهَةِ أُمُورٍ أُخَرَ، فَإِنَّهُ يُقْضَى فِي مَحْفِلٍ شَرْعِيٍّ».
    بعد أن بيّن مقتضى الحكمة والعدل في الدعاوي الشخصية بيّن مقتضى ذلك في الدعاوي الجمهورية مدنية أو عامة.
    وَإِنْ كُنْتُمْ وجه هنا خطابه رأساً إلى ديمتريوس وزمرته.
    أُمُورٍ أُخَرَ غير الأمور الشخصية التي تُرى في المحاكم الصغرى.
    فَإِنَّهُ يُقْضَى أي يُحكم به على وفق الحوادث بمقتضى الشريعة المتعلقة به فلا يبقى في صحة الحكم.
    فِي مَحْفِلٍ شَرْعِيٍّ أشار بذلك إلى أن المحفل الذي كانوا فيه حينئذ ليس بشرعي فلا محل للنظر في الدعاوي فيه. فالأرجح أن الكاتب أشار إلى محفل يُقام كل ثلاثة أشهر في المدن الكبيرة يحضره قضاة معينون للحكم في الدعاوي المستأنفة من المحاكم الصغرى.
    ٤٠ «لأَنَّنَا فِي خَطَرٍ أَنْ نُحَاكَمَ مِنْ أَجْلِ فِتْنَةِ هٰذَا ٱلْيَوْمِ. وَلَيْسَ عِلَّةٌ يُمْكِنُنَا مِنْ أَجْلِهَا أَنْ نُقَدِّمَ حِسَاباً عَنْ هٰذَا ٱلتَّجَمُّعِ».
    بعد أن أبان الكاتب أن اجتماعهم الاقتحامي في غير موضعه مع وجود الطرق القانونية للإنصاف ذكر سبباً أعظم مما سبق لوجوب العدول عنه وهو أنه ذو خطر على جميع الذين اشتركوا فيه بل على جميع أهل أفسس أيضاً لأن الحكومة الرومانية كانت لطيفة في سياسة الممالك التي استولت عليها في سوى الهياجات الجمهورية فإنها كانت شديدة فيها.
    لأَنَّنَا أي كل أهل المدينة رؤساء ومرؤوسين.
    خَطَرٍ هذه هي عين الكلمة التي استعملها ديمتريوس (ع ٢٧) في نصيبه ونصيب الصاغة. ومراده «بالخطر» هنا أن الدولة الرومانية تحرم مدينة أفسس الحقوق السياسية التي منحتها إياها وهو من أعز الأشياء عندهم.
    نُحَاكَمَ أي تُقام علينا الدعوى في رومية ويطلب منا علة هذا الهياج الجمهوري.
    وَلَيْسَ عِلَّةٌ كافية للاحتجاج فنكون عرضة للعقاب.
    حِسَاباً أي حججاً نتبرأُ بها.
    ٤١ « وَلَمَّا قَالَ هٰذَا صَرَفَ ٱلْمَحْفَلَ».
    صَرَفَ ٱلْمَحْفَلَ أمر المجتمعين بالانصراف باعتبار أنه حاكم فأطاعوا.
    كان خطاب هذا الكاتب بمقتضى الحكمة ومما يستحق المدح فإنه أرضاهم أولاً بأن مدح غيرتهم الدينية وحولهم من جهة الغضب إلى جهة الافتخار بأنهم حفظة تمثال أرطاميس وهيكلها وبيّن لهم جودة ما لهم من الوسائل لفض الدعاوي الشخصية والجمهورية ثم أنذرهم بالخطر من سوء العاقبة. فاتخذ الله فصاحة هذا الكاتب الأفسسي وقاية لحياة بولس كما استخدم غاليون الوالي الروماني العادل لحمايته في كورنثوس (ص ١٨: ١٢ - ١٦). وكما استخدم الواليين فيلكس وفستوس لإنقاذ بولس من مؤامرة اليهود (ص ٢٤: ٣٢ و٣٣ وص ٢٥: ٤).


    الأصحاح العشرون


    سفر بولس من أفسس إلى اليونان ع ١ إلى ٦


    ١ «وَبَعْدَمَا ٱنْتَهَى ٱلشَّغَبُ، دَعَا بُولُسُ ٱلتَّلاَمِيذَ وَوَدَّعَهُمْ، وَخَرَجَ لِيَذْهَبَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ».
    ١كورنثوس ١٦: ٥ و٢كورنثوس ٢: ١٢ و١٣ و٧: ٥ و٦ و١تيموثاوس ١: ٣
    بَعْدَمَا ٱنْتَهَى ٱلشَّغَبُ أي الفتنة التي أنشأها ديمتريوس ورفقاؤه وأزالها الكاتب الأفسسي بحكمته. وذهاب بولس من أفسس ليس من معلولات ذلك الشغب بل مما عقبه لأنه كان قد عزم قبلاً على الذهاب (ص ١٩: ٢١).
    وَدَّعَهُمْ بياناً لمودّته الأخوية وعنايته الرسولية.
    إِلَى مَكِدُونِيَّةَ حيث أرسل أمامه تيموثاوس وأرسطوس (ص ١٩: ٢٢) وأوصى تيموثاوس أن يظل سائراً من هنالك إلى كورنثوس لينذر كنيستها ويعظها ويصلح شؤونها حتى لا تُبقي شيئاً يحمل بولس حين يصل إليها على التوبيح أو التأديب (١كورنثوس ٤: ١٧ و٢١). وكتب بولس إلى تلك الكنيسة أن تقبل الأخ تيموثاوس بالترحيب والإكرام وأن لا تستهين بحداثته (١كورنثوس ١٦: ١٠ و١١).
    والظاهر أنه على أثر ذهابهما أتى إلى أفسس أناس من أهل خلوي (١كورنثوس ١: ١١) وأخبروه بشدة الخصومات في كنيسة كورنثوس وأن أحد أعضاء الكنيسة عائش في الزنا مع امرأة أبيه (١كورنثوس ٥: ١). وأنه أتاه رقيم من كنيسة كورنثوس على أيدي استفانوس ورفاقه (١كورنثوس ١٦: ١٧) يتضمن عدة مسائل تتعلق بالكنيسة (١كورنثوس ٨:١) فكتب إليهم أجوبتها وهي ما تُعرف بالرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس وأرسلها مع استفانوس ورفاقه وأرسل معهم تيطس على أمل أن يرجع إليه سريعاً ويخبره بتأثير رسالته في الكنيسة وتوقع أن يجده في ترواس فلم يجده فقلق من ذلك كثيراً. ومع أنه وجد في تلك المدينة باباً مفتوحاً للتبشير بالإنجيل لم يمكث إلا قليلاً وأسرع إلى مكدونية لكي يواجه تيطس فيها (٢كورنثوس ٢: ١٢ و١٣) فلقيه بعد قليل من بلوغه إياها فاطمأن بما أنبأه به من أحوال الكنيسة (٢كورنثوس ٧: ١٣) وحينذ كتب رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس. ونستنتج مما قيل في (رومية ١٥: ١٩) أنه ذهب على أثر ذلك إلى الليريكون للتبشير بالإنجيل وهي بلاد موقعها غربي مكدونية.
    ٢ «وَلَمَّا كَانَ قَدِ ٱجْتَازَ فِي تِلْكَ ٱلنَّوَاحِي وَوَعَظَهُمْ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ، جَاءَ إِلَى هَلاَّسَ».
    تِلْكَ ٱلنَّوَاحِي أي مدن مكدونية ومنها فيلبي وتسالونيكي وبيرية وبلاد الليريكون كما ذُكر في شرح الآية الأولى.
    هَلاَّسَ كان هذا اسم مدينة في بلاد اليونان ثم سُميت به كورتها الصغيرة ثم أُطلق على القسم الجنوبي من بلاد اليونان فهو اسم ثان لأخائية.
    ٣ «فَصَرَفَ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ إِذْ حَصَلَتْ مَكِيدَةٌ مِنَ ٱلْيَهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سُورِيَّةَ صَارَ رَأْيٌ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى طَرِيقِ مَكِدُونِيَّةَ».
    ص ٩: ٢٣ و٢٣: ١٢ و٢٥: ٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٦
    صَرَفَ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ والمرجّح أنه تقضى عليه أكثر هذه المدة في كورنثوس وأنه كتب حينئذ رسالتيه لأهل رومية ولأهل غلاطية. ولم يذكر لوقا في هذا السفر أمور تلك الزيارة بالتفصيل لكن نعلم من رسالة بولس إلى أهل رومية أنه نزل في كورنثوس ضيفاً على غايوس (رومية ١٦: ٢٣) وأن أكيلا وبريسكلا رجعا من أفسس إلى رومية (رومية ١٦: ٣) وأنه رجع معهما إلى هنالك أناس تعرّف بهم في أفسس وكورنثوس. ونستنتج من هذا أن أمر كلوديوس بذهاب اليهود من رومية كان قد نُسخ أو نُسي (ص ١٨: ٢)
    مَكِيدَةٌ المراد بالمكيدة هنا مؤامرة سرّية في القتل.
    مِنَ ٱلْيَهُودِ الذين أظهروا سابقاً بغضهم لبولس ولم يمكنهم الوالي من بغيتهم (ص ١٨: ١٤).
    أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سُورِيَّةَ الأرجح أنه عزم على النزول في سفينة من كنخزيا ميناء كورنثوس وأن يذهب فيها إلى سورية رأساً كما فعل سابقاً (ص ١٨: ١٨) فبلغه أن اليهود كمنوا له لكي يقتلوه إما في السفينة وإما في طريقه إليها فعدل عن عزمه وسافر براً في طريق مكدونية شمالاً.
    عَلَى طَرِيقِ مَكِدُونِيَّةَ ومنها إلى ترواس وما يليها من البلاد إلى سورية.
    ٤ «فَرَافَقَهُ إِلَى أَسِيَّا سُوبَاتَرُسُ ٱلْبِيرِيُّ، وَمِنْ أَهْلِ تَسَالُونِيكِي: أَرِسْتَرْخُسُ وَسَكُونْدُسُ وَغَايُسُ ٱلدَّرْبِيُّ وَتِيمُوثَاوُسُ. وَمِنْ أَهْلِ أَسِيَّا: تِيخِيكُسُ وَتُرُوفِيمُسُ».
    ص ١٩: ٢٩ و٢٧: ٢ وكولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤ ص ١٩: ٢٩ ص ١٦: ١ أفسس ٦: ٢١ وكولوسي ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢ ص ٢١: ٢٩ و٢تيموثاوس ٤: ٢٠
    فَرَافَقَهُ بعض المؤمنين للمساعدة على التبشير كما جرت العادة ولحمل إحسان الكنائس إلى كنيسة أورشليم ويكونوا باكورة الأمم للمسيح. ولم يرافقه هؤلاء من كورنثوس بل سبقوه في البحر إلى ترواس ومن هنالك رافقوه.
    سُوبَاتَرُسُ هذا مختصر سوسيباترس المذكور في (رومية ١٦: ٢١) وهو من أنسباء بولس.
    ٱلْبِيرِيُّ أي من أهل بيرية التي رحب يهودها ببولس (ص ١٧: ١١).
    أَرِسْتَرْخُسُ هو المذكور في (ص ١٩:٢٩).
    سَكُونْدُسُ اسم لاتيني معناه الثاني ولم يُذكر في غير هذا الموضع من العهد الجديد.
    وَغَايُسُ ٱلدَّرْبِيُّ هذا غير غايوس المذكور في (ص ١٩: ٢٩) لأن ذاك مكدوني في الأصل وهذا من دربة ليكأونية.
    تِيخِيكُسُ هو رسول بولس إلى الكنائس (أفسس ٦: ٢١ و٢٢ وكولوسي ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢).
    وَتُرُوفِيمُسُ هو من أهل أفسس (ص ٢١: ٢٩) حضر مع بولس في أورشليم فكان حضوره علة قبض اليهود على بولس وسجنه على غير قصد منه (ص ٢١: ٢٩) تركه بولس بعد ذلك في ميليتوس مريضاً (٢تيموثاوس ٤: ٢٠).
    ٥ «هٰؤُلاَءِ سَبَقُوا وَٱنْتَظَرُونَا فِي تَرُوَاسَ».
    هٰؤُلاَءِ السبعة المذكورون.
    ٱنْتَظَرُونَا عدل لوقا هنا عن صيغة الغيبة التي جرى عليها منذ ذهاب بولس من فيلبي قبل هذا بخمس سنين إلى صيغة التكلم. ونستنتج من ذلك أنه رجع إلى مرافقة بولس. والأرجح أنه لم يتركه من هذا الوقت (أي سنة ٥٧ ب. م) إلى السنة الثانية والستين التي فيها وُكلت حراسته إلى العكسري في رومية.
    تَرُوَاسَ انظر شرح (ص ١٦: ٨).
    ٦ «وَأَمَّا نَحْنُ فَسَافَرْنَا فِي ٱلْبَحْرِ بَعْدَ أَيَّامِ ٱلْفَطِيرِ مِنْ فِيلِبِّي، وَوَافَيْنَاهُمْ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ إِلَى تَرُوَاسَ، حَيْثُ صَرَفْنَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ».
    خروج ١٢: ١٤ و١٥ و٢٣: ١٥ ص ١٦: ٨ و٢كورنثوس ٢: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ١٣
    أَيَّامِ ٱلْفَطِيرِ أي أسبوع الفصح وهي من ١٥ نيسان في حساب اليهود إلى ٢٢ منه.
    خَمْسَةِ أَيَّامٍ شغلوها بقطع بحر إيجيان الفاصل بين آسيا وأوربا والمسافة نحو ١٧٠ ميلاً على أن هذه المسافة قطعها بولس قبلاً بيومين (ص ١٦: ١١) والأرجح أن هذا الفرق كان لاختلاف الريح. ولا ريب في أن بولس حين بلغ ترواس ذكر الرؤيا التي رآها فيها والمكدوني يدعوه قائلاً «اعبر إلينا وأعنا» وكانت حينئذ بلاد أوربا أمامه بلا مبشر ولا كنيسة وأكثر سكانها عبدة أوثان فأجاب تلك الدعوة وذهب إليها. وهنا رجع إلى حيث ابتدأ سفره بعد خمس سنين ومعه ثلاثة من باكورة المسيحيين في أوربا وترك في مدن مكدونية وأخائية كثيراً من الكنائس المسيحية المنتظمة في نجاح وقد انتشرت خميرة الإنجيل إلى كل الكور المجاورة لها.

    الاجتماع في ترواس ع ٧ إلى ١٢


    ٧ «وَفِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزاً، خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي ٱلْغَدِ، وَأَطَالَ ٱلْكَلاَمَ إِلَى نِصْفِ ٱللَّيْلِ».
    يوحنا ٢٠: ٢٦ و١كورنثوس ١٦: ٢ ورؤيا ١: ١٠ ص ٢: ٤٢ و٤٦ و١كورنثوس ١٠: ١٦ و١١: ٢ الخ
    فِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ أي يوم الأحد. يظهر من هذا أن يوم قيامة المسيح صار يوم اجتماع المسيحيين للعبادة لأنه ذُكر هنا كأمر معهود مسلم به وقد ذُكر في (١كورنثوس ١٦: ٢) وقد جعلوه يوم جمع الإحسان للفقراء فلو لم يكن الاجتماع العام ما ناسب أن يكون يوماً لذلك الجمع. وجاء كذلك أيضاً في (رؤيا ١: ١٠) وسُمي هنالك يوم الرب. فاتضح أن التلاميذ اتفقوا على حفظ يوم الأحد وتعيينه للعبادة منذ قيامة الرب ويدل على هذا ما جاء في (يوحنا ٢٠: ١٩ و٢٦) ففي الآية التاسعة عشرة ذكر اجتماع الرسل للعبادة في أول الأسبوع وفي السادسة والعشرين ذكر اجتماعهم أيضاً لها بعد «ثمانية أيام» أي أسبوع حسب اصطلاح اليهود. ولكن المتنصرين من اليهود ظلوا يحفظون يوم السبت أيضاً إلى أن أُخربت أورشليم ومن ثم لم يحفظوا سوى الأحد إلا فرقة الأبيونيين المتوغلين في اليهودية أكثر من النصرانية.
    لِيَكْسِرُوا خُبْزاً كان معظم قصدهم تناول العشاء الرباني طوعاً لأمر الرب (متّى ٢٦: ٢٦) وكانوا يأتون ذلك على أثر وليمة المحبة (ص ٢: ٤٢ و٤٦ و١كورنثوس ١١: ٢٠ - ٢٢) وغلب إتيانهم ذلك في العشية.
    أَطَالَ ٱلْكَلاَمَ الخ علة إطالته الوعظ كون ذلك الوقت آخر فرصة توقعها لمخاطبتهم ولانشغال بعض ذلك الوقت بسقوط أفتيخس وما تعلق به فلا عجب أن شغل قسماً عظيماً من الليل بالحديث الروحي والمسائل والأجوبة.
    ٨ «وَكَانَتْ مَصَابِيحُ كَثِيرَةٌ فِي ٱلْعُلِّيَّةِ ٱلَّتِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهَا».
    ص ١: ١٣
    مَصَابِيحُ كَثِيرَةٌ لم نعلم ما العلة التي أوجبت ذكر هذا الأمر الذي يظهر أنه ليس ذي شأن. قال بعضهم ذكر ذلك على وفق عادة اليهود في الاجتاعات ليلاً. وقال آخر أن المسيحيين أكثروا المصابيح دفعاً لظن أعدائهم أنهم اجتمعوا ليلاً لأعمال سرية قبيحة. وقال غيره ذُكر بياناً لعلة نوم أفتيخوس لأن زيادة الحرارة بكثرة المصابيح فضلاً عن ازديادها بكثرة الناس توجب النعاس. والأرجح أن لوقا لما كتب هذه الحادثة صور أمامه كل شيء كما رآه العلّية وكثرة المصابيح والازدحام والشاب الجالس في الكوّة وذكره كما هي بجوهرياتها وعرضياتها.
    ٩ «وَكَانَ شَابٌّ ٱسْمُهُ أَفْتِيخُوسُ جَالِساً فِي ٱلطَّاقَةِ مُتَثَقِّلاً بِنَوْمٍ عَمِيقٍ. وَإِذْ كَانَ بُولُسُ يُخَاطِبُ خِطَاباً طَوِيلاً، غَلَبَ عَلَيْهِ ٱلنَّوْمُ فَسَقَطَ مِنَ ٱلطَّبَقَةِ ٱلثَّالِثَةِ إِلَى أَسْفَلُ، وَحُمِلَ مَيِّتاً».
    ٱلطَّاقَةِ أي الكوة مفتوحة المصراعين لتجديد الهواء لأن هواء العلّية كان يفسد بأنفاس الناس وأبخرة المصابيح. والأرجح أن علة جلوسه في الكوة أنه ما لقي مجلساً آخر لكثرة المجتمعين.
    ٱلطَّبَقَةِ ٱلثَّالِثَةِ كان التلاميذ الأولون يجتمعون في العلية في أورشليم (أعمال ١: ١٣) لأنه لم يكن لهم من كنيسة. وكان المسيحيون في كل الأماكن التي دخلتها الديانة الجديدة اضطروا أن يجتمعوا في أوفق ما يستطيعون وجدانه من الأماكن للاجتماع وغلب أن تكون مجتمعاتهم علالي المساكن.
    حُمِلَ مَيِّتاً حقيقة.
    ١٠ «فَنَزَلَ بُولُسُ وَوَقَعَ عَلَيْهِ وَٱعْتَنَقَهُ قَائِلاً: لاَ تَضْطَرِبُوا لأَنَّ نَفْسَهُ فِيهِ».
    ١ملوك ١٧: ٢١ و٢ملوك ٤: ٣٤ متّى ٩: ٢٤
    فَنَزَلَ بُولُسُ من العلّية إلى ساحة الدار أو الزقاق.
    وَقَعَ عَلَيْهِ وَٱعْتَنَقَهُ كما فعل إيليا في إقامة ابن الشونمية (١ملوك ١٧: ٢١) وأليشع (٢ملوك ٤: ٣٣ - ٣٥). وفعله كذلك دل على رقة قلبه وشفقته وعلى رغبته الشديدة في رجوع الحياة إليه ولا بد من أنه قرن ذلك العمل بالصلاة سراً أو علانية.
    قَائِلاً للأقرباء وسائر التلاميذ المحيطين بهما.
    لاَ تَضْطَرِبُوا أي لا تقلقوا آيسين ولا تولولوا كما يفعل أهل الميت عادة.
    لأَنَّ نَفْسَهُ فِيهِ أي رجعت إليه. وهذا يذكرنا قول المسيح «لم تمت الصبية لكنها نائمة» (مرقس ٥: ٣٩) وكان الواقع كما قال (ع ١٢) فكانت زيارة بولس الأولى لترواس مقترنة برؤيا سماوية وإعلان وزيارته الثانية لها بمعجزة.
    ١١ «ثُمَّ صَعِدَ وَكَسَّرَ خُبْزاً وَأَكَلَ وَتَكَلَّمَ كَثِيراً إِلَى ٱلْفَجْرِ. وَهٰكَذَا خَرَجَ».
    صَعِدَ إلى العلية.
    وَكَسَّرَ خُبْزاً وَأَكَلَ الأرجح أن هذا هو العشاء الرباني الذي كان الاجتماع لأجله وأنه حين وقع أفتيخوس لم يكن قد أنجزه لكن يحتمل أنه الطعام الذي تناوله بولس قبل السفر.
    وَتَكَلَّمَ في الأمور الروحية على سبيل الحديث لا الوعظ.
    إِلَى ٱلْفَجْرِ هذا دليل قاطع على غيرة بولس في الخطاب ورغبة الناس في السماع.
    ١٢ «وَأَتَوْا بِٱلْفَتَى حَيّاً، وَتَعَزَّوْا تَعْزِيَةً لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ».
    حَيّاً هذا يسند قولنا في شرح ع ٩ أنه مات حقيقة فلو كان قد أُغشي عليه لقال منتبهاً أو منتعشاً. وهذا علة عودهم إلى العلية واستئناف بولس الخطاب بعد النازلة.
    وَتَعَزَّوْا الخ بعوده حياً.

    سفر بولس من ترواس إلى ميليتس ع ١٣ إلى ١٦


    ١٣ «وَأَمَّا نَحْنُ فَسَبَقْنَا إِلَى ٱلسَّفِينَةِ وَأَقْلَعْنَا إِلَى أَسُّوسَ، مُزْمِعِينَ أَنْ نَأْخُذَ بُولُسَ مِنْ هُنَاكَ، لأَنَّهُ كَانَ قَدْ رَتَّبَ هٰكَذَا مُزْمِعاً أَنْ يَمْشِيَ».
    نَحْنُ أي لوقا الكاتب ورفقاؤه سوى بولس.
    فَسَبَقْنَا أي سافرنا قبل بولس وأن ذُكر خروجه قبل هذا (انظر ع ١١).
    إِلَى ٱلسَّفِينَةِ التي قصدوا السفر فيها. ولا نعلم إن كانت هي التي أتوا فيها إلى ترواس أم غيرها. فإن كانت هي التي أتوا فيها فلعلها هي سبب إقامتهم سبعة أيام في ترواس لكي توزع محمولها وتحمل غيره أو لتوقّع الملاحين الريح الموافقة.
    أَسُّوسَ هي فرضة جنوبي ترواس على أمد ٢٤ ميلاً منها.
    نَأْخُذَ بُولُسَ في السفينة بمقتضى ما رتب.
    مُزْمِعاً أَنْ يَمْشِيَ كان الطريق إلى أسوس براً نحو نصف الطريق إليها في البحر لأنه منحن حول رأس لكتوم. ولماذا اختار بولس أن يمشي نحو سبع ساعات ذلك لا نعلمه. ربما قصد ذلك بغية الرياضة أو بغية الانفراد للصلاة والتأمل مما لم يستطعه في السفينة أو لمرافقة بعض الإخوة من أهل ترواس.
    ١٤ «فَلَمَّا وَافَانَا إِلَى أَسُّوسَ أَخَذْنَاهُ وَأَتَيْنَا إِلَى مِيتِيلِينِي».
    أَخَذْنَاهُ كما رتب.
    مِيتِيلِينِي هي قصبة جزيرة لسبس واليوم تُسمى الجزيرة كلها ميتيليني باسم قصبتها والمسافة بينها وبين أسوس ثلاثون ميلاً.
    ١٥ «ثُمَّ سَافَرْنَا مِنْ هُنَاكَ فِي ٱلْبَحْرِ وَأَقْبَلْنَا فِي ٱلْغَدِ إِلَى مُقَابِلِ خِيُوسَ. وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلآخَرِ وَصَلْنَا إِلَى سَامُوسَ، وَأَقَمْنَا فِي تُرُوجِيلِيُّونَ، ثُمَّ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي جِئْنَا إِلَى مِيلِيتُسَ».
    ٢تيموثاوس ٤: ٢٠
    ثُمَّ سَافَرْنَا كان من عادة الملاحين في تلك الأيام أن يرسوا ليلاً إذا أمكنهم توقياً للخطر ويسافروا نهاراً.
    خِيُوسَ جزيرة كبيرة وافرة الخصب طولها نحو ٣٢ ميلاً واسمها اليوم شيو وصاقس والمسافة بينها وبين ميتيليني ستون ميلاً.
    سَامُوسَ جزيرة كبيرة في طريقهم ولم تزل معروفة بهذا الاسم وهي ذات آكام كثيرة اشتهرت بكونها مولد فيثاغورس الفيلسوف اليوناني وبوفرة عبادة يونو امرأة زفس والمسافة بينها وبين خيوس نحو سبعين ميلاً.
    تُرُوجِيلِيُّونَ مدينة في البر شرقي ساموس وعلى أمد عشرين ميلاً منها.
    مِيلِيتُسَ مدينة على مصب نهر قيستر بينها وبين أفسس مسافة ٣٠ ميلاً وأفسس نفسها على ذلك النهر.
    ١٦ «لأَنَّ بُولُسَ عَزَمَ أَنْ يَتَجَاوَزَ أَفَسُسَ فِي ٱلْبَحْرِ لِئَلاَّ يَعْرِضَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ وَقْتاً فِي أَسِيَّا، لأَنَّهُ كَانَ يُسْرِعُ حَتَّى إِذَا أَمْكَنَهُ يَكُونُ فِي أُورُشَلِيمَ فِي يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ».
    ص ١٨: ٢١ و١٩: ٢١ و٢١: ٤ و١٢ و٢٤: ١٧ ص ٢: ١ و١كورنثوس ١٦: ٨
    أَنْ يَتَجَاوَزَ أَفَسُسَ أن يمر بها بحراً ولا يدخلها خوفاً من أن يتعوّق هنالك كثيراً من إلحاح أصدقائه عليه بالإقامة وشدة ميله إلى إجابتهم. فإن قيل ما الفرق بين ذهابه إلى أفسس وإرساله إلى شيوخها أن يوافوه إلى ميليتس قلنا أن تجربة العاقة في ميليتس أقل منها في أفسس وهو في ميليتس على أهبة السفر في أي وقت عزمت فيه السفينة الإقلاع.
    إِذَا أَمْكَنَهُ هذا يدل على شيء من الرب في بلوغ السفينة مرساها المقصود في الوقت المراد. وهذا الريب من شأن كل مسافر في سفينة شراعية لاحتمال سكون الريح أو هبوب الريح المضادة لجهة السير أو لشغل أرباب السفينة وقتاً طويلاً بتوزيع المحمول في الفرَض التي على الطريق.
    فِي أُورُشَلِيمَ فِي يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ لا نعلم كل الأسباب التي حمتله على الاجتهاد في ذلك ولعل منها أن يحصل على فرصة الاجتماع بربوات الزوار الآتين من كل أقطار المسكونة في ذلك العيد وأن يقنع اليهود منهم بأن يسوع هو المسيح والمتنصرين من اليهود أن يرتضوا بمشاركة الأمم في فوائد الدين المسيحي بدون الخضوع لرسوم الناموس. وأن يبرر نفسه قدامهم من اتهام أعدائه إياه باحتقاره الديانة اليهودية. ويحتمل أيضاً أن الحامل له على ذلك رغبته في حضور العيد واشتراكه مع غيره في الفوائد الروحية التي قصد الله أن تكون في الأعياد. ولم يكن بينه وبين العيد يومئذ سوى ثمانية وعشرين يوماً فإنه لم يترك فيلبي إلا بعد نهاية أسبوع الفصح. فشغل بالسفر من فيلبي إلى ترواس خمسة أيام (ع ٦) وأقام بترواس سبعة أيام (ع ٧) وشغل بالسفر من ترواس إلى ميليتس خمسة أيام وتقضى عليه أربعة أيام في ميليتس ومجموع ذلك واحد وعشرون يوماً فالباقي من التسعة والأربعين يوماً ما بين العيدين ثمانية وعشرون يوماً شغلها بالسفر إلى أورشليم وتفصيل ذلك ما يأتي. تقضى علي من ميليتس إلى خيوس يوم ومنها إلى رودس يوم ومنها إلى بتارا يوم ومنها إلى صور خسمة أيام وأقام بصور سبعة أيام. ومنها إلى بتولمايس يوم واقام بها يوماً. ومنها إلى قيصرية يوم وأقام بها سبعة أيام. ومنها إلى أورشليم ثلاثة أيام والمجموع ثمانية وعشرون يوماً. والمسافة بين فيلبي وأورشليم على خط مستقيم نحو ألف ميل ولكن المسافة التي قطعها بولس براً وبحراً ليست أقل من ألف وخمس مئة ميل.

    خطاب بولس لقسوس أفسس ع ١٧ إلى ٢٨


    ١٧ «وَمِنْ مِيلِيتُسَ أَرْسَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَٱسْتَدْعَى قُسُوسَ ٱلْكَنِيسَةِ».
    ص ١١: ٣٠ وع ٢٨ وص ١٤: ٢٣ وتيطس ١: ٥
    المراد «بالكنيسة» في هذه الآية جماعة المؤمنين في أفسس وحدها لأن قصر الوقت لم يسمح له أن يدعو قسوس المدن المجاورة لها. والمسمون «قسوساً» هنا سُموا «أساقفة» في الآية الثامنة والعشرين. وهذا يبين أنهما اسمان لذوي رتبة واحدة. وعلة دعوته لهؤلاء القسوس أنهم نواب الكنيسة كلها وأن لهم تأثيراً عظيماً في قسوس سائر كنائس آسيا. ولعل النسبة بين كنيسة أفسس وكنائس آسيا كالنسبة بين كنيسة أورشليم وسائر كنائس اليهودية. ومهما تكن النسبة فإنه عندما خاطبهم بولس خاطب بواسطتهم قسوس كل تلك الكورة بل قسوس كل كنيسة في كل مكان ولذلك كتب هنا بوحي روح الله.
    ١٨ «فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ دَخَلْتُ أَسِيَّا، كَيْفَ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ ٱلزَّمَانِ».
    ص ١٨: ١٩ و١٩: ١ و١٠
    قَالَ لَهُمْ ليس لنا من خطاب بولس هنا سوى خلاصته على ما يرجح ولكن هذا الخطاب من أهم خطابات بولس المذكورة في هذا السفر في إيضاح واجبات الرعاة المسيحيين لرعاياهم في كل مكان وزمان ويمكننا قسمة هذا الخطاب ثلاثة أقسام:

    • الأول: ذكر ما سلف من سيرته بينهم وأسباب سرعة ذهابه عنهم (ع ١٨ - ٢٤).
    • الثاني: حثه إياهم على الأمانة وتحذيره إياهم من أخطار المستقبل (ع ٢٥ - ٣١).
    • الثالث: تذكيره إياهم أتعابه بينهم وحثهم على الاقتداء به (ع ٣٢ - ٣٥) وختم كلامه باستيداعه إياهم نعمة الله وبذكر شيء من أقوال لم تذكر في غير هذا الموضع.


    أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أمانتي وحسن سيرتي وخلوص محبتي فتقدرون أن تحكموا بصدق ما أقول لأنكم قد اختبرتموني ثلاث سنين وإن قال أعدائي خلاف ما أقول. وقول بولس هنا يذكرنا قول صموئيل لبني إسرائيل بعدما اختاروا شاول ملكاً لهم (١صموئيل ١٢: ١ - ٢٥) قابل هذا بخطاب يشوع الوداعي للإسرائيليين (ص ٢٣ وص ٢٤).
    مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ دَخَلْتُ منذ ثلاث سنين.
    كَيْفَ كُنْتُ مَعَكُمْ باعتبار أني كنت ساكناً بينكم صديقاً ومبشراً ورسولاً ليسوع المسيح.
    كُلَّ ٱلزَّمَانِ الذي تقضى عليّ في أفسس.
    ١٩ «أَخْدِمُ ٱلرَّبَّ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ وَدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَبِتَجَارِبَ أَصَابَتْنِي بِمَكَايِدِ ٱلْيَهُودِ».
    ع ٣
    أَخْدِمُ ٱلرَّبَّ هذا وما بعده تفصيل لقوله «كيف كنت معكم» وهذا مثل قوله «بولس عبد ليسوع المسيح» (رومية ١: ١ وغلاطية ١: ١٠ وفيلبي ١: ١ وتيطس ١:١) والمراد أنه قد قام بكل ما يجب عليه باعتبار كونه مسيحياً ورسولاً.
    بِكُلِّ تَوَاضُعٍ استشهدهم أنه لم يتظاهر بشيء من الكبرياء ولم يرغب في أن يمدحه الناس ولا في أن يسود رعية المسيح ولا في أن يفتخر بكونه رسولاً أو بصنعه المعجزات أو بنجاح أتعابه. فالإنسان يغلب أن يزيد تواضعاً كلما زاد علماً وقداسة.
    وَدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ علة هذه الدموع شفقته على الذين قاوموا الحق لهلاك أنفسهم وأهانوا المخلص الذي هو أحبه وأن الذين أراد الخير لهم جاوزه بالبغض وفرط رغبته في خلاص الهالكين (٢كورنثوس ٢: ٤ وفيلبي ٣: ١٨ و٢تيموثاوس ١: ٤) وذكر بولس دموعه ثلاث مرات في هذا الخطاب هنا وفي (ع ٣١ وع ٣٧). وكذا بكى المسيح لشعوره بأحزان غيره (يوحنا ١١: ٣٥) ولحزنه على أورشليم لأنها لم تتب (لوقا ١٩: ٤١). ودموع بولس دليل قاطع على رقة قلبه وشعوره مع إخوته بمصائبهم وشدة رغبته في نفعهم ولكن فلاسفة اليونان علموا تلاميذهم أن يميتوا كل هذه الإحساسات وأن يحترسوا كل الاحتراس من إظهارهم أمارتها.
    وَبِتَجَارِبَ أي مصائب.
    بِمَكَايِدِ ٱلْيَهُودِ أي بذل جهدهم في منع نفعه للناس وإفساد صيته وإتلاف حياته.
    إنهم أبغضوه لغيرته ليسوع ولنجاحه في اقتياد الناس إلى الإيمان به ولا سيما شدة رغبته في خلاص الأمم الذين هم أبغضوهم. ولا نبأ بمكايد اليهود في أفسس غير ما ذُكر في (ص ١٩: ٩). ولا ريب في أن عداوتهم لم تقل عن عداوة اليهود في دمشق وكورنثوس وتسالونيكي وأنطاكية بيسيدية وأورشليم.
    ٢٠ «كَيْفَ لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ إِلاَّ وَأَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ جَهْراً وَفِي كُلِّ بَيْتٍ».
    ع ٢٧
    ما في هذه الآية بيان لأمانة بولس باعتبار كونه مبشراً وراعياً واجتهاده في تعليم الناس كلمة الله وتوبيخه للخطأة.
    لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ أي أني لم أترك وسيلة من وسائل النفع لنفوسكم خوفاً من أن أخسر محبتكم وأهيّج غضبكم.
    أَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ ما أفاده في العبارة السابقة سلباً أفاده هنا إيجاباً والمعنى أنه أعلن لهم الحق كما أعلن في كتاب الله.
    جَهْراً في مجمع اليهود في مدرسة تيرانس حيث الاجتماعات العامة.
    وَفِي كُلِّ بَيْتٍ أشار بهذا إلى مخاطبته الأفراد على انفراد في شأن نفوسهم. وهذا وما قبله يشتمل على كل وسائل تبليغ الحق للناس فالراعي الأمين لا يكتفي باتخاذ إحدى هاتين الطريقتين دون الأخرى فإن كثيرين من الناس لا يؤثر فيهم كلام الواعظ وهو يخاطبهم مع الجماعة ولكنه يؤثر فيهم حالاً إذا خاطبهم على انفراد قائلاً لهم كما قال ناثان لداود «أنت هو الرجل» (٢صموئيل ١٢: ٧).
    ٢١ «شَاهِداً لِلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ بِٱلتَّوْبَةِ إِلَى ٱللّٰهِ وَٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
    ص ١٨: ٥ مرقس ١: ١٥ ولوقا ٢٤: ٤٧ وص ٢: ٣٨
    صرّح بولس في ما سبق أن خدمته بينهم كانت بالتواضع والوداد والاجتهاد والأمانة وبيّن هنا ما كان موضوع مخاطبته لهم.
    شَاهِداً كانت خلاصة تعليمه الشهادة للحق على وفق قول المسيح لرسله «تكونون لي شهوداً» (ص ١: ٨).
    لِلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ أي لكل صنوف الناس لأنهم كلهم خطأة محتاجون على السواء والإنجيل لكلهم وشروط الخلاص واحدة للجميع.
    بِٱلتَّوْبَةِ إِلَى ٱللّٰهِ هذا أول الأمرين اللذين يعمّان كل شهادة بولس للحق وهو ضرورية التوبة وهي الرجوع من الخطيئة إلى القداسة ومن العصيان لله إلى الخضوع له وكانت التوبة «إلى الله» لأن الخاطئ خطئ إليه تعالى والله نفسه يدعو إلى التوبة ويعد بالمغفرة وأنه هو وحده يقدر أن يغفر الخطيئة.
    ٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِرَبِّنَا الخ هذا الأمر الثاني من تلك الشهادة وهذا الإيمان يتضمن الاتكال على المسيح مخلصاً وشفيعاً «لأنه مات على الصليب من أجل خطايانا وهو جالس الآن عن يمين الله ليشفع فينا وليس بأحد غيره الخلاص» (انظر شرح ص ٤: ١٢ ومرقس ١٦: ١٦). وهذان الأمران أي التوبة والإيمان يشتملان على كل ما يجب على الإنسان لنوال الخلاص ولا ينفصل أحدهما الأخر. فلا يمكن الإيمان الحقيقي ما لم يكن القلب تائباً والتوبة بلا إيمان لا تؤدي إلى اليأس.
    ٢٢ «وَٱلآنَ هَا أَنَا أَذْهَبُ إِلَى أُورُشَلِيمَ مُقَيَّداً بِٱلرُّوحِ، لاَ أَعْلَمُ مَاذَا يُصَادِفُنِي هُنَاكَ».
    ص ١٩: ٢١
    انتقل بولس في هذه الآية من التكلم في الماضي إلى التكلم في المستقبل.
    مُقَيَّداً بِٱلرُّوحِ مضطراً على القيام بما يخبرني ضميري أنه واجب عليّ غير مكترث بتهديد أعدائي وغير ممنوع من الذهاب بإلحاحات أصدقائي.
    لاَ أَعْلَمُ الخ فكونه رسولاً ملهماً ليعلم الناس ويصنع المعجزات وينبئ ببعض المستقبلات لم يقدره على أن يعلم كل الأمور ولا سيما مستقبل حياته.
    مَاذَا يُصَادِفُنِي هُنَاكَ أي في أورشليم. لم يعلم نوع الخطر الذي يقع عليه هناك ولا عاقبته أيحيا بعده أو يموت به. فعلى كل مسيحي أن يسير في طريق الواجبات غير مبال بالأهوال فما يسمح الله به وهو سائر في تلك الطريق هو الأفضل.
    ٢٣ «غَيْرَ أَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقاً وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي».
    ص ٢١: ٤ و١١ و١تسالونيكي ٣: ٣
    هذا تفسير لما قاله في الآية السابقة والمعنى أن الروح القدس الذي حجب عني النوازل التي تصادفني في أورشليم كشف لي الذي يجب أن اتوقعه بالإجمال حيث توجهت.
    فِي كُلِّ مَدِينَةٍ أي في كثير منها لأنه جُلد في بعضها وسُجن في آخر ورُجم في غيره وكان الخطر عليه في كل مكان.
    قَائِلاً إما بإعلان له برؤيا أو حلم أو بالإعلان لغيره من الأنبياء فأنبأه به كما في (ص ٢١: ١٠ - ١٢) أو بما اختبره من مصائبه في فيلبي وتسالونيكي وكورنثوس وغيرها فكان دليلاً على ما يتوقعه أيضاً وهذا إنجاز بما أُعلن له يوم آمن بقوله «لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي» (ص ٩: ١٦).
    وُثُقاً كما أصابه في سجن فيلبي وما ذُكر في (٢كورنثوس ١١: ٢٣).
    شَدَائِدَ كالجلد والرجم.
    تَنْتَظِرُنِي أي معدة لي حتى أتوقع وقوعها عليّ.
    ٢٤ «وَلٰكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَٱلْخِدْمَةَ ٱلَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ».
    ص ٢١: ١٣ ورومية ٨: ٣٥ و٢كورنثوس ٤: ١٦ و١٧ ٢تيموثاوس ٤: ٧ ص ١: ١٧ و٢كورنثوس ٤: ١ و١١: ٥ و٢٣ غلاطية ١: ١ وتيطس ١: ٣
    لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ يعني أن توقعه تلك الشدائد لا يغير شيئاً من عزمه على الذهاب. فمحبة بولس للمسيح وغيرته في خدمته جعلتاه ينسى نفسه ولا يهتم بالمخاوف. وهذا موافق لقوله «لِذٰلِكَ أُسَرُّ بِٱلضَّعَفَاتِ وَٱلشَّتَائِمِ وَٱلضَّرُورَاتِ وَٱلٱضْطِهَادَاتِ وَٱلضِّيقَاتِ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ١٢: ١٠ انظر أيضاً فيلبي ١: ٢١ و٣: ٧ - ١٥).
    وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي فأنا مستعد أن أبذلها في خدمة المسيح فإن القيام بالواجبات أعدّه أثمن من الحياة. ومثل هذا يجب على كل مسيحي. وإذا خير بين خسارة حياته وترك واجباته وجب أن يختار الأول.
    حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي هذا ما عزم عليه عزماً لا يرجعه عنه قيود ولا موت. وعنى «بالسعي» العمل الذي عيّنه الرب له باعتبار كونه مؤمناً ورسولاً (أعمال ٩: ١٥ - ١٧ وغلاطية ١: ١٧). وأراد «بالسعي» هنا العدو والمحاضرة أي السباق. ووجه تشبيه الرسول عمله بالمحاضرة الاجتهاد في إدراك الجعالة والسرور بنوالها فإن هذا الرسول كثيراً ما شاهد المتسابقين في الميدان يوم كان في المدن المعتادة ذلك ولا سيما كورنثوس فأحب إيضاح مراده الروحي باستعارة ما عهدوه في ملاعبهم (قابل هذا بما في ص ١٣: ٣٥ ورومية ٩: ١٦ و١كورنثوس ٩: ٢٤ و٢٦ وغلاطية ٢: ٢ و٥ و٧ وفيلبي ٢: ١٦ و٣: ١٤ وعبرانيين ١٢: ١). ومن ذلك قوله في آخر حياته «قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ، وَأَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ الخ» (٢كورنثوس ٤: ٧ و٨) وكان فرح بولس بخدمة الرب كفرح السابقين في المحاضرة. وهذا الفرح نتاج راحة ضميره ومدحه إياه ورضى الله به.
    وَٱلْخِدْمَةَ هذا تفسير للسعي الذي أراد به الرسولية والتبشير بالإنجيل (انظر ص ١: ١٧ و٢٥ وقابل ذلك بما في رومية ١١: ١٣).
    أَخَذْتُهَا مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ دعوة يسوع إيّاه إلى هذه الخدمة جعلتها سارة جداً وأثمن من حياته. وكانت تلك الدعوة عندما آمن (ص ٩: ١٥ و١٧ انظر أيضاً ص ٢٢: ١٥ و٢١).
    لأَشْهَدَ تأدية الشهادة ليسوع وبصدق دينه هي الخدمة الرسولية. وكان بولس قادراً على أن يشهد للإنجيل من اختباره تأثيره في نفسه. وتلك التأدية وكلها الله إلى كل خدمه المبشرين.
    بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ وهي أن الله يغفر لكل الذين يؤمنون بالمسيح ويخلصهم وهذا من أسرّ الأنباء لعالم الخطأة الهالكين.
    وللرعاة في هذه الآية أربع فوائد:

    • الأولى: إن لكل منهم سعياً يسعاه أي خدمة يقوم بها.
    • الثانية: أنه يجب عليهم أن لا يمتنعوا عن القيام بتلك الخدمة خوفاً من الشدائد أو الموت فمن عمل إرادة الله اطمأن فالخوف على من لم يعلمها ويجعل الله عدواً له.
    • الثالثة: إن على كل منهم أن يسير في سبيل تكون نهايتها سلاماً وفرحاً.
    • الرابعة: إنه يجب على كل منهم أن لا يسأل عن كيفية موته أو وقته بل يجتهدوا في أن يكون إذا أتاه الموت مزاولاً تتميم أمر الرب.


    ٢٥ «وَٱلآنَ هَا أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً، أَنْتُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِينَ مَرَرْتُ بَيْنَكُمْ كَارِزاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
    ع ٣٨ ورومية ١٥: ٢٣
    أَنَّكُمْ أنتم قسوس كنيسة أفسس ونوابها.
    لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً يتضح من ذلك أن بولس لم ينتظر أن يرجع إلى أفسس أيضاً وأن يراهم بعد فظن أنه يودّعهم ويودّع بلادهم الوداع الأخير وبنى هذا الظن على قصده أن يذهب إلى بلاد أخرى للتبشير وهي إيطاليا وأسبانيا (ص ١٩: ٢١ ورومية ١٥: ٢٣ - ٢٨) وعلى اختباره النوازل والأخطار في الزمن السابق وعلى معرفته بكثرة الأعداء العازمين على قتله ولا سيما الذين في أورشليم التي كان متوجهاً إلها وعلى شهادة الروح المذكورة في (ع ٢٣) وعلى احتمال أنه لا يجدهم كلهم أحياء إن رجع إليهم. والأرجح أن الأمر كان على خلاف ما ظن حينئذ لأنه رجع إلى ترواس (٢تيموثاوس ٤: ١٣) وإلى ميليتس (٢تيموثاوس ٤: ١٣) وإلى أفسس (١تيموثاوس ١: ٣).
    بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي باستيلائه تعالى على قلوب الناس في الأرض بواسطة المسيح (انظر شرح متّى ٣: ٢).
    ٢٦ «لِذٰلِكَ أُشْهِدُكُمُ ٱلْيَوْمَ هٰذَا أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ ٱلْجَمِيعِ».
    ص ١٨: ٦ و٢كورنثوس ٧: ٢
    لِذٰلِكَ أي لما شاهدتم من سيرتي وأتعابي بينكم.
    أُشْهِدُكُمُ أني أتكلم بالحق في ما سأقوله.
    ٱلْيَوْمَ هٰذَا أي آخر يوم من أيام اجتماعنا هنا.
    بَرِيءٌ مِنْ دَمِ أراد بالدم هنا الموت أي موت النفس. ومعنى العبارة أنه إن هلك أحد منهم فلا ذنب عليه لأنه علمهم وأنذرهم. وهذه العبارة مأخوذة من نبوءة (حزقيال ٣: ١٧ - ٢١ و٣٣: ١ - ٩) حيث بيّن الله المسؤولية على الرقيب. ولم يرد بولس بما قاله أنه بلا خطيئة بل إنه أراد أن ضميره مستريح بأنه قام بواجبات رسوليته.
    ٱلْجَمِيعِ أي اليهود والأمم.
    ٢٧ «لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ مَشُورَةِ ٱللّٰهِ».
    ع ٢٠ لوقا ٧: ٣٠ ويوحنا ١٥: ١٥ وأفسس ١: ١١
    لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ أي لم أمتنع من التكلم خوفاً من غضب الناس أو طمعاً في رضاهم لعلمي أن الحق مكروه بل صرّحت به علناً لكل إنسان. فيمكن أن يخطأ المبشر بسكوته حين يجب أن يتكلم أو بجعله العرضيّات جوهريّات أو الجوهريّات عرضيّات.
    بِكُلِّ مَشُورَةِ ٱللّٰهِ مما يتعلق بخلاص النفوس كاحتياج الخاطئ إلى المغفرة والتوبة ومجازاة العالم في يوم الدين على كل ما فعلوه من خير أو شر (ع ٢١). وهذا أساس ما قاله في الآية السابقة من «أنه بريء من دم الجميع». فرفع بولس بمناداته لهم بكل «مشورة الله» ما عليه من المسؤولية ووضعها عليهم. وعلى كل المبشرين اليوم أن ينادوا بكل مشورة الله لأنه تعالى طالب ذلك منهم ولأن السامعين يفتقرون إلى تلك المشورة ليدركوا الخلاص. والذي يجب على المبشرين أن ينادوا به يجب على السامعين أن ينتبهوا له وإلا فلا نفع للمناداة.
    ٢٨ «اِحْتَرِزُوا إِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ ٱلرَّعِيَّةِ ٱلَّتِي أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ».
    ١تيموثاوس ٤: ١٦ و١بطرس ٥: ٢ ع ١٧ أفسس ١: ٧ و١٤ وكولوسي ١: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٢ و١٤ و١بطرس ١: ١٩ ورؤيا ٥: ٩
    بعد ما صرّح بولس بأمانته حثهم على التمثل به.
    اِحْتَرِزُوا أي اهتموا بالغيرة والاجتهاد والمواظبة.
    لأَنْفُسِكُمْ أي لخلاصها ولتقوية إيمانها ومحبتها للمسيح وللرسوخ في العقائد الإنجيلية وطهارة السيرة (كولوسي ٤: ١٧ و١تيموثاوس ٤: ١٤). والاحتراز لأنفسهم على هذا الأسلوب شرط ضروري لنفعهم غيرهم ونبههم الرسول هذا التنبيه لعلمه أنهم عرضة لتجارب شديدة.
    ٱلرَّعِيَّةِ أي الكنيسة التي أنتم نظارها وبها سمّى المسيح تلاميذه (لوقا ١٢: ٣٢). وبها سمى بطرس جماعة المؤمنين الذين كتب إليهم (١بطرس ٥: ٢ و٣). وكثيراً ما سمى أنبياء العهد القديم شعب الله المختار «بالرعية» (إشعياء ٤٠: ١١ و٦٣: ١١ وإرميا ١٣: ١٧ و٢٣: ٢ و٣١: ١٠ و٥١: ٢٣ وحزقيال ٣٤: ٣ وميخا ٧: ١٤ وزكريا ١٠: ٣ و١١: ٤ و٧: ١٧). وسمّى يسوع نفسه «الراعي الصالح» والمؤمنين «خرافه» (يوحنا ١٠: ١ - ١٦). وسمّى بطرس المسيح «راعي نفوسنا» (١بطرس ٢: ٢٥) و «رئيس الرعاة» ١بطرس ٥: ٤).
    أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً لأن الروح القدس هو الذي عيّن هذه الخدمة في الكنيسة وهو الذي يدعو بعض الناس باطناً إليها وهو الذي يهب من دعاهم إليها المواهب التي يقتضيها القيام بما يجب عليهم وأنه هو الذي يرشد الكنيسة إلى أن تنتخب خدمها (ص ٦: ٥) أو لأنه هو الذي ينتخبهم بلا واسطة (ص ١٣: ٢) ولأنهم رُسموا بإرشاد ذلك الروح والصلاة له. والأساقفة هنا هم القسوس في الآية السابعة عشرة فيتضح من هذا أن الرتبة واحدة ويوضح الالتفات إليه أنه كلما ذُكرت أنواع الخدمة في الكنيسة لم يُذكر القسيس والأسقف معاً كأنهما ممتازان.
    لِتَرْعَوْا أي لتعملوا وتقوا من الخطر وتسوسوا كما يفعل الراعي لغنمه.
    كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ أي كنيسة المسيح لأنه إله كما أنه إنسان. ونُسبت الكنيسة هنا إلى الله كما نُسبت إليه في (١كورنثوس ١: ٢ و١٠: ٣٢ و١١: ١٦ و٢٢ و١٥: ٩ و٢كورنثوس ١: ١ وغلاطية ١: ١٣ و١تسالونيكي ٢: ١٤ و٢تسالونيكي ١: ٤ و١تيموثاوس ٣: ٥).
    ٱقْتَنَاهَا اي امتلكها بأن بذل حياته من أجلها.
    بِدَمِهِ أي بدم المسيح الذي هو إله وإنسان والدم هنا كناية عن الحياة بدليل قول الرسول «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ» (رومية ٣: ٢٥). فإذاً الكنيسة ثمينة جداً في عيني المسيح نظراً للثمن الذي اشتراها به (١بطرس ١: ١٨ و١٩). وذكر بولس هذا لقسوس أفسس ليرغبهم في الأمانة بخدمة الكنيسة المسلمة إليهم. هذا فوق ما قاله في الآية السابعة والعشرين من أنهم مدعوو الروح القدس. وهذه الآية من الأدلة على لاهوت المسيح.
    ٢٩ «لأَنِّي أَعْلَمُ هٰذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذَهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى ٱلرَّعِيَّةِ».
    متّى ٧: ١٥ و٢بطرس ٢: ١
    أَعْلَمُ لم يبيّن أبالوحي كان عالماً أم بما شاهده في كنائس أخرى أم بمعرفته خبث القلب البشري وكثرة التجارب الخارجية.
    ذَهَابِي مفارقتي إيّاكم بسفر أو موت. فكان بحضوره بينهم بعناية الله واسطة وقايتهم من الأخطار المتوقعة.
    ذِئَابٌ الذئاب أعداء الغنم أبداً فحسن أن يلقب الرسول أعداء الكنيسة الخارجيين بالذئاب كما لقّبها بالرعيّة. وقصد بهؤلاء الأعداء المضطهدين والمعلمين الضارين ولا سيما اليهود منهم. وسبقت في الإنجيل استعارة الذئاب للاشرار (متّى ٧: ١٥ و١٠: ١٦ ولوقا ١٠: ٣ ويوحنا ١٠: ١٢)
    خَاطِفَةٌ أي مفترسة مهلكة.
    لاَ تُشْفِقُ الخ نقصد أن تبدّدها وتهلكها وقد رأينا إنجاز هذه النبوءة في ما كتبه بولس إلى تيموثاوس بعد ست سنين وهو قوله «أَنْتَ تَعْلَمُ هٰذَا أَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ فِي أَسِيَّا ٱرْتَدُّوا عَنِّي» (٢كورنثوس ١: ١٥). وما كتبه بطرس إليهم وإلى غيرهم وهو قوله «لاَ تَسْتَغْرِبُوا ٱلْبَلْوَى ٱلْمُحْرِقَةَ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ» (١بطرس ٤: ١٢).
    ٣٠ «وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ».
    ١تيموثاوس ١: ٢٠ و١يوحنا ٢: ١٩
    وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ أي من كنيسة أفسس نفسها. أشار الرسول بهذا إلى الذين يغارون ظاهراً للحق وهم يعلمون الكذب ويأتي بعضهم ذلك محبة للقوة والجاه والرئاسة. وليس للكنيسة أن تخاف من الأعداء الخارجية إذا سلمت من الأعداء الداخلية.
    رِجَالٌ تأثيرهم كتأثير الذئاب في الآية السابقة وليسوا بأقل ضرراً منها.
    مُلْتَوِيَةٍ أي غير مطابقة لمقياس الحق والاستقامة أي كتاب الله.
    لِيَجْتَذِبُوا هذا غاية تعليمهم ونتيجته.
    ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ أي أنهم يعدلون بتلاميذ المسيح عن العقائد الصحيحة وشركة القديسين إلى عقائدهم المبتدعة المضلة والانشقاق. وما أنبأ به بولس هنا يوافق ما كتبه يوحنا الرسول إلى كنيسة أفسس بعد سنين وهو أن تلك الكنيسة تركت محبتها الأولى للمسيح وأنه دخلها معلمون مفسدون من فرقة النيقولاويين (رؤيا ٢: ٢ - ٧). وما كتبه بولس في خمسة مبتدعين من تلك الكنيسة وهم هيمينايس واسنكدر (١تيموثاوس ١: ٢٠) وفيليتس (٢تيموثاوس ٢: ١٧) وفيجلس وهرموجانس (٢كورنثوس ١: ١٥). ولا يبعد عن الظن أن هيمينايُس وهرموجانس كانا من القسوس الذين خاطبهم حينئذ وقال لهم «منكم أنتم سيقوم الخ».
    ٣١ «لِذٰلِكَ ٱسْهَرُوا، مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَاراً، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ».
    ص ١٩: ١٠
    لِذٰلِكَ أي لما أنبأتكم به من المخاطر.
    ٱسْهَرُوا كونوا منتبهين (١تسالونيكي ٥: ٦ و١٠) ومحترزين (١بطرس ٥: ٨).
    مُتَذَكِّرِينَ سيرتي بينكم نحو ثلاث سنين (ص ١٩: ٨ - ١٠) واقتدوا بي.
    لَيْلاً وَنَهَاراً في كل الأوقات المناسبة للتعليم بلا نظر إلى راحته ولذته (ع ١٩).
    لَمْ أَفْتُرْ أي لم أترك فرصة.
    أُنْذِرَ أنبه على الخطر وأشير على طريق النجاة. وقصد هنا ما وعظ به الناس على انفراج لا بين الجمهور.
    بِدُمُوعٍ هذا بيان لشفقته عليهم وغيرته على خلاصهم فلم يكتف بأن يقنعهم بقوة الحجج بل زاد على ذلك أنه أعلن فرط رغبته في نفعهم وإنقاذهم من الخطر. قال أحد قدماء الشعراء إذا أردت أن تبكيّني فابكِ فقلما أثر في السامعين كلام من أنذر بعذاب جهنم ووصف آلام المسيح فداء للخطأة ومحبة لهم بلا انفعال تظهره إمارات وجهه.
    ٣٢ «وَٱلآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي لِلّٰهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، ٱلْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثاً مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُقَدَّسِينَ».
    عبرانيين ١٣: ٩ ص ٩: ٣١ ص ٢٦: ١٨ وأفسس ١: ١٨ وكولوسي ١: ١٢ و٣: ٢٤ وعبرانيين ٩: ١٥ و١بطرس ١: ٤
    وَٱلآنَ قال هذا إيماء إلى ختام كلامه.
    أَسْتَوْدِعُكُمْ وديعة ثمينة وكل الله إليّ حفظها فأردّها عند ذهابي إليه.
    وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ هي الكلمة المنادى بها للخلاص بنعمة الله كما في (ص ٢٤ وفي ص ١٤: ٣٠) وهي الواسطة التي يحفظ الله بها المؤمنين لأنها حية فعالة الخ (عبرانيين ٤: ١٢) أو هي وعد الله بمقتضى النعمة أن يحفظ المؤمنين.
    تَبْنِيَكُمْ أحب بولس أن يشبه الحياة المسيحية ببناء على أساس وطيد يعلو شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ الكمال. والمعنى أن كلمة الله تمكن الإنسان من الارتقاء في التقوى مع وفرة الأخطار والتجارب (١كورنثوس ٣: ١٠ و١٢: ١٤ وأفسس ٢: ٢٠ وكولوسي ٢: ٧).
    ًمِيرَاثا نصيبهم من المواهب التي يعطيهم الله إيّاها باعتبار أنهم أولاده (أفسس ١: ١١ و٥: ٥ وكولوسي ١: ١٢ و٣: ٢٤).
    ٱلْمُقَدَّسِينَ المؤمنين باعتبار أنهم بلغو غاية خلاصهم (١تسالونيكي ٤:٣ وعبرانيين ١٢: ١٤) فلا بد للمخلصين من أن يكونوا مقدسين.
    ٣٣ «فِضَّةَ أَوْ ذَهَبَ أَوْ لِبَاسَ أَحَدٍ لَمْ أَشْتَهِ».
    ١صموئيل ١٢: ٣ و١كورنثوس ٩: ١٢ و٢كورنثوس ٧: ٢ و١١: ٩ و١٢: ١٧
    قال ذلك دفعاً لاتهام بعض أعدائه إيّاه أنه جعل الديانة ستراً لطمعه في المال (٢كورنثوس ٧: ٢ و١٢: ٧ و٨ و١تسالونيكي ٢: ٥). فإن غايته وهو بينهم لم تكن ربح أموالهم والثواب في قول الرب «نعماً أيها العبد الصالح والأمين». وقول بولس هنا كقول صموئيل في تبرئة نفسه من الطمع (١صموئيل ١٢: ٣).
    ٣٤ «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ».
    ص ١٨: ٣ و١كورنثوس ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨
    احتجّ بمعرفتهم أنه تكلم بالحق كما احتجّ في الآية الثامنة عشرة.
    حَاجَاتِي علّم بولس أن المبشرين يستحقون أن يأخذوا أسباب المعاش ممن يبشرونهم لكنه لم يدّع هذا الحق لنفسه خوفاً من أن يتهمه أحد بالطمع فيكون ذلك عثرة في سبيل نفعه (١كورنثوس ٩: ١١ - ١٥ و٢كورنثوس ١١: ٧ - ١٢ و١٢: ١٣ - ١٦ و٢تسالونيكي ٣: ٧ - ١٢). وحصل على تلك الأسباب بعمله في صناعة الخيام (ص ١٨: ٣ و١٨ و١٩). وكتب من أفسس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وقال فيها «إِلَى هٰذِهِ ٱلسَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ، وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا» (١كورنثوس ٤: ١١ و١٢).
    وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي نستنتج من ذلك أن بعض رفقائه كان ضعيفاً غير قادر على تحصيل أسباب المعاش أو أنه أرسلهم إلى أماكن أخرى للتبشير فشغلوا به أكثر الوقت حتى لم يكن لهم فرصة لتحصيل تلك الأسباب لأن من مبادئ بولس «أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً» (٢تسالونيكي ٣: ١٠).
    هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ لعله رفع يديه أمامهم وهو يتكلم.
    ٣٥ «فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ ٱلضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ».
    رومية ١٤: ١ و١٥: ١ و١كورنثوس ٩: ١٢ وغلاطية ٢: ١٠ و٦: ٢ وأفسس ٤: ٢٨ و١تسالونيكي ٤: ١١ و٥: ١٤ و٢تسالونيكي ٣: ٨
    فِي كُلِّ شَيْءٍ من الأزمنة والوسائل.
    هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ كما عملت بيدي اختياراً.
    وَتَعْضُدُونَ ٱلضُّعَفَاءَ أي كل المحتاجين إلى المساعدة لعلّة جسديّة أو روحيّة.
    مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ لم تُذكر هذه الكلمات في البشائر الأربع ولا نعجب من ذلك إذا قرأنا قول أحد البشيرين «وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ ٱلْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ ٱلْكُتُبَ ٱلْمَكْتُوبَةَ» (يوحنا ٢١: ٢٥). ولا عجب من أن الرسل حفظوا هذه الكلمات وذكرها للناس ودليل ذلك قول بولس «متذكرين» كأنه اعتاد أن يذكرها لهم.
    مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ الخ كل إنسان يعرف غبطة الأخذ أي القبول من الله ومن إخوته البشر ولكن المسيح حكم بأن العطاء أكثر غبطة وله أن يحكم لأنه لا أحد أعطى مثله إذ بذل حياته عنا فهو حكم مختبر. والذي يُعطي غيره يشارك الله سبحانه في غبطته فإنه تعالى لا يكف عن العطاء بسخاء ويسرّ بذلك. فالذي يعطي المحتاجين يُغبط بمشاهدته النفع الناتج عما أعطى وبتذكره إياه وبثوابه يوم الجزاء بمقتضى الوعد (متّى ٢٥: ٣٤ - ٣٦).
    ٣٦ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ وَصَلَّى».
    ص ٧: ٦٠ و٢١: ٥
    جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ لتأثيره في الروح وحرارته في الصلاة. لو كان من العادة الغالبة الجثوّ في الصلاة لم يكن من حاجة إلى ذكره. ونعلم من كتب المسيحيين الأولين أنهم اعتادوا الوقوف في العبادة الجمهورية في الكنائس وغيرها.
    وَصَلَّى أنه تقدمهم في الصلاة نائباً عن الجميع. ولنا مما صلاه من أجل الأفسسيين صلاة (أفسس ٣: ١٤ - ٢١) نستنتج منها ما كانت صلاته حينئذ.
    ٣٧ «وَكَانَ بُكَاءٌ عَظِيمٌ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، وَوَقَعُوا عَلَى عُنُقِ بُولُسَ يُقَبِّلُونَهُ».
    تكوين ٤٥: ١٤ و٤٦: ٢٩
    ما ذُكر هنا يبين لنا شدة المودة بين بولس وأولئك القسوس باعتبار أنه صديق لهم ووالد ومرشد روحي وشدة حزنهم على فراقه.
    قليلون الذين كانوا كبولس في قدر ما كان محبوباً إلى البعض وقدر ما كان مبغضاً إلى الآخرين.
    ٣٨ «مُتَوَجِّعِينَ، وَلاَ سِيَّمَا مِنَ ٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا: إِنَّهُمْ لَنْ يَرَوْا وَجْهَهُ أَيْضاً. ثُمَّ شَيَّعُوهُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ».
    ع ٢٥
    أنه إذا رُجي اللقاء على الأرض بعد الفراق فذلك تعزية ليست بقليلة ولكنه إذ لم يبق سبيل إلى ذلك فألم الفراق شديد.
    ٱلَّتِي قَالَهَا (ع ٢٥) لمثل هؤلاء ومن كان حال كحالهم عزاء في أن المسيح الصديق الأعز يمكث مع الماكثين ويسافر مع المسافرين.
    شَيَّعُوهُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ إظهاراً لحبهم وإكرامهم له (ص ١٥: ٣). قال بعضهم أن في هذا الخطاب بيان ما يجب على القسيس عموماً وهو أن يكون «خادماً للرب» (ع ١٩).
    وبيان ما يجب عليه خصوصاً وهو أن يكون «محترز لنفسه وللرعية» (ع ٢٨).
    وخلاصة ما يجب أن يكرز به من التعليم وهي «التوبة إلى الله والإيمان بالرب» (ع ٢١).
    ومواضع الكرازة «جهاراً وفي كل بيت» (ع ٢٠).
    وكيفية التبشير وهي أن «لا يفتر من أن ينذر كل واحد» (ع ٣١) «بكل تواضعه ودموع كثيرة» (ع ١٩).
    والأمانة وهي أن «لا يؤخر شيئاً من الفوائد» (ع ٢٠) وأن «يكون بريئاً من دم الجميع» (ع ٢٦) وأن يخبر الناس «بكل مشورة الله» (ع ٢٧).
    والخلوص وإنكار الذات «غير مشته ذهباً أو فضة أو لباساً» (ع ٣٣).
    والصبر والاحتمال غير محتسب لشيء من الشدائد وغير حاسب نفسه ثمينة عنده حتى يتمم بفرح سعيه والخدمة التي أخذها من الرب يسوع (ع ٢٤).
    وذكر هنا سببين يوجبان على القسيس أن يخدم الكنيسة كما ذُكر وهما أن الروح القدس أقامه لهذه الخدمة وأن الكنيسة التي يخدمها قد اقتناها المسيح بدمه (ع ٢٨).


    الأصحاح الحادي والعشرون


    سفر بولس من ميليتس إلى أورشليم ع ١ إلى ١٦


    ١ «وَلَمَّا ٱنْفَصَلْنَا عَنْهُمْ أَقْلَعْنَا وَجِئْنَا مُتَوَجِّهِينَ بِٱلٱسْتِقَامَةِ إِلَى كُوسَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي إِلَى رُودُسَ، وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى بَاتَرَا».
    ٱنْفَصَلْنَا عَنْهُمْ أي نحن بولس ورفقاؤه عن قسوس أفسس وفي تعبيره بالانفصال عن الذهاب إشارة إلى أن الفراق كان مؤلماً.
    بِٱلٱسْتِقَامَةِ فإذاً كانت الريح موافقة لهم.
    كُوسَ جزيرة صغيرة كثيرة الخصب واقعة على أمد أربعين ميلاً من ميليتس جنوباً طولها ثلاثة وعشرون ميلاً تسمى اليوم استنخو. اشتهرت قديماً بجودة خمرها ومنسوجاتها وبهيكل اسكولابيوس إله الطب وبمدرسة الطب المنسوبة إليه وبكونها مولد بقراط الطبيب المشهور.
    رُودُسَ أي ورد وسُميت بذلك لكثرة وردها وهي جزيرة كبيرة حسنة وافرة الخصب طولها ستة وأربعون ميلاً وعرضها ثمانية عشر ميلاً وهي على أمد خمسين ميلاً من كوس جنوباً شرقياً وفي جانبها الشمالي مدينة تسمى باسمها اشتهرت قديماً بالجغرافيين اليونانيين أي علماء تخطيط الأرض فجعلوها مبدأ الطول كما جعل الإنكليز كرينويج. واشتهرت أيضاً بصناعة السفن واتساع متجرها بحراً وبهيكل الشمس الكبير وبتمثال أبلون النحاسي المعدود من عجائب الدنيا السبع كان علوه مئة قدم وخمس أقدام أُقيم سنة ٢٩٠ ق. م وانقلب وانكسر شيئاً بزلزلة حدثت سنة ٢٢٤ ق. م وبعد أن بقيت أجزاؤه مطروحة تسعة قرون اشتراها إنسان ونقلها فكانت محمول تسع مئة جمل على ما قيل. ولم تزل هذه المدينة عامرة معروفة باسمها القديم وهي مرفأ لكل السفن المارة بجهاتها.
    بَاتَرَا هي مدينة في ليكية على غاية أربعين ميلاً من رودس كان فيها هيكل وحي لأبلون كان القدماء يقصدونه بغية أن ينبئهم بما في المستقبل ولم يبق من تلك المدينة سوى أطلالها.
    ٢ «فَإِذْ وَجَدْنَا سَفِينَةً عَابِرَةً إِلَى فِينِيقِيَّةَ صَعِدْنَا إِلَيْهَا وَأَقْلَعْنَا».
    سَفِينَةً يظهر من هذا أن السفينة التي أتوا فيها من ترواس لم تظل سائرة في طريقهم فانتقلوا إلى أخرى كانت متأهبة للسفر إلى فينيقية وكانت سفن التجارة يومئذ تمخر كثيراً بين مواني ليكية وفينيقية والمسافة بينهما نحو ٣٤٠ ميلاً.
    فِينِيقِيَّةَ ريف في سورية الغربي (انظر شرح ٢ ١١: ١٩).
    ٣ «ثُمَّ ٱطَّلَعْنَا عَلَى قُبْرُسَ، وَتَرَكْنَاهَا يَسْرَةً وَسَافَرْنَا إِلَى سُورِيَّةَ، وَأَقْبَلْنَا إِلَى صُورَ، لأَنَّ هُنَاكَ كَانَتِ ٱلسَّفِينَةُ تَضَعُ وَسْقَهَا».
    ٱطَّلَعْنَا أي نظرنا على بعد.
    قُبْرُسَ (انظر شرح ص ٤: ٣٦ و١١: ١٩ و٢٠ و١٣: ٤ و١٥: ٣٩).
    يَسْرَةً إذ كانوا مارين في غربي قبرس لا بينهما وبين سورية.
    صُورَ كانت أكبر مواني فينيقية وأشهر مدنها التجارية (انظر ص ١٢: ٢٠).
    ٤ «وَإِذْ وَجَدْنَا ٱلتَّلاَمِيذَ مَكَثْنَا هُنَاكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَكَانُوا يَقُولُونَ لِبُولُسَ بِٱلرُّوحِ أَنْ لاَ يَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    ص ٢٠: ٢٣ وع ١٢
    وَجَدْنَا ٱلتَّلاَمِيذَ كان الإنجيل قد دخل صور منذ زمن طويل (ص ١١: ٢٩ و١٥: ٣). والأرجح أن المسيحيين في صور كانوا قليلين بالنسبة إلى الوثنيين فيها. وكانوا كافين لأن يصدق عليهم قول المرنم «هُوَذَا فِلِسْطِينُ وَصُورُ مَعَ كُوشَ. هٰذَا وُلِدَ هُنَاكَ» (مزمور ٨٧: ٤). وقول إشعياء في صور «تَكُونُ تِجَارَتُهَا وَأُجْرَتُهَا قُدْساً لِلرَّبِّ» (إشعياء ٢٣: ١٨).
    مَكَثْنَا هُنَاكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ المدة التي شغلتها السفينة بالتفريغ والتأهب.
    بِٱلرُّوحِ أي بوحي الروح القدس (ص ١: ٢ و١١: ٢٨).
    أَنْ لاَ يَصْعَدَ الخ إذا كان خائفاً على حياته أو سلامته. وهذا لم يكن نهياً إلهياً بل إعلاناً لبعض الإخوة والأنبياء بما على بولس من الخطر في أورشليم ولهذا ألحوا عليه بأن لا يذهب. والظاهر أن الروح أعلن لبولس وجوب الذهاب مهما كان عليه من الخطر.
    ٥، ٦ «٥ وَلٰكِنْ لَمَّا ٱسْتَكْمَلْنَا ٱلأَيَّامَ خَرَجْنَا ذَاهِبِينَ، وَهُمْ جَمِيعاً يُشَيِّعُونَنَا مَعَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلأَوْلاَدِ إِلَى خَارِجِ ٱلْمَدِينَةِ. فَجَثَوْنَا عَلَى رُكَبِنَا عَلَى ٱلشَّاطِئِ وَصَلَّيْنَا. ٦ وَلَمَّا وَدَّعْنَا بَعْضُنَا بَعْضاً صَعِدْنَا إِلَى ٱلسَّفِينَةِ. وَأَمَّا هُمْ فَرَجَعُوا إِلَى خَاصَّتِهِمْ».
    ص ٢: ٣٦ يوحنا ١: ١١
    ٱلأَيَّامَ السبعة التي اضطروا أن يمكثوا فيها هنالك (انظر شرح ع ٤).
    مَعَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلأَوْلاَدِ حضور هؤلاء مع الرجال يدل على شدة التأثير في قلوبهم من زيارة بولس لهم تلك المدة القصيرة وأظهروا له مودتهم جميعاً بهذا التشييع.
    فَجَثَوْنَا عَلَى رُكَبِنَا (ص ٢٠: ٣٦).
    وَصَلَّيْنَا لا ريب في أن بولس هو الذي تقدمهم بالصلاة.
    صَعِدْنَا... فَرَجَعُوا الخ هذا كلام مشاهد عياناً تكلم بما اختبره.
    ٧ «وَلَمَّا أَكْمَلْنَا ٱلسَّفَرَ فِي ٱلْبَحْرِ مِنْ صُورَ، أَقْبَلْنَا إِلَى بُتُولِمَايِسَ، فَسَلَّمْنَا عَلَى ٱلإِخْوَةِ وَمَكَثْنَا عِنْدَهُمْ يَوْماً وَاحِداً».
    قضاة ١: ٣١
    أَكْمَلْنَا ٱلسَّفَرَ فِي ٱلْبَحْرِ مِنْ صُورَ فانتهى بذلك سفرهم بحراً.
    بُتُولِمَايِسَ أي عكا واسمها في العهد القديم عكوّ (قضاة ١: ٣١). وسُميت وقتياً بطلمايس إكراماً لبطليموس ملك مصر. والمسافة بينها وبين صور ٣٠ ميلاً.
    عَلَى ٱلإِخْوَةِ لم تخبر بانتشار الإنجيل في بتولمايس بسوى ما قيل في التبشير به في فينيقية عموماً (ص ١١: ١٩ و١٥: ٣).
    ٨ «ثُمَّ خَرَجْنَا فِي ٱلْغَدِ نَحْنُ رُفَقَاءَ بُولُسَ وَجِئْنَا إِلَى قَيْصَرِيَّةَ، فَدَخَلْنَا بَيْتَ فِيلُبُّسَ ٱلْمُبَشِّرِ، إِذْ كَانَ وَاحِداً مِنَ ٱلسَّبْعَةِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ».
    أفسس ٤: ١١ و٢تيموثاوس ٤: ٥ ص ٦: ٥ و٨: ٢٦ و٤٠
    قَيْصَرِيَّةَ على أمد ٣٦ ميلاً من بتولمايس وهي مدينة بناها هيرودس الكبير وجعلها فرضة اليهودية ومركز السلطة الرومانية في تلك الأرض (انظر شرح ص ٨: ٤٠ وانظر ص ٩: ٣٠ و١٠: ١ و١٢: ١٩ و١٨: ٢٢ و٢٣: ٢٣ و٢٤ و٣٣). وهذه المدينة على الشمال الغربي من أورشليم وعلى غاية نحو سبعين ميلاً منها. وهذه الزيارة هي الثالثة من زيارات بولس لها. كانت الأولى بمروره من أورشليم إلى طرسوس (ص ٩: ٣٠) والثانية برجوعه من أورشليم إلى أنطاكية بعد نهاية سفره الثاني للتبشير (ص ١٨: ٢٢).
    فِيلُبُّسَ أحد السبعة المذكورين في (ص ٦: ٥ و٦) الذين عُيّنوا للاعتناء بالفقراء واشتهر هو واستفانوس بقوة التبشير وكان ممن طُردوا من أورشليم في الاضطهاد الذي ثار على أثر مقتل استفانوس فتشتت به جميع التلاميذ (ص ٨: ١).
    ٱلْمُبَشِّرِ المبشرون خدم الكنيسة سموا مبشرين لإرسالهم للتبشير بالإنجيل فليست المبشرية رتبة مخصوصة بل يصح أن يُعتبر الشمامسة والقسوس والرسل مبشرين (١كورنثوس ١: ١٧ و٢تيموثاوس ٤: ٥). وامتاز الأنبياء عنهم بالوحي. ذُكرت رسامة فيلبس شماساً (ص ٦: ٥ و٦) ولم يُذكر تعيينه مبشراً لكن ذُكر أنه مارس خدمة المبشر وبشّر أولاً أهل السامرة (ص ٨: ٥) ثم بشّر الوزير الحبشي (ص ٨: ٢٦ و٢٧) ثم بشّر جميع المدن من أشدود إلى قيصرية (ص ٨: ٤٠) والظاهر أنه بقي هنالك منذ ذلك الوقت راعياً للكنيسة وذلك نحو عشرين سنة.
    ٩ «وَكَانَ لِهٰذَا أَرْبَعُ بَنَاتٍ عَذَارَى كُنَّ يَتَنَبَّأْنَ».
    يوئيل ٢: ٢٨ وص ٢: ١٧
    عَذَارَى كونهن عذارى علة وجودهم في بيت أبيهن ولو كنّ متزوجات لكن في بيوت رجالهن فلا علاقة بين كونهن عذارى وكونهن نبيات. ولا ذكر في العهد الجديد ولا في كتب المسيحيين الأولين لكون العذارى رتبة من الرتب الدينية كالرهبانية اليوم.
    كُنَّ يَتَنَبَّأْنَ الظاهر أنهن كن يتنبأن في البيت مع الأفراد من النساء والرجال لا في مجتمعات العبادة الجمهورية لأن ذلك مخالف لتعليم الرسول (١كورنثوس ١٤: ٣٤ و٣٥ و١تيموثاوس ٢: ١٢). وكان تنبوهن إنجازاً لقول النبي «فيتنبأ بنوكم وبناتكم» (يوئيل ٢: ٢٨ انظر شرح أعمال ٢: ٢٨). والمحتمل أنهن كنّ يتنبأن بما سيصيب بولس في أورشليم كما فعل أنبياء صور وأغايوس (ع ٤ و١٠ و١١) ولذلك ذكر لوقا تنبؤهن هنا.
    ١٠، ١١ «١٠ وَبَيْنَمَا نَحْنُ مُقِيمُونَ أَيَّاماً كَثِيرَةً، ٱنْحَدَرَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ نَبِيٌّ ٱسْمُهُ أَغَابُوسُ. ١١ فَجَاءَ إِلَيْنَا، وَأَخَذَ مِنْطَقَةَ بُولُسَ، وَرَبَطَ يَدَيْ نَفْسِهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَ: هٰذَا يَقُولُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ: ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي لَهُ هٰذِهِ ٱلْمِنْطَقَةُ هٰكَذَا سَيَرْبِطُهُ ٱلْيَهُودُ فِي أُورُشَلِيمَ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى أَيْدِي ٱلأُمَمِ».
    ص ١١: ٢٨ و١ملوك ٢٢: ١١ وإشعياء ٢٠: ٢ وإرميا ١٣: ١ الخ وحزقيال ٤: ١ الخ ص ٢٠: ٢٣ وع ٣٣
    أَيَّاماً كَثِيرَةً رغب بولس في حضور العيد في أورشليم (ص ٢٠: ١٦) والظاهر أنه لم يرد أن يبلغها قبله. (قابل ع ١١ من ص ٢٤ مع ع ١ منه).
    مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ من أورشليم أو غيرها من مدنها والأرجح أن أغابوس سمع بوصول بولس وعرف ما عليه من الخطر فأتى ليحذّره.
    أَغَابُوسُ ذُكر آنفاً أنه نبي فتنبأ بالجوع أيام الأمبراطور كلوديوس (ص ١٠: ٢٧ - ٣٠) والأرجح أنه كان يبشر أيضاً.
    فَجَاءَ إِلَيْنَا أي إلى بيت فيلبس منزلنا.
    وَأَخَذَ مِنْطَقَةَ بُولُسَ، وَرَبَطَ جرياً على سنن الأنبياء القدماء في إيضاح نبوآتهم بالإشارة المحسوسة. ومنها مشي إشعياء النبي حافياً (إشعياء ٢٠: ٢ و٣). وطمر إرميا منطقته في شق صخرة على شاطئ الفرات (إرميا ١٣: ٤ - ٩). وأخذ حزقيال لبنة ورسمه عليها مدينة أورشليم وجعله عليها حصاراً (حزقيال ٤٠: ١ و٢) وأمثال ذلك كثيرة.
    وَقَالَ: هٰذَا يَقُولُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كان كل الذين أنبأوا بأخطار بولس قد تكلموا عليها إجمالاً. أما أغابوس ففصّل ذلك فأبان أن اليهود يهجمون عليه ويكونون علة لتقييده أسيراً عند الرومانيين.
    ٱلأُمَمِ أي الرومانيين لأن الأمم عند اليهود كل الذين ليسوا بيهود.
    ١٢ «فَلَمَّا سَمِعْنَا هٰذَا طَلَبْنَا إِلَيْهِ نَحْنُ وَٱلَّذِينَ مِنَ ٱلْمَكَانِ أَنْ لاَ يَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    طَلَبْنَا... نَحْنُ وَٱلَّذِينَ مِنَ ٱلْمَكَانِ أي رفقاء بولس في السفر ومسيحيو قيصرية وكان طلبهم نتيجة محبتهم لبولس وخوفهم عليه من الخطر. والظاهر أن بولس قد أخبرهم أنه كان مقيداً بالروح أن يذهب إلى أورشليم (ص ٢٠: ٢٢).
    ١٣ «فَأَجَابَ بُولُسُ: مَاذَا تَفْعَلُونَ؟ تَبْكُونَ وَتَكْسِرُونَ قَلْبِي. لأَنِّي مُسْتَعِدٌّ لَيْسَ أَنْ أُرْبَطَ فَقَطْ، بَلْ أَنْ أَمُوتَ أَيْضاً فِي أُورُشَلِيمَ لأَجْلِ ٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
    ص ٢٠: ٢٤
    مَاذَا... وَتَكْسِرُونَ قَلْبِي كان إظهار خوفهم عليه وشدة إلحاحهم مما آلمه شديداً كأنه كسر لقلبه. وسؤاله إشارة إلى أن كل إلحاحهم عبث لأنه لا يعدل به عن قصده ولا يخفف شيئاً من الخطر الذي كان عليه.
    لأَنِّي مُسْتَعِدٌّ هذا موافق لقوله «أن الروح يشهد في كل مدينة قائلاً أن وثقاً تنتظرني» (ص ٢٠: ٢٣).
    أَنْ أَمُوتَ أَيْضاً أي إذا كان الموت لا يمنعه من الذهاب فهل يمنعه القيد منه. وكانت إحساسات المسيحيين الأولين مثل إحساس بولس وهي التي جعلت ألوفاً وربوات يموتون شهداء للدين المسيحي مسرورين.
    لأَجْلِ ٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ محبة وإطاعة وشكراً له وغيرة على مجده ورغبة في التبشير بإنجيله. قال هذا لأنه رأى يسوع يدعوه إلى خدمته في أورشليم.
    ١٤ «وَلَمَّا لَمْ يُقْنَعْ سَكَتْنَا قَائِلِينَ: لِتَكُنْ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ».
    متّى ٦: ١٠ و٢٦: ٤٢ ولوقا ١١: ٢ و٢٢: ٤٢
    لَمْ يُقْنَعْ أي لم يعدل عن قصده بإلحاحهم ونبوأتهم إطاعة لأمر الرب لا عناداً ولا استحقاقاً بالتماس أصدقائه ولا عدم تصديقه نبوآتهم.
    لِتَكُنْ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ استنتجوا من بقاء بولس على عزمه أن قصده كان مبنياً على الإرادة الإلهية فعبارتهم هنا هي كالطلبة الثانية من الصلاة الربانية (لوقا ١١: ١٢) وكصلاة المسيح نفسه في البستان (لوقا ٢٢: ٤٢).
    ١٥ «وَبَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ تَأَهَّبْنَا وَصَعِدْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    بَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي أيام إقامتهم بقيصرية (ع ١٠).
    تَأَهَّبْنَا أي أعددنا ما نحتاج إليه في الطريق وبعد وصولنا إلى أورشليم. وكان معهم ما جمعوه من الإحسان فلا بد من أنهم حملوه إلى هنالك.
    ١٦ «وَجَاءَ أَيْضاً مَعَنَا مِنْ قَيْصَرِيَّةَ أُنَاسٌ مِنَ ٱلتَّلاَمِيذِ ذَاهِبِينَ بِنَا إِلَى مَنَاسُونَ، وَهُوَ رَجُلٌ قُبْرُسِيٌّ، تِلْمِيذٌ قَدِيمٌ، لِنَنْزِلَ عِنْدَهُ».
    وَجَاءَ أَيْضاً مَعَنَا إلى أورشليم.
    إِلَى مَنَاسُونَ، وَهُوَ رَجُلٌ قُبْرُسِيٌّ وُلد في قبرس لكنه كان ساكناً يومئذ في أورشليم.
    تِلْمِيذٌ قَدِيمٌ من المتنصرين أولاً أو أنه تلميذ المسيح نفسه أو أنه آمن في يوم الخمسين الذي حل فيه الروح القدس على التلاميذ. ولعله من القبرسيين الذين ذهبوا إلى أنطاكية وبشروا اليونانيين هناك (ص ١١: ١٩ و٢٠).
    لِنَنْزِلَ عِنْدَهُ هذا يستلزم أنه كان له بيت في أورشليم ملك أو مستأجَر.

    اجتماع بولس بإخوة أورشليم وقبوله نصحهم بإتيان ما يرضي متنصري اليهود ع ١٧ إلى ٢٦


    ١٧ «وَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَنَا ٱلإِخْوَةُ بِفَرَحٍ».
    ص ١٥: ٤
    لَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ هذه المرة الخامسة من إتيان بولس إلى أورشليم بعد ذهابه منها بغية اضطهاد المسيحيين (ص ٩: ٢) وكان ذلك سنة ٥٨ ب. م.
    قَبِلَنَا بولس ورفاقه وكان منهم بعض متنصري الأمم.
    ٱلإِخْوَة بعض المؤمنين الذين التقوا بهم إما في باب المدينة وإما في بيت مناسون لأنهم لم يواجهوا الكنيسة ولا شيوخها إلا في غد ذلك اليوم (ع ١٨).
    بِفَرَحٍ لكونهم إخوة في الرب وبعضهم ممن عرفوهم وأحبوهم ولم يجتمعوا منذ عدة سنين كانت سني خطر ومشقات وخدمة وافرة.
    ١٨ «وَفِي ٱلْغَدِ دَخَلَ بُولُسُ مَعَنَا إِلَى يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ جَمِيعُ ٱلْمَشَايِخِ».
    ص ١٢: ١٧ و١٥: ١٣ وغلاطية ١: ١٩ و٢: ٩ و١٢
    يَعْقُوبَ هو الذي ذُكر في (ص ١٢: ١٧ و١٥: ١٣) فانظر الشرح هناك. ومن عدم ذكر غيره من الرسل نستنتج أنهم لم يكونوا هناك.
    مَعَنَا ذكر حضور رفاق بولس معه في ذلك الاجتماع دليل على أن بولس اعتبر من الأمور المهمة أن تتعرّف بهم كنيسة أورشليم وتتخذهم إخوة.
    جَمِيعُ ٱلْمَشَايِخِ كان هذا الاجتماع أعمّ من الذي قبله وأكثر نظاماً.
    ١٩ «فَبَعْدَ مَا سَلَّمَ عَلَيْهِمْ طَفِقَ يُحَدِّثُهُمْ شَيْئاً فَشَيْئاً بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلأُمَمِ بِوَاسِطَةِ خِدْمَتِهِ».
    ص ١٥: ٤ و١٢ ورومية ١٥: ١٨ و١٩ ص ١: ١٧ و٢٠: ٢٤
    سَلَّمَ عَلَيْهِمْ كما اقتضت العادة من إظهار الإكرام والمودة.
    طَفِقَ يُحَدِّثُهُمْ قصّ عليهم بالتفصيل والتدقيق أنباء سفره للتبشير بالإنجيل وما حمله على الذهاب من آسيا إلى أوربا ونجاحه بين أمم كورنثوس وأفسس ومدن مكدونية والكنائس التي أسسها والضيقات التي ألمت به والنجاة منها. وأخبرهم بما جمعه من إحسان الكنائس في كل تلك الجهات لأجل فقراء كنيسة أورشليم وقدّم لهم المجموع.
    ٱلأُمَمِ هم الذين عيّنه الله رسولاً إليهم.
    ٢٠ «فَلَمَّا سَمِعُوا كَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱلرَّبَّ. وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تَرَى أَيُّهَا ٱلأَخُ كَمْ يُوجَدُ رَبْوَةً مِنَ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ جَمِيعاً غَيُورُونَ لِلنَّامُوسِ».
    ص ٢٢: ٣ ورومية ١٠: ٢ وغلاطية ١: ١٤
    لَمَّا سَمِعُوا أنباء بولس التي أثبتها حضور عدّة من مؤمني الأمم.
    يُمَجِّدُونَ ٱلرَّبَّ فرحوا بنجاح الإنجيل نجاحاً عظيماً ورأوا فيه علامات حضور المسيح مع رسوله فنسبوا كل الفضل إليه تعالى باعتبار كونه مصدر النعم وإن كل بركة من فيض نعمته وجاء مثل هذا في (ص ١١: ١٨).
    قَالُوا لَهُ برأي واحد ولعل يعقوب كان نائب الجميع في ما اتفقوا عليه.
    أَيُّهَا ٱلأَخُ هذا إمارة المودة لشخصه وإقرار كل الكنيسة بأنهم استحسنوا ما فعله وصدقوه.
    كَمْ يُوجَدُ رَبْوَةً أرادوا بذلك وفرة الجمهور لا بيان العدد وهم جميع متنصري اليهود الذين جاءوا للعيد من جميع الأقطار لا متنصرو يهود أورشليم فقط. ولا نظن في هذا القول شيئاً من المبالغة لأنه قيل منذ خمس وعشرين سنة قبل ذلك أن عدد الرجال المسيحيين في أورشليم وحدها نحو خمسة آلاف (ص ٤: ٤) والكنيسة لم تنفك تنمو وتمتد يوماً فيوماً منذ ذلك الوقت.
    جَمِيعاً أي أكثرهم.
    غَيُورُونَ امتاز اليهود عمن سواهم بشدة غيرتهم لدينهم فلما تنصر بعضهم بقي شديد الغيرة بل أنه زاد إظهاراً لتلك الغيرة خيفة أن يُتهم بأنه ترك الدين اليهودي وأن يسخر ما للأمة المختارة من الحقوق إذا قصر في الرسوم الموسوية. وكانت في ذلك الوقت محاورات كثيرة في نسبة الديانة المسيحية إلى الديانة اليهودية وانقسم الناس في تلك المسئلة مذاهب واشتد التعصب بينهم وريب بعضهم في بعض ومراقبة كل فريق للآخر.
    لِلنَّامُوسِ أي الناموس الرمزي القائم بتمييز الأطعمة والتطهيرات والأعياد. وعلل غيرة متنصري اليهود لرسوم الناموس خمس:

    • الأولى: إن الله رسمها وهم تربوا على ممارستها.
    • الثانية: إن الرسل خضعوا لها وهم في أورشليم (لوقا ٢٤: ٥٣ وأعمال ٣: ١).
    • الثالثة: إنه لم تكن في الكنيسة مباحثة في شأن ترك اليهود تلك الرسوم حين يتنصرون. فالمسئلة في جواز ترك تلك الرسوم كانت مقصورة على الأمم فقط وحكم المجمع قُصر عليهم أيضاً.
    • الرابعة: إن المسيح ما نهى المؤمنين عن ممارسة تلك الرسوم لكنه ترك للكنيسة أن تتركها متى رأت أنها حصلت على كل فوائدها به وأن لا حاجة إليها بعده.
    • الخامسة: إن الله لم يعلن شيئاً يبيّن عدم رضاه حفظ تلك الرسوم لأنه رأى قرب وقت خراب المدينة وهدم الهيكل وإبطال الذبائح مما يتعذر حفظها.


    ٢١ «وَقَدْ أُخْبِرُوا عَنْكَ أَنَّكَ تُعَلِّمُ جَمِيعَ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ ٱلٱرْتِدَادَ عَنْ مُوسَى، قَائِلاً أَنْ لاَ يَخْتِنُوا أَوْلاَدَهُمْ وَلاَ يَسْلُكُوا حَسَبَ ٱلْعَوَائِدِ».
    أُخْبِرُوا عَنْكَ الذين أشاعوا ذلك هم أعداء بولس وإخوة كاذبون دخلوا الكنيسة المسيحية ليردوا الروحانيين إلى الاتكال على الرسوم اليهودية الزائلة التي لم يبق فيها نفع. وكثيراً ما منع هؤلاء الكذبة امتداد الإنجيل وهيّجوا العداوة لبولس وأقنعوا بعض الكنيسة أنه نهى اليهود الذين تنصروا عن إطاعة ناموس موسى.
    ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ أي الذين في شتات المملكة الرومانية (يوحنا ٧: ٣٥ ويعقوب ١: ١ و١بطرس ١: ١).
    ٱلٱرْتِدَادَ عَنْ مُوسَى أي رفض الناموس الذي أُوحي به إلى موسى.
    قَائِلاً الخ لم يذكر من الرسوم التي نهى بولس عن حفظها على قولهم سوى اثنين وهما الختان والسلوك حسب العوائد أي الرسوم العرضية الرمزية. وهذا افتراء باطل فإن بولس قال في تعليمه «دُعِيَ أَحَدٌ وَهُوَ مَخْتُونٌ، فَلاَ يَصِرْ أَغْلَفَ. دُعِيَ أَحَدٌ فِي ٱلْغُرْلَةِ، فَلاَ يَخْتَتِنْ. لَيْسَ ٱلْخِتَانُ شَيْئاً، وَلَيْسَتِ ٱلْغُرْلَةُ شَيْئاً، بَلْ حِفْظُ وَصَايَا ٱللّٰهِ. اَلدَّعْوَةُ ٱلَّتِي دُعِيَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ فَلْيَلْبَثْ فِيهَا» (١كورنثوس ٧: ١٨ - ٢٠). نعم أنه علّم أن تلك الرسوم ليست بضرورية للخلاص ولكنه لم يقل أنها محظورة على متنصري اليهود ولم يتضح لهم بترك عوائد آبائهم وشريعة موسى. وأعماله كانت تكذب هذه التهمة لأنه هو نفسه مارس تلك الرسوم ومنها ختنه لتيموثاوس (ص ١٦: ٣) وحلق رأسه في كنخريا (ص ١٨: ١٨) وحضوره يومئذ العيد.
    ٢٢ «فَإِذاً مَاذَا يَكُونُ؟ لاَ بُدَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ يَجْتَمِعَ ٱلْجُمْهُورُ، لأَنَّهُمْ سَيَسْمَعُونَ أَنَّكَ قَدْ جِئْتَ».
    مَاذَا يَكُونُ أي الطريق الأفضل لإزالة هذا الوهم من أذهان كثيرين من متنصري اليهود. وفي كلامهم ما يدل على أنهم لم يصدقوا تلك التهمة.
    لاَ بُدَّ... يَجْتَمِعَ ٱلْجُمْهُورُ أي جماعة أصحاب الغيرة للناموس من اليهود ومتنصريهم المذكورين الذين لا بد من أن يحضروا ذلك العيد (وهو عيد الخمسين) وأن يجتمعوا ويسألوا عنك ويتكلموا في أمرك ويراقبوك ليروا أحق ما سمعوه عنك أم لا. فاليهود الذين لم يؤمنوا هم يبغضونك والذين تنصروا منهم يشكون فيك.
    سَيَسْمَعُونَ الخ لأهمية المسئلة عندهم واشتهارك فيها بواسطة تهمة الذين اتهموك. وكلام المشائخ هنا يتضمن أنهم خائفون على بولس من إظهار الإخوة غيظهم لما سمعوا عنه وأنهم راغبون في أن يزيلوا من أذهانهم ذلك الوهم ومن قلوبهم البغض ويجعلوهم مسرورين ببولس ومقتنعين بإخلاصه.
    ٢٣ «فَٱفْعَلْ هٰذَا ٱلَّذِي نَقُولُ لَكَ: عِنْدَنَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ عَلَيْهِمْ نَذْرٌ».
    ٱفْعَلْ هٰذَا لتكذيب التهمة وإزالة الأوهام وإرضاء الإخوة ذوي الغيرة للناموس.
    عِنْدَنَا أي في عنايتنا نحن كنيسة أورشليم.
    أَرْبَعَةُ رِجَالٍ من متنصري اليهود.
    عَلَيْهِمْ نَذْرٌ الأرجح أن هذا النذر كان من نوع نذور النذير (عدد ٦: ١ - ٢١) وهو كنذر بولس أيضاً (ص ١٨: ١٨) فراجع الشرح هناك.
    ٢٤ «خُذْ هٰؤُلاَءِ وَتَطهَّرْ مَعَهُمْ وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمْ لِيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ، فَيَعْلَمَ ٱلْجَمِيعُ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا أُخْبِرُوا عَنْكَ، بَلْ تَسْلُكُ أَنْتَ أَيْضاً حَافِظاً لِلنَّامُوسِ».
    عدد ٦: ٢ و٥ و١٣ و١٨ وص ١٨: ١٨
    خُذْ هٰؤُلاَءِ لعنايتك.
    تَطهَّرْ مَعَهُمْ اخضع لرسوم التطهير المعتادة الجارية على أيدي الكهنة التي تمكنك من مشاركة هؤلاء الأربعة في فروض إيفاء النذر النهائية.
    أَنْفِقْ عَلَيْهِمْ أي أدِّ عنهم ثمن الذبائح والتقدمات وسائر ما يحتاجون إليه لإيفاء نذرهم ومن ذلك خروف حولي عن كل المحرقة ونعجة عن كل ذبيحة خطيئة وكبش عن كل ذبيحة سلامة وسل فطير من دقيق أقراص ملتوتة بزيت ورقاق فطير ملتوتة بزيت مع تقدمتها وسكائبها. فالمرجّح أن هؤلاء الأربعة كانوا فقراء غير قادرين على القيام بنفقة ذلك.
    لِيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ كان من فروض ذلك النذر أنهم يُطلقون الشعر من يوم ينذرون إلى يوم يوفون (عدد ٦: ٥) وكانت مدة ذلك غالباً ثلاثين يوماً يحلقون في نهايتها (عدد ٦: ١٨) وهذا أيضاً مما يحتاج إلى النفقة للكاهن أو اللاوي الذي يحلق الشعر. وكان من عوائد اليهود أن يقوم غنيهم بنفقة فقيرهم. قال يوسيفوس أنه حين أتى أغريباس الأول من رومية إلى أورشليم ليتولى الملك قام بنفقة حلق رؤوس كثيرين مما نذروا وأتى ذلك إظهاراً لغيرته على الرسوم اليهودية لمثل القصد الذي قصده أصدقاء بولس في نصحهم له.
    لَيْسَ شَيْءٌ الخ أي لا صحة لشيء من تهمهم. لأنهم إذا رأوك مشتركاً في العوائد الدينية منفقاً على غيرك للقيام بها اتخذوا ذلك دليلاً قاطعاً على بطل تهمة المتهمين وبياناً أنك لست بعدو لموسى وأنك لم تنه متنصري اليهود عن حفظ الناموس. وهذا أحسن وسيلة لإزالة الأوهام والشكوك وتكذيب الإخوة الخادعين. وكل الأخوة المسيحيين الذين يحضرون العيد من كل أقطار المسكونة يشهدون بما شاهدوا بعد رجوعهم إلى أوطانهم باحترامك الرسوم الموسوية.
    ٢٥ «وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا مِنَ ٱلأُمَمِ، فَأَرْسَلْنَا نَحْنُ إِلَيْهِمْ وَحَكَمْنَا أَنْ لاَ يَحْفَظُوا شَيْئاً مِثْلَ ذٰلِكَ، سِوَى أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ، وَمِنَ ٱلدَّمِ، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلزِّنَا».
    ص ١٥: ٢٠ و٢٩
    ذكروا هذه الآية دفعاً لظن أحد إبطال شيء من الحرية التي حُكم بها لمؤمني الأمم وهي تحريرهم من حفظ الشريعة الرمزية ولأنهم علموا أن بولس لا يقبل رأيهم إلا على هذا الشرط.
    أَرْسَلْنَا نَحْنُ إِلَيْهِمْ أرادوا بذلك الرقيم الذي اتفق المجمع عليه وأرسله إلى الكنائس ومضمونه أن لا شيء عليهم من الرسوم سوى الامتناع عما يعثر إخوتهم اليهود (ص ١٥: ٢٠ - ٢١) أما الزناء فقد منعته الشريعة الأدبية الأبدية.
    ٢٦ «حِينَئِذٍ أَخَذَ بُولُسُ ٱلرِّجَالَ فِي ٱلْغَدِ، وَتَطَهَّرَ مَعَهُمْ وَدَخَلَ ٱلْهَيْكَلَ، مُخْبِراً بِكَمَالِ أَيَّامِ ٱلتَّطْهِيرِ، إِلَى أَنْ يُقَرَّبَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ٱلْقُرْبَانُ».
    ص ٢٤: ١٨ عدد ٦: ١٣
    أَخَذَ بُولُسُ ٱلرِّجَالَ جرياً على نصيحة يعقوب والمشائخ لأنهم نواب كنيسة أورشليم أم الكنائس ونصحوا له بما رأوه مناسباً لنفع الكنيسة وسلامها عموماً. فقبل ذلك على وفق قوله «فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرّاً مِنَ ٱلْجَمِيعِ، ٱسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ ٱلأَكْثَرِينَ. فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ ٱلْيَهُودَ، وَلِلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لأَرْبَحَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ... صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ ٱلضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً»(١كورنثوس ٩: ١٩ - ٢٢). فلو رأى في ذلك شيئاً مضاداً لمبادئه المسيحية وواجباته لربه ما سلّم به. وهو غير مناف لما كتبه في رسائله من أن الناموس لا يبرّر الخاطئ ولا يخلصه وأن الاتكال عليه يجعل الإيمان عبثاً وأنه ليس على أحد من الأمم أن يخضع للناموس بغية الخلاص. وعدم إصابة الغاية المقصودة منه ليس بدليل على أنه خطيئة ولعله نال تلك الغاية بإقناع مؤمني اليهود أنه بريء مما رُمي به من التهم. والذين هجموا عليه هم اليهود غير المؤمنين. والأرجح أن المؤمنين منهم أحبوا بولس أكثر من ذي قبل وحزنوا على مصابه بأن قُبض عليه في الهيكل وهو يعبد حسب عوائد آبائهم.
    ٱلْهَيْكَلَ أي إحدى أدوُّره.
    وَتَطَهَّرَ مَعَهُمْ كما يجب على شريك النذير عند إيفاء نذره (ع ٢٤).
    مُخْبِراً بِكَمَالِ أَيَّامِ ٱلتَّطْهِيرِ أي أنه أخبر الكهنة بما بقي من أيام النذر وهي سبعة (ع ٢٧) ليعدوا الحيوانات الذبيحة في وقتها وأخبرهم أيضاً بأنه صار شريكاً للذين علمهم النذر وأنه مستعد للنفقة عليهم على وفق العادة.
    ٱلْقُرْبَانُ الذي أمر به في (عدد ٦: ١ - ٢١ انظر شرح ع ٢٤).

    هياج اليهود على بولس وإنقاذ أمير الكتيبة إياه ع ٢٧ إلى ٣٦


    ٢٧ «وَلَمَّا قَارَبَتِ ٱلأَيَّامُ ٱلسَّبْعَةُ أَنْ تَتِمَّ، رَآهُ ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَسِيَّا فِي ٱلْهَيْكَلِ، فَأَهَاجُوا كُلَّ ٱلْجَمْعِ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ ٱلأَيَادِيَ».
    ص ٢٤: ١٨ ص ٢٦: ٢١
    قَارَبَتِ ٱلأَيَّامُ ٱلسَّبْعَةُ أن تتم يمكن أن أيام ذلك النذر لم تكن أكثر من سبعة أيام والأرجح أنها ثلاثون كالعادة اشترك فيه بولس بعد مضي ثلاثة وعشرين يوماً منها وأخبر الكهنة يوم اشتراكه والأيام السبعة الآخرة أهم تلك المدة لأنه يُقدم فيها أكثر القرابين (خروج ٢٩: ٣٧ ولاويين ١٢: ٢ و١٣: ٦ وعدد ١٢: ١٤ و١٩: ١٤).
    ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَسِيَّا أو اليهود الذين أتوا للعيد من غربي آسيا الصغرى أي من أفسس وما حولها حيث اجتمع بولس باليهود وجادلهم فما استطاعوا أن يشفوا غيظهم منه هنالك لانتصاره عليهم (ص ٢٠: ١٩) فلما رأوه في أورشليم عرفوه فاتقدت نيران غضبهم لاعتبارهم إياه مرتداً عن شريعة موسى وزعموا أنه لم يدخل الهكيل إلا وهو محتقر إيّاه ولعلهم راقبوه قبلاً كالجواسيس ليجدوا فرصة للشكوى عليه.
    أَهَاجُوا كُلَّ ٱلْجَمْعِ حرّكوا المجتمعين ليشاركوهم في بغضهم لبولس والانتقام منه.
    أَلْقَوْا عَلَيْهِ ٱلأَيَادِيَ كأنه مجرم يبغي الفرار.
    ٢٨ «صَارِخِينَ: يَا أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ، أَعِينُوا! هٰذَا هُوَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي يُعَلِّمُ ٱلْجَمِيعَ فِي كُلِّ مَكَانٍ ضِدّاً لِلشَّعْبِ وَٱلنَّامُوسِ وَهٰذَا ٱلْمَوْضِعِ، حَتَّى أَدْخَلَ يُونَانِيِّينَ أَيْضاً إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَدَنَّسَ هٰذَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلْمُقَدَّسَ».
    ص ٦: ١٣ و٢٤: ٥ و٦
    ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ خاطبوهم بذلك تهييجاً للتعصّب الطائفي.
    أَعِينُوا على وقاية هذا المكان المقدّس من تنجيس هذا المجدّف.
    هٰذَا هُوَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي سمعتم كلكم خبره وشاهده كثيرون منكم.
    يُعَلِّمُ ٱلْجَمِيعَ فِي كُلِّ مَكَانٍ هذا دليل على انتشار صيت بولس وتأثير تبشيره وأهمية تعليمه عند اليهود وخوفهم من ذلك التعليم.
    ضِدّاً لِلشَّعْبِ أي اليهود الأمة المختارة التي زعموا أن بولس تعدى على حقوقها بجعله الأمم شركاءها في المواعيد والمواريث.
    ٱلنَّامُوسِ شريعة موسى التي فُرز اليهود بحفظها عن سائر الأمم.
    هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ أورشليم المدينة المقدسة ولا سيما الهيكل الذي هو مركز الدين اليهودي. وكان قولهم هنا كقولهم يوم مقتل استفانوس والمحتمل أن بولس كان شريكاً لهم فيه يومئذ (ص ٦: ١٢ - ١٤).
    حَتَّى أي فوق كل ما سبق.
    يُونَانِيِّينَ أي أناساً من الأمم فلم يريدوا سكان بلاد اليونان خاصة.
    ٱلْهَيْكَل أي أحد أدوّره الداخلية وراء دار الأمم فإنه كان محظوراً على الأمم أن يجتازوا تلك الدار بإعلان عُلق على عمود بين تلك الدار ودار النساء وهذه صورته «يحظر على كل أجنبي أن يتجاوز هذا الجدار المحيط بالهيكل فليعلم كل أجنبي أنه إن تجاوزه فقُبض عليه داخلاً قُتل ودمه على نفسه». فمن تجاوز من الأمم ذلك العمود كان تحت خطر الموت. قال يوسيفوس أن الرومانيين أذنوا لليهود أن يقتلوا الروماني إذا خالف ما في ذلك الإعلان (انظر الكلام على أدور الهيكل في شرح متّى ٢١: ١٢).
    دَنَّسَ اتخذوا المكان المقدس كغيره من الأماكن وذلك إهانة له.
    ٱلْمَوْضِعَ ٱلْمُقَدَّسَ المفروز لعبادة الله بمقتضى السنن اليهودية.
    ٢٩ «لأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ رَأَوْا مَعَهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ تُرُوفِيمُسَ ٱلأَفَسُسِيَّ، فَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ بُولُسَ أَدْخَلَهُ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ».
    ص ٢٠: ٤
    كَانُوا قَدْ رَأَوْا قبلما شاهدوا بولس في الهيكل وهو في بعض أسواق المدينة.
    تُرُوفِيمُسَ أحد متنصري الأمم الذين أتوا من أخائية ليرافقوا بولس وسبقوه إلى ترواس (ص ٢٠: ٤) وعرفه الذين من آسيا حالاً لأنه من أفسس قصبة آسيا.
    كَانُوا يَظُنُّونَ حملهم على هذا الظن زعمهم أن بولس عدو الدين اليهودي ومحتقر الهيكل واتخاذهم ذلك الظن بمنزلة اليقين بلا فحص.
    ٣٠ «فَهَاجَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا، وَتَرَاكَضَ ٱلشَّعْبُ وَأَمْسَكُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْهَيْكَلِ. وَلِلْوَقْتِ أُغْلِقَتِ ٱلأَبْوَابُ».
    ص ٢٦: ٢١
    فَهَاجَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا كان ذلك زمان العيد واليهود على غاية من الغيرة الدينية وازدحام ربواتهم الكثيرة جعلهم مستعدين للهياج كما هو من خواص الازدحام. وكانت تلك الشكوى من أشد المهيّجات لليهود.
    تَرَاكَضَ ٱلشَّعْبُ إلى الهيكل حيث ارتفع الصراخ.
    أَمْسَكُوا بُولُسَ بالعنف.
    جَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْهَيْكَلِ من الدار المحظور على الأمم دخولها.
    أُغْلِقَتِ ٱلأَبْوَابُ أي أبواب الهيكل والمرجّح أن الكهنة أغلقوها منعاً لرجوع بولس ورفيقه المظنون إلى الهيكل وتدنيس الهيكل بدمهما إن قُتلا فيه ودفعاً للشغب في المكان المقدس وتخلّصاً من مسؤولية كل ما يحدث من هيجان العامة.
    ٣١ «وَبَيْنَمَا هُمْ يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، نَمَا خَبَرٌ إِلَى أَمِيرِ ٱلْكَتِيبَةِ أَنَّ أُورُشَلِيمَ كُلَّهَا قَدِ ٱضْطَرَبَتْ».
    أَنْ يَقْتُلُوهُ ضرباً المرجّح أنهم كانوا يلكمونه لأنه لو كان معهم أسلحة لقتلوه حالاً. وأرادوا قتله لزعمهم أنه دنس الهكيل بإدخال واحد من الأمم إليه. إنه بمقتضى الإعلان كان لهم أن يقتلوا تروفيمس لو وجدوه ولكنهم أرادوا قتل بولس لاعتباره أعظم ذنباً من ذاك لأنه أدخل ذلك اليوناني على زعمهم.
    نَمَا خَبَرٌ من الحراس الرومانيين المعيّنين لحراسة الهيكل وكل ما فيه ولمراقبة الحوادث في الأعياد لأنه يُخشى حينئذ من الشغب. وكان قرب الهيكل على زاويته الشمالية الغربية قلعة رومانية اسمها انطونيا عليها أربعة أبراج علو كل من ثلاثة منها ثمانون قدماً وعلو الآخر مئة قدم وعشرون قدماً وكان هذا مشرفاً على الهيكل كله ومتصلاً به بدرج وكان في تلك القلعة جند من العسكر الروماني لمنع الفتن ولسياسة المدينة.
    أَمِيرِ ٱلْكَتِيبَةِ كلوديوس ليسياس (ص ٢٣: ٢٦). والكتيبة هنا فرقة من الجند عدد رجالها ألف لأنها سُدس اللجئون واللجئون ستة آلاف (انظر شرح متّى ٨: ٢٩). وذُكرت الكتيبة في (متّى ٢٧: ٦٥ و٦٦).
    ٣٢ «فَلِلْوَقْتِ أَخَذَ عَسْكَراً وَقُوَّادَ مِئَاتٍ وَرَكَضَ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا رَأَوُا ٱلأَمِيرَ وَٱلْعَسْكَرَ كَفُّوا عَنْ ضَرْبِ بُولُسَ».
    ص ٢٣: ٢٧ و٢٤: ٧
    عَسْكَراً وَقُوَّادَ مِئَاتٍ فإذاً هم ثلاث مئة على الأقل لأن كل قائد يأتي بمئة.
    رَكَضَ من القلعة إلى دار الأمم لتسكين الشغب لا لإنقاذ إنسان بريء من الظلم.
    إِلَيْهِمْ أي إلى ضاربي بولس بغية قتله.
    كَفُّوا الخ الأرجح أن الأمير أمرهم بالكف فامتنعوا خوفاً من أن يوقع بهم ويقتلهم.
    ٣٣ «حِينَئِذٍ ٱقْتَرَبَ ٱلأَمِيرُ وَأَمْسَكَهُ، وَأَمَرَ أَنْ يُقَيَّدَ بِسِلْسِلَتَيْنِ، وَطَفِقَ يَسْتَخْبِرُ: تُرَى مَنْ يَكُونُ وَمَاذَا فَعَلَ؟».
    ص ٢٠: ٢٣ وع ١١
    يُقَيَّدَ بِسِلْسِلَتَيْنِ إلى جنديين على جانبيه كما قُيّد بطرس (ص ١٢: ٦). وكانت غاية الأمير من ذلك تسكين الهياج وإعلان أنه يحفظه للمحاكمة والعقاب إذا كان مذنباً. وفي تقييد بولس إنجاز لنبوءة أغابوس (ص ٢١: ١١). وأمر بتقييده لظنه ان اليهود لم يعاملوه كذلك لو لم يكن قد ارتكب ذنباً على كل الجمهور.
    ٣٤ «وَكَانَ ٱلْبَعْضُ يَصْرُخُونَ بِشَيْءٍ وَٱلْبَعْضُ بِشَيْءٍ آخَرَ فِي ٱلْجَمْعِ. وَلَمَّا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَعْلَمَ ٱلْيَقِينَ لِسَبَبِ ٱلشَّغَبِ، أَمَرَ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ».
    ٱلْبَعْضُ يَصْرُخُونَ بِشَيْءٍ وَٱلْبَعْضُ بِشَيْءٍ آخَرَ كما فعل الهائجون في مشهد أفسس (ص ١٩: ٣٢).
    أَنْ يَعْلَمَ ٱلْيَقِينَ أي لم يستطع الأمير أن يعرف من الناس من هو المذنب وما ذنبه لاختلاط الأصوات.
    إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ في قلعة أنطونيا مكان الجند وسجن المجرمين (ع ٣١) لحفظه والوقوف على حقيقة ما كان.
    ٣٥ «وَلَمَّا صَارَ عَلَى ٱلدَّرَجِ ٱتَّفَقَ أَنَّ ٱلْعَسْكَرَ حَمَلَهُ بِسَبَبِ عُنْفِ ٱلْجَمْعِ».
    عَلَى ٱلدَّرَجِ الموصل بين ساحة الهكيل والقلعة وكان هنالك درجان عريضان أو سلّمان من الحجر.
    أَنَّ ٱلْعَسْكَرَ حَمَلَهُ أي حمل بولس لكثرة ازدحام الناس عليه ليقتلوه. والأرجح أن لوقا شاهد بولس محمولاً على أيدي العكسر وذكر ذلك إظهاراً لشدة غضب اليهود.
    ٣٦ «لأَنَّ جُمْهُورَ ٱلشَّعْبِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ صَارِخِينَ: خُذْهُ!».
    لوقا ٢٣: ١٨ ويوحنا ١٩: ١٥ وص ٢٢: ٢٢
    خُذْهُ إلى المقتل وهذا كقول الذين طلبوا صلب المسيح وحملوا بيلاطس على تسليمه للموت (لوقا ٢٣: ١٨ ويوحنا ١٩: ١٥). فما طلبوه للسيد أولاً طلبوه لعبده الأمين ثانياً.

    استئذان بولس الأمير أن يخاطب الشعب ع ٣٧ إلى ٤٠


    ٣٧ «وَإِذْ قَارَبَ بُولُسُ أَنْ يَدْخُلَ ٱلْمُعَسْكَرَ قَالَ لِلأَمِيرِ: أَيَجُوزُ لِي أَنْ أَقُولَ لَكَ شَيْئاً؟ فَقَالَ: أَتَعْرِفُ ٱلْيُونَانِيَّةَ؟»
    قَارَبَ... أَنْ يَدْخُلَ ٱلْمُعَسْكَرَ أي لما بلغ أعلى السلم وبعُد عن الازدحام.
    أَيَجُوزُ أي أتأذن.
    أَتَعْرِفُ ٱلْيُونَانِيَّةَ يظهر من ذلك أن بولس خاطب الأمير باليونانية والأمير لم يتوقع هذا بل كان يعتقد أنه لا يحسن التكلم بسوى العبرانية.
    ٣٨ «أَفَلَسْتَ أَنْتَ ٱلْمِصْرِيَّ ٱلَّذِي صَنَعَ قَبْلَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ فِتْنَةً، وَأَخْرَجَ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ أَرْبَعَةَ ٱلآلاَفِ ٱلرَّجُلِ مِنَ ٱلْقَتَلَةِ؟».
    ص ٥: ٣٦
    أَفَلَسْتَ أَنْتَ ٱلْمِصْرِيَّ ظن ذلك إما للفظة سمعها من الشعب وإما لشدة غضب الشعب الدالة على أنه كان من شر الناس والأمير لم يعهد شراً من المصري ولأن فتنة المصري كانت حديثة العهد ولأنه قد هرب والوالي أمر بالتفتيش عنه ووعد بإثابة من يمسكه. وذكر يوسيفوس هذا المصري في تاريخه المشهور وقال انه قائد فرقة اللصوص والقتلة الذين أقلقوا اليهودية وما جاورها وادعى أنه نبيّ فجمع نحو ثلاثين ألفاً من الأتباع ووعدهم بأنه إذا وقف معهم على جبل الزيتون يأمر أسوار أورشليم بالسقوط فتطيع أمره ويقودهم حينئذ لنهبها.
    وقال في موضع آخر من ذلك التاريخ أن كثيرين من أتباعه زالت ثقتهم به فتركوه حتى أنه لما ذكر عددهم ثانية نقص كثيراً عما كان أولاً. وقال أن المصري أتى بجيشه من البرية إلى جبل الزيتون فحاربهم فيلكس الوالي هناك وقتل أربع مئة منهم وأسر مئتين وهرب المصري وتشتت سائر جيشه.
    أَرْبَعَةَ ٱلآلاَفِ رَّجُلِ هذا أقل جداً من العدد الذي ذكره يوسيفوس ولا نعرف علة الفرق أَمن غلط الأمير هي أم من غلط يوسيفوس وربما ذكر الأمير الكماة منهم وذكر يوسيفوس عدد النفوس التابعة له من الرجال والنساء والأولاد.
    ٱلْقَتَلَةِ ومعناهم في الأصل اليوناني المِشمَلّيون أي حملة المشامل وهي سيوف قصيرة تغطى بالثياب فكانوا يدخلون بين المزدحمين في المحافل والولائم والأسواق ويطعنون الناس خفية ويتوارون فلا يعلم بهم أحد. فكان كل من يبغض أحداً ويريد قتله سراً يستأجر بعض المشمليين ليقتله. وكانوا في أول أمرهم شرذمة قليلة ثم كثروا وصاروا جماعة كثيرة اشتهروا في أيام الحوادث المتعلقة بخراب أورشليم.
    ٣٩ «فَقَالَ بُولُسُ: أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ طَرْسُوسِيٌّ، مِنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ غَيْرِ دَنِيَّةٍ مِنْ كِيلِيكِيَّةَ. وَأَلْتَمِسُ مِنْكَ أَنْ تَأْذَنَ لِي أَنْ أُكَلِّمَ ٱلشَّعْبَ».
    ص ٩: ١١ و٢٢: ٣
    مَدِينَةٍ غَيْرِ دَنِيَّةٍ كان لبولس حق في أن يصف مدينته بذلك لأنها كانت عظيمة غنية وافرة المدارس العلمية منحها الرومانيون كثيراً من الامتيازات السياسية.
    أَنْ أُكَلِّمَ ٱلشَّعْبَ كان بولس يأمل أن يقنع الشعب ببرائته مما اتُهم به ويتخذ ذلك فرصة ليبشرهم بيسوع وإنجيله.
    ٤٠ «فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ، وَقَفَ بُولُسُ عَلَى ٱلدَّرَجِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى ٱلشَّعْبِ، فَصَارَ سُكُوتٌ عَظِيمٌ. فَنَادَى بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ قَائِلاً».
    ص ١٢: ١٧
    أَذِنَ لَهُ تحقق الأمير مما قاله بولس في نفسه ومما ظهر له من هيئته أنه من الوجهاء وتوقع أن يعرف من خطابه علة ذلك الشغب فأذن له في الخطاب والظاهر أنه أمر أحد الجنديين بإطلاق إحدى يدي الرسول من سلسلتها بدليل أنه أشار بيده.
    فَصَارَ سُكُوتٌ عَظِيمٌ كانت العلة الأولى لذلك وجود الأمير والعسكر والثانية رغبتهم في أن يعرفوا في أي الأمور كان الحديث بينه وبين الأمير على مرأى منهم. والثالثة استغرابهم طلب بولس أن يخاطبهم ولا سيما ما ذُكر من أنه خاطبهم بالعبرانية (ص ٢٢: ٢).
    وَقَفَ... عَلَى ٱلدَّرَجِ كان ذلك منبراً غريباً والخطيب أغرب منه فإنه كان أسيراً محاطاً بالجنود وكان المخاطبون ألوفاً من الهائجين المغتاظين الراغبين في سفك دم خطيبهم.
    بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ أي الآرامية وهي العبرانية الممزوجة بالكلدانية وكانت لغة الأمة اليهودية بعد رجوعها من بابل. والظاهر أنهم توقعوا أن يخاطبهم باليونانية لكنه اختار لغة الشعب الخاصة لكي يرضيهم شيئاً لأنه كان قد اتُهم باحتقار شريعتهم فخاطبهم بلغة الشريعة عينها.



  4. #4
    الأصحاح الثاني والعشرون

    خطاب بولس على درج القلعة ع ١ إلى ٢١


    ١ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ وَٱلآبَاءُ، ٱسْمَعُوا ٱحْتِجَاجِي ٱلآنَ لَدَيْكُمْ».
    ص ٧: ٢
    ٱلإِخْوَةُ وَٱلآبَاءُ خاطبهم بولس بالكلمات التي خاطب بها استفانوس أعضاء مجلس السبعين (ص ٧: ٢) فبنعته إياهم «بالإخوة» أظهر لهم أنه وإياهم من أصل واحد وبنعته إياهم «بالآباء» أعلن إكرامه واحترامه لمن بينهم من الشيوخ والكهنة وأعضاء مجلس السبعين. ولعله كان بينهم من عرفوه قبل أن تنصر.
    ٱحْتِجَاجِي غاية احتجاجه مما ظهر من كلامه إلى أن قطعوه بصراخهم أمران:
    الأول: أن يريهم أنه ليس عدواً لشعب اليهود ولا لشريعتهم ولا لهيكلهم ولذلك قال أنه مولود يهودياً وأنه هذبه أفضل لاهوتيي اليهود وأنه كان غيوراً للناموس حتى اضطهد أتباع يسوع أشد الاضطهاد (ع ٣ - ٥).
    الثاني: علة تحوله عن كونه مضطهداً لأتباع يسوع إلى كونه تابعاً له ومبشراً به وهي إعلان سماوي (ع ٥ - ١٦). وهذا بيّنه ثم أخذ في بيان سبب توجهه إلى الأمم (ع ١٧ - ٢٠) وحينئذ منعوه من التكلم بعد.
    ٢ «فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُ يُنَادِي لَهُمْ بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ أَعْطُوا سُكُوتاً أَحْرَى. فَقَالَ».
    ما في هذه الآية يبرهن صحة ما ذكرناه من أنهم توقعوا أن يخاطبهم باليونانية وأنه لو خاطبهم بها لفهموا ولا بد من أنهم تلطفوا من ذلك شيئاً.
    ٣ «أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ كِيلِيكِيَّةَ، وَلٰكِنْ رَبَيْتُ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ مُؤَدَّباً عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ ٱلنَّامُوسِ ٱلأَبَوِيِّ. وَكُنْتُ غَيُوراً لِلّٰهِ كَمَا أَنْتُمْ جَمِيعُكُمُ ٱلْيَوْمَ».
    ص ٢١: ٣٩ و٢كورنثوس ١١: ٢٢ وفيلبي ٣: ٥ تثنية ٣٣: ٣ و٢ملوك ٤: ٢٨ ولوقا ١٠: ٣٩ وص ٥: ٣٤ ص ٢٦: ٥ ص ٢١: ٢٠ وغلاطية ١: ١٤ رومية ١٠: ٢
    هذه الأية دفع لتهمة أنه عدو لشعب اليهود.
    وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ لا شيء بولادته في طرسوس ما ينفي شيئاً من حقوقه اليهودية لأنه كان لليهود المولودين خارج اليهودية كل الحقوق اليهودية ما لم يقترنوا بأزواج من الأمم.
    رَبَيْتُ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ أي أورشليم. فإن ظن أحد أن ولادته في طرسوس تنقص شيئاً من كونه يهودياً فتربيته في المدينة المقدسة تدفع ذلك الظن.
    عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ أي أنه تلميذه تعلم منه فهم الشريعة وإكرامها. وقيل أنه «أُدب عند رجليه» لأنه كانت عادة المعلمين أن يجلسوا على كراسي عالية ويجلس التلاميذ على الأرض قدامهم. وكان غمالائيل فريسياً مشهوراً وعضواً من أعضاء مجلس السبعين (انظر شرح ص ٥: ٣٤ - ٤٠). ولولا خطاب بولس هنا ما عرفنا أنه تلميذ ذلك اللاهوتي المشهور.
    عَلَى تَحْقِيقِ ٱلنَّامُوسِ أشار بذلك إلى أنه كان متمسكاً بالناموس كتابة وتقليداً أشد التمسك كما يُعهد من فريسي هذّبه عالِم فريسيّ بخلاف الصدوقيين الذين استخفوا بفرائض الناموس اعتقاداً وعملاً. وهذا على وفق قول بولس في نفسه «كُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي» (غلاطية ١: ١٤). وقوله في خطابه أمام أغريباس «إَنِّي حَسَبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا ٱلأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيّاً» (ص ٢٦: ٥).
    غَيُوراً لِلّٰهِ أي لاسمه ولخدمته تعالى على قدر معرفته وقتئذ لا بمجرد كتاب الناموس. وأظهر غيرته بحفظ الشريعة واضطهاد كل من لم يحفظها.
    كَمَا أَنْتُمْ جَمِيعُكُمُ ٱلْيَوْمَ أي غيرتهم الظاهرة من هياجهم وصراخهم لم تزد على غيرته قبلاً بل أنها كانت أعظم من غيرتهم كما بيّن في كلامه بعد.
    ٤ «وَٱضْطَهَدْتُ هٰذَا ٱلطَّرِيقَ حَتَّى ٱلْمَوْتِ، مُقَيِّداً وَمُسَلِّماً إِلَى ٱلسُّجُونِ رِجَالاً وَنِسَاءً».
    ص ٨: ٣ و٢٦: ٩ الخ وفيلبي ٣: ٦ و١تيموثاوس ١: ١٣
    ٱضْطَهَدْتُ فأظهرت بذلك إخلاصي وشدة تمسكي بدين آبائي.
    هٰذَا ٱلطَّرِيقَ أي الديانة النصرانية الجديدة كما سبق الكلام في (شرح ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣). وسمى المسيحيون ديانتهم «بالطريق» إظهاراً لانه وجدوها سبيلاً إلى الحياة الأبدية وسماها الأعداء بذلك بمعنى أن المسيحيين اختاروا السير فيها فأوجبوا على أنفسهم ما فيها من النوازل.
    حَتَّى ٱلْمَوْتِ أي بلغت غاية ما يمكن من الاضطهاد.
    مُقَيِّداً الخ (ص ٩: ١).
    ٥ «كَمَا يَشْهَدُ لِي أَيْضاً رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ وَجَمِيعُ ٱلْمَشْيَخَةِ، ٱلَّذِينَ إِذْ أَخَذْتُ أَيْضاً مِنْهُمْ رَسَائِلَ لِلإِخْوَةِ إِلَى دِمَشْقَ، ذَهَبْتُ لآتِيَ بِٱلَّذِينَ هُنَاكَ إِلَى أُورُشَلِيمَ مُقَيَّدِينَ لِكَيْ يُعَاقَبُوا».
    لوقا ٢٢: ٦٦ وص ٤: ٥ ص ٩: ٢ و٢٦: ١٠ و١٢
    كَمَا يَشْهَدُ أي أن ذلك أمر مشهور يمكن أن يشهد به كثيرون من الأحياء اليوم.
    رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ يحتمل معناه أن رئيس الكهنة نفسه الذي أعطاه الكتابة إلى دمشق ليضطهد أتباع يسوع كان بينهم حينئذ. فإن كان هذا معناه كان رئيس الكهنة المشار إليه ثيوفيلوس لأنه كان متولياً الرئاسة في ذلك الوقت أي سنة ٣٧ ب. م (انظر شرح ص ٤: ٦) وعزله الرومانيون لكن بقي عليه الاسم كما كان يبقى على كل من تولوا هذه الرئاسة بعد عزلهم. وإن كان مراد بولس بذلك الرئيس حنانيا الرئيس الحالي فمعناه أن عنده كل سجلات أسلافه ومكتوباتهم فيمكنه أن يراجعها ويشهد بما كُتب.
    ٱلْمَشْيَخَةِ أي أعضاء مجلس السبعين (ص ٤: ٥ و٩: ١ و٢). ولا ريب في أن بعضهم لم يزل حياً يذكر شاول الطرسوسي الغيور الذي منذ خمس وعشرين سنة قبل هذا كان عضواً من ذلك المجلس.
    أَخَذْتُ أَيْضاً مِنْهُمْ رَسَائِلَ أي من أعضاء المجلس الذين يحكمون حكماً نهائياً في المسائل الدينية. وما هنا تفصيل وإيضاح لما قيل في (ص ٩: ٨).
    لِلإِخْوَةِ إِلَى دِمَشْقَ أي ليهود دمشق والمراد أن الرسائل أُرسلت إلى شيوخ المجمع في تلك المدينة. وما يستحق الالتفات إليه هنا أن تسمية المسيحيين بعضهم بعضاً «بالإخوة» أخذوها عن مصطلح اليهود كما أخذوا غيره كثيراً من مجمعهم واصطلحوا عليه في كنيستهم.
    لِكَيْ يُعَاقَبُوا بالسجن أو الجلد أو القتل.
    ٦ «فَحَدَثَ لِي وَأَنَا ذَاهِبٌ وَمُتَقَرِّبٌ إِلَى دِمَشْقَ أَنَّهُ نَحْوَ نِصْفِ ٱلنَّهَارِ، بَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ نُورٌ عَظِيمٌ».
    ص ٩: ٣ و٢٦: ١٢ و١٣
    أخذ الرسول هنا يتكلم على علة تغيّر كل أسلوب حياته وأنها ليست إلا إعلاناً إلهياً. وما ذكره بولس في خطابه يختلف قليلاً في اللفظ عما ذكره لوقا في (ص ٩:١٣ - ١٧) فراجع الشرح هناك. ونلتفت هنا إلى تفسير ما لم يُذكر هناك. وما في هذه الآية كما في الآية الثالثة من الأصحاح التاسع. والفرق أن ما قال أنه «نور هناك» قال أنه «نور عظيم هنا» وزاد أن وقت ظهوره كان في «نصف النهار».
    ٧ «فَسَقَطْتُ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَسَمِعْتُ صَوْتاً قَائِلاً لِي: شَاوُلُ شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟».
    هذه الآية كالآية الرابعة من الأصحاح التاسع إلا أن فيها ضمير التكلم بدل ضمير الغيبة.
    ٨، ٩ «٨ فَأَجَبْتُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ لِي: أَنَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. ٩ وَٱلَّذِينَ كَانُوا مَعِي نَظَرُوا ٱلنُّورَ وَٱرْتَعَبُوا، وَلٰكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ ٱلَّذِي كَلَّمَنِي».
    دانيال ١: ٧ وص ٩: ٧
    الآية الثامنة هنا كالآية الخامسة في الأصحاح التاسع لكن زيد هنا «الناصري» وهو لقب يسوع المشهور عند العامة. والآية التاسعة كالآية السابعة هناك إلا انه ترك لفظة «المسافرون» وبدل فيها الصمت بما هو علته وهو الرعب. وفي السابعة من التاسع «يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً» وهنا «نظروا النور وارتعبوا ولكن لم يسمعوا الصوت الذي كلمني» والفرق بينهما لفظي لا معنوي. «فالصوت» في الأصحاح التاسع هو الصوت البسيط غير المشتمل على الكلمات وهنا لفظ يدل على معنى والمعنى واحد وهو أنهم لم يفهموا ما قال الذي كلم بولس. وما هنا مثل ما جاء في (يوحنا ١٢: ٢٨ - ٣٠) فإن البشير ذكر الألفاظ بعينها وبعض السامعين حسبها رعداً وبعضهم حسبها تكليم ملاك فالذين حسبوها رعداً سمعوا الصوت بمعنى سمعه في (ص ٩: ٧) ولم يسمعوه بمعنى عدم سمعه في (ص ٢٢: ٩).
    ١٠ «فَقُلْتُ: مَاذَا أَفْعَلُ يَا رَبُّ؟ فَقَالَ لِي ٱلرَّبُّ: قُمْ وَٱذْهَبْ إِلَى دِمَشْقَ، وَهُنَاكَ يُقَالُ لَكَ عَنْ جَمِيعِ مَا تَرَتَّبَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ».
    هذه الآية كالآية ٦ من ص ٩ باختلاف لا طائل تحته.
    ١١ «وَإِذْ كُنْتُ لاَ أُبْصِرُ مِنْ أَجْلِ بَهَاءِ ذٰلِكَ ٱلنُّورِ، ٱقْتَادَنِي بِيَدِي ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعِي، فَجِئْتُ إِلَى دِمَشْقَ».
    هذه الآية كالآية ٨ من ص ٩ إلا أنه زاد هنا على العمى علته وهي «بهاء ذلك النور».
    ١٢ «ثُمَّ إِنَّ حَنَانِيَّا رَجُلاً تَقِيّاً حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ، وَمَشْهُوداً لَهُ مِنْ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ ٱلسُّكَّان»
    ص ٩: ١٧ ص ١٠: ٢٢ و١تيموثاوس ٣: ٧
    ترك موسى في خطابه هنا ما ذُكر في (ص ٩: ١٠ - ١٦) وهو ما كان بين الرب وحنانيا من الحديث. وبسط الكلام في وصف حنانيا ليبيّن أنه من مشهوري يهود دمشق ومعتبريها وأن هذا اليهودي نفسه هو الذي أرسله المسيح إليه ليفتح عينيه ويدخله الكنيسة المسيحية. ووصفه بأنه «رجل تقي حسب الناموس وبأنه مشهود له من جميع اليهود السكان» إيماء إلى أن مثل هذا لا يقبله أخاً يهودياً لو كان مجدفاً وعدواً للناموس. وأنه لم يقبله أخاً مسيحياً إلا بأوضح البراهين على تغيره.
    ١٣ «أَتَى إِلَيَّ، وَوَقَفَ وَقَالَ لِي: أَيُّهَا ٱلأَخُ شَاوُلُ، أَبْصِرْ! فَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ نَظَرْتُ إِلَيْهِ».
    هذا كما في (ص ٩: ١٨) إلا بالألفاظ التي عبّر بها عن عود بصره.
    ١٤ «فَقَالَ: إِلٰهُ آبَائِنَا ٱنْتَخَبَكَ لِتَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ، وَتُبْصِرَ ٱلْبَارَّ، وَتَسْمَعَ صَوْتاً مِنْ فَمِهِ».
    ص ٣: ١٣ و٥: ٣٠ و٧: ٣٢ ص ٩: ١٥ و٢٦: ١٦ و١كورنثوس ٩: ١ و١٥: ٨ ص ٣: ١٤ و٧: ٥٢ و١كورنثوس ١١: ٢٣ وغلاطية ١: ١٢
    هذه الآية كما في (ص ٩: ١٧) إلا أن بولس ذكر ما لم يذكره لوقا ولوقا ذكر ما لم يذكره بولس فأتى كلاهما الاختصار.
    إِلٰهُ آبَائِنَا هذا تصريح بأن حنانيا وبولس يهوديان أصلاً كالذين كان يخاطبهم وقال ذلك ليرضيهم كما فعل استفانوس في خطابه لمجلس السبعين (ص ٧: ٢).
    لِتَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ بإعلان خاص.
    وَتُبْصِرَ ٱلْبَارَّ أي المسيح كما في (ص ٣: ١٤ و٧: ٥٢) وكذا دعته امرأة بيلاطس (متّى ٢٧: ١٩). والبصر هنا حقيقي لا مجازي كما هو أيضاً في (ص ٩: ١٧) وهو على وفق قوله «أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ رَبَّنَا» (١كورنثوس ٩: ١). وقوله «وَآخِرَ ٱلْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا» (١كورنثوس ١٥: ٨).
    مِنْ فَمِهِ رأساً بلا وساطة الناس أو الملائكة وهذا جعل بولس مساوياً لكل من الاثني عشر رسولاً (انظر ص ١٣: ٢ وقابل به غلاطية ١: ١).
    ١٥ «لأَنَّكَ سَتَكُونُ لَهُ شَاهِداً لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ».
    ص ٢٣: ١١ ص ٤: ٢٠ و٢٦: ١٦
    شَاهِداً كواحد من الاثني عشر الذين عيّنوا ليكونوا شهود عين (أعمال ١: ٨) فلزم أنه يعاين الرب بعد قيامته (ص ٢: ٣٢) وأن الرب نفسه يرسله.
    لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ يهوداً وأمماً علماء وجهلاء عبيداً وأحراراً أغنياء وفقراء بقطع النظر عما بينهم من الامتياز على اختلاف أنواعه من أميّ وشعبي وشخصي (انظر رومية ١: ١٤ وكولوسي ٣: ١١).
    بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ من الرب نفسه (وذلك لا بد منه ليكون رسولاً) ومن الرؤى والوحي أيضاً وهذا لا يمنع أن يعرف بوسائل أخرى كسائر الناس.
    ١٦ «وَٱلآنَ لِمَاذَا تَتَوَانَى؟ قُمْ وَٱعْتَمِدْ وَٱغْسِلْ خَطَايَاكَ دَاعِياً بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
    ص ٢: ٣٨ و١كورنثوس ٦: ١١ وعبرانيين ١٠: ٢٢ ص ٩: ١٤ ورومية ١٠: ١٣
    ذكر لوقا في (ص ٩: ١٨) أن بولس اعتمد لكن لم يذكر ما ذكره بولس من أن حنانيا دعاه إلى المعمودية.
    وَٱغْسِلْ خَطَايَاكَ الاعتماد رمز وتطهير القلب من الخطيئة مرموز إليه والأول عمل الإنسان والثاني عمل الروح القدس وكلا الأمرين واجبان.
    دَاعِياً بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ اي يسوع المسيح وهذا إقرار بلاهوته وأنه ملك ومخلص وأنه الآن يعبده بهذا الاعتبار. وجعل حنانيا ذلك شرطاً واستعداداً لمعموديته.
    ١٧ «وَحَدَثَ لِي بَعْدَ مَا رَجَعْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَكُنْتُ أُصَلِّي فِي ٱلْهَيْكَلِ، أَنِّي حَصَلْتُ فِي غَيْبَةٍ».
    ص ٩: ٢٦ و٢كورنثوس ١٢: ٢
    لم يذكر بولس ما حدث له في ثلاث سنين بعد معموديته لأنه لم يحتج إليه في ذلك الخطاب فوصل إلى حديث الرؤيا التي رآها في أورشليم وقد ذُكرت في (ص ٩: ٢٦ - ٢٩ وغلاطية ١: ١٧ و١٨). وأوصله هذا إلى أصعب ما في خطابه وهو أن يبيّن بأي واسطة صار مبشراً للأمم. فاهتم أن يبيّن لهم أن ذلك التغيير متعلق بالأماكن المقدسة التي اتهمه البعض بتدنيسها وأنه لم يأت ذلك التبشير إلا بأمر الله الذي أُعلن له وهو في المدينة المقدسة وفي نفس ذلك الهيكل المقدس.
    رَجَعْتُ... وَكُنْتُ أُصَلِّي فِي ٱلْهَيْكَلِ ذكر أنه فعل ذلك حين وصوله إلى أورشليم كأمر اعتاده فكأنه قال لا تظنوا أني بعد تنصري تركت الهيكل وعدلت عن الصلاة فيه. واعلموا أن كل ما أقصه عليكم حدث لي وأنا أعبد الله في الهيكل نفسه فإذاً مما يبعد عني قطع علاقاتي بالآباء والعهد القديم ومواعيد إسرائيل والناموس وهذا المكان المقدس.
    أَنِّي حَصَلْتُ فِي غَيْبَةٍ الغيبة هنا حال موافقة للرؤيا الإلهية (انظر شرح ص ١٠: ١٠).
    ١٨ «فَرَأَيْتُهُ قَائِلاً لِي: أَسْرِعْ وَٱخْرُجْ عَاجِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ شَهَادَتَكَ عَنِّي».
    ع ١٤ متّى ١٠: ١٤
    فَرَأَيْتُهُ أي رأيت الذي رأيته قبلاً وأنا سائر إلى دمشق (ع ١٤) وهو البارّ أي المسيح وهي أحد المناظر والإعلانات التي ذكرها بولس (٢كورنثوس ١٢: ١).
    أَسْرِعْ وَٱخْرُجْ عَاجِلاً هذا يستلزم أنه أقام بأورشليم أكثر مما يجب وأنه لا فائدة من بقائه فيها.
    لاَ يَقْبَلُونَ أي لا يصدق أهل أورشليم.
    شَهَادَتَكَ عَنِّي كانت تأدية الشهادة من الأمور المختصة بالرسل وبهذا القول صرّح الرب له أنه ليس رسولاً إلى أورشليم واليهود كبطرس وسائر الاثني عشر وأنه علم شدة رغبته في الإقامة بأورشليم وتبشير اليهود فيها.
    ١٩ «فَقُلْتُ: يَا رَبُّ، هُمْ يَعْلَمُونَ أَنِّي كُنْتُ أَحْبِسُ وَأَضْرِبُ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِكَ».
    متّى ١٠: ١٧ وص ٨: ٣ وع ٤
    فَقُلْتُ إيضاحاً لفكري وهو أن ما أتيته سابقاً من المقاومة للديانة المسيحية والاضطهاد لأتباعها يؤهلني لإقناع اليهود بصحة تلك الديانة لأني أستطيع أن أقنعهم بما أقنعني فإنهم يصدقون أني لم أتنصر إلا لأسباب كافية.
    يُؤْمِنُونَ بِكَ أظهر بهذا أن الذي خاطبه هو المسيح.
    ٢٠ «وَحِينَ سُفِكَ دَمُ ٱسْتِفَانُوسَ شَهِيدِكَ كُنْتُ أَنَا وَاقِفاً وَرَاضِياً بِقَتْلِهِ، وَحَافِظاً ثِيَابَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوهُ».
    ص ٧: ٥٨ لوقا ١١: ٤٨ وص ٨: ١ ورومية ١: ٣٢
    ما جاء في هذه الآية ذُكر في (ص ٧: ٥٨) وذكرها بولس مثلاً من أمثلة كثيرة يمكنه أن يذكرها لليهود ليبيّن لهم غيرته السابقة للناموس لكي لا يشكوا في خلوصه وهو يبشر بأن يسوع المسيح ولكي يقتنعوا بصحة شهادته.
    ٢١ «فَقَالَ لِي: ٱذْهَبْ، فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى ٱلأُمَمِ بَعِيداً».
    ص ٩: ١٥ و١٣: ٢ و٤٦ و٤٧ و١٨: ٦ و٢٦: ١٧ ورومية ١: ٥ و١١: ١٣ و١٥: ١٦ وغلاطية ١: ١٥ و١٦ و٢: ٧ وأفسس ٣: ٧ و٨ و١تيموثاوس ٢: ٧ و٢تيموثاوس ١: ١١
    قَالَ لِي: ٱذْهَبْ لم يكن جواب المسيح له سوى تكرير الأمر. ولا بد من أنه كان صعباً على بولس أن يخبر اليهود بهذا الجواب لما فيه من التوبيخ له فلم يذكره إلا ليبيّن شدة رغبته في بذل حياته نفعاً لأمته اليهودية وأنه لم يعدل عنهم إلى الأمم إلا بأمر الرب الذي لا مردّ له. وليس في هذا ما ينافي قول لوقا أن «ٱلإِخْوَةُ أَحْدَرُوهُ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ وَأَرْسَلُوهُ إِلَى طَرْسُوسَ» (ص ٩: ٣٠) إذ المحقّق أنه لولا أمر الرب ما ترك أورشليم إجابة لإلحاح الإخوة. والبرهان على ذلك ما قيل في (ص ١٥: ١ - ٤).
    سَأُرْسِلُكَ إِلَى ٱلأُمَمِ دُعي مثل هذه الدعوة ثانية في أنطاكية بإعلان الروح القدس لكنيستها (ص ١٣: ٢). وهنا أوضح بولس لليهود أنه أمر من السماء وهو في الهيكل بفعله ما اشتكوا عليه به وطلبوا قتله من أجله.

    قطع خطاب بولس وأمر الأمير بجلده ونجاته من ذلك بكونه رومانياً وإقامته في المجلس ع ٢٢ إلى ٣٠


    ٢٢ «فَسَمِعُوا لَهُ حَتَّى هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ، ثُمَّ صَرَخُوا قَائِلِينَ: خُذْ مِثْلَ هٰذَا مِنَ ٱلأَرْضِ، لأَنَّهُ كَانَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ».
    ص ٢١: ٣٦ ص ٢٥: ٢٤
    هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ أي لفظة «الأمم» أو الجملة الأخيرة التي صرّح بها أن المسيح الموعود به أمر في هيكل بولس أن يعدل عن شعبه المختار إلى تبشير الأمم الغلف المبغضين مساوياً إيّاهم بأبناء إبراهيم. فمع أن الأنبياء أنبأوا بمثل هذا لم يعتقد اليهود إمكانه فذكر بولس إياه يومئذ ملأ قلوبهم حسداً وغيظاً كالجنون.
    ثُمَّ صَرَخُوا قَائِلِينَ كمن فم واحد.
    خُذْ إلى الموت. وصرخوا بمثل ذلك على ربه (لوقا ٢٣: ٢٨ ويوحنا ١٩: ١٥) وعلى استفانوس (ص ٧: ٥٧) ولولا العساكر فعلوا به ما فعلوه باستفانوس.
    لاَ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ كما حكمنا وأردنا أن نجري الحكم لو لم يخطفه العكسر من أيدينا. فهم اتخذوا ما قاله بولس من جهة إرساله إلى الأمم دليلاً قاطعاً على صحة كل ما اتهموه به في (ص ٢١: ٢٨) وهو أنه مرتد عن الدين اليهودي ومجدف ومدنّس الهيكل.
    ٢٣ «وَإِذْ كَانُوا يَصِيحُونَ وَيَطْرَحُونَ ثِيَابَهُمْ وَيَرْمُونَ غُبَاراً إِلَى ٱلْجَوِّ».
    كل ذلك علامة لشدة غيظهم.
    يَصِيحُونَ يصرخون بغاية ما يستطيعون.
    يَطْرَحُونَ ثِيَابَهُمْ إظهاراً لغيظهم. هذا ما نعلمه ولكن لا نعلم لماذا جعلوا طرحها دليلاً على ذلك ولعلهم أتوا ذلك إشارة إلى أنهم مستعدون لرجمه لو أمكنهم. أو أنهم طرحوها عنهم ليليحوا بها تشفياً لشدة انفعالهم.
    يَرْمُونَ غُبَاراً إِلَى ٱلْجَوِّ كما يفعل بعض الثيران استعداداً لمقاتلة غيره ويأتي ذلك الناس علامة للنفار (ص ١٨: ٦ ومتّى ٨: ١٤). واكتفوا برمي الغبار لمنع العساكر إياهم من رمي الحجارة. وهذا لم يترك لبولس فرصة للتكلم بعد.
    كان خراب أورشليم قد حان ولم يبق لها أن تبقى عامرة سوى ١٢ سنة وحينئذ أتى إليها من هو أفضل أولادها علماً وتقوى وهو معلم ملهم مملوء قلبه حباً لها حتى ودّ أن يكون «محروماً من المسيح لأجلها» فعاملته كأنه نفاية العالم ولولا حماية أسلحة الجنود الرومانيين له سفكت دمه.
    ٢٤ «أَمَرَ ٱلأَمِيرُ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ، قَائِلاً أَنْ يُفْحَصَ بِضَرَبَاتٍ، لِيَعْلَمَ لأَيِّ سَبَبٍ كَانُوا يَصْرُخُونَ عَلَيْهِ هٰكَذَا».
    لم يفهم الأمير شيئاً من خطاب بولس لأنه بالعبرانية ولم ينل ما أمل من أن يعرف ماذا كان ذنب بولس من خطابه فتصلّب في رأيه لما رآه من غيظ الشعب وسمعه من صراخهم واعتقد أن بولس ارتكب ذنباً عظيماً وقصد أن يعذبه ليقف على حقيقة أمره بإقراره وهو تحت العذاب.
    أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ كما قصد أولاً بغية أن يحميه من الشاغبين (ص ٢١: ٣٤).
    يُفْحَصَ بِضَرَبَاتٍ كان الجلد أحد الطرق التي اتخذها الظالمون قديماً ليجبروا المسجونين على الإقرار بذنوبهم أي الشكوى على أنفسهم ليستريحوا من ألم الضرب فأمر الأمير به بناء على كونه من الأمور المعتادة.
    ٢٥ «فَلَمَّا مَدُّوهُ لِلسِّيَاطِ، قَالَ بُولُسُ لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ ٱلْوَاقِفِ: «أَيَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَجْلِدُوا إِنْسَاناً رُومَانِيّاً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْهِ؟».
    ص ١٦: ٣٧
    مَدُّوهُ لِلسِّيَاطِ استعداداً للجلد بالسياط المضفورة من الجلد.
    لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ ٱلْوَاقِفِ الذي وكل إليه الأمير أن يُجري أمره بضرب بولس ويشاهد إجراءه. ومثله كان الذي وُكل إليه مشاهدة صلب المسيح (متّى ٢٧: ٥٤ ولوقا ٢٣: ٤٧.
    أَيَجُوزُ صرّح بولس هنا بحقوقه باعتبار أنه روماني كما صرح في فيلبي (ص ١٦: ٣٧) فانظر الشرح هناك. وقصد بسؤاله أن يبيّن عدم جواز ما كان قد قصد أن يفعله لأنه كان من أعظم الذنوب في الشريعة الرومانية على ما هو المعلوم عند الجميع.
    لَكُمْ يا عساكر الرومانيين المعيّنين لحراسة الحقوق الرومانية.
    غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْهِ هذا يعظّم جرم الذين ضربوه وسجنوه كما صرّح بولس في (ص ١٦: ٣٧).
    ٢٦ «فَإِذْ سَمِعَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ذَهَبَ إِلَى ٱلأَمِيرِ، وَأَخْبَرَهُ قَائِلاً: ٱنْظُرْ مَاذَا أَنْتَ مُزْمِعٌ أَنْ تَفْعَلَ! لأَنَّ هٰذَا ٱلرَّجُلَ رُومَانِيٌّ».
    رُومَانِيٌّ ممن لهم حقوق الرومانين لا أنهم من رومية (انظر ص ١٦: ٣٧ و٣٨).
    ٢٧ «فَجَاءَ ٱلأَمِيرُ وَقَالَ لَهُ: قُلْ لِي. أَأَنْتَ رُومَانِيٌّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ».
    هذا استفهام تعجب ومعناه. أيمكن أن تكون رومانياً وأنت يهودي رفضته أمته. لم يشك القائد ولا الأمير في صحة قول بولس أنه روماني لمعرفتهما أن الذي يدّعي ذلك كذباً يعرض نفسه للموت العاجل لكن الأمير تعجب أن مثله ينال ذلك الامتياز.
    ٢٨ «فَأَجَابَ ٱلأَمِيرُ: أَمَّا أَنَا فَبِمَبْلَغٍ كَبِيرٍ ٱقْتَنَيْتُ هٰذِهِ ٱلرَّعَوِيَّةَ. فَقَالَ بُولُسُ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ وُلِدْتُ فِيهَا».
    ينتج من ذلك أن الأمير سرياني الأصل أو يوناني وأن كونه في منصب عال في الجيش الروماني لا يوجب له الحقوق الرومانية وأن الحصول على تلك الحقوق كان عسيراً جداً لم يكن لأحد أن يمنحها سوى الأمبراطور نفسه. نعم أنه في أيام كلوديوس حين هذه المحاورة كانت امرأته ميسلينا تأخذ أوراق الرعوية منه وتبيعها بأثمان بخسة لمن تريد ولكن ذلك كان بعد أن حصل الأمير على تلك الرعوية. ولم يمكن أحد الحصول عليها قبل ذلك إلا بتأدية ثمن وافر كما قال الأمير. وقول الأمير «أنا بمبلغ اقتنيت هذه الرعوية» يتضمن قوله كيف اقتنيتها أنت.
    وُلِدْتُ فِيهَا ورثها عن أبيه أو غيره من أسلافه وكونه من طرسوس لا يمنحه تلك الرعوية وإلا كان قوله سابقاً «أنا طرسوسي» (ص ٢١: ٣٩) وافياً ببيان ذلك فصرّح بحقه شيئاً ليدفع عن نفسه ألم الجلد وإهانته وليكون له فرصة أن يخاطب المجلس كما خاطب الشعب.
    ٢٩ «وَلِلْوَقْتِ تَنَحَّى عَنْهُ ٱلَّذِينَ كَانُوا مُزْمِعِينَ أَنْ يَفْحَصُوهُ. وَٱخْتَشَى ٱلأَمِيرُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ رُومَانِيٌّ، وَلأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَهُ».
    ٱلَّذِينَ... يَفْحَصُوهُ أي العسكر حين عرفوا أنه روماني وأتوا ذلك غير متوقعين أمر الأمير كأنه مما لا بدّ منه.
    ٱخْتَشَى ٱلأَمِيرُ لأن جلد الروماني جرم يوجب على مرتكبه الموت بل مده للضرب يوجب ذلك.
    لأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَهُ ليمدّه للضرب (ع ٢٥) لا بقيده الأول (ص ٢١: ٣٣) لأن ذاك كان لمنعه من الهرب ولم يزل باقياً عليه (ع ٣٠).
    ٣٠ «وَفِي ٱلْغَدِ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ ٱلْيَقِينَ: لِمَاذَا يَشْتَكِي ٱلْيَهُودُ عَلَيْهِ؟ حَلَّهُ مِنَ ٱلرِّبَاطِ، وَأَمَرَ أَنْ يَحْضُرَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَكُلُّ مَجْمَعِهِمْ. فَأَحْضَرَ بُولُسَ وَأَقَامَهُ لَدَيْهِمْ».
    فِي ٱلْغَدِ أي غد يوم إمساكه.
    يَعْلَمَ ٱلْيَقِينَ مع اقتناعه عن تقرير بولس بالضرب. وكان هذا العلم من واجبات مأموريته للحكم بمقتضى العدل والمحاماة عن بولس إذا وجده بريئاً ومعاقبته إذا وجده مذنباً.
    أَمَرَ أَنْ يَحْضُرَ قصد أن يسأل اليهود أنفسهم لأنه لم يعلم شيئاً من صراخ الشاغبين ولا من خطاب بولس بالعبرانية.
    رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَكُلُّ مَجْمَعِهِمْ ذكر لوقا رؤساء الكهنة مع أنهم من أعضاء المجمع المذكور بعدهم لأنهم أهم الأعضاء والمجمع هنا هو مجمع السبعين.
    حَلَّهُ مِنَ ٱلرِّبَاطِ أي السلسلتين المذكورتين في (ص ٢١: ٣٣) اللتين رُبط بهما منعاً له من الهرب.
    فَأَحْضَرَ بُولُسَ من القلعة إلى المجلس في غير الهيكل وإلا ما أمكن الأمير أن يدخله ويأتي ببولس إليه. والظاهر أنه ترك العكسر خارجاً على مرأى منه ومسمع بدليل ما في (ص ٢٣: ١٠). وكان استفانوس قد وقف للمحاكمة أمام السبعين وبولس الذي وقف حينئذ أمامهم أسيراً كان قبلاً يجلس كواحد منهم. جعل الله رغبة الأمير في أن يعلم اليقين من أمر بولس وسيلة إلى مناداة ذلك الرسول بالحقائق أمام أعظم رؤساء اليهود المجتمعين في مجلسهم.

    الأصحاح الثالث والعشرون


    بولس في مجمع اليهود ع ١ إلى ١٠


    ١ «فَتَفَرَّسَ بُولُسُ فِي ٱلْمَجْمَعِ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، إِنِّي بِكُلِّ ضَمِيرٍ صَالِحٍ قَدْ عِشْتُ لِلّٰهِ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».
    ص ٢٤: ١٦ و١كورنثوس ٤: ٤ و٢كورنثوس ١: ١٢ و٤: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٣ وعبرانيين ١٣: ١٨
    فَتَفَرَّسَ بُولُسُ حضر هنالك منذ خمس وعشرين سنة مشتكياً على استفانوس أو قاضياً عليه ومن هنالك أخذ رسائل توصية إلى دمشق ليضطهد من فيها من المسيحيين (ص ٩: ١ و٢). «وتفرس في المجمع» أي نظر بإمعان ليعرف هل بينهم من عرفه سابقاً وليحكم من علمات وجوههم على صفاتهم وإحساساتهم من جهته وليعلم أي منهم فريسي وأي منهم صدوقي على ما يتبين من (ع ٦).
    فِي ٱلْمَجْمَعِ أي أهل المجمع وهم سبعون رجلاً لهم الحكم في أمور أمة اليهود الدينية وبعض أمورها السياسية.
    أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ ترك كلمة «الآباء» التي لفظها في خطابه على الدرج ولعله أتى ذلك عمداً ليبيّن أنه مساو لهم غير فاقد شيئاً من الحقوق التي كانت له سابقاً وهو عضو في ذلك المجمع. وكان يخاطبهم باليونانية لأنهم فهموا الخطاب هم والأمير (ع ٢٩).
    بِكُلِّ ضَمِيرٍ صَالِحٍ ما في هذا الجملة مختصر كل ما أراد أن يحتج به في المجمع وأتى به خوفاً من أن يقطعوا خطابه قبل أن يفرغ منه. وفيه تصريح بأربعة أمور:

    • الأول: أنه ليس بمرتد عن ناموس موسى بل كان أميناً بكل الواجبات باعتبار كونه يهودياً.
    • الثاني: أنه بريء مما اتهمه به أعداءه من الإساءة إلى اليهود وديانتهم في ذلك الوقت وفي ما قبله.
    • الثالث: أنه اضطهد المسيحيين وهو يظن ذلك خدمة لله.
    • الرابع: أنه أتى الآن باعتبار كونه مسيحياً ما أتاه خدمة لله كقصده سابقاً فما قاله في المجلس تبرئة لنفسه كتبه في (٢تيموثاوس ١: ٣ وفي ١كورنثوس ٤: ٤ انظر أيضاً أعمال ٢٤: ١٦).


    وتصريحه ببقائه أميناً بعد تنصره في كل واجباته باعتبار كونه يهودياً مبني على اعتقاده المصرّح به في كل تعاليمه أن الديانة النصرانية هي كمال الديانة اليهودية لا منافية لها. وهذا على وفق قول المسيح «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (متّى ٥: ١٧).
    لِلّٰهِ مطيعاً للشريعة التي أُوحي بها فهو يعرف إخلاصي في تصرفي وصدق ما أقوله الآن.
    إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ أي اضطهدت دين المسيح ويوم بشرت به فحين ظننت الدين المسيحي كذباً قاومته بكل ما استطعت وحين اقتنعت بصدقه بذلت كل جهدي في إثبات دعاويه (انظر شرح يوحنا ١٦: ٢).
    ٢ «فَأَمَرَ حَنَانِيَّا رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ، ٱلْوَاقِفِينَ عِنْدَهُ أَنْ يَضْرِبُوهُ عَلَى فَمِهِ».
    ١ملوك ٢٢: ٢٤ وإرميا ٢٠: ٢ ويوحنا ١٨: ٢٢ و٢٣
    حَنَانِيَّا رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ قال يوسيفوس أن هذا الإنسان صدوقي ابن نبيديوس وأنه كان ظالماً ناهباً فكاد يميت الكهنة الصغار جوعاً بأخذه كل العشور. وبقي رئيس كهنة مدة أطول من مدة غيره من رؤساء الكهنة في ذلك العصر وهي من سنة ٤٨ ب. م إلى سنة ٥٢ ب. م ثم أرسله كيومانوس الوالي الذي قبل فيلكس مقيداً بالسلاسل إلى رومية ليحاكم أمام الأمبراطور كلوديوس فنجا هنالك من الدعوى التي أُقيمت عليه بعد مشقة عظيمة ورجع إلى أورشليم سنة ٥٧ وتولى رئاسة الكهنة في غيابه يوناثان فأبغضه فيلكس وأمر بقتله سراً. وأوقف بولس أمامه سنة ٥٨.
    ظن كثيرون أن فيلكس أذن له في ممارسة الرئاسة بدون أن يُرسم ثانية إلى أن أقام أغريباس الثاني اسماعيل رئيساً. فكان كل من تولى تلك الرئاسة يلقب برئيس الكهنة مدة حياته فإذا تسميته هنا رئيساً ليست بدليل قاطع على أنه كان الرئيس القانوني.
    ٱلْوَاقِفِينَ عِنْدَهُ أي أتباعه القريبين منه.
    أَنْ يَضْرِبُوهُ عَلَى فَمِهِ منعاً له من التكلم وإظهاراً لكون قوله كذباً وتجديفاً فإنه اغتاظ من أن إنساناً اعتبره مذنباً مرتداً عن دين آبائه مستحقاً الموت يدّعي أنه عاش لله بضمير صالح في كل تصرفه ومن أنه بتبرئته نفسه كذّبه وسائر رؤساء الكهنة المشتكين عليه ومن أنه دعاهم «إخوة» بدلاً من أن يدعوهم «آباء» على أنه مساو ومن نجاته من تسلطهم بتصريحه بأنه روماني. والمسيح نفسه احتمل مثل هذا الظلم وتلك الإهانة من أحد خدام قيافا (يوحنا ١٨: ٢٢). وكذا ميخا النبي يوم ضربه صدقيا على الفك (٢أيام ١٨: ٢٣).
    ٣ «حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ بُولُسُ: سَيَضْرِبُكَ ٱللّٰهُ أَيُّهَا ٱلْحَائِطُ ٱلْمُبَيَّضُ! أَفَأَنْتَ جَالِسٌ تَحْكُمُ عَلَيَّ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ، وَأَنْتَ تَأْمُرُ بِضَرْبِي مُخَالِفاً لِلنَّامُوسِ؟».
    لاويين ١٩: ٣٥ وتثنية ٢٥: ١ و٢ ويوحنا ٧: ٥١
    سَيَضْرِبُكَ ٱللّٰهُ أي سيعاقبك لأنه عادل لا بد من أن يعاقب من يعوّج القضاء هكذا.
    عرف بولس براءته وأن الله سيحامي عنه. فقول بولس ليس بدعاء على حنانيا بل هو نبوءة بما سيقع عليه علم به بولس بالوحي لأنه كان نبياً أو بعلمه أن الله ديّان عادل يعاقب المرائين الظالمين لا محالة. وقد أُنجزت هذه النبوءة بعد نحو خمس سنين من هذه المحاورة بدليل قول يوسيفوس «أن المشمليين القتلة فتنوا على حنانيا الرئيس فأخرجوه منها وقتلوه».
    ٱلْحَائِطُ ٱلْمُبَيَّضُ أي الحسن الظاهر القبيح الباطن وكنى بذلك عن أنه مراء ومما قال فيه يوسيفوس يتضح أنه مستحق هذا اللقب. ووصف المسيح الفريسيين بمثل هذا (متّى ٣: ٢٠ و٢٧ ولوقا ١١: ٢٤). فإن حنانيا تظاهر أنه جالس في المجلس للقضاء بالعدل فدل عمله على أنه جلس هنالك ليشفي غيظه وليجري مقاصد جماعته.
    جَالِسٌ تَحْكُمُ باعتبار كونك واحداً من أعضاء المجلس الذين من واجباتهم أن يعطوا المشكو عليه فرصة للدفع عن نفسه ويحكموا بمقتضى الشريعة الموسوية. وهذا كقول نيقوديموس «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ» (يوحنا ٧: ٥١ انظر أيضاً أمثال ١٨: ١٣ ولاويين ١٩: ١٥ و١٦ وخروج ٢٣: ١ و٢ وتثنية ١٩: ١٥).
    مُخَالِفاً لِلنَّامُوسِ القائل «لاَ تَرْتَكِبُوا جَوْراً فِي ٱلْقَضَاءِ» (لاويين ١٩: ٣٥). فإن حنانيا خالف الناموس بأمرين الأول أمره بضرب بولس جوراً. والثاني أنه بذلك الأمر حكم عليه بأنه مذنب قبل أن يسمع احتجاجه.
    فعلينا أن نلاحظ أن هذه الحادثة ليست مقصورة على شخص بولس بل عامة له وليسوع المسيح ودينه. فإن بولس صرّح في الآية الأولى بأمانته لكل مشتملات العهد القديم لأنه بإيمانه بالمسيح آمن بكل نبوآت العهد القديم وصرح بأن يسوع أكمل كل رسوم الناموس الموسوي غير ناقض شيئاً منه. والجور على بولس كان جوراً على المسيح الذي جعل نفسه وتلاميذه واحداً إذ قال «ٱلَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي» (لوقا ١٠: ١٦). وتوبيخ بولس لحنانيا لم يكن لغاية شخصية. قال المسيح لرسله «مَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ» (متّى ١٠: ١٩ و٢٠). إن بولس كان واقفاً في المجلس ليشهد للمسيح ولا ريب في أن الروح القدس علمه ما تكلم به على وفق وعده. فلا محل لقول بعضهم أنه تكلم بحدة وفرّط بشفتيه والذي يستأصل هذا الوهم أن الرب ظهر لبولس في تلك الليلة وقال له «كَمَا شَهِدْتَ بِمَا لِي فِي أُورُشَلِيمَ، هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ فِي رُومِيَةَ أَيْضاً» (ع ١١).
    ٤ «فَقَالَ ٱلْوَاقِفُونَ: أَتَشْتِمُ رَئِيسَ كَهَنَةِ ٱللّٰهِ؟».
    فَقَالَ ٱلْوَاقِفُونَ هم الذين من حزب حنانيا ولعلهم توقفوا عن لطم بولس خجلاً من جراءته على توبيخ حنانيا أو خوفاً من الأمير بينهم واكتفوا بما قالوه توبيخاً. ومما يتوقع أن أصحاب حنانيا أعداء بولس يحسبون نبوءته وقاحة وفجوراً لأنهم لم يعلموا أنه تنبأ بأمر روح الله.
    ٥ «فَقَالَ بُولُسُ: لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّهُ رَئِيسُ كَهَنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: رَئِيسُ شَعْبِكَ لاَ تَقُلْ فِيهِ سُوءاً».
    ص ٢٤: ١٧ خروج ٢٢: ٢٨ وجامعة ١٠: ٢٠ و٢بطرس ٢: ١٠ ويهوذا ٨
    لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ... أَنَّهُ رَئِيسُ لا مانع من أن نأخذ هذا القول على ظاهر معناه لأن حنانيا أُقيم رئيساً بعد نحو أربع عشرة سنة لتنصر بولس فلم يكن له من وسيلة إلى معرفة الرؤساء في تلك المدة. ولا يلزم أن يكون رئيس الكهنة رئيس المجلس حتى أنه يعرف من مكان جلوسه. ولم يكن من عوائد رئيس الكهنة أن يلبس أثوابه الخاصة إلا عند ممارسة الخدمة في الهيكل فلا سبيل إلى معرفته من ملبوسه في كل زمان أو مكان. ويصح أن يكون معنى قول بولس أنه لم يعرفه رئيس كهنة الله لأنه ليس كذلك لأنه يجب أن يكون «رئيس كهنة الله» من أبناء هارون ويبقى كاهناً إلى أن يموت ثم يقوم مكانه آخر من أبناء هارون أيضاً وهذا الإنسان لا دليل على أنه من أبناء هارون أو على أنه رئيس بأمر إلهي إنما أقامه الناس للرشوة أو ما شاكلها. وكان في ذلك المجلس كثيرون ممن تولوا تلك الرئاسة وعُزلوا وكان من الواجب أن يكون رئيس كهنة الله مشابهاً لله بعض المشابهة في صفاته الأدبية لكن حنانيا كان على غاية المخالفة لذلك فلم يسلم بولس بأنه رئيس كهنة الله ولم يحسب أنه خالف الناموس بما قاله له.
    لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ (خروج ٢٢: ٢٨) أظهر بولس باقتباسه هذا أنه عارف الناموس وذاكر إياه ومعتبره قانون حياته وسيرته وبرّر نفسه من تهمة الشتم ولم يكن كلامه اعتذاراً. فكأنه قال لم أخالف الناموس فاين رئيس كهنة الله. لأن بينكم كثيرين من رؤساء الكهنة وكثرة عددهم دليل على أنكم تركتم الناموس ولم يبق سبيل إلى معرفة رئيس الكهنة الحقيقي.
    رَئِيسُ شَعْبِكَ هذا يعم كل ذي منصب سياسي أو ديني فيصدق على رئيس الكهنة الذي قال بولس أنه من المحال أن يقول فيه سوءاً. والخلاصة أن جواب بولس يشتمل على أمرين الأول أنه لم يعرف أن حنانيا رئيس كهنة الله والثاني أنه غير غافل عن الناموس.
    ٦ «وَلَمَّا عَلِمَ بُولُسُ أَنَّ قِسْماً مِنْهُمْ صَدُّوقِيُّونَ وَٱلآخَرَ فَرِّيسِيُّونَ، صَرَخَ فِي ٱلْمَجْمَعِ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، أَنَا فَرِّيسِيٌّ ٱبْنُ فَرِّيسِيٍّ. عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ أَنَا أُحَاكَمُ».
    ص ٢٦: ٥ وفيلبي ٣: ٥ ص ٢٤: ١٥ و٢١ و٢٦: ٦ و٢٨: ٢٠
    عَلِمَ بُولُسُ لأنه كان قد عرف بعضهم معرفة شخصية وعرف الآخر معرفة عامة مما شاع بين الناس.
    قِسْماً مِنْهُمْ صَدُّوقِيُّونَ وَٱلآخَرَ فَرِّيسِيُّونَ وهما الفرقتان الكبيرتان في اليهود وسبق الكلام عليهما في شرح (متّى ٣: ٧) وعلم بولس فوق ذلك أن الفرقتين متفقتان على الحكم عليه لاعتقادهما أنه مقدام شيعة الناصري الضالة.
    صَرَخَ لأربعة أسباب:

    • الأول: يأسه من أن الرؤساء يحكمون في أمره بالعدل والإنصاف. وغيظهم منه قد أعمى قلوبهم فاعتقدوا أنه مذنب قبل أن ينظروا في أمره.
    • الثاني: يأسه من إفادتهم إن بشرّهم بالمسيح ودينه.
    • الثالث: أن يعرف الأمير براءته مما اتهموه بما يشاهده منهم من أدلة الحسد والخصام والبغض والاضطهاد.
    • الرابع: إرشاد الروح القدس إيّاه إلى ما أتاه على وفق وعد المسيح (متّى ١٠: ١٩ و٢٠).


    أَنَا فَرِّيسِيٌّ بالنظر إلى الخلاف بين الفريسيين والصدوقيين في العقائد. وأنا فريسي باعتبار كوني يهودياً قبل وبعد. وهذا لا يستلزم إنكار أنه مسيحي أيضاًً.
    ٱبْنُ فَرِّيسِيٍّ فإذاً هو فريسي مولداً وتربية واقتداء بوالديه وله كل ما للفريسيين من الحقوق. وقد تأصلت فيه كل المبادئ الجوهرية التي امتاز بها الفريسيون عن غيرهم وكان كل أصدقائه ومخالطيه من تلك الفرقة.
    عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ الخ أي أن الموتى كلهم ينامون وذلك الرجاء مبني على إيمانه بقيامة يسوع. وهذا موافق لقوله في الرسالة إلى أهل كورنثوس «إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ، وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضاً شُهُودَ زُورٍ لِلّٰهِ، لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ ٱللّٰهِ أَنَّهُ أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ وَهُوَ لَمْ يُقِمْهُ... وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ» (١كورنثوس ١٥: ١٣ - ٢٠). وكان بولس وسائر الرسل يسندون دائماً إيمانهم بصحة دعوة يسوع أنه المسيح إلى قيامته من الموت (ص ١٣: ٣٤ و١٧: ٣١ و٣٢ و٢٦: ٦ و٧ و٢٣: ٢٥). واتخذوا قيامة المسيح البرهان الأعظم في كل محاورتهم لليهود ومعظم موضوع مواعظهم. فاعتاظ الصدوقيون من المسيحيين كل الاغتياظ لأن تعليمهم القيامة قوّى حجة الفريسيين على الصدوقيين. ولا يلزم من قول بولس «على رجاء قيامة الأموات أنا أحاكم» إن ذلك العلة الوحيدة لمحاكمتهم إياه وبغضهم له ولكنه خصه بالذكر لأن سائر الاختلافات المتعلقة بناموس موسى ليست شيئاً بالنسبة إليه ولأنها تبطل كلها إذا ثبت وتثبت كلها إذا بطل. وقد علم بولس بمناظرته لليهود أشد التعاليم تهييجاً لبغض اليهود له ومقاومته إياه فبينه هنا وهو الشهادة بقيامة المسيح. ومثل احتجاج بولس هنا احتجاجه أما أغريباس بقوله «وَٱلآنَ أَنَا وَاقِفٌ أُحَاكَمُ عَلَى رَجَاءِ ٱلْوَعْدِ ٱلَّذِي صَارَ مِنَ ٱللّٰهِ لآبَائِنَا، ٱلَّذِي أَسْبَاطُنَا ٱلٱثْنَا عَشَرَ يَرْجُونَ نَوَالَهُ، عَابِدِينَ بِٱلْجَهْدِ لَيْلاً وَنَهَاراً. فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا ٱلرَّجَاءِ أَنَا أُحَاكَمُ مِنَ ٱلْيَهُودِ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ. لِمَاذَا يُعَدُّ عِنْدَكُمْ أَمْراً لاَ يُصَدَّقُ إِنْ أَقَامَ ٱللّٰهُ أَمْوَاتاً؟» (ص ٢٦: ٦ - ٨).
    زعم بعضهم أن ما فعله بولس هنا من القاء الفتنة بين الفريقين للنجاة منهما مما لا يتوقع من مثله وحسبوه ضرباَ من الاحتيال ولكن لا داعي له إلى شيء من الحيل إذ لم يكن خائفاً لأنه ذهب إلى أورشليم وهو يتوقع «الوثق والشدائد غير محتسب لشيء» (ص ٢٠: ٢٣ و٢٤). ولم يكن عرضة للخطر لكونه في حماية الأمير وعساكره الرومانيين. وكانت غاية مجيئه إلى أورشليم الشهادة للمسيح ويئس من إفادة الصدوقيين فانتهز الفرصة الأخيرة لجذب الفريسيين إليه ((إن أمكن) ليقودهم بواسطة اعتقادهم قيامة الأموات إلى الإيمان بيسوع الذي قام من الموت.
    ٧ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا حَدَثَتْ مُنَازَعَةٌ بَيْنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ، وَٱنْشَقَّتِ ٱلْجَمَاعَةُ».
    مُنَازَعَةٌ في تبرئة بولس أو الحكم عليه. أراد الفريسيون تبرئته والصدوقيون الحكم عليه بأنه مرتد عن الناموس ومجدف عليه ومدنس للهيكل. لأن الفريسيين حسبوا بولس أقرب إليهم في الاعتقاد من الصدوقيين ولم يروا من الحكمة الحكم على إنسان يساعدهم على الصدوقيون في أعظم ما اختلفوا عليه.
    وَٱنْشَقَّتِ ٱلْجَمَاعَةُ أي أعضاء المجمع.
    ٨ «لأَنَّ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ قِيَامَةٌ وَلاَ مَلاَكٌ وَلاَ رُوحٌ، وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَيُقِرُّونَ بِكُلِّ ذٰلِكَ».
    متّى ٢٢: ٢٣ ومرقس ١٢: ١٨ ولوقا ٢٠: ٢٧
    ما في هذه الآية جاء به لوقا شرحاً للاختلاف بين الفرقتين في الاعتقاد بياناً لعلة منازعتهم مناداة بولس بالقيامة.
    إِنَّهُ لَيْسَ قِيَامَةٌ اي أن الموتى لا يقومون وأنكروا فوق ذلك خلود النفس وقالوا لا حياة إلا الحياة في هذه الدنيا (انظر شرح متّى ٣: ٧ و٢٢: ٢٣).
    وَلاَ مَلاَكٌ وَلاَ رُوحٌ فأنكروا بذلك الأرواح السماوية والأرواح الجهنمية وأرواح البشر منفصلة عن الأجساد ولم يُثبتوا للمخلوق سوى المادة. قال فيهم يوسيفوس أنهم نفوا خلود النفس والثواب والعقاب في العالم الآتي واعتقدوا أن النفس تموت بموت الجسد. وأن الفريسيين اعتقدوا أن نفوس البشر خالدة تُثاب أو تُعاقب وهي في الأجساد على مقتضى أعمالها الصالحة أو الشريرة. فإن قيل كيف اعتقد الصدوقيون ما اعتقدوه وهم يؤمنون بصحة أسفار موسى الخمسة وفيها ذكر حضور الملائكة مراراً قلنا أنهم اعتبروا ظهورهم وقتياً بخلق الله إياهم في الحال لغاية مخصوصة وملاشاته إياهم بعد إدراك تلك الغاية.
    ٩ «فَحَدَثَ صِيَاحٌ عَظِيمٌ، وَنَهَضَ كَتَبَةُ قِسْمِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَطَفِقُوا يُخَاصِمُونَ قَائِلِينَ: لَسْنَا نَجِدُ شَيْئاً رَدِيّاً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ! وَإِنْ كَانَ رُوحٌ أَوْ مَلاَكٌ قَدْ كَلَّمَهُ فَلاَ نُحَارِبَنَّ ٱللّٰهَ».
    ص ٢٥: ٢٥ و٢٦: ٣١ ص ٢٢: ٧ و١٧ و١٨ ص ٥: ٣٩
    كَتَبَةُ هم علماء اليهود ومفسروا الناموس فمن الطبع أن يكونوا المتقدمين في الكلام.
    قِسْمِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ كان بعض الكتبة صدوقيين وأكثرهم فريسيين فهم ليسوا شيعة مخصوصة.
    لَسْنَا نَجِدُ شَيْئاً رَدِيّاً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ أي أنه لم يخالف شيئاً من شريعة موسى وكل ما قاله في القيامة حقّ. فرضى الفريسيين عن بولس لقوله بالقيامة أنساهم وقتياً سائر الدعاوي عليه.
    إِنْ كَانَ رُوحٌ أَوْ مَلاَكٌ قَدْ كَلَّمَهُ أشاروا بهذا إلى ما قصه عليهم بولس من حديث رؤياه في طريق دمشق وفي الهيكل (ص ٢٢: ١٤ و١٧ و١٨). فكأنهم قالوا أخبرنا بولس أنه ذهب إلى الأمم إطاعة للرؤيا في الهيكل وهذا ليس مما تستحيل صحته لأن الله اعتاد أن يُظهر إرادته بواسطة الأرواح والملائكة فيحتمل أنه تعالى أعلن له ما قاله ولذلك ذهب إلى الأمم ينادي لهم بقيامة الأموات. وفي قولهم هذا طعن صريح في ضلال الصدوقيين وإقرار باعتقادهم وجود الأرواح والملائكة. وليس لنا أن نتخذ قولهم دليلاً على أنهم صاروا أصدقاء لبولس وآمنوا بدين المسيح فإنهم حاموا عن بولس لبغضهم الصدوقيين ولأنه حامى عن اعتقادهم القيامة التي نفاها الصدوقيون. وفي قولهم تحريف لقول بولس فإنه قال «إن الرب (أي يسوع) ظهر له وكلمه» وهم قالوا «إن كان روح أو ملاك قد كلمه».
    فَلاَ نُحَارِبَنَّ ٱللّٰهَ لأنه على فرض أن الله أمر بولس أن يبشر الأمم كانت المقاومة له مقاومة لله الذي أرسله (انظر شرح ص ٥: ٣٩).
    ١٠ «وَلَمَّا حَدَثَتْ مُنَازَعَةٌ كَثِيرَةٌ ٱخْتَشَى ٱلأَمِيرُ أَنْ يَفْسَخُوا بُولُسَ، فَأَمَرَ ٱلْعَسْكَرَ أَنْ يَنْزِلُوا وَيَخْتَطِفُوهُ مِنْ وَسَطِهِمْ وَيَأْتُوا بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ».
    مُنَازَعَةٌ كَثِيرَةٌ بين الفرقتين في المجلس.
    ٱخْتَشَى ٱلأَمِيرُ لأنه ما برح حاضراً معهم.
    أَنْ يَفْسَخُوا بُولُسَ الظاهر أن كلاّ من الفرقتين أرادت جذب بولس إليها فالفريسيون أرادوا جذبه ليحموه والصدوقيون لينتقموا منه.
    فَأَمَرَ ٱلْعَسْكَرَ أَنْ يَنْزِلُوا أي أرسل من بلغهم أمره بنزولهم من القلعة القريبة.
    يَأْتُوا بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ الموضع الذي وضعوه فيه أولاً في القلعة (ص ٢١: ٣٤) ليقيه من الخطر. وكان من واجباته أن يحمي كل معتدي عليه ولا سيما الروماني. وقد تحقق مما جرى في المجلس أن بولس لم يكن مذنباً شيئاً بحسب شريعة الرومانيين وغير مستوجب العقاب من يهودي أو روماني.

    ظهور الرب لبولس في السجن ع ١١


    ١١ «وَفِي ٱللَّيْلَةِ ٱلتَّالِيَةِ وَقَفَ بِهِ ٱلرَّبُّ وَقَالَ: ثِقْ يَا بُولُسُ، لأَنَّكَ كَمَا شَهِدْتَ بِمَا لِي فِي أُورُشَلِيمَ، هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ فِي رُومِيَةَ أَيْضاً».
    ص ١٨: ٩ و٢٧: ٢٣ و٢٤
    فِي ٱللَّيْلَةِ ٱلتَّالِيَةِ أي التابعة ليوم حضوره في مجلس السبعين.
    وَقَفَ بِهِ ٱلرَّبُّ ليعزيه ويشجعه ويؤكد له العناية به والحماية له من المخاطر المحيطة به ورضاه عنه بما فعله في أورشليم وليخبره بأن خدمته إياه في أورشليم قد انتهت وأنه سيذهب إلى رومية ويبشر بالإنجيل فيها كما كان يشتهي منذ زمن طويل (رومية ١: ١٣ و١٥: ٢٣). وهذا الظهور ظهور الرب له ووعده إياه كانا سنداً له واليهود يتآمرون عليه في أورشليم وهو في سجن قيصرية وهو مسافر في البحر والبحر مضطرب وهو في رومية لا يعلم كيف ينتهي أمره في محكمة نيرون. ومثلما ظهر له هنا ظهر له سابقاً في كورنثوس (ص ١٨: ٩ و١٠) وبعد ذلك في السفينة (ص ٢٧: ٢٣ و٢٤). ولا يلزم من ظهور الرب له وتعزيته إياه أنه كان مضطراً آيساً لرفض اليهود شهادته. ومما أظهره الله من رضاه عن بولس هنا يبطل ظن البعض أنه أخذته الحدة في المجلس واضطر إلى الاستغفار وإلا كان الله وبخه كما وبخ موسى (عدد ٢٠: ١٢).

    تآمر اليهود على قتل بولس وإرساله إلى قيصرية ع ١٢ إلى ٣٥


    ١٢ «وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ صَنَعَ بَعْضُ ٱلْيَهُودِ ٱتِّفَاقاً، وَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ قَائِلِينَ إِنَّهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ وَلاَ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَقْتُلُوا بُولُسَ».
    ع ٢١ و٣٠ وص ٢٥: ٣
    كان بين اليهود أناس اشتهروا بالغيرة الدينية فلقب كل منهم بالغيور وكان من عادتهم أن يأتوا كل ما استطاعوا غيرة للدين خيراً كان أم شراً. والأرجح أن الذين تآمروا هنا كانوا من أولئك الناس وأنهم من الصدوقيين أتباع حنانيا رئيس الكهنة.
    صَنَعَ... ٱتِّفَاقاً، وَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي تحالفوا وسألوا الله أن يلعن من نقض عهده. واعتقدوا أنه من وقع تحت الحرم كان عرضة لغضب الله والهلاك.
    أَنْ لاَ نَذُوقَ شَيْئاً الخ سبق مثل هذا الحلف في (١صموئيل ١٤: ٢٤ و٢صموئيل ٣: ٣٥) ولأن الطعام والشراب من ضروريات الحياة كان حلفهم على الامتناع عنهما إلى نجاز عهدهم دليلاً قاطعاً على صدق عزمهم على إنجازه ومحركاً شديداً على الاجتهاد فيه والإسراع إليه. وكانت علة هذه المؤامرة شدة بغضهم لبولس ورغبتهم في إملاكه وضعف أملهم في أن الأمير يعاقبه فلم يجدوا وسيلة إلى مرادهم إلا أنهم يتولون قتله بأيديهم.
    ١٣، ١٤ «١٣ وَكَانَ ٱلَّذِينَ صَنَعُوا هٰذَا ٱلتَّحَالُفَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ. ١٤ فَتَقَدَّمُوا إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ وَقَالُوا: قَدْ حَرَمْنَا أَنْفُسَنَا حِرْماً أَنْ لاَ نَذُوقَ شَيْئاً حَتَّى نَقْتُلَ بُولُسَ».
    أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ تدل كثرة عدد المتآمرين على وفرة عدد المبغضين له وشدة غضبهم عليه وخشيتهم من المصاعب الحائلة دون قصدهم وقوّة عزمهم على إدراك مقصدهم مهما كانت الصعوبات. وغنيّ عن البيان أن كلاً من عزمهم على القتل وحلفهم عليه شرّ محض.
    لم تكن مؤامرتهم على قتله كالمؤامرة على قتل إنسان تشفياً من الغيظ الشخصي، لكنها كانت باسم الله لنفع الأمة بأسرها وخدمة الدين وبرضى أكثر أعضاء المجمع. فما أظهره هؤلاء من العزم على ارتكاب الجور والقتل وعدم الاكتراث بالشريعة سياسية ودينية كان من شأن أكثر اليهود يومئذ وهو الذي جلب عليهم غضب الله وتدمير مدينتهم. وما جاء هنا مصداق لقول المسيح لتلاميذه «تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلّٰهِ» (يوحنا ١٦: ٢).
    رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ تحقق المتآمرون أن رؤساء الشعب والدين يرضون عملهم ولا يحسبونه ذنباً بل مما يثيبهم الله عليه. وإذا كان الرؤساء يسرون بالشر فهل تعجب إن ارتكبه المرؤوسون.
    ١٥ «وَٱلآنَ أَعْلِمُوا ٱلأَمِيرَ أَنْتُمْ مَعَ ٱلْمَجْمَعِ لِكَيْ يُنْزِلَهُ إِلَيْكُمْ غَداً، كَأَنَّكُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ تَفْحَصُوا بِأَكْثَرِ تَدْقِيقٍ عَمَّا لَهُ. وَنَحْنُ، قَبْلَ أَنْ يَقْتَرِبَ، مُسْتَعِدُّونَ لِقَتْلِهِ».
    كشفوا للرؤساء ما اتفقوا عليه لأنهم لم يكونوا قادرين أن يهجموا إلى القلعة ويصلوا إلى بولس ويقتلوه فاحتاجوا إلى مساعدتهم ومساعدة سائر المجمع في خداع الأمير لكي يأتي ببولس من القلعة إلى حيث تصل أيديهم إليه.
    مَعَ ٱلْمَجْمَعِ تحققوا أعضاء المجمع إذا اتفقوا على طلب شيء من الأمير منحهم إياه لا محالة. وتوقعهم أن أعضاء المجمع يسلمون برأيهم وأنهم يوافقونهم على سؤال الأمير ما أرادوه توصلاً إلى قتل بولس دليل على أن فرقتي الفريسيين والصدوقيين اللتين اختلفتا في أمره وقتياً اتفقتا على أنه عدوهما كلتيهما وأنه يستحق الموت منهما. ومما يؤيد ذلك أنهما اتفقتا على شكايته إلى الوالي في قيصرية (ص ٢٤: ٩ و١٥ انظر شرح ص ٢٤: ١٥).
    يُنْزِلَهُ من القلعة إلى المجلس.
    قَبْلَ أَنْ يَقْتَرِبَ الخ أي قبل أن يصل إلى المجمع لكي لا تكون المسؤولية على أعضائه. ولا ريب في أن تدبيرهم كان في غاية الإحكام ولولا عناية الله بتخييب مسعاهم لنجح لا محالة.
    ١٦ «وَلٰكِنَّ ٱبْنَ أُخْتِ بُولُسَ سَمِعَ بِٱلْكَمِينِ، فَجَاءَ وَدَخَلَ ٱلْمُعَسْكَرَ وَأَخْبَرَ بُولُسَ».
    ٱبْنَ أُخْتِ بُولُسَ لا نعلم شيئاً من أمر هذا الشاب غير ما كُتب هنا ولا عجب من أن أخت بولس أرسلت ابنها إلى أورشليم ليتهذّب فيها كما تهذّب خاله ولا عجب من أن الله اتخذه وسيلة لإبطال مقاصد أعداء بولس الراغبين في قتله.
    سَمِعَ بِٱلْكَمِينِ إما من المتحالفين وهم يتكالمون أو من أحد بلّغه ذلك. فالسرّ بين أربعين لا يكون سراً ولا سيما بعد ما أُعلن لرؤساء الكهنة والشيوخ (ع ١٤). ولعل المتحالفين لم يروا كتم كمينهم ضرورياً إلا عن الأسير والرومانيين الذين حرسوه ولم يخطر على بالهم أن بينهم أحداً من أقرباء بولس يكشف سرّهم.
    وَدَخَلَ ٱلْمُعَسْكَرَ لم يعامل الأمير بولس بشدة لأنه روماني ولم يثبت عليه ذنب فكان مأذوناً له في أن يستقبل أصدقاءه كما كان في قيصرية بعدئذ (ص ٢٤: ٢٣) فدخل ابن اخته باعتبار كونه صديقاً له.
    ١٧ «فَٱسْتَدْعَى بُولُسُ وَاحِداً مِنْ قُوَّادِ ٱلْمِئَاتِ وَقَالَ: ٱذْهَبْ بِهٰذَا ٱلشَّابِّ إِلَى ٱلأَمِيرِ، لأَنَّ عِنْدَهُ شَيْئاً يُخْبِرُهُ بِهِ».
    وَاحِداً مِنْ قُوَّادِ ٱلْمِئَاتِ الأرجح أنه هو الذي وُكلت إليه حراسته كما سبق في (ص ٢٢: ٢٥). إن الله قد وعد بولس بالوقاية من الخطر وأنه يصل إلى رومية لكنه لم يتخذ ذلك الوعد عذراً لترك ما يستطيعه من الوسائط اتقاء للخطر بل ذلك الوعد كان حاثاً له على عمله لتحققه أن ذلك العمل لا يكون عبثاً. كذلك وعد الله المؤمنين بالخلاص لا يغنيهم عن بذل الاجتهاد في جعل دعوتهم واختيارهم ثابتين (١بطرس ١: ١٠).
    ١٨ «فَأَخَذَهُ وَأَحْضَرَهُ إِلَى ٱلأَمِيرِ وَقَالَ: ٱسْتَدْعَانِي ٱلأَسِيرُ بُولُسُ، وَطَلَبَ أَنْ أُحْضِرَ هٰذَا ٱلشَّابَّ إِلَيْكَ، وَهُوَ عِنْدَهُ شَيْءٌ لِيَقُولَهُ لَكَ».
    أجاب القائد طلب بولس في الحال إما للطفه وإما لرغبته في كشف السر للأمير وإما لعلمه أن بولس روماني.
    ٱلأَسِيرُ بُولُسُ هذا يدل على أنه لم يزل مربوطاً بسلسلة إلى أحد الجنود. وما سماه به القائد وقتئذ سمى به نفسه في رسائله (أفسس ٣: ١ و٤: ١ وفليمون ١: ٩).
    ٱسْتَدْعَانِي... وَطَلَبَ قال ذلك للأمير خيفة أن يظنه دخل في الأمر من تلقاء نفسه ويلومه على تكلمه مع الأسير والميل إليه.
    ١٩ «فَأَخَذَ ٱلأَمِيرُ بِيَدِهِ وَتَنَحَّى بِهِ مُنْفَرِداً، وَٱسْتَخْبَرَهُ: مَا هُوَ ٱلَّذِي عِنْدَكَ لِتُخْبِرَنِي بِهِ؟».
    فَأَخَذَ ٱلأَمِيرُ بِيَدِهِ بلطف شفقة عليه لحداثته ولما بدا منه من إمارات الخوف وهو يخاطب ذا رتبة عالية. ولا يتوقع مثل هذا اللطف بفتى يهودي من أمير روماني ولعل الذي ليّن قلبه تأثير إلهي.
    تَنَحَّى بِهِ مُنْفَرِداً فهم الأمير من أسلوب الخبر أن عند الفتى سراً. وكان يرغب في أن يعلم علة ما أثار الشغب على بولس وأفكار الشعب في أمره وقتئذ. وكان حفظ الأمر سراً ضرورياً لبقاء الشاب في الأمن لأن المتآمرين لا بد من أن ينتقموا منه إن عرفوا أنّه هو الذي كشف مؤامرتهم للأمير.
    ٢٠ «فَقَالَ: إِنَّ ٱلْيَهُودَ تَعَاهَدُوا أَنْ يَطْلُبُوا مِنْكَ أَنْ تُنْزِلَ بُولُسَ غَداً إِلَى ٱلْمَجْمَعِ، كَأَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَسْتَخْبِرُوا عَنْهُ بِأَكْثَرِ تَدْقِيقٍ».
    ع ١٢
    قول الشاب هنا للأمير على وفق ما في (ع ١٤ و١٥).
    ٱلْيَهُودَ تَعَاهَدُوا هذا دليل على أن الخلاف الذي نشأ بين الفريسيين والصدوقيين في المجلس في شأن بولس لم يبق له أثر واتفق الفريقان على أنه عدو للدين اليهودي واتفقوا على أن يفعلوا ما سألهم إياه المتآمرون.
    ٢١ «فَلاَ تَنْقَدْ إِلَيْهِمْ، لأَنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَامِنُونَ لَهُ، قَدْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ لاَ يَأْكُلُوا وَلاَ يَشْرَبُوا حَتَّى يَقْتُلُوهُ. وَهُمُ ٱلآنَ مُسْتَعِدُّونَ مُنْتَظِرُونَ ٱلْوَعْدَ مِنْكَ».
    فَلاَ تَنْقَدْ إِلَيْهِمْ لأن طلبهم وإن ظهر موافقاً لحكم العقل هو خداع للتوصل إلى غاية رديئة.
    مِنْهُمْ هذا دليل على أن الأربعين ليسوا سوى نواب عن جمهور اليهود في الميل والقصد.
    مُنْتَظِرُونَ ٱلْوَعْدَ مِنْكَ أي إجابة طلبهم أن تُنزله إلى المجلس.
    ٢٢ «فَأَطْلَقَ ٱلأَمِيرُ ٱلشَّابَّ مُوصِياً إِيَّاهُ أَنْ: لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ إِنَّكَ أَعْلَمْتَنِي بِهٰذَا».
    أوصاه الأمير بهذا لئلا يخطر لهم أن الأمير يرسل بولس إلى قيصرية فيكمنوا له في الطريق ويقتلوه ولئلا يكون الشاب عرضة لانتقامهم.
    ٢٣ «ثُمَّ دَعَا ٱثْنَيْنِ مِنْ قُوَّادِ ٱلْمِئَاتِ وَقَالَ: أَعِدَّا مِئَتَيْ عَسْكَرِيٍّ لِيَذْهَبُوا إِلَى قَيْصَرِيَّةَ، وَسَبْعِينَ فَارِساً وَمِئَتَيْ رَامِحٍ، مِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلثَّالِثَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ».
    قَيْصَرِيَّةَ قصبة سورية السياسية عند الرومانين صارت مقام والي سورية منذ مات هيرودس أغريباس (ص ١٢: ٢٣) كما كانت قبله مراراً كثيرة (انظر شرح ص ٨: ٤٠ و٢١:٨).
    رَامِحٍ أي حامل رمح. كان الجنود الذين أرسلهم الأمير لحراسة بولس ٤٧٠ فإن قيل كيف أرسل كل هؤلاء للحراسة من أربعين قلنا أن أولئك الأربعين ليسوا سوى نواب عن ألوف كثيرة مستعدين لإمدادهم. وكان أهل سورية يومئذ مضطربين ولا أمن فيها للمسافرين.
    وما شاهده الأمير من استعداد اليهود للفتنة على بولس في الهيكل وفي المجلس ومن مؤامرتهم عليه وعزمهم على قتله بين القلعة والمجلس حقّق له شدة الخطر على بولس وأنهم مستعدون لارتكاب كل ما أمكنهم من المحظورات وهذا حمله على إبعاده عن أورشليم وأن يصحبه بكثير من الجنود عند إبعاده إياه.
    مِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلثَّالِثَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ أي الثالثة بعد المغرب فيكون أكثر الناس حينئذ في بيوتهم فلا يعرفون بمن يذهب ولا بمن يجيء. ويظهر من تصرف الأمير أن ميله إلى بولس كان أكثر من ميله إلى حنانيا رئيس الكهنة وأنه مسرور بإرسال بولس إلى قيصرية حيث الأمن وبتخلصه من أتعاب كثيرة في هذا الشأن وبتبيينه للوالي غيرته لروماني كتابة وفعلاً.
    ٢٤ «وَأَنْ يُقَدِّمَا دَوَابَّ لِيُرْكِبَا بُولُسَ وَيُوصِلاَهُ سَالِماً إِلَى فِيلِكْسَ ٱلْوَالِي».
    دَوَابَّ لكي يركب دابة ويريح أخرى على التوالي.
    فِيلِكْسَ كان فيلكس وأخوه بالاس عبدين لأنطونيا أم الأمبراطور كلوديوس ثم حرّر وسماه بعض مؤرخي عصره أنطونيوس فيلكس نسبة إلى أنطونيا وبعضهم كلوديوس فيلكس نسبة إلى ابنها. وكان أخوه بالاس محبوباً إلى الأمبراطور كلوديوس جداً وبواسطته حصل فيلكس على تولي سورية سنة ٥٢ ب. م. وصفه المؤرخون بالقسوة والطمع والفجور. قال تاسيطوس المؤرخ أنه «تصرّف تصرف الملك بصفات العبد». فأظهر القوة والنشاط في تذليل العصاة والقتلة الذين عاثوا يومئذ اليهودية. (انظر شرح ٢١: ٢٨) لكنه استأجر بعض أولئك القتلة لقتل يوناثان رئيس الكهنة الذي ساعده على توليه. قال سويتونيس المؤرخ أنه تزوج ثلاث ملكات الأولى دروسلا بنت يوبا ملك موريتانيا. والثانية دروسلا بنت أغريباس الأول وأخت أغريباس الثاني فإنها تركت زوجها الأول أزيزوس ملك أماسيا (أي حمص) لتأخذه. والثالثة لم يذكر التاريخ اسمها.
    ٢٥، ٢٦ «٢٥ وَكَتَبَ رِسَالَةً حَاوِيَةً هٰذِهِ ٱلصُّورَةَ: ٢٦ كُلُودِيُوسُ لِيسِيَاسُ، يُهْدِي سَلاَماً إِلَى ٱلْعَزِيزِ فِيلِكْسَ ٱلْوَالِي».
    كُلُودِيُوسُ لِيسِيَاسُ لولا مقدمة هذا الرقيم ما عرفنا اسم الأمير. وكلوديوس اسم لاتيني وليسياس اسم يوناني. رأى بعضهم أن الاسم اليوناني هو الأصلي لأنه حصل على الرعوية الرومانية بالشراء (ص ٢٢: ٢٨). ولعل بولس حصل على صورة هذا الرقيم من فيلكس أو قائد المئة الذي كان يحرسه.
    ٢٧ «هٰذَا ٱلرَّجُلُ لَمَّا أَمْسَكَهُ ٱلْيَهُودُ وَكَانُوا مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، أَقْبَلْتُ مَعَ ٱلْعَسْكَرِ وَأَنْقَذْتُهُ، إِذْ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ رُومَانِيٌّ».
    ص ٢١:٣٣ و٢٤: ٧
    اقتصر الأمير على ذكر الحوادث المهمة في أمر بولس. ولم يخبره أنه أخطأ في أول الأمر معرفة أن بولس روماني لأن في ذلك شكاية على نفسه وليس فيه ما يوضح شيئاً من أمر الأسير.
    ٢٨، ٢٩ «٢٨ وَكُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَعْلَمَ ٱلْعِلَّةَ ٱلَّتِي لأَجْلِهَا كَانُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلْتُهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ، ٢٩ فَوَجَدْتُهُ مَشْكُوّاً عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَسَائِلِ نَامُوسِهِمْ. وَلٰكِنَّ شَكْوَى تَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ أَوِ ٱلْقُيُودَ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ».
    ص ٢٢: ٣٠ ص ١٨: ١٥ و٢٥: ١٩ ص ٢٦: ٣١
    مَسَائِلِ نَامُوسِهِمْ أي عقائد تتعلق بالدين اليهودي. ومراده أن هذه مما لا طائل تحته. والولاة الرومانيون اعتبروا العقائد العظمى التي اختلف بها المسيحيون عن اليهود أموراً زهيدة لا يعبأ بها. انظر كيف تصرف غاليون في مثل هذا الأمر (ص ١٨: ١٤ و١٥) وفستوس (ص ٢٥: ١٨ و١٩).
    ٣٠ «ثُمَّ لَمَّا أُعْلِمْتُ بِمَكِيدَةٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَصِيرَ عَلَى ٱلرَّجُلِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، أَرْسَلْتُهُ لِلْوَقْتِ إِلَيْكَ، آمِراً ٱلْمُشْتَكِينَ أَيْضاً أَنْ يَقُولُوا لَدَيْكَ مَا عَلَيْهِ. كُنْ مُعَافىً».
    ع ٢٠ ص ٢٤: ٨ و٢٥: ٦
    آمِراً ٱلْمُشْتَكِينَ أراد بذلك ما نوى أن يفعله وهو يكتب بناء على أنه يتم حين وصول رقيمه إلى الوالي.
    كُنْ مُعَافىً هذا مثل ما في (ص ١٥: ٢٩).
    ٣١ «فَٱلْعَسْكَرُ أَخَذُوا بُولُسَ كَمَا أُمِرُوا، وَذَهَبُوا بِهِ لَيْلاً إِلَى أَنْتِيبَاتْرِيسَ».
    فَٱلْعَسْكَرُ أي المشاة والفرسان والرامحون فمعنى العسكر هنا عام.
    لَيلاً أي ليل سفرهم وهذا يدل على سراهم الليل كله وقطعهم فيه معظم المسافة ولا يستلزم أنهم لم يسيروا شيئاً في صباح الغد.
    أَنْتِيبَاتْرِيسَ مدينة على الطريق السلطانية من أورشليم إلى قيصرية وعلى أمد ثلاثة وأربعين ميلاً منها وذلك نحو ثلثي المسافة بين أورشليم وقيصرية. قال يوسيفوس أن اسمها القديم كفرسابا وأن هيرودس الكبير جددها وسماها أنتيباتريس إكراماً لأبيه أنتيباتر. وتسمى اليوم كفرسابا اسمها القديم. ولا نعلم ماذا كان من أمر المتآمرين الذين حلفوا أن لا يأكلوا ولا يشربوا حتى يقتلوا بولس والأرجح أنهم اعتقدوا تحررهم من نذرهم بسبب ذهابه من أورشليم.
    ٣٢، ٣٣ «٣٢ وَفِي ٱلْغَدِ تَرَكُوا ٱلْفُرْسَانَ يَذْهَبُونَ مَعَهُ وَرَجَعُوا إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ. ٣٣ وَأُولٰئِكَ لَمَّا دَخَلُوا قَيْصَرِيَّةَ وَدَفَعُوا ٱلرِّسَالَةَ إِلَى ٱلْوَالِي، أَحْضَرُوا بُولُسَ أَيْضاً إِلَيْهِ».
    وَفِي ٱلْغَدِ أي اليوم التالي بعد مضي جزء منه.
    تَرَكُوا ٱلْفُرْسَانَ نفهم من ذلك أنه لم يبق مع بولس من أربع المئة والسبعين من الجنود سوى سبعين وهم الفرسان ورجع سائرهم لاعتقادهم أنه قد زال معظم الخطر عليه لابتعادهم عن أورشليم ولم يبق خوف من هجوم اليهود عليهم فكان الفرسان كفاة لحراسته في ثُلث الطريق الباقي. وما ذُكر هنا من سرعة سير العسكر وجريهم على مقتضى الأمر مما عُهد من الجنود الرومانية المشهورة من إطاعتهم لأوامر قوادهم وأحكام ما أمروا به.
    ٣٤، ٣٥ «٣٤ فَلَمَّا قَرَأَ ٱلْوَالِي ٱلرِّسَالَةَ، وَسَأَلَ مِنْ أَيَّةِ وِلاَيَةٍ هُوَ، وَوَجَدَ أَنَّهُ مِنْ كِيلِيكِيَّةَ، ٣٥ قَالَ: سَأَسْمَعُكَ مَتَى حَضَرَ ٱلْمُشْتَكُونَ عَلَيْكَ أَيْضاً. وَأَمَرَ أَنْ يُحْرَسَ فِي قَصْرِ هِيرُودُسَ».
    ص ٢١: ٣٩ ص ٢٤: ١ و١٠ و٢٥: ١٦ متّى ٢٧: ٢٧
    مِنْ أَيَّةِ وِلاَيَةٍ سأل بيلاطس يسوع مثل هذا السؤال (لوقا ٢٣: ٦). ولعل غاية الوالي من ذلك أن يرسله إلى تلك الولاية للمحاكمة إن وجدها قريبة منه وأنها ولاية يريد أن يستعطف واليها بذلك أو أن يتخلص من أمر الأسير إن وجد فيه صعوبة. أو لعله قصد بذلك أن يعرف أي شيء بنى عليه ادعاءه الرعوية الرومانية لكي يتحقق دعواه من دفتر نفوس الولاية التي هو منها إن اقتضت الحال ذلك.
    سَأَسْمَعُكَ في محاكمة قانونية.
    ٱلْمُشْتَكُونَ عَلَيْكَ هم المذكورون في رقيم الأمير ليسياس (ع ٣٠).
    يُحْرَسَ بمنزلة أسير (ص ١٢: ٤).
    قَصْرِ هِيرُودُسَ الأرجح أنه القصر الذي بناه هيرودس الكبير مسكناً ملكياً فاتخذه الولاة الرومانيون مسكناً لهم وللجنود. والمرجح أنه هو القصر الذي مات فيه أغريباس الثاني. ذكر لوقا أن الله ضربه وهو في المشهد (ص ١٢: ٢٣) وزاد يوسيفوس على ذلك أنه مات بعد خمسة أيام من ضربته ولا منافاة بين القولين.


    الأصحاح الرابع والعشرون


    احتجاج بولس أمام فيلكس ع ١ إلى ٢١


    ١ «وَبَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ ٱنْحَدَرَ حَنَانِيَّا رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ مَعَ ٱلشُّيُوخِ وَخَطِيبٍ ٱسْمُهُ تَرْتُلُّسُ. فَعَرَضُوا لِلْوَالِي ضِدَّ بُولُسَ».
    ص ٢١: ٢٧ ص ٢٣: ٢ و٣٠ و٣٥ و٢٥: ٢
    بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ لا دليل لنا على أن بداءة هذه الأيام يوم إرسال بولس من أورشليم أو يوم وصوله إلى قيصرية وليس في ذلك من أمر مهم لكننا نعلم أن الخامس من تلك الأيام هو الثاني عشر من وصول بولس إلى أورشليم ما في الآية الثانية عشرة.
    حَنَانِيَّا المذكور في (ص ٢٣: ٢) فأتى قيصرية نائباً عن كل فرق الكهنة ومجمع السبعين.
    ِمَعَ ٱلشُّيُوخ أي بعض أعضاء مجمع السبعين نواباً عن سائر اليهود. وإتيان هؤلاء مع حنانيا للشكاية على بولس مقاسين مشاق السفر الطويل مئة وأربعين ميلاً ذهاباً وإياباً دليل على أهمية المسئلة عند اليهود وشدة بغضهم لبولس. ولا ريب في أن ما زاد حنانيا حنقاً على بولس ورغبته في الشكاية عليه وصفه إياه «بالحائط المبيّض» وأنباؤه بأنه يموت شر ميتة بقضاء إلهي.
    تَرْتُلُّسُ نستنتج من اسمه أنه روماني استأجره اليهود وكيلاً في دعواهم لاعتياده رفع الدعاوي إلى الولاة الرومانيين واقتداره على إيضاح الأمر بانتباه وإحكام وتأثير لا يستطيعونها.
    ٢ «فَلَمَّا دُعِيَ، ٱبْتَدَأَ تَرْتُلُّسُ فِي ٱلشِّكَايَةِ قَائِلاً».
    فَلَمَّا دُعِيَ أي بولس والمعنى أنه دُعي من القصر أو للوقوف أمام الوالي ليسمع الشكاية عليه ويدفع عن نفسه. وهذا كان على مقتضى الشرعية الرومانية لأنها كانت تمنع أن يُحكم على أحد بلا مواجهته للمشتكين والحصول على فرصة للاحتجاج عن الشكوى (ص ٢٥: ١٦).
    ٱبْتَدَأَ تَرْتُلُّسُ فِي ٱلشِّكَايَةِ كان هذا الابتداء مدحاً للوالي لكي يستميله إلى حزب المشتكين وهو على وفق قوانين المنطقيين الرومانيين كشيشرون وغيره وفيه تملق وكذب.
    ٣ «إِنَّنَا حَاصِلُونَ بِوَاسِطَتِكَ عَلَى سَلاَمٍ جَزِيلٍ، وَقَدْ صَارَتْ لِهٰذِهِ ٱلأُمَّةِ مَصَالِحُ بِتَدْبِيرِكَ. فَنَقْبَلُ ذٰلِكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ فِيلِكْسُ بِكُلِّ شُكْرٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ».
    إِنَّنَا أي نحن الأمة اليهودية لأن ترتلس كان يتكلم بالنيابة عنها.
    حَاصِلُونَ... عَلَى سَلاَمٍ جَزِيلٍ في هذا بعض الحق لأنه على قول يوسيفوس أنه قبل أن تولى فيلكس كثر اللصوص في اليهودية ولكنه بدد شملهم وكان منهم فرقة رئيسها رجل اسمه لعازر فقبض فيلكس عليه وأرسله إلى رومية ليعاقب. ثم ظفر النبي المصري الكذاب الذي قاد أربعة آلاف رجل في البرية وشوش أمور اليهودية (ص ٢١: ٢٨) وأخمد الفتنة بين أهل قيصرية وسائر سورية.
    لِهٰذِهِ ٱلأُمَّةِ أي شعب اليهود.
    مَصَالِحُ أي منافع بواسطة إخماد الفتن وغيرها مما تقدم.
    بِتَدْبِيرِكَ أي حكمتك ونشاطك وانتباهك قال ترتلس ذلك مادحاً فيلكس بالنيابة عن اليهود وسكت عن دعاوٍ كثيرة لليهود عليه من ظلمه وقساوته وسلبه ولا سيما قتله سراً يوناثان رئيس الكهنة فإن اليهود رفعوا الدعوى عليه إلى رومية وعزله بعد نحو سنتين.
    فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ أي تُظهر كل أمة اليهود شكرها لك في الغيبة والحضور.
    ٤ «وَلٰكِنْ لِئَلاَّ أُعَوِّقَكَ أَكْثَرَ، أَلْتَمِسُ أَنْ تَسْمَعَنَا بِٱلٱخْتِصَارِ بِحِلْمِكَ».
    لِئَلاَّ أُعَوِّقَكَ أَكْثَرَ في هذا الكلام نوع من الحكمة وضرب من الاحتيال فكأنه قال إن الزمان يضيق بذكر فضائلك ومنافعك ومناقبك وأنك لتواضعك لا تريد أن تسمع مدحك فلذلك اكتفيت بما ذكرت.
    تَسْمَعَنَا نحن اليهود لأنه كان نائباً عنهم.
    بِٱلٱخْتِصَارِ قال هذا له لينتبه ويصبر.
    بِحِلْمِكَ أي إناءتك وصبرك وتنازلك.
    ٥ «فَإِنَّنَا إِذْ وَجَدْنَا هٰذَا ٱلرَّجُلَ مُفْسِداً وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ بَيْنَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَسْكُونَةِ، وَمِقْدَامَ شِيعَةِ ٱلنَّاصِرِيِّينَ».
    لوقا ٢٣: ٢ وص ٦: ١٣ و١٦: ٢٠ و١٧: ٦ و٢١: ٢٨ و١بطرس ٢: ١٢ و١٥
    ما سبق مقدمة للشكوى وبداءتها هنا.
    وَجَدْنَا هٰذَا ٱلرَّجُلَ مُفْسِداً هذا مجمل الشكوى وفيها ثلاث دعاوٍ. وأراد بإفساده كل ما يقلق الراحة ويضر الناس أدبياً ومادياً.
    وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ هذه الدعوى الأولى. كانت اليهودية مضطربة بالفتن فجعل ترتلس بولس من جملة مهيجيها ليصب كل الغضب عليه.
    بَيْنَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ أي أن بولس يهيّج بعض اليهود على بعض وهذا ينشئ لهم حزناً وضرراً ولكونهم تحت سلطة الرومانيين يكون تهييج الفتنة بينهم تهييجاً لها على الرومانيين.
    فِي ٱلْمَسْكُونَةِ أي كل المملكة الرومانية على المتعارف يومئذ. وعلى هذا يكون بولس مهيّج الفتنة في المملكة كلها فهو عدو عام للراحة والسلام.
    وَمِقْدَامَ شِيعَةِ ٱلنَّاصِرِيِّينَ هذه الدعوة الثانية ومعناها أن بولس لم يكتف بأنه ضارٌ بالذات حتى جمع عصابة مثله في الشر ترأس عليها. وسمى تلك العصابة «بشيعة الناصريين» لأنها أتباع يسوع الناصري. وهذه أول مرة لورود وصف المسيحيين بالناصريين في الإنجيل. ولا بد أن القصد به التحقير كما حقروا يسوع بنسبته إلى الناصرة (انظر شرح ص ٢: ٢٢). والأرجح أن هذا اسم أتباع يسوع الذي شاع بين اليهود قبل خراب أورشليم وأما الاسم الذي عُرفوا به غالباً بين الأمم فهو المسيحيون (ص ١١: ٢٦).
    ٦ «وَقَدْ شَرَعَ أَنْ يُنَجِّسَ ٱلْهَيْكَلَ أَيْضاً، أَمْسَكْنَاهُ وَأَرَدْنَا أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِنَا».
    ص ٢١: ٢٨ يوحنا ١٨: ٣١
    شَرَعَ أَنْ يُنَجِّسَ ٱلْهَيْكَلَ هذه الدعوى الثالثة ومعناها أن بولس أخذ يبذل جهده في ذلك وبنى الدعوى الباطلة على ظن بعض اليهود أنه أدخل تروفيموس الأفسسي إلى الهيكل (ص ٢١: ٢٨). وخلاصة هذه الدعوى أنه أساء إلى شريعة اليهود ودينهم وأراد إزالة قداسة الهيكل المقدس.
    أَمْسَكْنَاهُ أي نحن اليهود لأن ترتلّس تكلم عنهم.
    وَأَرَدْنَا أَنْ نَحْكُمَ إلخ ادعى ترتلس أن اليهود قصدوا أن يحاكموا بولس بمقتضى العدل والحق وقوانين الشريعة وأن الأمير ليسياس منعهم من ذلك.
    ٧ «فَأَقْبَلَ لِيسِيَاسُ ٱلأَمِيرُ بِعُنْفٍ شَدِيدٍ وَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا».
    ص ٢١: ٣٣
    ما في هذه الآية يدل على أن اليهود اغتاظوا كثيراً من تعرّض الأمير لوقاية بولس لأنه بذلك حطّ كبرياءهم وشرف أمتهم ومنعهم من التشفي من بولس وهم في غاية الرغبة في قتله.
    ٍبِعُنْفٍ شَدِيد نسب ترتلّس إلى الأمير أنه منع من إجراء العدل والحق في محاكمة بولس وهم يقصدون محاكمته بكل هدوء وإنصاف. والحق انهم كانوا يلكمونه بغية قتله حين أنقذه منهم (ص ٢١: ٣١ و٣٢) فالعنف الشديد منهم.
    ٨ «وَأَمَرَ ٱلْمُشْتَكِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْكَ. وَمِنْهُ يُمْكِنُكَ إِذَا فَحَصْتَ أَنْ تَعْلَمَ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ ٱلَّتِي نَشْتَكِي بِهَا عَلَيْهِ».
    ص ٢٣: ٣٠
    وَأَمَرَ ٱلْمُشْتَكِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْكَ (ص ٢٣: ٣٠). لامَ ترتلّس الأمير بأنه فضلاً عن منع اليهود من محاكمة بولس بمقتضى شريعتهم أجبرهم على احتمال النفقة ومشقة السفر بالإتيان إلى قيصرية ليشكوا بولس إلى الوالي.
    وَمِنْهُ أي من الأمير ليسياس. ادعوا أنه يشهد بصحة قولهم. ولعل استشهادهم هذا حمل الوالي على تأخير الفحص إلى أن ينحدر ليسياس إلى قيصرية (ع ٢٢). وظن بعضهم أن الضمير في «منه» يعود إلى بولس والمعنى يمكنك أن تقف على صحة ما قلناه بتعذيبه إلى أن يعترف والفحص يحتمل معنى التعذيب (انظر ص ٢٢: ٢٤).
    ٩ «ثُمَّ وَافَقَهُ ٱلْيَهُودُ أَيْضاً قَائِلِينَ: إِنَّ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ هٰكَذَا».
    وَافَقَهُ أي صدقه بما اشتكى به على بولس.
    ٱلْيَهُودُ أي حنانيا والشيوخ.
    ١٠ «فَأَجَابَ بُولُسُ، إِذْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ ٱلْوَالِي أَنْ يَتَكَلَّمَ: إِنِّي إِذْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ قَاضٍ لِهٰذِهِ ٱلأُمَّةِ، أَحْتَجُّ عَمَّا فِي أَمْرِي بِأَكْثَرِ سُرُورٍ».
    فَأَجَابَ بُولُسُ هذا احتجاجه الثالث عن نفسه وعن الدين المسيحي. الأول كان في الهيكل أمام كثيرين من اليهود اجتمعوا من كل أقطار المسكونة للاحتفال بعيد الخمسين. والثاني قدام مجلس السبعين.
    أَوْمَأَ إِلَيْهِ ٱلْوَالِي بيده أو برأسه. ومما يستحق الملاحظة أن مجلس هذا الوالي الوثني المشهور برذائله كان أعدل وأكيس من أعضاء مجلس السبعين رؤساء أمة اليهود الدينيين.
    مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ تولى فيلكس سورية سنة ٥٢ ب. م فيكون قد حكم نحو ست سنين وهي كثيرة بالنسبة إلى سني تولي غيره من الولاة ولا بد من أنه اختبر في تلك المدة أمور ولايته فعرف صفات اليهود وتعصبهم وأنهم ممن لا يوثق بكل ما يشتكون به كشكوى ترتلس عنهم. ولا ريب في أنه سمع بالمسيحيين لكثرتهم في اليهودية ولكون بعضهم في قيصرية كرسي ولايته.
    أَحْتَجُّ... بِأَكْثَرِ سُرُورٍ جعل بولس اختبار الوالي أمور اليهود موضوع رجائه في حسن العاقبة بخلاف ما كان الحال لو وقف أمام والٍ جديد لم يختبر اختبار فيلكس. وليس في افتتاح كلام بولس شيء من التملق والاحتيال إنما تكلم بالحق وهو أن اختبار الوالي كان موضوع سروره في هذه المحاكمة.
    ١١ «وَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي أَكْثَرُ مِنِ ٱثْنَيْ عَشَرَ يَوْماً مُنْذُ صَعِدْتُ لأَسْجُدَ فِي أُورُشَلِيمَ».
    ص ٢١: ٢٦ وع ١٧
    وَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تَعْرِفَ بما لك من الوسائل باعتبار كونك والياً ومن إقامتك في قيصرية فمكنك أن تحضر من شاهدوني عند وصولي إلى قيصرية وحين سافرت منها إلى أورشليم. وأنت تعلم أن قصر المدة التي تقضت عليّ منذ وصولي إلى أورشليم يمنع إمكان أن أرتكب ما ادعوه عليّ.
    ٱثْنَيْ عَشَرَ يَوْماً مضت سبعة منها وأنا في أورشليم (ص ٢١: ٢٧) وخمسة بعد خروجي منها (ص ٢٤: ١).
    لأَسْجُدَ لا لأهيّج فتنة. وليس في هذا منافاة لقوله في (ع ١٧) أنه أتى ليصنع صدقات لأن السجود أحد مقاصده بإتيانه إلى أورشليم (ص ٢٠: ١٦) وصنع الصدقات من خير أنواع العبادة. وفي هذه الآية أمران دفع بهما ما أُشتكي به عليه الأول أحدثية وصوله. فالمدة أقل مما يمكن أن يُرتكب فيها ما نسبوه إليه. والثاني أنه أتى للقيام بفروض الدين التي ادّعوا أنه رفضها وقاومها.
    ١٢ «وَلَمْ يَجِدُونِي فِي ٱلْهَيْكَلِ أُحَاجُّ أَحَداً أَوْ أَصْنَعُ تَجَمُّعاً مِنَ ٱلشَّعْبِ، وَلاَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَلاَ فِي ٱلْمَدِينَةِ».
    ص ٢٥: ٨ و٢٨: ١٧
    في هذه الآية نفى دعواهم الأولى وهو أنه «مهيّج فتنة» فدفع دعواه بإنكارها وصرح بأنه لم يفعل شيئاً يشوش السلام وبأنه لم يكلم أحداً جهراً وذكر كل الأماكن التي يمكن الإنسان أن يخطب ويهيّج فتنة بها وهي الهيكل والمجامع وأسواق المدينة وبيوتها. فأنكر أنه تلفظ بكلمة مهيّجة في موضع من تلك المواضع. ولو كان قد هيّج فتنة لعرف المشتكون مكانها وزمانها. وعدم إتيانهم بالبيّنات دل على أن لا بيّنة لهم وأن دعاويهم باطلة. فبيّنات الدعوى ثلاث وهي الأحوال واعتراف المدعى عليه والشهود. وهذه لم يستطيعوا أن يوردوا شيئاً منها. على أن الأحوال كانت مع بولس لا عليه مثل قصر الوقت. ولم يعترف بصحة شيء من دعاويهم بل أنكرها. وهم لم يأتوا بأحد من الشهود عليه. وقول بولس أنه «لم يحاج أحداً» يدلنا أنه امتنع عمداً عما اعتاده من التكلم جهراً في كل مدينة دخلها. والظاهر أنه لم ير الوقت مناسباً للتبشير.
    ١٣ «وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُثْبِتُوا مَا يَشْتَكُونَ بِهِ ٱلآنَ عَلَيَّ».
    الدعوى التي لا تثبت ببيّنة هي ساقطة وهم ادعوا أن بولس هيج فتنة وعجزوا عن البينة فدعواهم ساقطة.
    ١٤ «وَلٰكِنَّنِي أُقِرُّ لَكَ بِهٰذَا: أَنَّنِي حَسَبَ ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي يَقُولُونَ لَهُ «شِيعَةٌ» هٰكَذَا أَعْبُدُ إِلٰهَ آبَائِي، مُؤْمِناً بِكُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ» .
    عاموس ٨: ١٤ وص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣ و٢تيموثاوس ١: ٣ ص ٢٦: ٢٢ و٢٨: ٢٣
    في هذه الآية إبطال لدعواهم الثانية على ما قصدوا بها وهي أنه «مقدام شيعة الناصريين». أنكر بولس الدعوى الأولى وأقر بصحة الدعوى الثانية على غير ما قصدوا بها نافياً ما استنتجوا منها.
    ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي يَقُولُونَ لَهُ «شِيعَةٌ» سماه المشتكون في ع ٥ «مقدام شيعة الناصريين» فأقر بولس أنه من الناصريين لكنه أنكر أنهم شيعة وسكت تواضعاً عن كونه مقدامهم.
    اعتاد اليهود أن يعبروا عن أمور الدين المختلفة «بالطرق» فقد جاء في أقوالهم طريق الإيمان وطريق العبادة وطريق السيرة. وكثيراً ما عُبر بالطريق عن الدين المسيحي (ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣ و٢٢: ٤).
    أقام بولس في ما يأتي ثلاثة براهين على أنه لم يخرج عن كونه يهودياً بكونه مسيحياً وهي أنه عابد الإله الذي يعبده اليهود وأنه متمسك بما هم متمسكون به من كتب الدين وأن رجاءه في المستقبل مثل رجائهم. ولزم من هذا أن المسيحيين ليسوا بشيعة.
    أَعْبُدُ إِلٰهَ آبَائِي أي إله أسلافهم وأسلافه والمعنى أنه لم يعبد بكونه مسيحياً إلهاً جديداً بل ظل يعبد الذي عبده للديانة اليهودية. وهذا مضمون ما صرّح به أمام مجلس السبعين في (ص ٢٣: ١).
    أذنت الحكومة الرومانية لليهود في أنهم يعبدون إله آبائهم بلا معارض فكان لبولس حق الحماية الرومانية ما دام يعبد إله آبائه.
    مُؤْمِناً بِكُلِّ... فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ هذا البرهان الثاني على أنه لم يخرج عن كونه يهودياً بكونه مسيحياً لأنه لم يزل مصدقاً كتب الدين اليهودي المقدسة المجموعة بالناموس والأنبياء ومتمسكاً بها. ولا ريب في أن فيلكس كان يعرف أن تلك الأسفار معتمد الدين اليهودي مما سمعه مراراً كثيرة. وقول بولس هنا على تمام الموافقة لقول يسوع «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (متّى ٥: ١٧).
    ١٥ «وَلِي رَجَاءٌ بِٱللّٰهِ فِي مَا هُمْ أَيْضاً يَنْتَظِرُونَهُ: أَنَّهُ سَوْفَ تَكُونُ قِيَامَةٌ لِلأَمْوَاتِ، ٱلأَبْرَارِ وَٱلأَثَمَةِ».
    ص ٢٣: ٦ و٢٦: ٦ و٧ و٢٨: ٢٠ دانيال ١٢: ٢ ويوحنا ٥: ٢٨ و٢٩
    وَلِي رَجَاءٌ بِٱللّٰهِ في هذه الآية البرهان الثالث على أنه لم يخرج عن دين آبائه باتباعه طريق يسوع وهو أنه يرجو في المستقبل ما ترجوه أمة اليهود رجاء مبنياً على مواعيد الله. وظاهر الرجاء اشترك فيه الفريسيون والصدوقيون. فعلى اعتقاد بولس كانت قيامة يسوع برهاناً على كونه المسيح وقيامته عربون القيامة العامة وباكورتها. ويتضح من خطاب بولس أمام أغريباس الثاني أن كلامه في القيامة يتضمن مجيء المسيح الموعود به (ص ٢٦: ٦ - ٨ و٢٢ و٢٣).
    فِي مَا هُمْ أَيْضاً يَنْتَظِرُونَهُ أي معظم الأمة اليهودية على فرض أن الرجاء في هذه الآية مقصور على قيامة الأموات العامة لأن الصدوقيون المنكرين القيامة ليسوا سوى شرذمة قليلة وعلى فرض أنه أشار بالأكثر إلى المسيح الموعود به فهو منتظر كل الأمة اليهودية.
    وما في هذه الآية دليل على أنه كان بين المشتكين جماعة من الفريسيين وأن الاختلاف الذي وقع بينهم في المجلس في أمر بولس كان وقتياً وأن الفريقين اتفقا بعد ذلك على اضطهاده.
    وفيها دليل أيضاً على أن تعليم قيامة الأموات ليس مقصوراً على العهد الجديد بل أنه تعليم قديم عند الأمة اليهودية أعلنه الله بعهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب عهداً أبدياً (تكوين ١٧: ١٧) «فالله ليس إله أموات بل إله أحياء». وتنبأ به إشعياء (إشعياء ٢٦: ١٩ دانيال ١٢: ٢). نعم إن المسيح أوضحه وصدقه بكلامه وأثبت رجاء القيامة بقيامته.
    ٱلأَبْرَارِ وَٱلأَثَمَةِ أي كل البشر بقطع النظر عن صفاتهم الأدبية.
    ١٦ «لِذٰلِكَ أَنَا أَيْضاً أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِماً ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ».
    ص ٢٣: ١
    أُدَرِّبُ نَفْسِي أي أجتهد دائماً.
    ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ الذي له ضمير بلا عثرة هو الذي لا يفعل شيئاً مخالفاً لحكم الضمير ولا يأتي ما يحمل غيره على مخالفة حكم ضميره ولا ريب في أن بولس اجتهد بأن يكون له ضمير بلا عثرة في كل سيرته. ولكنه لم يقصد التصريح بذلك في كلامه هنا إنما قصد هنا تصرفه بالنظر إلى ما يجب عليه لشعب اليهود ودينهم.
    مِنْ نَحْوِ ٱللّٰهِ باعتبار كونه واضع الدين الذي هو ديني ودين آبائي وغايتي أن لا أعصى أمره وأن لا أغيظه.
    وَٱلنَّاسِ قصد بالناس هنا أمته اليهودية وأراد أنه اجتهد في أن لا يعثرهم لأنه «صار لليهود كيهودي» (١كورنثوس ٩: ٢٠) وقال ذلك دفعاً لتوهمهم أنه يبغضهم.
    ١٧ «وَبَعْدَ سِنِينَ كَثِيرَةٍ جِئْتُ أَصْنَعُ صَدَقَاتٍ لأُمَّتِي وَقَرَابِينَ».
    ص ١١: ٢٩ و٣٠ و٢٠: ١٦ ورومية ١٥: ٢٥ و٢كورنثوس ٨: ٤ وغلاطية ٢: ١٠
    دفع في هذه الآية والتي تليها دعواهم الثالثة.
    سِنِينَ كَثِيرَةٍ لا نعلم بداءة هذه السنين التي أرادها فإن كان قد أراد أنها يوم تنصره وتركه أورشليم باعتبار كونها مسكناً له فتلك السنين خمس وعشرون وإن كان قد أراد أنها وقت زيارته الأخيرة لأورشليم فهي أربع سنين (انظر شرح ص ١٨: ٢٢ و٢٣).
    صَدَقَاتٍ لأُمَّتِي هي أموال إحسان جمعها من كنائس مكدونية لفقراء كنيسة أورشليم وذُكر ذلك الجمع في رسائله (رومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ - ٤ و٢كورنثوس ٨: ١ - ٤). ولم يُذكر في غير هذا الموضع من أعمال الرسل. وأراد بالأمة في قوله «أمتي» اليهود وذلك لأن كنيسة أورشليم من متنصري اليهود لا من متنصري الأمم. وهذا ليس عمل من يهيج فتنة بين اليهود.
    وَقَرَابِينَ المعتاد تقديمها في يوم الخمسين من ذبائح وغيرها عن نفسه وعن الناذرين الذين اتخذ على نفسه أن ينفق عليهم كما مر في (ص ٢١: ٢٣ - ٢٥). وفي هذا بعض الرد على قولهم «شرع يدنس الهيكل» فإنه أتى الهيكل عابداً لا مدنساً متمماً فرائض الشريعة التي اتهموه بأنه يحتقرها.
    ١٨ «وَفِي ذٰلِكَ وَجَدَنِي مُتَطَهِّراً فِي ٱلْهَيْكَلِ لَيْسَ مَعَ جَمْعٍ وَلاَ مَعَ شَغَبٍ قَوْمٌ هُمْ يَهُودٌ مِنْ أَسِيَّا».
    ص ٢١: ٢٦ و٢٧ و٢٦: ٢١
    وَفِي ذٰلِكَ أي وأنا أقدم الصدقات للفقراء والقرابين والذبائح لله مظهراً بذلك غيرتي على أمتي وعلى شريعة موسى.
    مُتَطَهِّراً فِي ٱلْهَيْكَلِ كما قيل في (ص ٢١: ٢٦ و٢٧) وأتى ذلك التطهير ليساعد الناذرين على وفاء نذورهم (ص ٢١: ٢٤). وكان ذلك التطهير بواسطة تقديم الذبائح والقرابين المفروضة. فيستحيل من كان كذلك أنه يشرع في أن يدنس الهيكل.
    لَيْسَ مَعَ جَمْعٍ وَلاَ مَعَ شَغَبٍ هذا دفع آخر لقولهم أنه «مهيج فتنة».
    قَوْمٌ هُمْ يَهُودٌ مِنْ أَسِيَّا (انظر ٢١: ٢٧).
    ١٩ «كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرُوا لَدَيْكَ وَيَشْتَكُوا، إِنْ كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ شَيْءٌ».
    ص ٢٣: ٣٠ و٢٥: ١٦
    كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرُوا لَدَيْكَ أي اليهود الذين من آسيا فهم الذين شاهدوا ما فعلته واتهموني وقبضوا عليّ. فعلى قولهم صار عليّ كل ما صار فكان يجب أن يأتوا هم إما شهوداً وإما مشتكين لا ترتلّس ولا حنانيا فهما لم يعرفا ما سمعناه. والخلاصة أنهم أقاموا الدعوى عليه بلا بيّنة ولا شهود.
    ٢٠ «أَوْ لِيَقُلْ هٰؤُلاَءِ أَنْفُسُهُمْ مَاذَا وَجَدُوا فِيَّ مِنَ ٱلذَّنْبِ وَأَنَا قَائِمٌ أَمَامَ ٱلْمَجْمَعِ».
    أَوْ أي بما أنه لم يحضر اليهود الذين من آسيا وقد فات وقت استحضارهم وسقطت دعواهم.
    لِيَقُلْ هٰؤُلاَءِ أَنْفُسُهُمْ أي حنانيا والشيوخ.
    مَاذَا وَجَدُوا فِيَّ مِنَ ٱلذَّنْبِ الخ دعاهم هنا إلى أن يشتكوا عليه بما شاهدوه منه ويستطيعون أن يشهدوا به فهم شاهدوه في مجمع السبعين (ص ٢٢: ٣٠) فإن كان قد أذنب هناك وشاهدوا ذلك أمكنهم أن يشهدوا عليه به. لأنهم لم يروه في سوى المجمع فشهادتهم عليه بما كان منه في غيره لا تقوم لعدم مشاهدتهم إياه.
    ٢١ «إِلاَّ مِنْ جِهَةِ هٰذَا ٱلْقَوْلِ ٱلْوَاحِدِ ٱلَّذِي صَرَخْتُ بِهِ وَاقِفاً بَيْنَهُمْ: أَنِّي مِنْ أَجْلِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ أُحَاكَمُ مِنْكُمُ ٱلْيَوْمَ».
    ص ٢٣: ٦ و٢٨: ٢٠
    هٰذَا ٱلْقَوْلِ ٱلْوَاحِدِ أشار بذلك إلى ما كتبه لوقا في (ص ٢٣: ٦) وصرح بأنه لم يقل سوى هذا القول الواحد الذي أعاده هنا وقال أنه مستعد للمحاكمة إن كان تمسكه به وإعلانه إياه ذنباً.
    مِنْ أَجْلِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ الخ سبق في تفسير (ص ٢٣: ٦) بيان أن بولس اعتبر قيامة يسوع من الأموات أهم الأمور المتعلقة بالقيامة العامة لأنه بقيامته برهن أنه هو المسيح وإيمان بولس بهذه القيامة جعله مسيحياً وهي علة القبض على بولس والشكاية عليه ولكن هذا ليس بذنب بمقتضى الشريعة الرومانية ولا بعلة للحكم عليه.
    لم يكتف بولس بالمحاماة عن نفسه أمام فيلكس لكنه أراد أن يشهد لليهود مرة أخرى أن يسوع هو المسيح وأن قيامته دليل على ذلك وختم كلامه بتقديم هذه الشهادة. والظاهر أن المشتكين لم يستطيعوا أن يعترضوا على احتجاجه شيئاً.

    رجوع بولس إلى القصر وخطابه لفيلكس ودروسلا ع ٢٢ إلى ٢٧


    ٢٢ «فَلَمَّا سَمِعَ هٰذَا فِيلِكْسُ أَمْهَلَهُمْ، إِذْ كَانَ يَعْلَمُ بِأَكْثَرِ تَحْقِيقٍ أُمُورَ هٰذَا ٱلطَّرِيقِ، قَائِلاً: مَتَى ٱنْحَدَرَ لِيسِيَاسُ ٱلأَمِيرُ أَفْحَصُ عَنْ أُمُورِكُمْ».
    ع ٧
    سَمِعَ هٰذَا أي تبيين بولس الفرق بين اليهود والمسيحيين وتبرئته لنفسه في اعتقاده وعمله. ويحتمل أن الإشارة إلى كل من خطاب ترتلّس وخطاب بولس.
    أَمْهَلَهُمْ وهم طالبون الحكم على بولس. ولا ريب في أنه اقتنع بأن شكواهم كاذبة ولكنه لم يرد أن يغيظ شعب اليهود بإغاظة رؤسائه (الذين هم المشتكون) بتبرئة بولس وإطلاقه. ولهذا عاق القضاء بناء على استشهاد ترتلّس بليسياس (ع ٨).
    يَعْلَمُ بِأَكْثَرِ تَحْقِيقٍ أُمُورَ هٰذَا ٱلطَّرِيقِ معنى الطريق هنا الديانة المسيحية كما جاء في كلام بولس في (ع ١٤) وكما ورد غالباً في هذا السفر (انظر شرح ص ٩: ٢٠). ومعنى «يعلم بأكثر تحقيق» أن فيلكس عرف حقيقة الديانة المسيحية بعد خطاب بولس أكثر من معرفته إياها قبل ذلك الخطاب. أو أنه أعرف بها من سواه من الحكام الرومانيين كغاليون وليسياس اللذين اعتبروا الديانة المسيحية مجرد «مسائل وأسماء» (ص ١٨: ١٥ و٢٣: ٢٩). أو أنه عرف بها أكثر مما ظن اليهود المشتكون الذين ادّعوا أن بولس عندما صار مسيحياً رفض الديانة اليهودية كل الرفض.
    تولى فيلكس سورية ست سنين وتولى السامرة قبل ذلك بضعة سنين ولا بد من أنه سمع كثيراً وعرف كثيراً من أمور المسيحيين وزاده معرفة أنه في قيصرية موضع إقامته سكن فيلبس وهو من أقدم المبشرين المسيحيين وأكثرهم غيرة.
    مَتَى ٱنْحَدَرَ لِيسِيَاسُ الخ هذا وعد بأنه يبحث في الدعوى إلى النهاية ويحكم بها. وما كان ذلك سوى محاولة التخلص منهم لأنهم يبعد عن التصديق أن ليسياس يترك أورشليم في تلك الأيام أيام الاضطراب ويذهب إلى قيصرية لتأدية الشهادة في أمر بولس. والظاهر أن اليهود اتخذوه كذلك وتحققوا أنه لم يرد أن يحكم على بولس إذ لا دليل على أنهم جددوا الشكوى إليه مدة باقي زمن توليه سورية وهي سنتان.
    ٢٣ «وَأَمَرَ قَائِدَ ٱلْمِئَةِ أَنْ يُحْرَسَ بُولُسُ، وَتَكُونَ لَهُ رُخْصَةٌ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَخْدِمَهُ أَوْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ».
    ص ٢٧: ٣ و٢٨: ١٦
    وَأَمَرَ قَائِدَ ٱلْمِئَةِ ما أمر به دليل على اقتناعه ببراءة بولس لكنه لم يطلقه إكراماً لليهود ولعلة مذكورة في الآية السادسة والعشرين. وأعطاه كل الحرية التي يمكن أن يُعطاها الأسير.
    أَنْ يُحْرَسَ كان الحجر عند الرومانيين ثلاثة أنواع الأول السجنيّ مع القيود كما حُبس بولس وسيلا في سجن فيلبي. والثاني التقييدي بلا سجن وهو أن يُربط الأسير بسلسلة إلى جندي خارج السجن كما حجر على بولس في رومية في حبسه الأول. والثالث حراسيّ بلا سجن ولا تقييد مع وفرة من الحرية وهذا ما حُجر على بولس به في قيصرية. والأرجح أنه حُجر عليه في قصر هيرودس.
    رُخْصَةٌ أي حرية إلى غاية ما يمكن أن توهب للأسير.
    وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ لا بد أنه كان من جملة هؤلاء الأصحاب فيلبس وأهل بيته المذكورون في (ص ٢١: ٨ و٩) وتروفيموس الذي أتى معه من آسيا وأرترخس (ص ٢٧: ٢) ولوقا الطبيب الحبيب كاتب هذا السفر.
    ٢٤ «ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَ فِيلِكْسُ مَعَ دُرُوسِلاَّ ٱمْرَأَتِهِ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ. فَٱسْتَحْضَرَ بُولُسَ وَسَمِعَ مِنْهُ عَنِ ٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ».
    بَعْدَ أَيَّامٍ هذا وقت غير معيّن ولكن غلب أن يراد به وقت قصير.
    دُرُوسِلاَّ هي بنت هيرودس أغريباس الأول الذي ذُكر موته في (ص ١٢: ٢٣) وهي أخت أغريباس الثاني وبرنيكي (ص ٢٥: ١٣). وهي بنت حفيد هيرودس الكبير. تزوجت عزيز ملك حمص الذي تهوّد لكي يأخذها. قال يوسيفوس أن فيلكس استمالها إليه وحملها على ترك زوجها بواسطة سيمون الساحر القبرسي (وهو على رأي بعضهم سيمون المذكور في ص ٨: ٢٤) طُمرت تحت مقذوفات بركان يزوف في إيطاليا سنة ٧٩ ب. م. ولعل معنى قول لوقا «جاء فيلكس معها» أنه أتى بها إلى بيته لتكون امرأة له.
    وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ أصلاً وإيماناً ولذلك كانت تميل طبعاً إلى مشاهدة المبشر الذي هو أحد مشاهير المذهب الذي يُقاوم في كل مكان وإلى سمع كلامه.
    فَٱسْتَحْضَرَ بُولُسَ تدل القرينة على أنه استدعاه إرضاء لدروسلاّ.
    ٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ أي الدين الجديد الذي موضوعه وأساسه المسيح (انظر ص ١٤: ١١ و١٢).
    ٢٥ «وَبَيْنَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ عَنِ ٱلْبِرِّ وَٱلتَّعَفُّفِ وَٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْعَتِيدَةِ أَنْ تَكُونَ، ٱرْتَعَبَ فِيلِكْسُ، وَأَجَابَ: أَمَّا ٱلآنَ فَٱذْهَبْ، وَمَتَى حَصَلْتُ عَلَى وَقْتٍ أَسْتَدْعِيكَ».
    لم تكن غايتهما من سمع بولس سوى اللهو والتسلية أما بولس فانتهز الفرصة ليشهد لهما بالمسيح وحقائق إنجيله ولا سيما بسط الحقائق التي هي أكثر نفعاً لهما ومن شأنها أن تقود إلى التوبة وخلاص النفوس. وكان إطلاق بولس متوقفاً على إرادة فيلكس لكنه لم يفه بكلمة من كلام التملّق أو التعظيم أو التصويب ليستميله إلى إطلاقه.
    ٱلْبِرِّ أي العدل وهو القيام بما يجب لله وللناس. وكان على فيلكس باعتبار أنه والٍ أن يكون عادلاً لأنه نائب إله عادل ولا محاباة عنده ولا يقبل رشوة. ولا ريب في أن فيلكس كان مفتقراً إلى بسط الكلام على هذه الصفة بدليل شهادة تاسيطوس المؤرخ الروماني عليه فإنه قال فيه «أنه تصرف في كل أموره كأنه أُبيح له ارتكاب كل الذنوب بلا عقاب» وقال إنه اشتهر بصفتين القساوة والعشق.
    وَٱلتَّعَفُّفِ اعتزال كل الشهوات الجسدية التي حرمتها الشريعة الإلهية. فاقتران فيلكس بدروسلا ورجلها حيّ مخالف لقوانين التعفف التي وضعها الله فكلاهما مسوؤل به لأنهما لم يهتما بسوى لذاتهما وأهوائهما. فكانت أثوابهما جميلة نقية ولكن قلبيهما مملوآن فساداً.
    وَٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْعَتِيدَةِ أَنْ تَكُونَ على كل مخالفي شريعة الله المكتوبة على ألواح الضمائر وفي صفحات كتابه تعالى. وأمام عرش تلك الدينونة يقف كل إنسان والياً وأسيراً الخ.
    تكلم بولس على هذا الموضوع في أريوس باغوس (ص ١٧: ٣١).
    وهذه المواضيع الثلاثة البر والتعفف والدينونة من شأنها أن تؤثر في ضمير كل من فيلكس ودروسلاّ وتكلم بولس عليها أمامهما اقتضى جرآة وأمانة للحق. لا يلزم مما ذُكر هنا أن بولس لم يتكلم في غير هذه المواضيع الثلاثة فإن سُئل أن يبين حقيقة الإيمان بالمسيح فساقه الكلام في ذلك إلى ذكر الفضائل الروحية التي هي أثمار الإيمان بالمسيح وذكر الدينونة التي سيجريها المسيح في نهاية العالم.
    ٱرْتَعَبَ فِيلِكْسُ وإن لم يكن المبشّر سوى أسير. فإن فيلكس اضطرب خوفاً عندما تذكر ما ارتكبه من الآثام وسمع بالدينونة عليه. كان فيلكس قد تربى في الجيش الروماني فلم يرتعب خيفة من إنسان أو من ضرر جسدي لكنه ارتعد خوفاً من غضب الله والخطر الذي كانت نفسه معرّضة له. والأرجح أنه لم يكن قد سمع قبلاً خطاباً في مثل تلك المواضيع وكان ذلك الخطاب على خلاف ما توقعه. فتأثره من خطاب بولس كان كتأثر هيرودس أنتيباس من خطاب يوحنا المعمدان (مرقس ٦: ٢٠). ولا دليل على أن دروسلاّ تأثرت شيئاً من وعظ بولس ولعل على ذلك تعودها سمع الكلام على وجوب تلك الفضائل وتلك الدينونة لأنها يهودية أو لأنها ظنت أن نسبتها إلى إبراهيم وتقديمها الذبائح وقيامها برسوم الديانة كافية لستر خطاياها وخلاص نفسها.
    أَمَّا ٱلآنَ فَٱذْهَبْ الخ تصرّف فيلكس في ما يبنه وبين الله كما تصرف في أمر بولس والمشتكين أي تمهل في القضاء وكانت نتيجة كل من التمهلين رديئة وهما ظلم بولس وهلاك فيلكس.
    إن الشيطان يرغب في أن الناس لا يسمعون الحق وأنهم يقاومونه ولكنهم إذا سمعوا الحق وتأثروا به حملهم على التمهل عن قبوله بدعوة أن وقتاً آخر أكثر مناسبة لقبوله.
    ارتعب حارس سجن فيلبي كما ارتعب فيلكس حين استيقظ ضميره وشعر بأنه خاطئ لكنه لم يتمهل كفيلكس بل سأل عن طريق الخلاص وآمن بالمسيح المخلص (ص ١٦: ٣٠ و٣١). فتأخير زمان التوبة والإيمان إلى وقت آخر بناء على رجاء أن يكون أكثر مناسبة علة هلاك كثيرين.
    ٢٦ «وَكَانَ أَيْضاً يَرْجُو أَنْ يُعْطِيَهُ بُولُسُ دَرَاهِمَ لِيُطْلِقَهُ، وَلِذٰلِكَ كَانَ يَسْتَحْضِرُهُ مِرَاراً أَكْثَرَ وَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ».
    خروج ٢٣: ٨
    يَرْجُو أَنْ يُعْطِيَهُ بُولُسُ دَرَاهِمَ اشتهر فيلكس بالطمع وكان قد سمع نبأ الصدقات التي صنعها بولس (ع ١٧) فظن أنه غني قادر أن يفدي نفسه بالدراهم أو أنه يستطيع أن يجعل أصدقاءه يجمعون له مال الفدية ولكن بولس كان يعلم أنه بريءٌ يستحق أن يُطلق فأبى أن يرشي فيلكس. لأنه اعتقد أن ذلك حرام ولم يرد أن يضع تجربة أمام من في يده القضاء ولأن الراشي شريك المرتشي ولأن في تأدية الرشوة شيئاً من الاعتراف بالذنب كأن حقه عاجز عن تبرئته.
    وَلِذٰلِكَ كَانَ يَسْتَحْضِرُهُ الخ لا بد من أن بولس كان يخاطبه كل مرة بشيء من الأمور الدينية ولكن لا دليل على أن كلامه أثر فيه شيئاً لأنه من خالف ضميره مراراً أماته ولأن الطمع ملأ قلبه فلم يترك فيه موضعاً لغيره من الشعور.
    ٢٧ «وَلٰكِنْ لَمَّا كَمَلَتْ سَنَتَانِ، قَبِلَ فِيلِكْسُ بُورْكِيُوسَ فَسْتُوسَ خَلِيفَةً لَهُ. وَإِذْ كَانَ فِيلِكْسُ يُرِيدُ أَنْ يُودِعَ ٱلْيَهُودَ مِنَّةً، تَرَكَ بُولُسَ مُقَيَّداً».
    خروج ٢٣: ٢ وص ١٢: ٣ و٢٥: ٩ و١٤
    كَمَلَتْ سَنَتَانِ من بداءة الحجر على بولس في قيصرية. والأرجح أن ذلك كان سنة ٦٠ ب. م أي قبل خراب أورشليم بعشر سنين. ولم يذكر الكاتب ماذا كان يفعل بولس في تلك المدة ولم يظهر أنه كتب فيها شيئاً من الرسائل إلى أحد. والأرجح أنه كان يساعد رفيقه لوقا على كتابة بشارته كما سبق الكلام في مقدمة تلك البشارة. ولعله عاونه أيضاً على كتابة ما مر من هذا السفر.
    قَبِلَ فِيلِكْسُ اشتكى عليه اليهود إلى الأمبراطور نيرون في رومية لشدة ظلمة فدُعي للمحاكمة هناك فعُزل ولولا توسط أخيه بالاس الذي كان محبوباً إلى نيرون في أمره لحكم عليه وعوقب فبتوسطه له خلّصه من العقاب الذي استحقه.
    بُورْكِيُوسَ فَسْتُوسَ (انظر شرح ص ٢٥: ١).
    فِيلِكْسُ... تَرَكَ بُولُسَ مُقَيَّداً علة إظهاره لليهود تلك المنة مع بغضه اليهود وسلبه إياهم وظلمه لهم توقعه أن ذلك يحملهم على تخفيف الشكوى التي رفعوها عليه إلى الأمبراطور ولكن ظلمه لبولس لم يفده شيئاً أمام كرسي نيرون كما سبق وزاده جرماً أمام عرش الله.


    الأصحاح الخامس والعشرون


    بولس أمام فستوس ورفعه دعواه إلى قيصر ع ١ إلى ١٢


    ١ «فَلَمَّا قَدِمَ فَسْتُوسُ إِلَى ٱلْوِلاَيَةِ صَعِدَ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ قَيْصَرِيَّةَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    فَسْتُوسُ والٍ وصفه المؤرخون بالعدل والاستقامة تولى نحو سنتين ومات وهو والٍ خلافاً لأكثر من سلفه من الولاة.
    بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ منها يوم وصوله إلى قيصرية ويوم سفره منها إلى أورشليم فإذاً لم يسترح في قيصرية سوى يوم واحد لبلوغه إياها. وهذا دليل على نشاطه وإمضائه أمور ولايته.
    إِلَى أُورُشَلِيمَ أنها أكبر مدن ولايته وأهمها وليجتمع برؤساء أمة اليهود ولولا ذلك ما استطاع أن يعرف أحوال ولايته حق المعرفة. ولكن الحكومة الرومانية استحسنت أن تجعل قيصرية قصبة الولاية ومسكن ولاتها.
    ٢ «فَعَرَضَ لَهُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ وَوُجُوهُ ٱلْيَهُودِ ضِدَّ بُولُسَ، وَٱلْتَمَسُوا مِنْهُ».
    ص ٢٤: ١ وع ١٥
    فَعَرَضَ أي جدد الشكوى التي كانت على بولس منذ سنتين وسكت اليهود عنها تلك المدة يأساً من استفادتهم من تجديدها أمام فيلكس. وهذا دليل على أهمية المسئلة بين بولس واليهود عند أعضاء مجمع السبعين وعلى شدة بغضهم لبولس وعلى أنه اعتبر من أعظم الوسائل إلى نشر الدين المسيحي وانحطاط سلطانهم على الشعب. وكان بغضهم ليسوع أعظم علل بغضهم لرسوله الغيور الأمين.
    رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ هو اسماعيل بن فابي على قول يوسيفوس لا حنانيا المذكور في (ص ٢٣:٢). والذي جعل حنانيا عدواً لبولس جعل إسماعيل عدواً له أيضاً وهو كونه ركناً لدين يسوع الناصري.
    وَوُجُوهُ ٱلْيَهُودِ هم أعضاء المجمع كما سبق في (ص ٤: ٥ و٨: ٢٣ و٢٣: ١٤ و٢٤: ١).
    ٣ «طَالِبِينَ عَلَيْهِ مِنَّةً، أَنْ يَسْتَحْضِرَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَهُمْ صَانِعُونَ كَمِيناً لِيَقْتُلُوهُ فِي ٱلطَّرِيقِ».
    ص ٢٣: ١٢ و١٥
    طَالِبِينَ عَلَيْهِ مِنَّةً ظنوا حداثة توليه عليهم علة لرغبته في اتخاذهم أصدقاء وأنه يرى طلبتهم وسيلة سهلة إلى ذلك. والفرق زهيد بين طلب تعويج الحق منة وتعويجه بالرشوة.
    وَهُمْ صَانِعُونَ كَمِيناً الخ طلبهم إلى فستوس أن يستحضر بولس للمحاكمة في أورشليم خداع لأن قصدهم من ذلك تمهيد السبيل إلى قتل بولس قبل وصوله إليهم وكان القتلة قد تآمروا واتفقوا مع أعضاء المجمع على المكيدة كما فعلوا سابقاً (ص ٢٣: ١٢).
    كان من علامات سقوط الشعب اليهودي ديناً وأدباً وإشرافهم على الدمار أن مجمعهم الأعظم يعتمد الخداع والقتل.
    ٤ «فَأَجَابَ فَسْتُوسُ أَنْ يُحْرَسَ بُولُسُ فِي قَيْصَرِيَّةَ، وَأَنَّهُ هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَنْطَلِقَ عَاجِلاً».
    أبى فستوس إجابتهم إلى ما طلبوا بناء على أن بولس محجور عليه في قيصرية معد للمحاكمة وأن فستوس نفسه عازم على الرجوع إلى قيصرية سريعاً فلا يوافقه أن يبقى في أورشليم ليحضر محاكمته فيها. ولا نعلم كل الأسباب الحقة لإباءته ولعله خاف أن تكون المحاكمة في أورشليم على شغب واضطراب. ولعل فيلكس أو ليسياس أخبره بالكمين الذي صنعوه لقتل بولس فخشي مثله حينئذ. وأعظم العلل أن الله الذي وعد بولس بأنه يشهد للحق في رومية (ص ٢٣: ١) حمل فستوس في (ع ١٥) لأغريباس الملك ما طلبه رؤساء اليهود بأحسن إيضاح وقال انهم سألوه أولاً الحكم عليه بلا فحص وأنه بعدما أجابهم «بأن ليس للرومانيين عادة أن يسلموا أحداً للموت قبل أن يكون المشكو عليه مواجهة مع المشتكين فيحصل على فرصة للاحتجاج عن الشكوى» طلبوا إليه أن يستدعيه إلى أورشليم.
    أَنْ يَنْطَلِقَ إلى قيصرية.
    ٥ «وَقَالَ: فَلْيَنْزِلْ مَعِي ٱلَّذِينَ هُمْ بَيْنَكُمْ مُقْتَدِرُونَ. وَإِنْ كَانَ فِي هٰذَا ٱلرَّجُلِ شَيْءٌ فَلْيَشْتَكُوا عَلَيْهِ».
    ص ١٨: ١٤ وع ١٨
    فَلْيَنْزِلْ الفاء هنا سببيّة والمعنى إذ لم يناسب أن أستدعي بولس إلى هنا.
    مَعِي إلى قيصرية.
    مُقْتَدِرُونَ أن يتوبوا عن المجمع لأنهم من أعضائه أو لأن المجمع عيّنهم وأنهم أهل للشكوى لمعرفتهم الأمور المتعلقة.
    وَإِنْ كَانَ فِي هٰذَا ٱلرَّجُلِ شَيْءٌ أي ذنب أو علة كافية للشكوى.
    ٦ «وَبَعْدَ مَا صَرَفَ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ٱنْحَدَرَ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ. وَفِي ٱلْغَدِ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِبُولُسَ».
    ما في هذه الآية دليل على نشاطه للعمل وأمانته في الوعد.
    كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ (ص ١٢: ٢١ و١٨: ١٢).
    ٧ «فَلَمَّا حَضَرَ، وَقَفَ حَوْلَهُ ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱنْحَدَرُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَقَدَّمُوا عَلَى بُولُسَ دَعَاوِيَ كَثِيرَةً وَثَقِيلَةً لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُبَرْهِنُوهَا».
    مرقس ١٥: ٣ ولوقا ٢٣: ٢ و١٠ وص ٢٤: ٥ و١٣
    حَوْلَهُ أي حول كرسي الولاية.
    ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱنْحَدَرُوا بأمر الوالي نواباً عن مجمع اليهود.
    دَعَاوِيَ كَثِيرَةً وَثَقِيلَةً وهي معروفة مما ذُكر سابقاً في (ص ٢٤: ٥ و٦) ومن جواب بولس عليها في الآية الآتية.
    لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُبَرْهِنُوهَا فإن قيل لماذا قدموا شكايات لم يستطيعوا إثباتها قلنا أنهم اتكلوا على كثرة عددهم وعلى رفع أصواتهم وعلو منزلتهم حاسبين أن ذلك يقوم مقام الشهود والأدلة ويغني عنها.
    ٨ «إِذْ كَانَ هُوَ يَحْتَجُّ: أَنِّي مَا أَخْطَأْتُ بِشَيْءٍ، لاَ إِلَى نَامُوسِ ٱلْيَهُودِ وَلاَ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَلاَ إِلَى قَيْصَرَ».
    ص ٦: ١٣ و٢٤: ١٢ و٢٨: ١٧
    في هذه الآية خلاصة جواب بولس على دعاويهم ومنها نستنتج أسلوب شكواهم وماهيّة تلك الدعاوي.
    لاَ إِلَى نَامُوسِ ٱلْيَهُود نفى بذلك شكواهم أنه رفض ناموس موسى بسيرته أو تعليمه وصرّح بأنه لم يزل يهودياً مع كونه مسيحياً.
    وَلاَ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ نفى دعواهم أنه شرع في أن يدنس الهيكل.
    وَلاَ إِلَى قَيْصَرَ نفى دعواهم أنه هيّج فتنة على السلطة الرومانية. وهذه الدعاوي الثلاث هي خلاصة ما اشتكى به ترتلس عليه منذ سنتين ص ٢٤: ٥ و٦) وقيصر اسم لكل أمبراطور روماني وأول أمبراطور سُمي به هو الأمبراطور يوليوس ثم أوغسطس ثم طيباريوس ثم كاليغولا ثم كلوديوس ثم نيرون.
    ٩ «وَلٰكِنَّ فَسْتُوسَ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُودِعَ ٱلْيَهُودَ مِنَّةً قَالَ لِبُولُسَ: أَتَشَاءُ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِتُحَاكَمَ هُنَاكَ لَدَيَّ مِنْ جِهَةِ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ؟».
    ص ٢٤: ٢٧ ع ٢٠
    إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُودِعَ ٱلْيَهُودَ مِنَّةً هذا كعمل فيلكس (انظر ص ٢٤: ٢٧) ولو أراد أن يعامل بولس عدلاً لأطلقه إذ لم تثبت عليه دعوى.
    أَتَشَاءُ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ هذا ما طلبه اليهود إلى فستوس وهو في أورشليم وأبى أن يجيبهم إليه وفيه تسليم فستوس أن بولس لم يذنب شيئاً بمقتضى الشريعة الرومانية. وعرض فستوس على بولس أن يحاكم في مجمع السبعين بناء على كون الدعاوي عليه تخص بالشريعة اليهودية وأنه كما تبرر في المجلس الروماني يتبرر في المجلس اليهودي ويخلص من كل التهم.
    لَدَيَّ أي في حضرتي فأقيك من كل جور. كان الظلم أن يبقيه أسيراً بعد ما عرف براءته وأن يعرض عليه أن يحاكم في مجلس أعدائه لكنه أظهر شيئاً من العدل في أمرين الأول أنه يحضر مجلس المحاكمة لحمايته والثاني أنه خيّره في الصعود إلى أورشليم ولم يجبره عليه.
    ولعل فستوس علم أن بولس يصرّح بحقوقه باعتبار أنه روماني ويرفض أن يحاكم في مجلس يهودي لكنه بعرضه ذلك على بولس أظهر منّة لليهود وميله إلى احترام ناموسهم وعوائدهم.
    ١٠ «فَقَالَ بُولُسُ: أَنَا وَاقِفٌ لَدَى كُرْسِيِّ وِلاَيَةِ قَيْصَرَ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ أُحَاكَمَ. أَنَا لَمْ أَظْلِمِ ٱلْيَهُودَ بِشَيْءٍ، كَمَا تَعْلَمُ أَنْتَ أَيْضاً جَيِّداً».
    أَنَا وَاقِفٌ لَدَى كُرْسِيِّ وِلاَيَةِ قَيْصَرَ نسب الولاية إلى قيصر أمبراطور الرومانيين لأن الوالي نائب عنه وهو حاكم باسمه وسلطانه. وعنى بقوله «واقف لدى كرسي ولاية قيصر» أن له حقاً أن يحاكم في محكمة رومانية لا يهودية بناء على كونه رومانياً.
    حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ أُحَاكَمَ سأله فستوس أن يُحاكم في مجمع اليهود فأبى بولس ذلك هنا لأمرين:
    الأول: أنه في أيدي الرومانيين وتحت حمايتهم ومحاكمتهم فلا داعي لخروجه من ذلك إلى غيره.
    الثاني: أنه روماني فيحق له أن يحميه الرومانيون وأن يحاكم بمقتضى شريعتهم.
    أَنَا لَمْ أَظْلِمِ ٱلْيَهُودَ بِشَيْءٍ هذا سبب ثالث لإبائه المحاكمة في مجمع اليهود ومعناه أنهم لم يثبتوا عليه أنه أخطأ بشيء إلى ناموسهم وهيكلهم. ولو كان قد أخطأ إليهم بشيء ما حق لهم أن يحاكموه في محكمتهم للأمرين المذكورين آنفاً فبالأولى أن لا حق لهم أن يحاكموه فيها بعد أن بذلوا جهدهم في إثبات الذنب عليه وعجزوا. ولم يأب بولس أن يُحاكم لمجرد قوله «أنه بريء» لأنه لو صح له ذلك ما حُوكم وتبرأ. واستشهد الوالي بصحة دعواه بقوله «كما تعلم أنت أيضاً جيداً».
    ١١ «لأَنِّي إِنْ كُنْتُ آثِماً، أَوْ صَنَعْتُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ، فَلَسْتُ أَسْتَعْفِي مِنَ ٱلْمَوْتِ. وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا يَشْتَكِي عَلَيَّ بِهِ هٰؤُلاَءِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَلِّمَنِي لَهُمْ. إِلَى قَيْصَرَ أَنَا رَافِعٌ دَعْوَايَ».
    ص ١٨: ١٤ و٢٣: ٢٩ وع ٢٥ وص ٢٦: ٣١ ص ٢٦: ٣٢ و٢٨: ١٩
    أبان بولس في أول هذه الآية أن إبائته الذهاب إلى أورشليم للمحاكمة مبنيّة على ما تبرهن في ما مر من المحاكمة لا على رغبته في الهرب من الفحص أو التخلص من العقاب إن كان مذنباً.
    إِنْ كُنْتُ آثِماً أي لو ثبت عليّ في المحاكمة التي جرت علي أني آثم.
    أَوْ صَنَعْتُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ أي لو ثبت عليّ في تلك المحاكمة ارتكابي ما يُجب علّي الموت.
    فَلَسْتُ أَسْتَعْفِي مِنَ ٱلْمَوْتِ أي لا أسأل العفو من الموت الواجب حسنة أو صدقة بل كنت أقول أجروا ما وجب عليّ.
    وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أي إذا كان الأمر خلاف ما فرضت وبطل كل ما اتهموني به.
    فَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَلِّمَنِي لَهُمْ أي لا يستطيع ذلك أحد أراد العدل والحق لأن ذلك التسليم يكون هبة بريء لأعدائه لكي يفعلوا به ما يشاؤون فأوضح بذلك أن سؤال فستوس إياه الذهاب إلى أورشليم للمحاكمة بعد ما تحقق براءته يصنع منة لليهود مخالف للحق والعدل بالذات بلا داع ومعرّض للخطر بالنتائج.
    فسؤال فستوس لبولس ما ذُكر دل على قدر جهله الأحوال ونقص حكمته وإيثاره إرضاء اليهود على إجراء العدل وهي مما حمل بولس على أن لا يثق به ولا يركن لسياسته وعلى أن يلجأ إلى من هو أعظم منه.
    إِلَى قَيْصَرَ أَنَا رَافِعٌ دَعْوَايَ أي أنا مستأنف الدعوى إلى الأمبراطور. وحقّ الروماني أن يرفع دعواه من محاكم الولايات إلى البلاط الأمبراطوري أُعتبر من أعظم الحقوق واثمنها. وما كان الاستئناف يومئذ يحتاج في تحصيله إلى الكتابة أو الوسائط سوى مجرد القول «Appello» أي استأنفت فقوته كقوة القول «Civis Romanus Sum» أي أنا روماني (ص ١٦: ٣٧ و٢١: ٢٥). ولم يكن حق الاستئناف إلا للروماني. وكون هذه الرعوية لبولس هو الوسيلة التي اتخذها الوالي الروماني. في الآية العاشرة لجأ من محكمة يهودية إلى محكمة رومانية وفي هذه الآية لجأ من محكمة الوالي إلى محكمة الأمبراطور وبذلك انتهت المحاكمة التي لم تُجر على سنن العدل وتخلّص بولس من بغض أعدائه ومكايدهم وأراح الوالي من حيرته. وحُقق لبولس ذهابه إلى رومية الذي رغب فيه منذ زمن طويل (رومية ١: ٩ - ١١ و١٥: ٢٣ و٢٤).
    ١٢ «حِينَئِذٍ تَكَلَّمَ فَسْتُوسُ مَعَ أَرْبَابِ ٱلْمَشُورَةِ، فَأَجَابَ: إِلَى قَيْصَرَ رَفَعْتَ دَعْوَاكَ. إِلَى قَيْصَرَ تَذْهَبُ».
    ص ١٩: ٢١ و٢٣: ١١
    أَرْبَابِ ٱلْمَشُورَةِ من مساعديه الرومانيين في أمور الولاية السياسية. ولعل موضوع تلك المشورة النظر في أنه هل يوجد ما يمنع بولس من رفع دعواه إلى قيصر. كان لكل روماني بمقتضى الشريعة الرومانية حق الاستئناف وعلى كل حاكم أن يقبل ذلك ما لم يكن المستأنف من قطاع الطريق وقد قُبض عليه وهو حامل أسلحة العصيان. ولا ريب في أن الجميع تعجبوا من توقيف المحاكمة على هذا السبيل ولعل ذلك كان موضوع سرور لفستوس لأنه لم يرد أن يحكم على بريء ولم يرد أن يغيظ اليهود بإطلاقه. ولا شك في أنه كان موضوع حزن وغضب لليهود المشتكين لنجاة بولس من كيدهم.
    إِلَى قَيْصَرَ رَفَعْتَ دَعْوَاكَ ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا استفهام للتعجب من ذلك لإظهار عدم الرضى التام به لأن بولس وهو الأسير الأول الذي وقف قدام فستوس للمحاكمة رفع دعواه من سلطانه إلى سلطان قيصر. وربما أظهر في قوله هذا شيئاً من إمارات الهزء فكأنه قال «أظننت أنك تجد في مجلس نيرون عدلاً لا تجده في مجلسنا وأنت غير شاعر بما سيحدث لك من التعب».
    إِلَى قَيْصَرَ تَذْهَبُ لم يبقَ في اختيار فستوس أن يرسل بولس أو لا يرسله إلى قيصر بعد رفع دعواه إليه لأنه رأى وجوب ذلك وهو وأرباب المشورة فلم يبق له إلا أن يرسله في أول فرصة.

    بولس أمام أغريباس الثاني ع ١٣ إلى ٢٧


    ١٣ «وَبَعْدَمَا مَضَتْ أَيَّامٌ أَقْبَلَ أَغْرِيبَاسُ ٱلْمَلِكُ وَبَرْنِيكِي إِلَى قَيْصَرِيَّةَ لِيُسَلِّمَا عَلَى فَسْتُوسَ».
    كان من نتائج رفع بولس دعواه إلى قيصر قطع كل محاكمة عليه في سورية من يهود رومانيين وانقطاع الفرص لشهادته بالحق أمام اليهود ولكنه مع كل ذلك حدثت فرصة أخرى لوقوفه في حضرة أعظم اليهود منزلة ولاحتجاج عن الحق كان أوضح وأكمل كل احتجاجاته.
    أَغْرِيبَاسُ ٱلْمَلِكُ ويسمى أحياناً أغريباس الثاني تمييزاً له عن أبيه أغيرباس الأول الذي ذُكر موته في (ص ١٢: ٢٣). وكان في سن السابعة عشرة في سنة موت أبيه وهي سنة ٤٤ ب. م وكان هو وقتئذ في بلاط الأمبراطور لأنه تربى مع أولاده. قال يوسيفوس أراد الأمبراطور كلوديوس أن يوليه مكان أبيه فثناه وزراؤه عن ذلك لصغر سن أغريباس واضطراب اليهودية فولى بدلاً منه قسيبوس فيدُس الوالي الروماني. وفي سنة ٤٨ ب. م مات عمه هيرودس ملك خلكيس فملكه كلوديس موضعه. وفي سنة ٥٣ ب. م أضاف إلى ملكه الربع الذي كان لعمه فيلبس والربع الذي كان لليسانويس (لوقا ٣: ١). ولما جلس نيرون على عرش الامبراطورية أضاف إلى ملكه بعض مدن الجليل وبيرية وولاه حراسة الهيكل والحلل الكهنوتية ووهب له سلطان انتداب رئيس الكهنة اليهودية ولكن اليهود لم يعتبروه كثيراً لشكهم في إخلاصه التمسك بالدين لأنه تربى بين الرومانيين الوثنيين. ومما يدل على أن شكهم كان في محله أنه عندما عصى اليهود الرومانيين ونشأ عن عصيانهم حصار أورشليم وخراب المدينة والهيكل اتفق أغريباس مع الرومانيين على شعبه الإسرائيلي. ومما قلل اعتباره عند اليهود عيشته مع أخته برنيكي بالزناء. وبلغ سن الثالثة والسبعين ومات في رومية سنة ٩٩ ب.م.
    بَرْنِيكِي أخت أغريباس الكبيرة وكانت مشهورة بحسن الصورة وقبح السيرة تزوجها أولاً عمها هيرودس ملك خليكس ولما مات جاءت إلى أخيها. ثم دفعاً لما لحقها من العار بإقامتها ببيت أخيها على ما ذُكر تزوجت بليمون ملك كيليكية الذي هاد ليتزوجها طمعاً في مالها وافتتاناً بجمالها لكنه تركها وترك دينها بعد قليل فرجعت إلى أخيها ثم صارت حظية للأمبراطور الروماني وسبايانوس ثم لأبنه الأمبراطور تيطس.
    لِيُسَلِّمَا عَلَى فَسْتُوسَ لأنه قدم والياً على سورية.
    ١٤ «وَلَمَّا كَانَا يَصْرِفَانِ هُنَاكَ أَيَّاماً كَثِيرَةً، عَرَضَ فَسْتُوسُ عَلَى ٱلْمَلِكِ أَمْرَ بُولُسَ، قَائِلاً: يُوجَدُ رَجُلٌ تَرَكَهُ فِيلِكْسُ أَسِيراً».
    ص ٢٤: ٢٧
    عَرَضَ فَسْتُوسُ... أَمْرَ بُولُسَ على سبيل الأخبار والتحدث بأمور الولاية لا للمحاكمة. فظن فستوس أن أغريباس لكونه يهودياً يقدر أن يوضح له ما جهله من أمر بولس كعلة بغض اليهود له واتهامهم إياه بمقاومته إياهم وديانتهم مع تصريحه بأنه يهودي متمسك بديانة آبائه وأنه يستطيع معاونته بأن يعرض للأمبراطور نيرون تفصيل أمر بولس بالإيضاح.
    تَرَكَهُ فِيلِكْسُ أَسِيراً (ص ٢٤: ٢٧).
    ١٥ «وَعَرَضَ لِي عَنْهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَمَشَايِخُ ٱلْيَهُودِ لَمَّا كُنْتُ فِي أُورُشَلِيمَ طَالِبِينَ حُكْماً عَلَيْهِ».
    ع ٢ و٣
    طَالِبِينَ حُكْماً عَلَيْهِ نستدل من جواب فستوس لليهود في العدد التالي أنهم سألوه أن يحكم على بولس بالموت لمجرد دعواهم أنه مجرم مستحق الموت.
    ١٦ «فَأَجَبْتُهُمْ أَنْ لَيْسَ لِلرُّومَانِ عَادَةٌ أَنْ يُسَلِّمُوا أَحَداً لِلْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ٱلْمَشْكُوُّ عَلَيْهِ مُواجَهَةً مَعَ ٱلْمُشْتَكِينَ، فَيَحْصُلُ عَلَى فُرْصَةٍ لِلٱحْتِجَاجِ عَنِ ٱلشَّكْوَى».
    ع ٤ و٥
    أبان فستوس بهذا العدد عدم إجابته إلى ما سألوه وأن ما طلبوه مخالف للشريعة الرومانية. فضلت الشريعة الرومانية يومئذ كل شرائع ممالك الأرض بالعدل.
    لَيْسَ لِلرُّومَانِ عَادَةٌ أي شريعتهم تمنعهم من مثل هذا وتوجب عليهم عكسه.
    أَنْ يُسَلِّمُوا أَحَداً لِلْمَوْتِ إكراماً لشخص أو لجماعة أو منة عليه أو عليها.
    مُواجَهَةً مَعَ ٱلْمُشْتَكِينَ الخ لكي يعرف المشكو عليه من هم المشتكون وما هي دعواهم ليدفع عن نفسه إن أمكن.
    قول فستوس في (ع ١٥ و١٦) تفصيل لما في (ع ٤) مع شيء من الزيادة إذ لم يذكر هناك سوى طلبتهم الثانية بعد رفضه طلبتهم الأولى لمخالفتها للشريعة الرومانية. ورفض طلبتهم الثانية لعدم مناسبتها له.
    ١٧ «فَلَمَّا ٱجْتَمَعُوا إِلَى هُنَا جَلَسْتُ مِنْ دُونِ إِمْهَالٍ فِي ٱلْغَدِ عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ، وَأَمَرْتُ أَنْ يُؤْتَى بِٱلرَّجُلِ».
    ع ٦
    ٱجْتَمَعُوا إِلَى هُنَا على وفق الأمر المذكور في (ع ٥).
    مِنْ دُونِ إِمْهَالٍ هذا كالذي كتبه لوقا في (ع ٦).
    كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ (انظر ع ٦ و١٠).
    أَنْ يُؤْتَى بِٱلرَّجُلِ من حيث يحرسه قائد المئة (ص ٢٤: ٢٣).
    ١٨ «فَلَمَّا وَقَفَ ٱلْمُشْتَكُونَ حَوْلَهُ لَمْ يَأْتُوا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا كُنْتُ أَظُنُّ».
    استنتج فستوس من شدة غيظ اليهود على بولس وتمادي الزمان على أسره أنهم يتهمونه بجرائم فاحشة مخالفة للشريعة الرومانية كتهييج فتنة وما شاكله وتعجب لما رأى أنهم لم يتهموه بسوى آراء مخالفة لآرائهم.
    ١٩ «لٰكِنْ كَانَ لَهُمْ عَلَيْهِ مَسَائِلُ مِنْ جِهَةِ دِيَانَتِهِمْ، وَعَنْ وَاحِدٍ ٱسْمُهُ يَسُوعُ قَدْ مَاتَ، وَكَانَ بُولُسُ يَقُولُ إِنَّهُ حَيٌّ».
    ص ١٨: ١٥ و٢٣: ٢٩
    مَسَائِلُ مِنْ جِهَةِ دِيَانَتِهِمْ لا مسائل سياسية كالعصيان على الحكومة ولا مسائل شخصية كقتل أو سرقة. فقول فستوس هنا كقول غاليون في (ص ١٨: ١٧). ومثل تلك المسائل عند الرومانيين أمور لا يعبأ بها.
    وَعَنْ وَاحِدٍ... قَدْ مَاتَ... بُولُسُ يَقُولُ إِنَّهُ حَيٌّ اقتصر فستوس على ذكر واحدة من تلك المسائل وهي قيامة يسوع والأرجح أن علة ذلك في خطابه أمامه تكلم بها بزيادة اهتمام كما تكلم أمام فيلكس في (ص ٢٣: ٦ و٢٤: ١٥ و١٦). وما أشار فستوس إليه بكلامه هنا في دعاوي اليهود وجواب بولس عليها لم يُذكر في (ع ٧ و٨) إلا مجملاً بغاية الاختصار. وما في كلام هذا الوالي الوثني الروماني من الاستخفاف بأعظم مبادئ الديانة المسيحية لا يحتاج إلى بيان لأنه حسب التأمل في ذلك المبدأ فضولاً وتصديقه حماقة.
    ٢٠ «وَإِذْ كُنْتُ مُرْتَاباً فِي ٱلْمَسْأَلَةِ عَنْ هٰذَا قُلْتُ: أَلَعَلَّهُ يَشَاءُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَيُحَاكَمَ هُنَاكَ مِنْ جِهَةِ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ؟».
    لم يذكر العلة الأولى لعرضه على بولس المحاكمة في أورشليم وهي إرادته «أن يودع اليهود منة» (ع ٩) وهذا لا يمنع من أنه ظن أيضاً أنه بواسطة حضوره محاكمته في أورشليم يعرف غير ما عرفه من أمور الدينين اليهودي والمسيحي والفرق بينهما.
    مُرْتَاباً فِي ٱلْمَسْأَلَةِ أي متحيراً في أمر الأسير هل أُطلقه لأنه لم يتعد الشريعة الرومانية أو أبقيه مقيداً لشكوى اليهود عليه بأنه خالف شريعتهم.
    ٢١ «وَلٰكِنْ لَمَّا رَفَعَ بُولُسُ دَعْوَاهُ لِكَيْ يُحْفَظَ لِفَحْصِ أُوغُسْطُسَ، أَمَرْتُ بِحِفْظِهِ إِلَى أَنْ أُرْسِلَهُ إِلَى قَيْصَرَ».
    رَفَعَ بُولُسُ دَعْوَاهُ (انظر تفسير ع ١١).
    لِفَحْصِ أُوغُسْطُسَ لنظره في دعواه وحكمه فيها. وأوغسطس هنا لقب الأمبراطور نيرون ومعناه الموقر توقير الآلهة فأعطاه المجلس الروماني الأعلى أولاً أكتافيانوس قيصر وورثه عنه خلفاءه ولقب فستوس نيرون به للتعظيم مع أنه ما لبث أن لقبه بقيصر وهو أدنى من لقب أوغسطس.
    إِلَى أَنْ أُرْسِلَهُ الخ بوسائط مناسبة من مركب وحراس لسرعة وصوله رومية بالأمن.
    ٢٢ «فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِفَسْتُوسَ: كُنْتُ أُرِيدُ أَنَا أَيْضاً أَنْ أَسْمَعَ ٱلرَّجُلَ. فَقَالَ: غَداً تَسْمَعُهُ».
    ص ٩: ١٥
    كُنْتُ أُرِيدُ أَنَا أَيْضاً أَنْ أَسْمَعَ لاشتهار بولس بالفصاحة والبلاغة بين الناس وبشدة تأثير كلامه في القلوب وبكونه من رؤساء ملته الجديدة وبكثرة مبغضيه وشدة غضبهم عليه وبطل مدة أسره في قيصرية. ولا بد من أن أغريباس كان قد سمع أنباء يسوع وما أنشأه من الدين وأحب أن يسمع بيان ذلك من أعظم أتباع ذلك الدين.
    غَداً أسرع فستوس إلى اغتنام الفرصة ليستفيد ممن ظنه قادراً على كشف الحجاب عن تلك المسئلة المبهمة فكان وسيلة بيد الله لبيان حقيقة الدين المسيحي بكلام لم يسبق له نظير في الفصاحة والبلاغة.
    ٢٣ «فَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا جَاءَ أَغْرِيبَاسُ وَبَرْنِيكِي فِي ٱحْتِفَالٍ عَظِيمٍ، وَدَخَلاَ إِلَى دَارِ ٱلٱسْتِمَاعِ مَعَ ٱلأُمَرَاءِ وَرِجَالِ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّمِينَ، أَمَرَ فَسْتُوسُ فَأُتِيَ بِبُولُسَ».
    ما في هذه الآية إنجاز لقول المسيح لحنانيا في بولس «هٰذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ» (ص ٩: ١٥). ولقوله لرسله «تُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ» (متّى ١٠: ١٨).
    فِي ٱحْتِفَالٍ عَظِيمٍ نفهم من هذا أن ذلك الاحتفال كان أعظم من أمثاله من احتفالات الملوك ولولا ذلك لم يكن من داع إلى ذكره. كان تعظُّم أبي أغريباس في ذلك المكان منذ ست عشرة سنة قبل هذا علة موته الفظيع (ص ١٢: ٢١ - ٢٣) لكن هذا الابن لم يستفد شيئاً من مصاب أبيه.
    دَارِ ٱلٱسْتِمَاعِ أي النادي في قصر هيرودس (ص ٢٣: ٣٥).
    ٱلأُمَرَاءِ أي قواد الألوف على مفاد الأصل اليوناني (انظر شرح ص ٢١: ٢٣). قال يوسيفوس أنه كان خمسة من أولئك الأمراء في قيصرية. والأرجح أنهم حضروا المحفل إكراماً لأغريباس.
    ٢٤ «فَقَالَ فَسْتُوسُ: أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ وَٱلرِّجَالُ ٱلْحَاضِرُونَ مَعَنَا أَجْمَعُونَ، أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ هٰذَا ٱلَّذِي تَوَسَّلَ إِلَيَّ مِنْ جِهَتِهِ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلْيَهُودِ فِي أُورُشَلِيمَ وَهُنَا، صَارِخِينَ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَعِيشَ بَعْدُ».
    ع ٢ و٣ و٧ ص ٢٢: ٢٢
    ما قاله فستوس هنا كان أنباء للغرباء بعلة الاجتماع وللاعتذار عن إتيانه ما خالف العادة وهو استنطاق الأسير بعد رفع دعواه إلى قيصر.
    تَوَسَّلَ ببذل الجهد والإلحاح.
    كُلُّ جُمْهُورِ ٱلْيَهُودِ يتبيّن من هذا أن ميل الفريسيين إلى بولس ومخاصمتهم للصدوقيين من أجله (ص ٢٣: ٩) كانا وقتيّين وأن الجميع من كهنة وشيوخ وعامة من كل الفرق اتفقوا على طلب الحكم عليه.
    وَهُنَا أي في قيصرية. وهذا دليل على اتفاق يهود قيصرية مع يهود أورشليم على بولس وشدة الإلحاح على فستوس.
    صَارِخِينَ إظهاراً لشدة غيظهم من بولس وبغية أن يستميلوا الوالي إلى إجابة طلبهم.
    ٢٥ «وَأَمَّا أَنَا فَلَمَّا وَجَدْتُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ، وَهُوَ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى أُوغُسْطُسَ، عَزَمْتُ أَنْ أُرْسِلَهُ».
    ص ٢٣: ٩ و٢٦: ٣١ ع ١١ و١٢
    لَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ هذا تصريح بتبرئة بولس من تعدي الشريعة بعد محاكمته (ع ٧ و٨ و٢٠) وفيه اعتراف بأن لا حجة له في أن يبقيه أسيراً ويجبره على رفع دعواه إلى قيصر لتحصيل حقوقه.
    وَهُوَ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى أُوغُسْطُسَ لم يذكر علة رفع بولس دعواه إلى قيصر وهي إظهار فستوس ميله إلى إيثار أن يودع اليهود منّة على أن ينصف بولس.
    عَزَمْتُ أَنْ أُرْسِلَهُ ظاهر العبارة يدل على أنه أتى ذلك اختياراً والحق أن ذلك كان واجباً عليه بمقتضى الشريعة الرومانية.
    ٢٦ «وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ يَقِينٌ مِنْ جِهَتِهِ لأَكْتُبَ إِلَى ٱلسَّيِّدِ. لِذٰلِكَ أَتَيْتُ بِهِ لَدَيْكُمْ، وَلاَ سِيَّمَا لَدَيْكَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ، حَتَّى إِذَا صَارَ ٱلْفَحْصُ يَكُونُ لِي شَيْءٌ لأَكْتُبَ».
    كانت عادة الرومانيين أنهم إذا أرسلوا أسيراً من إحدى الولايات إلى رومية للمحاكمة أرسلوا معه تفصيل الدعاوي عليه وصورة ما جرى في المحاكمة المحلية ولكن بولس لم يثبت عليه سيء من تعدّي الشريعة الرومانية فعرف فستوس أن نيرون لا يحسبه أمراً يُلتفت إليه فإذاً لم يكن على بولس شيء يكتبه إلى قيصر.
    ٱلسَّيِّدِ أي نيرون. والكلمة اليونانية التي تُرجمت «بالسيد» هنا تُترجم غالباً بالرب ونعت نيرون به هنا دليلاً على تدقيق لوقا في الكتابة. رفض الأمبراطورون الأولون هذا النعت ونهى أوغسطس أولاده وحفدته عن أن يلقبوه به هزلاً أو جدّاً لأنه حسب قبوله حراماً وشؤماً. وأول من قبله كليغولا ثم كلوديوس أما نيرون فأجبر الناس أن يلقبوه به.
    لَدَيْكُمْ، وَلاَ سِيَّمَا لَدَيْكَ توقع فستوس أن الحاضرين ولا سيما أغريباس لكونه يهودياً يسعفوه على بيان دعوى على بولس.
    ٢٧ «لأَنِّي أَرَى حَمَاقَةً أَنْ أُرْسِلَ أَسِيراً وَلاَ أُشِيرَ إِلَى ٱلدَّعَاوِي ٱلَّتِي عَلَيْهِ».
    حَمَاقَةً أي قلة عقل. خاف فستوس أن تُنسب إليه إن لم يجد على بولس بمساعدة الحاضرين ما يكتبه إلى قيصر فكان في حيرة عظيمة. والذي أوقعه في هذه الحيرة ميله إلى أن يودع اليهود منّة فإنه احتار كيف يكتب ما لا يظلم بولس به وما لا يوجب على نفسه ذنباً فكان لو كتب أنه بريٌ يخشى قول نيرون لماذا لم تطلقه ولماذا أجبرته على الاستئناف. ولو كتب أنه مذنب يلتزم أن يقيم الأدلة على ذلك وليس من دليل عليه.


    الأصحاح السادس والعشرون


    احتجاج بولس أمام أغريباس ع ١ إلى ٢٣


    ١ «فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِبُولُسَ: مَأْذُونٌ لَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ لأَجْلِ نَفْسِكَ. حِينَئِذٍ بَسَطَ بُولُسُ يَدَهُ وَجَعَلَ يَحْتَجُّ».
    في هذا الأصحاح احتجاج بولس الخامس بعد ما قُبض عليه. احتجه بولس أمام أسمى الناس رتبة وسلطاناً في سورية من يهود ورومانيين. فإنه مع كونه مسيحياً لم يزل إسرائيلياً حقيقياً أميناً وما أتاه من تبشير الأمم لم يكن إلا بأمر الله. وهذا الاحتجاج أربعة أقسام:

    • الأول: المقدمة وفيه إظهار اللطف والمسرة باحتجاجه في حضرة خبير قادر على إدراك معاني أقواله (ع ٢ و٣).
    • الثاني: غرابة أن يشكوه رفقاؤه القدماء من اليهود على تمسكه بما هو جوهر ديانتهم وموضوع كل النبوآت (ع ٤ - ٨).
    • الثالث: بيان علة مصيره مؤمناً وبشيراً بالدين المسيحي بعد كونه عدواً ومضطهداً لكل أتباع المسيح.
    • الرابع: بيان موضوع تبشيره وهو أن المسيح مخلّص متألم وشدة المقاومة له على ذلك مع أنه على وفق كتب اليهود المقدسة وحينئذ عارضه فستوس واتهمه بالهذيان.


    فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ أكرم فستوس أغريباس بجعله إياه رئيس المحفل إذ لم يكن الاحتفال للمحاكمة لأن بولس رفع دعواه إلى رومية إنما غايته إعطاء فرصة للأسير لتبرير نفسه مما اتهم به على الأسلوب المظنون أنه يحتج فيه أمام نيرون.
    مَأْذُونٌ لَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ لم يقل أذنت لك لأن السلطة في قيصرية وسائر اليهودية للوالي.
    بَسَطَ بُولُسُ يَدَهُ كعادته في الخطاب ولعلها كانت موثقة بإحدى السلاسل المذكورة في ع ٢٩.
    يَحْتَجُّ كان احتجاجه في بعض الأمور كاحتجاجه على درج قصر أنطونيا (ص ٢١: ٤٠ و٢٢: ١ - ٢١) إلا أنه لم يتعرض لدفع تهمة أنه قاوم اليهود وشريعتهم ودنس الهيكل ولم يتوقع بولس من هذا الاحتجاج الإطلاق من أسره إنما رجا أولاً أن يجعل الملك أغريباس يعترف ببرائته فيخف بغض اليهود لبولس.
    ثانياً أن تكون الكتابة إلى نيرون في شأنه موافقة له (ص ٢٥: ٢٦ و٢٧).
    ثالثاً أن ينادى بالإنجيل على مسمع أغريباس وسائر المجتمعين لنفع نفوسهم.
    ٢ «إِنِّي أَحْسِبُ نَفْسِي سَعِيداً أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ، إِذْ أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَحْتَجَّ ٱلْيَوْمَ لَدَيْكَ عَنْ كُلِّ مَا يُحَاكِمُنِي بِهِ ٱلْيَهُودُ».
    لَدَيْكَ قال بولس ذلك لأن أغريباس يهودي قادر أن يحكم في أمور الديانة اليهودية التي أُتهم بولس بمخالفتها وكان احتجاجان من احتجاجاته السابقة أمام حكام رومانيين يجهلون عوائد اليهود وعقائدهم ويحتقرونها جميعاً فلم يفهموا قوة احتجاجه لكن أغريباس كان قادراً على فهم كل ما احتج به فيُفهم فستوس ما يجعله يكتب إلى نيرون ما يوافق بولس.
    مَا يُحَاكِمُنِي بِهِ ٱلْيَهُودُ من أني رجل مفسد ومهيّج فتنة ومقدام شيعة الناصريين ومنجس الهيكل (ص ٢٤: ٥ و٦).
    ٣ «لاَ سِيَّمَا وَأَنْتَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ ٱلْعَوَائِدِ وَٱلْمَسَائِلِ ٱلَّتِي بَيْنَ ٱلْيَهُودِ. لِذٰلِكَ أَلْتَمِسُ مِنْكَ أَنْ تَسْمَعَنِي بِطُولِ ٱلأَنَاةِ».
    لاَ سِيَّمَا وَأَنْتَ لأنه يهودي أصلاً وإيماناً وهو حارس الهيكل القانوني ومحسوب حامياً للدين اليهودي وحاكم بأمر الدولة الرومانية فيندر وجود مثله في تعلقه بالأمتين والصفات التي تؤهله للنظر في هذه الدعوى.
    أَنْ تَسْمَعَنِي بِطُولِ ٱلأَنَاةِ على خلاف ما يتوقع من حاكم روماني يعتبر كل أمور الدين اليهودي أوهاماً لا تستحق أن تُسمع.
    ٤، ٥ «فَسِيرَتِي مُنْذُ حَدَاثَتِي ٱلَّتِي مِنَ ٱلْبَدَاءَةِ كَانَتْ بَيْنَ أُمَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ يَعْرِفُهَا جَمِيعُ ٱلْيَهُودِ، عَالِمِينَ بِي مِنَ ٱلأَوَّلِ إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَشْهَدُوا أَنِّي حَسَبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا ٱلأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيّاً».
    ص ٢٢: ٣ و٢٣: ٦ و٢٤: ١٥ و٢١ وفيلبي ٣: ٥
    فَسِيرَتِي مُنْذُ حَدَاثَتِي بالنظر إلى شخصي وعلمي وديني وهذا مجمل ما في (ص ٢٢: ٣) ولم يفصله لأنه من الأمور المشهورة التي لا تحتاج إلى بيان.
    مِنَ ٱلْبَدَاءَةِ أي قبل أن تنصّر.
    بَيْنَ أُمَّتِي نعم أنه وُلد بين الأمم في طرسوس لكنه لم يترب بينهم.
    فِي أُورُشَلِيمَ المدينة المقدسة قصبة الشعب اليهودي لا في قرية مجهولة.
    جَمِيعُ ٱلْيَهُودِ أي يهود اليهودية والمرجح أنه اشتهر بين علماء عصره بمعرفة الشريعة اليهودية وبغيرته ونباهته ولعله كان من بيت شريف وإلا لم يكن رومانياً. وأخذه الوكالة المذكورة في (ص ٩: ١ و٢) دليل على صحة ما ذُكر (انظر أيضاً فيلبي ٣: ٤ - ٦). ولا ريب في أنه كان من جملة المشتكين عليه كثيرون ممن عرفوه قبل أن تنصّر. وبولس اعتبر اشتهاره السابق بين شعبه أمراً ذا شأن في تبرئته إذ هو دليل على إخلاصه وأنه لم يتنصّر لنفع شخصي.
    إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَشْهَدُوا هذا إيماء إلى أنهم أنكروا معرفته إياه في ما سلف.
    مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا ٱلأَضْيَقِ اعتقاداً وعملاً.
    عِشْتُ فَرِّيسِيّا أي أني لم أكتف بأن أُسمى فريسياً بل كانت عيشتي كلها مطابقة لسنن الفريسيين وعوائدهم.
    ٦ «وَٱلآنَ أَنَا وَاقِفٌ أُحَاكَمُ عَلَى رَجَاءِ ٱلْوَعْدِ ٱلَّذِي صَارَ مِنَ ٱللّٰهِ لآبَائِنَا».
    ص ٢٣: ٦ تكوين ٣: ١٥ و٢٢: ١٨ و٢٦: ٤ و٤٩: ١٠ وتثنية ١٨: ١٥ و٢صموئيل ٧: ١٢ ومزمور ١٣٢: ١١ وإشعياء ٤: ٢ و٧: ١٤ و٩: ٦ و٤٠: ١٠ وإرميا ٢٣: ٥ و٣٣: ١٤ الخ وحزقيال ٣٤: ٢٣ و٣٧: ٢٤ ودانيال ٩: ٢٤ وميخا ٧: ٢٠ وص ١٣: ٣٢ ورومية ١٥: ٨ وتيطس ٢: ١٣
    هذا تكرير لقوله في (ص ٢٤: ١٤ و١٥) أن علة بغض اليهود واضطهادهم إياه وقبضهم عليه أمانته لدين آبائه لا رفضه كما قالوا.
    رَجَاءِ ٱلْوَعْدِ أي توقع إتمام الوعد بالأمور المتعلقة بملكوت المسيح وأعظمها اثنان الأول مجيء المسيح الموعود به والثاني قيامة الأموات. والرسول قرن أحدهما بالآخر كأنهما واحد لأنه اعتبر قيامة يسوع من الموت برهاناً على كونه هو المسيح الموعود به وبرهاناً على صحة القول بالقيامة من الأموات وعربون قيامة كل بشر. وشواهد هذا الوعد ذُكرت مع هذه الآية فارجع إليها.
    لآبَائِنَا أي أسلافنا اليهود من إبراهيم إلى المسيّا وجمع معه بهذا القول أغريباس وسائر يهود ذلك العصر لأن أغريباس وإن كان جده أدومياً هو من إبراهيم وإسحاق.
    ٧ «ٱلَّذِي أَسْبَاطُنَا ٱلٱثْنَا عَشَرَ يَرْجُونَ نَوَالَهُ، عَابِدِينَ بِٱلْجَهْدِ لَيْلاً وَنَهَاراً. فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا ٱلرَّجَاءِ أَنَا أُحَاكَمُ مِنَ ٱلْيَهُودِ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ».
    يعقوب ١: ١ فيلبي ٣: ١١ لوقا ٢: ٧ و١تسالونيكي ٣: ١٠ و١تيموثاوس ٥: ٥
    أَسْبَاطُنَا ٱلٱثْنَا عَشَرَ أي كل الأمة اليهودية لأنها سلسلة أبناء يعقوب الاثني عشر. سُبي منهم أولاً عشرة أسباط إلى بلاد أشور ثم سُبي السبطان يهوذا وبنيامين إلى بابل ورجع منهم من رجع وهم ليسوا من يهوذا وبنيامين فقط بل من بقية الاسباط العشرة أيضاً فما يظهر من (عزرا ٦: ١٧ و١٨ و٨: ٣٥) ومن الكهنة واللاويين أيضاً (عزرا ١٠: ٥ - ١١). وخاطب يعقوب في رسالته الاثني عشر سبطاً المتشتتين (يعقوب ١: ١). وبولس كيعقوب خاطب يهود عصره كأنهم نواب الكنيسة اليهودية. كل سبط ونسب هذا الرجاء إلى كل الأمة.
    يَرْجُونَ نَوَالَهُ نسب بولس هذه الرجاء على ما فُسر في الآية السابقة إلى كل اليهود لأنه كان معظم ما رجوه مجيء المسيح واشترك في هذا الصدوقيون والفريسيون. وأما الصدوقيون وإن كانوا قد أنكروا القيامة فلم يعتد بهم لقلتهم.
    عَابِدِينَ بممارستهم رسوم الشريعة في الهيكل وكانت وقتئذ أكثر عبادة اليهود خارجية لا باطنية مارسها بعضهم رغبة في الأجر وبعضهم إطاعة لله الذي رسمها. واعتبرها بعضهم دائمة والآخر وقتية وإعداده لمجيء المسيح.
    لَيْلاً وَنَهَاراً مواظبين على توالي الأوقات كما عهدت حنة «بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً» (لوقا ٢: ٣٧ انظر أيضاً ١تيموثاوس ٥: ٥). وجاز وصف العبادة في الهيكل بالدوام «ليلاً ونهاراً» لأن الذبيحة اليومية كانت تقدم كل صباح وكل مساء بدليل قول الكتاب في بعض خدم الدين «فَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلْمُغَنُّونَ رُؤُوسُ آبَاءِ ٱللاَّوِيِّينَ فِي ٱلْمَخَادِعِ، وَهُمْ مُعْفَوْنَ، لأَنَّهُ نَهَاراً وَلَيْلاً عَلَيْهِمِ ٱلْعَمَلُ» (١أيام ٩: ٣٣). «نَارٌ دَائِمَةٌ تَتَّقِدُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ. لاَ تُطْفَأُ» (لاويين ٦: ١٣). وقيل في الرجل الصديق أنه «فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَاراً وَلَيْلاً» (مزمور ١: ٢).
    فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا ٱلرَّجَاءِ احتجّ بولس لتبرئته نفسه مما اتهموه به بأن ما اعتقده ونادى به هو اعتقاد الأمة اليهودية بأسرها وهو مجيء المسيح الموعود به وقيامة الأموات. والفرق بينه وبين اليهود سبقه إياهم إلى الاقتناع بأنه قد وقع ما لا يزالون يتوقعونه وهو أن ذلك الرجاء تم بيسوع الذي برهن الله أنه المسيح بإقامته من الموت.
    أُحَاكَمُ مِنَ ٱلْيَهُودِ الذين أساس دينهم الرجاء الذي اشتكوا عليّ لتمسكي به لأني أنا أنادي وقوعه وهم ينكرون أنه وقع.
    ٨ «لِمَاذَا يُعَدُّ عِنْدَكُمْ أَمْراً لاَ يُصَدَّقُ إِنْ أَقَامَ ٱللّٰهُ أَمْوَاتاً؟».
    لِمَاذَا يُعَدُّ عِنْدَكُمْ خاطب بولس أغريباس كأنه نائب عن اليهود كافة. وفحوى السؤال أنه لماذا لا تصدقون تعليمي أن يسوع هو المسيح وقد تبرهن أنه كذلك بقيامته من الأموات وقد جئتكم بالبيّنات القاطعة على قيامته فإنكار أنه هو المسيح إنكار للقيامة عينها.
    إِنْ أَقَامَ ٱللّٰهُ أَمْوَاتاً ظاهر العبارة الإشارة إلى القيامة المطلقة والإشارة بالحقيقة إلى قيامة يسوع التي هي عربون القيامة العامة ونموذجها. فقيامة يسوع جوهر المناظرة بين اليهود والمسيحيين فإثباتها إثبات لكل دعاوي يسوع. ولما عرض فستوس أمر بولس لأغريباس قال أن الخلاف بين بولس واليهود هو «عَنْ وَاحِدٍ ٱسْمُهُ يَسُوعُ قَدْ مَاتَ، وَكَانَ بُولُسُ يَقُولُ إِنَّهُ حَيٌّ» (ص ٢٥: ١٩). فكأنه قال أنتم مثلي في كونكم تعتقدون مجيء المسيح وقيامة الأموات وأنا شهدت بأني رأيته بعد ما أقامه الله من الأموات فلماذا لا تصدقون. أو لم تروا أن عدم تصديقكم شهادتي وما يلزم من التسليم بها من إثبات أن يسوع هو المسيح مناقض لإيمانكم بقيامة الموتى.
    ٩ «فَأَنَا ٱرْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَصْنَعَ أُمُوراً كَثِيرَةً مُضَادَّةً لٱسْمِ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ».
    يوحنا ١٦: ٢ و١تيموثاوس ١: ١٣
    ما في هذه الآية متعلق بالآية الخامسة وهي قول بولس أنه عاش فريسياً. وما بين الآيتين معترض جاء به إظهاراً لغرابة الأمر وهو أنه مشكو عليه من اليهود لتمسكه بالرجاء الذي يرجوه الإسرائيليون كلهم من الفريسيين لتمسكه بالإيمان الذي امتازوا به على الجميع وغايته هنا بيان أن أعماله تُعلن أنه فريسي.
    ٱرْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أي أن ضميره حمله على ما فعل وهذا كقوله «إِنِّي بِكُلِّ ضَمِيرٍ صَالِحٍ قَدْ عِشْتُ لِلّٰهِ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (ص ٢٣: ١).
    يَنْبَغِي أي يجب عليّ بمقتضى الدين والضمير.
    أُمُوراً كَثِيرَةً مما أتاه في مقاومة المسيح ودينه قولاً وفعلاً.
    لٱسْمِ يَسُوعَ كثيراً ما يُراد «باسم يسوع» ذات المسيح أو صفاته أو بما يتعلق به وقد قيل أن المؤمنين اعتمدوا باسمه (ص ٢: ٢٨) وأنه قد صنع بهذا الاسم معجزات (ص ٣: ٦) وقال الرب لحنانيا عن بولس «هٰذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ» (ص ٩: ١٥). وقال عن برنابا وبولس «قَدْ بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا لأَجْلِ ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (ص ١٥: ٢٦).
    ٱلنَّاصِرِيِّ هذا الاسم الذي اشتهر به في اليهودية وهو كل ما عرفه من أمر المسيح يوم كان فريسياً.
    ١٠ «وَفَعَلْتُ ذٰلِكَ أَيْضاً فِي أُورُشَلِيمَ، فَحَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْقِدِّيسِينَ، آخِذاً ٱلسُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذَلِكَ».
    ص ٨: ٣ وغلاطية ١: ١٣ ص ٩: ١٤ و٢١ و٢٢: ٥
    فِي أُورُشَلِيمَ ابتدأ بولس يضطهد المسيحيين في تلك المدينة وأشار إلى هذا بما قيل أنه كان راضياً بقتل استفانوس (ص ٨: ١) وأنه كان يسطو على الكنيسة ويدخل البيوت ويجر رجالاً ونساء ويسلمهم إلى السجن (ص ٨: ٣).
    ٱلْقِدِّيسِينَ يُلقب اليوم بهذا الاسم غالباً المتوفون من المؤمنين لكنه كثيراً ما لُقب به في الإنجيل الأحياء منهم. ولُقبوا بهذا في (ص ٩) ثلاث مرات في (ع ١٣ و٣٢ و٤١ منه وفي رومية ١: ٧ و٨ و٢٧ و١٥: ٢٥ و٢٦ و٣١ و١٦: ٢ و١٥ وفي ١كورنثوس ١: ٢ و٤: ١٢ و١٤: ١٣ و١٦: ١ و١٥ و٢كورنثوس ١: ١ وأفسس ١: ١ وكولوسي ١: ٢ و٤ و١٢ و٢٦) ولقبوا به كثيراً في غير ما ذُكر. وكان وهو فريسي يعتبر المسيحيين أشراراً ويعاملهم معاملة الأِشرار. ولكنه وهو أمام أغريباس اعترف بأخطائه إلى أولئك الشهداء واعتبرهم قديسين وصرّح بأنهم كذلك.
    آخِذاً ٱلسُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَة بعد أن اعترف بولس بذنبه صرّح بخطيئة رؤساء اليهود الذين تمّم هو إرادتهم ومقاصدهم وأنجز أوامرهم وبسلطانهم قدر على ما فعل.
    يُقْتَلُونَ ليس لنا نبأ بغير قتل استفانوس. وقوله هنا وقوله في (ص ٢٢: ٤) «ٱضْطَهَدْتُ هٰذَا ٱلطَّرِيقَ حَتَّى ٱلْمَوْتِ» وقول لوقا في (ص ٩: ١) «أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ ٱلرَّبِّ» دليل على قتل كثيرين غير استفانوس.
    أَلْقَيْتُ قُرْعَةً فهم بعض المفسرين من هذا أن بولس كان أحد أعضاء مجلس السبعين وأنه من جملة القضاة الذين ألقوا القرعة لتبرئة المتهم أو لإثبات ذنبه. وكان طريق تبرئته أن الذي يريدها من القضاة يلقي حصاة بيضاء في إناء وطريق تخطئته أن الذي يريدها منهم يلقي حصاة سوداء فيه. وظن آخرون أن إلقاء القرعة هنا مجاز والمراد به تمام الاتفاق على الأمر. والأدلة على ترجيح أحد الأمرين غير كافية.
    ١١ «وَفِي كُلِّ ٱلْمَجَامِعِ كُنْتُ أُعَاقِبُهُمْ مِرَاراً كَثِيرَةً، وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى ٱلتَّجْدِيفِ. وَإِذْ أَفْرَطَ حَنَقِي عَلَيْهِمْ كُنْتُ أَطْرُدُهُمْ إِلَى ٱلْمُدُنِ ٱلَّتِي فِي ٱلْخَارِجِ».
    ص ٢٢: ١٩
    فِي كُلِّ ٱلْمَجَامِعِ في هذا إشارة إلى مجامع أورشليم الكثيرة (انظر شرح ص ٦: ٩) والمجامع في غيرها من المدن التي أرسله السبعون إليها ليضطهد المسيحيين.
    أُعَاقِبُهُمْ كانت معاقبة المجامع غالباً بضرب العصي أو الجلد (انظر متّى ١٠: ١٧ و٢٣: ٣٤).
    وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى ٱلتَّجْدِيفِ أي إلى لعن اسم يسوع أو إلى إنكار كونه المسيح وإلى القول بأنه خادع. فكان يجبر الجميع على ذلك ويُنفذ قصده في ضعفاء الإيمان. وعُرّض المسيحيون الأولون كثيراً لمثل ذلك. قال تريجانوس المؤرخ الروماني في مسيحي بيثينية بعد أربعين سنة لوقوف بولس أمام أغريباس إن المسيحيين في تلك البلاد أُجبروا أن يلعنوا اسم المسيح فأبوا ذلك إلا الذين ليسوا مسيحيين حقيقيين.
    أَفْرَطَ حَنَقِي ما كان يحسبه بولس غيرة ممدوحة واجبة ديناً حسبه هنا حماقة وجنوناً.
    ٱلْمُدُنِ ٱلَّتِي فِي ٱلْخَارِجِ أي خارج اليهودية. ذُكر في هذا السفر ذهابه إلى دمشق لأهمية الأمور التي حدثت له فيها وعدول لوقا عن ذكر ذهابه إلى غيرها ليس بدليل على عدم ذهابه إليها.
    ١٢ «وَلَمَّا كُنْتُ ذَاهِباً فِي ذٰلِكَ إِلَى دِمَشْقَ، بِسُلْطَانٍ وَوَصِيَّةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ».
    ص ٩: ٢ و٢٢: ٦
    بِسُلْطَانٍ وَوَصِيَّةٍ الخ لم يُذكر عمل رؤساء اليهود هنا عذراً يخفف به ذنبه بل برهاناً على مشاركة المشتكين عليه له في أعمال التعصب والقساوة والخطيئة.
    وفي هذه الآية إنباء ثالث في كيفية تحوّله عن اليهودية إلى المسيحية. وكان الإنباء الأول والإنباء الثاني في (ص ٩ وص ٢٢). وما هنا يفرق قليلاً عما سبق. وأهم الأمور الزائدة ثلاثة:

    • الأول: أن النور الذي ظهر له أعظم من ضوء الشمس عند الظهيرة.
    • الثاني: أن كلام الذي خاطبه عبراني.
    • الثالث: قوله «صعب عليك أن ترفس مناخس». وسبق تفسير هذه الأنباء في شرح (ص ٩ و٢٢). فارجع إليه ولا داعي إلى شرح غير ما زاده.


    ١٣ - ١٥ «١٣ رَأَيْتُ فِي نِصْفِ ٱلنَّهَارِ فِي ٱلطَّرِيقِ، أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، نُوراً مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ لَمَعَانِ ٱلشَّمْسِ قَدْ أَبْرَقَ حَوْلِي وَحَوْلَ ٱلذَّاهِبِينَ مَعِي. ١٤ فَلَمَّا سَقَطْنَا جَمِيعُنَا عَلَى ٱلأَرْضِ، سَمِعْتُ صَوْتاً يُكَلِّمُنِي بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ: شَاوُلُ شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ ١٥ فَقُلْتُ أَنَا: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ: أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ».
    نُوراً مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ لَمَعَانِ ٱلشَّمْسِ وُصف هذا النور في (ص ٩: ٣) بأنه «من السماء» ووصف في (ص ٢٢: ٦) بأنه «نور عظيم» ووصفه هنا بأن «لمعانه أعظم من لمعان الشمس في منتصف النهار». وما ذلك سوى المجد المحيط بالمسيح وهو في حال ارتفاعه وهذا نظير ما شاهده الرسل في جبل التجلي (متّى ١٧: ٢) ويوافق قوله في المسيح «انها بهاء مجد الله» (عبرانيين ١: ٣).
    سَقَطْنَا جَمِيعُنَا عَلَى ٱلأَرْضِ أي بولس ورفقاؤه وليس في هذا مناقضة لما قيل في (ص ٩: ٤ و٧) من أن بولس سقط على الأرض وأن الآخرين وقفوا صامتين لأن لوقا في (ص ٩: ٤) قصد الإشارة إلى تأثير المنظر في بولس فقط فلا يمنع من أن يكون الآخرون قد سقطوا أيضاً. وقوله أن وقت سمعهم الصوت «وقفوا صامتين» لا يمنع من أن يكونوا قد سقطوا ثم قاموا.
    بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ لم يُذكر هذا في غير هذا النبإ.
    صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ هذا مثل كثر استعماله عند قدماء اليونانيين مأخوذ عن فعل الثور أحياناً حين ينخسه صاحبه حثاً على العمل فإن الثور لا يتخلص بذلك من العمل بل يجرح نفسه. ومعناه هنا أن مقاومة يسوع باضطهاد تلاميذه عمل عبث وضار للعامل أي أنه يضر نفسه ولا يستطيع أن يمنع الإنجيل.
    ١٦ «وَلٰكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ».
    ص ١٨: ٩ و٢٢: ١٥ و١٨ و٢٣: ١١ و٢كورنثوس ١٢: ١ وغلاطية ١: ١٢
    نُسب إلى المسيح في هذه الآية بعض ما نُسب إلى حنانيا في ص ٩ وعلة ذلك إما أن يسوع قال لبولس أولاً ما قاله لحنانيا ثانياً وأمره بأن يقوله لبولس أو أن بولس اعتبر هنا ما قاله الرب له رأساً وما قاله له بواسطة حنانيا واحداً. وجوهر قصده هنا إخبار أغريباس بإجمال أمر الله له بقطع النظر عن الواسطة.
    قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لم يُذكر هنا في النبأين السابقين لكن بولس لم ينسه.
    لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ لا لأعاقبك كما تستحق على مقاومتك إياي ولا لأجعلك عبرة لمضطهدي كنيستي بعدك.
    لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً معظم خدمة المبشر تأدية الشهادة فوجب أن يكون المبشر مختبراً حقيقة الأمور التي ينادى بها لكي يشهد بما رآه واختبره. وقام بولس بهذا بقصه إياه على أغريباس كما قام به بقصه إياه قبلاً على درج الهيكل.
    بِمَا رَأَيْتَ أي بانتظارك إياي الآن.
    وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ كما وقع له في الهيكل وغيره (ص ٢٢: ١٧ - ٢١ و١كورنثوس ١١: ١ - ٥). وكما أبانه المسيح له بالوحي وقد رأينا معلنات ذلك في رسائله المملوءة تعاليم إلهية.
    ١٧ «مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ».
    ص ٢٢: ٢١
    في هذا إيماء إلى أنه يتعرض بخدمته وشهادته لمخاطر من اليهود والأمم وتصريح بإنقاذ المسيح له منها. وهذا الوعد لا يستلزم أنه لا يقع عليه شيء من شديد الاضطهاد ولا أنه لا يموت شهيداً بل إنما المراد حفظه حياً إلى أن يكمل الخدمة المعينة له.
    ٱلشَّعْبِ أي اليهود.
    ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ أبغض اليهود بولس وشكوه لأنه بشر الأمم ولذلك اختار أن يبين لأغريباس أنه ذهب إلى الأمم وبشرهم بأمر ذلك الذي ظهر له في المشهد السماوي. وقول المسيح له «أرسلك الخ» بينة بولس أنه رسول حقاً. وبناء على ذلك كتب «بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ١: ١).
    ١٨ «لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ».
    إشعياء ٣٥: ٥ و٤٢: ٧ ولوقا ١: ٧٩ ويوحنا ٨: ١٢ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ١: ١٨ و١تسالونيكي ٥: ٥ ٢كورنثوس ٦: ١٤ وأفسس ٤: ١٨ و٥: ٨ وكولوسي ١: ١٣ و١بطرس ٢: ٩ و٢٥ لوقا ١: ٧٧ ص ٢٠: ٣٢ وأفسس ١: ١١ وكولوسي ١: ١٢
    هذا بيان ما ينتج من إرساله إلى الأمم من التغيرات الناشئة عن تبشيره. وقد حصل اليهود على بعض تلك الفوائد لأن بولس كان يخاطبهم أولاً في كل مكان دخله للتبشير. وما في هذه الآية من بيان التأثير بالمناداة بالإنجيل على وفق ما جاء في (إشعياء ٤٢: ٦ و٧).
    لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ أي لتزيل عنهم العماية الناشئة عن الجهل وإضلال المعلمين لكي يستطعيوا أن يروا الأمور الروحية ويتحققوا عظمتهما وجودتها. ونسب هذا الفعل إلى بولس لأنه كان آلة الروح في ذلك.
    كَيْ يَرْجِعُوا هذا نتيجة فتح عيونهم ونظرهم أن الطريق الذي كانوا سائرين فيه طريق حمق وهلاك. وغاية التبشير كله ترجيع الناس إلى الله بإرادتهم واختيارهم إطاعة لدعوة الروح القدس.
    مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ تستعار الظلمة في الإنجيل للجهل والخطيئة والشقاء. والنور للمعرفة والقداسة والسعادة. والإنجيل هو الواسطة للرجوع من الظلمات إلى النور لأنه يُعلن للناس يسوع نور العالم (يوحنا ٨: ١٢) فإنه أتى لينير الناس (لوقا ٢: ٣٢) وهو ينقذهم من سلطان الظلمة (كولوسي ١: ١٣). ويدعوهم من الظلمة إلى نوره العجيب (١بطرس ٢: ٩ قابل ذلك ما في (متّى ٤: ١٦ ويوحنا ١: ٤ و٥ ورومية ١٣: ١٢ و٢كورنثوس ٤: ٦ وأفسس ٥: ٨ - ١٣ و١تسالونيكي ٥: ٥).
    مِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إن الشيطان خصم الله رئيس مملكة الظلمة (متّى ١٢: ٢٦) ورئيس هذا العالم (يوحنا ١٢: ٣١) وإله هذا الدهر (٢كورنثوس ٤: ٤) ومستعبد النفوس ومهلكها. فبواسطة سمع الإنجيل والإيمان بالمسيح المُعلن فيه ينجو الناس من سلطانه ويطرحون نيره ويتركون طاعته والقيام بما يريد.
    إِلَى ٱللّٰهِ أي إلى طاعته وخدمته وإكرامه ومحبته وملكوته وهذا نتيجة الرجوع المذكور آنفاً فيه ينتقل الإنسان من سلطان الشيطان وخدمته إلى سلطان الله وخدمته.
    حَتَّى يَنَالُوا... غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا هذا نتيجة رجوع الإنسان إلى الله ومصيره إلى حال جديدة يحصل فيها على فوائد الفداء وأعظمها غفران الخطايا. وهذا يتضمن النجاة من عقاب الخطيئة وسلطتها (انظر ص ٢: ٢٨ و٥: ٣١ و١٠: ٤٣ و١٣: ٢٨).
    َ نَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ هذا فضلاً عن المغفرة التي تتضمن النجاة من الدَّين والدينونة وهذا النصيب يشتمل على كل حقوق أولاد الله. والمؤمنون ينالون بعض هذا النصيب على الأرض من تقديس وغيره وسائره وهو الأكثر في السماء (رومية ٨: ١٧ انظر شرح ص ٢٠: ٣٢).
    بِٱلإِيمَانِ بِي هذا هو الواسطة الوحيدة الكافية لكل ما ذُكر من فتح العيون والرجوع إلى الله والنجاة والمغفرة ونوال الميراث وهو الاتكال على يسوع الذي صُلب ومات وقام وشفع فينا.
    ١٩ «مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ لَمْ أَكُنْ مُعَانِداً لِلرُّؤْيَا ٱلسَّمَاوِيَّةِ».
    مِنْ ثَمَّ أي بناء على كل ما سمعت ورأيت وتحققت مما يجب عليّ أن أفعله.
    لَمْ أَكُنْ مُعَانِداً في ذلك تلميح أنه لو اتكل على حكمته أو رغب في خير نفسه لأبى أن يحتمل أتعاب تلك الخدمة ومشقاتها. ومما يدل على طاعته ما في (ص ٩: ٦ وغلاطية ١: ١٦). وفيه تلميح آخر إلى أنه لو قصد المعاندة لم يكن من شيء يجبره على خلاف ما يريد. فإنه مع اختيار الله إيّاه لهذا العمل (ص ٩: ٥) ودعوة الروح القدس له كانت طاعته اختيارية. فاختيار الله لا ينزع حرية الإنسان.
    لِلرُّؤْيَا ٱلسَّمَاوِيَّةِ (ع ١٣). أدرج بولس في «الرؤيا» كل ما قبله من الإعلان الإلهي. كان النور الذي أضاء حوله سماوياً والصوت الذي سمعه صوت الرب من السماء.
    ٢٠ «بَلْ أَخْبَرْتُ أَوَّلاً ٱلَّذِينَ فِي دِمَشْقَ وَفِي أُورُشَلِيمَ حَتَّى جَمِيعِ كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، ثُمَّ ٱلأُمَمَ، أَنْ يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى ٱللّٰهِ عَامِلِينَ أَعْمَالاً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ».
    ص ٩: ٢٠ و٢٨ الخ ص ١١: ٢٦ و١٣: ٤ الخ و١٥: ٣ و١٢ و٤١ وص ١٦ إلى ص ٢١ متّى ٣: ٨
    في هذه الآية خلاصة ما فعله طوعاً لتلك الرؤيا.
    أَخْبَرْتُ أي بشرت بالإنجيل.
    أَوَّلاً ٱلَّذِينَ فِي دِمَشْقَ حيث تنصر (ص ٩: ٢٠ - ٢٢).
    وَفِي أُورُشَلِيمَ (ص ٩: ٢٨ و٢٩).
    كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، ثُمَّ ٱلأُمَمَ أشار بذلك إلى كل ما أتاه في خدمته مدة نحو عشرين سنة. ولا نعلم متى بشر في كورة اليهودية. ولعله بشر فيها حين أتى إليها من أنطاكية في زمن الجوع (ص ١١: ٢٨ - ٣٠) أو حين أتى إليها أثناء سفره الأول والثاني للتبشير بين الأمم (ص ١٨: ٢٢).
    أَنْ يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا الخ أثبت بما في أول هذه الآية أمانته في إتمام خدمته في وقتها وأماكنها وأثبت هنا أمانته في مواضيع تبشيره كما أُمر (ع ١٨) وجعل تلك المواضيع ثلاثة:

    • الأول: التوبة عن الخطايا السالفة.
    • الثاني: الرجوع إلى الله بالتوبة والإيمان والمحبة.
    • الثالث: السيرة المقدسة القائمة بالأعمال التي هي إثمار التوبة وأدلة صحتها. وهذا مثل قول يوحنا المعمدان للذين خرجوا إلى معموديته (متّى ٨: ٣) وهذه المواضيع الثلاثة ثلاث درجات في الحياة الروحية.


    ٢١ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَمْسَكَنِي ٱلْيَهُودُ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَشَرَعُوا فِي قَتْلِي».
    ص ٢١: ٣٠ و٣١
    بعد أن أبان بولس أن كل ما أتاه كان طوعاً للأمر الإلهي يبيّن أن عاقبة ذلك كانت مقاومة اليهود التي وقف بها أسيراً أمام أغريباس.
    مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي لأني بشرت اليهود والأمم بما أُمرت بالتبشير به.
    هذه العلة الحقيقية لبغض اليهود إياه وقبضهم عليه (ص ٢١: ٢٨ و٢٩). ولولا تبشيره بالدين في أسيا وغيرها من بلاد الأمم لم يخطر على بالهم أن يشتكوا عليه بتدنيس الهيكل كما هو ظاهر في (ص ٢١: ٢٩).
    إن اليهود اشتكوا عليه بأمور كثيرة (ص ٢٤: ٥ و٦ و٢٥: ٧) لكن ذنبه الأعظم عندهم مناداته بأنه يسوع هو المسيح الموعود به والمنتظر وأنه دعا الأمم إلى الاشتراك في بركات ملكوته بدون القيام برسوم الشريعة الموسوية.
    شَرَعُوا فِي قَتْلِي جوراً بلا محاكمة (ص ٢١: ٣١).
    ٢٢ «فَإِذْ حَصَلْتُ عَلَى مَعُونَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ بَقِيتُ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ، شَاهِداً لِلصَّغِيرِ وَٱلْكَبِيرِ. وَأَنَا لاَ أَقُولُ شَيْئاً غَيْرَ مَا تَكَلَّمَ ٱلأَنْبِيَاءُ وَمُوسَى أَنَّهُ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ».
    لوقا ٢٤: ٢٧ و٤٤ وص ٢٤: ١٤ و٢٨: ١٣ ورومية ٣: ٢١ يوحنا ٥: ٤٦
    حَصَلْتُ عَلَى مَعُونَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ عنى أن عناية الله حفظته على رغم اجتهاد اليهود (قبل وبعد في أورشليم وغيرها) في أن يقتلوه. ونسب ذلك إلى الله لأنه هو مصدره وأنه اتخذ الرومانيين ليسياس وفيلكس وفستوس وعسكرهم أدوات لوقايته. والمسيحيون يسرون بأن يروا يد الله ممدودة لمساعدتهم وأن يعترفوا بذلك جهراً. ويحق لكل الذين يعملون عمل الرب أن يتوقعوا حمايته تعالى إياهم.
    بَقِيتُ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ والمدة من يوم تنصره إلى وقفته هذا نحو ٢٤ سنة بقي فيها حياً ثابتاً على عزمه شاهداً للحق كما أُمر (ع ١٦).
    لِلصَّغِيرِ وَٱلْكَبِيرِ أي لكل الناس على اختلاف رتبهم وأعمارهم.
    لاَ أَقُولُ... غَيْرَ مَا تَكَلَّمَ ٱلأَنْبِيَاءُ وَمُوسَى الخ كل ما علّمه بولس من آلام المسيح وموته وقيامته كان مطابقاً لرموز العهد القديم ونبوّاته ولكن اليهود شكوه بأنه علم بدعاً تنافي الديانة اليهودية والشريعة الموسوية.
    ٢٣ «إِنْ يُؤَلَّمِ ٱلْمَسِيحُ، يَكُنْ هُوَ أَوَّلَ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ، مُزْمِعاً أَنْ يُنَادِيَ بِنُورٍ لِلشَّعْبِ وَلِلأُمَمِ».
    لوقا ٢٤: ٢٦ و٤٦ ١كورنثوس ١٥: ٢٠ وكولوسي ١: ١٨ ورؤيا ١: ٥ لوقا ٢: ٣٢
    ذكر بولس هنا ثلاثة من مواضيع المحاورة التي جرت بينه وبين اليهود مما أخذه من موسى والأنبياء.
    إِنْ يُؤَلَّمِ ٱلْمَسِيحُ هذا مناف لاعتقاد اليهود لأنهم اعتقدوا أن المسيح يكون ملكاً أرضياً ممجداً منتصراً وغفلوا عما قيل في (إشعياء ٥٢: ١٤ و٥٣: ١ - ١٠) من أنه «لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ مَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ، مُحْتَقَرٌ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ». وكان يصعب على تلاميذ المسيح أنفسهم قبول هذا التعليم (متّى ١٦: ٢٢). ولم يدركوه إلا بعد ما قام المسيح من الموت وفسره لهم (لوقا ٢٤: ٢٥ و٢٦: ٤٤). وكان هذا التعليم عثرة لليهود (١كورنثوس ١: ٢٣).
    يَكُنْ هُوَ أَوَّلَ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ نظراً لمقامه وعدم سيادة الموت عليه بعد قيامته بخلاف من أُحيي قبله فهو «بكر من الأموات» (كولوسي ١: ١٨) و «باكورة الراقدين» (١كورنثوس ١٥: ٢٠).
    يُنَادِيَ بِنُورٍ لِلشَّعْبِ وَلِلأُمَمِ هذا الأمر الثالث. والأول والثاني تمهيد له والثلاثة مذكورة في الأنبياء وكلها مرفوض عند اليهود. وعنى «بالنور» هنا الإنجيل لكونه محل الحق والقداسة والسعادة. وقوله في هذه الآية «مزمعاً أن ينادي» الخ توضيح لما قال في كل احتجاج من أن مناداته بالقيامة علة الاختلاف بينه وبين اليهود إذ صرّح بأن الشرط الضروري لكون المسيح مخلصاً أن يكون قد مات وقام. ونتيجة كل ما قاله أنه أمين لله وللأمة اليهودية وشريعة موسى لأن كل ما نادى به مطابق لأقوال الأنبياء والشريعة الموسوية.

    معارضة فستوس لبولس وجواب بولس له ورجوعه إلى مخاطبة أغريباس ونتيجة الاحتجاج ع ٢٤ إلى ٣٢


    ٢٤ «وَبَيْنَمَا هُوَ يَحْتَجُّ بِهٰذَا، قَالَ فَسْتُوسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى ٱلْهَذَيَانِ».
    ٢ملوك ٩: ١١ ويوحنا ١٠: ٢٠ و١كورنثوس ١: ٢٣ و٢: ١٣ و١٤ و٤: ١٠
    وجّه بولس كلامه إلى أغريباس وتكلم على كتب العهد القديم أسفار موسى والأنبياء والديانة اليهودية التي يعرفها أغريباس فإن معانيها جلية لأغريباس ومستبهمة على فستوس وسائر الرومانيين. فكل ما قاله بولس في الرؤيا وقيامة من صُلب ومات ظهر لذلك الوالي الوثني أوهاماً. ولا ريب في أن بولس تكلم بحرارة لفستوس كالهذيان. وكثيراً ما يعتبر أهل هذا العالم اليوم المسيحيين هاذئين لأنهم آثروا الخيرات الأبدية على الخيرات الزمنية وحسبوا عار المسيح غنىً أعظم من خزائن مصر.
    وَبَيْنَمَا هُوَ يَحْتَجُّ هذا يدل على أن بولس لم يكن قد فرغ بعد من خطابه.
    بِصَوْتٍ عَظِيمٍ لتعجبه وانذهاله ومما أظهره بولس.
    أَنْتَ تَهْذِي أي أنت مختل العقل. لم يقصد فستوس الهزء ببولس أو الإهانة له بما قال بل أظهر الشفقة عليه لظنه أنه مصاب مصاباً عقلياً والاستخفاف بمواضيع خطابه وإعلانه للناس أن تأثير خطاب بولس فيه تأثر كلام إنسان يهذي.
    ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ الخ أراد بهذه الكتب أسفار الدين اليهودي أي كتب موسى والأنبياء التي أيّد بها بولس كثيراً من حججه فكان فستوس يعتقد ما هو معلوم أن قصر الأفكار على فرع واحد من العلم من علل الاختلال العقلي وظن حال بولس كذلك.
    ٢٥ «فَقَالَ: لَسْتُ أَهْذِي أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ فَسْتُوسُ، بَلْ أَنْطِقُ بِكَلِمَاتِ ٱلصِّدْقِ وَٱلصَّحْوِ».
    لَسْتُ أَهْذِي أنكر ما نسبه إليه فستوس بكلام الرزانة والحكمة فدل على أنه سليم العقل سديد الرأي.
    ٱلْعَزِيزُ هذا لقب بولس إيّاه به دليل على أنه في (ص ٢٤: ٣ و٧) ومخاطبة بولس إياه به دليل على أنه لم يستهزئ هو به ويقصد إهانته بقوله «تهذي».
    بِكَلِمَاتِ ٱلصِّدْقِ وَٱلصَّحْوِ خلاف ما يتكلم به الهاذئون.
    ٢٦ «لأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ، عَالِمٌ ٱلْمَلِكُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُهُ جِهَاراً، إِذْ أَنَا لَسْتُ أُصَدِّقُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذٰلِكَ، لأَنَّ هٰذَا لَمْ يُفْعَلْ فِي زَاوِيَةٍ».
    هٰذِهِ ٱلأُمُورِ المشار إليها في ع ٣ والمذكورة في أثناء الخطاب.
    عَالِمٌ ٱلْمَلِكُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُهُ ذكر الوالي بهذا أن كلامه موجه إلى أغريباس لا إليه. وذلك بمقتضى طلبه وبيّن له أنه لا يعجب من أن الكلام الموجّه إلى يهودي يستبهم على روماني ويظهر له كالهذيان. وفيه طلب إلى أغريباس أن يشهد بأن كلماته كلمات الصدق والصحو لا كلام مختل العقل.
    لَسْتُ أُصَدِّقُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لم يقصد بولس بهذا الإطراء والتملّق لأغريباس بل أن يبيّن لفستوس أن ما ظهر له هذياناً يظهر كلام صحو وحكمة للقادر بما حصل عليه من التربية والاختبار على فهم معناه.
    لَمْ يُفْعَلْ فِي زَاوِيَةٍ حتى يكون خفياً أو مجهولاً عند أكثر الناس بل هو ظاهر مشهور. والإشارة إلى ما قاله في مقامه الأول بين اليهود وعمله والرؤيا التي رآها والتغيّر الذي نشأ فيه وأموره بعد ذلك من المناداة بالإنجيل جهاراً ومقاومة اليهود إيّاه عليها.
    ولعله أشار أيضاً إلى الحوادث المتعلقة بقيامة المسيح التي كثيراً ما اشتهرت وانتشرت. فإن كل الأمور المتعلقة بنشوء الديانة المسيحية لم تحدث في زاوية أو في مكان بعيد عن أكثر الناس إنما حدثت في أورشليم مألف أهل الأقطار من أسيا وأوربا وأفريقية ودليل ذلك أن بيلاطس يوم كتب عنوان صليب المسيح كتبه بثلاث لغات ولعل مثل هذا لا تقتضيه أحوال مدينة غيرها في العالم.
    ٢٧ «أَتُؤْمِنُ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ بِٱلأَنْبِيَاءِ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تُؤْمِنُ».
    رجع بولس إلى خطاب أغريباس بعد أن أجاب فستوس وسؤاله إياه مبني على كونه يهودياً مولداً وإيماناً وأنه يعرف الأسفار المقدسة ويعتقد بصحتها. وغايته من هذا السؤال ثلاثة أمور:

    • الأول: استشهاده إياه بأن كلامه ليس بهذيان وأنه موافق لما أعلنه الأنبياء.
    • الثاني: تنبيه ضمير أغريباس ليقبل ما علمه الأنبياء من أمور المسيح كما فسره سابقاً (ع ٢٣).
    • الثالث: التوصل إلى كلام آخر في المسيح إذا أُذن له.


    أَنَا أَعْلَمُ الخ لم يتوقع بولس الجواب من أغريباس فأجاب عنه بما اعتقده فيه.
    ٢٨ «فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِبُولُسَ: بِقَلِيلٍ تُقْنِعُنِي أَنْ أَصِيرَ مَسِيحِيّاً».
    لم يرد أغريباس أن يقول نعم أني أومن بالأنبياء خشية أن يقوده ذلك إلى التسليم بتفسير بولس وتعليمه وهو أن يسوع هو المسيح فصرف المسئلة بأسلوب لطيف.
    بِقَلِيلٍ تُقْنِعُنِي الخ هذا الكلام ليس على حد من الوضوح يمكننا من أن نحكم على معناه المقصود حكماً قاطعاً. فيحتمل أن المعنى كقوله يظهر من كلامك أنك تتوقع أن تنصّرني بقليل من الاستدلال في قليل من التعب في قليل من الوقت. ويحتمل أن المراد الاعتراف بأنه تأثر قليلاً من أقوال بولس ومال شيئاً إلى قبولها.
    ولعل أغريباس قصد أن يكون كلامه ملتبساً يقبل التفسيرين لأن غايته التخلص من سؤال بولس في (ع ٢٧) وختام الجلسة. والأرجح أن الاحتمال الأول هو المقصود. وفيه طرف من التهكم لأن بولس بعد ما دُعي للمحاماة عن نفسه استعاض عن ذلك بشروعه في إرشاد من يُحاكم أمامه إلى الإيمان بأن يسوع هو المسيح. وتسميته من اعتقد صحة دين يسوع «مسيحياً» نتج عن تربيته في رومية لا في اليهودية لأنه لو تربى بين اليهود لسماه ناصرياً.
    ٢٩ «فَقَالَ بُولُسُ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى ٱللّٰهِ أَنَّهُ بِقَلِيلٍ وَبِكَثِيرٍ، لَيْسَ أَنْتَ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَنِي ٱلْيَوْمَ، يَصِيرُونَ هٰكَذَا كَمَا أَنَا، مَا خَلاَ هٰذِهِ ٱلْقُيُودَ».
    ١كورنثوس ٧: ٧
    في هذه الآية بيان ما لبولس من شديد الرغبة في تنصر أغريباس بقليل أو كثير من الاستدلال أو بقليل أو كثير من التعب (على الاحتمال الأول) أو في أنه كان قد مال قليلاً إلى الإيمان بأن يسوع هو المسيح يقتنع كل الاقتناع ويؤمن تمام الإيمان (على الاحتمال الثاني).
    كُنْتُ أُصَلِّي أي لو أذن لي في هذا الموقف لكنت أطلب إلى الله جهراً كما أطلب إليه في ضميري.
    أَيْضاً جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَنِي ما رغب فيه لأغريباس رغب فيه لكل السامعين لفرط محبته للجميع ورغبته في نفع الجميع وتيقنه أن تنصرهم أعظم خير للجميع.
    هٰكَذَا كَمَا أَنَا أي مسيحيين كما أنا مسيحي فيكون لهم الإيمان والرجاء والتعزية كما لي.
    كان أغريباس آخر ملوك الهيرودوسيين فكان له فرصة وقتئذ أن يقبل ديانة المسيح ويكون عضواً من أسرة أشرف من أسرته الملكية ووارثاً ميراثاً أعظم مما ورثه من أسلافه واقتناه من الرومانيين وتاجاً أثمن وأبقى من كل تيجان العالم لكنه لم ينتهز تلك الفرصة فإن الذي عرفناه من التاريخ أنه عاش بعدئذ كما عاش سابقاً عيشة الترفه والفجور.
    مَا خَلاَ هٰذِهِ ٱلْقُيُودَ كانت يدا بولس مربوطتين بسلسلتين إلى عكسريين أحدهما على يمينه والآخر على يساره ولعله رفع يده أمام المشاهدين عندما تكلم بهذا. وأظهر بما قاله رقة قلبه. فإنه مع طلبه لهم نوال بركات الإيمان بالمسيح لم يرد أن يكونوا عرضة لمثل الاضطهادات والمصائب والضيقات التي وقعت عليه.
    ٣٠ «فَلَمَّا قَالَ هٰذَا قَامَ ٱلْمَلِكُ وَٱلْوَالِي وَبَرْنِيكِي وَٱلْجَالِسُونَ مَعَهُمْ».
    قَامَ ٱلْمَلِكُ الخ علامة انتهاء الجلسة. وذكر قيام الناس على وفق مراتبهم دليل على أن الكاتب كان يكتب نبأ ما شاهده عياناً.
    ٣١ «وَٱنْصَرَفُوا وَهُمْ يُكَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: إِنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ لَيْسَ يَفْعَلُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ أَوِ ٱلْقُيُودَ».
    ص ٢٣: ٩ و٢٩ و٢٥: ٢٥
    ما قيل في هذه الآية هو الرأي الذي اتفقوا عليه في الكلام وهم منصرفون. فإن احتجاج بولس أقنع الجميع أنه بريء من كل ما اتُهم به. ومثل هذا كان رأي اكثر أعضاء مجلس السبعين في المحاكمة الواحدة التي حضرها بولس (ص ٢٣: ٩). ومثله رأي الأمير ليسياس (ص ٢٣: ٢٩). ومثله نتيجة محاكمته أمام فستوس (ص ٢٥: ٢٥ - ٢٧). وثُبّت هذا الرأي في المجلس الذي حكم به أغريباس الخالي من الهوى والقادر على الحكم في تلك المسئلة. ولا ريب في أنه نتج من ذلك الاجتماع أن فستوس أرسل إلى نيرون تقريراً دفع عن بولس المعاملة بالقسوة وساعده على تبرئته عند وقوفه أمام نيرون للمحاكمة.
    ٣٢ «وَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِفَسْتُوسَ: كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَقَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى قَيْصَرَ».
    ص ٢٥: ١١
    ما قيل في هذه الآية ليس بتكرير معنى ما في الآية التي قبلها وهو يستلزم شيئاً من التخطئة لفستوس على عدم إطلاقه إياه قبل أن يضطر إلى رفع دعواه إلى قيصر (ص ٢٥: ٩) وفيه بيان خيبة فستوس من أن يجد حجة يعتذر بها عن عدم إطلاق بولس (ص ٢٥: ٢٧) كما ذُكر.
    كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَقَ هذا تصريح كامل بتبرئة بولس واستحقاقه أن يُطلق بالنظر إلى أعماله.
    لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى قَيْصَرَ كان في شرع الرومانيين أن الأسير إذا رفع دعواه من مجلس الوالي إلى مجلس قيصر لا يبقى للوالي سلطان أن يحكم عليه ويعاقبه ولا أن يبرره ويطلقه. فما قاله أغريباس لم يقصد به أن الحق على بولس في أنه لم يُطلق بل قصد أن الحق على فيلكس أولاً لأنه لم يطلقه عند محاكمته إياه وأنه أبقاه أسيراً حين عُزل وعلى فستوس ثانياً لأنه لم يطلقه بعد محاكمته إياه بل أجبره على رفع دعواه إلى رومية بإبقائه إياه أسيراً بعد تبرئته إياه بالمحاكمة وبطلبه أن يصعد إلى أورشليم للمحاكمة في مجلس اليهود.


    الأصحاح السابع والعشرون


    سفر بولس بحراً من قيصرية إلى مليطة ع ١ إلى ٤٤


    ١ «فَلَمَّا ٱسْتَقَرَّ ٱلرَّأْيُ أَنْ نُسَافِرَ فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى إِيطَالِيَا، سَلَّمُوا بُولُسَ وَأَسْرَى آخَرِينَ إِلَى قَائِدِ مِئَةٍ مِنْ كَتِيبَةِ أُوغُسْطُسَ ٱسْمُهُ يُولِيُوسُ».
    ص ٢٥: ١٢ و٢٥
    انتهى نبأ أسر بولس سنتين في قيصرية ونبأ عمله في اليهودية وابتُدئ في هذا الأصحاح نبأ سفره إلى رومية وبعض ما حدث له هناك.
    لَمَّا ٱسْتَقَرَّ ٱلرَّأْيُ أي رأي فستوس على ما ذُكر في (ص ٢٥: ١٢ و٢١ و٢٥) والأرجح أنه أنفذه بعد قليل من المحاكمة.
    أَنْ نُسَافِرَ صورة الكلام هنا تدل على أن كاتب السفر لوقا كان واحداً من المسافرين وهو لم يأت بصيغة التكلم من حين اجتماع بولس ورفقائه أمام شيوخ الكنيسة في أورشليم (ص ٢١: ١٨). وعدم ذكر نفسه مع بولس في الأنباء منذ قُبض على بولس ليس بدليل على انفصاله عنه إنما أتى ذلك لأن الأمور التي ذكرها كانت مختصة بأسر بولس ومحاكمته واحتجاجاته فقط. وكان قبل ذلك رفيق بولس في أسفاره للتبشير وطبيباً له يعتني بصحته وما زال كذلك إلى نهاية هذا السفر. ولا نعلم أمن ماله كانت نفقته أم من مال الحكومة.
    إِلَى إِيطَالِيَا أي بلاد الرومانيين الأصلية.
    سَلَّمُوا أي فستوس والذين وُكل إليهم إنفاذ أوامره.
    أَسْرَى آخَرِينَ كانوا يجمعون من أقطار الولاية على توالي الأوقات. ولا نعلم ألرفع دعواهم إلى قيصر أُرسلوا إلى رومية أم لعلة أخرى.
    كَتِيبَةِ أُوغُسْطُسَ هذا لقب إحدى فرق العسكر الروماني لُقبت به تمييزاً لها عن غيرها وإكراماً للأمبراطور (انظر شرح ص ٢٥: ٢١). وكانت معيّنة لحراسة الأمبراطور جعل نيرون عدد جنودها ثلاثة آلاف كانوا يرافقونه إلى المشاهد والمحافل وكان معظم عملهم أنهم يصفقون له ويدعون حين يخطب في تلك المواضع. ولعل نيرون أرسل يوليوس وكتيبته مع فستوس إلى ولايته الجديدة إكراماً له وكان يوليوس حينئذ راجعاً مع تلك الكتيبة إلى خدمته العادية بين حرس الأمبراطور فوكل إليه فستوس حراسة الأسرى.
    ٢ «فَصَعِدْنَا إِلَى سَفِينَةٍ أَدْرَامِيتِينِيَّةٍ، وَأَقْلَعْنَا مُزْمِعِينَ أَنْ نُسَافِرَ مَارِّينَ بِٱلْمَوَاضِعِ ٱلَّتِي فِي أَسِيَّا. وَكَانَ مَعَنَا أَرِسْتَرْخُسُ، رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ مِنْ تَسَالُونِيكِي».
    ص ١٩: ٢٩ و٢٠: ٤ وكولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤
    أَدْرَامِيتِينِيَّةٍ نسبة إلى أدراميتين فرضة ميسيا وهي ولاية في غربي آسيا الصغرى وهذه الفرضة تجاه جزيرة لسيوس. الأرجح أنها أتت من أسيا بالبضائع وكانت راجعة حينئذ إلى بلادها. والظاهر أنه لم يكن يومئذ اتصال بين إيطاليا وسورية رأساً بواسطة السفن فأخذ يوليوس تلك السفينة إلى أسيا الصغرى متوقعاً أن يجد في بعض مرافئها سفينة قاصدة إيطاليا كما قد وقع (انظر ع ٦). وكان ذلك في سنة ٦٠ ب. م إذ عُلم من التاريخ أنه في تلك السنة خلف فستوس فيلكس على ولاية سورية. والأرجح أنه كان سفرهم في غاية آب من تلك السنة لأنهم و صلوا إلى كريت في أيلول (انظر شرح ع ٩). ولا ريب في أنهم توقعوا أن يبلغوا إيطاليا قبل بداءة الشتاء.
    مُزْمِعِينَ أَنْ نُسَافِرَ... بِٱلْمَوَاضِعِ... فِي أَسِيَّا قوله «مزمعين» إن كان حالاً من أرباب السفينة كان المعنى أنهم قصدوا المرور بتلك المواضع لمقاصد تجارية. وإن كان حالاً من يوليوس والعسكر كان المعنى أنهم قصدوا المرور بها بغية أن يجدوا سفينة مسافرة إلى رومية.
    أَرِسْتَرْخُسُ وصفه لوقا بالمكدوني نسبة إلى بلاده وبالتسالونيكي نسبة إلى مدينته في تلك البلاد. وكان قد رافق بولس في سفره من أفسس إلى مكدونية (ص ١٩: ٢٩) ورجع معه من هناك إلى أسيا (ص ٢٠: ٤). ولا نعلم أين كان في السنتين الماضيتين. ذُكر في إحدى الرسالتين التي كتبهما بولس في رومية أنه عامل معه (فليمون ٢٤) وفي الأخرى أنه مأسور معه (كولوسي ٤: ١٠). ومعلوم أن هذين الصديقين المحبوبين كانا تعزية عظيمة لبولس في سفره فإنهما أظهرا شديد المحبة له إذ عرّضا أنفسهما لأخطار السفر ولم يستحيا بقيوده.
    ٣ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلآخَرِ أَقْبَلْنَا إِلَى صَيْدَاءَ، فَعَامَلَ يُولِيُوسُ بُولُسَ بِٱلرِّفْقِ، وَأَذِنَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَصْدِقَائِهِ لِيَحْصُلَ عَلَى عِنَايَةٍ مِنْهُمْ».
    ص ٢٤: ٢٣ و٢٨: ١٦
    صَيْدَاءَ مدينة إلى أمد ٦٧ ميلاً من شمالي قيصرية وتلك السفينة إن كانت قصدت أن تذهب في الطريق المستقيمة إلى أسيا فهي لم تدخل صيدا. فدخلتها إما للتجارة لأن الريح المضادة ألجأتهم إليها.
    فَعَامَلَ... بِٱلرِّفْقِ ما قيل هنا في رفق يوليوس ببولس في صيدا يصدق عليه في كل الطريق إلى رومية وبعض علل ذلك وأمر فستوس له كالأوامر التي أعطاها فيلكس قائد المئة (ص ٢٤: ٢٣) وبعضها كونه رومانياً وبعضها جودة أخلاق يوليوس وبعضها جودة بولس وتأثيره الحسن.
    أَصْدِقَائِهِ يمكن أنهم معارفه والأرجح أنهم أصدقاؤه لكونهم مسيحيين فرحبوا به كما رحب به مسيحيو صور سابقاً (ص ٢١: ٢ - ٤). وكانت صور وصيدا المدينيتن المشهورتين في فينيقية وذُكرا غالباً معاً. وصيداء أقدم من صور وذُكرت في أسفار موسى الخمسة (تكوين ١٠: ١٩ و٤٩: ١٣). وأما صور فلا ذكر لها في تلك الأسفار. وسُميت صيداء في سفر يشوع بصيدون العظيمة (يشوع ١٩: ٢٨) وكانت من نصيب سبط أشير لكنه لم يستولِ عليها (قضاة ١: ٣١ و١٠: ١٠ و٤٢). استولى عليها الأشوريون ثم الفرس ثم اسكندر المكدوني وبقيت في ملك خلافائه من ملوك مصر وسورية إلى أن استولى عليها الرومانيون.
    لِيَحْصُلَ عَلَى عِنَايَةٍ من ضيافة ومؤانسة ولعلهم أعطوه بعض الهدايا ليستعين بها على السفر بحراً.
    ٤ «ثُمَّ أَقْلَعْنَا مِنْ هُنَاكَ وَسَافَرْنَا فِي ٱلْبَحْرِ مِنْ تَحْتِ قُبْرُسَ، لأَنَّ ٱلرِّيَاحَ كَانَتْ مُضَادَّةً».
    مِنْ تَحْتِ قُبْرُسَ أي على القرب منها شرقاً لتتقي بها السفينة الريح الغربية.
    لأَنَّ ٱلرِّيَاحَ كَانَتْ مُضَادَّةً لما أتوا من ترواس ذهبوا تجاه الشاطئ الغربي من تلك الجزيرة (ص ٢١: ٣) والأرجح أنهم لولا الريح المضادة ذهبوا في الطريق الغريبة.
    ٥ «وَبَعْدَ مَا عَبَرْنَا ٱلْبَحْرَ ٱلَّذِي بِجَانِبِ كِيلِيكِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ، نَزَلْنَا إِلَى مِيرَا لِيكِيَّةَ».
    كِيلِيكِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ هما ولايتان في جنوبي أسيا الصغرى (انظر شرح ص ٦: ٨ و١٣: ١٣).
    مِيرَالِيكِيَّةَ كانت ليكية ولاية في الجنوب الشرقي من أسيا الصغرى وميرا مدينة فيها لم يبق منها سوى آثارها. وعظمة آثار مشهدها وأطلاله تدل على أن تلك المدينة كانت كبيرة.
    ٦ «فَإِذْ وَجَدَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ هُنَاكَ سَفِينَةً إِسْكَنْدَرِيَّةً مُسَافِرَةً إِلَى إِيطَالِيَا أَدْخَلَنَا فِيهَا».
    وَجَدَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ كما توقّع.
    سَفِينَةً إِسْكَنْدَرِيَّةً منسوبة إلى إسكندرية وهي من مشهورات مدن مصر (انظر شرح ص ١٨: ٢٤). وكانت التجارة بينها وبين رومية واسعة ومعظمها في القمح لأن رومية كانت تقتات بالحبوب من وادي النيل. ولم تكن ميرا على الخط المستقيم بين مصر وإيطاليا وعلة توجه السفينة إليها غير معلومة أللتجارة كان أم للتوقّي من الريح. وكان محمول تلك السفينة القمح (ع ٣٨) فيلزم أنها كانت كبيرة لتستطيع أن تحمل ٢٧٦ نفساً فوق ما فيها من البضائع.
    ٧ «وَلَمَّا كُنَّا نُسَافِرُ رُوَيْداً أَيَّاماً كَثِيرَةً، وَبِٱلْجَهْدِ صِرْنَا بِقُرْبِ كِنِيدُسَ، وَلَمْ تُمَكِّنَّا ٱلرِّيحُ أَكْثَرَ، سَافَرْنَا مِنْ تَحْتِ كِرِيتَ بِقُرْبِ سَلْمُونِي».
    رُوَيْداً أَيَّاماً كَثِيرَةً لأن الريح كانت على خلاف جهة سيرهم.
    كِنِيدُسَ مدينة على نجد في أسيا الصغرى قريب من جزيرة رودس بينها وبين كوس (ص ٢١: ١) وهي على أمد ١٣٠ ميلاً من ميرا.
    وَلَمْ تُمَكِّنَّا ٱلرِّيحُ أَكْثَرَ كان مرادهم السفر جنوباً بميلة إلى الغرب وكانت الريح تهب من الشمال الغربي فأجبرتهم على الميل إلى شرقي الجهة المطلوبة.
    تَحْتِ كِرِيتَ أي شرقها حيث دفعتهم الريح وكانت قريبة منها للوقاية وكريت جزيرة كبيرة تسمى أيضاً كنديا.
    سَلْمُونِي طرف جزيرة كريت الشرقي.
    ٨ «وَلَمَّا تَجَاوَزْنَاهَا بِٱلْجَهْدِ جِئْنَا إِلَى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ «ٱلْمَوَانِي ٱلْحَسَنَةُ» ٱلَّتِي بِقُرْبِهَا مَدِينَةُ لَسَائِيَةَ» .
    وَلَمَّا تَجَاوَزْنَاهَا بِٱلْجَهْدِ هذا يدل على أن الريح عند رأس سلموني كانت أشد منها عند غيره كما هو مقتضى الطبع فكانت السفينة في خطر أن تدفعها الريح إلى الوراء أو إلى الصخور ولذلك لم يستطيعوا أن يتعدوها إلا ببذل كل ما في طاقتهم.
    ٱلْمَوَانِي ٱلْحَسَنَةُ مدينة على الشاطئ الجنوبي من جزيرة كريت موقعها معروف اليوم واسمها باقٍ وعلى مقربة منها مدينة لسائية.
    ٩ «وَلَمَّا مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَصَارَ ٱلسَّفَرُ فِي ٱلْبَحْرِ خَطِراً، إِذْ كَانَ ٱلصَّوْمُ أَيْضاً قَدْ مَضَى، جَعَلَ بُولُسُ يُنْذِرُهُمْ».
    لاويين ١٦: ٢٩ و٢٣: ٢٧ الخ
    مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ على مضادة الريح المانعة لهم من التقدّم.
    صَارَ ٱلسَّفَرُ فِي ٱلْبَحْرِ خَطِراً في سفن ذلك العصر لأنها كانت شراعية ولم يكن للملاحين خريطة بحرية ولا أبرة ملاحة كانوا يستدلون بالشمس نهاراً وبالنجوم ليلاً إذ كانوا بعيدين عن البر. وكانت السفن عالية المقدم والمؤخر فكانت عرضة لأشد تأثير الرياح وكان لها دقل واحد قرب المؤخر ويوجهها الربان بمجدافين كبيرين على الجانبين عند مؤخرها فكانا بمقام سكان السفينة المعروف عند العامة بالدقة.
    ٱلصَّوْمُ أي صوم الكفارة الذي يوم عيده العاشر من الشهر السابع تسري وهو من جزئين أحدهما من أيلول والآخر من تشرين الأول (لاويين ١٦: ٢٨ - ٣٤ و٢٣: ٢٦ - ٣٢). وذُكر هذا الصوم هنا لمجرد تعيين الوقت فالرومانيون لم يعتبروه فرضاً عليهم. وكان ذلك الوقت زمن الاعتدال الخريفي وهبوب الرياح الاعتدالية وكان ملاحو ذلك العصر يخافون هذه الرياح ويخافون قواصف الشتاء بعدها.
    يُنْذِرُهُمْ أي ينذر أرباب الأمر منهم.
    ١٠ «قَائِلاً: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَنَا أَرَى أَنَّ هٰذَا ٱلسَّفَرَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بِضَرَرٍ وَخَسَارَةٍ كَثِيرَةٍ، لَيْسَ لِلشَّحْنِ وَٱلسَّفِينَةِ فَقَطْ، بَلْ لأَنْفُسِنَا أَيْضاً».
    من العجب أن بولس وهو أسير يقف خطيباً في أولئك الناس وينذرهم وفي هذا شيء من الدليل على قوة تأثيره فيهم. وهم تعلموا قبل نهاية ذلك السفر أن يعتمدوا رأي ذلك الأسير كل الاعتماد.
    أَنَا أَرَى قال هذا إما بناء على فطنته واختباره أمور البحر لكثرة أسفاره فيه (٢كورنثوس ١١: ٢٥ و٢٦) وإما بناء على ما أوحي إليه.
    بِضَرَرٍ وَخَسَارَةٍ أي عرضة لذلك. وكان هذا الإنذار في محله لأن الضرر والخسارة وقعا على الوسق والسفينة ولولا عناية الله وقعت على النفوس. وكانت غاية بولس من رأيه أن يقيموا حيث كانوا.
    ١١ «وَلٰكِنْ كَانَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ يَنْقَادُ إِلَى رُبَّانِ ٱلسَّفِينَةِ وَإِلَى صَاحِبِهَا أَكْثَرَ مِمَّا إِلَى قَوْلِ بُولُسَ».
    كَانَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ يَنْقَادُ يظهر من هذا أن السلطان على السفينة كان ليوليوس القائد لا لرئيس المركب وذلك إما لرتبته ومقامه او لأنه استأجر السفينة لأمره.
    رُبَّانِ أي رئيس الملاحين الذي يأمر بإجراء السفينة وسائر أمورها.
    صَاحِبِهَا أي مالكها والمعتني بمحمولاتها من الركاب والبضائع. ولا عجب من انقياد يوليوس إلى رأي الربان والصاحب المختبرَين أمور البحر والسفن أكثر من انقياده إلى رأي بولس على ما عرف من أنه رجل علوم دينية وأدبية. وذكر الكاتب انقياده لهما لا على سبيل الملامة بل لبيان أنه علة ما وقع عليهم من المصائب على أثر ذلك. والظاهر أنهم كلهم اتفقوا مع بولس على أن وقت السفر إلى إيطاليا قد مضى ولكهم ظنوا أنه يمكنهم قطع مسافة وجيزة بعد ذلك.
    ١٢ «وَلأَنَّ مَوْقِعَ ٱلْمِينَا لَمْ يَكُنْ صَالِحاً لِلْمَشْتَى، ٱسْتَقَرَّ رَأْيُ أَكْثَرِهِمْ أَنْ يُقْلِعُوا مِنْ هُنَاكَ أَيْضاً، عَسَى أَنْ يُمْكِنَهُمُ ٱلإِقْبَالُ إِلَى فِينِكْسَ لِيَشْتُوا فِيهَا. وَهِيَ مِينَا فِي كِرِيتَ تَنْظُرُ نَحْوَ ٱلْجَنُوبِ وَٱلشَّمَالِ ٱلْغَرْبِيَّيْنِ».
    ٱسْتَقَرَّ رَأْيُ أَكْثَرِهِمْ هذا يدل على أنهم تحاوروا ملياً في المسئلة واعتمدوا رأي الجانب الأكثر.
    فِينِكْسَ موضع على أمد أربعين ميلاً من المواني الحسنة وإلى الغرب منها اسمه اليوم لُترَو.
    نَحْوَ ٱلْجَنُوبِ وَٱلشَّمَالِ ٱلْغَرْبِيَّيْنِ يستلزم هذا أن يكون قبالة الميناء غرباً جزيرة فالسفن تدخلها وتخرج منها إما من الشمال وإما من الجنوب.
    ١٣ «فَلَمَّا نَسَّمَتْ رِيحٌ جَنُوبٌ، ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوا مَقْصَدَهُمْ، فَرَفَعُوا ٱلْمِرْسَاةَ وَطَفِقُوا يَتَجَاوَزُونَ كِرِيتَ عَلَى أَكْثَرِ قُرْبٍ».
    نَسَّمَتْ أي هبت بلين.
    رِيحٌ جَنُوبٌ موافقة لجهة سيرهم وهي جهة الغرب بميلة إلى الشمال.
    مَلَكُوا مَقْصَدَهُمْ أي أصابوا وقتاً مناسباً وريحاً موافقة.
    عَلَى أَكْثَرِ قُرْبٍ خيفة أن يعرض لهم خطر وهم بعيدون عن البر لا يخشونه وهم قريبون منه. وتوقعوا أن يبلغوا فينكس بعد نحو ثلاث ساعات.
    ١٤ «وَلٰكِنْ بَعْدَ قَلِيلٍ هَاجَتْ عَلَيْهَا رِيحٌ زَوْبَعِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا «أُورُوكْلِيدُونُ».
    على غاية خمسة أميال من المواني الحسنة غرباً أنفُ يسمى رأس متالا المرجح أنهم وصلوا إلى ذلك الرأس ومن هنالك تكون جهة السير شمالاً.
    رِيحٌ زَوْبَعِيَّةٌ أي عاصفة شديدة.
    أُورُوكْلِيدُونُ كلمة يونانية مركبة من لفظتين «يورو» أي شرقي و «كلودون» أي أمواج فالمعنى أنها ريح شرقية تهيّج الأمواج. وظن البعض أنها مركبة من «يورو» و «أكويلو» أي الشمالي وعلى هذا يكون معناها ريح شرقية شمالية.
    ١٥ «فَلَمَّا خُطِفَتِ ٱلسَّفِينَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَابِلَ ٱلرِّيحَ، سَلَّمْنَا، فَصِرْنَا نُحْمَلُ».
    خُطِفَتِ ٱلسَّفِينَةُ كأن الريح مسكنها بقوّة لا تقاوم وحملتها إلى حيث شاءت.
    وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَابِلَ ٱلرِّيحَ والملاحون يجرونها بالمجاديف ولم يستطيعوا أن يبلغوا فينكس بالتعريج بها يمنةً ويسرةً.
    سَلَّمْنَا أي عدلنا عن بذل الجهد في إجراء السفينة إلى فينكس بالمجاديف أو غيرها.
    فَصِرْنَا نُحْمَلُ حيث ساقت الريح السفينة.
    ١٦ «فَجَرَيْنَا تَحْتَ جَزِيرَةٍ يُقَالُ لَهَا «كَلَوْدِي» وَبِٱلْجَهْدِ قَدِرْنَا أَنْ نَمْلِكَ ٱلْقَارِبَ» .
    تَحْتَ جَزِيرَةٍ أي الجهة غير المعرّضة للريح منها وكانت الريح شرقية شمالية فمرّت السفينة في الجهة الغربية الجنوبية.
    كَلَوْدِي هي جزيرة في الجنوب الغربي من رأس متالا وعلى ٢٣ ميلاً منها (ع ١٤) اسمها اليوم غزُّو.
    وَبِٱلْجَهْدِ قَدِرْنَا أَنْ نَمْلِكَ ٱلْقَارِبَ القارب السفينة الصغيرة يعبر الناس بها من البرّ إلى السفينة الكبيرة ومن تلك السفينة إلى البرّ يرفعها الملاحون إلى السفينة في السفر الطويل وهيجان البحر. ومن الأدلة على أنهم لم يتوقعوا الخطر في سفرهم القصير إلى فينكس تركهم القارب تجره السفينة ولكنهم لما بلغوا كلودي رأوا أن يرفعوه إلى السفينة وبالجهد استطاعوا ذلك لشدة الريح واضطراب الأمواج.
    ١٧ «وَلَمَّا رَفَعُوهُ طَفِقُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعُونَاتٍ، حَازِمِينَ ٱلسَّفِينَةَ، وَإِذْ كَانُوا خَائِفِينَ أَنْ يَقَعُوا فِي ٱلسِّيرْتِسِ، أَنْزَلُوا ٱلْقُلُوعَ، وَهٰكَذَا كَانُوا يُحْمَلُونَ».
    هذا الأمر الثاني الذي اغتنموا الفرصة ليفعلوه في كنف الجزيرة.
    حَازِمِينَ ٱلسَّفِينَةَ منطقوها بحبال ضخمة عدة أدوار وشدّدوها بأدوات. وغايتهم من ذلك وقاية ألواحها من التفرق من شدة صدم الأمواج. وإتيانهم ذلك دليل على أن السفينة كانت ضعيفة وابتدأ الماء ينفذها. واتخاذ هذه المقوّيات الوافية كان مألوفاً عند قدماء الملاحين وقد تُستعمل في هذه الأيام. وكان من أدوات السفن القديمة الحبال المعدّة للحزم وأدوات لتشديدها عند الحاجة.
    ٱلسِّيرْتِسِ هو خليج رقيق شمالي أفريقية قرب القيروان وهو شديد الخطر على السفن وإذا نظرنا إلى جهة الريح رأينا لهذا الخوف محلاً.
    أَنْزَلُوا ٱلْقُلُوعَ لا بد من أنهم كانوا قد خفضوها قبلاً لشدة الريح لكنهم عند هذا أنزلوها تماماً ولعلهم أنزلوا أيضاً العارضة المنشورة عليها. والمقصود من ذلك أن لا يبقوا على السفينة شيئاً تصدمه الريح فتطرحهم في السيرتس.
    وَهٰكَذَا كَانُوا يُحْمَلُونَ يدفع الريح والأمواج بدن السفينة وساريتها عارية من الشراع.
    ١٨ «وَإِذْ كُنَّا فِي نَوْءٍ عَنِيفٍ جَعَلُوا يُفَرِّغُونَ فِي ٱلْغَدِ».
    يُفَرِّغُونَ يطرحون في البحر كل ما في السفينة مما يمكنهم الاستغناء عنه. وكانت غايتهم من تفريغها تخفيفها لكي لا تغمرها الأمواج.
    فِي ٱلْغَدِ أي غد يوم رفع القارب وحزم السفينة وإنزال القلوع.
    ١٩ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ رَمَيْنَا بِأَيْدِينَا أَثَاثَ ٱلسَّفِينَةِ».
    يونان ١: ٥
    رَمَيْنَا بِأَيْدِينَا صورة هذا الكلام تدل على أن الركاب ساعدوا الملاحين لأن الخطر كان عاماً ولعله كان في ذلك الوقت قريباً جداً.
    أَثَاثَ ٱلسَّفِينَةِ أي ما أبقوه فيها بعد طرح ما طرحوه لأنهم لم يروا غنىً عنه إذ يئسوا من إجراء السفينة في طريقها ولم يعتنوا بسوى حفظ حياتهم بها. ونستنتج من ذلك أن السفينة لم تزل متعبة مشرفة على الغرق بعد التفريغ الأول. ومثل فعلهم هذا فعل ملاحي السفينة التي سافر يونان النبي فيها حين كادت تنكسر (يونان ١: ٥).
    ٢٠ «وَإِذْ لَمْ تَكُنِ ٱلشَّمْسُ وَلاَ ٱلنُّجُومُ تَظْهَرُ أَيَّاماً كَثِيرَةً، وَٱشْتَدَّ عَلَيْنَا نَوْءٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ، ٱنْتُزِعَ أَخِيراً كُلُّ رَجَاءٍ فِي نَجَاتِنَا».
    لَمْ تَكُنِ ٱلشَّمْسُ وَلاَ ٱلنُّجُومُ تَظْهَرُ لكثافة الغيم ولذلك لم يستطيعوا معرفة الجهة المحمولين فيها.
    أَيَّاماً كَثِيرَةً وعلة بقاء السفينة تحت سلطة الريح ظاهرة في (ع ١٥) حيث قيل «خُطفت السفينة من الزوبعة». ومن خواص الزوبعة أنها تدور على نفسها وتحمل كل ما تخطفه. فلو كان للسفينة قلوع وللملاحين قدرة على أنهم يجرون السفينة إلى أن يخرجوا بها عن سبيل الزوبعة لنجوا في وقت قصير.
    ٱنْتُزِعَ أَخِيراً الخ دلنا ما ذُكر قبلاً على خوفهم ودلنا ما ذُكر هنا على تحول الخوف يأساً لتوقعهم أن السفينة تصدم الصخر وتنكسر أو ترتطم في الرمل وتُبتلع فيه أو تغرق من نفوذ الماء إيّاها. وحزمها بالحبال الضخمة يشير إلى كونها عرضة لذلك. ولما يئسوا من النجاة بالوسائط البشرية أتاهم بولس بالوسائط الإلهية.
    ٢١ «فَلَمَّا حَصَلَ صَوْمٌ كَثِيرٌ، حِينَئِذٍ وَقَفَ بُولُسُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ أَنْ تُذْعِنُوا لِي وَلاَ تُقْلِعُوا مِنْ كِرِيتَ، فَتَسْلَمُوا مِنْ هٰذَا ٱلضَّرَرِ وَٱلْخَسَارَةِ».
    صَوْمٌ كَثِيرٌ لم يكن هذا الصوم دينياً ولم يكن انقطاعاً كاملاً عن الطعام بل عدم الانتباه لأوقات الطعام ومقداره الكافي. ولم يكن ذلك لقلة الطعام في السفينة لأنها كانت مملوءة حنطة (ع ٣٨). وعلة ذلك الصوم الخطر الدائم وتوقع الموت بمقتضاه والدوار الذي أنشأه اضطراب البحر والذي منعهم من تناول الطعام منع الخدم من إعداده. ومصابهم هذا مما اختبره كثيرون ممن سافروا في البحر وهبّت عليهم الزوابع وأحاطبهم الخطر.
    وَقَفَ بُولُسُ فِي وَسَطِهِمْ ليعزيهم وينشطهم في ذلك الوقت وقت الضيق والخطر.
    كَانَ يَنْبَغِي... أَنْ تُذْعِنُوا لِي ذكرهم تحذيره إيّاهم قبلاً ليريهم أنه لم يتكلم بدون علم واختبار أو سلطان من الله. ولم تكن غايته من ذلك توبيخهم لرفضهم إنذاره بل كانت رغبته في أن يحملهم على قبول نصحه في ما بعد.
    وَلاَ تُقْلِعُوا مِنْ كِرِيتَ أي من المواني الحسنة التي كانوا لاجئين إليها.
    هٰذَا ٱلضَّرَرِ وَٱلْخَسَارَةِ اللذين حذّرهم منهما (ع ١٠).
    ٢٢ «وَٱلآنَ أُنْذِرُكُمْ أَنْ تُسَرُّوا، لأَنَّهُ لاَ تَكُونُ خَسَارَةُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ إِلاَّ ٱلسَّفِينَةَ».
    أُنْذِرُكُمْ المراد بالإنذار هنا الإنذار الممزوج بالنصح لأنه نصحهم أن يسروا بسلامة النفوس مع الإنذار بانكسار السفينة.
    أَنْ تُسَرُّوا فيجب أن تقبلوا النصح الآن ولا ترفضوه كما رفضتم الإنذار قبلاً لأني أتيت كلاً منهما عن علم ويقين. وما أنذرتكم به من الضرر والخسران مقصور على السفينة دون النفوس. ولا بد من أن كلامه أنشأ فيهم فرحاً ورجاء عظيماً في وقت حزنهم ويأسهم (ع ٢٠).
    ٢٣ «لأَنَّهُ وَقَفَ بِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ مَلاَكُ ٱلإِلٰهِ ٱلَّذِي أَنَا لَهُ وَٱلَّذِي أَعْبُدُهُ»
    ص ٢٣: ١١ دانيال ٦: ١٦ ورومية ١: ٩ و٢تيموثاوس ١: ٣
    أيّد دعوته إيّاهم إلى السرور بأنباء رسول من السماء وأبان أن نصحه لم يكن من آرائه الخاصة.
    وَقَفَ بِي أي قرب إليّ حتى استطعت أن أراه وأسمع كلامه.
    ٱلإِلٰهِ أكثر الناس الذين خاطبهم كانوا وثنيين وهم عساكر رومانيون وملاحون مصريون وهم عبدة آلهة كثيرة فشهد لهم بالإله الواحد الحق.
    ٱلَّذِي أَنَا لَهُ لأنه خلقني ويأمرني بما يشاء ويحميني لأني من خاصته.
    ٱلَّذِي أَعْبُدُهُ عبادة دائمة تامة اختيارية باعتبار أني مسيحي وأني مبشر بإنجيله.
    ٢٤ «قَائِلاً: لاَ تَخَفْ يَا بُولُسُ. يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَقِفَ أَمَامَ قَيْصَرَ. وَهُوَذَا قَدْ وَهَبَكَ ٱللّٰهُ جَمِيعَ ٱلْمُسَافِرِينَ مَعَكَ».
    لاَ تَخَفْ هذا خطاب تشجيع كالذي خُوطب به في بداءة خدمته في أفسس (ص ١٨: ٩).
    أَمَامَ قَيْصَرَ الأمبراطور نيرون (ص ٢٥: ٨ - ١٢ و٢١: ٢٦: ٣٢). ووقوف بولس أمام قيصر يستلزم نجاته من البحر.
    هُوَذَا هذا تنبيه على أمر عجيب. علم بولس أنه يذهب إلى رومية لكنه لم يعلم أن ذهابه إلى هناك مقترنة به نجاة كل المسافرين معه من الموت. نتيجة وجود الرسول في تلك السفينة خلاف نتيجة وجود يونان النبي في السفينة السائرة من يافا إلى ترشيش. كان يونان هارباً من الله فجعل كل الذين معه في خطر الموت. وأما بولس وهو ذاهب في خدمة الله فكان سبب نجاة لجميع من معه.
    وَهَبَكَ ٱللّٰهُ دليلاً على رضاه إنقاذ نفوس كل رفقائه. والهبة هي العطية بلا عوض. فكثيراً ما يحصل الأشرار على بركات لوجود الأخيار بينهم. والدليل على ذلك قول الله لإبراهيم أنه يعفو عن كل أشرار سدوم إن وجد بينهم عشرة أبرار.
    ٢٥، ٢٦ «٢٥ لِذٰلِكَ سُرُّوا أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، لأَنِّي أُومِنُ بِٱللّٰهِ أَنَّهُ يَكُونُ هٰكَذَا كَمَا قِيلَ لِي. ٢٦ وَلٰكِنْ لاَ بُدَّ أَنْ نَقَعَ عَلَى جَزِيرَةٍ».
    لوقا ١: ٤٥ ورومية ٤: ٢٠ و٢١ و٢تيموثاوس ١: ٢٢ ص ٢٨: ١
    لِذٰلِكَ أي لوعد الله بواسطة الملاك.
    أُومِنُ بِٱللّٰهِ أي أثق بوعده المذكور.
    عَلَى جَزِيرَةٍ الظاهر أن الله لم يعلن له اسم الجزيرة.
    ٢٧ «فَلَمَّا كَانَتِ ٱللَّيْلَةُ ٱلرَّابِعَةُ عَشَرَةُ، وَنَحْنُ نُحْمَلُ تَائِهِينَ فِي بَحْرِ أَدْرِيَا، ظَنَّ ٱلنُّوتِيَّةُ نَحْوَ نِصْفِ ٱللَّيْلِ أَنَّهُمُ ٱقْتَرَبُوا إِلَى بَرٍّ».
    ٱللَّيْلَةُ ٱلرَّابِعَةُ عَشَرَةُ للإقلاع من كريت.
    بَحْرِ أَدْرِيَا الجزء المتوسط من بحر الروم وهو بين صقلية (أي سيسيليا) وبلاد اليونان لا خليج أدريا المعروف اليوم وهو قرب البندقية.
    ٱلنُّوتِيَّةُ أي الملاحون الذين كانوا في السفينة قبل أن أستأجرها يوليوس وهم مختبروا أمور البحر أكثر من سائر من كانوا في السفينة.
    أَنَّهُمُ ٱقْتَرَبُوا إِلَى بَرٍّ المرجح أن علّة ظنهم ذلك سمعهم صوت صدم الأمواج للصخور في شاطئ مجهول.
    ٢٨ «فَقَاسُوا وَوَجَدُوا عِشْرِينَ قَامَةً. وَلَمَّا مَضَوْا قَلِيلاً قَاسُوا أَيْضاً فَوَجَدُوا خَمْسَ عَشَرَةَ قَامَةً».
    فَقَاسُوا بأن علقوا بحبل دقيق قوي جسماً ثقيلاً غلب أن يكون رصاصاً ودلوه في البحر حتى بلغ القرار.
    عِشْرِينَ قَامَةً أي عشرين مثل طول الإنسان وأكثر المقاييس في كل لغات الأرض أُخذت أصلاً عن أعضاء الإنسان كالذراع والشبر والفتر والأصبع والقدم الخ. وكانت نتيجة قياسهم دليلاً على صحة ظنهم.
    خَمْسَ عَشَرَةَ قَامَةً هذا الفرق في تلك المدة القليلة دليل على سرعة اقترابهم من البر. ولم يعرفوا صفة البر الذي كانوا يقتربون إليه لشدة ظلام الليل.
    ٢٩ «وَإِذْ كَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَقَعُوا عَلَى مَوَاضِعَ صَعْبَةٍ، رَمَوْا مِنَ ٱلْمُؤَخَّرِ أَرْبَعَ مَرَاسٍ، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ ٱلنَّهَارُ».
    مَوَاضِعَ صَعْبَةٍ لكثرة الصخور فيها فإنه إذا ارتطمت السفينة في مواضع صخرية كان خطر الغرق أعظم مما إذا ارتطمت في مواضع رملية.
    أَرْبَعَ مَرَاسٍ لا نعلم لماذا استحسنوا إلقاء المراسي من المؤخر لا المقدم. وذكر لوقا ذلك يدل على كونه خلاف العادة. وعلى بعض آثار هركولانيوم أحد مدن إيطاليا التي طمرتها مقذوفات بركان يزوف صورة سفينة ملقاة المرساة من المؤخر وكان طمر تلك المدينة مدة وجيزة بعد سفر بولس المذكور هنا. وكانت السفن القديمة قليلة الفرق بين المقدم والمؤخر.وكانوا يكثرون المراسي لخفتها.
    يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ ٱلنَّهَارُ أي يرغبون كثيراً في طلوع النهار لكي يروا ما عليهم من الخوف وما لهم من الأمل ويتخذوا وسائل الوصول إلى البر سالمين.
    ٣٠ «وَلَمَّا كَانَ ٱلنُّوتِيَّةُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَهْرُبُوا مِنَ ٱلسَّفِينَةِ، وَأَنْزَلُوا ٱلْقَارِبَ إِلَى ٱلْبَحْرِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَمُدُّوا مَرَاسِيَ مِنَ ٱلْمُقَدَّمِ».
    ٱلنُّوتِيَّةُ قال هذا ليميّزهم عن العسكر والأسرى وسائر الركاب.
    أَنْ يَهْرُبُوا توقعوا انكسار السفينة وأن لا وسيلة لبلوغهم البر سالمين سوى القارب الصغير وعلموا أنه لا يسعهم والآخرين فاعتمدوا أن يستولوا عليه وينفردوا به ويخلصوا غير ملتفتين إلى ما يصيب غيرهم. وكان من حب الذات القبيح أن يعتنوا بأنفسهم فقط ويزيدوا خطر الباقين لأنهم كانوا يجهلون تدبير السفن ويعجزون عن اتخاذ وسائل النجاة.
    أَنْزَلُوا ٱلْقَارِبَ الذي رفعوه من البحر وهم تحت كلودي (ع ١٦ و١٧).
    بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ الخ لعلهم أنه إذا عرف الباقون غايتهم منعوهم من إدراكها فتظاهروا أن قصدهم أن يطرحوا المراسي من مقدم السفينة كما طرحوا من مؤخرها. ولا بد من أن الباقين قبلوا تلك الحجة ولولا معارضة بولس لخُدعوا بها جميعاً. وكثيراً ما حدث مثل هذا الخداع في مثل تلك الحال.
    ٣١ «قَالَ بُولُسُ لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ وَٱلْعَسْكَرِ: إِنْ لَمْ يَبْقَ هٰؤُلاَءِ فِي ٱلسَّفِينَةِ فَأَنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْجُوا».
    هذه المرة الثالثة في هذا السفر قام بولس الأسير مقام المشير بغية النفع العام. فإنه أدرك قصد الملاحين إما بفطنته الطبيعية أو بالإعلان الإلهي والمرتان قبلها ذُكرتا في (ع ١٠ و٢١).
    لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ وَٱلْعَسْكَرِ لم يقل بولس شيئاً للملاحين لمعرفته أن قوله لهم عبثٌ لكنه أخبر يوليوس والعسكر بقصد الملاحين لعلمه أن الطبع يحملهم على اتخاذ الوسائل إلى منعهم من مقصدهم.
    لم يجعل بولس وعد الله له بالحفظ والنجاة حجة عن تركه الوسائط المؤدية إليهما.
    إِنْ لَمْ يَبْقَ هٰؤُلاَءِ... لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْجُوا إنكم تهلكون غرقاً. وليس في هذا منافاة لقوله في الآية الثانية والعشرين ما مفاده أنهم ينجون كلهم لأن قصد الله نجاتهم من الهرب. فإذا فرضنا ترك الوسائل وجب أن نفرض بطلان القصد لارتباط كل منهما بالآخر. كذلك مقاصد الله في خلاص الخطأة يشتمل على استعمال الإنسان الوسائط المرتبطة بها وهي التوبة والإيمان والسيرة المقدسة فمن يعذر نفسه عن إهمال التوبة بقوله «إذا كان الله قد قضى بخلاصي خلصت لا محالة اجتهدت أم لم أجتهد» فعليه أن يقابل هذه الآية بالآية الثانية والعشرين ليرى سقوط عذره ووهم حجته.
    ٣٢ «حِينَئِذٍ قَطَعَ ٱلْعَسْكَرُ حِبَالَ ٱلْقَارِبِ وَتَرَكُوهُ يَسْقُطُ».
    ظهر من الآية الثلاثين أن الملاحين أنزلوا القارب إلى البحر ويظهر من هذه الآية أنه لم يبلغ سطح البحر ولم يدخله الملاحون فقطع العسكر الحبال التي كان معلقاً بها فسقط وتاه وامتنع الملاحون من الهرب وأُجبروا على البقاء والسعي في نجاة الجميع لينجوا هم.
    ٣٣ «وَحَتَّى قَارَبَ أَنْ يَصِيرَ ٱلنَّهَارُ كَانَ بُولُسُ يَطْلُبُ إِلَى ٱلْجَمِيعِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا طَعَاماً، قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱلْيَوْمُ ٱلرَّابِعُ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ لاَ تَزَالُونَ صَائِمِينَ، وَلَمْ تَأْخُذُوا شَيْئاً».
    هذه المرة الرابعة قام بولس مقام المدبّر والمرشد لكل ما في السفينة إلى ما يجب فعله استعداداً لما يتوقع فأظهر بنصحه حكمته وشفقته على الجميع والعناية بهم.
    حَتَّى قَارَبَ ٱلنَّهَارُ نفهم من ذلك أن بولس شغل الوقت من منتصف الليل حين ألقوا المراسي إلى قرب طلوع الفجر يشجع كل فرد منهم ويحثه لى تناول الطعام فكأنه هو وحده بقي صاحياً مطمئناً.
    ٱلْيَوْمُ ٱلرَّابِعُ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ انتهاء الزوبعة وبلوغ النجاة أو انكسار السفينة والهلاك فكنتم في كل تلك المدة مضطربي الأفكار غافلين عن الواجبات العادية لسلامة أجسادكم.
    لاَ تَزَالُونَ صَائِمِينَ لم يرد بالصيام هنا كل الانقطاع عن الطعام لأنهم لو انقطعوا كذلك لهلكوا بل أراد أنهم لم يتناولوا الطعام الكافي للتغذية لأن الاضطراب الناشئ من الريح وهيجان البحر عاق الخدم عن تهيئة الطعام العادية. ولعل الموج كان يقع في السفينة فيعطل بعض الأطعمة. ولعلهم طرحوا بعض الأطعمة في البحر تخفيفاً عن السفينة وما بقي منها لم يكن مما يهيّج شهوة الطعام ويقوي الآكلين. وكانت الأحوال قد منعت من الأكل في أوقاته فتشوش النظام وانتفى تأثر العادة في تناول الطعام. وليس من أدنى دليل على أن هذا الصوم كان لغاية دينية.
    وَلَمْ تَأْخُذُوا شَيْئاً كافياً.
    ٣٤ «لِذٰلِكَ أَلْتَمِسُ مِنْكُمْ أَنْ تَتَنَاوَلُوا طَعَاماً، لأَنَّ هٰذَا يَكُونُ مُفِيداً لِنَجَاتِكُمْ، لأَنَّهُ لاَ تَسْقُطُ شَعْرَةٌ مِنْ رَأْسِ وَاحِدٍ مِنْكُمْ».
    ١ملوك ١: ٥٢ ومتّى ١٠: ٣٠ ولوقا ١٢: ٧ و٢١: ١٨
    لِذٰلِكَ أي لامتناعكم تلك المدة عن الطعام الكافي ولوهنكم الناتج عن ذلك وعدم قدرتكم على احتمال مقاومة الأمواج وبرد الماء عند انكسار السفينة وعومكم على البحر ولأن الصوم الطويل يضر بصحتكم في المستقبل.
    مُفِيداً لِنَجَاتِكُمْ أي إحدى الوسائط الضرورية لها.
    لاَ تَسْقُطُ شَعْرَةٌ الخ هذا كلام جار مجرى المثل ومعناه السلام التام (١ملوك ١: ٥٢ و١صموئيل ١٤: ٤٥). كانت الأحوال مقتضية القوة الجسدية والقوة القلبية والأولى من منشآت الطعام والثانية من منشآت الرجاء المستفاد من هذا التوكيد.
    ٣٥ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ ٱللّٰهَ أَمَامَ ٱلْجَمِيعِ، وَكَسَّرَ، وَٱبْتَدَأَ يَأْكُلُ».
    ١صموئيل ٩: ١٣ ومتّى ١٦: ٣٦ ومرقس ٨: ٦ ويوحنا ٦: ١١ و١تيموثاوس ٤: ٣ و٤
    أَخَذَ خُبْزاً الخ أكل أمامهم ليقتدوا به ولم يغفل عن عادة كل المسيحيين تقديم الشكر لله عند تناولهم مواهبه (متّى ١٥: ٣٦ و٢٦: ٢٧ ويوحنا ٦: ١١ و٢٣ ورومية ١٤: ٦ و١كورنثوس ١٠: ٣٠ و١١: ٢٤ و١٤: ١٧ وأفسس ٥: ٢٠ و١تسالونيكي ٥: ١٨
    ٣٦، ٣٧ «٣٦ فَصَارَ ٱلْجَمِيعُ مَسْرُورِينَ وَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً طَعَاماً. ٣٧ وَكُنَّا فِي ٱلسَّفِينَةِ جَمِيعُ ٱلأَنْفُسِ مِئَتَيْنِ وَسِتَّةً وَسَبْعِينَ».
    كانت نتيجة أقوال بولس وفعله تشجيعهم وتأميلهم فإنهم شرعوا يأكلون وينتعشون.
    وَكُنَّا فِي ٱلسَّفِينَةِ الخ أي نحن الذين أكلنا كل الأنفس التي في السفينة وهي مئتان وست وسبعون نفساً وهم ليسوا أكثر ممن كانت تحملهم كبار السفن في تلك الأيام. فإن يوسيفوس قال أن السفينة التي كان مسافراً فيها انكسرت وفيها ست مئة نفس. وكان يوسيفوس من رجال ذلك القرن.
    ٣٨ «وَلَمَّا شَبِعُوا مِنَ ٱلطَّعَامِ طَفِقُوا يُخَفِّفُونَ ٱلسَّفِينَةَ طَارِحِينَ ٱلْحِنْطَةَ فِي ٱلْبَحْرِ».
    وَلَمَّا شَبِعُوا مِنَ ٱلطَّعَامِ هذه أول مرة شبعوا من الطعام منذ ابتداء الزوبعة.
    طَفِقُوا كل الذين في السفينة.
    يُخَفِّفُونَ ٱلسَّفِينَةَ لكي تقرب إلى البر أكثر ما يمكن قبل أن ترتطم وبقربها تقلّ المسافة على السابح.
    طَارِحِينَ ٱلْحِنْطَةَ هذه الواسطة لتخفيف السفينة. لعل الحنطة كانت قد تجمعت حينئذ في جانب واحد من السفينة لميلها إلى جهة واحدة بهبوب الريح المستمر وعسر على الملاحين أن يجروها وهي مائلة إلى حيث شاءوا وقد عرفوا أن السفينة تنكسر ولم يبق نفع من حفظ الحنطة. قيل في الآية الخامسة أن تلك السفينة من اسكندرية وأنها ذاهبة إلى إيطاليا ولم يذكر ما هو محمولها إلا هنا. والحنطة مما اعتادت سفن اسكندرية أن تحملها من مصر إلى إيطاليا وهذا مما يدل على صحة هذه القصة.
    ٣٩ «وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ ٱلأَرْضَ، وَلٰكِنَّهُمْ أَبْصَرُوا خَلِيجاً لَهُ شَاطِئٌ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ ٱلسَّفِينَةَ إِنْ أَمْكَنَهُمْ».
    لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ ٱلأَرْضَ لم يروا فيها علامات تذكرهم أنهم أتوها قبلاً. فإن قيل لماذا لم يعرف الملاحون مليطة وهي على طريقهم المعتادة بين إيطاليا ومصر فالجواب أنهم اعتادوا أن يدخلوا بها مرفأ فالتّة فرضة تلك الجزيرة. ولكن الموضع الذي بلغوه وقتئذ كان على أمد سبعة أميال من تلك الفرضة شرقاً وليس هنالك من جبال أو أكم تُعرف بها ولو عرفوا الأرض لعرفوا الموضع الأوفق للإرساء أو الاندفاع.
    خَلِيجاً لَهُ شَاطِئٌ الخليج جزء من البحر داخل في البر والمراد بالشاطئ هنا شط من الرمل لا الصخور الراسية.
    فَأَجْمَعُوا أي اتفقوا في الرأي.
    إِنْ أَمْكَنَهُمْ هذا يدل على أنهم كانوا في شك من الإمكان.
    ٤٠ «فَلَمَّا نَزَعُوا ٱلْمَرَاسِيَ تَارِكِينَ إِيَّاهَا فِي ٱلْبَحْرِ، وَحَلُّوا رُبُطَ ٱلدَّفَّةِ أَيْضاً، رَفَعُوا قِلْعاً لِلرِّيحِ ٱلْهَابَّةِ، وَأَقْبَلُوا إِلَى ٱلشَّاطِئِ».
    نَزَعُوا ٱلْمَرَاسِيَ الأرجح أنهم قصوا حبالها.
    حَلُّوا رُبُطَ ٱلدَّفَّةِ المراد بالدفة هنا آلة توجيه السفينة وكان بمنزلتها قديماً مجذافان في مؤخر المركب كما مرّ في شرح (ع ٩). سبق في (ع ٢٢) أنهم رموا من المؤخر أربع مراس فاقتضى ذلك أن يربطوا المجدافين لئلا تشتبك بحبال المراسي ولما قطعوا تلك الحبال وأرادوا إجراء السفينة حلوا الرُبط.
    رَفَعُوا قِلْعاً لِلرِّيحِ هذا دليل على أن الريح كانت متوجهة إلى البر كما دل على ذلك ما ذُكر قبل طرح المراسي في منتصف الليل (ع ٢٨).
    أَقْبَلُوا إِلَى ٱلشَّاطِئِ بتوجيه السفينة إليه.
    ٤١ «وَإِذْ وَقَعُوا عَلَى مَوْضِعٍ بَيْنَ بَحْرَيْنِ، شَطَّطُوا ٱلسَّفِينَةَ، فَٱرْتَكَزَ ٱلْمُقَدَّمُ وَلَبِثَ لاَ يَتَحَرَّكُ. وَأَمَّا ٱلْمؤَخَّرُ فَكَانَ يَنْحَلُّ مِنْ عُنْفِ ٱلأَمْوَاجِ».
    ٢كورنثوس ١١: ٢٥
    وَإِذْ وَقَعُوا عَلَى مَوْضِعٍ أي صاروا إليه بلا قصد.
    بَيْنَ بَحْرَيْنِ الأرجح أن معنى البحرين هنا تياران متقابلان ومن شأن هذين التيارين أن يجمعا الرمل ركاماً مثل لسان في البحر وهذا اللسان إن لم يكن ظاهراً فوق سطح البحر كان كافياً لمنع مجاوزة السفنية إياه. ويحتمل أن المراد بالبحرين جزآن من البحر أحدهما الذي كانت السفينة فيه والثاني بين البر وجزيرة صغيرة اسمها سلمونتّا. وكان عرض هذا الجزء نحو مئة وثلاثين ذراعاً. وكان بين تلك الجزيرة والشبر تيار قوي دائم. فهنالك علة كافية لاندفاع السفينة وارتطامها على الاحتمالين.
    شَطَّطُوا ٱلسَّفِينَةَ أي أدنوها من الشاطئ إلى حيث ارتطمت على أمد منه وهم لم يقصدوا أن ترتطم بل أن يبغلوا بها الخليج. والأرجح أن مرتطمها كان لسان الرمل الذي يمتد من طرف جزيرة سلمونتا الشرقي قبالة خليج صغير يُعرف اليوم بخليج مار بولس.
    فَٱرْتَكَزَ ٱلْمُقَدَّمُ وَلَبِثَ أي دخل في الرمل وتمكّن لأن السفينة كانت مدفوعة بقوة الريح.
    وَأَمَّا ٱلْمؤَخَّرُ فَكَانَ يَنْحَلُّ لأنه كان عرضة لصدم الأمواج دون المقدم ومن الطبع أنه إذا كان جزء من السفينة ثابت في المرتطم وجزء آخر بلا عماد وكان هذا التفكك وسيلة للنجاة للذين لم يحسنوا السباحة (ع ٤٤).
    ٤٢ «فَكَانَ رَأْيُ ٱلْعَسْكَرِ أَنْ يَقْتُلُوا ٱلأَسْرَى لِئَلاَّ يَسْبَحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَهْرُبَ».
    يَقْتُلُوا ٱلأَسْرَى بولس والمذكورين في (ع ١) فما قصده العسكر هنا شر مما قصده الملاحون في (ع ٣٠) فإن مقصد العسكر نتيجة القساوة ومقصد الملاحين نتيجة حب الذات. على أن ما حمل العسكر على هذه القساوة شدة شريعة الرومانيين العسكرية وهي وجوب قتل الجندي الذي يسمح لأسير يحرسه بالهرب (انظر شرح ص ١٦: ١٩ و١٦: ٢٧). فقصد العسكر ما هو مناف للعدل والإنسانية والشريعة خشية أن يعرضوا أنفسهم للعقاب بهرب أحد الأسرى.
    ٤٣ «وَلٰكِنَّ قَائِدَ ٱلْمِئَةِ، إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُخَلِّصَ بُولُسَ، مَنَعَهُمْ مِنْ هٰذَا ٱلرَّأْيِ، وَأَمَرَ أَنَّ ٱلْقَادِرِينَ عَلَى ٱلسِّبَاحَةِ يَرْمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً فَيَخْرُجُونَ إِلَى ٱلْبَرِّ».
    قَائِدَ ٱلْمِئَةِ، إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُخَلِّصَ بُولُسَ مال يوليوس إلى بولس من بداءة السفر وأظهر له اللطف (ع ٣) وزاد ميله إليه لما رأى فيه من الحكمة والفطنة وإخلاص النصح ولا سيما البراهين على كونه في حراسة إلهية.
    مَنَعَهُمْ مِنْ هٰذَا ٱلرَّأْيِ يظهر من هذا أن يوليوس لولا إرادته نجاة بولس لم يمنع العسكر من قتل الأسرى فإذاً هو حفظ حياة الأسرى إكراماً لعبده لبولس.
    وَأَمَرَ الخ أي الأسرى والأرجح أنه كان قد أمر أن ترفع السلاسل عنهم. وفضل الخطر من هرب واحد على أن يقتل صديقه بولس. ولعله رجا أن لا يهرب أحد منهم وأنه يمسكه إن هرب. ونفوذ الأوامر في مثل تلك الأحوال دليل على حسن نظام العسكر الروماني.
    ٤٤ «وَٱلْبَاقِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَلْوَاحٍ وَبَعْضُهُمْ عَلَى قِطَعٍ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ. فَهٰكَذَا حَدَثَ أَنَّ ٱلْجَمِيعَ نَجَوْا إِلَى ٱلْبَرِّ».
    ع ٢٢
    وَٱلْبَاقِينَ أي الذين لا يحسنون السباحة.
    قِطَعٍ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ لأنها انحلّت بعنف الأمواج (ع ٤١).
    ٱلْجَمِيعَ نَجَوْا إِلَى ٱلْبَرِّ بعناية الله الخاصة على وفق وعده تعالى (ع ٢٢ و٢٣). وكانوا جميعاً ٢٧٦ نفساً من عسكر وملاحين وأسرى وغيرهم من الركاب (ع ٣٧). وهذه نجاة رابعة لبولس من الغرق بعد انكسار السفينة التي كان فيها. ونجاة الجميع كانت برهاناً على صدق بولس في كل ما قاله الأول التنبيه على الخطر (ع ١٠) والثاني أن الله وهبه نفوس جميع الذين سافروا معه ووعده أنه ينجيهم (ع ٢٤ و٣٤) وأن السفينة تنكسر وأنهم يقعون على جزيرة (ع ٢٦). وكل ذلك أثبت أن الإله الذي خدمه بولس وعبده هو الإله الحق وأنه قدير ورحيم.
    كما حفظ الله بولس يحفظ كل من يتقونه من كل أخطار السفر براً وبحراً. فعليهم أن يطمئنوا ويثقوا أنه كما أوصل بولس إلى الشاطئ بعد مشقات السفر وأهواله كذلك يوصل شعبه إلى شاطئ السلام السماوي بعد مصائب بحر هذه الحياة.


    الأصحاح الثامن والعشرون


    بولس في مليطة ع ١ إلى ١١


    ١ «وَلَمَّا نَجَوْا وَجَدُوا أَنَّ ٱلْجَزِيرَةَ تُدْعَى مَلِيطَةَ».
    ص ٢٧: ٢٦
    وَجَدُوا أي علموا من السكان أو ملاحي السفينة الذين أتوا الجزيرة وما عرفوها إلا بعد وصولهم إليها.
    مَلِيطَةَ أي مالطة وهي جزيرة صغيرة طولها سبعة عشر ميلاً وعرضها تسعة أميال وموقعها جنوبي صقلية (أو سيسيليا) وعلى أمد ستين ميلاً منها. سكانها فينيقيون أصلاً. ومما يؤكد أن تلك الجزيرة مالطة الاسم وأن الجزيرة التي تدفع الريح الشمالية الشرقية إليها لا تكون غير مالطة ولا خطر على مثل تلك السفينة أن تندفع إلى السيرتس (ص ٢٧: ١٧) إلا في جهة تلك الجزيرة. والمسافة بين مالطة وكريت (وهي ٤٨٠ ميلاً) هي التي يتوقع أن تقطعها السفينة مدفوعة بلا شراع في نحو ١٤ يوماً لأنها قطعت نحو ٣٤ ميلاً في اليوم. ووجود خليج في مالطة اسمه الآن خليج بولس يوافق ما ذكره لوقا في نبإ انكسار السفينة. ورأس جزيرة سلمونتا في مدخل ذلك الخليج موافق لموضع ارتطامها المذكور. وجزء البحر الفاصل بين سلمونتا ومالطة على وفق قوله «وَقَعُوا عَلَى مَوْضِعٍ بَيْنَ بَحْرَيْنِ» (ص ٢٧: ٤١).
    ٢ «فَقَدَّمَ أَهْلُهَا ٱلْبَرَابِرَةُ لَنَا إِحْسَاناً غَيْرَ ٱلْمُعْتَادِ، لأَنَّهُمْ أَوْقَدُوا نَاراً وَقَبِلُوا جَمِيعَنَا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَطَرِ ٱلَّذِي أَصَابَنَا وَمِنْ أَجْلِ ٱلْبَرْدِ».
    رومية ١: ١٤ و١كورنثوس ١٤: ١١ وكولوسي ٣: ١١
    ٱلْبَرَابِرَةُ سمّى اليونانيون والرومانيون كل من لا يتكلم بلغتيهما بربرياً كما سمّى العرب من لا يتكلم بلغتهم أعجمياً وإذ كان أهل مليطة لا يحسنون اليونانية ولا اللاتينية دعاهم برابرة فهو ليس بدليل على توحشهم أو قلة تمدّنهم. وكذا جاء معنى البربري في (رومية ١: ١٤ وكولوسي ٣: ١١).
    لَنَا إِحْسَاناً كانوا جميعاً في غاية الاحتياج إليه لأنهم فقدوا كل أهبتهم بانكسار السفينة. وكانت أجسامهم قد ضعفت من الصوم والمشقات مدة الزوبعة وقد تبللوا وأعفوا من مصادمة الأمواج وهم يسبحون.
    قَبِلُوا جَمِيعَنَا أي قاموا بضيافتنا.
    ٱلْمَطَرِ ٱلَّذِي أَصَابَنَا على أثر الزوبعة.
    ٱلْبَرْدِ كان أول تشرين الثاني وهو زمن البرد هناك والريح الشمالية الشرقية هابة وهي تأتي من جبال إيطاليا العالية المغطاة بالثلج.
    ٣ «فَجَمَعَ بُولُسُ كَثِيراً مِنَ ٱلْقُضْبَانِ وَوَضَعَهَا عَلَى ٱلنَّارِ، فَخَرَجَتْ مِنَ ٱلْحَرَارَةِ أَفْعَى وَنَشِبَتْ فِي يَدِهِ».
    اشتغل بولس سابقاً مع الباقين بتخفيف السفينة (ص ٢٧: ١٩) وأخذ هنا يشتغل معهم بجمع الوقيد وكان ذلك وسيلة إلى بيان كونه تحت العناية الإلهية الخاصة على وفق قول المسيح في المؤمنين «يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ، وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ» (مرقس ١٦: ١٨).
    أَفْعَى حيّة سامة كانت مترحية تحت العيدان جامدة من البرد كالميت فلما أحست بحرارة النار انتعشت وغضبت.
    نَشِبَتْ فِي يَدِهِ أي علقت بإدخال أنيابها فيها.
    ٤ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْبَرَابِرَةُ ٱلْوَحْشَ مُعَلَّقاً بِيَدِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لاَ بُدَّ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ قَاتِلٌ، لَمْ يَدَعْهُ ٱلْعَدْلُ يَحْيَا وَلَوْ نَجَا مِنَ ٱلْبَحْرِ».
    ٱلْوَحْشَ أي الحيّة البريّة.
    هٰذَا ٱلإِنْسَانَ قَاتِلٌ علموا أن لدغ الأفعى يقتل لا محالة ورأوا من أحوال بولس أنه أسير وظنوه مرتكباً إثماً فظيعاً لأنه كان مرسلاً إلى رومية للمحاكمة واعتقدوا أن مصابه بقضاء إلهي على إثمه فحكموا بأنه قاتل لأن إثم القتل هو الذي يوجب على مرتكبه الموت وكانوا ككثيرين ممن يرون أن بلية الإنسان الخاصة عقاب له على إثم خاص أبداً (انظر شرح يوحنا ٩: ١ - ٣).
    لَمْ يَدَعْهُ ٱلْعَدْلُ يَحْيَا أي أماته الإله العادل فإنه هو الذي اتخذ الأفعى آلة لإجراء قضائه. ومبدأ هذا الراي حق لأنه من غريزة الإنسان الاعتقاد أن الإله العادل لا يترك الأثيم بلا عقاب لكنهم أخطأوا باعتبارهم كل مصاب عقاباً على إثم برهاناً على غضب الله. وكان أخطاؤهم كأخطاء أصحاب أيوب إذ حكموا بأن كل بلاياه نتيجة آثامه.
    ٥ «فَنَفَضَ هُوَ ٱلْوَحْشَ إِلَى ٱلنَّارِ وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِشَيْءٍ رَدِيءٍ».
    مرقس ١٦: ١٨ ولوقا ١٠: ١٩
    هذا دليل على أن الله وقاه من الموت بمعجزة.
    ٦ «وَأَمَّا هُمْ فَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ أَنَّهُ عَتِيدٌ أَنْ يَنْتَفِخَ أَوْ يَسْقُطَ بَغْتَةً مَيْتاً. فَإِذِ ٱنْتَظَرُوا كَثِيراً وَرَأَوْا أَنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ شَيْءٌ مُضِرٌّ، تَغَيَّرُوا وَقَالُوا: هُوَ إِلٰهٌ!».
    ص ١٤: ١١
    يَنْتَفِخَ أَوْ يَسْقُطَ بَغْتَةً مَيْتاً توقعوا ذلك لما عرفوه من اختبارهم أعراض لدغ الأفعى.
    تَغَيَّرُوا وَقَالُوا: هُوَ إِلٰهٌ! لأنهم تيقنوا هلاك كل إنسان لدغته الأفعى وأن من لدغته الأفعى ولم يمت فهو ليس بقابل الموت فيلزم أنه أحد الآلهة الخالدة. وكان تغير أفكارهم كتغير أفكار أهل لسترة لكن أهل لسترة ظنوه أولاً إلهاً ثم ظنوه أثيماً مستحقاً الموت ورجموه وأهل مليطة ظنوه أولاً اثيماً مستحقاً الموت ثم اعتبروه إلهاً (ص ١٤: ١١ و١٨).
    ٧ «وَكَانَ فِي مَا حَوْلَ ذٰلِكَ ٱلْمَوْضِعِ ضِيَاعٌ لِمُقَدَّمِ ٱلْجَزِيرَةِ ٱلَّذِي ٱسْمُهُ بُوبْلِيُوسُ. فَهٰذَا قَبِلَنَا وَأَضَافَنَا بِمُلاَطَفَةٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ».
    ذٰلِكَ ٱلْمَوْضِعِ أي الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة.
    مُقَدَّمِ ٱلْجَزِيرَةِ أي عظيمها مقاماً وثروة والأرجح أنه حاكمها بأمر الرومانيين لأن تلك الجزيرة كانت من أملاك رومية واسمه بوبليوس يدل على أنه روماني.
    قَبِلَنَا قبل يوليوس القائد وبولس ورفقاءه.
    ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ الأرجح أن هذه الأيام هي المدة التي شغلها يوليوس بإعداد منزل خاص لمن كانوا تحت عنايته في السفينة.
    ٨ «فَحَدَثَ أَنَّ أَبَا بُوبْلِيُوسَ كَانَ مُضْطَجِعاً مُعْتَرىً بِحُمَّى وَسَحْجٍ. فَدَخَلَ إِلَيْهِ بُولُسُ وَصَلَّى، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ فَشَفَاهُ».
    يعقوب ٥: ١٤ و١٥ مرقس ٦: ٥ و١٦: ١٨ ولوقا ٤: ٤٠ وص ١٩: ١١ و١٢ و١كورنثوس ١٢: ٩ و٢٨
    سَحْجٍ مرض في الإمعاء يُعرف اليوم بالدوسنطاريا أي الزّحار. فكان وجود بولس في بيت بوبليوس بركة لأهله كما كان بالسفينة بركة لأهلها. وكان شفاء الله لأبي بوبليوس إثابة له على معروفه وشهادة بصحة دين المسيح الذي آمن به بولس.
    وَصَلَّى كما فعل بطرس حين أقام طابيثا (ص ٩: ٤٠) وبذلك نال قوة على فعل المعجزة واعترف علناً بأنه لم يفعلها بقوة نفسه بل بقوة معبوده.
    فَشَفَاهُ تم بهذا الجزء الثاني من وعد المسيح في (مرقس ١٦: ٢٨) وهو قوله «وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى ٱلْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ» وتم الأول في (ع ٥).
    ٩ «فَلَمَّا صَارَ هٰذَا، كَانَ ٱلْبَاقُونَ ٱلَّذِينَ بِهِمْ أَمْرَاضٌ فِي ٱلْجَزِيرَةِ يَأْتُونَ وَيُشْفَوْنَ».
    كان شفاء أبي بوبليوس سبيلاً لشفاء كثيرين والكلام يدل على أن بولس شفى مرضى الجزيرة الذين أمكنهم الوصول إليه لأنه كان أسيراً فلم يكن له أن يذهب إليهم. ولا عجب من أن بولس استطاع ذلك كله لأن سكان الجزيرة كانوا يومئذ قليلين وإقامة بولس بها كانت طويلة نحو ثلاثة أشهر.
    ١٠ «فَأَكْرَمَنَا هٰؤُلاَءِ إِكْرَامَاتٍ كَثِيرَةً. وَلَمَّا أَقْلَعْنَا زَوَّدُونَا بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ».
    متّى ١٥: ٦ و١تيموثاوس ٥: ١٧
    ذُكرت هنا نتيجتان من معجزات بولس هناك وهما إكرام الناس إياه ورفاقه مدة إقامتهم وإتيانهم إياهم بالهدايا عند سفرهم. ولا شك في أن بولس لم يعتبر إكرامهم إياه سوى وسيلة إلى إكرام ربه وانتشار دينه. وأنه كان كلما شفى الناس من أمراضهم يشهد على مسامعهم ليسوع بأنه الطبيب الروحاني الشافي أمراض النفس والواهب الحياة الأبدية. أما تلك الهدايا فكانت مما يحتاجون إليه في بقية سفرهم من القوت والكسوة لأنهم فقدوا كل أهبتهم بانكسار السفينة فباتوا في شديد الحاجة.

    سفر بولس من مليطة إلى رومية وأسره فيها ع ١١ إلى ٣١


    ١١ «وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ أَقْلَعْنَا فِي سَفِينَةٍ إِسْكَنْدَرِيَّةٍ مَوْسُومَةٍ بِعَلاَمَةِ ٱلْجَوْزَاءِ، كَانَتْ قَدْ شَتَتْ فِي ٱلْجَزِيرَةِ».
    بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ من انكسار السفينة أو أول تشرين الثاني فيكون وقت سفرهم الجديد أول شباط وهذا الشهر كان محسوباً عندهم أول الزمن الموافق للسفر في البحر.
    سَفِينَةٍ إِسْكَنْدَرِيَّةٍ كالسفينة التي أتوا فيها من ميرا (ص ٢٧: ٦). والأرجح أنها كانت حاملة حنطة كتلك.
    مَوْسُومَةٍ أي عليها علامة هي صورة أو كتابة في مقدمها جُعلت لها مميزاً عن غيرها.
    ٱلْجَوْزَاءِ برج في السماء على صورة شخصين كانا على ما في أساطير الرومانيين توأمين على الأرض وهما ابنا زفس وليدا اسم أحدهما كستور (Castor) والثاني بُلكس (Pollux) عرجا إلى السماء وصارا إلهين لحراسة الملاحين وصورتهما هي البرج المعروف بالتوأمين وبالجوزاء. وذكر ذلك الرسم لوقا لأنه شاهده فكتب كما رأى وتذكر.
    كَانَتْ قَدْ شَتَتْ فِي ٱلْجَزِيرَةِ لأنها لم تستطع بلوغ إيطاليا قبل بداءة الشتاء فخشيت الخطر ولجأت إلى مليطة والمرجح أن المرفأ التي رست فيه وخرجت منه هو المعروف اليوم بقالتة. ولا ريب في أن تلك السفينة التي انكسرت علاوة على ما كان فيها من الركاب والأحمال.
    ١٢ «فَنَزَلْنَا إِلَى سِيرَاكُوسَ وَمَكَثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ».
    سِيرَاكُوسَ مدينة في الجانب الشرقي من صقلية (سيسيليا) كانت قديماً قصبة الجزيرة وعلى غاية من الاشتهار لكنها سقطت أخيراً عن منزلتها السالفة. وهي على أمد ثمانين ميلاً من مالطة.
    وَمَكَثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ المرجح أن علّة ذلك سكون الريح أو مضادتها.
    ١٣ «ثُمَّ مِنْ هُنَاكَ دُرْنَا وَأَقْبَلْنَا إِلَى رِيغِيُونَ. وَبَعْدَ يَوْمٍ وَاحِدٍ حَدَثَتْ رِيحٌ جَنُوبٌ، فَجِئْنَا فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّانِي إِلَى بُوطِيُولِي».
    دُرْنَا نفهم من ذلك أن الريح منعتهم من السير بالاستقامة إلى حيث قصدوا.
    رِيغِيُونَ هي مدينة على الجنوب الغربي من إيطاليا اسمها اليوم ريجيو قبالة مدينة ميسينا في صقلية.
    رِيحٌ جَنُوبٌ كانت على غاية الموافقة لقصدهم جاوزا بها زقاق ماسينا وهو جزء من البحر بين إيطاليا وسيسيليا.
    بُوطِيُولِي مدينة في غربي إيطاليا تسمى اليوم بوزيولي تبعد عن ريغيون مئة ميل وثمانين ميلاً عن نابولي ثمانية أميال جنوباً غربياً. وبوطيولي هي الفرضة التي تفرغ فيها السفن الآتية من الاسكندرية ولم يزل قائماً فيها بعض الابنية التي كانت في عصر بولس. واشتهرت فوق اشتهارها بأنها فرضة بحماماتها الحارة الطبيعية.
    ١٤ «حَيْثُ وَجَدْنَا إِخْوَةً فَطَلَبُوا إِلَيْنَا أَنْ نَمْكُثَ عِنْدَهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَهٰكَذَا أَتَيْنَا إِلَى رُومِيَةَ».
    حَيْثُ وَجَدْنَا إِخْوَةً عرفنا من الرسالة التي كتبها بولس الرسول إلى رومية قبل ذلك بثلاث سنين بوجود إخوة في تلك المدينة. فوجود إخوة في بوطيولي مما يتوقع لأن كل الذين يأتون من اليهودية إلى رومية لا بد لهم من المرور في بوطيولي. ووجود الإخوة فيها دليل على كثرة انتشار الإنجيل في أماكن مختلفة.
    نَمْكُثَ عِنْدَهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ الأرجح أن يوليوس سمح لبولس بذلك لأنه أظهر له مثل هذا اللطف في أول السفر (ص ٢٧: ٣ و٤) وما رآه منه في أثناء ذلك زاده لطفاً ومعروفاً له.
    وَهٰكَذَا أَتَيْنَا إِلَى رُومِيَةَ أي بعد كل ما ذُكر من الإقامات والنقلات والتغييرات وما يتعلق بذلك وصلنا إلى المدينة المقصودة. والمسافة بين بوطيولي ورومية ١٤٠ ميلاً.
    ١٥ «وَمِنْ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعَ ٱلإِخْوَةُ بِخَبَرِنَا، خَرَجُوا لٱسْتِقْبَالِنَا إِلَى فُورُنِ أَبِّيُوسَ وَٱلثَّلاَثَةِ ٱلْحَوَانِيتِ. فَلَمَّا رَآهُمْ بُولُسُ شَكَرَ ٱللّٰهَ وَتَشَجَّعَ».
    بعدما ذكر لوقا وصولهم إلى رومية ذكر بالتفصيل أحوال السفر من بوطيولي إليها.
    وَمِنْ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعَ ٱلإِخْوَةُ كانت إقامتهم في بوطيولي سبعة أيام فرصة لإنباء الإخوة في رومية بوصول بولس إلى بوطيولي وقدومه إليهم.
    خَرَجُوا لٱسْتِقْبَالِنَا إكراماً ومودة لنا. والأرجح أنه كان من أولئك المستقبلين أكيلا وبريسكلا وغيرهما ممن ذُكروا في رومية (ص ١٦).
    فُورُنِ أَبِّيُوسَ سوق على سكة أبيا وهي الطريق السلطانيّة بين بوطيولي ورومية وهي على غاية مئة ميل من الأولى وأربعين ميلاً من الأخرى.
    ٱلثَّلاَثَةِ ٱلْحَوَانِيتِ مكان سمّي بذلك لعدة فنادق فيه وهو أقرب إلى رومية من بوطيولي بعشرة أميال وجد بولس فيه جماعة أخرى من الإخوة.
    شَكَرَ ٱللّٰهَ وَتَشَجَّعَ أما شكره لله فعلى حفظه تعالى حياته في مخاطر كثيرة إتماماً لوعده إياه بالوقاية ولأنه قدر له أن يشاهد مسيحي رومية الذي كان يشتاق أن يراهم منذ زمن طويل (رومية ١: ٩ - ١١ و١٥: ٢٣ و٣٢). وأما تشجعه فلأجل احتمال ما يتوقعه في المستقبل من الأتعاب والمشقات. وكثيراً ما كانت المخالطة الأخوية واسطة تعزية وانتعاش للمسيحي في أتعاب هذه الحياة وأحزانها.
    توقع بولس منذ زمن طويل أن يجيء إلى رومية ولعله انتظر أن يدخلها رئيساً لجنود الرب ويُخضعها لسيده يسوع المسيح وعلى هذا قال أنا «مُسْتَعَدٌّ لِتَبْشِيرِكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ فِي رُومِيَةَ أَيْضاً، لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاَصِ» (رومية ١: ١٥ و١٦). ولم يخطر على باله أنه يدخلها أسيراً. ولعل منافاة ما توقعه لما صار إليه أوقعته في الحزن واليأس فإنه وهو على الطريق قبل التقائه بالإخوة تأمل في أحواله فرأى أنه طعن في السن وعليه آثار سجنه سنتين في قيصرية وأنه نجا بالجهد من الغرق وأنه يُقاد أسيراً. ولا ريب في أنه شعر من ذلك بأنه كمتروك بلا مساعد لكنه لما اجتمع بإخوته انتعشت روحه وتجددت آماله بهم ولا سيما أن وجودهم بشرّه بأن يجد في رومية صديقه الأفضل غير المنظور الذي لم يتركه من يوم ظهر له وهو على طريق دمشق.
    ١٦ «وَلَمَّا أَتَيْنَا إِلَى رُومِيَةَ سَلَّمَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ٱلأَسْرَى إِلَى رَئِيسِ ٱلْمُعَسْكَرِ، وَأَمَّا بُولُسُ فَأُذِنَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ وَحْدَهُ مَعَ ٱلْعَسْكَرِيِّ ٱلَّذِي كَانَ يَحْرُسُهُ».
    ص ٢٤: ٢٥ و٢٧: ٣
    ما في هذه الآية الخامسة عشرة بيان معاملة كنيسة رومية لبولس وما في هذه الآية بيان معاملة أرباب الحكومة له.
    سَلَّمَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ٱلأَسْرَى وبهذا انتهت مأمورية يوليوس على بولس وسائر الأسرى.
    إِلَى رَئِيسِ ٱلْمُعَسْكَرِ وهو بُرحُس (Burrhus).
    أَمَّا بُولُسُ فَأُذِنَ لَهُ خاصة دون غيره والذي أذن له برحس لا يوليوس لأن مأموريته عليه كانت قد انتهت لكنه لا ريب في أنه شهد حسناً لبولس وهذا إحدى علل الرفق ببولس ومن تلك العلل أيضاًم ما كتبه فستوس الوالي في أمره.
    وَحْدَهُ أي منفرداً عن سائر الأسرى في السجن العام.
    مَعَ ٱلْعَسْكَرِيِّ لم يرد بهذا عسكرياً بعينه إنما أراد بيان كيف كان يُحرس وهو أنه كان يُربط بسلسلة إلى أحد العسكر وقتاً معيناً ثم يُربط إلى آخر بدلاً منه على التوالي. وكانت عادة الرومانيين أن يأتوا ذلك البدل ست مرات في اليوم كما يرجح فيحرس كل عسكري أربع ساعات. وأشار بولس إلى هذه الحال في (ع ٢٠) وفي الرسالتين التي كتبها وهو في رومية (أفسس ٢: ٢٠ وفيلبي ١: ٧ و١٣ و١٦ وكولوسي ٤: ١٨).
    ١٧ «وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ٱسْتَدْعَى بُولُسُ ٱلَّذِينَ كَانُوا وُجُوهَ ٱلْيَهُودِ. فَلَمَّا ٱجْتَمَعُوا قَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، مَعَ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ شَيْئاً ضِدَّ ٱلشَّعْبِ أَوْ عَوَائِدِ ٱلآبَاءِ، أُسْلِمْتُ مُقَيَّداً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَيْدِي ٱلرُّومَانِ».
    ص ٢٤: ١٢ و١٣ و٢٥: ٨ ص ٢١: ٣٢
    وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لعل هذه الأيام مرّت عليه قبل أن استأجر البيت ورتبه.
    ٱسْتَدْعَى بُولُسُ... وُجُوهَ ٱلْيَهُودِ لأمرين الأول تبيينه لهم أنه لم يخطئ إلى اليهود بشيء. والثاني تبشيرهم بأن يسوع هو المسيح. كان كلوديوس قد نفى اليهود من رومية قبل ذلك بنحو اثنتي عشرة سنة لكنهم رجعوا إليها شيئاً فشيئاً بلا معارضة ولم يكن عددهم في تلك المدينة أقل من ستين ألفاً وكان لهم في تلك المدينة سبعة مجامع وجزء خاص بهم. واستدعاؤه وجوه اليهود لا يلزم منه إهمال الإخوة المسيحيين الذين رحبوا به وخرجوا لاستقباله لأنه جرى به على عادته في كل مدينة دخلها وهي أن يبشر بالمسيح من فيها من اليهود أولاً ولا بد من أنه كان يفضل أن يجول من مجمع إلى آخر للتعليم والتبشير لكن الأحوال لم تسمح له فاتخذ بيته مجمعاً لليهود يومئذ كما جعله بعد ذلك مجمعاً للقادمين إلى قصبة المملكة الرومانية من كل أقطار المسكونة.
    ٱلإِخْوَةُ جنساً وديناً.
    ضِدَّ ٱلشَّعْبِ أَوْ عَوَائِدِ ٱلآبَاءِ هذا ما برهنه في احتجاجه أمام فيلكس (ص ٢٤: ١٤ - ١٦) وقدام فستوس وأغريباس (ص ٢٦: ٦ - ٨ و٢١ - ٢٣). نعم أنه علّم صحة الدين المسيحي وأن ممارسة الرسوم الموسوية وشرائعها الرمزية ليست ضرورية للخلاص. لكن لا منافاة في هذه الآية لذلك التعليم لأنه اعتبر الدين المسيحي مكملاً للدين اليهودي وأن هذا الزهر وذاك الثمر الناضج وأن المسيحي الغيور هو الإسرائيلي الحقيقي.
    أُسْلِمْتُ... إِلَى أَيْدِي ٱلرُّومَانِ نسب إلى اليهود تسليمه إلى الرومانيين لأن اجتهادهم في محاولة قتله في الهيكل كان علة لقبض الرومانيين عليه أولاً وشكايتهم عليه إلى فيلكس وفستوس وطلبهم الحكم عليه علة بقائه مقيداً عندهم.
    ١٨ «ٱلَّذِينَ لَمَّا فَحَصُوا كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُطْلِقُونِي، لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِيَّ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لِلْمَوْتِ».
    ص ٢٢: ٢٤ و٢٤: ١٠ و٢٥: ٨ و٢٦: ٣١
    ما في هذه الآية موافق لما قيل في (ص ٢٤: ١٠ - ٢٧ و٢٥: ٨ و٩ و٢٦: ٣١ و٣٢) ومكمل له.
    ١٩ «وَلٰكِنْ لَمَّا قَاوَمَ ٱلْيَهُودُ، ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَرْفَعَ دَعْوَايَ إِلَى قَيْصَرَ لَيْسَ كَأَنَّ لِي شَيْئاً لأَشْتَكِيَ بِهِ عَلَى أُمَّتِي».
    ص ٢٥: ١١
    قَاوَمَ ٱلْيَهُودُ الذين أرادوا إطلاقي.
    ٱضْطُرِرْتُ... إِلَى قَيْصَرَ كما ذُكر في (ص ٢٥: ١١) إذ لم يكن له غير هذه الوسيلة إلى الأمن لأن اليهود صمموا على قتله وفستوس مال إلى تسليمه إليهم لكي يودعهم منة.
    لَيْسَ كَأَنَّ لِي شَيْئاً الخ كان بولس مظلوماً من أمته ولكنه لم يشكهم بذلك تشفياً وانتقاماً وإنما رفع دعواه إلى قيصر ليحامي عن حقوقه الشخصية ويدفع عن حياته.
    ٢٠ «فَلِهٰذَا ٱلسَّبَبِ طَلَبْتُكُمْ لأَرَاكُمْ وَأُكَلِّمَكُمْ، لأَنِّي مِنْ أَجْلِ رَجَاءِ إِسْرَائِيلَ مُوثَقٌ بِهٰذِهِ ٱلسِّلْسِلَةِ».
    ص ٢٦: ٦ و٧ وص ٢٦: ٢٩ وافسس ٣: ١ و٤: ١ و٦: ٢٠ و٢تيموثاوس ١: ١٦ و٢: ٩ وفليمون ١٠ و١٣
    لِهٰذَا ٱلسَّبَبِ أي لئلا تظنوا أني أتيت إلى هنا مشتكياً على أمتي وأني خائن ديني وشعبي.
    مِنْ أَجْلِ رَجَاءِ إِسْرَائِيلَ مُوثَقٌ أي من أجل أمانته لدين آبائه كما بُيّن في شرح (ص ٢٣: ٦). وعنى «برجاء إسرائيل» الإيمان بالمسيح الموعود به في كتب أنبياء اليهود وأنه آمن بما قال أولئك الأنبياء وأن نبوآتهم تمت بيسوع. وهذا سبب الخلاف بينه وبين أمته وكونه موثقاً ومبغضاً ومشكواً عليه.
    بِهٰذِهِ ٱلسِّلْسِلَةِ التي كانت تُربط منه إلى العكسري دائماً (انظر شرح ص ٢٦: ٢٩).
    ٢١ «فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ لَمْ نَقْبَلْ كِتَابَاتٍ فِيكَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَلاَ أَحَدٌ مِنَ ٱلإِخْوَةِ جَاءَ فَأَخْبَرَنَا أَوْ تَكَلَّمَ عَنْكَ بِشَيْءٍ رَدِيٍّ».
    إن كان مرادهم بهذا الجواب أنه لم يبلغهم كتابة أو شفاهاً نبأ أمر بولس منذ توجه من قيصرية فالمحتمل أنهم تكلموا بالحق لأن فصل الشتاء حينئذ لم يمكن السفن من السفر إلى رومية لتحمل شيئاً من أنباء بولس ولم يكن في تلك الأيام من وسيلة إلى نقل الأنباء من اليهودية إلى رومية غير السفن. وإن كان معناهم أن يهود أورشليم لم يرسلوا قط كتاباً قانونياً يسألون فيه يهود رومية أن يشكوا بولس إلى نيرون فالمحتمل أيضاً أنهم صدقوا لأن يهود أورشليم يئسوا من أن نيرون يحكم على بولس بعد ما بذلوا كل جهدهم في أن ينالوه من ليسياس وفيلكس وفستوس وأغريباس الملك اليهودي. وإن كان قصدهم أنهم لم يسمعوا شيئاً من أمر بولس كالقبض عليه في الهيكل وشكاوي اليهود عليه وعللها وإبقائه في سجن قيصرية سنتين ففي قولهم شك وعلى كل أن هذا جوابهم على قول بولس في (ع ١٧ - ١٩).
    ٢٢ «وَلٰكِنَّنَا نَسْتَحْسِنُ أَنْ نَسْمَعَ مِنْكَ مَاذَا تَرَى، لأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَنَا مِنْ جِهَةِ هٰذَا ٱلْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُقَاوَمُ فِي كُلِّ مَكَانٍ».
    لوقا ٢: ٣٤ وص ٢٤: ٥ و١٤ و١بطرس ٢: ١٢ و٤: ١٤
    ما في هذه الآية جواب على قوله في (ع ٢٠) أنه موثق لتمسكه برجاء إسرائيل لا لرفضه إياه أي أن كونه مسيحياً لا ينافي كونه إسرائيلياً حقاً.
    نَسْتَحْسِنُ أَنْ نَسْمَعَ مِنْكَ أظهروا ميلهم إلى سمع آرائه المخالفة لآراء اليهود وعلى أي شيء بنى دعواه أنه لم يترك دين آبائه.
    هٰذَا ٱلْمَذْهَبِ أي المعتقد المسيحي المعروف أن بولس من الدعاة إليه.
    يُقَاوَمُ ما قالوه كان صحيحاً وقتئذ في ظاهر معناه ولم يزل كذلك إلى اليوم في أكثر أقطار المسكونة. ولكنه يستلزم أنهم لم يعرفوا من أمر الدين المسيحي غير المقاومة له وهذا من المحال لأنه كان قد مضى نحو ثلاثين سنة على موت المسيح وإنشاء الكنيسة المسيحية وكان اليهود يأتون إلى أورشليم من كل جهات الأرض ليحضروا الأعياد فيها ثم يرجعون إلى أوطانهم. فما حدث في أورشليم لا بد من أنه انتشر في كل البلاد. وكانت في رومية كنيسة مسيحية من اليهود والأمم كتب بولس إليها رسالة قبل ثلاث سنين قال فيها «اَشْكُرُ إِلٰهِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، أَنَّ إِيمَانَكُمْ يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ» (رومية ١: ٨).
    ٢٣ «فَعَيَّنُوا لَهُ يَوْماً، فَجَاءَ إِلَيْهِ كَثِيرُونَ إِلَى ٱلْمَنْزِلِ، فَطَفِقَ يَشْرَحُ لَهُمْ شَاهِداً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَمُقْنِعاً إِيَّاهُمْ مِنْ نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ بِأَمْرِ يَسُوعَ، مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى ٱلْمَسَاءِ».
    لوقا ٢٤: ٢٧ وص ١٧: ٢ و١٩: ٨ ص ٢٦: ٦ و٢٢
    فَعَيَّنُوا لَهُ يَوْماً لم تُذكر المدة بينه وبين زمن التعيين لكن القرينة تدل على أن تلك المدة كانت قصيرة.
    كَثِيرُونَ في هذا تلميح أن الذين أتوا من وجوه اليهود في اليوم المعيّن أكثر من الذين أتوا أولاً.
    يَشْرَحُ لَهُمْ شَاهِداً كما فعل في سائر خطبه في أوقات وأماكن مختلفة.
    بِمَلَكُوتِ ٱللّٰه أي ملك المسيح الذي أنبأ به الأنبياء وتم بيسوع (انظر ص ١: ٣ و٨: ١٢ و١٤: ٢٢ و١٩: ٨ و٢٠: ٢٥).
    وَمُقْنِعاً إِيَّاهُمْ ... بِأَمْرِ يَسُوعَ أنه المسيح الموعود به وأن يقبلوه ملكاً وكاهناً ومخلصاً كما في (ص ١٣: ٤٣ و١٨: ٤ و١٩: ٨ و٢٦ و٢٨: ٢٨).
    مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى ٱلْمَسَاءِ أي النهار كله فشغل بعضه بالخطاب وبعضه بالمحاورة. وهذا دليل على صبر بولس وغيرته ورغبته الشديدة في إرشاد عشيرته إلى المسيح.
    ٢٤ «فَٱقْتَنَعَ بَعْضُهُمْ بِمَا قِيلَ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا».
    ص ١٤: ٤ و١٧: ٤ و١٩: ٩
    كان تأثير خطابه هنا كتأثيره في أماكن أخر خاطب فيها اليهود (ص ١٣: ٤٣ - ٤٥ و١٤: ١ - ٤ و١٨: ٤ - ٦ و٨: ١٢ و١٩: ٨ و٩). ولم ينتظر بولس النجاح العظيم لكنه لم يترك فرصة للشهادة بالحق.
    ٢٥ «فَٱنْصَرَفُوا وَهُمْ غَيْرُ مُتَّفِقِينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، لَمَّا قَالَ بُولُسُ كَلِمَةً وَاحِدَةً: إِنَّهُ حَسَناً كَلَّمَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ آبَاءَنَا بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ».
    فَٱنْصَرَفُوا عندما فرغ بولس من الخطاب والمحاورة.
    غَيْرُ مُتَّفِقِينَ وهم في الحال المذكور في (ع ٤) والمعنى أنه اقتنع بعضهم بما قاله بولس من أن يسوع هو المسيح وأنه ترك دين آبائه بتنصره وبعضهم لم يقتنع بذلك والأرجح أنهم أظهروا أفكارهم لفظاً.
    كَلِمَةً وَاحِدَةً ختاماً لخطابه وإنذاراً لغير المؤمنين. وهي مقتبسة من إشعياء (ص ٦: ٩ و١٠) وعبّر عن الكلام «بالكلمة» لاختصاره الجديد بالنسبة إلى ما سبق من خطابه. لا آية اقتبسها العهد الجديد مراراً كهذه الآية فإنه اقتبسها ست مرات (متّى ٣: ١٤ ومرقس ٤: ١٢ ولوقا ٨: ١٠ ويوحنا ١٢: ٤٠ ورومية ١١: ٢٥ وهنا).
    ٢٦، ٢٧ «٢٦ قَائِلاً: ٱذْهَبْ إِلَى هٰذَا ٱلشَّعْبِ وَقُلْ: سَتَسْمَعُونَ سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُونَ، وَسَتَنْظُرُونَ نَظَراً وَلاَ تُبْصِرُونَ. ٢٧ لأَنَّ قَلْبَ هٰذَا ٱلشَّعْبِ قَدْ غَلُظَ، وَبِآذَانِهِمْ سَمِعُوا ثَقِيلاً، وَأَعْيُنُهُمْ أَغْمَضُوهَا. لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِأَعْيُنِهِمْ وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا، فَأَشْفِيَهُمْ».
    إشعياء ٦: ٩ وإرميا ٥: ٢١ وحزقيال ١٢: ٢ ومتّى ١٣: ١٤ و١٥ ومرقس ٤: ١٢ ولوقا ٨: ١٠ ويوحنا ١٢: ٤٠ ورومية ١١: ٨
    أمر الله إشعياء بهذا الكلام أن يذهب إلى اليهود وينادي لهم بكلامه لكنه أعلن له أن كلامه لا يؤثر في أكثرهم وأنهم يبقون في ظلمات الجهل. وأبان بولس أن هذا الكلام صدق عليهم أيضاً لأن عدم اقتناعهم بما قدمه من البراهين على أن يسوع هو المسيح ناشئ عن قصدهم عدم الاقتناع لا عن ضعف البراهين ولا عن عيّ المبرهن وهذا موافق لنبوءة إشعياء. وهذه النبوءة تمت أولاً في اليهودية أيام إشعياء وتمت ثانياً أيام المسيح وتمت ثالثاً في يهود رومية عندما بشرهم بولس. فالعماية التي اختاروها لإباءتهم أن يفتحوا عيونهم ليروا الحق أرسلها الله إليهم عقاباً على عنادهم.
    ٢٨ «فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ أَنَّ خَلاَصَ ٱللّٰهِ قَدْ أُرْسِلَ إِلَى ٱلأُمَمِ، وَهُمْ سَيَسْمَعُونَ».
    متّى ٢١: ٤١ و٤٣ وص ١٣: ٤٦ و٤٧ و١٨: ٦ و٢٢: ٢١ و٢٦: ١٧ و١٨ ورومية ١١: ١١
    فَلْيَكُنْ الفاء للتعليل أي «ليكن لعنادكم» أو اعلموا أن ما يأتي علته عنادكم.
    خَلاَصَ ٱللّٰهِ أي التبشير به.
    أُرْسِلَ إِلَى ٱلأُمَمِ كما كان في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٤٦). وفي كورنثوس (ص ١٨: ٦). وما صدق على اليهود في رومية وغيرها يومئذ لا يزال يصدق عليهم إلى هذه الساعة. أنهم بقوا في عمى القلب وقساوته التي اختاروها وسمح الله بأن ببقوا فيها عقاباً لهم على رفضهم الحق ومعظم نجاح التشبير بالإنجيل كان بين الأمم.
    وَهُمْ سَيَسْمَعُونَ أي أن كثيرون منهم يقبلون التبشير وينالون الخلاص المبشر به.
    ٢٩ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا مَضَى ٱلْيَهُودُ وَلَهُمْ مُبَاحَثَةٌ كَثِيرَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ».
    هذا مكرر ما في (ع ٢٥) ومبيّن نتيجة كل ما سبق من تعليم وإنذار.
    ٣٠ «وَأَقَامَ بُولُسُ سَنَتَينِ كَامِلَتَيْنِ فِي بَيْتٍ ٱسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ. وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ إِلَيْهِ».
    سَنَتَينِ كَامِلَتَيْنِ أي سنة ٦١ و٦٢ ومضى عليه هذا الوقت وهو متوقع المحاكمة عند نيرون وعلة ذلك تقديم الشهود من أماكن بعيدة مختلفة كان بولس قد بشر فيها ليشهدوا «مُفْسِداً وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ بَيْنَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَسْكُونَةِ» (ص ٢٤: ٥ و٦) وانشغال نيرون بأمور أخرى. والأرجح أن بولس كان ينفق مما أعطاه إياه أصدقاؤه في أماكن مختلفة (فيلبي ٤: ١٠ - ١٤).
    فِي بَيْتٍ ٱسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ وكان تحت تصرفه إلا أنه كان عليه شرطان الأول أن لا يخرج من ذلك البيت والثاني أن يكون معه عسكري روماني مقيدة يده بيده (فيلبي ١: ٩ - ١٦ و٢٣ وكولوسي ٤: ١٨).
    وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ الخ ممن كانوا في المدينة وممن أتوها من كافة الولايات الرومانية وكانوا يأتون إليه للصداقة وبعضهم بغية أن يروه ويسمعوا لكونه مشهوراً والبعض رغبة في سمع الإنجيل منه وبعضهم ممن أرسلوا إليه. وفي قول الكاتب «يقبل الجميع» تلميح أنه لا يقدر أن يذهب إليهم.
    ٣١ «كَارِزاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَمُعَلِّماً بِأَمْرِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ، بِلاَ مَانِعٍ».
    ص ٤: ٣١ وأفسس ٦: ١٩
    في هذه الآية أنباء بما شغل بولس به الوقت فإنه لم يتقضّ عليه وهو آيس وبطال بل كان غيوراً مجتهداً نشيطاً ينفع كل من يأتي إليه وينفع بهؤلاء غيرهم.
    كَارِزاً مبشراً كما في (ص ٨: ٥ و٩: ٢٠ و١٠: ٤٢ و١٩: ١٣ و٢٠ و٢٥).
    بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ (انظر شرح ع ٢٣).
    وَمُعَلِّماً أي منادياً ومفسراً (ص ١٥: ٣٥ و١٨: ٢٥ و٢٠: ٢٠). والكرازة والتعليم يشتملان على كل وسائط إعلان الحق شفاهاً وهذا لم يكن بلا نفع (انظر فيلبي ١: ١ - ١٤). فكان واسطة إيمان أُنسيمس وعبد فليمون من كولوسي أرجعه بولس إلى سيده مع رسالة منه (فليمون ١٠). وكان يبشر العساكر التي هي من كتيبة أوغسطس أو حرس الأمبراطور وكانوا كثيري العدد لأنهم كانوا يتبدلون وتنصر بعضهم كما ظهر من قوله لأهل فيلبي «ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلإِنْجِيلِ، حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ» (فيلبي ١: ١٢ و١٣). وكتب إليهم أيضاً قوله «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ ٱلْقِدِّيسِينَ وَلاَ سِيَّمَا ٱلَّذِينَ مِنْ بَيْتِ قَيْصَرَ» (فيلبي ٤: ٢٢).
    بِأَمْرِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ الموعود به فإنه ملك شعب إسرائيل وكاهنه ونبيه.
    بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ أي بتمام الحرية في التكلم مظهراً كل الحق بلا محاباة. والنعمة المساعدة على ذلك طلبها الرسل في صلواتهم (ص ٤: ٢٩) ووهبها الله لهم إجابة لطلبهم (ص ٤: ٣١). وأبان بولس أنها ضرورية في ممارسة التبشير (١تسالونيكي ٢: ٢ وأفسس ٦: ١٩ و٢٠ وفيلبي ١: ٢٠).
    كان بولس وهو مسجون في رومية يرسل مبشرين إلى جهات مختلفة ويقبلهم متى رجعوا إليه ويعلمهم وأرسل رسائل إلى الكنائس التي أنشأها منها كنائس فيلبي وكولوسي وأفسس ورسالة إلى فليمون وبذلك جعل رومية مركزاً جديداً لنشر نور الإنجيل بين الأمم في كل أقطار المملكة الرومانية. وهو مع أنه أسير بلا مال ولا جيوش ولا أسلحة أسس مملكة أعظم من مملكة الرومانيين وأبقى.
    ومن رفاقه في كل ذلك الوقت أو بعضه تيموثاوس ولوقا وابفراس ومرقس وارسترخس وتيخيكس.
    بِلاَ مَانِعٍ لأن أرباب الحكومة الرومانية اعتبروا المسيحيين فرقة صغيرة من اليهود لا تأثير لها ولا خوف منها ولكن في سنة ٦٤ ثار اضطهاد شديد على المسيحيين على أثر احتراق هائل في مدينة رومية بقي نحو أسبوع فأُخرب به جزء كبير من المدينة. والمظنون أن الذي أوقد نيران ذلك الاحتراق وهو نيرون ولكي يتخلص من التهمة أتهم المسيحيين به فهيج عليهم بعض الناس وعداوتهم واضطهادهم. وختم لوقا كلامه في هذا السفر في ربيع سنة ٦١ ب. م. وبولس لم يزل في السجن للمحاكمة. وعدم ذكر لوقا ما جرى لبولس بعد ذلك من محاكمته ونتيجتها وإطلاقه وسجنه ثانية واستشهاده لا يوجب أن تحسب السفر ناقصاً لأن غاية الكاتب لم تكن سوى الأنباء بتأسيس الكنيسة المسيحية وانتشارها بين اليهود والأمم من مركز كبير إلى مثله من أورشليم إلى رومية. وأثبت في هذا السفر قول الرب لرسله «لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (ص ١: ٨).
    ونعلم من رسائل بولس التي كتبها في سجنه بعض الحوادث المتعلقة به ونستنتج منها أنه بعد أن سُجن سنتين وقف للمحاكمة وتبرأ وأُطلق ومن أدلة ذلك أنه يظهر من بعض ما كتبه توقعه سرعة التبرئة والإطلاق والمجيء إلى من كتب إليهم كقوله «فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهٰذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي ٱلإِيمَانِ» (فيلبي ١: ٢٥). وقوله «اَعْدِدْ لِي أَيْضاً مَنْزِلاً، لأَنِّي أَرْجُو أَنَّنِي بِصَلَوَاتِكُمْ سَأُوهَبُ لَكُمْ» (فليمون ٢٢).
    وما كتبه في رسالتيه إلى تيموثاوس يشير على أنه ترك رومية وزار أسيا وبلاد اليونان ومن ذلك قوله «كَمَا طَلَبْتُ إِلَيْكَ أَنْ تَمْكُثَ فِي أَفَسُسَ، إِذْ كُنْتُ أَنَا ذَاهِباً إِلَى مَكِدُونِيَّةَ» (١تيموثاوس ١: ٣). وقوله «إِلَى أَنْ أَجِيءَ ٱعْكُفْ عَلَى ٱلْقِرَاءَةِ وَٱلْوَعْظِ وَٱلتَّعْلِيمِ» (١تيموثاوس ٤: ١٣). ومنه ما يشير إلى أنه ذهب إلى جزيرة كريت وترك فيها تيطس كقوله «مِنْ أَجْلِ هٰذَا تَرَكْتُكَ فِي كِرِيتَ لِكَيْ تُكَمِّلَ تَرْتِيبَ ٱلأُمُورِ ٱلنَّاقِصَةِ» (تيطس ١: ٥). وما يبيّن أنه كان يقصد أن يشتي في نيكوبوليس وهو قوله لتيطس «بَادِرْ أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ إِلَى نِيكُوبُولِيسَ، لأَنِّي عَزَمْتُ أَنْ أُشَتِّيَ هُنَاكَ» (تيطس ٣: ١٢). ومنه ما يشير إلى أنه زار ميليتس وهو وقوله «أَمَّا تُرُوفِيمُسُ فَتَرَكْتُهُ فِي مِيلِيتُسَ مَرِيضاً» (٢تيموثاوس ٤: ٢٠). وما يشير إلى أنه زار ترواس وهو قوله «اَلرِّدَاءَ ٱلَّذِي تَرَكْتُهُ فِي تَرُوَاسَ عِنْدَ كَارْبُسَ أَحْضِرْهُ مَتَى جِئْتَ، وَٱلْكُتُبَ أَيْضاً وَلاَ سِيَّمَا ٱلرُّقُوقَ» (٢تيموثاوس ٤: ١٣). وكل هذا لا نرى وقتاً لحدوثه إلا بعد سجنه في رومية.
    والمرجح أنه قُبض على بولس ثانية وسُجن في رومية في أحوال غير الأحوال السابقة بدليل قوله «ٱلَّذِي فِيهِ أَحْتَمِلُ ٱلْمَشَقَّاتِ حَتَّى ٱلْقُيُودَ كَمُذْنِبٍ» (٢تيموثاوس ٢: ٩). وفي انتظار غير انتظاره الاول بدليل قوله «فَإِنِّي أَنَا ٱلآنَ أُسْكَبُ سَكِيباً، وَوَقْتُ ٱنْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ» (٢تيموثاوس ٤: ٦). وكان حينئذ حزيناً متروكاً من الجميع سوى لوقا ومشتاقاً لحضور تيموثاوس من أفسس وأن يحضر معه مرقس بدليل قوله «أَنْتَ تَعْلَمُ هٰذَا أَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ فِي أَسِيَّا ٱرْتَدُّوا عَنِّي» (٢تيموثاوس ١: ١٥). وقوله «بَادِرْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيَّ سَرِيعاً، لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي... وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي، وَكِرِيسْكِيسَ إِلَى غَلاَطِيَّةَ... لُوقَا وَحْدَهُ مَعِي. خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ» (٢تيموثاوس ٤: ٩ - ١١).
    وخلاصة كل ما نستنتجه من هذه الآيات وغيرها أن بولس بعد أن سُجن في رومية نحو سنتين أُطلق في سنة ٦٣ ب. م. وتقضى عليه نحو خمس سنين في التبشير بالإنجيل غربي رومية وشرقيها. وأنه قُبض عليه ثانية وأُرسل إلى رومية وشُدد عليه هناك وأنه كان منتظراً الموت ومستعداً له. وأنه وقف للمحاكمة مرة ثم أرجع إلى السجن بدليل قوله «في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني لا يُحسب عليهم لكن الرب وقف معي وقواني... فأُنقذت من فم الأسد».
    والمرجح أنه في المدة بين السجنين كتب الرسالة الأولى إلى تيموثاوس والرسالة إلى تيطس وظن الأكثرون أنه كتب أيضاً الرسالة إلى العبرانيين وأنه في سجنه الثاني كتب الرسالة الثانية إلى تيموثاوس. وأنه مات شهيداً في صيف سنة ٦٨ ب. م.


    جدول


    تاريخ حياة بولس والأمور المعاصرة لها بمقتضى الأزمنة المحققة والمرجحة

    (وأشرنا إلى المرجحة بعلامة الاستفهام)


    ب. م التاريخ الحوادث المعاصرة
    ٣٦؟ ظهور الرب لبولس وهو على طريق دمشق وتنصره أعمال ٩: ١ - ١٩
    ٣٧؟ وجوده في العربية كل سنة ٣٧ مع جزء من سنة ٣٦وسنة ٣٨ غلاطية ١: ١٥ - ١٧ موت طيباريوس وخلافة كاليغولا موت طيباريوس قيصر وخلافه كاليغولا
    ٣٨؟ رجوعه إلى دمشق وهربه منها إلى أورشليم ومن أورشليم إلى طرسوس أعمال ٩: ٢٦ - ٣٠
    ٣٩؟ في هذه السنين بشر بولس في سورية وكيليكية موت كاليغولا وخلافة كلوديوس وتولي
    ٤٠؟ متخذاً طرسوس مركز إقامته والأرجح أنه حدث أغريباس الأول اليهودية والسامرة
    ٤١؟ له فيها أكثر المصائب المذكورة في ٢كورنثوس ١١:
    ٤٢؟ ٢٤ - ٢٦ وهي جلد الرومانيين إياه مرتين واليهود
    ٤٣؟ ثلاث مرات وانكسار السفينة به خمس مرات
    ٤٤ إتيان بولس من طرسوس إلى أنطاكية أعمال ١١: ٢٦ استشهاد يعقوب أخي يوحنا أعمال ١٢: ٢ وموت هيرودس أغريباس أعمال ١٢: ٢٣ وتولي كسبيوس فادس الروماني اليهودية
    ٤٥ إتيانه مع برنابا إلى أورشليم بالإحسان زمن الجوع أعمال ١١: ٣٠
    ٤٦ بولس في أنطاكية تولي طيباريوس اسكندر اليهودية
    ٤٧ وجوده في أنطاكية
    ٤٨ سفره الأول للتبشير من أنطاكية إلى قبرس وأنطاكية تنصيب أغريباس الثاني ملكاً على خلكيس
    و بيسيدية وأيقونية ولسترة ودربة وعوده إلى أنطاكية أعمال ص ٢٥
    ٤٩ ماراً بتلك الأماكن سوى قبرس أعمال ص ١٣ وص ١٤ تولي كيومانوس اليهودية
    ٥٠ حضور بولس وبرنابا المجمع في أورشليم التئام المجمع في أورشليم
    ٥١ سفر بولس الثاني للتبشير من أنطاكية إلى كيليكية
    ٥٢ وليكأونية وغلاطية وإلى ترواس وفيلبي وتسالونيكي وبيرية وأثينا وكورنثوس أعمال ص ١٥ و١٦ و١٧ و١٨ وكتابته الرسالة الأولى إلى كورنثوس طرد كلوديوس اليهود من رومية أعمال ١٨ :٢
    ٥٣ كونه في كورنثوس وكتابته الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي تولي فيلكس اليهودية
    ٥٤ تركه كورنثوس (في الربيع) وذهابه إلى أورشليم ومنها إلى أنطاكية (في الصيف) وبداءة سفره الثالث للتبشير وبلوغه أفسس موت كلوديوس وخلافة نيرون
    ٥٥ و٥٦ وجود بولس في أفسس أعمال ص ١٩
    ٥٧ كتابته رسالة كورنثوس الأولى في أفسس (في الربيع) وذهابه إلى مكدونية (في الصيف) أعمال ٢٠: ١و ٢ وكتابته رسالة كورنثوس الثانية (في الخريف) وذهابه إلى كورنثوس أعمال ص ٢٠: ١ و٢ وكتابته الرسالة إلى غلاطية (في الشتاء)
    ٥٨ كتابته الرسالة إلى رومية وتركه كورنثوس ماراً بفيلبي وميليتس (في الربيع) أعمال ٢٠: ٣ - ٦ وذهابه إلى أورشليم والقبض عليه فيها وإرساله إلى قيصرية (في الصيف) أعمال ٢٠ - ص ٢٤
    ٥٩ أسره في قيصرية
    ٦٠ إرسال فستوس إياه إلى رومية (في الخريف) وانكسار السفنية في مالطة ومكثه هناك (في الشتاء) أعمال ص ٢٨ عزل فيلكس الوالي وتولي فستوس مكانه
    ٦١ وصوله إلى رومية (في الربيع) وأسره فيها
    ٦٢ بقاؤه أسيراً في رومية وكتابته الرسائل إلى فليمون وكولوسي وأفسس وفيلبي أعمال ص ٢٨
    ٦٣؟ إطلاقه من السجن وذهابه إلى مكدونية فيلبي ٢: ٢٤ وإلى أسيا الصغرى فليمون ٢٢
    ٦٤؟و الاحتراق الهائل في رومية واضطهاد المسيحيين
    ٦٥؟ و٦٦؟ تبشير بولس في اسيا الصغرى ومكدونية وكريت وتبشيره في أسبانيا على ما ظن بعضهم على أثره تولي جسيوس فلورس اليهودية
    ٦٧؟ كتابته الرسالة الأولى إلى تيموثاوس من مكدونية وكتابته الرسالة إلى تيطس من أفسس. والمحتمل أنه كتب الرسالة إلى العبرانيين أيضاً. ووصوله إلى نيكوبوليس (في الشتاء) والقبض عليه هناك وإرساله إلى رومية بداءة الحرب بين اليهود والرومانيين
    ٦٨؟ سجنه ثانية في رومية وكتابته الرسالة الثانية إلى تيموثاوس (في الربيع) واستشهاده (في الصيف) موت نيرون

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •