الأصحاح الثاني والعشرون

خطاب بولس على درج القلعة ع ١ إلى ٢١


١ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ وَٱلآبَاءُ، ٱسْمَعُوا ٱحْتِجَاجِي ٱلآنَ لَدَيْكُمْ».
ص ٧: ٢
ٱلإِخْوَةُ وَٱلآبَاءُ خاطبهم بولس بالكلمات التي خاطب بها استفانوس أعضاء مجلس السبعين (ص ٧: ٢) فبنعته إياهم «بالإخوة» أظهر لهم أنه وإياهم من أصل واحد وبنعته إياهم «بالآباء» أعلن إكرامه واحترامه لمن بينهم من الشيوخ والكهنة وأعضاء مجلس السبعين. ولعله كان بينهم من عرفوه قبل أن تنصر.
ٱحْتِجَاجِي غاية احتجاجه مما ظهر من كلامه إلى أن قطعوه بصراخهم أمران:
الأول: أن يريهم أنه ليس عدواً لشعب اليهود ولا لشريعتهم ولا لهيكلهم ولذلك قال أنه مولود يهودياً وأنه هذبه أفضل لاهوتيي اليهود وأنه كان غيوراً للناموس حتى اضطهد أتباع يسوع أشد الاضطهاد (ع ٣ - ٥).
الثاني: علة تحوله عن كونه مضطهداً لأتباع يسوع إلى كونه تابعاً له ومبشراً به وهي إعلان سماوي (ع ٥ - ١٦). وهذا بيّنه ثم أخذ في بيان سبب توجهه إلى الأمم (ع ١٧ - ٢٠) وحينئذ منعوه من التكلم بعد.
٢ «فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُ يُنَادِي لَهُمْ بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ أَعْطُوا سُكُوتاً أَحْرَى. فَقَالَ».
ما في هذه الآية يبرهن صحة ما ذكرناه من أنهم توقعوا أن يخاطبهم باليونانية وأنه لو خاطبهم بها لفهموا ولا بد من أنهم تلطفوا من ذلك شيئاً.
٣ «أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ كِيلِيكِيَّةَ، وَلٰكِنْ رَبَيْتُ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ مُؤَدَّباً عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ ٱلنَّامُوسِ ٱلأَبَوِيِّ. وَكُنْتُ غَيُوراً لِلّٰهِ كَمَا أَنْتُمْ جَمِيعُكُمُ ٱلْيَوْمَ».
ص ٢١: ٣٩ و٢كورنثوس ١١: ٢٢ وفيلبي ٣: ٥ تثنية ٣٣: ٣ و٢ملوك ٤: ٢٨ ولوقا ١٠: ٣٩ وص ٥: ٣٤ ص ٢٦: ٥ ص ٢١: ٢٠ وغلاطية ١: ١٤ رومية ١٠: ٢
هذه الأية دفع لتهمة أنه عدو لشعب اليهود.
وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ لا شيء بولادته في طرسوس ما ينفي شيئاً من حقوقه اليهودية لأنه كان لليهود المولودين خارج اليهودية كل الحقوق اليهودية ما لم يقترنوا بأزواج من الأمم.
رَبَيْتُ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ أي أورشليم. فإن ظن أحد أن ولادته في طرسوس تنقص شيئاً من كونه يهودياً فتربيته في المدينة المقدسة تدفع ذلك الظن.
عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ أي أنه تلميذه تعلم منه فهم الشريعة وإكرامها. وقيل أنه «أُدب عند رجليه» لأنه كانت عادة المعلمين أن يجلسوا على كراسي عالية ويجلس التلاميذ على الأرض قدامهم. وكان غمالائيل فريسياً مشهوراً وعضواً من أعضاء مجلس السبعين (انظر شرح ص ٥: ٣٤ - ٤٠). ولولا خطاب بولس هنا ما عرفنا أنه تلميذ ذلك اللاهوتي المشهور.
عَلَى تَحْقِيقِ ٱلنَّامُوسِ أشار بذلك إلى أنه كان متمسكاً بالناموس كتابة وتقليداً أشد التمسك كما يُعهد من فريسي هذّبه عالِم فريسيّ بخلاف الصدوقيين الذين استخفوا بفرائض الناموس اعتقاداً وعملاً. وهذا على وفق قول بولس في نفسه «كُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي» (غلاطية ١: ١٤). وقوله في خطابه أمام أغريباس «إَنِّي حَسَبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا ٱلأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيّاً» (ص ٢٦: ٥).
غَيُوراً لِلّٰهِ أي لاسمه ولخدمته تعالى على قدر معرفته وقتئذ لا بمجرد كتاب الناموس. وأظهر غيرته بحفظ الشريعة واضطهاد كل من لم يحفظها.
كَمَا أَنْتُمْ جَمِيعُكُمُ ٱلْيَوْمَ أي غيرتهم الظاهرة من هياجهم وصراخهم لم تزد على غيرته قبلاً بل أنها كانت أعظم من غيرتهم كما بيّن في كلامه بعد.
٤ «وَٱضْطَهَدْتُ هٰذَا ٱلطَّرِيقَ حَتَّى ٱلْمَوْتِ، مُقَيِّداً وَمُسَلِّماً إِلَى ٱلسُّجُونِ رِجَالاً وَنِسَاءً».
ص ٨: ٣ و٢٦: ٩ الخ وفيلبي ٣: ٦ و١تيموثاوس ١: ١٣
ٱضْطَهَدْتُ فأظهرت بذلك إخلاصي وشدة تمسكي بدين آبائي.
هٰذَا ٱلطَّرِيقَ أي الديانة النصرانية الجديدة كما سبق الكلام في (شرح ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣). وسمى المسيحيون ديانتهم «بالطريق» إظهاراً لانه وجدوها سبيلاً إلى الحياة الأبدية وسماها الأعداء بذلك بمعنى أن المسيحيين اختاروا السير فيها فأوجبوا على أنفسهم ما فيها من النوازل.
حَتَّى ٱلْمَوْتِ أي بلغت غاية ما يمكن من الاضطهاد.
مُقَيِّداً الخ (ص ٩: ١).
٥ «كَمَا يَشْهَدُ لِي أَيْضاً رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ وَجَمِيعُ ٱلْمَشْيَخَةِ، ٱلَّذِينَ إِذْ أَخَذْتُ أَيْضاً مِنْهُمْ رَسَائِلَ لِلإِخْوَةِ إِلَى دِمَشْقَ، ذَهَبْتُ لآتِيَ بِٱلَّذِينَ هُنَاكَ إِلَى أُورُشَلِيمَ مُقَيَّدِينَ لِكَيْ يُعَاقَبُوا».
لوقا ٢٢: ٦٦ وص ٤: ٥ ص ٩: ٢ و٢٦: ١٠ و١٢
كَمَا يَشْهَدُ أي أن ذلك أمر مشهور يمكن أن يشهد به كثيرون من الأحياء اليوم.
رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ يحتمل معناه أن رئيس الكهنة نفسه الذي أعطاه الكتابة إلى دمشق ليضطهد أتباع يسوع كان بينهم حينئذ. فإن كان هذا معناه كان رئيس الكهنة المشار إليه ثيوفيلوس لأنه كان متولياً الرئاسة في ذلك الوقت أي سنة ٣٧ ب. م (انظر شرح ص ٤: ٦) وعزله الرومانيون لكن بقي عليه الاسم كما كان يبقى على كل من تولوا هذه الرئاسة بعد عزلهم. وإن كان مراد بولس بذلك الرئيس حنانيا الرئيس الحالي فمعناه أن عنده كل سجلات أسلافه ومكتوباتهم فيمكنه أن يراجعها ويشهد بما كُتب.
ٱلْمَشْيَخَةِ أي أعضاء مجلس السبعين (ص ٤: ٥ و٩: ١ و٢). ولا ريب في أن بعضهم لم يزل حياً يذكر شاول الطرسوسي الغيور الذي منذ خمس وعشرين سنة قبل هذا كان عضواً من ذلك المجلس.
أَخَذْتُ أَيْضاً مِنْهُمْ رَسَائِلَ أي من أعضاء المجلس الذين يحكمون حكماً نهائياً في المسائل الدينية. وما هنا تفصيل وإيضاح لما قيل في (ص ٩: ٨).
لِلإِخْوَةِ إِلَى دِمَشْقَ أي ليهود دمشق والمراد أن الرسائل أُرسلت إلى شيوخ المجمع في تلك المدينة. وما يستحق الالتفات إليه هنا أن تسمية المسيحيين بعضهم بعضاً «بالإخوة» أخذوها عن مصطلح اليهود كما أخذوا غيره كثيراً من مجمعهم واصطلحوا عليه في كنيستهم.
لِكَيْ يُعَاقَبُوا بالسجن أو الجلد أو القتل.
٦ «فَحَدَثَ لِي وَأَنَا ذَاهِبٌ وَمُتَقَرِّبٌ إِلَى دِمَشْقَ أَنَّهُ نَحْوَ نِصْفِ ٱلنَّهَارِ، بَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ نُورٌ عَظِيمٌ».
ص ٩: ٣ و٢٦: ١٢ و١٣
أخذ الرسول هنا يتكلم على علة تغيّر كل أسلوب حياته وأنها ليست إلا إعلاناً إلهياً. وما ذكره بولس في خطابه يختلف قليلاً في اللفظ عما ذكره لوقا في (ص ٩:١٣ - ١٧) فراجع الشرح هناك. ونلتفت هنا إلى تفسير ما لم يُذكر هناك. وما في هذه الآية كما في الآية الثالثة من الأصحاح التاسع. والفرق أن ما قال أنه «نور هناك» قال أنه «نور عظيم هنا» وزاد أن وقت ظهوره كان في «نصف النهار».
٧ «فَسَقَطْتُ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَسَمِعْتُ صَوْتاً قَائِلاً لِي: شَاوُلُ شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟».
هذه الآية كالآية الرابعة من الأصحاح التاسع إلا أن فيها ضمير التكلم بدل ضمير الغيبة.
٨، ٩ «٨ فَأَجَبْتُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ لِي: أَنَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. ٩ وَٱلَّذِينَ كَانُوا مَعِي نَظَرُوا ٱلنُّورَ وَٱرْتَعَبُوا، وَلٰكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ ٱلَّذِي كَلَّمَنِي».
دانيال ١: ٧ وص ٩: ٧
الآية الثامنة هنا كالآية الخامسة في الأصحاح التاسع لكن زيد هنا «الناصري» وهو لقب يسوع المشهور عند العامة. والآية التاسعة كالآية السابعة هناك إلا انه ترك لفظة «المسافرون» وبدل فيها الصمت بما هو علته وهو الرعب. وفي السابعة من التاسع «يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً» وهنا «نظروا النور وارتعبوا ولكن لم يسمعوا الصوت الذي كلمني» والفرق بينهما لفظي لا معنوي. «فالصوت» في الأصحاح التاسع هو الصوت البسيط غير المشتمل على الكلمات وهنا لفظ يدل على معنى والمعنى واحد وهو أنهم لم يفهموا ما قال الذي كلم بولس. وما هنا مثل ما جاء في (يوحنا ١٢: ٢٨ - ٣٠) فإن البشير ذكر الألفاظ بعينها وبعض السامعين حسبها رعداً وبعضهم حسبها تكليم ملاك فالذين حسبوها رعداً سمعوا الصوت بمعنى سمعه في (ص ٩: ٧) ولم يسمعوه بمعنى عدم سمعه في (ص ٢٢: ٩).
١٠ «فَقُلْتُ: مَاذَا أَفْعَلُ يَا رَبُّ؟ فَقَالَ لِي ٱلرَّبُّ: قُمْ وَٱذْهَبْ إِلَى دِمَشْقَ، وَهُنَاكَ يُقَالُ لَكَ عَنْ جَمِيعِ مَا تَرَتَّبَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ».
هذه الآية كالآية ٦ من ص ٩ باختلاف لا طائل تحته.
١١ «وَإِذْ كُنْتُ لاَ أُبْصِرُ مِنْ أَجْلِ بَهَاءِ ذٰلِكَ ٱلنُّورِ، ٱقْتَادَنِي بِيَدِي ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعِي، فَجِئْتُ إِلَى دِمَشْقَ».
هذه الآية كالآية ٨ من ص ٩ إلا أنه زاد هنا على العمى علته وهي «بهاء ذلك النور».
١٢ «ثُمَّ إِنَّ حَنَانِيَّا رَجُلاً تَقِيّاً حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ، وَمَشْهُوداً لَهُ مِنْ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ ٱلسُّكَّان»
ص ٩: ١٧ ص ١٠: ٢٢ و١تيموثاوس ٣: ٧
ترك موسى في خطابه هنا ما ذُكر في (ص ٩: ١٠ - ١٦) وهو ما كان بين الرب وحنانيا من الحديث. وبسط الكلام في وصف حنانيا ليبيّن أنه من مشهوري يهود دمشق ومعتبريها وأن هذا اليهودي نفسه هو الذي أرسله المسيح إليه ليفتح عينيه ويدخله الكنيسة المسيحية. ووصفه بأنه «رجل تقي حسب الناموس وبأنه مشهود له من جميع اليهود السكان» إيماء إلى أن مثل هذا لا يقبله أخاً يهودياً لو كان مجدفاً وعدواً للناموس. وأنه لم يقبله أخاً مسيحياً إلا بأوضح البراهين على تغيره.
١٣ «أَتَى إِلَيَّ، وَوَقَفَ وَقَالَ لِي: أَيُّهَا ٱلأَخُ شَاوُلُ، أَبْصِرْ! فَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ نَظَرْتُ إِلَيْهِ».
هذا كما في (ص ٩: ١٨) إلا بالألفاظ التي عبّر بها عن عود بصره.
١٤ «فَقَالَ: إِلٰهُ آبَائِنَا ٱنْتَخَبَكَ لِتَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ، وَتُبْصِرَ ٱلْبَارَّ، وَتَسْمَعَ صَوْتاً مِنْ فَمِهِ».
ص ٣: ١٣ و٥: ٣٠ و٧: ٣٢ ص ٩: ١٥ و٢٦: ١٦ و١كورنثوس ٩: ١ و١٥: ٨ ص ٣: ١٤ و٧: ٥٢ و١كورنثوس ١١: ٢٣ وغلاطية ١: ١٢
هذه الآية كما في (ص ٩: ١٧) إلا أن بولس ذكر ما لم يذكره لوقا ولوقا ذكر ما لم يذكره بولس فأتى كلاهما الاختصار.
إِلٰهُ آبَائِنَا هذا تصريح بأن حنانيا وبولس يهوديان أصلاً كالذين كان يخاطبهم وقال ذلك ليرضيهم كما فعل استفانوس في خطابه لمجلس السبعين (ص ٧: ٢).
لِتَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ بإعلان خاص.
وَتُبْصِرَ ٱلْبَارَّ أي المسيح كما في (ص ٣: ١٤ و٧: ٥٢) وكذا دعته امرأة بيلاطس (متّى ٢٧: ١٩). والبصر هنا حقيقي لا مجازي كما هو أيضاً في (ص ٩: ١٧) وهو على وفق قوله «أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ رَبَّنَا» (١كورنثوس ٩: ١). وقوله «وَآخِرَ ٱلْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا» (١كورنثوس ١٥: ٨).
مِنْ فَمِهِ رأساً بلا وساطة الناس أو الملائكة وهذا جعل بولس مساوياً لكل من الاثني عشر رسولاً (انظر ص ١٣: ٢ وقابل به غلاطية ١: ١).
١٥ «لأَنَّكَ سَتَكُونُ لَهُ شَاهِداً لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ».
ص ٢٣: ١١ ص ٤: ٢٠ و٢٦: ١٦
شَاهِداً كواحد من الاثني عشر الذين عيّنوا ليكونوا شهود عين (أعمال ١: ٨) فلزم أنه يعاين الرب بعد قيامته (ص ٢: ٣٢) وأن الرب نفسه يرسله.
لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ يهوداً وأمماً علماء وجهلاء عبيداً وأحراراً أغنياء وفقراء بقطع النظر عما بينهم من الامتياز على اختلاف أنواعه من أميّ وشعبي وشخصي (انظر رومية ١: ١٤ وكولوسي ٣: ١١).
بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ من الرب نفسه (وذلك لا بد منه ليكون رسولاً) ومن الرؤى والوحي أيضاً وهذا لا يمنع أن يعرف بوسائل أخرى كسائر الناس.
١٦ «وَٱلآنَ لِمَاذَا تَتَوَانَى؟ قُمْ وَٱعْتَمِدْ وَٱغْسِلْ خَطَايَاكَ دَاعِياً بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
ص ٢: ٣٨ و١كورنثوس ٦: ١١ وعبرانيين ١٠: ٢٢ ص ٩: ١٤ ورومية ١٠: ١٣
ذكر لوقا في (ص ٩: ١٨) أن بولس اعتمد لكن لم يذكر ما ذكره بولس من أن حنانيا دعاه إلى المعمودية.
وَٱغْسِلْ خَطَايَاكَ الاعتماد رمز وتطهير القلب من الخطيئة مرموز إليه والأول عمل الإنسان والثاني عمل الروح القدس وكلا الأمرين واجبان.
دَاعِياً بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ اي يسوع المسيح وهذا إقرار بلاهوته وأنه ملك ومخلص وأنه الآن يعبده بهذا الاعتبار. وجعل حنانيا ذلك شرطاً واستعداداً لمعموديته.
١٧ «وَحَدَثَ لِي بَعْدَ مَا رَجَعْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَكُنْتُ أُصَلِّي فِي ٱلْهَيْكَلِ، أَنِّي حَصَلْتُ فِي غَيْبَةٍ».
ص ٩: ٢٦ و٢كورنثوس ١٢: ٢
لم يذكر بولس ما حدث له في ثلاث سنين بعد معموديته لأنه لم يحتج إليه في ذلك الخطاب فوصل إلى حديث الرؤيا التي رآها في أورشليم وقد ذُكرت في (ص ٩: ٢٦ - ٢٩ وغلاطية ١: ١٧ و١٨). وأوصله هذا إلى أصعب ما في خطابه وهو أن يبيّن بأي واسطة صار مبشراً للأمم. فاهتم أن يبيّن لهم أن ذلك التغيير متعلق بالأماكن المقدسة التي اتهمه البعض بتدنيسها وأنه لم يأت ذلك التبشير إلا بأمر الله الذي أُعلن له وهو في المدينة المقدسة وفي نفس ذلك الهيكل المقدس.
رَجَعْتُ... وَكُنْتُ أُصَلِّي فِي ٱلْهَيْكَلِ ذكر أنه فعل ذلك حين وصوله إلى أورشليم كأمر اعتاده فكأنه قال لا تظنوا أني بعد تنصري تركت الهيكل وعدلت عن الصلاة فيه. واعلموا أن كل ما أقصه عليكم حدث لي وأنا أعبد الله في الهيكل نفسه فإذاً مما يبعد عني قطع علاقاتي بالآباء والعهد القديم ومواعيد إسرائيل والناموس وهذا المكان المقدس.
أَنِّي حَصَلْتُ فِي غَيْبَةٍ الغيبة هنا حال موافقة للرؤيا الإلهية (انظر شرح ص ١٠: ١٠).
١٨ «فَرَأَيْتُهُ قَائِلاً لِي: أَسْرِعْ وَٱخْرُجْ عَاجِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ شَهَادَتَكَ عَنِّي».
ع ١٤ متّى ١٠: ١٤
فَرَأَيْتُهُ أي رأيت الذي رأيته قبلاً وأنا سائر إلى دمشق (ع ١٤) وهو البارّ أي المسيح وهي أحد المناظر والإعلانات التي ذكرها بولس (٢كورنثوس ١٢: ١).
أَسْرِعْ وَٱخْرُجْ عَاجِلاً هذا يستلزم أنه أقام بأورشليم أكثر مما يجب وأنه لا فائدة من بقائه فيها.
لاَ يَقْبَلُونَ أي لا يصدق أهل أورشليم.
شَهَادَتَكَ عَنِّي كانت تأدية الشهادة من الأمور المختصة بالرسل وبهذا القول صرّح الرب له أنه ليس رسولاً إلى أورشليم واليهود كبطرس وسائر الاثني عشر وأنه علم شدة رغبته في الإقامة بأورشليم وتبشير اليهود فيها.
١٩ «فَقُلْتُ: يَا رَبُّ، هُمْ يَعْلَمُونَ أَنِّي كُنْتُ أَحْبِسُ وَأَضْرِبُ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِكَ».
متّى ١٠: ١٧ وص ٨: ٣ وع ٤
فَقُلْتُ إيضاحاً لفكري وهو أن ما أتيته سابقاً من المقاومة للديانة المسيحية والاضطهاد لأتباعها يؤهلني لإقناع اليهود بصحة تلك الديانة لأني أستطيع أن أقنعهم بما أقنعني فإنهم يصدقون أني لم أتنصر إلا لأسباب كافية.
يُؤْمِنُونَ بِكَ أظهر بهذا أن الذي خاطبه هو المسيح.
٢٠ «وَحِينَ سُفِكَ دَمُ ٱسْتِفَانُوسَ شَهِيدِكَ كُنْتُ أَنَا وَاقِفاً وَرَاضِياً بِقَتْلِهِ، وَحَافِظاً ثِيَابَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوهُ».
ص ٧: ٥٨ لوقا ١١: ٤٨ وص ٨: ١ ورومية ١: ٣٢
ما جاء في هذه الآية ذُكر في (ص ٧: ٥٨) وذكرها بولس مثلاً من أمثلة كثيرة يمكنه أن يذكرها لليهود ليبيّن لهم غيرته السابقة للناموس لكي لا يشكوا في خلوصه وهو يبشر بأن يسوع المسيح ولكي يقتنعوا بصحة شهادته.
٢١ «فَقَالَ لِي: ٱذْهَبْ، فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى ٱلأُمَمِ بَعِيداً».
ص ٩: ١٥ و١٣: ٢ و٤٦ و٤٧ و١٨: ٦ و٢٦: ١٧ ورومية ١: ٥ و١١: ١٣ و١٥: ١٦ وغلاطية ١: ١٥ و١٦ و٢: ٧ وأفسس ٣: ٧ و٨ و١تيموثاوس ٢: ٧ و٢تيموثاوس ١: ١١
قَالَ لِي: ٱذْهَبْ لم يكن جواب المسيح له سوى تكرير الأمر. ولا بد من أنه كان صعباً على بولس أن يخبر اليهود بهذا الجواب لما فيه من التوبيخ له فلم يذكره إلا ليبيّن شدة رغبته في بذل حياته نفعاً لأمته اليهودية وأنه لم يعدل عنهم إلى الأمم إلا بأمر الرب الذي لا مردّ له. وليس في هذا ما ينافي قول لوقا أن «ٱلإِخْوَةُ أَحْدَرُوهُ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ وَأَرْسَلُوهُ إِلَى طَرْسُوسَ» (ص ٩: ٣٠) إذ المحقّق أنه لولا أمر الرب ما ترك أورشليم إجابة لإلحاح الإخوة. والبرهان على ذلك ما قيل في (ص ١٥: ١ - ٤).
سَأُرْسِلُكَ إِلَى ٱلأُمَمِ دُعي مثل هذه الدعوة ثانية في أنطاكية بإعلان الروح القدس لكنيستها (ص ١٣: ٢). وهنا أوضح بولس لليهود أنه أمر من السماء وهو في الهيكل بفعله ما اشتكوا عليه به وطلبوا قتله من أجله.

قطع خطاب بولس وأمر الأمير بجلده ونجاته من ذلك بكونه رومانياً وإقامته في المجلس ع ٢٢ إلى ٣٠


٢٢ «فَسَمِعُوا لَهُ حَتَّى هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ، ثُمَّ صَرَخُوا قَائِلِينَ: خُذْ مِثْلَ هٰذَا مِنَ ٱلأَرْضِ، لأَنَّهُ كَانَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ».
ص ٢١: ٣٦ ص ٢٥: ٢٤
هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ أي لفظة «الأمم» أو الجملة الأخيرة التي صرّح بها أن المسيح الموعود به أمر في هيكل بولس أن يعدل عن شعبه المختار إلى تبشير الأمم الغلف المبغضين مساوياً إيّاهم بأبناء إبراهيم. فمع أن الأنبياء أنبأوا بمثل هذا لم يعتقد اليهود إمكانه فذكر بولس إياه يومئذ ملأ قلوبهم حسداً وغيظاً كالجنون.
ثُمَّ صَرَخُوا قَائِلِينَ كمن فم واحد.
خُذْ إلى الموت. وصرخوا بمثل ذلك على ربه (لوقا ٢٣: ٢٨ ويوحنا ١٩: ١٥) وعلى استفانوس (ص ٧: ٥٧) ولولا العساكر فعلوا به ما فعلوه باستفانوس.
لاَ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ كما حكمنا وأردنا أن نجري الحكم لو لم يخطفه العكسر من أيدينا. فهم اتخذوا ما قاله بولس من جهة إرساله إلى الأمم دليلاً قاطعاً على صحة كل ما اتهموه به في (ص ٢١: ٢٨) وهو أنه مرتد عن الدين اليهودي ومجدف ومدنّس الهيكل.
٢٣ «وَإِذْ كَانُوا يَصِيحُونَ وَيَطْرَحُونَ ثِيَابَهُمْ وَيَرْمُونَ غُبَاراً إِلَى ٱلْجَوِّ».
كل ذلك علامة لشدة غيظهم.
يَصِيحُونَ يصرخون بغاية ما يستطيعون.
يَطْرَحُونَ ثِيَابَهُمْ إظهاراً لغيظهم. هذا ما نعلمه ولكن لا نعلم لماذا جعلوا طرحها دليلاً على ذلك ولعلهم أتوا ذلك إشارة إلى أنهم مستعدون لرجمه لو أمكنهم. أو أنهم طرحوها عنهم ليليحوا بها تشفياً لشدة انفعالهم.
يَرْمُونَ غُبَاراً إِلَى ٱلْجَوِّ كما يفعل بعض الثيران استعداداً لمقاتلة غيره ويأتي ذلك الناس علامة للنفار (ص ١٨: ٦ ومتّى ٨: ١٤). واكتفوا برمي الغبار لمنع العساكر إياهم من رمي الحجارة. وهذا لم يترك لبولس فرصة للتكلم بعد.
كان خراب أورشليم قد حان ولم يبق لها أن تبقى عامرة سوى ١٢ سنة وحينئذ أتى إليها من هو أفضل أولادها علماً وتقوى وهو معلم ملهم مملوء قلبه حباً لها حتى ودّ أن يكون «محروماً من المسيح لأجلها» فعاملته كأنه نفاية العالم ولولا حماية أسلحة الجنود الرومانيين له سفكت دمه.
٢٤ «أَمَرَ ٱلأَمِيرُ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ، قَائِلاً أَنْ يُفْحَصَ بِضَرَبَاتٍ، لِيَعْلَمَ لأَيِّ سَبَبٍ كَانُوا يَصْرُخُونَ عَلَيْهِ هٰكَذَا».
لم يفهم الأمير شيئاً من خطاب بولس لأنه بالعبرانية ولم ينل ما أمل من أن يعرف ماذا كان ذنب بولس من خطابه فتصلّب في رأيه لما رآه من غيظ الشعب وسمعه من صراخهم واعتقد أن بولس ارتكب ذنباً عظيماً وقصد أن يعذبه ليقف على حقيقة أمره بإقراره وهو تحت العذاب.
أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ كما قصد أولاً بغية أن يحميه من الشاغبين (ص ٢١: ٣٤).
يُفْحَصَ بِضَرَبَاتٍ كان الجلد أحد الطرق التي اتخذها الظالمون قديماً ليجبروا المسجونين على الإقرار بذنوبهم أي الشكوى على أنفسهم ليستريحوا من ألم الضرب فأمر الأمير به بناء على كونه من الأمور المعتادة.
٢٥ «فَلَمَّا مَدُّوهُ لِلسِّيَاطِ، قَالَ بُولُسُ لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ ٱلْوَاقِفِ: «أَيَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَجْلِدُوا إِنْسَاناً رُومَانِيّاً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْهِ؟».
ص ١٦: ٣٧
مَدُّوهُ لِلسِّيَاطِ استعداداً للجلد بالسياط المضفورة من الجلد.
لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ ٱلْوَاقِفِ الذي وكل إليه الأمير أن يُجري أمره بضرب بولس ويشاهد إجراءه. ومثله كان الذي وُكل إليه مشاهدة صلب المسيح (متّى ٢٧: ٥٤ ولوقا ٢٣: ٤٧.
أَيَجُوزُ صرّح بولس هنا بحقوقه باعتبار أنه روماني كما صرح في فيلبي (ص ١٦: ٣٧) فانظر الشرح هناك. وقصد بسؤاله أن يبيّن عدم جواز ما كان قد قصد أن يفعله لأنه كان من أعظم الذنوب في الشريعة الرومانية على ما هو المعلوم عند الجميع.
لَكُمْ يا عساكر الرومانيين المعيّنين لحراسة الحقوق الرومانية.
غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْهِ هذا يعظّم جرم الذين ضربوه وسجنوه كما صرّح بولس في (ص ١٦: ٣٧).
٢٦ «فَإِذْ سَمِعَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ذَهَبَ إِلَى ٱلأَمِيرِ، وَأَخْبَرَهُ قَائِلاً: ٱنْظُرْ مَاذَا أَنْتَ مُزْمِعٌ أَنْ تَفْعَلَ! لأَنَّ هٰذَا ٱلرَّجُلَ رُومَانِيٌّ».
رُومَانِيٌّ ممن لهم حقوق الرومانين لا أنهم من رومية (انظر ص ١٦: ٣٧ و٣٨).
٢٧ «فَجَاءَ ٱلأَمِيرُ وَقَالَ لَهُ: قُلْ لِي. أَأَنْتَ رُومَانِيٌّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ».
هذا استفهام تعجب ومعناه. أيمكن أن تكون رومانياً وأنت يهودي رفضته أمته. لم يشك القائد ولا الأمير في صحة قول بولس أنه روماني لمعرفتهما أن الذي يدّعي ذلك كذباً يعرض نفسه للموت العاجل لكن الأمير تعجب أن مثله ينال ذلك الامتياز.
٢٨ «فَأَجَابَ ٱلأَمِيرُ: أَمَّا أَنَا فَبِمَبْلَغٍ كَبِيرٍ ٱقْتَنَيْتُ هٰذِهِ ٱلرَّعَوِيَّةَ. فَقَالَ بُولُسُ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ وُلِدْتُ فِيهَا».
ينتج من ذلك أن الأمير سرياني الأصل أو يوناني وأن كونه في منصب عال في الجيش الروماني لا يوجب له الحقوق الرومانية وأن الحصول على تلك الحقوق كان عسيراً جداً لم يكن لأحد أن يمنحها سوى الأمبراطور نفسه. نعم أنه في أيام كلوديوس حين هذه المحاورة كانت امرأته ميسلينا تأخذ أوراق الرعوية منه وتبيعها بأثمان بخسة لمن تريد ولكن ذلك كان بعد أن حصل الأمير على تلك الرعوية. ولم يمكن أحد الحصول عليها قبل ذلك إلا بتأدية ثمن وافر كما قال الأمير. وقول الأمير «أنا بمبلغ اقتنيت هذه الرعوية» يتضمن قوله كيف اقتنيتها أنت.
وُلِدْتُ فِيهَا ورثها عن أبيه أو غيره من أسلافه وكونه من طرسوس لا يمنحه تلك الرعوية وإلا كان قوله سابقاً «أنا طرسوسي» (ص ٢١: ٣٩) وافياً ببيان ذلك فصرّح بحقه شيئاً ليدفع عن نفسه ألم الجلد وإهانته وليكون له فرصة أن يخاطب المجلس كما خاطب الشعب.
٢٩ «وَلِلْوَقْتِ تَنَحَّى عَنْهُ ٱلَّذِينَ كَانُوا مُزْمِعِينَ أَنْ يَفْحَصُوهُ. وَٱخْتَشَى ٱلأَمِيرُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ رُومَانِيٌّ، وَلأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَهُ».
ٱلَّذِينَ... يَفْحَصُوهُ أي العسكر حين عرفوا أنه روماني وأتوا ذلك غير متوقعين أمر الأمير كأنه مما لا بدّ منه.
ٱخْتَشَى ٱلأَمِيرُ لأن جلد الروماني جرم يوجب على مرتكبه الموت بل مده للضرب يوجب ذلك.
لأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَهُ ليمدّه للضرب (ع ٢٥) لا بقيده الأول (ص ٢١: ٣٣) لأن ذاك كان لمنعه من الهرب ولم يزل باقياً عليه (ع ٣٠).
٣٠ «وَفِي ٱلْغَدِ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ ٱلْيَقِينَ: لِمَاذَا يَشْتَكِي ٱلْيَهُودُ عَلَيْهِ؟ حَلَّهُ مِنَ ٱلرِّبَاطِ، وَأَمَرَ أَنْ يَحْضُرَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَكُلُّ مَجْمَعِهِمْ. فَأَحْضَرَ بُولُسَ وَأَقَامَهُ لَدَيْهِمْ».
فِي ٱلْغَدِ أي غد يوم إمساكه.
يَعْلَمَ ٱلْيَقِينَ مع اقتناعه عن تقرير بولس بالضرب. وكان هذا العلم من واجبات مأموريته للحكم بمقتضى العدل والمحاماة عن بولس إذا وجده بريئاً ومعاقبته إذا وجده مذنباً.
أَمَرَ أَنْ يَحْضُرَ قصد أن يسأل اليهود أنفسهم لأنه لم يعلم شيئاً من صراخ الشاغبين ولا من خطاب بولس بالعبرانية.
رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَكُلُّ مَجْمَعِهِمْ ذكر لوقا رؤساء الكهنة مع أنهم من أعضاء المجمع المذكور بعدهم لأنهم أهم الأعضاء والمجمع هنا هو مجمع السبعين.
حَلَّهُ مِنَ ٱلرِّبَاطِ أي السلسلتين المذكورتين في (ص ٢١: ٣٣) اللتين رُبط بهما منعاً له من الهرب.
فَأَحْضَرَ بُولُسَ من القلعة إلى المجلس في غير الهيكل وإلا ما أمكن الأمير أن يدخله ويأتي ببولس إليه. والظاهر أنه ترك العكسر خارجاً على مرأى منه ومسمع بدليل ما في (ص ٢٣: ١٠). وكان استفانوس قد وقف للمحاكمة أمام السبعين وبولس الذي وقف حينئذ أمامهم أسيراً كان قبلاً يجلس كواحد منهم. جعل الله رغبة الأمير في أن يعلم اليقين من أمر بولس وسيلة إلى مناداة ذلك الرسول بالحقائق أمام أعظم رؤساء اليهود المجتمعين في مجلسهم.

الأصحاح الثالث والعشرون


بولس في مجمع اليهود ع ١ إلى ١٠


١ «فَتَفَرَّسَ بُولُسُ فِي ٱلْمَجْمَعِ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، إِنِّي بِكُلِّ ضَمِيرٍ صَالِحٍ قَدْ عِشْتُ لِلّٰهِ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».
ص ٢٤: ١٦ و١كورنثوس ٤: ٤ و٢كورنثوس ١: ١٢ و٤: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٣ وعبرانيين ١٣: ١٨
فَتَفَرَّسَ بُولُسُ حضر هنالك منذ خمس وعشرين سنة مشتكياً على استفانوس أو قاضياً عليه ومن هنالك أخذ رسائل توصية إلى دمشق ليضطهد من فيها من المسيحيين (ص ٩: ١ و٢). «وتفرس في المجمع» أي نظر بإمعان ليعرف هل بينهم من عرفه سابقاً وليحكم من علمات وجوههم على صفاتهم وإحساساتهم من جهته وليعلم أي منهم فريسي وأي منهم صدوقي على ما يتبين من (ع ٦).
فِي ٱلْمَجْمَعِ أي أهل المجمع وهم سبعون رجلاً لهم الحكم في أمور أمة اليهود الدينية وبعض أمورها السياسية.
أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ ترك كلمة «الآباء» التي لفظها في خطابه على الدرج ولعله أتى ذلك عمداً ليبيّن أنه مساو لهم غير فاقد شيئاً من الحقوق التي كانت له سابقاً وهو عضو في ذلك المجمع. وكان يخاطبهم باليونانية لأنهم فهموا الخطاب هم والأمير (ع ٢٩).
بِكُلِّ ضَمِيرٍ صَالِحٍ ما في هذا الجملة مختصر كل ما أراد أن يحتج به في المجمع وأتى به خوفاً من أن يقطعوا خطابه قبل أن يفرغ منه. وفيه تصريح بأربعة أمور:

  • الأول: أنه ليس بمرتد عن ناموس موسى بل كان أميناً بكل الواجبات باعتبار كونه يهودياً.
  • الثاني: أنه بريء مما اتهمه به أعداءه من الإساءة إلى اليهود وديانتهم في ذلك الوقت وفي ما قبله.
  • الثالث: أنه اضطهد المسيحيين وهو يظن ذلك خدمة لله.
  • الرابع: أنه أتى الآن باعتبار كونه مسيحياً ما أتاه خدمة لله كقصده سابقاً فما قاله في المجلس تبرئة لنفسه كتبه في (٢تيموثاوس ١: ٣ وفي ١كورنثوس ٤: ٤ انظر أيضاً أعمال ٢٤: ١٦).


وتصريحه ببقائه أميناً بعد تنصره في كل واجباته باعتبار كونه يهودياً مبني على اعتقاده المصرّح به في كل تعاليمه أن الديانة النصرانية هي كمال الديانة اليهودية لا منافية لها. وهذا على وفق قول المسيح «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (متّى ٥: ١٧).
لِلّٰهِ مطيعاً للشريعة التي أُوحي بها فهو يعرف إخلاصي في تصرفي وصدق ما أقوله الآن.
إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ أي اضطهدت دين المسيح ويوم بشرت به فحين ظننت الدين المسيحي كذباً قاومته بكل ما استطعت وحين اقتنعت بصدقه بذلت كل جهدي في إثبات دعاويه (انظر شرح يوحنا ١٦: ٢).
٢ «فَأَمَرَ حَنَانِيَّا رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ، ٱلْوَاقِفِينَ عِنْدَهُ أَنْ يَضْرِبُوهُ عَلَى فَمِهِ».
١ملوك ٢٢: ٢٤ وإرميا ٢٠: ٢ ويوحنا ١٨: ٢٢ و٢٣
حَنَانِيَّا رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ قال يوسيفوس أن هذا الإنسان صدوقي ابن نبيديوس وأنه كان ظالماً ناهباً فكاد يميت الكهنة الصغار جوعاً بأخذه كل العشور. وبقي رئيس كهنة مدة أطول من مدة غيره من رؤساء الكهنة في ذلك العصر وهي من سنة ٤٨ ب. م إلى سنة ٥٢ ب. م ثم أرسله كيومانوس الوالي الذي قبل فيلكس مقيداً بالسلاسل إلى رومية ليحاكم أمام الأمبراطور كلوديوس فنجا هنالك من الدعوى التي أُقيمت عليه بعد مشقة عظيمة ورجع إلى أورشليم سنة ٥٧ وتولى رئاسة الكهنة في غيابه يوناثان فأبغضه فيلكس وأمر بقتله سراً. وأوقف بولس أمامه سنة ٥٨.
ظن كثيرون أن فيلكس أذن له في ممارسة الرئاسة بدون أن يُرسم ثانية إلى أن أقام أغريباس الثاني اسماعيل رئيساً. فكان كل من تولى تلك الرئاسة يلقب برئيس الكهنة مدة حياته فإذا تسميته هنا رئيساً ليست بدليل قاطع على أنه كان الرئيس القانوني.
ٱلْوَاقِفِينَ عِنْدَهُ أي أتباعه القريبين منه.
أَنْ يَضْرِبُوهُ عَلَى فَمِهِ منعاً له من التكلم وإظهاراً لكون قوله كذباً وتجديفاً فإنه اغتاظ من أن إنساناً اعتبره مذنباً مرتداً عن دين آبائه مستحقاً الموت يدّعي أنه عاش لله بضمير صالح في كل تصرفه ومن أنه بتبرئته نفسه كذّبه وسائر رؤساء الكهنة المشتكين عليه ومن أنه دعاهم «إخوة» بدلاً من أن يدعوهم «آباء» على أنه مساو ومن نجاته من تسلطهم بتصريحه بأنه روماني. والمسيح نفسه احتمل مثل هذا الظلم وتلك الإهانة من أحد خدام قيافا (يوحنا ١٨: ٢٢). وكذا ميخا النبي يوم ضربه صدقيا على الفك (٢أيام ١٨: ٢٣).
٣ «حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ بُولُسُ: سَيَضْرِبُكَ ٱللّٰهُ أَيُّهَا ٱلْحَائِطُ ٱلْمُبَيَّضُ! أَفَأَنْتَ جَالِسٌ تَحْكُمُ عَلَيَّ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ، وَأَنْتَ تَأْمُرُ بِضَرْبِي مُخَالِفاً لِلنَّامُوسِ؟».
لاويين ١٩: ٣٥ وتثنية ٢٥: ١ و٢ ويوحنا ٧: ٥١
سَيَضْرِبُكَ ٱللّٰهُ أي سيعاقبك لأنه عادل لا بد من أن يعاقب من يعوّج القضاء هكذا.
عرف بولس براءته وأن الله سيحامي عنه. فقول بولس ليس بدعاء على حنانيا بل هو نبوءة بما سيقع عليه علم به بولس بالوحي لأنه كان نبياً أو بعلمه أن الله ديّان عادل يعاقب المرائين الظالمين لا محالة. وقد أُنجزت هذه النبوءة بعد نحو خمس سنين من هذه المحاورة بدليل قول يوسيفوس «أن المشمليين القتلة فتنوا على حنانيا الرئيس فأخرجوه منها وقتلوه».
ٱلْحَائِطُ ٱلْمُبَيَّضُ أي الحسن الظاهر القبيح الباطن وكنى بذلك عن أنه مراء ومما قال فيه يوسيفوس يتضح أنه مستحق هذا اللقب. ووصف المسيح الفريسيين بمثل هذا (متّى ٣: ٢٠ و٢٧ ولوقا ١١: ٢٤). فإن حنانيا تظاهر أنه جالس في المجلس للقضاء بالعدل فدل عمله على أنه جلس هنالك ليشفي غيظه وليجري مقاصد جماعته.
جَالِسٌ تَحْكُمُ باعتبار كونك واحداً من أعضاء المجلس الذين من واجباتهم أن يعطوا المشكو عليه فرصة للدفع عن نفسه ويحكموا بمقتضى الشريعة الموسوية. وهذا كقول نيقوديموس «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ» (يوحنا ٧: ٥١ انظر أيضاً أمثال ١٨: ١٣ ولاويين ١٩: ١٥ و١٦ وخروج ٢٣: ١ و٢ وتثنية ١٩: ١٥).
مُخَالِفاً لِلنَّامُوسِ القائل «لاَ تَرْتَكِبُوا جَوْراً فِي ٱلْقَضَاءِ» (لاويين ١٩: ٣٥). فإن حنانيا خالف الناموس بأمرين الأول أمره بضرب بولس جوراً. والثاني أنه بذلك الأمر حكم عليه بأنه مذنب قبل أن يسمع احتجاجه.
فعلينا أن نلاحظ أن هذه الحادثة ليست مقصورة على شخص بولس بل عامة له وليسوع المسيح ودينه. فإن بولس صرّح في الآية الأولى بأمانته لكل مشتملات العهد القديم لأنه بإيمانه بالمسيح آمن بكل نبوآت العهد القديم وصرح بأن يسوع أكمل كل رسوم الناموس الموسوي غير ناقض شيئاً منه. والجور على بولس كان جوراً على المسيح الذي جعل نفسه وتلاميذه واحداً إذ قال «ٱلَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي» (لوقا ١٠: ١٦). وتوبيخ بولس لحنانيا لم يكن لغاية شخصية. قال المسيح لرسله «مَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ» (متّى ١٠: ١٩ و٢٠). إن بولس كان واقفاً في المجلس ليشهد للمسيح ولا ريب في أن الروح القدس علمه ما تكلم به على وفق وعده. فلا محل لقول بعضهم أنه تكلم بحدة وفرّط بشفتيه والذي يستأصل هذا الوهم أن الرب ظهر لبولس في تلك الليلة وقال له «كَمَا شَهِدْتَ بِمَا لِي فِي أُورُشَلِيمَ، هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ فِي رُومِيَةَ أَيْضاً» (ع ١١).
٤ «فَقَالَ ٱلْوَاقِفُونَ: أَتَشْتِمُ رَئِيسَ كَهَنَةِ ٱللّٰهِ؟».
فَقَالَ ٱلْوَاقِفُونَ هم الذين من حزب حنانيا ولعلهم توقفوا عن لطم بولس خجلاً من جراءته على توبيخ حنانيا أو خوفاً من الأمير بينهم واكتفوا بما قالوه توبيخاً. ومما يتوقع أن أصحاب حنانيا أعداء بولس يحسبون نبوءته وقاحة وفجوراً لأنهم لم يعلموا أنه تنبأ بأمر روح الله.
٥ «فَقَالَ بُولُسُ: لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّهُ رَئِيسُ كَهَنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: رَئِيسُ شَعْبِكَ لاَ تَقُلْ فِيهِ سُوءاً».
ص ٢٤: ١٧ خروج ٢٢: ٢٨ وجامعة ١٠: ٢٠ و٢بطرس ٢: ١٠ ويهوذا ٨
لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ... أَنَّهُ رَئِيسُ لا مانع من أن نأخذ هذا القول على ظاهر معناه لأن حنانيا أُقيم رئيساً بعد نحو أربع عشرة سنة لتنصر بولس فلم يكن له من وسيلة إلى معرفة الرؤساء في تلك المدة. ولا يلزم أن يكون رئيس الكهنة رئيس المجلس حتى أنه يعرف من مكان جلوسه. ولم يكن من عوائد رئيس الكهنة أن يلبس أثوابه الخاصة إلا عند ممارسة الخدمة في الهيكل فلا سبيل إلى معرفته من ملبوسه في كل زمان أو مكان. ويصح أن يكون معنى قول بولس أنه لم يعرفه رئيس كهنة الله لأنه ليس كذلك لأنه يجب أن يكون «رئيس كهنة الله» من أبناء هارون ويبقى كاهناً إلى أن يموت ثم يقوم مكانه آخر من أبناء هارون أيضاً وهذا الإنسان لا دليل على أنه من أبناء هارون أو على أنه رئيس بأمر إلهي إنما أقامه الناس للرشوة أو ما شاكلها. وكان في ذلك المجلس كثيرون ممن تولوا تلك الرئاسة وعُزلوا وكان من الواجب أن يكون رئيس كهنة الله مشابهاً لله بعض المشابهة في صفاته الأدبية لكن حنانيا كان على غاية المخالفة لذلك فلم يسلم بولس بأنه رئيس كهنة الله ولم يحسب أنه خالف الناموس بما قاله له.
لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ (خروج ٢٢: ٢٨) أظهر بولس باقتباسه هذا أنه عارف الناموس وذاكر إياه ومعتبره قانون حياته وسيرته وبرّر نفسه من تهمة الشتم ولم يكن كلامه اعتذاراً. فكأنه قال لم أخالف الناموس فاين رئيس كهنة الله. لأن بينكم كثيرين من رؤساء الكهنة وكثرة عددهم دليل على أنكم تركتم الناموس ولم يبق سبيل إلى معرفة رئيس الكهنة الحقيقي.
رَئِيسُ شَعْبِكَ هذا يعم كل ذي منصب سياسي أو ديني فيصدق على رئيس الكهنة الذي قال بولس أنه من المحال أن يقول فيه سوءاً. والخلاصة أن جواب بولس يشتمل على أمرين الأول أنه لم يعرف أن حنانيا رئيس كهنة الله والثاني أنه غير غافل عن الناموس.
٦ «وَلَمَّا عَلِمَ بُولُسُ أَنَّ قِسْماً مِنْهُمْ صَدُّوقِيُّونَ وَٱلآخَرَ فَرِّيسِيُّونَ، صَرَخَ فِي ٱلْمَجْمَعِ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، أَنَا فَرِّيسِيٌّ ٱبْنُ فَرِّيسِيٍّ. عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ أَنَا أُحَاكَمُ».
ص ٢٦: ٥ وفيلبي ٣: ٥ ص ٢٤: ١٥ و٢١ و٢٦: ٦ و٢٨: ٢٠
عَلِمَ بُولُسُ لأنه كان قد عرف بعضهم معرفة شخصية وعرف الآخر معرفة عامة مما شاع بين الناس.
قِسْماً مِنْهُمْ صَدُّوقِيُّونَ وَٱلآخَرَ فَرِّيسِيُّونَ وهما الفرقتان الكبيرتان في اليهود وسبق الكلام عليهما في شرح (متّى ٣: ٧) وعلم بولس فوق ذلك أن الفرقتين متفقتان على الحكم عليه لاعتقادهما أنه مقدام شيعة الناصري الضالة.
صَرَخَ لأربعة أسباب:

  • الأول: يأسه من أن الرؤساء يحكمون في أمره بالعدل والإنصاف. وغيظهم منه قد أعمى قلوبهم فاعتقدوا أنه مذنب قبل أن ينظروا في أمره.
  • الثاني: يأسه من إفادتهم إن بشرّهم بالمسيح ودينه.
  • الثالث: أن يعرف الأمير براءته مما اتهموه بما يشاهده منهم من أدلة الحسد والخصام والبغض والاضطهاد.
  • الرابع: إرشاد الروح القدس إيّاه إلى ما أتاه على وفق وعد المسيح (متّى ١٠: ١٩ و٢٠).


أَنَا فَرِّيسِيٌّ بالنظر إلى الخلاف بين الفريسيين والصدوقيين في العقائد. وأنا فريسي باعتبار كوني يهودياً قبل وبعد. وهذا لا يستلزم إنكار أنه مسيحي أيضاًً.
ٱبْنُ فَرِّيسِيٍّ فإذاً هو فريسي مولداً وتربية واقتداء بوالديه وله كل ما للفريسيين من الحقوق. وقد تأصلت فيه كل المبادئ الجوهرية التي امتاز بها الفريسيون عن غيرهم وكان كل أصدقائه ومخالطيه من تلك الفرقة.
عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ الخ أي أن الموتى كلهم ينامون وذلك الرجاء مبني على إيمانه بقيامة يسوع. وهذا موافق لقوله في الرسالة إلى أهل كورنثوس «إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ، وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضاً شُهُودَ زُورٍ لِلّٰهِ، لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ ٱللّٰهِ أَنَّهُ أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ وَهُوَ لَمْ يُقِمْهُ... وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ» (١كورنثوس ١٥: ١٣ - ٢٠). وكان بولس وسائر الرسل يسندون دائماً إيمانهم بصحة دعوة يسوع أنه المسيح إلى قيامته من الموت (ص ١٣: ٣٤ و١٧: ٣١ و٣٢ و٢٦: ٦ و٧ و٢٣: ٢٥). واتخذوا قيامة المسيح البرهان الأعظم في كل محاورتهم لليهود ومعظم موضوع مواعظهم. فاعتاظ الصدوقيون من المسيحيين كل الاغتياظ لأن تعليمهم القيامة قوّى حجة الفريسيين على الصدوقيين. ولا يلزم من قول بولس «على رجاء قيامة الأموات أنا أحاكم» إن ذلك العلة الوحيدة لمحاكمتهم إياه وبغضهم له ولكنه خصه بالذكر لأن سائر الاختلافات المتعلقة بناموس موسى ليست شيئاً بالنسبة إليه ولأنها تبطل كلها إذا ثبت وتثبت كلها إذا بطل. وقد علم بولس بمناظرته لليهود أشد التعاليم تهييجاً لبغض اليهود له ومقاومته إياه فبينه هنا وهو الشهادة بقيامة المسيح. ومثل احتجاج بولس هنا احتجاجه أما أغريباس بقوله «وَٱلآنَ أَنَا وَاقِفٌ أُحَاكَمُ عَلَى رَجَاءِ ٱلْوَعْدِ ٱلَّذِي صَارَ مِنَ ٱللّٰهِ لآبَائِنَا، ٱلَّذِي أَسْبَاطُنَا ٱلٱثْنَا عَشَرَ يَرْجُونَ نَوَالَهُ، عَابِدِينَ بِٱلْجَهْدِ لَيْلاً وَنَهَاراً. فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا ٱلرَّجَاءِ أَنَا أُحَاكَمُ مِنَ ٱلْيَهُودِ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ. لِمَاذَا يُعَدُّ عِنْدَكُمْ أَمْراً لاَ يُصَدَّقُ إِنْ أَقَامَ ٱللّٰهُ أَمْوَاتاً؟» (ص ٢٦: ٦ - ٨).
زعم بعضهم أن ما فعله بولس هنا من القاء الفتنة بين الفريقين للنجاة منهما مما لا يتوقع من مثله وحسبوه ضرباَ من الاحتيال ولكن لا داعي له إلى شيء من الحيل إذ لم يكن خائفاً لأنه ذهب إلى أورشليم وهو يتوقع «الوثق والشدائد غير محتسب لشيء» (ص ٢٠: ٢٣ و٢٤). ولم يكن عرضة للخطر لكونه في حماية الأمير وعساكره الرومانيين. وكانت غاية مجيئه إلى أورشليم الشهادة للمسيح ويئس من إفادة الصدوقيين فانتهز الفرصة الأخيرة لجذب الفريسيين إليه ((إن أمكن) ليقودهم بواسطة اعتقادهم قيامة الأموات إلى الإيمان بيسوع الذي قام من الموت.
٧ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا حَدَثَتْ مُنَازَعَةٌ بَيْنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ، وَٱنْشَقَّتِ ٱلْجَمَاعَةُ».
مُنَازَعَةٌ في تبرئة بولس أو الحكم عليه. أراد الفريسيون تبرئته والصدوقيون الحكم عليه بأنه مرتد عن الناموس ومجدف عليه ومدنس للهيكل. لأن الفريسيين حسبوا بولس أقرب إليهم في الاعتقاد من الصدوقيين ولم يروا من الحكمة الحكم على إنسان يساعدهم على الصدوقيون في أعظم ما اختلفوا عليه.
وَٱنْشَقَّتِ ٱلْجَمَاعَةُ أي أعضاء المجمع.
٨ «لأَنَّ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ قِيَامَةٌ وَلاَ مَلاَكٌ وَلاَ رُوحٌ، وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَيُقِرُّونَ بِكُلِّ ذٰلِكَ».
متّى ٢٢: ٢٣ ومرقس ١٢: ١٨ ولوقا ٢٠: ٢٧
ما في هذه الآية جاء به لوقا شرحاً للاختلاف بين الفرقتين في الاعتقاد بياناً لعلة منازعتهم مناداة بولس بالقيامة.
إِنَّهُ لَيْسَ قِيَامَةٌ اي أن الموتى لا يقومون وأنكروا فوق ذلك خلود النفس وقالوا لا حياة إلا الحياة في هذه الدنيا (انظر شرح متّى ٣: ٧ و٢٢: ٢٣).
وَلاَ مَلاَكٌ وَلاَ رُوحٌ فأنكروا بذلك الأرواح السماوية والأرواح الجهنمية وأرواح البشر منفصلة عن الأجساد ولم يُثبتوا للمخلوق سوى المادة. قال فيهم يوسيفوس أنهم نفوا خلود النفس والثواب والعقاب في العالم الآتي واعتقدوا أن النفس تموت بموت الجسد. وأن الفريسيين اعتقدوا أن نفوس البشر خالدة تُثاب أو تُعاقب وهي في الأجساد على مقتضى أعمالها الصالحة أو الشريرة. فإن قيل كيف اعتقد الصدوقيون ما اعتقدوه وهم يؤمنون بصحة أسفار موسى الخمسة وفيها ذكر حضور الملائكة مراراً قلنا أنهم اعتبروا ظهورهم وقتياً بخلق الله إياهم في الحال لغاية مخصوصة وملاشاته إياهم بعد إدراك تلك الغاية.
٩ «فَحَدَثَ صِيَاحٌ عَظِيمٌ، وَنَهَضَ كَتَبَةُ قِسْمِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَطَفِقُوا يُخَاصِمُونَ قَائِلِينَ: لَسْنَا نَجِدُ شَيْئاً رَدِيّاً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ! وَإِنْ كَانَ رُوحٌ أَوْ مَلاَكٌ قَدْ كَلَّمَهُ فَلاَ نُحَارِبَنَّ ٱللّٰهَ».
ص ٢٥: ٢٥ و٢٦: ٣١ ص ٢٢: ٧ و١٧ و١٨ ص ٥: ٣٩
كَتَبَةُ هم علماء اليهود ومفسروا الناموس فمن الطبع أن يكونوا المتقدمين في الكلام.
قِسْمِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ كان بعض الكتبة صدوقيين وأكثرهم فريسيين فهم ليسوا شيعة مخصوصة.
لَسْنَا نَجِدُ شَيْئاً رَدِيّاً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ أي أنه لم يخالف شيئاً من شريعة موسى وكل ما قاله في القيامة حقّ. فرضى الفريسيين عن بولس لقوله بالقيامة أنساهم وقتياً سائر الدعاوي عليه.
إِنْ كَانَ رُوحٌ أَوْ مَلاَكٌ قَدْ كَلَّمَهُ أشاروا بهذا إلى ما قصه عليهم بولس من حديث رؤياه في طريق دمشق وفي الهيكل (ص ٢٢: ١٤ و١٧ و١٨). فكأنهم قالوا أخبرنا بولس أنه ذهب إلى الأمم إطاعة للرؤيا في الهيكل وهذا ليس مما تستحيل صحته لأن الله اعتاد أن يُظهر إرادته بواسطة الأرواح والملائكة فيحتمل أنه تعالى أعلن له ما قاله ولذلك ذهب إلى الأمم ينادي لهم بقيامة الأموات. وفي قولهم هذا طعن صريح في ضلال الصدوقيين وإقرار باعتقادهم وجود الأرواح والملائكة. وليس لنا أن نتخذ قولهم دليلاً على أنهم صاروا أصدقاء لبولس وآمنوا بدين المسيح فإنهم حاموا عن بولس لبغضهم الصدوقيين ولأنه حامى عن اعتقادهم القيامة التي نفاها الصدوقيون. وفي قولهم تحريف لقول بولس فإنه قال «إن الرب (أي يسوع) ظهر له وكلمه» وهم قالوا «إن كان روح أو ملاك قد كلمه».
فَلاَ نُحَارِبَنَّ ٱللّٰهَ لأنه على فرض أن الله أمر بولس أن يبشر الأمم كانت المقاومة له مقاومة لله الذي أرسله (انظر شرح ص ٥: ٣٩).
١٠ «وَلَمَّا حَدَثَتْ مُنَازَعَةٌ كَثِيرَةٌ ٱخْتَشَى ٱلأَمِيرُ أَنْ يَفْسَخُوا بُولُسَ، فَأَمَرَ ٱلْعَسْكَرَ أَنْ يَنْزِلُوا وَيَخْتَطِفُوهُ مِنْ وَسَطِهِمْ وَيَأْتُوا بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ».
مُنَازَعَةٌ كَثِيرَةٌ بين الفرقتين في المجلس.
ٱخْتَشَى ٱلأَمِيرُ لأنه ما برح حاضراً معهم.
أَنْ يَفْسَخُوا بُولُسَ الظاهر أن كلاّ من الفرقتين أرادت جذب بولس إليها فالفريسيون أرادوا جذبه ليحموه والصدوقيون لينتقموا منه.
فَأَمَرَ ٱلْعَسْكَرَ أَنْ يَنْزِلُوا أي أرسل من بلغهم أمره بنزولهم من القلعة القريبة.
يَأْتُوا بِهِ إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ الموضع الذي وضعوه فيه أولاً في القلعة (ص ٢١: ٣٤) ليقيه من الخطر. وكان من واجباته أن يحمي كل معتدي عليه ولا سيما الروماني. وقد تحقق مما جرى في المجلس أن بولس لم يكن مذنباً شيئاً بحسب شريعة الرومانيين وغير مستوجب العقاب من يهودي أو روماني.

ظهور الرب لبولس في السجن ع ١١


١١ «وَفِي ٱللَّيْلَةِ ٱلتَّالِيَةِ وَقَفَ بِهِ ٱلرَّبُّ وَقَالَ: ثِقْ يَا بُولُسُ، لأَنَّكَ كَمَا شَهِدْتَ بِمَا لِي فِي أُورُشَلِيمَ، هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ فِي رُومِيَةَ أَيْضاً».
ص ١٨: ٩ و٢٧: ٢٣ و٢٤
فِي ٱللَّيْلَةِ ٱلتَّالِيَةِ أي التابعة ليوم حضوره في مجلس السبعين.
وَقَفَ بِهِ ٱلرَّبُّ ليعزيه ويشجعه ويؤكد له العناية به والحماية له من المخاطر المحيطة به ورضاه عنه بما فعله في أورشليم وليخبره بأن خدمته إياه في أورشليم قد انتهت وأنه سيذهب إلى رومية ويبشر بالإنجيل فيها كما كان يشتهي منذ زمن طويل (رومية ١: ١٣ و١٥: ٢٣). وهذا الظهور ظهور الرب له ووعده إياه كانا سنداً له واليهود يتآمرون عليه في أورشليم وهو في سجن قيصرية وهو مسافر في البحر والبحر مضطرب وهو في رومية لا يعلم كيف ينتهي أمره في محكمة نيرون. ومثلما ظهر له هنا ظهر له سابقاً في كورنثوس (ص ١٨: ٩ و١٠) وبعد ذلك في السفينة (ص ٢٧: ٢٣ و٢٤). ولا يلزم من ظهور الرب له وتعزيته إياه أنه كان مضطراً آيساً لرفض اليهود شهادته. ومما أظهره الله من رضاه عن بولس هنا يبطل ظن البعض أنه أخذته الحدة في المجلس واضطر إلى الاستغفار وإلا كان الله وبخه كما وبخ موسى (عدد ٢٠: ١٢).

تآمر اليهود على قتل بولس وإرساله إلى قيصرية ع ١٢ إلى ٣٥


١٢ «وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ صَنَعَ بَعْضُ ٱلْيَهُودِ ٱتِّفَاقاً، وَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ قَائِلِينَ إِنَّهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ وَلاَ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَقْتُلُوا بُولُسَ».
ع ٢١ و٣٠ وص ٢٥: ٣
كان بين اليهود أناس اشتهروا بالغيرة الدينية فلقب كل منهم بالغيور وكان من عادتهم أن يأتوا كل ما استطاعوا غيرة للدين خيراً كان أم شراً. والأرجح أن الذين تآمروا هنا كانوا من أولئك الناس وأنهم من الصدوقيين أتباع حنانيا رئيس الكهنة.
صَنَعَ... ٱتِّفَاقاً، وَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي تحالفوا وسألوا الله أن يلعن من نقض عهده. واعتقدوا أنه من وقع تحت الحرم كان عرضة لغضب الله والهلاك.
أَنْ لاَ نَذُوقَ شَيْئاً الخ سبق مثل هذا الحلف في (١صموئيل ١٤: ٢٤ و٢صموئيل ٣: ٣٥) ولأن الطعام والشراب من ضروريات الحياة كان حلفهم على الامتناع عنهما إلى نجاز عهدهم دليلاً قاطعاً على صدق عزمهم على إنجازه ومحركاً شديداً على الاجتهاد فيه والإسراع إليه. وكانت علة هذه المؤامرة شدة بغضهم لبولس ورغبتهم في إملاكه وضعف أملهم في أن الأمير يعاقبه فلم يجدوا وسيلة إلى مرادهم إلا أنهم يتولون قتله بأيديهم.
١٣، ١٤ «١٣ وَكَانَ ٱلَّذِينَ صَنَعُوا هٰذَا ٱلتَّحَالُفَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ. ١٤ فَتَقَدَّمُوا إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ وَقَالُوا: قَدْ حَرَمْنَا أَنْفُسَنَا حِرْماً أَنْ لاَ نَذُوقَ شَيْئاً حَتَّى نَقْتُلَ بُولُسَ».
أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ تدل كثرة عدد المتآمرين على وفرة عدد المبغضين له وشدة غضبهم عليه وخشيتهم من المصاعب الحائلة دون قصدهم وقوّة عزمهم على إدراك مقصدهم مهما كانت الصعوبات. وغنيّ عن البيان أن كلاً من عزمهم على القتل وحلفهم عليه شرّ محض.
لم تكن مؤامرتهم على قتله كالمؤامرة على قتل إنسان تشفياً من الغيظ الشخصي، لكنها كانت باسم الله لنفع الأمة بأسرها وخدمة الدين وبرضى أكثر أعضاء المجمع. فما أظهره هؤلاء من العزم على ارتكاب الجور والقتل وعدم الاكتراث بالشريعة سياسية ودينية كان من شأن أكثر اليهود يومئذ وهو الذي جلب عليهم غضب الله وتدمير مدينتهم. وما جاء هنا مصداق لقول المسيح لتلاميذه «تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلّٰهِ» (يوحنا ١٦: ٢).
رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ تحقق المتآمرون أن رؤساء الشعب والدين يرضون عملهم ولا يحسبونه ذنباً بل مما يثيبهم الله عليه. وإذا كان الرؤساء يسرون بالشر فهل تعجب إن ارتكبه المرؤوسون.
١٥ «وَٱلآنَ أَعْلِمُوا ٱلأَمِيرَ أَنْتُمْ مَعَ ٱلْمَجْمَعِ لِكَيْ يُنْزِلَهُ إِلَيْكُمْ غَداً، كَأَنَّكُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ تَفْحَصُوا بِأَكْثَرِ تَدْقِيقٍ عَمَّا لَهُ. وَنَحْنُ، قَبْلَ أَنْ يَقْتَرِبَ، مُسْتَعِدُّونَ لِقَتْلِهِ».
كشفوا للرؤساء ما اتفقوا عليه لأنهم لم يكونوا قادرين أن يهجموا إلى القلعة ويصلوا إلى بولس ويقتلوه فاحتاجوا إلى مساعدتهم ومساعدة سائر المجمع في خداع الأمير لكي يأتي ببولس من القلعة إلى حيث تصل أيديهم إليه.
مَعَ ٱلْمَجْمَعِ تحققوا أعضاء المجمع إذا اتفقوا على طلب شيء من الأمير منحهم إياه لا محالة. وتوقعهم أن أعضاء المجمع يسلمون برأيهم وأنهم يوافقونهم على سؤال الأمير ما أرادوه توصلاً إلى قتل بولس دليل على أن فرقتي الفريسيين والصدوقيين اللتين اختلفتا في أمره وقتياً اتفقتا على أنه عدوهما كلتيهما وأنه يستحق الموت منهما. ومما يؤيد ذلك أنهما اتفقتا على شكايته إلى الوالي في قيصرية (ص ٢٤: ٩ و١٥ انظر شرح ص ٢٤: ١٥).
يُنْزِلَهُ من القلعة إلى المجلس.
قَبْلَ أَنْ يَقْتَرِبَ الخ أي قبل أن يصل إلى المجمع لكي لا تكون المسؤولية على أعضائه. ولا ريب في أن تدبيرهم كان في غاية الإحكام ولولا عناية الله بتخييب مسعاهم لنجح لا محالة.
١٦ «وَلٰكِنَّ ٱبْنَ أُخْتِ بُولُسَ سَمِعَ بِٱلْكَمِينِ، فَجَاءَ وَدَخَلَ ٱلْمُعَسْكَرَ وَأَخْبَرَ بُولُسَ».
ٱبْنَ أُخْتِ بُولُسَ لا نعلم شيئاً من أمر هذا الشاب غير ما كُتب هنا ولا عجب من أن أخت بولس أرسلت ابنها إلى أورشليم ليتهذّب فيها كما تهذّب خاله ولا عجب من أن الله اتخذه وسيلة لإبطال مقاصد أعداء بولس الراغبين في قتله.
سَمِعَ بِٱلْكَمِينِ إما من المتحالفين وهم يتكالمون أو من أحد بلّغه ذلك. فالسرّ بين أربعين لا يكون سراً ولا سيما بعد ما أُعلن لرؤساء الكهنة والشيوخ (ع ١٤). ولعل المتحالفين لم يروا كتم كمينهم ضرورياً إلا عن الأسير والرومانيين الذين حرسوه ولم يخطر على بالهم أن بينهم أحداً من أقرباء بولس يكشف سرّهم.
وَدَخَلَ ٱلْمُعَسْكَرَ لم يعامل الأمير بولس بشدة لأنه روماني ولم يثبت عليه ذنب فكان مأذوناً له في أن يستقبل أصدقاءه كما كان في قيصرية بعدئذ (ص ٢٤: ٢٣) فدخل ابن اخته باعتبار كونه صديقاً له.
١٧ «فَٱسْتَدْعَى بُولُسُ وَاحِداً مِنْ قُوَّادِ ٱلْمِئَاتِ وَقَالَ: ٱذْهَبْ بِهٰذَا ٱلشَّابِّ إِلَى ٱلأَمِيرِ، لأَنَّ عِنْدَهُ شَيْئاً يُخْبِرُهُ بِهِ».
وَاحِداً مِنْ قُوَّادِ ٱلْمِئَاتِ الأرجح أنه هو الذي وُكلت إليه حراسته كما سبق في (ص ٢٢: ٢٥). إن الله قد وعد بولس بالوقاية من الخطر وأنه يصل إلى رومية لكنه لم يتخذ ذلك الوعد عذراً لترك ما يستطيعه من الوسائط اتقاء للخطر بل ذلك الوعد كان حاثاً له على عمله لتحققه أن ذلك العمل لا يكون عبثاً. كذلك وعد الله المؤمنين بالخلاص لا يغنيهم عن بذل الاجتهاد في جعل دعوتهم واختيارهم ثابتين (١بطرس ١: ١٠).
١٨ «فَأَخَذَهُ وَأَحْضَرَهُ إِلَى ٱلأَمِيرِ وَقَالَ: ٱسْتَدْعَانِي ٱلأَسِيرُ بُولُسُ، وَطَلَبَ أَنْ أُحْضِرَ هٰذَا ٱلشَّابَّ إِلَيْكَ، وَهُوَ عِنْدَهُ شَيْءٌ لِيَقُولَهُ لَكَ».
أجاب القائد طلب بولس في الحال إما للطفه وإما لرغبته في كشف السر للأمير وإما لعلمه أن بولس روماني.
ٱلأَسِيرُ بُولُسُ هذا يدل على أنه لم يزل مربوطاً بسلسلة إلى أحد الجنود. وما سماه به القائد وقتئذ سمى به نفسه في رسائله (أفسس ٣: ١ و٤: ١ وفليمون ١: ٩).
ٱسْتَدْعَانِي... وَطَلَبَ قال ذلك للأمير خيفة أن يظنه دخل في الأمر من تلقاء نفسه ويلومه على تكلمه مع الأسير والميل إليه.
١٩ «فَأَخَذَ ٱلأَمِيرُ بِيَدِهِ وَتَنَحَّى بِهِ مُنْفَرِداً، وَٱسْتَخْبَرَهُ: مَا هُوَ ٱلَّذِي عِنْدَكَ لِتُخْبِرَنِي بِهِ؟».
فَأَخَذَ ٱلأَمِيرُ بِيَدِهِ بلطف شفقة عليه لحداثته ولما بدا منه من إمارات الخوف وهو يخاطب ذا رتبة عالية. ولا يتوقع مثل هذا اللطف بفتى يهودي من أمير روماني ولعل الذي ليّن قلبه تأثير إلهي.
تَنَحَّى بِهِ مُنْفَرِداً فهم الأمير من أسلوب الخبر أن عند الفتى سراً. وكان يرغب في أن يعلم علة ما أثار الشغب على بولس وأفكار الشعب في أمره وقتئذ. وكان حفظ الأمر سراً ضرورياً لبقاء الشاب في الأمن لأن المتآمرين لا بد من أن ينتقموا منه إن عرفوا أنّه هو الذي كشف مؤامرتهم للأمير.
٢٠ «فَقَالَ: إِنَّ ٱلْيَهُودَ تَعَاهَدُوا أَنْ يَطْلُبُوا مِنْكَ أَنْ تُنْزِلَ بُولُسَ غَداً إِلَى ٱلْمَجْمَعِ، كَأَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَسْتَخْبِرُوا عَنْهُ بِأَكْثَرِ تَدْقِيقٍ».
ع ١٢
قول الشاب هنا للأمير على وفق ما في (ع ١٤ و١٥).
ٱلْيَهُودَ تَعَاهَدُوا هذا دليل على أن الخلاف الذي نشأ بين الفريسيين والصدوقيين في المجلس في شأن بولس لم يبق له أثر واتفق الفريقان على أنه عدو للدين اليهودي واتفقوا على أن يفعلوا ما سألهم إياه المتآمرون.
٢١ «فَلاَ تَنْقَدْ إِلَيْهِمْ، لأَنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَامِنُونَ لَهُ، قَدْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ لاَ يَأْكُلُوا وَلاَ يَشْرَبُوا حَتَّى يَقْتُلُوهُ. وَهُمُ ٱلآنَ مُسْتَعِدُّونَ مُنْتَظِرُونَ ٱلْوَعْدَ مِنْكَ».
فَلاَ تَنْقَدْ إِلَيْهِمْ لأن طلبهم وإن ظهر موافقاً لحكم العقل هو خداع للتوصل إلى غاية رديئة.
مِنْهُمْ هذا دليل على أن الأربعين ليسوا سوى نواب عن جمهور اليهود في الميل والقصد.
مُنْتَظِرُونَ ٱلْوَعْدَ مِنْكَ أي إجابة طلبهم أن تُنزله إلى المجلس.
٢٢ «فَأَطْلَقَ ٱلأَمِيرُ ٱلشَّابَّ مُوصِياً إِيَّاهُ أَنْ: لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ إِنَّكَ أَعْلَمْتَنِي بِهٰذَا».
أوصاه الأمير بهذا لئلا يخطر لهم أن الأمير يرسل بولس إلى قيصرية فيكمنوا له في الطريق ويقتلوه ولئلا يكون الشاب عرضة لانتقامهم.
٢٣ «ثُمَّ دَعَا ٱثْنَيْنِ مِنْ قُوَّادِ ٱلْمِئَاتِ وَقَالَ: أَعِدَّا مِئَتَيْ عَسْكَرِيٍّ لِيَذْهَبُوا إِلَى قَيْصَرِيَّةَ، وَسَبْعِينَ فَارِساً وَمِئَتَيْ رَامِحٍ، مِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلثَّالِثَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ».
قَيْصَرِيَّةَ قصبة سورية السياسية عند الرومانين صارت مقام والي سورية منذ مات هيرودس أغريباس (ص ١٢: ٢٣) كما كانت قبله مراراً كثيرة (انظر شرح ص ٨: ٤٠ و٢١:٨).
رَامِحٍ أي حامل رمح. كان الجنود الذين أرسلهم الأمير لحراسة بولس ٤٧٠ فإن قيل كيف أرسل كل هؤلاء للحراسة من أربعين قلنا أن أولئك الأربعين ليسوا سوى نواب عن ألوف كثيرة مستعدين لإمدادهم. وكان أهل سورية يومئذ مضطربين ولا أمن فيها للمسافرين.
وما شاهده الأمير من استعداد اليهود للفتنة على بولس في الهيكل وفي المجلس ومن مؤامرتهم عليه وعزمهم على قتله بين القلعة والمجلس حقّق له شدة الخطر على بولس وأنهم مستعدون لارتكاب كل ما أمكنهم من المحظورات وهذا حمله على إبعاده عن أورشليم وأن يصحبه بكثير من الجنود عند إبعاده إياه.
مِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلثَّالِثَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ أي الثالثة بعد المغرب فيكون أكثر الناس حينئذ في بيوتهم فلا يعرفون بمن يذهب ولا بمن يجيء. ويظهر من تصرف الأمير أن ميله إلى بولس كان أكثر من ميله إلى حنانيا رئيس الكهنة وأنه مسرور بإرسال بولس إلى قيصرية حيث الأمن وبتخلصه من أتعاب كثيرة في هذا الشأن وبتبيينه للوالي غيرته لروماني كتابة وفعلاً.
٢٤ «وَأَنْ يُقَدِّمَا دَوَابَّ لِيُرْكِبَا بُولُسَ وَيُوصِلاَهُ سَالِماً إِلَى فِيلِكْسَ ٱلْوَالِي».
دَوَابَّ لكي يركب دابة ويريح أخرى على التوالي.
فِيلِكْسَ كان فيلكس وأخوه بالاس عبدين لأنطونيا أم الأمبراطور كلوديوس ثم حرّر وسماه بعض مؤرخي عصره أنطونيوس فيلكس نسبة إلى أنطونيا وبعضهم كلوديوس فيلكس نسبة إلى ابنها. وكان أخوه بالاس محبوباً إلى الأمبراطور كلوديوس جداً وبواسطته حصل فيلكس على تولي سورية سنة ٥٢ ب. م. وصفه المؤرخون بالقسوة والطمع والفجور. قال تاسيطوس المؤرخ أنه «تصرّف تصرف الملك بصفات العبد». فأظهر القوة والنشاط في تذليل العصاة والقتلة الذين عاثوا يومئذ اليهودية. (انظر شرح ٢١: ٢٨) لكنه استأجر بعض أولئك القتلة لقتل يوناثان رئيس الكهنة الذي ساعده على توليه. قال سويتونيس المؤرخ أنه تزوج ثلاث ملكات الأولى دروسلا بنت يوبا ملك موريتانيا. والثانية دروسلا بنت أغريباس الأول وأخت أغريباس الثاني فإنها تركت زوجها الأول أزيزوس ملك أماسيا (أي حمص) لتأخذه. والثالثة لم يذكر التاريخ اسمها.
٢٥، ٢٦ «٢٥ وَكَتَبَ رِسَالَةً حَاوِيَةً هٰذِهِ ٱلصُّورَةَ: ٢٦ كُلُودِيُوسُ لِيسِيَاسُ، يُهْدِي سَلاَماً إِلَى ٱلْعَزِيزِ فِيلِكْسَ ٱلْوَالِي».
كُلُودِيُوسُ لِيسِيَاسُ لولا مقدمة هذا الرقيم ما عرفنا اسم الأمير. وكلوديوس اسم لاتيني وليسياس اسم يوناني. رأى بعضهم أن الاسم اليوناني هو الأصلي لأنه حصل على الرعوية الرومانية بالشراء (ص ٢٢: ٢٨). ولعل بولس حصل على صورة هذا الرقيم من فيلكس أو قائد المئة الذي كان يحرسه.
٢٧ «هٰذَا ٱلرَّجُلُ لَمَّا أَمْسَكَهُ ٱلْيَهُودُ وَكَانُوا مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، أَقْبَلْتُ مَعَ ٱلْعَسْكَرِ وَأَنْقَذْتُهُ، إِذْ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ رُومَانِيٌّ».
ص ٢١:٣٣ و٢٤: ٧
اقتصر الأمير على ذكر الحوادث المهمة في أمر بولس. ولم يخبره أنه أخطأ في أول الأمر معرفة أن بولس روماني لأن في ذلك شكاية على نفسه وليس فيه ما يوضح شيئاً من أمر الأسير.
٢٨، ٢٩ «٢٨ وَكُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَعْلَمَ ٱلْعِلَّةَ ٱلَّتِي لأَجْلِهَا كَانُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلْتُهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ، ٢٩ فَوَجَدْتُهُ مَشْكُوّاً عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَسَائِلِ نَامُوسِهِمْ. وَلٰكِنَّ شَكْوَى تَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ أَوِ ٱلْقُيُودَ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ».
ص ٢٢: ٣٠ ص ١٨: ١٥ و٢٥: ١٩ ص ٢٦: ٣١
مَسَائِلِ نَامُوسِهِمْ أي عقائد تتعلق بالدين اليهودي. ومراده أن هذه مما لا طائل تحته. والولاة الرومانيون اعتبروا العقائد العظمى التي اختلف بها المسيحيون عن اليهود أموراً زهيدة لا يعبأ بها. انظر كيف تصرف غاليون في مثل هذا الأمر (ص ١٨: ١٤ و١٥) وفستوس (ص ٢٥: ١٨ و١٩).
٣٠ «ثُمَّ لَمَّا أُعْلِمْتُ بِمَكِيدَةٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَصِيرَ عَلَى ٱلرَّجُلِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، أَرْسَلْتُهُ لِلْوَقْتِ إِلَيْكَ، آمِراً ٱلْمُشْتَكِينَ أَيْضاً أَنْ يَقُولُوا لَدَيْكَ مَا عَلَيْهِ. كُنْ مُعَافىً».
ع ٢٠ ص ٢٤: ٨ و٢٥: ٦
آمِراً ٱلْمُشْتَكِينَ أراد بذلك ما نوى أن يفعله وهو يكتب بناء على أنه يتم حين وصول رقيمه إلى الوالي.
كُنْ مُعَافىً هذا مثل ما في (ص ١٥: ٢٩).
٣١ «فَٱلْعَسْكَرُ أَخَذُوا بُولُسَ كَمَا أُمِرُوا، وَذَهَبُوا بِهِ لَيْلاً إِلَى أَنْتِيبَاتْرِيسَ».
فَٱلْعَسْكَرُ أي المشاة والفرسان والرامحون فمعنى العسكر هنا عام.
لَيلاً أي ليل سفرهم وهذا يدل على سراهم الليل كله وقطعهم فيه معظم المسافة ولا يستلزم أنهم لم يسيروا شيئاً في صباح الغد.
أَنْتِيبَاتْرِيسَ مدينة على الطريق السلطانية من أورشليم إلى قيصرية وعلى أمد ثلاثة وأربعين ميلاً منها وذلك نحو ثلثي المسافة بين أورشليم وقيصرية. قال يوسيفوس أن اسمها القديم كفرسابا وأن هيرودس الكبير جددها وسماها أنتيباتريس إكراماً لأبيه أنتيباتر. وتسمى اليوم كفرسابا اسمها القديم. ولا نعلم ماذا كان من أمر المتآمرين الذين حلفوا أن لا يأكلوا ولا يشربوا حتى يقتلوا بولس والأرجح أنهم اعتقدوا تحررهم من نذرهم بسبب ذهابه من أورشليم.
٣٢، ٣٣ «٣٢ وَفِي ٱلْغَدِ تَرَكُوا ٱلْفُرْسَانَ يَذْهَبُونَ مَعَهُ وَرَجَعُوا إِلَى ٱلْمُعَسْكَرِ. ٣٣ وَأُولٰئِكَ لَمَّا دَخَلُوا قَيْصَرِيَّةَ وَدَفَعُوا ٱلرِّسَالَةَ إِلَى ٱلْوَالِي، أَحْضَرُوا بُولُسَ أَيْضاً إِلَيْهِ».
وَفِي ٱلْغَدِ أي اليوم التالي بعد مضي جزء منه.
تَرَكُوا ٱلْفُرْسَانَ نفهم من ذلك أنه لم يبق مع بولس من أربع المئة والسبعين من الجنود سوى سبعين وهم الفرسان ورجع سائرهم لاعتقادهم أنه قد زال معظم الخطر عليه لابتعادهم عن أورشليم ولم يبق خوف من هجوم اليهود عليهم فكان الفرسان كفاة لحراسته في ثُلث الطريق الباقي. وما ذُكر هنا من سرعة سير العسكر وجريهم على مقتضى الأمر مما عُهد من الجنود الرومانية المشهورة من إطاعتهم لأوامر قوادهم وأحكام ما أمروا به.
٣٤، ٣٥ «٣٤ فَلَمَّا قَرَأَ ٱلْوَالِي ٱلرِّسَالَةَ، وَسَأَلَ مِنْ أَيَّةِ وِلاَيَةٍ هُوَ، وَوَجَدَ أَنَّهُ مِنْ كِيلِيكِيَّةَ، ٣٥ قَالَ: سَأَسْمَعُكَ مَتَى حَضَرَ ٱلْمُشْتَكُونَ عَلَيْكَ أَيْضاً. وَأَمَرَ أَنْ يُحْرَسَ فِي قَصْرِ هِيرُودُسَ».
ص ٢١: ٣٩ ص ٢٤: ١ و١٠ و٢٥: ١٦ متّى ٢٧: ٢٧
مِنْ أَيَّةِ وِلاَيَةٍ سأل بيلاطس يسوع مثل هذا السؤال (لوقا ٢٣: ٦). ولعل غاية الوالي من ذلك أن يرسله إلى تلك الولاية للمحاكمة إن وجدها قريبة منه وأنها ولاية يريد أن يستعطف واليها بذلك أو أن يتخلص من أمر الأسير إن وجد فيه صعوبة. أو لعله قصد بذلك أن يعرف أي شيء بنى عليه ادعاءه الرعوية الرومانية لكي يتحقق دعواه من دفتر نفوس الولاية التي هو منها إن اقتضت الحال ذلك.
سَأَسْمَعُكَ في محاكمة قانونية.
ٱلْمُشْتَكُونَ عَلَيْكَ هم المذكورون في رقيم الأمير ليسياس (ع ٣٠).
يُحْرَسَ بمنزلة أسير (ص ١٢: ٤).
قَصْرِ هِيرُودُسَ الأرجح أنه القصر الذي بناه هيرودس الكبير مسكناً ملكياً فاتخذه الولاة الرومانيون مسكناً لهم وللجنود. والمرجح أنه هو القصر الذي مات فيه أغريباس الثاني. ذكر لوقا أن الله ضربه وهو في المشهد (ص ١٢: ٢٣) وزاد يوسيفوس على ذلك أنه مات بعد خمسة أيام من ضربته ولا منافاة بين القولين.


الأصحاح الرابع والعشرون


احتجاج بولس أمام فيلكس ع ١ إلى ٢١


١ «وَبَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ ٱنْحَدَرَ حَنَانِيَّا رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ مَعَ ٱلشُّيُوخِ وَخَطِيبٍ ٱسْمُهُ تَرْتُلُّسُ. فَعَرَضُوا لِلْوَالِي ضِدَّ بُولُسَ».
ص ٢١: ٢٧ ص ٢٣: ٢ و٣٠ و٣٥ و٢٥: ٢
بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ لا دليل لنا على أن بداءة هذه الأيام يوم إرسال بولس من أورشليم أو يوم وصوله إلى قيصرية وليس في ذلك من أمر مهم لكننا نعلم أن الخامس من تلك الأيام هو الثاني عشر من وصول بولس إلى أورشليم ما في الآية الثانية عشرة.
حَنَانِيَّا المذكور في (ص ٢٣: ٢) فأتى قيصرية نائباً عن كل فرق الكهنة ومجمع السبعين.
ِمَعَ ٱلشُّيُوخ أي بعض أعضاء مجمع السبعين نواباً عن سائر اليهود. وإتيان هؤلاء مع حنانيا للشكاية على بولس مقاسين مشاق السفر الطويل مئة وأربعين ميلاً ذهاباً وإياباً دليل على أهمية المسئلة عند اليهود وشدة بغضهم لبولس. ولا ريب في أن ما زاد حنانيا حنقاً على بولس ورغبته في الشكاية عليه وصفه إياه «بالحائط المبيّض» وأنباؤه بأنه يموت شر ميتة بقضاء إلهي.
تَرْتُلُّسُ نستنتج من اسمه أنه روماني استأجره اليهود وكيلاً في دعواهم لاعتياده رفع الدعاوي إلى الولاة الرومانيين واقتداره على إيضاح الأمر بانتباه وإحكام وتأثير لا يستطيعونها.
٢ «فَلَمَّا دُعِيَ، ٱبْتَدَأَ تَرْتُلُّسُ فِي ٱلشِّكَايَةِ قَائِلاً».
فَلَمَّا دُعِيَ أي بولس والمعنى أنه دُعي من القصر أو للوقوف أمام الوالي ليسمع الشكاية عليه ويدفع عن نفسه. وهذا كان على مقتضى الشرعية الرومانية لأنها كانت تمنع أن يُحكم على أحد بلا مواجهته للمشتكين والحصول على فرصة للاحتجاج عن الشكوى (ص ٢٥: ١٦).
ٱبْتَدَأَ تَرْتُلُّسُ فِي ٱلشِّكَايَةِ كان هذا الابتداء مدحاً للوالي لكي يستميله إلى حزب المشتكين وهو على وفق قوانين المنطقيين الرومانيين كشيشرون وغيره وفيه تملق وكذب.
٣ «إِنَّنَا حَاصِلُونَ بِوَاسِطَتِكَ عَلَى سَلاَمٍ جَزِيلٍ، وَقَدْ صَارَتْ لِهٰذِهِ ٱلأُمَّةِ مَصَالِحُ بِتَدْبِيرِكَ. فَنَقْبَلُ ذٰلِكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ فِيلِكْسُ بِكُلِّ شُكْرٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ».
إِنَّنَا أي نحن الأمة اليهودية لأن ترتلس كان يتكلم بالنيابة عنها.
حَاصِلُونَ... عَلَى سَلاَمٍ جَزِيلٍ في هذا بعض الحق لأنه على قول يوسيفوس أنه قبل أن تولى فيلكس كثر اللصوص في اليهودية ولكنه بدد شملهم وكان منهم فرقة رئيسها رجل اسمه لعازر فقبض فيلكس عليه وأرسله إلى رومية ليعاقب. ثم ظفر النبي المصري الكذاب الذي قاد أربعة آلاف رجل في البرية وشوش أمور اليهودية (ص ٢١: ٢٨) وأخمد الفتنة بين أهل قيصرية وسائر سورية.
لِهٰذِهِ ٱلأُمَّةِ أي شعب اليهود.
مَصَالِحُ أي منافع بواسطة إخماد الفتن وغيرها مما تقدم.
بِتَدْبِيرِكَ أي حكمتك ونشاطك وانتباهك قال ترتلس ذلك مادحاً فيلكس بالنيابة عن اليهود وسكت عن دعاوٍ كثيرة لليهود عليه من ظلمه وقساوته وسلبه ولا سيما قتله سراً يوناثان رئيس الكهنة فإن اليهود رفعوا الدعوى عليه إلى رومية وعزله بعد نحو سنتين.
فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ أي تُظهر كل أمة اليهود شكرها لك في الغيبة والحضور.
٤ «وَلٰكِنْ لِئَلاَّ أُعَوِّقَكَ أَكْثَرَ، أَلْتَمِسُ أَنْ تَسْمَعَنَا بِٱلٱخْتِصَارِ بِحِلْمِكَ».
لِئَلاَّ أُعَوِّقَكَ أَكْثَرَ في هذا الكلام نوع من الحكمة وضرب من الاحتيال فكأنه قال إن الزمان يضيق بذكر فضائلك ومنافعك ومناقبك وأنك لتواضعك لا تريد أن تسمع مدحك فلذلك اكتفيت بما ذكرت.
تَسْمَعَنَا نحن اليهود لأنه كان نائباً عنهم.
بِٱلٱخْتِصَارِ قال هذا له لينتبه ويصبر.
بِحِلْمِكَ أي إناءتك وصبرك وتنازلك.
٥ «فَإِنَّنَا إِذْ وَجَدْنَا هٰذَا ٱلرَّجُلَ مُفْسِداً وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ بَيْنَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَسْكُونَةِ، وَمِقْدَامَ شِيعَةِ ٱلنَّاصِرِيِّينَ».
لوقا ٢٣: ٢ وص ٦: ١٣ و١٦: ٢٠ و١٧: ٦ و٢١: ٢٨ و١بطرس ٢: ١٢ و١٥
ما سبق مقدمة للشكوى وبداءتها هنا.
وَجَدْنَا هٰذَا ٱلرَّجُلَ مُفْسِداً هذا مجمل الشكوى وفيها ثلاث دعاوٍ. وأراد بإفساده كل ما يقلق الراحة ويضر الناس أدبياً ومادياً.
وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ هذه الدعوى الأولى. كانت اليهودية مضطربة بالفتن فجعل ترتلس بولس من جملة مهيجيها ليصب كل الغضب عليه.
بَيْنَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ أي أن بولس يهيّج بعض اليهود على بعض وهذا ينشئ لهم حزناً وضرراً ولكونهم تحت سلطة الرومانيين يكون تهييج الفتنة بينهم تهييجاً لها على الرومانيين.
فِي ٱلْمَسْكُونَةِ أي كل المملكة الرومانية على المتعارف يومئذ. وعلى هذا يكون بولس مهيّج الفتنة في المملكة كلها فهو عدو عام للراحة والسلام.
وَمِقْدَامَ شِيعَةِ ٱلنَّاصِرِيِّينَ هذه الدعوة الثانية ومعناها أن بولس لم يكتف بأنه ضارٌ بالذات حتى جمع عصابة مثله في الشر ترأس عليها. وسمى تلك العصابة «بشيعة الناصريين» لأنها أتباع يسوع الناصري. وهذه أول مرة لورود وصف المسيحيين بالناصريين في الإنجيل. ولا بد أن القصد به التحقير كما حقروا يسوع بنسبته إلى الناصرة (انظر شرح ص ٢: ٢٢). والأرجح أن هذا اسم أتباع يسوع الذي شاع بين اليهود قبل خراب أورشليم وأما الاسم الذي عُرفوا به غالباً بين الأمم فهو المسيحيون (ص ١١: ٢٦).
٦ «وَقَدْ شَرَعَ أَنْ يُنَجِّسَ ٱلْهَيْكَلَ أَيْضاً، أَمْسَكْنَاهُ وَأَرَدْنَا أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِنَا».
ص ٢١: ٢٨ يوحنا ١٨: ٣١
شَرَعَ أَنْ يُنَجِّسَ ٱلْهَيْكَلَ هذه الدعوى الثالثة ومعناها أن بولس أخذ يبذل جهده في ذلك وبنى الدعوى الباطلة على ظن بعض اليهود أنه أدخل تروفيموس الأفسسي إلى الهيكل (ص ٢١: ٢٨). وخلاصة هذه الدعوى أنه أساء إلى شريعة اليهود ودينهم وأراد إزالة قداسة الهيكل المقدس.
أَمْسَكْنَاهُ أي نحن اليهود لأن ترتلّس تكلم عنهم.
وَأَرَدْنَا أَنْ نَحْكُمَ إلخ ادعى ترتلس أن اليهود قصدوا أن يحاكموا بولس بمقتضى العدل والحق وقوانين الشريعة وأن الأمير ليسياس منعهم من ذلك.
٧ «فَأَقْبَلَ لِيسِيَاسُ ٱلأَمِيرُ بِعُنْفٍ شَدِيدٍ وَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا».
ص ٢١: ٣٣
ما في هذه الآية يدل على أن اليهود اغتاظوا كثيراً من تعرّض الأمير لوقاية بولس لأنه بذلك حطّ كبرياءهم وشرف أمتهم ومنعهم من التشفي من بولس وهم في غاية الرغبة في قتله.
ٍبِعُنْفٍ شَدِيد نسب ترتلّس إلى الأمير أنه منع من إجراء العدل والحق في محاكمة بولس وهم يقصدون محاكمته بكل هدوء وإنصاف. والحق انهم كانوا يلكمونه بغية قتله حين أنقذه منهم (ص ٢١: ٣١ و٣٢) فالعنف الشديد منهم.
٨ «وَأَمَرَ ٱلْمُشْتَكِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْكَ. وَمِنْهُ يُمْكِنُكَ إِذَا فَحَصْتَ أَنْ تَعْلَمَ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ ٱلَّتِي نَشْتَكِي بِهَا عَلَيْهِ».
ص ٢٣: ٣٠
وَأَمَرَ ٱلْمُشْتَكِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْكَ (ص ٢٣: ٣٠). لامَ ترتلّس الأمير بأنه فضلاً عن منع اليهود من محاكمة بولس بمقتضى شريعتهم أجبرهم على احتمال النفقة ومشقة السفر بالإتيان إلى قيصرية ليشكوا بولس إلى الوالي.
وَمِنْهُ أي من الأمير ليسياس. ادعوا أنه يشهد بصحة قولهم. ولعل استشهادهم هذا حمل الوالي على تأخير الفحص إلى أن ينحدر ليسياس إلى قيصرية (ع ٢٢). وظن بعضهم أن الضمير في «منه» يعود إلى بولس والمعنى يمكنك أن تقف على صحة ما قلناه بتعذيبه إلى أن يعترف والفحص يحتمل معنى التعذيب (انظر ص ٢٢: ٢٤).
٩ «ثُمَّ وَافَقَهُ ٱلْيَهُودُ أَيْضاً قَائِلِينَ: إِنَّ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ هٰكَذَا».
وَافَقَهُ أي صدقه بما اشتكى به على بولس.
ٱلْيَهُودُ أي حنانيا والشيوخ.
١٠ «فَأَجَابَ بُولُسُ، إِذْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ ٱلْوَالِي أَنْ يَتَكَلَّمَ: إِنِّي إِذْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ قَاضٍ لِهٰذِهِ ٱلأُمَّةِ، أَحْتَجُّ عَمَّا فِي أَمْرِي بِأَكْثَرِ سُرُورٍ».
فَأَجَابَ بُولُسُ هذا احتجاجه الثالث عن نفسه وعن الدين المسيحي. الأول كان في الهيكل أمام كثيرين من اليهود اجتمعوا من كل أقطار المسكونة للاحتفال بعيد الخمسين. والثاني قدام مجلس السبعين.
أَوْمَأَ إِلَيْهِ ٱلْوَالِي بيده أو برأسه. ومما يستحق الملاحظة أن مجلس هذا الوالي الوثني المشهور برذائله كان أعدل وأكيس من أعضاء مجلس السبعين رؤساء أمة اليهود الدينيين.
مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ تولى فيلكس سورية سنة ٥٢ ب. م فيكون قد حكم نحو ست سنين وهي كثيرة بالنسبة إلى سني تولي غيره من الولاة ولا بد من أنه اختبر في تلك المدة أمور ولايته فعرف صفات اليهود وتعصبهم وأنهم ممن لا يوثق بكل ما يشتكون به كشكوى ترتلس عنهم. ولا ريب في أنه سمع بالمسيحيين لكثرتهم في اليهودية ولكون بعضهم في قيصرية كرسي ولايته.
أَحْتَجُّ... بِأَكْثَرِ سُرُورٍ جعل بولس اختبار الوالي أمور اليهود موضوع رجائه في حسن العاقبة بخلاف ما كان الحال لو وقف أمام والٍ جديد لم يختبر اختبار فيلكس. وليس في افتتاح كلام بولس شيء من التملق والاحتيال إنما تكلم بالحق وهو أن اختبار الوالي كان موضوع سروره في هذه المحاكمة.
١١ «وَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي أَكْثَرُ مِنِ ٱثْنَيْ عَشَرَ يَوْماً مُنْذُ صَعِدْتُ لأَسْجُدَ فِي أُورُشَلِيمَ».
ص ٢١: ٢٦ وع ١٧
وَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تَعْرِفَ بما لك من الوسائل باعتبار كونك والياً ومن إقامتك في قيصرية فمكنك أن تحضر من شاهدوني عند وصولي إلى قيصرية وحين سافرت منها إلى أورشليم. وأنت تعلم أن قصر المدة التي تقضت عليّ منذ وصولي إلى أورشليم يمنع إمكان أن أرتكب ما ادعوه عليّ.
ٱثْنَيْ عَشَرَ يَوْماً مضت سبعة منها وأنا في أورشليم (ص ٢١: ٢٧) وخمسة بعد خروجي منها (ص ٢٤: ١).
لأَسْجُدَ لا لأهيّج فتنة. وليس في هذا منافاة لقوله في (ع ١٧) أنه أتى ليصنع صدقات لأن السجود أحد مقاصده بإتيانه إلى أورشليم (ص ٢٠: ١٦) وصنع الصدقات من خير أنواع العبادة. وفي هذه الآية أمران دفع بهما ما أُشتكي به عليه الأول أحدثية وصوله. فالمدة أقل مما يمكن أن يُرتكب فيها ما نسبوه إليه. والثاني أنه أتى للقيام بفروض الدين التي ادّعوا أنه رفضها وقاومها.
١٢ «وَلَمْ يَجِدُونِي فِي ٱلْهَيْكَلِ أُحَاجُّ أَحَداً أَوْ أَصْنَعُ تَجَمُّعاً مِنَ ٱلشَّعْبِ، وَلاَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَلاَ فِي ٱلْمَدِينَةِ».
ص ٢٥: ٨ و٢٨: ١٧
في هذه الآية نفى دعواهم الأولى وهو أنه «مهيّج فتنة» فدفع دعواه بإنكارها وصرح بأنه لم يفعل شيئاً يشوش السلام وبأنه لم يكلم أحداً جهراً وذكر كل الأماكن التي يمكن الإنسان أن يخطب ويهيّج فتنة بها وهي الهيكل والمجامع وأسواق المدينة وبيوتها. فأنكر أنه تلفظ بكلمة مهيّجة في موضع من تلك المواضع. ولو كان قد هيّج فتنة لعرف المشتكون مكانها وزمانها. وعدم إتيانهم بالبيّنات دل على أن لا بيّنة لهم وأن دعاويهم باطلة. فبيّنات الدعوى ثلاث وهي الأحوال واعتراف المدعى عليه والشهود. وهذه لم يستطيعوا أن يوردوا شيئاً منها. على أن الأحوال كانت مع بولس لا عليه مثل قصر الوقت. ولم يعترف بصحة شيء من دعاويهم بل أنكرها. وهم لم يأتوا بأحد من الشهود عليه. وقول بولس أنه «لم يحاج أحداً» يدلنا أنه امتنع عمداً عما اعتاده من التكلم جهراً في كل مدينة دخلها. والظاهر أنه لم ير الوقت مناسباً للتبشير.
١٣ «وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُثْبِتُوا مَا يَشْتَكُونَ بِهِ ٱلآنَ عَلَيَّ».
الدعوى التي لا تثبت ببيّنة هي ساقطة وهم ادعوا أن بولس هيج فتنة وعجزوا عن البينة فدعواهم ساقطة.
١٤ «وَلٰكِنَّنِي أُقِرُّ لَكَ بِهٰذَا: أَنَّنِي حَسَبَ ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي يَقُولُونَ لَهُ «شِيعَةٌ» هٰكَذَا أَعْبُدُ إِلٰهَ آبَائِي، مُؤْمِناً بِكُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ» .
عاموس ٨: ١٤ وص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣ و٢تيموثاوس ١: ٣ ص ٢٦: ٢٢ و٢٨: ٢٣
في هذه الآية إبطال لدعواهم الثانية على ما قصدوا بها وهي أنه «مقدام شيعة الناصريين». أنكر بولس الدعوى الأولى وأقر بصحة الدعوى الثانية على غير ما قصدوا بها نافياً ما استنتجوا منها.
ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي يَقُولُونَ لَهُ «شِيعَةٌ» سماه المشتكون في ع ٥ «مقدام شيعة الناصريين» فأقر بولس أنه من الناصريين لكنه أنكر أنهم شيعة وسكت تواضعاً عن كونه مقدامهم.
اعتاد اليهود أن يعبروا عن أمور الدين المختلفة «بالطرق» فقد جاء في أقوالهم طريق الإيمان وطريق العبادة وطريق السيرة. وكثيراً ما عُبر بالطريق عن الدين المسيحي (ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣ و٢٢: ٤).
أقام بولس في ما يأتي ثلاثة براهين على أنه لم يخرج عن كونه يهودياً بكونه مسيحياً وهي أنه عابد الإله الذي يعبده اليهود وأنه متمسك بما هم متمسكون به من كتب الدين وأن رجاءه في المستقبل مثل رجائهم. ولزم من هذا أن المسيحيين ليسوا بشيعة.
أَعْبُدُ إِلٰهَ آبَائِي أي إله أسلافهم وأسلافه والمعنى أنه لم يعبد بكونه مسيحياً إلهاً جديداً بل ظل يعبد الذي عبده للديانة اليهودية. وهذا مضمون ما صرّح به أمام مجلس السبعين في (ص ٢٣: ١).
أذنت الحكومة الرومانية لليهود في أنهم يعبدون إله آبائهم بلا معارض فكان لبولس حق الحماية الرومانية ما دام يعبد إله آبائه.
مُؤْمِناً بِكُلِّ... فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ هذا البرهان الثاني على أنه لم يخرج عن كونه يهودياً بكونه مسيحياً لأنه لم يزل مصدقاً كتب الدين اليهودي المقدسة المجموعة بالناموس والأنبياء ومتمسكاً بها. ولا ريب في أن فيلكس كان يعرف أن تلك الأسفار معتمد الدين اليهودي مما سمعه مراراً كثيرة. وقول بولس هنا على تمام الموافقة لقول يسوع «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (متّى ٥: ١٧).
١٥ «وَلِي رَجَاءٌ بِٱللّٰهِ فِي مَا هُمْ أَيْضاً يَنْتَظِرُونَهُ: أَنَّهُ سَوْفَ تَكُونُ قِيَامَةٌ لِلأَمْوَاتِ، ٱلأَبْرَارِ وَٱلأَثَمَةِ».
ص ٢٣: ٦ و٢٦: ٦ و٧ و٢٨: ٢٠ دانيال ١٢: ٢ ويوحنا ٥: ٢٨ و٢٩
وَلِي رَجَاءٌ بِٱللّٰهِ في هذه الآية البرهان الثالث على أنه لم يخرج عن دين آبائه باتباعه طريق يسوع وهو أنه يرجو في المستقبل ما ترجوه أمة اليهود رجاء مبنياً على مواعيد الله. وظاهر الرجاء اشترك فيه الفريسيون والصدوقيون. فعلى اعتقاد بولس كانت قيامة يسوع برهاناً على كونه المسيح وقيامته عربون القيامة العامة وباكورتها. ويتضح من خطاب بولس أمام أغريباس الثاني أن كلامه في القيامة يتضمن مجيء المسيح الموعود به (ص ٢٦: ٦ - ٨ و٢٢ و٢٣).
فِي مَا هُمْ أَيْضاً يَنْتَظِرُونَهُ أي معظم الأمة اليهودية على فرض أن الرجاء في هذه الآية مقصور على قيامة الأموات العامة لأن الصدوقيون المنكرين القيامة ليسوا سوى شرذمة قليلة وعلى فرض أنه أشار بالأكثر إلى المسيح الموعود به فهو منتظر كل الأمة اليهودية.
وما في هذه الآية دليل على أنه كان بين المشتكين جماعة من الفريسيين وأن الاختلاف الذي وقع بينهم في المجلس في أمر بولس كان وقتياً وأن الفريقين اتفقا بعد ذلك على اضطهاده.
وفيها دليل أيضاً على أن تعليم قيامة الأموات ليس مقصوراً على العهد الجديد بل أنه تعليم قديم عند الأمة اليهودية أعلنه الله بعهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب عهداً أبدياً (تكوين ١٧: ١٧) «فالله ليس إله أموات بل إله أحياء». وتنبأ به إشعياء (إشعياء ٢٦: ١٩ دانيال ١٢: ٢). نعم إن المسيح أوضحه وصدقه بكلامه وأثبت رجاء القيامة بقيامته.
ٱلأَبْرَارِ وَٱلأَثَمَةِ أي كل البشر بقطع النظر عن صفاتهم الأدبية.
١٦ «لِذٰلِكَ أَنَا أَيْضاً أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِماً ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ».
ص ٢٣: ١
أُدَرِّبُ نَفْسِي أي أجتهد دائماً.
ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ الذي له ضمير بلا عثرة هو الذي لا يفعل شيئاً مخالفاً لحكم الضمير ولا يأتي ما يحمل غيره على مخالفة حكم ضميره ولا ريب في أن بولس اجتهد بأن يكون له ضمير بلا عثرة في كل سيرته. ولكنه لم يقصد التصريح بذلك في كلامه هنا إنما قصد هنا تصرفه بالنظر إلى ما يجب عليه لشعب اليهود ودينهم.
مِنْ نَحْوِ ٱللّٰهِ باعتبار كونه واضع الدين الذي هو ديني ودين آبائي وغايتي أن لا أعصى أمره وأن لا أغيظه.
وَٱلنَّاسِ قصد بالناس هنا أمته اليهودية وأراد أنه اجتهد في أن لا يعثرهم لأنه «صار لليهود كيهودي» (١كورنثوس ٩: ٢٠) وقال ذلك دفعاً لتوهمهم أنه يبغضهم.
١٧ «وَبَعْدَ سِنِينَ كَثِيرَةٍ جِئْتُ أَصْنَعُ صَدَقَاتٍ لأُمَّتِي وَقَرَابِينَ».
ص ١١: ٢٩ و٣٠ و٢٠: ١٦ ورومية ١٥: ٢٥ و٢كورنثوس ٨: ٤ وغلاطية ٢: ١٠
دفع في هذه الآية والتي تليها دعواهم الثالثة.
سِنِينَ كَثِيرَةٍ لا نعلم بداءة هذه السنين التي أرادها فإن كان قد أراد أنها يوم تنصره وتركه أورشليم باعتبار كونها مسكناً له فتلك السنين خمس وعشرون وإن كان قد أراد أنها وقت زيارته الأخيرة لأورشليم فهي أربع سنين (انظر شرح ص ١٨: ٢٢ و٢٣).
صَدَقَاتٍ لأُمَّتِي هي أموال إحسان جمعها من كنائس مكدونية لفقراء كنيسة أورشليم وذُكر ذلك الجمع في رسائله (رومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ - ٤ و٢كورنثوس ٨: ١ - ٤). ولم يُذكر في غير هذا الموضع من أعمال الرسل. وأراد بالأمة في قوله «أمتي» اليهود وذلك لأن كنيسة أورشليم من متنصري اليهود لا من متنصري الأمم. وهذا ليس عمل من يهيج فتنة بين اليهود.
وَقَرَابِينَ المعتاد تقديمها في يوم الخمسين من ذبائح وغيرها عن نفسه وعن الناذرين الذين اتخذ على نفسه أن ينفق عليهم كما مر في (ص ٢١: ٢٣ - ٢٥). وفي هذا بعض الرد على قولهم «شرع يدنس الهيكل» فإنه أتى الهيكل عابداً لا مدنساً متمماً فرائض الشريعة التي اتهموه بأنه يحتقرها.
١٨ «وَفِي ذٰلِكَ وَجَدَنِي مُتَطَهِّراً فِي ٱلْهَيْكَلِ لَيْسَ مَعَ جَمْعٍ وَلاَ مَعَ شَغَبٍ قَوْمٌ هُمْ يَهُودٌ مِنْ أَسِيَّا».
ص ٢١: ٢٦ و٢٧ و٢٦: ٢١
وَفِي ذٰلِكَ أي وأنا أقدم الصدقات للفقراء والقرابين والذبائح لله مظهراً بذلك غيرتي على أمتي وعلى شريعة موسى.
مُتَطَهِّراً فِي ٱلْهَيْكَلِ كما قيل في (ص ٢١: ٢٦ و٢٧) وأتى ذلك التطهير ليساعد الناذرين على وفاء نذورهم (ص ٢١: ٢٤). وكان ذلك التطهير بواسطة تقديم الذبائح والقرابين المفروضة. فيستحيل من كان كذلك أنه يشرع في أن يدنس الهيكل.
لَيْسَ مَعَ جَمْعٍ وَلاَ مَعَ شَغَبٍ هذا دفع آخر لقولهم أنه «مهيج فتنة».
قَوْمٌ هُمْ يَهُودٌ مِنْ أَسِيَّا (انظر ٢١: ٢٧).
١٩ «كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرُوا لَدَيْكَ وَيَشْتَكُوا، إِنْ كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ شَيْءٌ».
ص ٢٣: ٣٠ و٢٥: ١٦
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرُوا لَدَيْكَ أي اليهود الذين من آسيا فهم الذين شاهدوا ما فعلته واتهموني وقبضوا عليّ. فعلى قولهم صار عليّ كل ما صار فكان يجب أن يأتوا هم إما شهوداً وإما مشتكين لا ترتلّس ولا حنانيا فهما لم يعرفا ما سمعناه. والخلاصة أنهم أقاموا الدعوى عليه بلا بيّنة ولا شهود.
٢٠ «أَوْ لِيَقُلْ هٰؤُلاَءِ أَنْفُسُهُمْ مَاذَا وَجَدُوا فِيَّ مِنَ ٱلذَّنْبِ وَأَنَا قَائِمٌ أَمَامَ ٱلْمَجْمَعِ».
أَوْ أي بما أنه لم يحضر اليهود الذين من آسيا وقد فات وقت استحضارهم وسقطت دعواهم.
لِيَقُلْ هٰؤُلاَءِ أَنْفُسُهُمْ أي حنانيا والشيوخ.
مَاذَا وَجَدُوا فِيَّ مِنَ ٱلذَّنْبِ الخ دعاهم هنا إلى أن يشتكوا عليه بما شاهدوه منه ويستطيعون أن يشهدوا به فهم شاهدوه في مجمع السبعين (ص ٢٢: ٣٠) فإن كان قد أذنب هناك وشاهدوا ذلك أمكنهم أن يشهدوا عليه به. لأنهم لم يروه في سوى المجمع فشهادتهم عليه بما كان منه في غيره لا تقوم لعدم مشاهدتهم إياه.
٢١ «إِلاَّ مِنْ جِهَةِ هٰذَا ٱلْقَوْلِ ٱلْوَاحِدِ ٱلَّذِي صَرَخْتُ بِهِ وَاقِفاً بَيْنَهُمْ: أَنِّي مِنْ أَجْلِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ أُحَاكَمُ مِنْكُمُ ٱلْيَوْمَ».
ص ٢٣: ٦ و٢٨: ٢٠
هٰذَا ٱلْقَوْلِ ٱلْوَاحِدِ أشار بذلك إلى ما كتبه لوقا في (ص ٢٣: ٦) وصرح بأنه لم يقل سوى هذا القول الواحد الذي أعاده هنا وقال أنه مستعد للمحاكمة إن كان تمسكه به وإعلانه إياه ذنباً.
مِنْ أَجْلِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ الخ سبق في تفسير (ص ٢٣: ٦) بيان أن بولس اعتبر قيامة يسوع من الأموات أهم الأمور المتعلقة بالقيامة العامة لأنه بقيامته برهن أنه هو المسيح وإيمان بولس بهذه القيامة جعله مسيحياً وهي علة القبض على بولس والشكاية عليه ولكن هذا ليس بذنب بمقتضى الشريعة الرومانية ولا بعلة للحكم عليه.
لم يكتف بولس بالمحاماة عن نفسه أمام فيلكس لكنه أراد أن يشهد لليهود مرة أخرى أن يسوع هو المسيح وأن قيامته دليل على ذلك وختم كلامه بتقديم هذه الشهادة. والظاهر أن المشتكين لم يستطيعوا أن يعترضوا على احتجاجه شيئاً.

رجوع بولس إلى القصر وخطابه لفيلكس ودروسلا ع ٢٢ إلى ٢٧


٢٢ «فَلَمَّا سَمِعَ هٰذَا فِيلِكْسُ أَمْهَلَهُمْ، إِذْ كَانَ يَعْلَمُ بِأَكْثَرِ تَحْقِيقٍ أُمُورَ هٰذَا ٱلطَّرِيقِ، قَائِلاً: مَتَى ٱنْحَدَرَ لِيسِيَاسُ ٱلأَمِيرُ أَفْحَصُ عَنْ أُمُورِكُمْ».
ع ٧
سَمِعَ هٰذَا أي تبيين بولس الفرق بين اليهود والمسيحيين وتبرئته لنفسه في اعتقاده وعمله. ويحتمل أن الإشارة إلى كل من خطاب ترتلّس وخطاب بولس.
أَمْهَلَهُمْ وهم طالبون الحكم على بولس. ولا ريب في أنه اقتنع بأن شكواهم كاذبة ولكنه لم يرد أن يغيظ شعب اليهود بإغاظة رؤسائه (الذين هم المشتكون) بتبرئة بولس وإطلاقه. ولهذا عاق القضاء بناء على استشهاد ترتلّس بليسياس (ع ٨).
يَعْلَمُ بِأَكْثَرِ تَحْقِيقٍ أُمُورَ هٰذَا ٱلطَّرِيقِ معنى الطريق هنا الديانة المسيحية كما جاء في كلام بولس في (ع ١٤) وكما ورد غالباً في هذا السفر (انظر شرح ص ٩: ٢٠). ومعنى «يعلم بأكثر تحقيق» أن فيلكس عرف حقيقة الديانة المسيحية بعد خطاب بولس أكثر من معرفته إياها قبل ذلك الخطاب. أو أنه أعرف بها من سواه من الحكام الرومانيين كغاليون وليسياس اللذين اعتبروا الديانة المسيحية مجرد «مسائل وأسماء» (ص ١٨: ١٥ و٢٣: ٢٩). أو أنه عرف بها أكثر مما ظن اليهود المشتكون الذين ادّعوا أن بولس عندما صار مسيحياً رفض الديانة اليهودية كل الرفض.
تولى فيلكس سورية ست سنين وتولى السامرة قبل ذلك بضعة سنين ولا بد من أنه سمع كثيراً وعرف كثيراً من أمور المسيحيين وزاده معرفة أنه في قيصرية موضع إقامته سكن فيلبس وهو من أقدم المبشرين المسيحيين وأكثرهم غيرة.
مَتَى ٱنْحَدَرَ لِيسِيَاسُ الخ هذا وعد بأنه يبحث في الدعوى إلى النهاية ويحكم بها. وما كان ذلك سوى محاولة التخلص منهم لأنهم يبعد عن التصديق أن ليسياس يترك أورشليم في تلك الأيام أيام الاضطراب ويذهب إلى قيصرية لتأدية الشهادة في أمر بولس. والظاهر أن اليهود اتخذوه كذلك وتحققوا أنه لم يرد أن يحكم على بولس إذ لا دليل على أنهم جددوا الشكوى إليه مدة باقي زمن توليه سورية وهي سنتان.
٢٣ «وَأَمَرَ قَائِدَ ٱلْمِئَةِ أَنْ يُحْرَسَ بُولُسُ، وَتَكُونَ لَهُ رُخْصَةٌ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَخْدِمَهُ أَوْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ».
ص ٢٧: ٣ و٢٨: ١٦
وَأَمَرَ قَائِدَ ٱلْمِئَةِ ما أمر به دليل على اقتناعه ببراءة بولس لكنه لم يطلقه إكراماً لليهود ولعلة مذكورة في الآية السادسة والعشرين. وأعطاه كل الحرية التي يمكن أن يُعطاها الأسير.
أَنْ يُحْرَسَ كان الحجر عند الرومانيين ثلاثة أنواع الأول السجنيّ مع القيود كما حُبس بولس وسيلا في سجن فيلبي. والثاني التقييدي بلا سجن وهو أن يُربط الأسير بسلسلة إلى جندي خارج السجن كما حجر على بولس في رومية في حبسه الأول. والثالث حراسيّ بلا سجن ولا تقييد مع وفرة من الحرية وهذا ما حُجر على بولس به في قيصرية. والأرجح أنه حُجر عليه في قصر هيرودس.
رُخْصَةٌ أي حرية إلى غاية ما يمكن أن توهب للأسير.
وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ لا بد أنه كان من جملة هؤلاء الأصحاب فيلبس وأهل بيته المذكورون في (ص ٢١: ٨ و٩) وتروفيموس الذي أتى معه من آسيا وأرترخس (ص ٢٧: ٢) ولوقا الطبيب الحبيب كاتب هذا السفر.
٢٤ «ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَ فِيلِكْسُ مَعَ دُرُوسِلاَّ ٱمْرَأَتِهِ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ. فَٱسْتَحْضَرَ بُولُسَ وَسَمِعَ مِنْهُ عَنِ ٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ».
بَعْدَ أَيَّامٍ هذا وقت غير معيّن ولكن غلب أن يراد به وقت قصير.
دُرُوسِلاَّ هي بنت هيرودس أغريباس الأول الذي ذُكر موته في (ص ١٢: ٢٣) وهي أخت أغريباس الثاني وبرنيكي (ص ٢٥: ١٣). وهي بنت حفيد هيرودس الكبير. تزوجت عزيز ملك حمص الذي تهوّد لكي يأخذها. قال يوسيفوس أن فيلكس استمالها إليه وحملها على ترك زوجها بواسطة سيمون الساحر القبرسي (وهو على رأي بعضهم سيمون المذكور في ص ٨: ٢٤) طُمرت تحت مقذوفات بركان يزوف في إيطاليا سنة ٧٩ ب. م. ولعل معنى قول لوقا «جاء فيلكس معها» أنه أتى بها إلى بيته لتكون امرأة له.
وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ أصلاً وإيماناً ولذلك كانت تميل طبعاً إلى مشاهدة المبشر الذي هو أحد مشاهير المذهب الذي يُقاوم في كل مكان وإلى سمع كلامه.
فَٱسْتَحْضَرَ بُولُسَ تدل القرينة على أنه استدعاه إرضاء لدروسلاّ.
ٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ أي الدين الجديد الذي موضوعه وأساسه المسيح (انظر ص ١٤: ١١ و١٢).
٢٥ «وَبَيْنَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ عَنِ ٱلْبِرِّ وَٱلتَّعَفُّفِ وَٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْعَتِيدَةِ أَنْ تَكُونَ، ٱرْتَعَبَ فِيلِكْسُ، وَأَجَابَ: أَمَّا ٱلآنَ فَٱذْهَبْ، وَمَتَى حَصَلْتُ عَلَى وَقْتٍ أَسْتَدْعِيكَ».
لم تكن غايتهما من سمع بولس سوى اللهو والتسلية أما بولس فانتهز الفرصة ليشهد لهما بالمسيح وحقائق إنجيله ولا سيما بسط الحقائق التي هي أكثر نفعاً لهما ومن شأنها أن تقود إلى التوبة وخلاص النفوس. وكان إطلاق بولس متوقفاً على إرادة فيلكس لكنه لم يفه بكلمة من كلام التملّق أو التعظيم أو التصويب ليستميله إلى إطلاقه.
ٱلْبِرِّ أي العدل وهو القيام بما يجب لله وللناس. وكان على فيلكس باعتبار أنه والٍ أن يكون عادلاً لأنه نائب إله عادل ولا محاباة عنده ولا يقبل رشوة. ولا ريب في أن فيلكس كان مفتقراً إلى بسط الكلام على هذه الصفة بدليل شهادة تاسيطوس المؤرخ الروماني عليه فإنه قال فيه «أنه تصرف في كل أموره كأنه أُبيح له ارتكاب كل الذنوب بلا عقاب» وقال إنه اشتهر بصفتين القساوة والعشق.
وَٱلتَّعَفُّفِ اعتزال كل الشهوات الجسدية التي حرمتها الشريعة الإلهية. فاقتران فيلكس بدروسلا ورجلها حيّ مخالف لقوانين التعفف التي وضعها الله فكلاهما مسوؤل به لأنهما لم يهتما بسوى لذاتهما وأهوائهما. فكانت أثوابهما جميلة نقية ولكن قلبيهما مملوآن فساداً.
وَٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْعَتِيدَةِ أَنْ تَكُونَ على كل مخالفي شريعة الله المكتوبة على ألواح الضمائر وفي صفحات كتابه تعالى. وأمام عرش تلك الدينونة يقف كل إنسان والياً وأسيراً الخ.
تكلم بولس على هذا الموضوع في أريوس باغوس (ص ١٧: ٣١).
وهذه المواضيع الثلاثة البر والتعفف والدينونة من شأنها أن تؤثر في ضمير كل من فيلكس ودروسلاّ وتكلم بولس عليها أمامهما اقتضى جرآة وأمانة للحق. لا يلزم مما ذُكر هنا أن بولس لم يتكلم في غير هذه المواضيع الثلاثة فإن سُئل أن يبين حقيقة الإيمان بالمسيح فساقه الكلام في ذلك إلى ذكر الفضائل الروحية التي هي أثمار الإيمان بالمسيح وذكر الدينونة التي سيجريها المسيح في نهاية العالم.
ٱرْتَعَبَ فِيلِكْسُ وإن لم يكن المبشّر سوى أسير. فإن فيلكس اضطرب خوفاً عندما تذكر ما ارتكبه من الآثام وسمع بالدينونة عليه. كان فيلكس قد تربى في الجيش الروماني فلم يرتعب خيفة من إنسان أو من ضرر جسدي لكنه ارتعد خوفاً من غضب الله والخطر الذي كانت نفسه معرّضة له. والأرجح أنه لم يكن قد سمع قبلاً خطاباً في مثل تلك المواضيع وكان ذلك الخطاب على خلاف ما توقعه. فتأثره من خطاب بولس كان كتأثر هيرودس أنتيباس من خطاب يوحنا المعمدان (مرقس ٦: ٢٠). ولا دليل على أن دروسلاّ تأثرت شيئاً من وعظ بولس ولعل على ذلك تعودها سمع الكلام على وجوب تلك الفضائل وتلك الدينونة لأنها يهودية أو لأنها ظنت أن نسبتها إلى إبراهيم وتقديمها الذبائح وقيامها برسوم الديانة كافية لستر خطاياها وخلاص نفسها.
أَمَّا ٱلآنَ فَٱذْهَبْ الخ تصرّف فيلكس في ما يبنه وبين الله كما تصرف في أمر بولس والمشتكين أي تمهل في القضاء وكانت نتيجة كل من التمهلين رديئة وهما ظلم بولس وهلاك فيلكس.
إن الشيطان يرغب في أن الناس لا يسمعون الحق وأنهم يقاومونه ولكنهم إذا سمعوا الحق وتأثروا به حملهم على التمهل عن قبوله بدعوة أن وقتاً آخر أكثر مناسبة لقبوله.
ارتعب حارس سجن فيلبي كما ارتعب فيلكس حين استيقظ ضميره وشعر بأنه خاطئ لكنه لم يتمهل كفيلكس بل سأل عن طريق الخلاص وآمن بالمسيح المخلص (ص ١٦: ٣٠ و٣١). فتأخير زمان التوبة والإيمان إلى وقت آخر بناء على رجاء أن يكون أكثر مناسبة علة هلاك كثيرين.
٢٦ «وَكَانَ أَيْضاً يَرْجُو أَنْ يُعْطِيَهُ بُولُسُ دَرَاهِمَ لِيُطْلِقَهُ، وَلِذٰلِكَ كَانَ يَسْتَحْضِرُهُ مِرَاراً أَكْثَرَ وَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ».
خروج ٢٣: ٨
يَرْجُو أَنْ يُعْطِيَهُ بُولُسُ دَرَاهِمَ اشتهر فيلكس بالطمع وكان قد سمع نبأ الصدقات التي صنعها بولس (ع ١٧) فظن أنه غني قادر أن يفدي نفسه بالدراهم أو أنه يستطيع أن يجعل أصدقاءه يجمعون له مال الفدية ولكن بولس كان يعلم أنه بريءٌ يستحق أن يُطلق فأبى أن يرشي فيلكس. لأنه اعتقد أن ذلك حرام ولم يرد أن يضع تجربة أمام من في يده القضاء ولأن الراشي شريك المرتشي ولأن في تأدية الرشوة شيئاً من الاعتراف بالذنب كأن حقه عاجز عن تبرئته.
وَلِذٰلِكَ كَانَ يَسْتَحْضِرُهُ الخ لا بد من أن بولس كان يخاطبه كل مرة بشيء من الأمور الدينية ولكن لا دليل على أن كلامه أثر فيه شيئاً لأنه من خالف ضميره مراراً أماته ولأن الطمع ملأ قلبه فلم يترك فيه موضعاً لغيره من الشعور.
٢٧ «وَلٰكِنْ لَمَّا كَمَلَتْ سَنَتَانِ، قَبِلَ فِيلِكْسُ بُورْكِيُوسَ فَسْتُوسَ خَلِيفَةً لَهُ. وَإِذْ كَانَ فِيلِكْسُ يُرِيدُ أَنْ يُودِعَ ٱلْيَهُودَ مِنَّةً، تَرَكَ بُولُسَ مُقَيَّداً».
خروج ٢٣: ٢ وص ١٢: ٣ و٢٥: ٩ و١٤
كَمَلَتْ سَنَتَانِ من بداءة الحجر على بولس في قيصرية. والأرجح أن ذلك كان سنة ٦٠ ب. م أي قبل خراب أورشليم بعشر سنين. ولم يذكر الكاتب ماذا كان يفعل بولس في تلك المدة ولم يظهر أنه كتب فيها شيئاً من الرسائل إلى أحد. والأرجح أنه كان يساعد رفيقه لوقا على كتابة بشارته كما سبق الكلام في مقدمة تلك البشارة. ولعله عاونه أيضاً على كتابة ما مر من هذا السفر.
قَبِلَ فِيلِكْسُ اشتكى عليه اليهود إلى الأمبراطور نيرون في رومية لشدة ظلمة فدُعي للمحاكمة هناك فعُزل ولولا توسط أخيه بالاس الذي كان محبوباً إلى نيرون في أمره لحكم عليه وعوقب فبتوسطه له خلّصه من العقاب الذي استحقه.
بُورْكِيُوسَ فَسْتُوسَ (انظر شرح ص ٢٥: ١).
فِيلِكْسُ... تَرَكَ بُولُسَ مُقَيَّداً علة إظهاره لليهود تلك المنة مع بغضه اليهود وسلبه إياهم وظلمه لهم توقعه أن ذلك يحملهم على تخفيف الشكوى التي رفعوها عليه إلى الأمبراطور ولكن ظلمه لبولس لم يفده شيئاً أمام كرسي نيرون كما سبق وزاده جرماً أمام عرش الله.


الأصحاح الخامس والعشرون


بولس أمام فستوس ورفعه دعواه إلى قيصر ع ١ إلى ١٢


١ «فَلَمَّا قَدِمَ فَسْتُوسُ إِلَى ٱلْوِلاَيَةِ صَعِدَ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ قَيْصَرِيَّةَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
فَسْتُوسُ والٍ وصفه المؤرخون بالعدل والاستقامة تولى نحو سنتين ومات وهو والٍ خلافاً لأكثر من سلفه من الولاة.
بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ منها يوم وصوله إلى قيصرية ويوم سفره منها إلى أورشليم فإذاً لم يسترح في قيصرية سوى يوم واحد لبلوغه إياها. وهذا دليل على نشاطه وإمضائه أمور ولايته.
إِلَى أُورُشَلِيمَ أنها أكبر مدن ولايته وأهمها وليجتمع برؤساء أمة اليهود ولولا ذلك ما استطاع أن يعرف أحوال ولايته حق المعرفة. ولكن الحكومة الرومانية استحسنت أن تجعل قيصرية قصبة الولاية ومسكن ولاتها.
٢ «فَعَرَضَ لَهُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ وَوُجُوهُ ٱلْيَهُودِ ضِدَّ بُولُسَ، وَٱلْتَمَسُوا مِنْهُ».
ص ٢٤: ١ وع ١٥
فَعَرَضَ أي جدد الشكوى التي كانت على بولس منذ سنتين وسكت اليهود عنها تلك المدة يأساً من استفادتهم من تجديدها أمام فيلكس. وهذا دليل على أهمية المسئلة بين بولس واليهود عند أعضاء مجمع السبعين وعلى شدة بغضهم لبولس وعلى أنه اعتبر من أعظم الوسائل إلى نشر الدين المسيحي وانحطاط سلطانهم على الشعب. وكان بغضهم ليسوع أعظم علل بغضهم لرسوله الغيور الأمين.
رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ هو اسماعيل بن فابي على قول يوسيفوس لا حنانيا المذكور في (ص ٢٣:٢). والذي جعل حنانيا عدواً لبولس جعل إسماعيل عدواً له أيضاً وهو كونه ركناً لدين يسوع الناصري.
وَوُجُوهُ ٱلْيَهُودِ هم أعضاء المجمع كما سبق في (ص ٤: ٥ و٨: ٢٣ و٢٣: ١٤ و٢٤: ١).
٣ «طَالِبِينَ عَلَيْهِ مِنَّةً، أَنْ يَسْتَحْضِرَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَهُمْ صَانِعُونَ كَمِيناً لِيَقْتُلُوهُ فِي ٱلطَّرِيقِ».
ص ٢٣: ١٢ و١٥
طَالِبِينَ عَلَيْهِ مِنَّةً ظنوا حداثة توليه عليهم علة لرغبته في اتخاذهم أصدقاء وأنه يرى طلبتهم وسيلة سهلة إلى ذلك. والفرق زهيد بين طلب تعويج الحق منة وتعويجه بالرشوة.
وَهُمْ صَانِعُونَ كَمِيناً الخ طلبهم إلى فستوس أن يستحضر بولس للمحاكمة في أورشليم خداع لأن قصدهم من ذلك تمهيد السبيل إلى قتل بولس قبل وصوله إليهم وكان القتلة قد تآمروا واتفقوا مع أعضاء المجمع على المكيدة كما فعلوا سابقاً (ص ٢٣: ١٢).
كان من علامات سقوط الشعب اليهودي ديناً وأدباً وإشرافهم على الدمار أن مجمعهم الأعظم يعتمد الخداع والقتل.
٤ «فَأَجَابَ فَسْتُوسُ أَنْ يُحْرَسَ بُولُسُ فِي قَيْصَرِيَّةَ، وَأَنَّهُ هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَنْطَلِقَ عَاجِلاً».
أبى فستوس إجابتهم إلى ما طلبوا بناء على أن بولس محجور عليه في قيصرية معد للمحاكمة وأن فستوس نفسه عازم على الرجوع إلى قيصرية سريعاً فلا يوافقه أن يبقى في أورشليم ليحضر محاكمته فيها. ولا نعلم كل الأسباب الحقة لإباءته ولعله خاف أن تكون المحاكمة في أورشليم على شغب واضطراب. ولعل فيلكس أو ليسياس أخبره بالكمين الذي صنعوه لقتل بولس فخشي مثله حينئذ. وأعظم العلل أن الله الذي وعد بولس بأنه يشهد للحق في رومية (ص ٢٣: ١) حمل فستوس في (ع ١٥) لأغريباس الملك ما طلبه رؤساء اليهود بأحسن إيضاح وقال انهم سألوه أولاً الحكم عليه بلا فحص وأنه بعدما أجابهم «بأن ليس للرومانيين عادة أن يسلموا أحداً للموت قبل أن يكون المشكو عليه مواجهة مع المشتكين فيحصل على فرصة للاحتجاج عن الشكوى» طلبوا إليه أن يستدعيه إلى أورشليم.
أَنْ يَنْطَلِقَ إلى قيصرية.
٥ «وَقَالَ: فَلْيَنْزِلْ مَعِي ٱلَّذِينَ هُمْ بَيْنَكُمْ مُقْتَدِرُونَ. وَإِنْ كَانَ فِي هٰذَا ٱلرَّجُلِ شَيْءٌ فَلْيَشْتَكُوا عَلَيْهِ».
ص ١٨: ١٤ وع ١٨
فَلْيَنْزِلْ الفاء هنا سببيّة والمعنى إذ لم يناسب أن أستدعي بولس إلى هنا.
مَعِي إلى قيصرية.
مُقْتَدِرُونَ أن يتوبوا عن المجمع لأنهم من أعضائه أو لأن المجمع عيّنهم وأنهم أهل للشكوى لمعرفتهم الأمور المتعلقة.
وَإِنْ كَانَ فِي هٰذَا ٱلرَّجُلِ شَيْءٌ أي ذنب أو علة كافية للشكوى.
٦ «وَبَعْدَ مَا صَرَفَ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ٱنْحَدَرَ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ. وَفِي ٱلْغَدِ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِبُولُسَ».
ما في هذه الآية دليل على نشاطه للعمل وأمانته في الوعد.
كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ (ص ١٢: ٢١ و١٨: ١٢).
٧ «فَلَمَّا حَضَرَ، وَقَفَ حَوْلَهُ ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱنْحَدَرُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَقَدَّمُوا عَلَى بُولُسَ دَعَاوِيَ كَثِيرَةً وَثَقِيلَةً لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُبَرْهِنُوهَا».
مرقس ١٥: ٣ ولوقا ٢٣: ٢ و١٠ وص ٢٤: ٥ و١٣
حَوْلَهُ أي حول كرسي الولاية.
ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱنْحَدَرُوا بأمر الوالي نواباً عن مجمع اليهود.
دَعَاوِيَ كَثِيرَةً وَثَقِيلَةً وهي معروفة مما ذُكر سابقاً في (ص ٢٤: ٥ و٦) ومن جواب بولس عليها في الآية الآتية.
لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُبَرْهِنُوهَا فإن قيل لماذا قدموا شكايات لم يستطيعوا إثباتها قلنا أنهم اتكلوا على كثرة عددهم وعلى رفع أصواتهم وعلو منزلتهم حاسبين أن ذلك يقوم مقام الشهود والأدلة ويغني عنها.
٨ «إِذْ كَانَ هُوَ يَحْتَجُّ: أَنِّي مَا أَخْطَأْتُ بِشَيْءٍ، لاَ إِلَى نَامُوسِ ٱلْيَهُودِ وَلاَ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَلاَ إِلَى قَيْصَرَ».
ص ٦: ١٣ و٢٤: ١٢ و٢٨: ١٧
في هذه الآية خلاصة جواب بولس على دعاويهم ومنها نستنتج أسلوب شكواهم وماهيّة تلك الدعاوي.
لاَ إِلَى نَامُوسِ ٱلْيَهُود نفى بذلك شكواهم أنه رفض ناموس موسى بسيرته أو تعليمه وصرّح بأنه لم يزل يهودياً مع كونه مسيحياً.
وَلاَ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ نفى دعواهم أنه شرع في أن يدنس الهيكل.
وَلاَ إِلَى قَيْصَرَ نفى دعواهم أنه هيّج فتنة على السلطة الرومانية. وهذه الدعاوي الثلاث هي خلاصة ما اشتكى به ترتلس عليه منذ سنتين ص ٢٤: ٥ و٦) وقيصر اسم لكل أمبراطور روماني وأول أمبراطور سُمي به هو الأمبراطور يوليوس ثم أوغسطس ثم طيباريوس ثم كاليغولا ثم كلوديوس ثم نيرون.
٩ «وَلٰكِنَّ فَسْتُوسَ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُودِعَ ٱلْيَهُودَ مِنَّةً قَالَ لِبُولُسَ: أَتَشَاءُ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِتُحَاكَمَ هُنَاكَ لَدَيَّ مِنْ جِهَةِ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ؟».
ص ٢٤: ٢٧ ع ٢٠
إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُودِعَ ٱلْيَهُودَ مِنَّةً هذا كعمل فيلكس (انظر ص ٢٤: ٢٧) ولو أراد أن يعامل بولس عدلاً لأطلقه إذ لم تثبت عليه دعوى.
أَتَشَاءُ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ هذا ما طلبه اليهود إلى فستوس وهو في أورشليم وأبى أن يجيبهم إليه وفيه تسليم فستوس أن بولس لم يذنب شيئاً بمقتضى الشريعة الرومانية. وعرض فستوس على بولس أن يحاكم في مجمع السبعين بناء على كون الدعاوي عليه تخص بالشريعة اليهودية وأنه كما تبرر في المجلس الروماني يتبرر في المجلس اليهودي ويخلص من كل التهم.
لَدَيَّ أي في حضرتي فأقيك من كل جور. كان الظلم أن يبقيه أسيراً بعد ما عرف براءته وأن يعرض عليه أن يحاكم في مجلس أعدائه لكنه أظهر شيئاً من العدل في أمرين الأول أنه يحضر مجلس المحاكمة لحمايته والثاني أنه خيّره في الصعود إلى أورشليم ولم يجبره عليه.
ولعل فستوس علم أن بولس يصرّح بحقوقه باعتبار أنه روماني ويرفض أن يحاكم في مجلس يهودي لكنه بعرضه ذلك على بولس أظهر منّة لليهود وميله إلى احترام ناموسهم وعوائدهم.
١٠ «فَقَالَ بُولُسُ: أَنَا وَاقِفٌ لَدَى كُرْسِيِّ وِلاَيَةِ قَيْصَرَ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ أُحَاكَمَ. أَنَا لَمْ أَظْلِمِ ٱلْيَهُودَ بِشَيْءٍ، كَمَا تَعْلَمُ أَنْتَ أَيْضاً جَيِّداً».
أَنَا وَاقِفٌ لَدَى كُرْسِيِّ وِلاَيَةِ قَيْصَرَ نسب الولاية إلى قيصر أمبراطور الرومانيين لأن الوالي نائب عنه وهو حاكم باسمه وسلطانه. وعنى بقوله «واقف لدى كرسي ولاية قيصر» أن له حقاً أن يحاكم في محكمة رومانية لا يهودية بناء على كونه رومانياً.
حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ أُحَاكَمَ سأله فستوس أن يُحاكم في مجمع اليهود فأبى بولس ذلك هنا لأمرين:
الأول: أنه في أيدي الرومانيين وتحت حمايتهم ومحاكمتهم فلا داعي لخروجه من ذلك إلى غيره.
الثاني: أنه روماني فيحق له أن يحميه الرومانيون وأن يحاكم بمقتضى شريعتهم.
أَنَا لَمْ أَظْلِمِ ٱلْيَهُودَ بِشَيْءٍ هذا سبب ثالث لإبائه المحاكمة في مجمع اليهود ومعناه أنهم لم يثبتوا عليه أنه أخطأ بشيء إلى ناموسهم وهيكلهم. ولو كان قد أخطأ إليهم بشيء ما حق لهم أن يحاكموه في محكمتهم للأمرين المذكورين آنفاً فبالأولى أن لا حق لهم أن يحاكموه فيها بعد أن بذلوا جهدهم في إثبات الذنب عليه وعجزوا. ولم يأب بولس أن يُحاكم لمجرد قوله «أنه بريء» لأنه لو صح له ذلك ما حُوكم وتبرأ. واستشهد الوالي بصحة دعواه بقوله «كما تعلم أنت أيضاً جيداً».
١١ «لأَنِّي إِنْ كُنْتُ آثِماً، أَوْ صَنَعْتُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ، فَلَسْتُ أَسْتَعْفِي مِنَ ٱلْمَوْتِ. وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا يَشْتَكِي عَلَيَّ بِهِ هٰؤُلاَءِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَلِّمَنِي لَهُمْ. إِلَى قَيْصَرَ أَنَا رَافِعٌ دَعْوَايَ».
ص ١٨: ١٤ و٢٣: ٢٩ وع ٢٥ وص ٢٦: ٣١ ص ٢٦: ٣٢ و٢٨: ١٩
أبان بولس في أول هذه الآية أن إبائته الذهاب إلى أورشليم للمحاكمة مبنيّة على ما تبرهن في ما مر من المحاكمة لا على رغبته في الهرب من الفحص أو التخلص من العقاب إن كان مذنباً.
إِنْ كُنْتُ آثِماً أي لو ثبت عليّ في المحاكمة التي جرت علي أني آثم.
أَوْ صَنَعْتُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ أي لو ثبت عليّ في تلك المحاكمة ارتكابي ما يُجب علّي الموت.
فَلَسْتُ أَسْتَعْفِي مِنَ ٱلْمَوْتِ أي لا أسأل العفو من الموت الواجب حسنة أو صدقة بل كنت أقول أجروا ما وجب عليّ.
وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أي إذا كان الأمر خلاف ما فرضت وبطل كل ما اتهموني به.
فَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَلِّمَنِي لَهُمْ أي لا يستطيع ذلك أحد أراد العدل والحق لأن ذلك التسليم يكون هبة بريء لأعدائه لكي يفعلوا به ما يشاؤون فأوضح بذلك أن سؤال فستوس إياه الذهاب إلى أورشليم للمحاكمة بعد ما تحقق براءته يصنع منة لليهود مخالف للحق والعدل بالذات بلا داع ومعرّض للخطر بالنتائج.
فسؤال فستوس لبولس ما ذُكر دل على قدر جهله الأحوال ونقص حكمته وإيثاره إرضاء اليهود على إجراء العدل وهي مما حمل بولس على أن لا يثق به ولا يركن لسياسته وعلى أن يلجأ إلى من هو أعظم منه.
إِلَى قَيْصَرَ أَنَا رَافِعٌ دَعْوَايَ أي أنا مستأنف الدعوى إلى الأمبراطور. وحقّ الروماني أن يرفع دعواه من محاكم الولايات إلى البلاط الأمبراطوري أُعتبر من أعظم الحقوق واثمنها. وما كان الاستئناف يومئذ يحتاج في تحصيله إلى الكتابة أو الوسائط سوى مجرد القول «Appello» أي استأنفت فقوته كقوة القول «Civis Romanus Sum» أي أنا روماني (ص ١٦: ٣٧ و٢١: ٢٥). ولم يكن حق الاستئناف إلا للروماني. وكون هذه الرعوية لبولس هو الوسيلة التي اتخذها الوالي الروماني. في الآية العاشرة لجأ من محكمة يهودية إلى محكمة رومانية وفي هذه الآية لجأ من محكمة الوالي إلى محكمة الأمبراطور وبذلك انتهت المحاكمة التي لم تُجر على سنن العدل وتخلّص بولس من بغض أعدائه ومكايدهم وأراح الوالي من حيرته. وحُقق لبولس ذهابه إلى رومية الذي رغب فيه منذ زمن طويل (رومية ١: ٩ - ١١ و١٥: ٢٣ و٢٤).
١٢ «حِينَئِذٍ تَكَلَّمَ فَسْتُوسُ مَعَ أَرْبَابِ ٱلْمَشُورَةِ، فَأَجَابَ: إِلَى قَيْصَرَ رَفَعْتَ دَعْوَاكَ. إِلَى قَيْصَرَ تَذْهَبُ».
ص ١٩: ٢١ و٢٣: ١١
أَرْبَابِ ٱلْمَشُورَةِ من مساعديه الرومانيين في أمور الولاية السياسية. ولعل موضوع تلك المشورة النظر في أنه هل يوجد ما يمنع بولس من رفع دعواه إلى قيصر. كان لكل روماني بمقتضى الشريعة الرومانية حق الاستئناف وعلى كل حاكم أن يقبل ذلك ما لم يكن المستأنف من قطاع الطريق وقد قُبض عليه وهو حامل أسلحة العصيان. ولا ريب في أن الجميع تعجبوا من توقيف المحاكمة على هذا السبيل ولعل ذلك كان موضوع سرور لفستوس لأنه لم يرد أن يحكم على بريء ولم يرد أن يغيظ اليهود بإطلاقه. ولا شك في أنه كان موضوع حزن وغضب لليهود المشتكين لنجاة بولس من كيدهم.
إِلَى قَيْصَرَ رَفَعْتَ دَعْوَاكَ ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا استفهام للتعجب من ذلك لإظهار عدم الرضى التام به لأن بولس وهو الأسير الأول الذي وقف قدام فستوس للمحاكمة رفع دعواه من سلطانه إلى سلطان قيصر. وربما أظهر في قوله هذا شيئاً من إمارات الهزء فكأنه قال «أظننت أنك تجد في مجلس نيرون عدلاً لا تجده في مجلسنا وأنت غير شاعر بما سيحدث لك من التعب».
إِلَى قَيْصَرَ تَذْهَبُ لم يبقَ في اختيار فستوس أن يرسل بولس أو لا يرسله إلى قيصر بعد رفع دعواه إليه لأنه رأى وجوب ذلك وهو وأرباب المشورة فلم يبق له إلا أن يرسله في أول فرصة.

بولس أمام أغريباس الثاني ع ١٣ إلى ٢٧


١٣ «وَبَعْدَمَا مَضَتْ أَيَّامٌ أَقْبَلَ أَغْرِيبَاسُ ٱلْمَلِكُ وَبَرْنِيكِي إِلَى قَيْصَرِيَّةَ لِيُسَلِّمَا عَلَى فَسْتُوسَ».
كان من نتائج رفع بولس دعواه إلى قيصر قطع كل محاكمة عليه في سورية من يهود رومانيين وانقطاع الفرص لشهادته بالحق أمام اليهود ولكنه مع كل ذلك حدثت فرصة أخرى لوقوفه في حضرة أعظم اليهود منزلة ولاحتجاج عن الحق كان أوضح وأكمل كل احتجاجاته.
أَغْرِيبَاسُ ٱلْمَلِكُ ويسمى أحياناً أغريباس الثاني تمييزاً له عن أبيه أغيرباس الأول الذي ذُكر موته في (ص ١٢: ٢٣). وكان في سن السابعة عشرة في سنة موت أبيه وهي سنة ٤٤ ب. م وكان هو وقتئذ في بلاط الأمبراطور لأنه تربى مع أولاده. قال يوسيفوس أراد الأمبراطور كلوديوس أن يوليه مكان أبيه فثناه وزراؤه عن ذلك لصغر سن أغريباس واضطراب اليهودية فولى بدلاً منه قسيبوس فيدُس الوالي الروماني. وفي سنة ٤٨ ب. م مات عمه هيرودس ملك خلكيس فملكه كلوديس موضعه. وفي سنة ٥٣ ب. م أضاف إلى ملكه الربع الذي كان لعمه فيلبس والربع الذي كان لليسانويس (لوقا ٣: ١). ولما جلس نيرون على عرش الامبراطورية أضاف إلى ملكه بعض مدن الجليل وبيرية وولاه حراسة الهيكل والحلل الكهنوتية ووهب له سلطان انتداب رئيس الكهنة اليهودية ولكن اليهود لم يعتبروه كثيراً لشكهم في إخلاصه التمسك بالدين لأنه تربى بين الرومانيين الوثنيين. ومما يدل على أن شكهم كان في محله أنه عندما عصى اليهود الرومانيين ونشأ عن عصيانهم حصار أورشليم وخراب المدينة والهيكل اتفق أغريباس مع الرومانيين على شعبه الإسرائيلي. ومما قلل اعتباره عند اليهود عيشته مع أخته برنيكي بالزناء. وبلغ سن الثالثة والسبعين ومات في رومية سنة ٩٩ ب.م.
بَرْنِيكِي أخت أغريباس الكبيرة وكانت مشهورة بحسن الصورة وقبح السيرة تزوجها أولاً عمها هيرودس ملك خليكس ولما مات جاءت إلى أخيها. ثم دفعاً لما لحقها من العار بإقامتها ببيت أخيها على ما ذُكر تزوجت بليمون ملك كيليكية الذي هاد ليتزوجها طمعاً في مالها وافتتاناً بجمالها لكنه تركها وترك دينها بعد قليل فرجعت إلى أخيها ثم صارت حظية للأمبراطور الروماني وسبايانوس ثم لأبنه الأمبراطور تيطس.
لِيُسَلِّمَا عَلَى فَسْتُوسَ لأنه قدم والياً على سورية.
١٤ «وَلَمَّا كَانَا يَصْرِفَانِ هُنَاكَ أَيَّاماً كَثِيرَةً، عَرَضَ فَسْتُوسُ عَلَى ٱلْمَلِكِ أَمْرَ بُولُسَ، قَائِلاً: يُوجَدُ رَجُلٌ تَرَكَهُ فِيلِكْسُ أَسِيراً».
ص ٢٤: ٢٧
عَرَضَ فَسْتُوسُ... أَمْرَ بُولُسَ على سبيل الأخبار والتحدث بأمور الولاية لا للمحاكمة. فظن فستوس أن أغريباس لكونه يهودياً يقدر أن يوضح له ما جهله من أمر بولس كعلة بغض اليهود له واتهامهم إياه بمقاومته إياهم وديانتهم مع تصريحه بأنه يهودي متمسك بديانة آبائه وأنه يستطيع معاونته بأن يعرض للأمبراطور نيرون تفصيل أمر بولس بالإيضاح.
تَرَكَهُ فِيلِكْسُ أَسِيراً (ص ٢٤: ٢٧).
١٥ «وَعَرَضَ لِي عَنْهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَمَشَايِخُ ٱلْيَهُودِ لَمَّا كُنْتُ فِي أُورُشَلِيمَ طَالِبِينَ حُكْماً عَلَيْهِ».
ع ٢ و٣
طَالِبِينَ حُكْماً عَلَيْهِ نستدل من جواب فستوس لليهود في العدد التالي أنهم سألوه أن يحكم على بولس بالموت لمجرد دعواهم أنه مجرم مستحق الموت.
١٦ «فَأَجَبْتُهُمْ أَنْ لَيْسَ لِلرُّومَانِ عَادَةٌ أَنْ يُسَلِّمُوا أَحَداً لِلْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ٱلْمَشْكُوُّ عَلَيْهِ مُواجَهَةً مَعَ ٱلْمُشْتَكِينَ، فَيَحْصُلُ عَلَى فُرْصَةٍ لِلٱحْتِجَاجِ عَنِ ٱلشَّكْوَى».
ع ٤ و٥
أبان فستوس بهذا العدد عدم إجابته إلى ما سألوه وأن ما طلبوه مخالف للشريعة الرومانية. فضلت الشريعة الرومانية يومئذ كل شرائع ممالك الأرض بالعدل.
لَيْسَ لِلرُّومَانِ عَادَةٌ أي شريعتهم تمنعهم من مثل هذا وتوجب عليهم عكسه.
أَنْ يُسَلِّمُوا أَحَداً لِلْمَوْتِ إكراماً لشخص أو لجماعة أو منة عليه أو عليها.
مُواجَهَةً مَعَ ٱلْمُشْتَكِينَ الخ لكي يعرف المشكو عليه من هم المشتكون وما هي دعواهم ليدفع عن نفسه إن أمكن.
قول فستوس في (ع ١٥ و١٦) تفصيل لما في (ع ٤) مع شيء من الزيادة إذ لم يذكر هناك سوى طلبتهم الثانية بعد رفضه طلبتهم الأولى لمخالفتها للشريعة الرومانية. ورفض طلبتهم الثانية لعدم مناسبتها له.
١٧ «فَلَمَّا ٱجْتَمَعُوا إِلَى هُنَا جَلَسْتُ مِنْ دُونِ إِمْهَالٍ فِي ٱلْغَدِ عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ، وَأَمَرْتُ أَنْ يُؤْتَى بِٱلرَّجُلِ».
ع ٦
ٱجْتَمَعُوا إِلَى هُنَا على وفق الأمر المذكور في (ع ٥).
مِنْ دُونِ إِمْهَالٍ هذا كالذي كتبه لوقا في (ع ٦).
كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ (انظر ع ٦ و١٠).
أَنْ يُؤْتَى بِٱلرَّجُلِ من حيث يحرسه قائد المئة (ص ٢٤: ٢٣).
١٨ «فَلَمَّا وَقَفَ ٱلْمُشْتَكُونَ حَوْلَهُ لَمْ يَأْتُوا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا كُنْتُ أَظُنُّ».
استنتج فستوس من شدة غيظ اليهود على بولس وتمادي الزمان على أسره أنهم يتهمونه بجرائم فاحشة مخالفة للشريعة الرومانية كتهييج فتنة وما شاكله وتعجب لما رأى أنهم لم يتهموه بسوى آراء مخالفة لآرائهم.
١٩ «لٰكِنْ كَانَ لَهُمْ عَلَيْهِ مَسَائِلُ مِنْ جِهَةِ دِيَانَتِهِمْ، وَعَنْ وَاحِدٍ ٱسْمُهُ يَسُوعُ قَدْ مَاتَ، وَكَانَ بُولُسُ يَقُولُ إِنَّهُ حَيٌّ».
ص ١٨: ١٥ و٢٣: ٢٩
مَسَائِلُ مِنْ جِهَةِ دِيَانَتِهِمْ لا مسائل سياسية كالعصيان على الحكومة ولا مسائل شخصية كقتل أو سرقة. فقول فستوس هنا كقول غاليون في (ص ١٨: ١٧). ومثل تلك المسائل عند الرومانيين أمور لا يعبأ بها.
وَعَنْ وَاحِدٍ... قَدْ مَاتَ... بُولُسُ يَقُولُ إِنَّهُ حَيٌّ اقتصر فستوس على ذكر واحدة من تلك المسائل وهي قيامة يسوع والأرجح أن علة ذلك في خطابه أمامه تكلم بها بزيادة اهتمام كما تكلم أمام فيلكس في (ص ٢٣: ٦ و٢٤: ١٥ و١٦). وما أشار فستوس إليه بكلامه هنا في دعاوي اليهود وجواب بولس عليها لم يُذكر في (ع ٧ و٨) إلا مجملاً بغاية الاختصار. وما في كلام هذا الوالي الوثني الروماني من الاستخفاف بأعظم مبادئ الديانة المسيحية لا يحتاج إلى بيان لأنه حسب التأمل في ذلك المبدأ فضولاً وتصديقه حماقة.
٢٠ «وَإِذْ كُنْتُ مُرْتَاباً فِي ٱلْمَسْأَلَةِ عَنْ هٰذَا قُلْتُ: أَلَعَلَّهُ يَشَاءُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَيُحَاكَمَ هُنَاكَ مِنْ جِهَةِ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ؟».
لم يذكر العلة الأولى لعرضه على بولس المحاكمة في أورشليم وهي إرادته «أن يودع اليهود منة» (ع ٩) وهذا لا يمنع من أنه ظن أيضاً أنه بواسطة حضوره محاكمته في أورشليم يعرف غير ما عرفه من أمور الدينين اليهودي والمسيحي والفرق بينهما.
مُرْتَاباً فِي ٱلْمَسْأَلَةِ أي متحيراً في أمر الأسير هل أُطلقه لأنه لم يتعد الشريعة الرومانية أو أبقيه مقيداً لشكوى اليهود عليه بأنه خالف شريعتهم.
٢١ «وَلٰكِنْ لَمَّا رَفَعَ بُولُسُ دَعْوَاهُ لِكَيْ يُحْفَظَ لِفَحْصِ أُوغُسْطُسَ، أَمَرْتُ بِحِفْظِهِ إِلَى أَنْ أُرْسِلَهُ إِلَى قَيْصَرَ».
رَفَعَ بُولُسُ دَعْوَاهُ (انظر تفسير ع ١١).
لِفَحْصِ أُوغُسْطُسَ لنظره في دعواه وحكمه فيها. وأوغسطس هنا لقب الأمبراطور نيرون ومعناه الموقر توقير الآلهة فأعطاه المجلس الروماني الأعلى أولاً أكتافيانوس قيصر وورثه عنه خلفاءه ولقب فستوس نيرون به للتعظيم مع أنه ما لبث أن لقبه بقيصر وهو أدنى من لقب أوغسطس.
إِلَى أَنْ أُرْسِلَهُ الخ بوسائط مناسبة من مركب وحراس لسرعة وصوله رومية بالأمن.
٢٢ «فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِفَسْتُوسَ: كُنْتُ أُرِيدُ أَنَا أَيْضاً أَنْ أَسْمَعَ ٱلرَّجُلَ. فَقَالَ: غَداً تَسْمَعُهُ».
ص ٩: ١٥
كُنْتُ أُرِيدُ أَنَا أَيْضاً أَنْ أَسْمَعَ لاشتهار بولس بالفصاحة والبلاغة بين الناس وبشدة تأثير كلامه في القلوب وبكونه من رؤساء ملته الجديدة وبكثرة مبغضيه وشدة غضبهم عليه وبطل مدة أسره في قيصرية. ولا بد من أن أغريباس كان قد سمع أنباء يسوع وما أنشأه من الدين وأحب أن يسمع بيان ذلك من أعظم أتباع ذلك الدين.
غَداً أسرع فستوس إلى اغتنام الفرصة ليستفيد ممن ظنه قادراً على كشف الحجاب عن تلك المسئلة المبهمة فكان وسيلة بيد الله لبيان حقيقة الدين المسيحي بكلام لم يسبق له نظير في الفصاحة والبلاغة.
٢٣ «فَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا جَاءَ أَغْرِيبَاسُ وَبَرْنِيكِي فِي ٱحْتِفَالٍ عَظِيمٍ، وَدَخَلاَ إِلَى دَارِ ٱلٱسْتِمَاعِ مَعَ ٱلأُمَرَاءِ وَرِجَالِ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّمِينَ، أَمَرَ فَسْتُوسُ فَأُتِيَ بِبُولُسَ».
ما في هذه الآية إنجاز لقول المسيح لحنانيا في بولس «هٰذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ» (ص ٩: ١٥). ولقوله لرسله «تُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ» (متّى ١٠: ١٨).
فِي ٱحْتِفَالٍ عَظِيمٍ نفهم من هذا أن ذلك الاحتفال كان أعظم من أمثاله من احتفالات الملوك ولولا ذلك لم يكن من داع إلى ذكره. كان تعظُّم أبي أغريباس في ذلك المكان منذ ست عشرة سنة قبل هذا علة موته الفظيع (ص ١٢: ٢١ - ٢٣) لكن هذا الابن لم يستفد شيئاً من مصاب أبيه.
دَارِ ٱلٱسْتِمَاعِ أي النادي في قصر هيرودس (ص ٢٣: ٣٥).
ٱلأُمَرَاءِ أي قواد الألوف على مفاد الأصل اليوناني (انظر شرح ص ٢١: ٢٣). قال يوسيفوس أنه كان خمسة من أولئك الأمراء في قيصرية. والأرجح أنهم حضروا المحفل إكراماً لأغريباس.
٢٤ «فَقَالَ فَسْتُوسُ: أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ وَٱلرِّجَالُ ٱلْحَاضِرُونَ مَعَنَا أَجْمَعُونَ، أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ هٰذَا ٱلَّذِي تَوَسَّلَ إِلَيَّ مِنْ جِهَتِهِ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلْيَهُودِ فِي أُورُشَلِيمَ وَهُنَا، صَارِخِينَ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَعِيشَ بَعْدُ».
ع ٢ و٣ و٧ ص ٢٢: ٢٢
ما قاله فستوس هنا كان أنباء للغرباء بعلة الاجتماع وللاعتذار عن إتيانه ما خالف العادة وهو استنطاق الأسير بعد رفع دعواه إلى قيصر.
تَوَسَّلَ ببذل الجهد والإلحاح.
كُلُّ جُمْهُورِ ٱلْيَهُودِ يتبيّن من هذا أن ميل الفريسيين إلى بولس ومخاصمتهم للصدوقيين من أجله (ص ٢٣: ٩) كانا وقتيّين وأن الجميع من كهنة وشيوخ وعامة من كل الفرق اتفقوا على طلب الحكم عليه.
وَهُنَا أي في قيصرية. وهذا دليل على اتفاق يهود قيصرية مع يهود أورشليم على بولس وشدة الإلحاح على فستوس.
صَارِخِينَ إظهاراً لشدة غيظهم من بولس وبغية أن يستميلوا الوالي إلى إجابة طلبهم.
٢٥ «وَأَمَّا أَنَا فَلَمَّا وَجَدْتُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ، وَهُوَ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى أُوغُسْطُسَ، عَزَمْتُ أَنْ أُرْسِلَهُ».
ص ٢٣: ٩ و٢٦: ٣١ ع ١١ و١٢
لَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ هذا تصريح بتبرئة بولس من تعدي الشريعة بعد محاكمته (ع ٧ و٨ و٢٠) وفيه اعتراف بأن لا حجة له في أن يبقيه أسيراً ويجبره على رفع دعواه إلى قيصر لتحصيل حقوقه.
وَهُوَ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى أُوغُسْطُسَ لم يذكر علة رفع بولس دعواه إلى قيصر وهي إظهار فستوس ميله إلى إيثار أن يودع اليهود منّة على أن ينصف بولس.
عَزَمْتُ أَنْ أُرْسِلَهُ ظاهر العبارة يدل على أنه أتى ذلك اختياراً والحق أن ذلك كان واجباً عليه بمقتضى الشريعة الرومانية.
٢٦ «وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ يَقِينٌ مِنْ جِهَتِهِ لأَكْتُبَ إِلَى ٱلسَّيِّدِ. لِذٰلِكَ أَتَيْتُ بِهِ لَدَيْكُمْ، وَلاَ سِيَّمَا لَدَيْكَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ، حَتَّى إِذَا صَارَ ٱلْفَحْصُ يَكُونُ لِي شَيْءٌ لأَكْتُبَ».
كانت عادة الرومانيين أنهم إذا أرسلوا أسيراً من إحدى الولايات إلى رومية للمحاكمة أرسلوا معه تفصيل الدعاوي عليه وصورة ما جرى في المحاكمة المحلية ولكن بولس لم يثبت عليه سيء من تعدّي الشريعة الرومانية فعرف فستوس أن نيرون لا يحسبه أمراً يُلتفت إليه فإذاً لم يكن على بولس شيء يكتبه إلى قيصر.
ٱلسَّيِّدِ أي نيرون. والكلمة اليونانية التي تُرجمت «بالسيد» هنا تُترجم غالباً بالرب ونعت نيرون به هنا دليلاً على تدقيق لوقا في الكتابة. رفض الأمبراطورون الأولون هذا النعت ونهى أوغسطس أولاده وحفدته عن أن يلقبوه به هزلاً أو جدّاً لأنه حسب قبوله حراماً وشؤماً. وأول من قبله كليغولا ثم كلوديوس أما نيرون فأجبر الناس أن يلقبوه به.
لَدَيْكُمْ، وَلاَ سِيَّمَا لَدَيْكَ توقع فستوس أن الحاضرين ولا سيما أغريباس لكونه يهودياً يسعفوه على بيان دعوى على بولس.
٢٧ «لأَنِّي أَرَى حَمَاقَةً أَنْ أُرْسِلَ أَسِيراً وَلاَ أُشِيرَ إِلَى ٱلدَّعَاوِي ٱلَّتِي عَلَيْهِ».
حَمَاقَةً أي قلة عقل. خاف فستوس أن تُنسب إليه إن لم يجد على بولس بمساعدة الحاضرين ما يكتبه إلى قيصر فكان في حيرة عظيمة. والذي أوقعه في هذه الحيرة ميله إلى أن يودع اليهود منّة فإنه احتار كيف يكتب ما لا يظلم بولس به وما لا يوجب على نفسه ذنباً فكان لو كتب أنه بريٌ يخشى قول نيرون لماذا لم تطلقه ولماذا أجبرته على الاستئناف. ولو كتب أنه مذنب يلتزم أن يقيم الأدلة على ذلك وليس من دليل عليه.


الأصحاح السادس والعشرون


احتجاج بولس أمام أغريباس ع ١ إلى ٢٣


١ «فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِبُولُسَ: مَأْذُونٌ لَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ لأَجْلِ نَفْسِكَ. حِينَئِذٍ بَسَطَ بُولُسُ يَدَهُ وَجَعَلَ يَحْتَجُّ».
في هذا الأصحاح احتجاج بولس الخامس بعد ما قُبض عليه. احتجه بولس أمام أسمى الناس رتبة وسلطاناً في سورية من يهود ورومانيين. فإنه مع كونه مسيحياً لم يزل إسرائيلياً حقيقياً أميناً وما أتاه من تبشير الأمم لم يكن إلا بأمر الله. وهذا الاحتجاج أربعة أقسام:

  • الأول: المقدمة وفيه إظهار اللطف والمسرة باحتجاجه في حضرة خبير قادر على إدراك معاني أقواله (ع ٢ و٣).
  • الثاني: غرابة أن يشكوه رفقاؤه القدماء من اليهود على تمسكه بما هو جوهر ديانتهم وموضوع كل النبوآت (ع ٤ - ٨).
  • الثالث: بيان علة مصيره مؤمناً وبشيراً بالدين المسيحي بعد كونه عدواً ومضطهداً لكل أتباع المسيح.
  • الرابع: بيان موضوع تبشيره وهو أن المسيح مخلّص متألم وشدة المقاومة له على ذلك مع أنه على وفق كتب اليهود المقدسة وحينئذ عارضه فستوس واتهمه بالهذيان.


فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ أكرم فستوس أغريباس بجعله إياه رئيس المحفل إذ لم يكن الاحتفال للمحاكمة لأن بولس رفع دعواه إلى رومية إنما غايته إعطاء فرصة للأسير لتبرير نفسه مما اتهم به على الأسلوب المظنون أنه يحتج فيه أمام نيرون.
مَأْذُونٌ لَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ لم يقل أذنت لك لأن السلطة في قيصرية وسائر اليهودية للوالي.
بَسَطَ بُولُسُ يَدَهُ كعادته في الخطاب ولعلها كانت موثقة بإحدى السلاسل المذكورة في ع ٢٩.
يَحْتَجُّ كان احتجاجه في بعض الأمور كاحتجاجه على درج قصر أنطونيا (ص ٢١: ٤٠ و٢٢: ١ - ٢١) إلا أنه لم يتعرض لدفع تهمة أنه قاوم اليهود وشريعتهم ودنس الهيكل ولم يتوقع بولس من هذا الاحتجاج الإطلاق من أسره إنما رجا أولاً أن يجعل الملك أغريباس يعترف ببرائته فيخف بغض اليهود لبولس.
ثانياً أن تكون الكتابة إلى نيرون في شأنه موافقة له (ص ٢٥: ٢٦ و٢٧).
ثالثاً أن ينادى بالإنجيل على مسمع أغريباس وسائر المجتمعين لنفع نفوسهم.
٢ «إِنِّي أَحْسِبُ نَفْسِي سَعِيداً أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ، إِذْ أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَحْتَجَّ ٱلْيَوْمَ لَدَيْكَ عَنْ كُلِّ مَا يُحَاكِمُنِي بِهِ ٱلْيَهُودُ».
لَدَيْكَ قال بولس ذلك لأن أغريباس يهودي قادر أن يحكم في أمور الديانة اليهودية التي أُتهم بولس بمخالفتها وكان احتجاجان من احتجاجاته السابقة أمام حكام رومانيين يجهلون عوائد اليهود وعقائدهم ويحتقرونها جميعاً فلم يفهموا قوة احتجاجه لكن أغريباس كان قادراً على فهم كل ما احتج به فيُفهم فستوس ما يجعله يكتب إلى نيرون ما يوافق بولس.
مَا يُحَاكِمُنِي بِهِ ٱلْيَهُودُ من أني رجل مفسد ومهيّج فتنة ومقدام شيعة الناصريين ومنجس الهيكل (ص ٢٤: ٥ و٦).
٣ «لاَ سِيَّمَا وَأَنْتَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ ٱلْعَوَائِدِ وَٱلْمَسَائِلِ ٱلَّتِي بَيْنَ ٱلْيَهُودِ. لِذٰلِكَ أَلْتَمِسُ مِنْكَ أَنْ تَسْمَعَنِي بِطُولِ ٱلأَنَاةِ».
لاَ سِيَّمَا وَأَنْتَ لأنه يهودي أصلاً وإيماناً وهو حارس الهيكل القانوني ومحسوب حامياً للدين اليهودي وحاكم بأمر الدولة الرومانية فيندر وجود مثله في تعلقه بالأمتين والصفات التي تؤهله للنظر في هذه الدعوى.
أَنْ تَسْمَعَنِي بِطُولِ ٱلأَنَاةِ على خلاف ما يتوقع من حاكم روماني يعتبر كل أمور الدين اليهودي أوهاماً لا تستحق أن تُسمع.
٤، ٥ «فَسِيرَتِي مُنْذُ حَدَاثَتِي ٱلَّتِي مِنَ ٱلْبَدَاءَةِ كَانَتْ بَيْنَ أُمَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ يَعْرِفُهَا جَمِيعُ ٱلْيَهُودِ، عَالِمِينَ بِي مِنَ ٱلأَوَّلِ إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَشْهَدُوا أَنِّي حَسَبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا ٱلأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيّاً».
ص ٢٢: ٣ و٢٣: ٦ و٢٤: ١٥ و٢١ وفيلبي ٣: ٥
فَسِيرَتِي مُنْذُ حَدَاثَتِي بالنظر إلى شخصي وعلمي وديني وهذا مجمل ما في (ص ٢٢: ٣) ولم يفصله لأنه من الأمور المشهورة التي لا تحتاج إلى بيان.
مِنَ ٱلْبَدَاءَةِ أي قبل أن تنصّر.
بَيْنَ أُمَّتِي نعم أنه وُلد بين الأمم في طرسوس لكنه لم يترب بينهم.
فِي أُورُشَلِيمَ المدينة المقدسة قصبة الشعب اليهودي لا في قرية مجهولة.
جَمِيعُ ٱلْيَهُودِ أي يهود اليهودية والمرجح أنه اشتهر بين علماء عصره بمعرفة الشريعة اليهودية وبغيرته ونباهته ولعله كان من بيت شريف وإلا لم يكن رومانياً. وأخذه الوكالة المذكورة في (ص ٩: ١ و٢) دليل على صحة ما ذُكر (انظر أيضاً فيلبي ٣: ٤ - ٦). ولا ريب في أنه كان من جملة المشتكين عليه كثيرون ممن عرفوه قبل أن تنصّر. وبولس اعتبر اشتهاره السابق بين شعبه أمراً ذا شأن في تبرئته إذ هو دليل على إخلاصه وأنه لم يتنصّر لنفع شخصي.
إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَشْهَدُوا هذا إيماء إلى أنهم أنكروا معرفته إياه في ما سلف.
مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا ٱلأَضْيَقِ اعتقاداً وعملاً.
عِشْتُ فَرِّيسِيّا أي أني لم أكتف بأن أُسمى فريسياً بل كانت عيشتي كلها مطابقة لسنن الفريسيين وعوائدهم.
٦ «وَٱلآنَ أَنَا وَاقِفٌ أُحَاكَمُ عَلَى رَجَاءِ ٱلْوَعْدِ ٱلَّذِي صَارَ مِنَ ٱللّٰهِ لآبَائِنَا».
ص ٢٣: ٦ تكوين ٣: ١٥ و٢٢: ١٨ و٢٦: ٤ و٤٩: ١٠ وتثنية ١٨: ١٥ و٢صموئيل ٧: ١٢ ومزمور ١٣٢: ١١ وإشعياء ٤: ٢ و٧: ١٤ و٩: ٦ و٤٠: ١٠ وإرميا ٢٣: ٥ و٣٣: ١٤ الخ وحزقيال ٣٤: ٢٣ و٣٧: ٢٤ ودانيال ٩: ٢٤ وميخا ٧: ٢٠ وص ١٣: ٣٢ ورومية ١٥: ٨ وتيطس ٢: ١٣
هذا تكرير لقوله في (ص ٢٤: ١٤ و١٥) أن علة بغض اليهود واضطهادهم إياه وقبضهم عليه أمانته لدين آبائه لا رفضه كما قالوا.
رَجَاءِ ٱلْوَعْدِ أي توقع إتمام الوعد بالأمور المتعلقة بملكوت المسيح وأعظمها اثنان الأول مجيء المسيح الموعود به والثاني قيامة الأموات. والرسول قرن أحدهما بالآخر كأنهما واحد لأنه اعتبر قيامة يسوع من الموت برهاناً على كونه هو المسيح الموعود به وبرهاناً على صحة القول بالقيامة من الأموات وعربون قيامة كل بشر. وشواهد هذا الوعد ذُكرت مع هذه الآية فارجع إليها.
لآبَائِنَا أي أسلافنا اليهود من إبراهيم إلى المسيّا وجمع معه بهذا القول أغريباس وسائر يهود ذلك العصر لأن أغريباس وإن كان جده أدومياً هو من إبراهيم وإسحاق.
٧ «ٱلَّذِي أَسْبَاطُنَا ٱلٱثْنَا عَشَرَ يَرْجُونَ نَوَالَهُ، عَابِدِينَ بِٱلْجَهْدِ لَيْلاً وَنَهَاراً. فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا ٱلرَّجَاءِ أَنَا أُحَاكَمُ مِنَ ٱلْيَهُودِ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ».
يعقوب ١: ١ فيلبي ٣: ١١ لوقا ٢: ٧ و١تسالونيكي ٣: ١٠ و١تيموثاوس ٥: ٥
أَسْبَاطُنَا ٱلٱثْنَا عَشَرَ أي كل الأمة اليهودية لأنها سلسلة أبناء يعقوب الاثني عشر. سُبي منهم أولاً عشرة أسباط إلى بلاد أشور ثم سُبي السبطان يهوذا وبنيامين إلى بابل ورجع منهم من رجع وهم ليسوا من يهوذا وبنيامين فقط بل من بقية الاسباط العشرة أيضاً فما يظهر من (عزرا ٦: ١٧ و١٨ و٨: ٣٥) ومن الكهنة واللاويين أيضاً (عزرا ١٠: ٥ - ١١). وخاطب يعقوب في رسالته الاثني عشر سبطاً المتشتتين (يعقوب ١: ١). وبولس كيعقوب خاطب يهود عصره كأنهم نواب الكنيسة اليهودية. كل سبط ونسب هذا الرجاء إلى كل الأمة.
يَرْجُونَ نَوَالَهُ نسب بولس هذه الرجاء على ما فُسر في الآية السابقة إلى كل اليهود لأنه كان معظم ما رجوه مجيء المسيح واشترك في هذا الصدوقيون والفريسيون. وأما الصدوقيون وإن كانوا قد أنكروا القيامة فلم يعتد بهم لقلتهم.
عَابِدِينَ بممارستهم رسوم الشريعة في الهيكل وكانت وقتئذ أكثر عبادة اليهود خارجية لا باطنية مارسها بعضهم رغبة في الأجر وبعضهم إطاعة لله الذي رسمها. واعتبرها بعضهم دائمة والآخر وقتية وإعداده لمجيء المسيح.
لَيْلاً وَنَهَاراً مواظبين على توالي الأوقات كما عهدت حنة «بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً» (لوقا ٢: ٣٧ انظر أيضاً ١تيموثاوس ٥: ٥). وجاز وصف العبادة في الهيكل بالدوام «ليلاً ونهاراً» لأن الذبيحة اليومية كانت تقدم كل صباح وكل مساء بدليل قول الكتاب في بعض خدم الدين «فَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلْمُغَنُّونَ رُؤُوسُ آبَاءِ ٱللاَّوِيِّينَ فِي ٱلْمَخَادِعِ، وَهُمْ مُعْفَوْنَ، لأَنَّهُ نَهَاراً وَلَيْلاً عَلَيْهِمِ ٱلْعَمَلُ» (١أيام ٩: ٣٣). «نَارٌ دَائِمَةٌ تَتَّقِدُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ. لاَ تُطْفَأُ» (لاويين ٦: ١٣). وقيل في الرجل الصديق أنه «فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَاراً وَلَيْلاً» (مزمور ١: ٢).
فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا ٱلرَّجَاءِ احتجّ بولس لتبرئته نفسه مما اتهموه به بأن ما اعتقده ونادى به هو اعتقاد الأمة اليهودية بأسرها وهو مجيء المسيح الموعود به وقيامة الأموات. والفرق بينه وبين اليهود سبقه إياهم إلى الاقتناع بأنه قد وقع ما لا يزالون يتوقعونه وهو أن ذلك الرجاء تم بيسوع الذي برهن الله أنه المسيح بإقامته من الموت.
أُحَاكَمُ مِنَ ٱلْيَهُودِ الذين أساس دينهم الرجاء الذي اشتكوا عليّ لتمسكي به لأني أنا أنادي وقوعه وهم ينكرون أنه وقع.
٨ «لِمَاذَا يُعَدُّ عِنْدَكُمْ أَمْراً لاَ يُصَدَّقُ إِنْ أَقَامَ ٱللّٰهُ أَمْوَاتاً؟».
لِمَاذَا يُعَدُّ عِنْدَكُمْ خاطب بولس أغريباس كأنه نائب عن اليهود كافة. وفحوى السؤال أنه لماذا لا تصدقون تعليمي أن يسوع هو المسيح وقد تبرهن أنه كذلك بقيامته من الأموات وقد جئتكم بالبيّنات القاطعة على قيامته فإنكار أنه هو المسيح إنكار للقيامة عينها.
إِنْ أَقَامَ ٱللّٰهُ أَمْوَاتاً ظاهر العبارة الإشارة إلى القيامة المطلقة والإشارة بالحقيقة إلى قيامة يسوع التي هي عربون القيامة العامة ونموذجها. فقيامة يسوع جوهر المناظرة بين اليهود والمسيحيين فإثباتها إثبات لكل دعاوي يسوع. ولما عرض فستوس أمر بولس لأغريباس قال أن الخلاف بين بولس واليهود هو «عَنْ وَاحِدٍ ٱسْمُهُ يَسُوعُ قَدْ مَاتَ، وَكَانَ بُولُسُ يَقُولُ إِنَّهُ حَيٌّ» (ص ٢٥: ١٩). فكأنه قال أنتم مثلي في كونكم تعتقدون مجيء المسيح وقيامة الأموات وأنا شهدت بأني رأيته بعد ما أقامه الله من الأموات فلماذا لا تصدقون. أو لم تروا أن عدم تصديقكم شهادتي وما يلزم من التسليم بها من إثبات أن يسوع هو المسيح مناقض لإيمانكم بقيامة الموتى.
٩ «فَأَنَا ٱرْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَصْنَعَ أُمُوراً كَثِيرَةً مُضَادَّةً لٱسْمِ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ».
يوحنا ١٦: ٢ و١تيموثاوس ١: ١٣
ما في هذه الآية متعلق بالآية الخامسة وهي قول بولس أنه عاش فريسياً. وما بين الآيتين معترض جاء به إظهاراً لغرابة الأمر وهو أنه مشكو عليه من اليهود لتمسكه بالرجاء الذي يرجوه الإسرائيليون كلهم من الفريسيين لتمسكه بالإيمان الذي امتازوا به على الجميع وغايته هنا بيان أن أعماله تُعلن أنه فريسي.
ٱرْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أي أن ضميره حمله على ما فعل وهذا كقوله «إِنِّي بِكُلِّ ضَمِيرٍ صَالِحٍ قَدْ عِشْتُ لِلّٰهِ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (ص ٢٣: ١).
يَنْبَغِي أي يجب عليّ بمقتضى الدين والضمير.
أُمُوراً كَثِيرَةً مما أتاه في مقاومة المسيح ودينه قولاً وفعلاً.
لٱسْمِ يَسُوعَ كثيراً ما يُراد «باسم يسوع» ذات المسيح أو صفاته أو بما يتعلق به وقد قيل أن المؤمنين اعتمدوا باسمه (ص ٢: ٢٨) وأنه قد صنع بهذا الاسم معجزات (ص ٣: ٦) وقال الرب لحنانيا عن بولس «هٰذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ» (ص ٩: ١٥). وقال عن برنابا وبولس «قَدْ بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا لأَجْلِ ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (ص ١٥: ٢٦).
ٱلنَّاصِرِيِّ هذا الاسم الذي اشتهر به في اليهودية وهو كل ما عرفه من أمر المسيح يوم كان فريسياً.
١٠ «وَفَعَلْتُ ذٰلِكَ أَيْضاً فِي أُورُشَلِيمَ، فَحَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْقِدِّيسِينَ، آخِذاً ٱلسُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذَلِكَ».
ص ٨: ٣ وغلاطية ١: ١٣ ص ٩: ١٤ و٢١ و٢٢: ٥
فِي أُورُشَلِيمَ ابتدأ بولس يضطهد المسيحيين في تلك المدينة وأشار إلى هذا بما قيل أنه كان راضياً بقتل استفانوس (ص ٨: ١) وأنه كان يسطو على الكنيسة ويدخل البيوت ويجر رجالاً ونساء ويسلمهم إلى السجن (ص ٨: ٣).
ٱلْقِدِّيسِينَ يُلقب اليوم بهذا الاسم غالباً المتوفون من المؤمنين لكنه كثيراً ما لُقب به في الإنجيل الأحياء منهم. ولُقبوا بهذا في (ص ٩) ثلاث مرات في (ع ١٣ و٣٢ و٤١ منه وفي رومية ١: ٧ و٨ و٢٧ و١٥: ٢٥ و٢٦ و٣١ و١٦: ٢ و١٥ وفي ١كورنثوس ١: ٢ و٤: ١٢ و١٤: ١٣ و١٦: ١ و١٥ و٢كورنثوس ١: ١ وأفسس ١: ١ وكولوسي ١: ٢ و٤ و١٢ و٢٦) ولقبوا به كثيراً في غير ما ذُكر. وكان وهو فريسي يعتبر المسيحيين أشراراً ويعاملهم معاملة الأِشرار. ولكنه وهو أمام أغريباس اعترف بأخطائه إلى أولئك الشهداء واعتبرهم قديسين وصرّح بأنهم كذلك.
آخِذاً ٱلسُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَة بعد أن اعترف بولس بذنبه صرّح بخطيئة رؤساء اليهود الذين تمّم هو إرادتهم ومقاصدهم وأنجز أوامرهم وبسلطانهم قدر على ما فعل.
يُقْتَلُونَ ليس لنا نبأ بغير قتل استفانوس. وقوله هنا وقوله في (ص ٢٢: ٤) «ٱضْطَهَدْتُ هٰذَا ٱلطَّرِيقَ حَتَّى ٱلْمَوْتِ» وقول لوقا في (ص ٩: ١) «أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ ٱلرَّبِّ» دليل على قتل كثيرين غير استفانوس.
أَلْقَيْتُ قُرْعَةً فهم بعض المفسرين من هذا أن بولس كان أحد أعضاء مجلس السبعين وأنه من جملة القضاة الذين ألقوا القرعة لتبرئة المتهم أو لإثبات ذنبه. وكان طريق تبرئته أن الذي يريدها من القضاة يلقي حصاة بيضاء في إناء وطريق تخطئته أن الذي يريدها منهم يلقي حصاة سوداء فيه. وظن آخرون أن إلقاء القرعة هنا مجاز والمراد به تمام الاتفاق على الأمر. والأدلة على ترجيح أحد الأمرين غير كافية.
١١ «وَفِي كُلِّ ٱلْمَجَامِعِ كُنْتُ أُعَاقِبُهُمْ مِرَاراً كَثِيرَةً، وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى ٱلتَّجْدِيفِ. وَإِذْ أَفْرَطَ حَنَقِي عَلَيْهِمْ كُنْتُ أَطْرُدُهُمْ إِلَى ٱلْمُدُنِ ٱلَّتِي فِي ٱلْخَارِجِ».
ص ٢٢: ١٩
فِي كُلِّ ٱلْمَجَامِعِ في هذا إشارة إلى مجامع أورشليم الكثيرة (انظر شرح ص ٦: ٩) والمجامع في غيرها من المدن التي أرسله السبعون إليها ليضطهد المسيحيين.
أُعَاقِبُهُمْ كانت معاقبة المجامع غالباً بضرب العصي أو الجلد (انظر متّى ١٠: ١٧ و٢٣: ٣٤).
وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى ٱلتَّجْدِيفِ أي إلى لعن اسم يسوع أو إلى إنكار كونه المسيح وإلى القول بأنه خادع. فكان يجبر الجميع على ذلك ويُنفذ قصده في ضعفاء الإيمان. وعُرّض المسيحيون الأولون كثيراً لمثل ذلك. قال تريجانوس المؤرخ الروماني في مسيحي بيثينية بعد أربعين سنة لوقوف بولس أمام أغريباس إن المسيحيين في تلك البلاد أُجبروا أن يلعنوا اسم المسيح فأبوا ذلك إلا الذين ليسوا مسيحيين حقيقيين.
أَفْرَطَ حَنَقِي ما كان يحسبه بولس غيرة ممدوحة واجبة ديناً حسبه هنا حماقة وجنوناً.
ٱلْمُدُنِ ٱلَّتِي فِي ٱلْخَارِجِ أي خارج اليهودية. ذُكر في هذا السفر ذهابه إلى دمشق لأهمية الأمور التي حدثت له فيها وعدول لوقا عن ذكر ذهابه إلى غيرها ليس بدليل على عدم ذهابه إليها.
١٢ «وَلَمَّا كُنْتُ ذَاهِباً فِي ذٰلِكَ إِلَى دِمَشْقَ، بِسُلْطَانٍ وَوَصِيَّةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ».
ص ٩: ٢ و٢٢: ٦
بِسُلْطَانٍ وَوَصِيَّةٍ الخ لم يُذكر عمل رؤساء اليهود هنا عذراً يخفف به ذنبه بل برهاناً على مشاركة المشتكين عليه له في أعمال التعصب والقساوة والخطيئة.
وفي هذه الآية إنباء ثالث في كيفية تحوّله عن اليهودية إلى المسيحية. وكان الإنباء الأول والإنباء الثاني في (ص ٩ وص ٢٢). وما هنا يفرق قليلاً عما سبق. وأهم الأمور الزائدة ثلاثة:

  • الأول: أن النور الذي ظهر له أعظم من ضوء الشمس عند الظهيرة.
  • الثاني: أن كلام الذي خاطبه عبراني.
  • الثالث: قوله «صعب عليك أن ترفس مناخس». وسبق تفسير هذه الأنباء في شرح (ص ٩ و٢٢). فارجع إليه ولا داعي إلى شرح غير ما زاده.


١٣ - ١٥ «١٣ رَأَيْتُ فِي نِصْفِ ٱلنَّهَارِ فِي ٱلطَّرِيقِ، أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، نُوراً مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ لَمَعَانِ ٱلشَّمْسِ قَدْ أَبْرَقَ حَوْلِي وَحَوْلَ ٱلذَّاهِبِينَ مَعِي. ١٤ فَلَمَّا سَقَطْنَا جَمِيعُنَا عَلَى ٱلأَرْضِ، سَمِعْتُ صَوْتاً يُكَلِّمُنِي بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ: شَاوُلُ شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ ١٥ فَقُلْتُ أَنَا: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ: أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ».
نُوراً مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ لَمَعَانِ ٱلشَّمْسِ وُصف هذا النور في (ص ٩: ٣) بأنه «من السماء» ووصف في (ص ٢٢: ٦) بأنه «نور عظيم» ووصفه هنا بأن «لمعانه أعظم من لمعان الشمس في منتصف النهار». وما ذلك سوى المجد المحيط بالمسيح وهو في حال ارتفاعه وهذا نظير ما شاهده الرسل في جبل التجلي (متّى ١٧: ٢) ويوافق قوله في المسيح «انها بهاء مجد الله» (عبرانيين ١: ٣).
سَقَطْنَا جَمِيعُنَا عَلَى ٱلأَرْضِ أي بولس ورفقاؤه وليس في هذا مناقضة لما قيل في (ص ٩: ٤ و٧) من أن بولس سقط على الأرض وأن الآخرين وقفوا صامتين لأن لوقا في (ص ٩: ٤) قصد الإشارة إلى تأثير المنظر في بولس فقط فلا يمنع من أن يكون الآخرون قد سقطوا أيضاً. وقوله أن وقت سمعهم الصوت «وقفوا صامتين» لا يمنع من أن يكونوا قد سقطوا ثم قاموا.
بِٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ لم يُذكر هذا في غير هذا النبإ.
صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ هذا مثل كثر استعماله عند قدماء اليونانيين مأخوذ عن فعل الثور أحياناً حين ينخسه صاحبه حثاً على العمل فإن الثور لا يتخلص بذلك من العمل بل يجرح نفسه. ومعناه هنا أن مقاومة يسوع باضطهاد تلاميذه عمل عبث وضار للعامل أي أنه يضر نفسه ولا يستطيع أن يمنع الإنجيل.
١٦ «وَلٰكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ».
ص ١٨: ٩ و٢٢: ١٥ و١٨ و٢٣: ١١ و٢كورنثوس ١٢: ١ وغلاطية ١: ١٢
نُسب إلى المسيح في هذه الآية بعض ما نُسب إلى حنانيا في ص ٩ وعلة ذلك إما أن يسوع قال لبولس أولاً ما قاله لحنانيا ثانياً وأمره بأن يقوله لبولس أو أن بولس اعتبر هنا ما قاله الرب له رأساً وما قاله له بواسطة حنانيا واحداً. وجوهر قصده هنا إخبار أغريباس بإجمال أمر الله له بقطع النظر عن الواسطة.
قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لم يُذكر هنا في النبأين السابقين لكن بولس لم ينسه.
لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ لا لأعاقبك كما تستحق على مقاومتك إياي ولا لأجعلك عبرة لمضطهدي كنيستي بعدك.
لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً معظم خدمة المبشر تأدية الشهادة فوجب أن يكون المبشر مختبراً حقيقة الأمور التي ينادى بها لكي يشهد بما رآه واختبره. وقام بولس بهذا بقصه إياه على أغريباس كما قام به بقصه إياه قبلاً على درج الهيكل.
بِمَا رَأَيْتَ أي بانتظارك إياي الآن.
وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ كما وقع له في الهيكل وغيره (ص ٢٢: ١٧ - ٢١ و١كورنثوس ١١: ١ - ٥). وكما أبانه المسيح له بالوحي وقد رأينا معلنات ذلك في رسائله المملوءة تعاليم إلهية.
١٧ «مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ».
ص ٢٢: ٢١
في هذا إيماء إلى أنه يتعرض بخدمته وشهادته لمخاطر من اليهود والأمم وتصريح بإنقاذ المسيح له منها. وهذا الوعد لا يستلزم أنه لا يقع عليه شيء من شديد الاضطهاد ولا أنه لا يموت شهيداً بل إنما المراد حفظه حياً إلى أن يكمل الخدمة المعينة له.
ٱلشَّعْبِ أي اليهود.
ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ أبغض اليهود بولس وشكوه لأنه بشر الأمم ولذلك اختار أن يبين لأغريباس أنه ذهب إلى الأمم وبشرهم بأمر ذلك الذي ظهر له في المشهد السماوي. وقول المسيح له «أرسلك الخ» بينة بولس أنه رسول حقاً. وبناء على ذلك كتب «بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ١: ١).
١٨ «لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ».
إشعياء ٣٥: ٥ و٤٢: ٧ ولوقا ١: ٧٩ ويوحنا ٨: ١٢ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ١: ١٨ و١تسالونيكي ٥: ٥ ٢كورنثوس ٦: ١٤ وأفسس ٤: ١٨ و٥: ٨ وكولوسي ١: ١٣ و١بطرس ٢: ٩ و٢٥ لوقا ١: ٧٧ ص ٢٠: ٣٢ وأفسس ١: ١١ وكولوسي ١: ١٢
هذا بيان ما ينتج من إرساله إلى الأمم من التغيرات الناشئة عن تبشيره. وقد حصل اليهود على بعض تلك الفوائد لأن بولس كان يخاطبهم أولاً في كل مكان دخله للتبشير. وما في هذه الآية من بيان التأثير بالمناداة بالإنجيل على وفق ما جاء في (إشعياء ٤٢: ٦ و٧).
لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ أي لتزيل عنهم العماية الناشئة عن الجهل وإضلال المعلمين لكي يستطعيوا أن يروا الأمور الروحية ويتحققوا عظمتهما وجودتها. ونسب هذا الفعل إلى بولس لأنه كان آلة الروح في ذلك.
كَيْ يَرْجِعُوا هذا نتيجة فتح عيونهم ونظرهم أن الطريق الذي كانوا سائرين فيه طريق حمق وهلاك. وغاية التبشير كله ترجيع الناس إلى الله بإرادتهم واختيارهم إطاعة لدعوة الروح القدس.
مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ تستعار الظلمة في الإنجيل للجهل والخطيئة والشقاء. والنور للمعرفة والقداسة والسعادة. والإنجيل هو الواسطة للرجوع من الظلمات إلى النور لأنه يُعلن للناس يسوع نور العالم (يوحنا ٨: ١٢) فإنه أتى لينير الناس (لوقا ٢: ٣٢) وهو ينقذهم من سلطان الظلمة (كولوسي ١: ١٣). ويدعوهم من الظلمة إلى نوره العجيب (١بطرس ٢: ٩ قابل ذلك ما في (متّى ٤: ١٦ ويوحنا ١: ٤ و٥ ورومية ١٣: ١٢ و٢كورنثوس ٤: ٦ وأفسس ٥: ٨ - ١٣ و١تسالونيكي ٥: ٥).
مِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إن الشيطان خصم الله رئيس مملكة الظلمة (متّى ١٢: ٢٦) ورئيس هذا العالم (يوحنا ١٢: ٣١) وإله هذا الدهر (٢كورنثوس ٤: ٤) ومستعبد النفوس ومهلكها. فبواسطة سمع الإنجيل والإيمان بالمسيح المُعلن فيه ينجو الناس من سلطانه ويطرحون نيره ويتركون طاعته والقيام بما يريد.
إِلَى ٱللّٰهِ أي إلى طاعته وخدمته وإكرامه ومحبته وملكوته وهذا نتيجة الرجوع المذكور آنفاً فيه ينتقل الإنسان من سلطان الشيطان وخدمته إلى سلطان الله وخدمته.
حَتَّى يَنَالُوا... غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا هذا نتيجة رجوع الإنسان إلى الله ومصيره إلى حال جديدة يحصل فيها على فوائد الفداء وأعظمها غفران الخطايا. وهذا يتضمن النجاة من عقاب الخطيئة وسلطتها (انظر ص ٢: ٢٨ و٥: ٣١ و١٠: ٤٣ و١٣: ٢٨).
َ نَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ هذا فضلاً عن المغفرة التي تتضمن النجاة من الدَّين والدينونة وهذا النصيب يشتمل على كل حقوق أولاد الله. والمؤمنون ينالون بعض هذا النصيب على الأرض من تقديس وغيره وسائره وهو الأكثر في السماء (رومية ٨: ١٧ انظر شرح ص ٢٠: ٣٢).
بِٱلإِيمَانِ بِي هذا هو الواسطة الوحيدة الكافية لكل ما ذُكر من فتح العيون والرجوع إلى الله والنجاة والمغفرة ونوال الميراث وهو الاتكال على يسوع الذي صُلب ومات وقام وشفع فينا.
١٩ «مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ لَمْ أَكُنْ مُعَانِداً لِلرُّؤْيَا ٱلسَّمَاوِيَّةِ».
مِنْ ثَمَّ أي بناء على كل ما سمعت ورأيت وتحققت مما يجب عليّ أن أفعله.
لَمْ أَكُنْ مُعَانِداً في ذلك تلميح أنه لو اتكل على حكمته أو رغب في خير نفسه لأبى أن يحتمل أتعاب تلك الخدمة ومشقاتها. ومما يدل على طاعته ما في (ص ٩: ٦ وغلاطية ١: ١٦). وفيه تلميح آخر إلى أنه لو قصد المعاندة لم يكن من شيء يجبره على خلاف ما يريد. فإنه مع اختيار الله إيّاه لهذا العمل (ص ٩: ٥) ودعوة الروح القدس له كانت طاعته اختيارية. فاختيار الله لا ينزع حرية الإنسان.
لِلرُّؤْيَا ٱلسَّمَاوِيَّةِ (ع ١٣). أدرج بولس في «الرؤيا» كل ما قبله من الإعلان الإلهي. كان النور الذي أضاء حوله سماوياً والصوت الذي سمعه صوت الرب من السماء.
٢٠ «بَلْ أَخْبَرْتُ أَوَّلاً ٱلَّذِينَ فِي دِمَشْقَ وَفِي أُورُشَلِيمَ حَتَّى جَمِيعِ كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، ثُمَّ ٱلأُمَمَ، أَنْ يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى ٱللّٰهِ عَامِلِينَ أَعْمَالاً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ».
ص ٩: ٢٠ و٢٨ الخ ص ١١: ٢٦ و١٣: ٤ الخ و١٥: ٣ و١٢ و٤١ وص ١٦ إلى ص ٢١ متّى ٣: ٨
في هذه الآية خلاصة ما فعله طوعاً لتلك الرؤيا.
أَخْبَرْتُ أي بشرت بالإنجيل.
أَوَّلاً ٱلَّذِينَ فِي دِمَشْقَ حيث تنصر (ص ٩: ٢٠ - ٢٢).
وَفِي أُورُشَلِيمَ (ص ٩: ٢٨ و٢٩).
كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، ثُمَّ ٱلأُمَمَ أشار بذلك إلى كل ما أتاه في خدمته مدة نحو عشرين سنة. ولا نعلم متى بشر في كورة اليهودية. ولعله بشر فيها حين أتى إليها من أنطاكية في زمن الجوع (ص ١١: ٢٨ - ٣٠) أو حين أتى إليها أثناء سفره الأول والثاني للتبشير بين الأمم (ص ١٨: ٢٢).
أَنْ يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا الخ أثبت بما في أول هذه الآية أمانته في إتمام خدمته في وقتها وأماكنها وأثبت هنا أمانته في مواضيع تبشيره كما أُمر (ع ١٨) وجعل تلك المواضيع ثلاثة:

  • الأول: التوبة عن الخطايا السالفة.
  • الثاني: الرجوع إلى الله بالتوبة والإيمان والمحبة.
  • الثالث: السيرة المقدسة القائمة بالأعمال التي هي إثمار التوبة وأدلة صحتها. وهذا مثل قول يوحنا المعمدان للذين خرجوا إلى معموديته (متّى ٨: ٣) وهذه المواضيع الثلاثة ثلاث درجات في الحياة الروحية.


٢١ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَمْسَكَنِي ٱلْيَهُودُ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَشَرَعُوا فِي قَتْلِي».
ص ٢١: ٣٠ و٣١
بعد أن أبان بولس أن كل ما أتاه كان طوعاً للأمر الإلهي يبيّن أن عاقبة ذلك كانت مقاومة اليهود التي وقف بها أسيراً أمام أغريباس.
مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي لأني بشرت اليهود والأمم بما أُمرت بالتبشير به.
هذه العلة الحقيقية لبغض اليهود إياه وقبضهم عليه (ص ٢١: ٢٨ و٢٩). ولولا تبشيره بالدين في أسيا وغيرها من بلاد الأمم لم يخطر على بالهم أن يشتكوا عليه بتدنيس الهيكل كما هو ظاهر في (ص ٢١: ٢٩).
إن اليهود اشتكوا عليه بأمور كثيرة (ص ٢٤: ٥ و٦ و٢٥: ٧) لكن ذنبه الأعظم عندهم مناداته بأنه يسوع هو المسيح الموعود به والمنتظر وأنه دعا الأمم إلى الاشتراك في بركات ملكوته بدون القيام برسوم الشريعة الموسوية.
شَرَعُوا فِي قَتْلِي جوراً بلا محاكمة (ص ٢١: ٣١).
٢٢ «فَإِذْ حَصَلْتُ عَلَى مَعُونَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ بَقِيتُ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ، شَاهِداً لِلصَّغِيرِ وَٱلْكَبِيرِ. وَأَنَا لاَ أَقُولُ شَيْئاً غَيْرَ مَا تَكَلَّمَ ٱلأَنْبِيَاءُ وَمُوسَى أَنَّهُ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ».
لوقا ٢٤: ٢٧ و٤٤ وص ٢٤: ١٤ و٢٨: ١٣ ورومية ٣: ٢١ يوحنا ٥: ٤٦
حَصَلْتُ عَلَى مَعُونَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ عنى أن عناية الله حفظته على رغم اجتهاد اليهود (قبل وبعد في أورشليم وغيرها) في أن يقتلوه. ونسب ذلك إلى الله لأنه هو مصدره وأنه اتخذ الرومانيين ليسياس وفيلكس وفستوس وعسكرهم أدوات لوقايته. والمسيحيون يسرون بأن يروا يد الله ممدودة لمساعدتهم وأن يعترفوا بذلك جهراً. ويحق لكل الذين يعملون عمل الرب أن يتوقعوا حمايته تعالى إياهم.
بَقِيتُ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ والمدة من يوم تنصره إلى وقفته هذا نحو ٢٤ سنة بقي فيها حياً ثابتاً على عزمه شاهداً للحق كما أُمر (ع ١٦).
لِلصَّغِيرِ وَٱلْكَبِيرِ أي لكل الناس على اختلاف رتبهم وأعمارهم.
لاَ أَقُولُ... غَيْرَ مَا تَكَلَّمَ ٱلأَنْبِيَاءُ وَمُوسَى الخ كل ما علّمه بولس من آلام المسيح وموته وقيامته كان مطابقاً لرموز العهد القديم ونبوّاته ولكن اليهود شكوه بأنه علم بدعاً تنافي الديانة اليهودية والشريعة الموسوية.
٢٣ «إِنْ يُؤَلَّمِ ٱلْمَسِيحُ، يَكُنْ هُوَ أَوَّلَ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ، مُزْمِعاً أَنْ يُنَادِيَ بِنُورٍ لِلشَّعْبِ وَلِلأُمَمِ».
لوقا ٢٤: ٢٦ و٤٦ ١كورنثوس ١٥: ٢٠ وكولوسي ١: ١٨ ورؤيا ١: ٥ لوقا ٢: ٣٢
ذكر بولس هنا ثلاثة من مواضيع المحاورة التي جرت بينه وبين اليهود مما أخذه من موسى والأنبياء.
إِنْ يُؤَلَّمِ ٱلْمَسِيحُ هذا مناف لاعتقاد اليهود لأنهم اعتقدوا أن المسيح يكون ملكاً أرضياً ممجداً منتصراً وغفلوا عما قيل في (إشعياء ٥٢: ١٤ و٥٣: ١ - ١٠) من أنه «لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ مَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ، مُحْتَقَرٌ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ». وكان يصعب على تلاميذ المسيح أنفسهم قبول هذا التعليم (متّى ١٦: ٢٢). ولم يدركوه إلا بعد ما قام المسيح من الموت وفسره لهم (لوقا ٢٤: ٢٥ و٢٦: ٤٤). وكان هذا التعليم عثرة لليهود (١كورنثوس ١: ٢٣).
يَكُنْ هُوَ أَوَّلَ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ نظراً لمقامه وعدم سيادة الموت عليه بعد قيامته بخلاف من أُحيي قبله فهو «بكر من الأموات» (كولوسي ١: ١٨) و «باكورة الراقدين» (١كورنثوس ١٥: ٢٠).
يُنَادِيَ بِنُورٍ لِلشَّعْبِ وَلِلأُمَمِ هذا الأمر الثالث. والأول والثاني تمهيد له والثلاثة مذكورة في الأنبياء وكلها مرفوض عند اليهود. وعنى «بالنور» هنا الإنجيل لكونه محل الحق والقداسة والسعادة. وقوله في هذه الآية «مزمعاً أن ينادي» الخ توضيح لما قال في كل احتجاج من أن مناداته بالقيامة علة الاختلاف بينه وبين اليهود إذ صرّح بأن الشرط الضروري لكون المسيح مخلصاً أن يكون قد مات وقام. ونتيجة كل ما قاله أنه أمين لله وللأمة اليهودية وشريعة موسى لأن كل ما نادى به مطابق لأقوال الأنبياء والشريعة الموسوية.

معارضة فستوس لبولس وجواب بولس له ورجوعه إلى مخاطبة أغريباس ونتيجة الاحتجاج ع ٢٤ إلى ٣٢


٢٤ «وَبَيْنَمَا هُوَ يَحْتَجُّ بِهٰذَا، قَالَ فَسْتُوسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى ٱلْهَذَيَانِ».
٢ملوك ٩: ١١ ويوحنا ١٠: ٢٠ و١كورنثوس ١: ٢٣ و٢: ١٣ و١٤ و٤: ١٠
وجّه بولس كلامه إلى أغريباس وتكلم على كتب العهد القديم أسفار موسى والأنبياء والديانة اليهودية التي يعرفها أغريباس فإن معانيها جلية لأغريباس ومستبهمة على فستوس وسائر الرومانيين. فكل ما قاله بولس في الرؤيا وقيامة من صُلب ومات ظهر لذلك الوالي الوثني أوهاماً. ولا ريب في أن بولس تكلم بحرارة لفستوس كالهذيان. وكثيراً ما يعتبر أهل هذا العالم اليوم المسيحيين هاذئين لأنهم آثروا الخيرات الأبدية على الخيرات الزمنية وحسبوا عار المسيح غنىً أعظم من خزائن مصر.
وَبَيْنَمَا هُوَ يَحْتَجُّ هذا يدل على أن بولس لم يكن قد فرغ بعد من خطابه.
بِصَوْتٍ عَظِيمٍ لتعجبه وانذهاله ومما أظهره بولس.
أَنْتَ تَهْذِي أي أنت مختل العقل. لم يقصد فستوس الهزء ببولس أو الإهانة له بما قال بل أظهر الشفقة عليه لظنه أنه مصاب مصاباً عقلياً والاستخفاف بمواضيع خطابه وإعلانه للناس أن تأثير خطاب بولس فيه تأثر كلام إنسان يهذي.
ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ الخ أراد بهذه الكتب أسفار الدين اليهودي أي كتب موسى والأنبياء التي أيّد بها بولس كثيراً من حججه فكان فستوس يعتقد ما هو معلوم أن قصر الأفكار على فرع واحد من العلم من علل الاختلال العقلي وظن حال بولس كذلك.
٢٥ «فَقَالَ: لَسْتُ أَهْذِي أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ فَسْتُوسُ، بَلْ أَنْطِقُ بِكَلِمَاتِ ٱلصِّدْقِ وَٱلصَّحْوِ».
لَسْتُ أَهْذِي أنكر ما نسبه إليه فستوس بكلام الرزانة والحكمة فدل على أنه سليم العقل سديد الرأي.
ٱلْعَزِيزُ هذا لقب بولس إيّاه به دليل على أنه في (ص ٢٤: ٣ و٧) ومخاطبة بولس إياه به دليل على أنه لم يستهزئ هو به ويقصد إهانته بقوله «تهذي».
بِكَلِمَاتِ ٱلصِّدْقِ وَٱلصَّحْوِ خلاف ما يتكلم به الهاذئون.
٢٦ «لأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ، عَالِمٌ ٱلْمَلِكُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُهُ جِهَاراً، إِذْ أَنَا لَسْتُ أُصَدِّقُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذٰلِكَ، لأَنَّ هٰذَا لَمْ يُفْعَلْ فِي زَاوِيَةٍ».
هٰذِهِ ٱلأُمُورِ المشار إليها في ع ٣ والمذكورة في أثناء الخطاب.
عَالِمٌ ٱلْمَلِكُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُهُ ذكر الوالي بهذا أن كلامه موجه إلى أغريباس لا إليه. وذلك بمقتضى طلبه وبيّن له أنه لا يعجب من أن الكلام الموجّه إلى يهودي يستبهم على روماني ويظهر له كالهذيان. وفيه طلب إلى أغريباس أن يشهد بأن كلماته كلمات الصدق والصحو لا كلام مختل العقل.
لَسْتُ أُصَدِّقُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لم يقصد بولس بهذا الإطراء والتملّق لأغريباس بل أن يبيّن لفستوس أن ما ظهر له هذياناً يظهر كلام صحو وحكمة للقادر بما حصل عليه من التربية والاختبار على فهم معناه.
لَمْ يُفْعَلْ فِي زَاوِيَةٍ حتى يكون خفياً أو مجهولاً عند أكثر الناس بل هو ظاهر مشهور. والإشارة إلى ما قاله في مقامه الأول بين اليهود وعمله والرؤيا التي رآها والتغيّر الذي نشأ فيه وأموره بعد ذلك من المناداة بالإنجيل جهاراً ومقاومة اليهود إيّاه عليها.
ولعله أشار أيضاً إلى الحوادث المتعلقة بقيامة المسيح التي كثيراً ما اشتهرت وانتشرت. فإن كل الأمور المتعلقة بنشوء الديانة المسيحية لم تحدث في زاوية أو في مكان بعيد عن أكثر الناس إنما حدثت في أورشليم مألف أهل الأقطار من أسيا وأوربا وأفريقية ودليل ذلك أن بيلاطس يوم كتب عنوان صليب المسيح كتبه بثلاث لغات ولعل مثل هذا لا تقتضيه أحوال مدينة غيرها في العالم.
٢٧ «أَتُؤْمِنُ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ بِٱلأَنْبِيَاءِ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تُؤْمِنُ».
رجع بولس إلى خطاب أغريباس بعد أن أجاب فستوس وسؤاله إياه مبني على كونه يهودياً مولداً وإيماناً وأنه يعرف الأسفار المقدسة ويعتقد بصحتها. وغايته من هذا السؤال ثلاثة أمور:

  • الأول: استشهاده إياه بأن كلامه ليس بهذيان وأنه موافق لما أعلنه الأنبياء.
  • الثاني: تنبيه ضمير أغريباس ليقبل ما علمه الأنبياء من أمور المسيح كما فسره سابقاً (ع ٢٣).
  • الثالث: التوصل إلى كلام آخر في المسيح إذا أُذن له.


أَنَا أَعْلَمُ الخ لم يتوقع بولس الجواب من أغريباس فأجاب عنه بما اعتقده فيه.
٢٨ «فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِبُولُسَ: بِقَلِيلٍ تُقْنِعُنِي أَنْ أَصِيرَ مَسِيحِيّاً».
لم يرد أغريباس أن يقول نعم أني أومن بالأنبياء خشية أن يقوده ذلك إلى التسليم بتفسير بولس وتعليمه وهو أن يسوع هو المسيح فصرف المسئلة بأسلوب لطيف.
بِقَلِيلٍ تُقْنِعُنِي الخ هذا الكلام ليس على حد من الوضوح يمكننا من أن نحكم على معناه المقصود حكماً قاطعاً. فيحتمل أن المعنى كقوله يظهر من كلامك أنك تتوقع أن تنصّرني بقليل من الاستدلال في قليل من التعب في قليل من الوقت. ويحتمل أن المراد الاعتراف بأنه تأثر قليلاً من أقوال بولس ومال شيئاً إلى قبولها.
ولعل أغريباس قصد أن يكون كلامه ملتبساً يقبل التفسيرين لأن غايته التخلص من سؤال بولس في (ع ٢٧) وختام الجلسة. والأرجح أن الاحتمال الأول هو المقصود. وفيه طرف من التهكم لأن بولس بعد ما دُعي للمحاماة عن نفسه استعاض عن ذلك بشروعه في إرشاد من يُحاكم أمامه إلى الإيمان بأن يسوع هو المسيح. وتسميته من اعتقد صحة دين يسوع «مسيحياً» نتج عن تربيته في رومية لا في اليهودية لأنه لو تربى بين اليهود لسماه ناصرياً.
٢٩ «فَقَالَ بُولُسُ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى ٱللّٰهِ أَنَّهُ بِقَلِيلٍ وَبِكَثِيرٍ، لَيْسَ أَنْتَ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَنِي ٱلْيَوْمَ، يَصِيرُونَ هٰكَذَا كَمَا أَنَا، مَا خَلاَ هٰذِهِ ٱلْقُيُودَ».
١كورنثوس ٧: ٧
في هذه الآية بيان ما لبولس من شديد الرغبة في تنصر أغريباس بقليل أو كثير من الاستدلال أو بقليل أو كثير من التعب (على الاحتمال الأول) أو في أنه كان قد مال قليلاً إلى الإيمان بأن يسوع هو المسيح يقتنع كل الاقتناع ويؤمن تمام الإيمان (على الاحتمال الثاني).
كُنْتُ أُصَلِّي أي لو أذن لي في هذا الموقف لكنت أطلب إلى الله جهراً كما أطلب إليه في ضميري.
أَيْضاً جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَنِي ما رغب فيه لأغريباس رغب فيه لكل السامعين لفرط محبته للجميع ورغبته في نفع الجميع وتيقنه أن تنصرهم أعظم خير للجميع.
هٰكَذَا كَمَا أَنَا أي مسيحيين كما أنا مسيحي فيكون لهم الإيمان والرجاء والتعزية كما لي.
كان أغريباس آخر ملوك الهيرودوسيين فكان له فرصة وقتئذ أن يقبل ديانة المسيح ويكون عضواً من أسرة أشرف من أسرته الملكية ووارثاً ميراثاً أعظم مما ورثه من أسلافه واقتناه من الرومانيين وتاجاً أثمن وأبقى من كل تيجان العالم لكنه لم ينتهز تلك الفرصة فإن الذي عرفناه من التاريخ أنه عاش بعدئذ كما عاش سابقاً عيشة الترفه والفجور.
مَا خَلاَ هٰذِهِ ٱلْقُيُودَ كانت يدا بولس مربوطتين بسلسلتين إلى عكسريين أحدهما على يمينه والآخر على يساره ولعله رفع يده أمام المشاهدين عندما تكلم بهذا. وأظهر بما قاله رقة قلبه. فإنه مع طلبه لهم نوال بركات الإيمان بالمسيح لم يرد أن يكونوا عرضة لمثل الاضطهادات والمصائب والضيقات التي وقعت عليه.
٣٠ «فَلَمَّا قَالَ هٰذَا قَامَ ٱلْمَلِكُ وَٱلْوَالِي وَبَرْنِيكِي وَٱلْجَالِسُونَ مَعَهُمْ».
قَامَ ٱلْمَلِكُ الخ علامة انتهاء الجلسة. وذكر قيام الناس على وفق مراتبهم دليل على أن الكاتب كان يكتب نبأ ما شاهده عياناً.
٣١ «وَٱنْصَرَفُوا وَهُمْ يُكَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: إِنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ لَيْسَ يَفْعَلُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ أَوِ ٱلْقُيُودَ».
ص ٢٣: ٩ و٢٩ و٢٥: ٢٥
ما قيل في هذه الآية هو الرأي الذي اتفقوا عليه في الكلام وهم منصرفون. فإن احتجاج بولس أقنع الجميع أنه بريء من كل ما اتُهم به. ومثل هذا كان رأي اكثر أعضاء مجلس السبعين في المحاكمة الواحدة التي حضرها بولس (ص ٢٣: ٩). ومثله رأي الأمير ليسياس (ص ٢٣: ٢٩). ومثله نتيجة محاكمته أمام فستوس (ص ٢٥: ٢٥ - ٢٧). وثُبّت هذا الرأي في المجلس الذي حكم به أغريباس الخالي من الهوى والقادر على الحكم في تلك المسئلة. ولا ريب في أنه نتج من ذلك الاجتماع أن فستوس أرسل إلى نيرون تقريراً دفع عن بولس المعاملة بالقسوة وساعده على تبرئته عند وقوفه أمام نيرون للمحاكمة.
٣٢ «وَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِفَسْتُوسَ: كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَقَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى قَيْصَرَ».
ص ٢٥: ١١
ما قيل في هذه الآية ليس بتكرير معنى ما في الآية التي قبلها وهو يستلزم شيئاً من التخطئة لفستوس على عدم إطلاقه إياه قبل أن يضطر إلى رفع دعواه إلى قيصر (ص ٢٥: ٩) وفيه بيان خيبة فستوس من أن يجد حجة يعتذر بها عن عدم إطلاق بولس (ص ٢٥: ٢٧) كما ذُكر.
كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَقَ هذا تصريح كامل بتبرئة بولس واستحقاقه أن يُطلق بالنظر إلى أعماله.
لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى قَيْصَرَ كان في شرع الرومانيين أن الأسير إذا رفع دعواه من مجلس الوالي إلى مجلس قيصر لا يبقى للوالي سلطان أن يحكم عليه ويعاقبه ولا أن يبرره ويطلقه. فما قاله أغريباس لم يقصد به أن الحق على بولس في أنه لم يُطلق بل قصد أن الحق على فيلكس أولاً لأنه لم يطلقه عند محاكمته إياه وأنه أبقاه أسيراً حين عُزل وعلى فستوس ثانياً لأنه لم يطلقه بعد محاكمته إياه بل أجبره على رفع دعواه إلى رومية بإبقائه إياه أسيراً بعد تبرئته إياه بالمحاكمة وبطلبه أن يصعد إلى أورشليم للمحاكمة في مجلس اليهود.


الأصحاح السابع والعشرون


سفر بولس بحراً من قيصرية إلى مليطة ع ١ إلى ٤٤


١ «فَلَمَّا ٱسْتَقَرَّ ٱلرَّأْيُ أَنْ نُسَافِرَ فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى إِيطَالِيَا، سَلَّمُوا بُولُسَ وَأَسْرَى آخَرِينَ إِلَى قَائِدِ مِئَةٍ مِنْ كَتِيبَةِ أُوغُسْطُسَ ٱسْمُهُ يُولِيُوسُ».
ص ٢٥: ١٢ و٢٥
انتهى نبأ أسر بولس سنتين في قيصرية ونبأ عمله في اليهودية وابتُدئ في هذا الأصحاح نبأ سفره إلى رومية وبعض ما حدث له هناك.
لَمَّا ٱسْتَقَرَّ ٱلرَّأْيُ أي رأي فستوس على ما ذُكر في (ص ٢٥: ١٢ و٢١ و٢٥) والأرجح أنه أنفذه بعد قليل من المحاكمة.
أَنْ نُسَافِرَ صورة الكلام هنا تدل على أن كاتب السفر لوقا كان واحداً من المسافرين وهو لم يأت بصيغة التكلم من حين اجتماع بولس ورفقائه أمام شيوخ الكنيسة في أورشليم (ص ٢١: ١٨). وعدم ذكر نفسه مع بولس في الأنباء منذ قُبض على بولس ليس بدليل على انفصاله عنه إنما أتى ذلك لأن الأمور التي ذكرها كانت مختصة بأسر بولس ومحاكمته واحتجاجاته فقط. وكان قبل ذلك رفيق بولس في أسفاره للتبشير وطبيباً له يعتني بصحته وما زال كذلك إلى نهاية هذا السفر. ولا نعلم أمن ماله كانت نفقته أم من مال الحكومة.
إِلَى إِيطَالِيَا أي بلاد الرومانيين الأصلية.
سَلَّمُوا أي فستوس والذين وُكل إليهم إنفاذ أوامره.
أَسْرَى آخَرِينَ كانوا يجمعون من أقطار الولاية على توالي الأوقات. ولا نعلم ألرفع دعواهم إلى قيصر أُرسلوا إلى رومية أم لعلة أخرى.
كَتِيبَةِ أُوغُسْطُسَ هذا لقب إحدى فرق العسكر الروماني لُقبت به تمييزاً لها عن غيرها وإكراماً للأمبراطور (انظر شرح ص ٢٥: ٢١). وكانت معيّنة لحراسة الأمبراطور جعل نيرون عدد جنودها ثلاثة آلاف كانوا يرافقونه إلى المشاهد والمحافل وكان معظم عملهم أنهم يصفقون له ويدعون حين يخطب في تلك المواضع. ولعل نيرون أرسل يوليوس وكتيبته مع فستوس إلى ولايته الجديدة إكراماً له وكان يوليوس حينئذ راجعاً مع تلك الكتيبة إلى خدمته العادية بين حرس الأمبراطور فوكل إليه فستوس حراسة الأسرى.
٢ «فَصَعِدْنَا إِلَى سَفِينَةٍ أَدْرَامِيتِينِيَّةٍ، وَأَقْلَعْنَا مُزْمِعِينَ أَنْ نُسَافِرَ مَارِّينَ بِٱلْمَوَاضِعِ ٱلَّتِي فِي أَسِيَّا. وَكَانَ مَعَنَا أَرِسْتَرْخُسُ، رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ مِنْ تَسَالُونِيكِي».
ص ١٩: ٢٩ و٢٠: ٤ وكولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤
أَدْرَامِيتِينِيَّةٍ نسبة إلى أدراميتين فرضة ميسيا وهي ولاية في غربي آسيا الصغرى وهذه الفرضة تجاه جزيرة لسيوس. الأرجح أنها أتت من أسيا بالبضائع وكانت راجعة حينئذ إلى بلادها. والظاهر أنه لم يكن يومئذ اتصال بين إيطاليا وسورية رأساً بواسطة السفن فأخذ يوليوس تلك السفينة إلى أسيا الصغرى متوقعاً أن يجد في بعض مرافئها سفينة قاصدة إيطاليا كما قد وقع (انظر ع ٦). وكان ذلك في سنة ٦٠ ب. م إذ عُلم من التاريخ أنه في تلك السنة خلف فستوس فيلكس على ولاية سورية. والأرجح أنه كان سفرهم في غاية آب من تلك السنة لأنهم و صلوا إلى كريت في أيلول (انظر شرح ع ٩). ولا ريب في أنهم توقعوا أن يبلغوا إيطاليا قبل بداءة الشتاء.
مُزْمِعِينَ أَنْ نُسَافِرَ... بِٱلْمَوَاضِعِ... فِي أَسِيَّا قوله «مزمعين» إن كان حالاً من أرباب السفينة كان المعنى أنهم قصدوا المرور بتلك المواضع لمقاصد تجارية. وإن كان حالاً من يوليوس والعسكر كان المعنى أنهم قصدوا المرور بها بغية أن يجدوا سفينة مسافرة إلى رومية.
أَرِسْتَرْخُسُ وصفه لوقا بالمكدوني نسبة إلى بلاده وبالتسالونيكي نسبة إلى مدينته في تلك البلاد. وكان قد رافق بولس في سفره من أفسس إلى مكدونية (ص ١٩: ٢٩) ورجع معه من هناك إلى أسيا (ص ٢٠: ٤). ولا نعلم أين كان في السنتين الماضيتين. ذُكر في إحدى الرسالتين التي كتبهما بولس في رومية أنه عامل معه (فليمون ٢٤) وفي الأخرى أنه مأسور معه (كولوسي ٤: ١٠). ومعلوم أن هذين الصديقين المحبوبين كانا تعزية عظيمة لبولس في سفره فإنهما أظهرا شديد المحبة له إذ عرّضا أنفسهما لأخطار السفر ولم يستحيا بقيوده.
٣ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلآخَرِ أَقْبَلْنَا إِلَى صَيْدَاءَ، فَعَامَلَ يُولِيُوسُ بُولُسَ بِٱلرِّفْقِ، وَأَذِنَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَصْدِقَائِهِ لِيَحْصُلَ عَلَى عِنَايَةٍ مِنْهُمْ».
ص ٢٤: ٢٣ و٢٨: ١٦
صَيْدَاءَ مدينة إلى أمد ٦٧ ميلاً من شمالي قيصرية وتلك السفينة إن كانت قصدت أن تذهب في الطريق المستقيمة إلى أسيا فهي لم تدخل صيدا. فدخلتها إما للتجارة لأن الريح المضادة ألجأتهم إليها.
فَعَامَلَ... بِٱلرِّفْقِ ما قيل هنا في رفق يوليوس ببولس في صيدا يصدق عليه في كل الطريق إلى رومية وبعض علل ذلك وأمر فستوس له كالأوامر التي أعطاها فيلكس قائد المئة (ص ٢٤: ٢٣) وبعضها كونه رومانياً وبعضها جودة أخلاق يوليوس وبعضها جودة بولس وتأثيره الحسن.
أَصْدِقَائِهِ يمكن أنهم معارفه والأرجح أنهم أصدقاؤه لكونهم مسيحيين فرحبوا به كما رحب به مسيحيو صور سابقاً (ص ٢١: ٢ - ٤). وكانت صور وصيدا المدينيتن المشهورتين في فينيقية وذُكرا غالباً معاً. وصيداء أقدم من صور وذُكرت في أسفار موسى الخمسة (تكوين ١٠: ١٩ و٤٩: ١٣). وأما صور فلا ذكر لها في تلك الأسفار. وسُميت صيداء في سفر يشوع بصيدون العظيمة (يشوع ١٩: ٢٨) وكانت من نصيب سبط أشير لكنه لم يستولِ عليها (قضاة ١: ٣١ و١٠: ١٠ و٤٢). استولى عليها الأشوريون ثم الفرس ثم اسكندر المكدوني وبقيت في ملك خلافائه من ملوك مصر وسورية إلى أن استولى عليها الرومانيون.
لِيَحْصُلَ عَلَى عِنَايَةٍ من ضيافة ومؤانسة ولعلهم أعطوه بعض الهدايا ليستعين بها على السفر بحراً.
٤ «ثُمَّ أَقْلَعْنَا مِنْ هُنَاكَ وَسَافَرْنَا فِي ٱلْبَحْرِ مِنْ تَحْتِ قُبْرُسَ، لأَنَّ ٱلرِّيَاحَ كَانَتْ مُضَادَّةً».
مِنْ تَحْتِ قُبْرُسَ أي على القرب منها شرقاً لتتقي بها السفينة الريح الغربية.
لأَنَّ ٱلرِّيَاحَ كَانَتْ مُضَادَّةً لما أتوا من ترواس ذهبوا تجاه الشاطئ الغربي من تلك الجزيرة (ص ٢١: ٣) والأرجح أنهم لولا الريح المضادة ذهبوا في الطريق الغريبة.
٥ «وَبَعْدَ مَا عَبَرْنَا ٱلْبَحْرَ ٱلَّذِي بِجَانِبِ كِيلِيكِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ، نَزَلْنَا إِلَى مِيرَا لِيكِيَّةَ».
كِيلِيكِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ هما ولايتان في جنوبي أسيا الصغرى (انظر شرح ص ٦: ٨ و١٣: ١٣).
مِيرَالِيكِيَّةَ كانت ليكية ولاية في الجنوب الشرقي من أسيا الصغرى وميرا مدينة فيها لم يبق منها سوى آثارها. وعظمة آثار مشهدها وأطلاله تدل على أن تلك المدينة كانت كبيرة.
٦ «فَإِذْ وَجَدَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ هُنَاكَ سَفِينَةً إِسْكَنْدَرِيَّةً مُسَافِرَةً إِلَى إِيطَالِيَا أَدْخَلَنَا فِيهَا».
وَجَدَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ كما توقّع.
سَفِينَةً إِسْكَنْدَرِيَّةً منسوبة إلى إسكندرية وهي من مشهورات مدن مصر (انظر شرح ص ١٨: ٢٤). وكانت التجارة بينها وبين رومية واسعة ومعظمها في القمح لأن رومية كانت تقتات بالحبوب من وادي النيل. ولم تكن ميرا على الخط المستقيم بين مصر وإيطاليا وعلة توجه السفينة إليها غير معلومة أللتجارة كان أم للتوقّي من الريح. وكان محمول تلك السفينة القمح (ع ٣٨) فيلزم أنها كانت كبيرة لتستطيع أن تحمل ٢٧٦ نفساً فوق ما فيها من البضائع.
٧ «وَلَمَّا كُنَّا نُسَافِرُ رُوَيْداً أَيَّاماً كَثِيرَةً، وَبِٱلْجَهْدِ صِرْنَا بِقُرْبِ كِنِيدُسَ، وَلَمْ تُمَكِّنَّا ٱلرِّيحُ أَكْثَرَ، سَافَرْنَا مِنْ تَحْتِ كِرِيتَ بِقُرْبِ سَلْمُونِي».
رُوَيْداً أَيَّاماً كَثِيرَةً لأن الريح كانت على خلاف جهة سيرهم.
كِنِيدُسَ مدينة على نجد في أسيا الصغرى قريب من جزيرة رودس بينها وبين كوس (ص ٢١: ١) وهي على أمد ١٣٠ ميلاً من ميرا.
وَلَمْ تُمَكِّنَّا ٱلرِّيحُ أَكْثَرَ كان مرادهم السفر جنوباً بميلة إلى الغرب وكانت الريح تهب من الشمال الغربي فأجبرتهم على الميل إلى شرقي الجهة المطلوبة.
تَحْتِ كِرِيتَ أي شرقها حيث دفعتهم الريح وكانت قريبة منها للوقاية وكريت جزيرة كبيرة تسمى أيضاً كنديا.
سَلْمُونِي طرف جزيرة كريت الشرقي.
٨ «وَلَمَّا تَجَاوَزْنَاهَا بِٱلْجَهْدِ جِئْنَا إِلَى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ «ٱلْمَوَانِي ٱلْحَسَنَةُ» ٱلَّتِي بِقُرْبِهَا مَدِينَةُ لَسَائِيَةَ» .
وَلَمَّا تَجَاوَزْنَاهَا بِٱلْجَهْدِ هذا يدل على أن الريح عند رأس سلموني كانت أشد منها عند غيره كما هو مقتضى الطبع فكانت السفينة في خطر أن تدفعها الريح إلى الوراء أو إلى الصخور ولذلك لم يستطيعوا أن يتعدوها إلا ببذل كل ما في طاقتهم.
ٱلْمَوَانِي ٱلْحَسَنَةُ مدينة على الشاطئ الجنوبي من جزيرة كريت موقعها معروف اليوم واسمها باقٍ وعلى مقربة منها مدينة لسائية.
٩ «وَلَمَّا مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَصَارَ ٱلسَّفَرُ فِي ٱلْبَحْرِ خَطِراً، إِذْ كَانَ ٱلصَّوْمُ أَيْضاً قَدْ مَضَى، جَعَلَ بُولُسُ يُنْذِرُهُمْ».
لاويين ١٦: ٢٩ و٢٣: ٢٧ الخ
مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ على مضادة الريح المانعة لهم من التقدّم.
صَارَ ٱلسَّفَرُ فِي ٱلْبَحْرِ خَطِراً في سفن ذلك العصر لأنها كانت شراعية ولم يكن للملاحين خريطة بحرية ولا أبرة ملاحة كانوا يستدلون بالشمس نهاراً وبالنجوم ليلاً إذ كانوا بعيدين عن البر. وكانت السفن عالية المقدم والمؤخر فكانت عرضة لأشد تأثير الرياح وكان لها دقل واحد قرب المؤخر ويوجهها الربان بمجدافين كبيرين على الجانبين عند مؤخرها فكانا بمقام سكان السفينة المعروف عند العامة بالدقة.
ٱلصَّوْمُ أي صوم الكفارة الذي يوم عيده العاشر من الشهر السابع تسري وهو من جزئين أحدهما من أيلول والآخر من تشرين الأول (لاويين ١٦: ٢٨ - ٣٤ و٢٣: ٢٦ - ٣٢). وذُكر هذا الصوم هنا لمجرد تعيين الوقت فالرومانيون لم يعتبروه فرضاً عليهم. وكان ذلك الوقت زمن الاعتدال الخريفي وهبوب الرياح الاعتدالية وكان ملاحو ذلك العصر يخافون هذه الرياح ويخافون قواصف الشتاء بعدها.
يُنْذِرُهُمْ أي ينذر أرباب الأمر منهم.
١٠ «قَائِلاً: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَنَا أَرَى أَنَّ هٰذَا ٱلسَّفَرَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بِضَرَرٍ وَخَسَارَةٍ كَثِيرَةٍ، لَيْسَ لِلشَّحْنِ وَٱلسَّفِينَةِ فَقَطْ، بَلْ لأَنْفُسِنَا أَيْضاً».
من العجب أن بولس وهو أسير يقف خطيباً في أولئك الناس وينذرهم وفي هذا شيء من الدليل على قوة تأثيره فيهم. وهم تعلموا قبل نهاية ذلك السفر أن يعتمدوا رأي ذلك الأسير كل الاعتماد.
أَنَا أَرَى قال هذا إما بناء على فطنته واختباره أمور البحر لكثرة أسفاره فيه (٢كورنثوس ١١: ٢٥ و٢٦) وإما بناء على ما أوحي إليه.
بِضَرَرٍ وَخَسَارَةٍ أي عرضة لذلك. وكان هذا الإنذار في محله لأن الضرر والخسارة وقعا على الوسق والسفينة ولولا عناية الله وقعت على النفوس. وكانت غاية بولس من رأيه أن يقيموا حيث كانوا.
١١ «وَلٰكِنْ كَانَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ يَنْقَادُ إِلَى رُبَّانِ ٱلسَّفِينَةِ وَإِلَى صَاحِبِهَا أَكْثَرَ مِمَّا إِلَى قَوْلِ بُولُسَ».
كَانَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ يَنْقَادُ يظهر من هذا أن السلطان على السفينة كان ليوليوس القائد لا لرئيس المركب وذلك إما لرتبته ومقامه او لأنه استأجر السفينة لأمره.
رُبَّانِ أي رئيس الملاحين الذي يأمر بإجراء السفينة وسائر أمورها.
صَاحِبِهَا أي مالكها والمعتني بمحمولاتها من الركاب والبضائع. ولا عجب من انقياد يوليوس إلى رأي الربان والصاحب المختبرَين أمور البحر والسفن أكثر من انقياده إلى رأي بولس على ما عرف من أنه رجل علوم دينية وأدبية. وذكر الكاتب انقياده لهما لا على سبيل الملامة بل لبيان أنه علة ما وقع عليهم من المصائب على أثر ذلك. والظاهر أنهم كلهم اتفقوا مع بولس على أن وقت السفر إلى إيطاليا قد مضى ولكهم ظنوا أنه يمكنهم قطع مسافة وجيزة بعد ذلك.
١٢ «وَلأَنَّ مَوْقِعَ ٱلْمِينَا لَمْ يَكُنْ صَالِحاً لِلْمَشْتَى، ٱسْتَقَرَّ رَأْيُ أَكْثَرِهِمْ أَنْ يُقْلِعُوا مِنْ هُنَاكَ أَيْضاً، عَسَى أَنْ يُمْكِنَهُمُ ٱلإِقْبَالُ إِلَى فِينِكْسَ لِيَشْتُوا فِيهَا. وَهِيَ مِينَا فِي كِرِيتَ تَنْظُرُ نَحْوَ ٱلْجَنُوبِ وَٱلشَّمَالِ ٱلْغَرْبِيَّيْنِ».
ٱسْتَقَرَّ رَأْيُ أَكْثَرِهِمْ هذا يدل على أنهم تحاوروا ملياً في المسئلة واعتمدوا رأي الجانب الأكثر.
فِينِكْسَ موضع على أمد أربعين ميلاً من المواني الحسنة وإلى الغرب منها اسمه اليوم لُترَو.
نَحْوَ ٱلْجَنُوبِ وَٱلشَّمَالِ ٱلْغَرْبِيَّيْنِ يستلزم هذا أن يكون قبالة الميناء غرباً جزيرة فالسفن تدخلها وتخرج منها إما من الشمال وإما من الجنوب.
١٣ «فَلَمَّا نَسَّمَتْ رِيحٌ جَنُوبٌ، ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوا مَقْصَدَهُمْ، فَرَفَعُوا ٱلْمِرْسَاةَ وَطَفِقُوا يَتَجَاوَزُونَ كِرِيتَ عَلَى أَكْثَرِ قُرْبٍ».
نَسَّمَتْ أي هبت بلين.
رِيحٌ جَنُوبٌ موافقة لجهة سيرهم وهي جهة الغرب بميلة إلى الشمال.
مَلَكُوا مَقْصَدَهُمْ أي أصابوا وقتاً مناسباً وريحاً موافقة.
عَلَى أَكْثَرِ قُرْبٍ خيفة أن يعرض لهم خطر وهم بعيدون عن البر لا يخشونه وهم قريبون منه. وتوقعوا أن يبلغوا فينكس بعد نحو ثلاث ساعات.
١٤ «وَلٰكِنْ بَعْدَ قَلِيلٍ هَاجَتْ عَلَيْهَا رِيحٌ زَوْبَعِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا «أُورُوكْلِيدُونُ».
على غاية خمسة أميال من المواني الحسنة غرباً أنفُ يسمى رأس متالا المرجح أنهم وصلوا إلى ذلك الرأس ومن هنالك تكون جهة السير شمالاً.
رِيحٌ زَوْبَعِيَّةٌ أي عاصفة شديدة.
أُورُوكْلِيدُونُ كلمة يونانية مركبة من لفظتين «يورو» أي شرقي و «كلودون» أي أمواج فالمعنى أنها ريح شرقية تهيّج الأمواج. وظن البعض أنها مركبة من «يورو» و «أكويلو» أي الشمالي وعلى هذا يكون معناها ريح شرقية شمالية.
١٥ «فَلَمَّا خُطِفَتِ ٱلسَّفِينَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَابِلَ ٱلرِّيحَ، سَلَّمْنَا، فَصِرْنَا نُحْمَلُ».
خُطِفَتِ ٱلسَّفِينَةُ كأن الريح مسكنها بقوّة لا تقاوم وحملتها إلى حيث شاءت.
وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَابِلَ ٱلرِّيحَ والملاحون يجرونها بالمجاديف ولم يستطيعوا أن يبلغوا فينكس بالتعريج بها يمنةً ويسرةً.
سَلَّمْنَا أي عدلنا عن بذل الجهد في إجراء السفينة إلى فينكس بالمجاديف أو غيرها.
فَصِرْنَا نُحْمَلُ حيث ساقت الريح السفينة.
١٦ «فَجَرَيْنَا تَحْتَ جَزِيرَةٍ يُقَالُ لَهَا «كَلَوْدِي» وَبِٱلْجَهْدِ قَدِرْنَا أَنْ نَمْلِكَ ٱلْقَارِبَ» .
تَحْتَ جَزِيرَةٍ أي الجهة غير المعرّضة للريح منها وكانت الريح شرقية شمالية فمرّت السفينة في الجهة الغربية الجنوبية.
كَلَوْدِي هي جزيرة في الجنوب الغربي من رأس متالا وعلى ٢٣ ميلاً منها (ع ١٤) اسمها اليوم غزُّو.
وَبِٱلْجَهْدِ قَدِرْنَا أَنْ نَمْلِكَ ٱلْقَارِبَ القارب السفينة الصغيرة يعبر الناس بها من البرّ إلى السفينة الكبيرة ومن تلك السفينة إلى البرّ يرفعها الملاحون إلى السفينة في السفر الطويل وهيجان البحر. ومن الأدلة على أنهم لم يتوقعوا الخطر في سفرهم القصير إلى فينكس تركهم القارب تجره السفينة ولكنهم لما بلغوا كلودي رأوا أن يرفعوه إلى السفينة وبالجهد استطاعوا ذلك لشدة الريح واضطراب الأمواج.
١٧ «وَلَمَّا رَفَعُوهُ طَفِقُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعُونَاتٍ، حَازِمِينَ ٱلسَّفِينَةَ، وَإِذْ كَانُوا خَائِفِينَ أَنْ يَقَعُوا فِي ٱلسِّيرْتِسِ، أَنْزَلُوا ٱلْقُلُوعَ، وَهٰكَذَا كَانُوا يُحْمَلُونَ».
هذا الأمر الثاني الذي اغتنموا الفرصة ليفعلوه في كنف الجزيرة.
حَازِمِينَ ٱلسَّفِينَةَ منطقوها بحبال ضخمة عدة أدوار وشدّدوها بأدوات. وغايتهم من ذلك وقاية ألواحها من التفرق من شدة صدم الأمواج. وإتيانهم ذلك دليل على أن السفينة كانت ضعيفة وابتدأ الماء ينفذها. واتخاذ هذه المقوّيات الوافية كان مألوفاً عند قدماء الملاحين وقد تُستعمل في هذه الأيام. وكان من أدوات السفن القديمة الحبال المعدّة للحزم وأدوات لتشديدها عند الحاجة.
ٱلسِّيرْتِسِ هو خليج رقيق شمالي أفريقية قرب القيروان وهو شديد الخطر على السفن وإذا نظرنا إلى جهة الريح رأينا لهذا الخوف محلاً.
أَنْزَلُوا ٱلْقُلُوعَ لا بد من أنهم كانوا قد خفضوها قبلاً لشدة الريح لكنهم عند هذا أنزلوها تماماً ولعلهم أنزلوا أيضاً العارضة المنشورة عليها. والمقصود من ذلك أن لا يبقوا على السفينة شيئاً تصدمه الريح فتطرحهم في السيرتس.
وَهٰكَذَا كَانُوا يُحْمَلُونَ يدفع الريح والأمواج بدن السفينة وساريتها عارية من الشراع.
١٨ «وَإِذْ كُنَّا فِي نَوْءٍ عَنِيفٍ جَعَلُوا يُفَرِّغُونَ فِي ٱلْغَدِ».
يُفَرِّغُونَ يطرحون في البحر كل ما في السفينة مما يمكنهم الاستغناء عنه. وكانت غايتهم من تفريغها تخفيفها لكي لا تغمرها الأمواج.
فِي ٱلْغَدِ أي غد يوم رفع القارب وحزم السفينة وإنزال القلوع.
١٩ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ رَمَيْنَا بِأَيْدِينَا أَثَاثَ ٱلسَّفِينَةِ».
يونان ١: ٥
رَمَيْنَا بِأَيْدِينَا صورة هذا الكلام تدل على أن الركاب ساعدوا الملاحين لأن الخطر كان عاماً ولعله كان في ذلك الوقت قريباً جداً.
أَثَاثَ ٱلسَّفِينَةِ أي ما أبقوه فيها بعد طرح ما طرحوه لأنهم لم يروا غنىً عنه إذ يئسوا من إجراء السفينة في طريقها ولم يعتنوا بسوى حفظ حياتهم بها. ونستنتج من ذلك أن السفينة لم تزل متعبة مشرفة على الغرق بعد التفريغ الأول. ومثل فعلهم هذا فعل ملاحي السفينة التي سافر يونان النبي فيها حين كادت تنكسر (يونان ١: ٥).
٢٠ «وَإِذْ لَمْ تَكُنِ ٱلشَّمْسُ وَلاَ ٱلنُّجُومُ تَظْهَرُ أَيَّاماً كَثِيرَةً، وَٱشْتَدَّ عَلَيْنَا نَوْءٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ، ٱنْتُزِعَ أَخِيراً كُلُّ رَجَاءٍ فِي نَجَاتِنَا».
لَمْ تَكُنِ ٱلشَّمْسُ وَلاَ ٱلنُّجُومُ تَظْهَرُ لكثافة الغيم ولذلك لم يستطيعوا معرفة الجهة المحمولين فيها.
أَيَّاماً كَثِيرَةً وعلة بقاء السفينة تحت سلطة الريح ظاهرة في (ع ١٥) حيث قيل «خُطفت السفينة من الزوبعة». ومن خواص الزوبعة أنها تدور على نفسها وتحمل كل ما تخطفه. فلو كان للسفينة قلوع وللملاحين قدرة على أنهم يجرون السفينة إلى أن يخرجوا بها عن سبيل الزوبعة لنجوا في وقت قصير.
ٱنْتُزِعَ أَخِيراً الخ دلنا ما ذُكر قبلاً على خوفهم ودلنا ما ذُكر هنا على تحول الخوف يأساً لتوقعهم أن السفينة تصدم الصخر وتنكسر أو ترتطم في الرمل وتُبتلع فيه أو تغرق من نفوذ الماء إيّاها. وحزمها بالحبال الضخمة يشير إلى كونها عرضة لذلك. ولما يئسوا من النجاة بالوسائط البشرية أتاهم بولس بالوسائط الإلهية.
٢١ «فَلَمَّا حَصَلَ صَوْمٌ كَثِيرٌ، حِينَئِذٍ وَقَفَ بُولُسُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ أَنْ تُذْعِنُوا لِي وَلاَ تُقْلِعُوا مِنْ كِرِيتَ، فَتَسْلَمُوا مِنْ هٰذَا ٱلضَّرَرِ وَٱلْخَسَارَةِ».
صَوْمٌ كَثِيرٌ لم يكن هذا الصوم دينياً ولم يكن انقطاعاً كاملاً عن الطعام بل عدم الانتباه لأوقات الطعام ومقداره الكافي. ولم يكن ذلك لقلة الطعام في السفينة لأنها كانت مملوءة حنطة (ع ٣٨). وعلة ذلك الصوم الخطر الدائم وتوقع الموت بمقتضاه والدوار الذي أنشأه اضطراب البحر والذي منعهم من تناول الطعام منع الخدم من إعداده. ومصابهم هذا مما اختبره كثيرون ممن سافروا في البحر وهبّت عليهم الزوابع وأحاطبهم الخطر.
وَقَفَ بُولُسُ فِي وَسَطِهِمْ ليعزيهم وينشطهم في ذلك الوقت وقت الضيق والخطر.
كَانَ يَنْبَغِي... أَنْ تُذْعِنُوا لِي ذكرهم تحذيره إيّاهم قبلاً ليريهم أنه لم يتكلم بدون علم واختبار أو سلطان من الله. ولم تكن غايته من ذلك توبيخهم لرفضهم إنذاره بل كانت رغبته في أن يحملهم على قبول نصحه في ما بعد.
وَلاَ تُقْلِعُوا مِنْ كِرِيتَ أي من المواني الحسنة التي كانوا لاجئين إليها.
هٰذَا ٱلضَّرَرِ وَٱلْخَسَارَةِ اللذين حذّرهم منهما (ع ١٠).
٢٢ «وَٱلآنَ أُنْذِرُكُمْ أَنْ تُسَرُّوا، لأَنَّهُ لاَ تَكُونُ خَسَارَةُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ إِلاَّ ٱلسَّفِينَةَ».
أُنْذِرُكُمْ المراد بالإنذار هنا الإنذار الممزوج بالنصح لأنه نصحهم أن يسروا بسلامة النفوس مع الإنذار بانكسار السفينة.
أَنْ تُسَرُّوا فيجب أن تقبلوا النصح الآن ولا ترفضوه كما رفضتم الإنذار قبلاً لأني أتيت كلاً منهما عن علم ويقين. وما أنذرتكم به من الضرر والخسران مقصور على السفينة دون النفوس. ولا بد من أن كلامه أنشأ فيهم فرحاً ورجاء عظيماً في وقت حزنهم ويأسهم (ع ٢٠).
٢٣ «لأَنَّهُ وَقَفَ بِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ مَلاَكُ ٱلإِلٰهِ ٱلَّذِي أَنَا لَهُ وَٱلَّذِي أَعْبُدُهُ»
ص ٢٣: ١١ دانيال ٦: ١٦ ورومية ١: ٩ و٢تيموثاوس ١: ٣
أيّد دعوته إيّاهم إلى السرور بأنباء رسول من السماء وأبان أن نصحه لم يكن من آرائه الخاصة.
وَقَفَ بِي أي قرب إليّ حتى استطعت أن أراه وأسمع كلامه.
ٱلإِلٰهِ أكثر الناس الذين خاطبهم كانوا وثنيين وهم عساكر رومانيون وملاحون مصريون وهم عبدة آلهة كثيرة فشهد لهم بالإله الواحد الحق.
ٱلَّذِي أَنَا لَهُ لأنه خلقني ويأمرني بما يشاء ويحميني لأني من خاصته.
ٱلَّذِي أَعْبُدُهُ عبادة دائمة تامة اختيارية باعتبار أني مسيحي وأني مبشر بإنجيله.
٢٤ «قَائِلاً: لاَ تَخَفْ يَا بُولُسُ. يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَقِفَ أَمَامَ قَيْصَرَ. وَهُوَذَا قَدْ وَهَبَكَ ٱللّٰهُ جَمِيعَ ٱلْمُسَافِرِينَ مَعَكَ».
لاَ تَخَفْ هذا خطاب تشجيع كالذي خُوطب به في بداءة خدمته في أفسس (ص ١٨: ٩).
أَمَامَ قَيْصَرَ الأمبراطور نيرون (ص ٢٥: ٨ - ١٢ و٢١: ٢٦: ٣٢). ووقوف بولس أمام قيصر يستلزم نجاته من البحر.
هُوَذَا هذا تنبيه على أمر عجيب. علم بولس أنه يذهب إلى رومية لكنه لم يعلم أن ذهابه إلى هناك مقترنة به نجاة كل المسافرين معه من الموت. نتيجة وجود الرسول في تلك السفينة خلاف نتيجة وجود يونان النبي في السفينة السائرة من يافا إلى ترشيش. كان يونان هارباً من الله فجعل كل الذين معه في خطر الموت. وأما بولس وهو ذاهب في خدمة الله فكان سبب نجاة لجميع من معه.
وَهَبَكَ ٱللّٰهُ دليلاً على رضاه إنقاذ نفوس كل رفقائه. والهبة هي العطية بلا عوض. فكثيراً ما يحصل الأشرار على بركات لوجود الأخيار بينهم. والدليل على ذلك قول الله لإبراهيم أنه يعفو عن كل أشرار سدوم إن وجد بينهم عشرة أبرار.
٢٥، ٢٦ «٢٥ لِذٰلِكَ سُرُّوا أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، لأَنِّي أُومِنُ بِٱللّٰهِ أَنَّهُ يَكُونُ هٰكَذَا كَمَا قِيلَ لِي. ٢٦ وَلٰكِنْ لاَ بُدَّ أَنْ نَقَعَ عَلَى جَزِيرَةٍ».
لوقا ١: ٤٥ ورومية ٤: ٢٠ و٢١ و٢تيموثاوس ١: ٢٢ ص ٢٨: ١
لِذٰلِكَ أي لوعد الله بواسطة الملاك.
أُومِنُ بِٱللّٰهِ أي أثق بوعده المذكور.
عَلَى جَزِيرَةٍ الظاهر أن الله لم يعلن له اسم الجزيرة.
٢٧ «فَلَمَّا كَانَتِ ٱللَّيْلَةُ ٱلرَّابِعَةُ عَشَرَةُ، وَنَحْنُ نُحْمَلُ تَائِهِينَ فِي بَحْرِ أَدْرِيَا، ظَنَّ ٱلنُّوتِيَّةُ نَحْوَ نِصْفِ ٱللَّيْلِ أَنَّهُمُ ٱقْتَرَبُوا إِلَى بَرٍّ».
ٱللَّيْلَةُ ٱلرَّابِعَةُ عَشَرَةُ للإقلاع من كريت.
بَحْرِ أَدْرِيَا الجزء المتوسط من بحر الروم وهو بين صقلية (أي سيسيليا) وبلاد اليونان لا خليج أدريا المعروف اليوم وهو قرب البندقية.
ٱلنُّوتِيَّةُ أي الملاحون الذين كانوا في السفينة قبل أن أستأجرها يوليوس وهم مختبروا أمور البحر أكثر من سائر من كانوا في السفينة.
أَنَّهُمُ ٱقْتَرَبُوا إِلَى بَرٍّ المرجح أن علّة ظنهم ذلك سمعهم صوت صدم الأمواج للصخور في شاطئ مجهول.
٢٨ «فَقَاسُوا وَوَجَدُوا عِشْرِينَ قَامَةً. وَلَمَّا مَضَوْا قَلِيلاً قَاسُوا أَيْضاً فَوَجَدُوا خَمْسَ عَشَرَةَ قَامَةً».
فَقَاسُوا بأن علقوا بحبل دقيق قوي جسماً ثقيلاً غلب أن يكون رصاصاً ودلوه في البحر حتى بلغ القرار.
عِشْرِينَ قَامَةً أي عشرين مثل طول الإنسان وأكثر المقاييس في كل لغات الأرض أُخذت أصلاً عن أعضاء الإنسان كالذراع والشبر والفتر والأصبع والقدم الخ. وكانت نتيجة قياسهم دليلاً على صحة ظنهم.
خَمْسَ عَشَرَةَ قَامَةً هذا الفرق في تلك المدة القليلة دليل على سرعة اقترابهم من البر. ولم يعرفوا صفة البر الذي كانوا يقتربون إليه لشدة ظلام الليل.
٢٩ «وَإِذْ كَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَقَعُوا عَلَى مَوَاضِعَ صَعْبَةٍ، رَمَوْا مِنَ ٱلْمُؤَخَّرِ أَرْبَعَ مَرَاسٍ، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ ٱلنَّهَارُ».
مَوَاضِعَ صَعْبَةٍ لكثرة الصخور فيها فإنه إذا ارتطمت السفينة في مواضع صخرية كان خطر الغرق أعظم مما إذا ارتطمت في مواضع رملية.
أَرْبَعَ مَرَاسٍ لا نعلم لماذا استحسنوا إلقاء المراسي من المؤخر لا المقدم. وذكر لوقا ذلك يدل على كونه خلاف العادة. وعلى بعض آثار هركولانيوم أحد مدن إيطاليا التي طمرتها مقذوفات بركان يزوف صورة سفينة ملقاة المرساة من المؤخر وكان طمر تلك المدينة مدة وجيزة بعد سفر بولس المذكور هنا. وكانت السفن القديمة قليلة الفرق بين المقدم والمؤخر.وكانوا يكثرون المراسي لخفتها.
يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ ٱلنَّهَارُ أي يرغبون كثيراً في طلوع النهار لكي يروا ما عليهم من الخوف وما لهم من الأمل ويتخذوا وسائل الوصول إلى البر سالمين.
٣٠ «وَلَمَّا كَانَ ٱلنُّوتِيَّةُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَهْرُبُوا مِنَ ٱلسَّفِينَةِ، وَأَنْزَلُوا ٱلْقَارِبَ إِلَى ٱلْبَحْرِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَمُدُّوا مَرَاسِيَ مِنَ ٱلْمُقَدَّمِ».
ٱلنُّوتِيَّةُ قال هذا ليميّزهم عن العسكر والأسرى وسائر الركاب.
أَنْ يَهْرُبُوا توقعوا انكسار السفينة وأن لا وسيلة لبلوغهم البر سالمين سوى القارب الصغير وعلموا أنه لا يسعهم والآخرين فاعتمدوا أن يستولوا عليه وينفردوا به ويخلصوا غير ملتفتين إلى ما يصيب غيرهم. وكان من حب الذات القبيح أن يعتنوا بأنفسهم فقط ويزيدوا خطر الباقين لأنهم كانوا يجهلون تدبير السفن ويعجزون عن اتخاذ وسائل النجاة.
أَنْزَلُوا ٱلْقَارِبَ الذي رفعوه من البحر وهم تحت كلودي (ع ١٦ و١٧).
بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ الخ لعلهم أنه إذا عرف الباقون غايتهم منعوهم من إدراكها فتظاهروا أن قصدهم أن يطرحوا المراسي من مقدم السفينة كما طرحوا من مؤخرها. ولا بد من أن الباقين قبلوا تلك الحجة ولولا معارضة بولس لخُدعوا بها جميعاً. وكثيراً ما حدث مثل هذا الخداع في مثل تلك الحال.
٣١ «قَالَ بُولُسُ لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ وَٱلْعَسْكَرِ: إِنْ لَمْ يَبْقَ هٰؤُلاَءِ فِي ٱلسَّفِينَةِ فَأَنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْجُوا».
هذه المرة الثالثة في هذا السفر قام بولس الأسير مقام المشير بغية النفع العام. فإنه أدرك قصد الملاحين إما بفطنته الطبيعية أو بالإعلان الإلهي والمرتان قبلها ذُكرتا في (ع ١٠ و٢١).
لِقَائِدِ ٱلْمِئَةِ وَٱلْعَسْكَرِ لم يقل بولس شيئاً للملاحين لمعرفته أن قوله لهم عبثٌ لكنه أخبر يوليوس والعسكر بقصد الملاحين لعلمه أن الطبع يحملهم على اتخاذ الوسائل إلى منعهم من مقصدهم.
لم يجعل بولس وعد الله له بالحفظ والنجاة حجة عن تركه الوسائط المؤدية إليهما.
إِنْ لَمْ يَبْقَ هٰؤُلاَءِ... لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْجُوا إنكم تهلكون غرقاً. وليس في هذا منافاة لقوله في الآية الثانية والعشرين ما مفاده أنهم ينجون كلهم لأن قصد الله نجاتهم من الهرب. فإذا فرضنا ترك الوسائل وجب أن نفرض بطلان القصد لارتباط كل منهما بالآخر. كذلك مقاصد الله في خلاص الخطأة يشتمل على استعمال الإنسان الوسائط المرتبطة بها وهي التوبة والإيمان والسيرة المقدسة فمن يعذر نفسه عن إهمال التوبة بقوله «إذا كان الله قد قضى بخلاصي خلصت لا محالة اجتهدت أم لم أجتهد» فعليه أن يقابل هذه الآية بالآية الثانية والعشرين ليرى سقوط عذره ووهم حجته.
٣٢ «حِينَئِذٍ قَطَعَ ٱلْعَسْكَرُ حِبَالَ ٱلْقَارِبِ وَتَرَكُوهُ يَسْقُطُ».
ظهر من الآية الثلاثين أن الملاحين أنزلوا القارب إلى البحر ويظهر من هذه الآية أنه لم يبلغ سطح البحر ولم يدخله الملاحون فقطع العسكر الحبال التي كان معلقاً بها فسقط وتاه وامتنع الملاحون من الهرب وأُجبروا على البقاء والسعي في نجاة الجميع لينجوا هم.
٣٣ «وَحَتَّى قَارَبَ أَنْ يَصِيرَ ٱلنَّهَارُ كَانَ بُولُسُ يَطْلُبُ إِلَى ٱلْجَمِيعِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا طَعَاماً، قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱلْيَوْمُ ٱلرَّابِعُ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ لاَ تَزَالُونَ صَائِمِينَ، وَلَمْ تَأْخُذُوا شَيْئاً».
هذه المرة الرابعة قام بولس مقام المدبّر والمرشد لكل ما في السفينة إلى ما يجب فعله استعداداً لما يتوقع فأظهر بنصحه حكمته وشفقته على الجميع والعناية بهم.
حَتَّى قَارَبَ ٱلنَّهَارُ نفهم من ذلك أن بولس شغل الوقت من منتصف الليل حين ألقوا المراسي إلى قرب طلوع الفجر يشجع كل فرد منهم ويحثه لى تناول الطعام فكأنه هو وحده بقي صاحياً مطمئناً.
ٱلْيَوْمُ ٱلرَّابِعُ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ انتهاء الزوبعة وبلوغ النجاة أو انكسار السفينة والهلاك فكنتم في كل تلك المدة مضطربي الأفكار غافلين عن الواجبات العادية لسلامة أجسادكم.
لاَ تَزَالُونَ صَائِمِينَ لم يرد بالصيام هنا كل الانقطاع عن الطعام لأنهم لو انقطعوا كذلك لهلكوا بل أراد أنهم لم يتناولوا الطعام الكافي للتغذية لأن الاضطراب الناشئ من الريح وهيجان البحر عاق الخدم عن تهيئة الطعام العادية. ولعل الموج كان يقع في السفينة فيعطل بعض الأطعمة. ولعلهم طرحوا بعض الأطعمة في البحر تخفيفاً عن السفينة وما بقي منها لم يكن مما يهيّج شهوة الطعام ويقوي الآكلين. وكانت الأحوال قد منعت من الأكل في أوقاته فتشوش النظام وانتفى تأثر العادة في تناول الطعام. وليس من أدنى دليل على أن هذا الصوم كان لغاية دينية.
وَلَمْ تَأْخُذُوا شَيْئاً كافياً.
٣٤ «لِذٰلِكَ أَلْتَمِسُ مِنْكُمْ أَنْ تَتَنَاوَلُوا طَعَاماً، لأَنَّ هٰذَا يَكُونُ مُفِيداً لِنَجَاتِكُمْ، لأَنَّهُ لاَ تَسْقُطُ شَعْرَةٌ مِنْ رَأْسِ وَاحِدٍ مِنْكُمْ».
١ملوك ١: ٥٢ ومتّى ١٠: ٣٠ ولوقا ١٢: ٧ و٢١: ١٨
لِذٰلِكَ أي لامتناعكم تلك المدة عن الطعام الكافي ولوهنكم الناتج عن ذلك وعدم قدرتكم على احتمال مقاومة الأمواج وبرد الماء عند انكسار السفينة وعومكم على البحر ولأن الصوم الطويل يضر بصحتكم في المستقبل.
مُفِيداً لِنَجَاتِكُمْ أي إحدى الوسائط الضرورية لها.
لاَ تَسْقُطُ شَعْرَةٌ الخ هذا كلام جار مجرى المثل ومعناه السلام التام (١ملوك ١: ٥٢ و١صموئيل ١٤: ٤٥). كانت الأحوال مقتضية القوة الجسدية والقوة القلبية والأولى من منشآت الطعام والثانية من منشآت الرجاء المستفاد من هذا التوكيد.
٣٥ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ ٱللّٰهَ أَمَامَ ٱلْجَمِيعِ، وَكَسَّرَ، وَٱبْتَدَأَ يَأْكُلُ».
١صموئيل ٩: ١٣ ومتّى ١٦: ٣٦ ومرقس ٨: ٦ ويوحنا ٦: ١١ و١تيموثاوس ٤: ٣ و٤
أَخَذَ خُبْزاً الخ أكل أمامهم ليقتدوا به ولم يغفل عن عادة كل المسيحيين تقديم الشكر لله عند تناولهم مواهبه (متّى ١٥: ٣٦ و٢٦: ٢٧ ويوحنا ٦: ١١ و٢٣ ورومية ١٤: ٦ و١كورنثوس ١٠: ٣٠ و١١: ٢٤ و١٤: ١٧ وأفسس ٥: ٢٠ و١تسالونيكي ٥: ١٨
٣٦، ٣٧ «٣٦ فَصَارَ ٱلْجَمِيعُ مَسْرُورِينَ وَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً طَعَاماً. ٣٧ وَكُنَّا فِي ٱلسَّفِينَةِ جَمِيعُ ٱلأَنْفُسِ مِئَتَيْنِ وَسِتَّةً وَسَبْعِينَ».
كانت نتيجة أقوال بولس وفعله تشجيعهم وتأميلهم فإنهم شرعوا يأكلون وينتعشون.
وَكُنَّا فِي ٱلسَّفِينَةِ الخ أي نحن الذين أكلنا كل الأنفس التي في السفينة وهي مئتان وست وسبعون نفساً وهم ليسوا أكثر ممن كانت تحملهم كبار السفن في تلك الأيام. فإن يوسيفوس قال أن السفينة التي كان مسافراً فيها انكسرت وفيها ست مئة نفس. وكان يوسيفوس من رجال ذلك القرن.
٣٨ «وَلَمَّا شَبِعُوا مِنَ ٱلطَّعَامِ طَفِقُوا يُخَفِّفُونَ ٱلسَّفِينَةَ طَارِحِينَ ٱلْحِنْطَةَ فِي ٱلْبَحْرِ».
وَلَمَّا شَبِعُوا مِنَ ٱلطَّعَامِ هذه أول مرة شبعوا من الطعام منذ ابتداء الزوبعة.
طَفِقُوا كل الذين في السفينة.
يُخَفِّفُونَ ٱلسَّفِينَةَ لكي تقرب إلى البر أكثر ما يمكن قبل أن ترتطم وبقربها تقلّ المسافة على السابح.
طَارِحِينَ ٱلْحِنْطَةَ هذه الواسطة لتخفيف السفينة. لعل الحنطة كانت قد تجمعت حينئذ في جانب واحد من السفينة لميلها إلى جهة واحدة بهبوب الريح المستمر وعسر على الملاحين أن يجروها وهي مائلة إلى حيث شاءوا وقد عرفوا أن السفينة تنكسر ولم يبق نفع من حفظ الحنطة. قيل في الآية الخامسة أن تلك السفينة من اسكندرية وأنها ذاهبة إلى إيطاليا ولم يذكر ما هو محمولها إلا هنا. والحنطة مما اعتادت سفن اسكندرية أن تحملها من مصر إلى إيطاليا وهذا مما يدل على صحة هذه القصة.
٣٩ «وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ ٱلأَرْضَ، وَلٰكِنَّهُمْ أَبْصَرُوا خَلِيجاً لَهُ شَاطِئٌ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ ٱلسَّفِينَةَ إِنْ أَمْكَنَهُمْ».
لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ ٱلأَرْضَ لم يروا فيها علامات تذكرهم أنهم أتوها قبلاً. فإن قيل لماذا لم يعرف الملاحون مليطة وهي على طريقهم المعتادة بين إيطاليا ومصر فالجواب أنهم اعتادوا أن يدخلوا بها مرفأ فالتّة فرضة تلك الجزيرة. ولكن الموضع الذي بلغوه وقتئذ كان على أمد سبعة أميال من تلك الفرضة شرقاً وليس هنالك من جبال أو أكم تُعرف بها ولو عرفوا الأرض لعرفوا الموضع الأوفق للإرساء أو الاندفاع.
خَلِيجاً لَهُ شَاطِئٌ الخليج جزء من البحر داخل في البر والمراد بالشاطئ هنا شط من الرمل لا الصخور الراسية.
فَأَجْمَعُوا أي اتفقوا في الرأي.
إِنْ أَمْكَنَهُمْ هذا يدل على أنهم كانوا في شك من الإمكان.
٤٠ «فَلَمَّا نَزَعُوا ٱلْمَرَاسِيَ تَارِكِينَ إِيَّاهَا فِي ٱلْبَحْرِ، وَحَلُّوا رُبُطَ ٱلدَّفَّةِ أَيْضاً، رَفَعُوا قِلْعاً لِلرِّيحِ ٱلْهَابَّةِ، وَأَقْبَلُوا إِلَى ٱلشَّاطِئِ».
نَزَعُوا ٱلْمَرَاسِيَ الأرجح أنهم قصوا حبالها.
حَلُّوا رُبُطَ ٱلدَّفَّةِ المراد بالدفة هنا آلة توجيه السفينة وكان بمنزلتها قديماً مجذافان في مؤخر المركب كما مرّ في شرح (ع ٩). سبق في (ع ٢٢) أنهم رموا من المؤخر أربع مراس فاقتضى ذلك أن يربطوا المجدافين لئلا تشتبك بحبال المراسي ولما قطعوا تلك الحبال وأرادوا إجراء السفينة حلوا الرُبط.
رَفَعُوا قِلْعاً لِلرِّيحِ هذا دليل على أن الريح كانت متوجهة إلى البر كما دل على ذلك ما ذُكر قبل طرح المراسي في منتصف الليل (ع ٢٨).
أَقْبَلُوا إِلَى ٱلشَّاطِئِ بتوجيه السفينة إليه.
٤١ «وَإِذْ وَقَعُوا عَلَى مَوْضِعٍ بَيْنَ بَحْرَيْنِ، شَطَّطُوا ٱلسَّفِينَةَ، فَٱرْتَكَزَ ٱلْمُقَدَّمُ وَلَبِثَ لاَ يَتَحَرَّكُ. وَأَمَّا ٱلْمؤَخَّرُ فَكَانَ يَنْحَلُّ مِنْ عُنْفِ ٱلأَمْوَاجِ».
٢كورنثوس ١١: ٢٥
وَإِذْ وَقَعُوا عَلَى مَوْضِعٍ أي صاروا إليه بلا قصد.
بَيْنَ بَحْرَيْنِ الأرجح أن معنى البحرين هنا تياران متقابلان ومن شأن هذين التيارين أن يجمعا الرمل ركاماً مثل لسان في البحر وهذا اللسان إن لم يكن ظاهراً فوق سطح البحر كان كافياً لمنع مجاوزة السفنية إياه. ويحتمل أن المراد بالبحرين جزآن من البحر أحدهما الذي كانت السفينة فيه والثاني بين البر وجزيرة صغيرة اسمها سلمونتّا. وكان عرض هذا الجزء نحو مئة وثلاثين ذراعاً. وكان بين تلك الجزيرة والشبر تيار قوي دائم. فهنالك علة كافية لاندفاع السفينة وارتطامها على الاحتمالين.
شَطَّطُوا ٱلسَّفِينَةَ أي أدنوها من الشاطئ إلى حيث ارتطمت على أمد منه وهم لم يقصدوا أن ترتطم بل أن يبغلوا بها الخليج. والأرجح أن مرتطمها كان لسان الرمل الذي يمتد من طرف جزيرة سلمونتا الشرقي قبالة خليج صغير يُعرف اليوم بخليج مار بولس.
فَٱرْتَكَزَ ٱلْمُقَدَّمُ وَلَبِثَ أي دخل في الرمل وتمكّن لأن السفينة كانت مدفوعة بقوة الريح.
وَأَمَّا ٱلْمؤَخَّرُ فَكَانَ يَنْحَلُّ لأنه كان عرضة لصدم الأمواج دون المقدم ومن الطبع أنه إذا كان جزء من السفينة ثابت في المرتطم وجزء آخر بلا عماد وكان هذا التفكك وسيلة للنجاة للذين لم يحسنوا السباحة (ع ٤٤).
٤٢ «فَكَانَ رَأْيُ ٱلْعَسْكَرِ أَنْ يَقْتُلُوا ٱلأَسْرَى لِئَلاَّ يَسْبَحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَهْرُبَ».
يَقْتُلُوا ٱلأَسْرَى بولس والمذكورين في (ع ١) فما قصده العسكر هنا شر مما قصده الملاحون في (ع ٣٠) فإن مقصد العسكر نتيجة القساوة ومقصد الملاحين نتيجة حب الذات. على أن ما حمل العسكر على هذه القساوة شدة شريعة الرومانيين العسكرية وهي وجوب قتل الجندي الذي يسمح لأسير يحرسه بالهرب (انظر شرح ص ١٦: ١٩ و١٦: ٢٧). فقصد العسكر ما هو مناف للعدل والإنسانية والشريعة خشية أن يعرضوا أنفسهم للعقاب بهرب أحد الأسرى.
٤٣ «وَلٰكِنَّ قَائِدَ ٱلْمِئَةِ، إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُخَلِّصَ بُولُسَ، مَنَعَهُمْ مِنْ هٰذَا ٱلرَّأْيِ، وَأَمَرَ أَنَّ ٱلْقَادِرِينَ عَلَى ٱلسِّبَاحَةِ يَرْمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً فَيَخْرُجُونَ إِلَى ٱلْبَرِّ».
قَائِدَ ٱلْمِئَةِ، إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُخَلِّصَ بُولُسَ مال يوليوس إلى بولس من بداءة السفر وأظهر له اللطف (ع ٣) وزاد ميله إليه لما رأى فيه من الحكمة والفطنة وإخلاص النصح ولا سيما البراهين على كونه في حراسة إلهية.
مَنَعَهُمْ مِنْ هٰذَا ٱلرَّأْيِ يظهر من هذا أن يوليوس لولا إرادته نجاة بولس لم يمنع العسكر من قتل الأسرى فإذاً هو حفظ حياة الأسرى إكراماً لعبده لبولس.
وَأَمَرَ الخ أي الأسرى والأرجح أنه كان قد أمر أن ترفع السلاسل عنهم. وفضل الخطر من هرب واحد على أن يقتل صديقه بولس. ولعله رجا أن لا يهرب أحد منهم وأنه يمسكه إن هرب. ونفوذ الأوامر في مثل تلك الأحوال دليل على حسن نظام العسكر الروماني.
٤٤ «وَٱلْبَاقِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَلْوَاحٍ وَبَعْضُهُمْ عَلَى قِطَعٍ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ. فَهٰكَذَا حَدَثَ أَنَّ ٱلْجَمِيعَ نَجَوْا إِلَى ٱلْبَرِّ».
ع ٢٢
وَٱلْبَاقِينَ أي الذين لا يحسنون السباحة.
قِطَعٍ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ لأنها انحلّت بعنف الأمواج (ع ٤١).
ٱلْجَمِيعَ نَجَوْا إِلَى ٱلْبَرِّ بعناية الله الخاصة على وفق وعده تعالى (ع ٢٢ و٢٣). وكانوا جميعاً ٢٧٦ نفساً من عسكر وملاحين وأسرى وغيرهم من الركاب (ع ٣٧). وهذه نجاة رابعة لبولس من الغرق بعد انكسار السفينة التي كان فيها. ونجاة الجميع كانت برهاناً على صدق بولس في كل ما قاله الأول التنبيه على الخطر (ع ١٠) والثاني أن الله وهبه نفوس جميع الذين سافروا معه ووعده أنه ينجيهم (ع ٢٤ و٣٤) وأن السفينة تنكسر وأنهم يقعون على جزيرة (ع ٢٦). وكل ذلك أثبت أن الإله الذي خدمه بولس وعبده هو الإله الحق وأنه قدير ورحيم.
كما حفظ الله بولس يحفظ كل من يتقونه من كل أخطار السفر براً وبحراً. فعليهم أن يطمئنوا ويثقوا أنه كما أوصل بولس إلى الشاطئ بعد مشقات السفر وأهواله كذلك يوصل شعبه إلى شاطئ السلام السماوي بعد مصائب بحر هذه الحياة.


الأصحاح الثامن والعشرون


بولس في مليطة ع ١ إلى ١١


١ «وَلَمَّا نَجَوْا وَجَدُوا أَنَّ ٱلْجَزِيرَةَ تُدْعَى مَلِيطَةَ».
ص ٢٧: ٢٦
وَجَدُوا أي علموا من السكان أو ملاحي السفينة الذين أتوا الجزيرة وما عرفوها إلا بعد وصولهم إليها.
مَلِيطَةَ أي مالطة وهي جزيرة صغيرة طولها سبعة عشر ميلاً وعرضها تسعة أميال وموقعها جنوبي صقلية (أو سيسيليا) وعلى أمد ستين ميلاً منها. سكانها فينيقيون أصلاً. ومما يؤكد أن تلك الجزيرة مالطة الاسم وأن الجزيرة التي تدفع الريح الشمالية الشرقية إليها لا تكون غير مالطة ولا خطر على مثل تلك السفينة أن تندفع إلى السيرتس (ص ٢٧: ١٧) إلا في جهة تلك الجزيرة. والمسافة بين مالطة وكريت (وهي ٤٨٠ ميلاً) هي التي يتوقع أن تقطعها السفينة مدفوعة بلا شراع في نحو ١٤ يوماً لأنها قطعت نحو ٣٤ ميلاً في اليوم. ووجود خليج في مالطة اسمه الآن خليج بولس يوافق ما ذكره لوقا في نبإ انكسار السفينة. ورأس جزيرة سلمونتا في مدخل ذلك الخليج موافق لموضع ارتطامها المذكور. وجزء البحر الفاصل بين سلمونتا ومالطة على وفق قوله «وَقَعُوا عَلَى مَوْضِعٍ بَيْنَ بَحْرَيْنِ» (ص ٢٧: ٤١).
٢ «فَقَدَّمَ أَهْلُهَا ٱلْبَرَابِرَةُ لَنَا إِحْسَاناً غَيْرَ ٱلْمُعْتَادِ، لأَنَّهُمْ أَوْقَدُوا نَاراً وَقَبِلُوا جَمِيعَنَا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَطَرِ ٱلَّذِي أَصَابَنَا وَمِنْ أَجْلِ ٱلْبَرْدِ».
رومية ١: ١٤ و١كورنثوس ١٤: ١١ وكولوسي ٣: ١١
ٱلْبَرَابِرَةُ سمّى اليونانيون والرومانيون كل من لا يتكلم بلغتيهما بربرياً كما سمّى العرب من لا يتكلم بلغتهم أعجمياً وإذ كان أهل مليطة لا يحسنون اليونانية ولا اللاتينية دعاهم برابرة فهو ليس بدليل على توحشهم أو قلة تمدّنهم. وكذا جاء معنى البربري في (رومية ١: ١٤ وكولوسي ٣: ١١).
لَنَا إِحْسَاناً كانوا جميعاً في غاية الاحتياج إليه لأنهم فقدوا كل أهبتهم بانكسار السفينة. وكانت أجسامهم قد ضعفت من الصوم والمشقات مدة الزوبعة وقد تبللوا وأعفوا من مصادمة الأمواج وهم يسبحون.
قَبِلُوا جَمِيعَنَا أي قاموا بضيافتنا.
ٱلْمَطَرِ ٱلَّذِي أَصَابَنَا على أثر الزوبعة.
ٱلْبَرْدِ كان أول تشرين الثاني وهو زمن البرد هناك والريح الشمالية الشرقية هابة وهي تأتي من جبال إيطاليا العالية المغطاة بالثلج.
٣ «فَجَمَعَ بُولُسُ كَثِيراً مِنَ ٱلْقُضْبَانِ وَوَضَعَهَا عَلَى ٱلنَّارِ، فَخَرَجَتْ مِنَ ٱلْحَرَارَةِ أَفْعَى وَنَشِبَتْ فِي يَدِهِ».
اشتغل بولس سابقاً مع الباقين بتخفيف السفينة (ص ٢٧: ١٩) وأخذ هنا يشتغل معهم بجمع الوقيد وكان ذلك وسيلة إلى بيان كونه تحت العناية الإلهية الخاصة على وفق قول المسيح في المؤمنين «يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ، وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ» (مرقس ١٦: ١٨).
أَفْعَى حيّة سامة كانت مترحية تحت العيدان جامدة من البرد كالميت فلما أحست بحرارة النار انتعشت وغضبت.
نَشِبَتْ فِي يَدِهِ أي علقت بإدخال أنيابها فيها.
٤ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْبَرَابِرَةُ ٱلْوَحْشَ مُعَلَّقاً بِيَدِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لاَ بُدَّ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ قَاتِلٌ، لَمْ يَدَعْهُ ٱلْعَدْلُ يَحْيَا وَلَوْ نَجَا مِنَ ٱلْبَحْرِ».
ٱلْوَحْشَ أي الحيّة البريّة.
هٰذَا ٱلإِنْسَانَ قَاتِلٌ علموا أن لدغ الأفعى يقتل لا محالة ورأوا من أحوال بولس أنه أسير وظنوه مرتكباً إثماً فظيعاً لأنه كان مرسلاً إلى رومية للمحاكمة واعتقدوا أن مصابه بقضاء إلهي على إثمه فحكموا بأنه قاتل لأن إثم القتل هو الذي يوجب على مرتكبه الموت وكانوا ككثيرين ممن يرون أن بلية الإنسان الخاصة عقاب له على إثم خاص أبداً (انظر شرح يوحنا ٩: ١ - ٣).
لَمْ يَدَعْهُ ٱلْعَدْلُ يَحْيَا أي أماته الإله العادل فإنه هو الذي اتخذ الأفعى آلة لإجراء قضائه. ومبدأ هذا الراي حق لأنه من غريزة الإنسان الاعتقاد أن الإله العادل لا يترك الأثيم بلا عقاب لكنهم أخطأوا باعتبارهم كل مصاب عقاباً على إثم برهاناً على غضب الله. وكان أخطاؤهم كأخطاء أصحاب أيوب إذ حكموا بأن كل بلاياه نتيجة آثامه.
٥ «فَنَفَضَ هُوَ ٱلْوَحْشَ إِلَى ٱلنَّارِ وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِشَيْءٍ رَدِيءٍ».
مرقس ١٦: ١٨ ولوقا ١٠: ١٩
هذا دليل على أن الله وقاه من الموت بمعجزة.
٦ «وَأَمَّا هُمْ فَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ أَنَّهُ عَتِيدٌ أَنْ يَنْتَفِخَ أَوْ يَسْقُطَ بَغْتَةً مَيْتاً. فَإِذِ ٱنْتَظَرُوا كَثِيراً وَرَأَوْا أَنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ شَيْءٌ مُضِرٌّ، تَغَيَّرُوا وَقَالُوا: هُوَ إِلٰهٌ!».
ص ١٤: ١١
يَنْتَفِخَ أَوْ يَسْقُطَ بَغْتَةً مَيْتاً توقعوا ذلك لما عرفوه من اختبارهم أعراض لدغ الأفعى.
تَغَيَّرُوا وَقَالُوا: هُوَ إِلٰهٌ! لأنهم تيقنوا هلاك كل إنسان لدغته الأفعى وأن من لدغته الأفعى ولم يمت فهو ليس بقابل الموت فيلزم أنه أحد الآلهة الخالدة. وكان تغير أفكارهم كتغير أفكار أهل لسترة لكن أهل لسترة ظنوه أولاً إلهاً ثم ظنوه أثيماً مستحقاً الموت ورجموه وأهل مليطة ظنوه أولاً اثيماً مستحقاً الموت ثم اعتبروه إلهاً (ص ١٤: ١١ و١٨).
٧ «وَكَانَ فِي مَا حَوْلَ ذٰلِكَ ٱلْمَوْضِعِ ضِيَاعٌ لِمُقَدَّمِ ٱلْجَزِيرَةِ ٱلَّذِي ٱسْمُهُ بُوبْلِيُوسُ. فَهٰذَا قَبِلَنَا وَأَضَافَنَا بِمُلاَطَفَةٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ».
ذٰلِكَ ٱلْمَوْضِعِ أي الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة.
مُقَدَّمِ ٱلْجَزِيرَةِ أي عظيمها مقاماً وثروة والأرجح أنه حاكمها بأمر الرومانيين لأن تلك الجزيرة كانت من أملاك رومية واسمه بوبليوس يدل على أنه روماني.
قَبِلَنَا قبل يوليوس القائد وبولس ورفقاءه.
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ الأرجح أن هذه الأيام هي المدة التي شغلها يوليوس بإعداد منزل خاص لمن كانوا تحت عنايته في السفينة.
٨ «فَحَدَثَ أَنَّ أَبَا بُوبْلِيُوسَ كَانَ مُضْطَجِعاً مُعْتَرىً بِحُمَّى وَسَحْجٍ. فَدَخَلَ إِلَيْهِ بُولُسُ وَصَلَّى، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ فَشَفَاهُ».
يعقوب ٥: ١٤ و١٥ مرقس ٦: ٥ و١٦: ١٨ ولوقا ٤: ٤٠ وص ١٩: ١١ و١٢ و١كورنثوس ١٢: ٩ و٢٨
سَحْجٍ مرض في الإمعاء يُعرف اليوم بالدوسنطاريا أي الزّحار. فكان وجود بولس في بيت بوبليوس بركة لأهله كما كان بالسفينة بركة لأهلها. وكان شفاء الله لأبي بوبليوس إثابة له على معروفه وشهادة بصحة دين المسيح الذي آمن به بولس.
وَصَلَّى كما فعل بطرس حين أقام طابيثا (ص ٩: ٤٠) وبذلك نال قوة على فعل المعجزة واعترف علناً بأنه لم يفعلها بقوة نفسه بل بقوة معبوده.
فَشَفَاهُ تم بهذا الجزء الثاني من وعد المسيح في (مرقس ١٦: ٢٨) وهو قوله «وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى ٱلْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ» وتم الأول في (ع ٥).
٩ «فَلَمَّا صَارَ هٰذَا، كَانَ ٱلْبَاقُونَ ٱلَّذِينَ بِهِمْ أَمْرَاضٌ فِي ٱلْجَزِيرَةِ يَأْتُونَ وَيُشْفَوْنَ».
كان شفاء أبي بوبليوس سبيلاً لشفاء كثيرين والكلام يدل على أن بولس شفى مرضى الجزيرة الذين أمكنهم الوصول إليه لأنه كان أسيراً فلم يكن له أن يذهب إليهم. ولا عجب من أن بولس استطاع ذلك كله لأن سكان الجزيرة كانوا يومئذ قليلين وإقامة بولس بها كانت طويلة نحو ثلاثة أشهر.
١٠ «فَأَكْرَمَنَا هٰؤُلاَءِ إِكْرَامَاتٍ كَثِيرَةً. وَلَمَّا أَقْلَعْنَا زَوَّدُونَا بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ».
متّى ١٥: ٦ و١تيموثاوس ٥: ١٧
ذُكرت هنا نتيجتان من معجزات بولس هناك وهما إكرام الناس إياه ورفاقه مدة إقامتهم وإتيانهم إياهم بالهدايا عند سفرهم. ولا شك في أن بولس لم يعتبر إكرامهم إياه سوى وسيلة إلى إكرام ربه وانتشار دينه. وأنه كان كلما شفى الناس من أمراضهم يشهد على مسامعهم ليسوع بأنه الطبيب الروحاني الشافي أمراض النفس والواهب الحياة الأبدية. أما تلك الهدايا فكانت مما يحتاجون إليه في بقية سفرهم من القوت والكسوة لأنهم فقدوا كل أهبتهم بانكسار السفينة فباتوا في شديد الحاجة.

سفر بولس من مليطة إلى رومية وأسره فيها ع ١١ إلى ٣١


١١ «وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ أَقْلَعْنَا فِي سَفِينَةٍ إِسْكَنْدَرِيَّةٍ مَوْسُومَةٍ بِعَلاَمَةِ ٱلْجَوْزَاءِ، كَانَتْ قَدْ شَتَتْ فِي ٱلْجَزِيرَةِ».
بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ من انكسار السفينة أو أول تشرين الثاني فيكون وقت سفرهم الجديد أول شباط وهذا الشهر كان محسوباً عندهم أول الزمن الموافق للسفر في البحر.
سَفِينَةٍ إِسْكَنْدَرِيَّةٍ كالسفينة التي أتوا فيها من ميرا (ص ٢٧: ٦). والأرجح أنها كانت حاملة حنطة كتلك.
مَوْسُومَةٍ أي عليها علامة هي صورة أو كتابة في مقدمها جُعلت لها مميزاً عن غيرها.
ٱلْجَوْزَاءِ برج في السماء على صورة شخصين كانا على ما في أساطير الرومانيين توأمين على الأرض وهما ابنا زفس وليدا اسم أحدهما كستور (Castor) والثاني بُلكس (Pollux) عرجا إلى السماء وصارا إلهين لحراسة الملاحين وصورتهما هي البرج المعروف بالتوأمين وبالجوزاء. وذكر ذلك الرسم لوقا لأنه شاهده فكتب كما رأى وتذكر.
كَانَتْ قَدْ شَتَتْ فِي ٱلْجَزِيرَةِ لأنها لم تستطع بلوغ إيطاليا قبل بداءة الشتاء فخشيت الخطر ولجأت إلى مليطة والمرجح أن المرفأ التي رست فيه وخرجت منه هو المعروف اليوم بقالتة. ولا ريب في أن تلك السفينة التي انكسرت علاوة على ما كان فيها من الركاب والأحمال.
١٢ «فَنَزَلْنَا إِلَى سِيرَاكُوسَ وَمَكَثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ».
سِيرَاكُوسَ مدينة في الجانب الشرقي من صقلية (سيسيليا) كانت قديماً قصبة الجزيرة وعلى غاية من الاشتهار لكنها سقطت أخيراً عن منزلتها السالفة. وهي على أمد ثمانين ميلاً من مالطة.
وَمَكَثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ المرجح أن علّة ذلك سكون الريح أو مضادتها.
١٣ «ثُمَّ مِنْ هُنَاكَ دُرْنَا وَأَقْبَلْنَا إِلَى رِيغِيُونَ. وَبَعْدَ يَوْمٍ وَاحِدٍ حَدَثَتْ رِيحٌ جَنُوبٌ، فَجِئْنَا فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّانِي إِلَى بُوطِيُولِي».
دُرْنَا نفهم من ذلك أن الريح منعتهم من السير بالاستقامة إلى حيث قصدوا.
رِيغِيُونَ هي مدينة على الجنوب الغربي من إيطاليا اسمها اليوم ريجيو قبالة مدينة ميسينا في صقلية.
رِيحٌ جَنُوبٌ كانت على غاية الموافقة لقصدهم جاوزا بها زقاق ماسينا وهو جزء من البحر بين إيطاليا وسيسيليا.
بُوطِيُولِي مدينة في غربي إيطاليا تسمى اليوم بوزيولي تبعد عن ريغيون مئة ميل وثمانين ميلاً عن نابولي ثمانية أميال جنوباً غربياً. وبوطيولي هي الفرضة التي تفرغ فيها السفن الآتية من الاسكندرية ولم يزل قائماً فيها بعض الابنية التي كانت في عصر بولس. واشتهرت فوق اشتهارها بأنها فرضة بحماماتها الحارة الطبيعية.
١٤ «حَيْثُ وَجَدْنَا إِخْوَةً فَطَلَبُوا إِلَيْنَا أَنْ نَمْكُثَ عِنْدَهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَهٰكَذَا أَتَيْنَا إِلَى رُومِيَةَ».
حَيْثُ وَجَدْنَا إِخْوَةً عرفنا من الرسالة التي كتبها بولس الرسول إلى رومية قبل ذلك بثلاث سنين بوجود إخوة في تلك المدينة. فوجود إخوة في بوطيولي مما يتوقع لأن كل الذين يأتون من اليهودية إلى رومية لا بد لهم من المرور في بوطيولي. ووجود الإخوة فيها دليل على كثرة انتشار الإنجيل في أماكن مختلفة.
نَمْكُثَ عِنْدَهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ الأرجح أن يوليوس سمح لبولس بذلك لأنه أظهر له مثل هذا اللطف في أول السفر (ص ٢٧: ٣ و٤) وما رآه منه في أثناء ذلك زاده لطفاً ومعروفاً له.
وَهٰكَذَا أَتَيْنَا إِلَى رُومِيَةَ أي بعد كل ما ذُكر من الإقامات والنقلات والتغييرات وما يتعلق بذلك وصلنا إلى المدينة المقصودة. والمسافة بين بوطيولي ورومية ١٤٠ ميلاً.
١٥ «وَمِنْ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعَ ٱلإِخْوَةُ بِخَبَرِنَا، خَرَجُوا لٱسْتِقْبَالِنَا إِلَى فُورُنِ أَبِّيُوسَ وَٱلثَّلاَثَةِ ٱلْحَوَانِيتِ. فَلَمَّا رَآهُمْ بُولُسُ شَكَرَ ٱللّٰهَ وَتَشَجَّعَ».
بعدما ذكر لوقا وصولهم إلى رومية ذكر بالتفصيل أحوال السفر من بوطيولي إليها.
وَمِنْ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعَ ٱلإِخْوَةُ كانت إقامتهم في بوطيولي سبعة أيام فرصة لإنباء الإخوة في رومية بوصول بولس إلى بوطيولي وقدومه إليهم.
خَرَجُوا لٱسْتِقْبَالِنَا إكراماً ومودة لنا. والأرجح أنه كان من أولئك المستقبلين أكيلا وبريسكلا وغيرهما ممن ذُكروا في رومية (ص ١٦).
فُورُنِ أَبِّيُوسَ سوق على سكة أبيا وهي الطريق السلطانيّة بين بوطيولي ورومية وهي على غاية مئة ميل من الأولى وأربعين ميلاً من الأخرى.
ٱلثَّلاَثَةِ ٱلْحَوَانِيتِ مكان سمّي بذلك لعدة فنادق فيه وهو أقرب إلى رومية من بوطيولي بعشرة أميال وجد بولس فيه جماعة أخرى من الإخوة.
شَكَرَ ٱللّٰهَ وَتَشَجَّعَ أما شكره لله فعلى حفظه تعالى حياته في مخاطر كثيرة إتماماً لوعده إياه بالوقاية ولأنه قدر له أن يشاهد مسيحي رومية الذي كان يشتاق أن يراهم منذ زمن طويل (رومية ١: ٩ - ١١ و١٥: ٢٣ و٣٢). وأما تشجعه فلأجل احتمال ما يتوقعه في المستقبل من الأتعاب والمشقات. وكثيراً ما كانت المخالطة الأخوية واسطة تعزية وانتعاش للمسيحي في أتعاب هذه الحياة وأحزانها.
توقع بولس منذ زمن طويل أن يجيء إلى رومية ولعله انتظر أن يدخلها رئيساً لجنود الرب ويُخضعها لسيده يسوع المسيح وعلى هذا قال أنا «مُسْتَعَدٌّ لِتَبْشِيرِكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ فِي رُومِيَةَ أَيْضاً، لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاَصِ» (رومية ١: ١٥ و١٦). ولم يخطر على باله أنه يدخلها أسيراً. ولعل منافاة ما توقعه لما صار إليه أوقعته في الحزن واليأس فإنه وهو على الطريق قبل التقائه بالإخوة تأمل في أحواله فرأى أنه طعن في السن وعليه آثار سجنه سنتين في قيصرية وأنه نجا بالجهد من الغرق وأنه يُقاد أسيراً. ولا ريب في أنه شعر من ذلك بأنه كمتروك بلا مساعد لكنه لما اجتمع بإخوته انتعشت روحه وتجددت آماله بهم ولا سيما أن وجودهم بشرّه بأن يجد في رومية صديقه الأفضل غير المنظور الذي لم يتركه من يوم ظهر له وهو على طريق دمشق.
١٦ «وَلَمَّا أَتَيْنَا إِلَى رُومِيَةَ سَلَّمَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ٱلأَسْرَى إِلَى رَئِيسِ ٱلْمُعَسْكَرِ، وَأَمَّا بُولُسُ فَأُذِنَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ وَحْدَهُ مَعَ ٱلْعَسْكَرِيِّ ٱلَّذِي كَانَ يَحْرُسُهُ».
ص ٢٤: ٢٥ و٢٧: ٣
ما في هذه الآية الخامسة عشرة بيان معاملة كنيسة رومية لبولس وما في هذه الآية بيان معاملة أرباب الحكومة له.
سَلَّمَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ٱلأَسْرَى وبهذا انتهت مأمورية يوليوس على بولس وسائر الأسرى.
إِلَى رَئِيسِ ٱلْمُعَسْكَرِ وهو بُرحُس (Burrhus).
أَمَّا بُولُسُ فَأُذِنَ لَهُ خاصة دون غيره والذي أذن له برحس لا يوليوس لأن مأموريته عليه كانت قد انتهت لكنه لا ريب في أنه شهد حسناً لبولس وهذا إحدى علل الرفق ببولس ومن تلك العلل أيضاًم ما كتبه فستوس الوالي في أمره.
وَحْدَهُ أي منفرداً عن سائر الأسرى في السجن العام.
مَعَ ٱلْعَسْكَرِيِّ لم يرد بهذا عسكرياً بعينه إنما أراد بيان كيف كان يُحرس وهو أنه كان يُربط بسلسلة إلى أحد العسكر وقتاً معيناً ثم يُربط إلى آخر بدلاً منه على التوالي. وكانت عادة الرومانيين أن يأتوا ذلك البدل ست مرات في اليوم كما يرجح فيحرس كل عسكري أربع ساعات. وأشار بولس إلى هذه الحال في (ع ٢٠) وفي الرسالتين التي كتبها وهو في رومية (أفسس ٢: ٢٠ وفيلبي ١: ٧ و١٣ و١٦ وكولوسي ٤: ١٨).
١٧ «وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ٱسْتَدْعَى بُولُسُ ٱلَّذِينَ كَانُوا وُجُوهَ ٱلْيَهُودِ. فَلَمَّا ٱجْتَمَعُوا قَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، مَعَ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ شَيْئاً ضِدَّ ٱلشَّعْبِ أَوْ عَوَائِدِ ٱلآبَاءِ، أُسْلِمْتُ مُقَيَّداً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَيْدِي ٱلرُّومَانِ».
ص ٢٤: ١٢ و١٣ و٢٥: ٨ ص ٢١: ٣٢
وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لعل هذه الأيام مرّت عليه قبل أن استأجر البيت ورتبه.
ٱسْتَدْعَى بُولُسُ... وُجُوهَ ٱلْيَهُودِ لأمرين الأول تبيينه لهم أنه لم يخطئ إلى اليهود بشيء. والثاني تبشيرهم بأن يسوع هو المسيح. كان كلوديوس قد نفى اليهود من رومية قبل ذلك بنحو اثنتي عشرة سنة لكنهم رجعوا إليها شيئاً فشيئاً بلا معارضة ولم يكن عددهم في تلك المدينة أقل من ستين ألفاً وكان لهم في تلك المدينة سبعة مجامع وجزء خاص بهم. واستدعاؤه وجوه اليهود لا يلزم منه إهمال الإخوة المسيحيين الذين رحبوا به وخرجوا لاستقباله لأنه جرى به على عادته في كل مدينة دخلها وهي أن يبشر بالمسيح من فيها من اليهود أولاً ولا بد من أنه كان يفضل أن يجول من مجمع إلى آخر للتعليم والتبشير لكن الأحوال لم تسمح له فاتخذ بيته مجمعاً لليهود يومئذ كما جعله بعد ذلك مجمعاً للقادمين إلى قصبة المملكة الرومانية من كل أقطار المسكونة.
ٱلإِخْوَةُ جنساً وديناً.
ضِدَّ ٱلشَّعْبِ أَوْ عَوَائِدِ ٱلآبَاءِ هذا ما برهنه في احتجاجه أمام فيلكس (ص ٢٤: ١٤ - ١٦) وقدام فستوس وأغريباس (ص ٢٦: ٦ - ٨ و٢١ - ٢٣). نعم أنه علّم صحة الدين المسيحي وأن ممارسة الرسوم الموسوية وشرائعها الرمزية ليست ضرورية للخلاص. لكن لا منافاة في هذه الآية لذلك التعليم لأنه اعتبر الدين المسيحي مكملاً للدين اليهودي وأن هذا الزهر وذاك الثمر الناضج وأن المسيحي الغيور هو الإسرائيلي الحقيقي.
أُسْلِمْتُ... إِلَى أَيْدِي ٱلرُّومَانِ نسب إلى اليهود تسليمه إلى الرومانيين لأن اجتهادهم في محاولة قتله في الهيكل كان علة لقبض الرومانيين عليه أولاً وشكايتهم عليه إلى فيلكس وفستوس وطلبهم الحكم عليه علة بقائه مقيداً عندهم.
١٨ «ٱلَّذِينَ لَمَّا فَحَصُوا كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُطْلِقُونِي، لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِيَّ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لِلْمَوْتِ».
ص ٢٢: ٢٤ و٢٤: ١٠ و٢٥: ٨ و٢٦: ٣١
ما في هذه الآية موافق لما قيل في (ص ٢٤: ١٠ - ٢٧ و٢٥: ٨ و٩ و٢٦: ٣١ و٣٢) ومكمل له.
١٩ «وَلٰكِنْ لَمَّا قَاوَمَ ٱلْيَهُودُ، ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَرْفَعَ دَعْوَايَ إِلَى قَيْصَرَ لَيْسَ كَأَنَّ لِي شَيْئاً لأَشْتَكِيَ بِهِ عَلَى أُمَّتِي».
ص ٢٥: ١١
قَاوَمَ ٱلْيَهُودُ الذين أرادوا إطلاقي.
ٱضْطُرِرْتُ... إِلَى قَيْصَرَ كما ذُكر في (ص ٢٥: ١١) إذ لم يكن له غير هذه الوسيلة إلى الأمن لأن اليهود صمموا على قتله وفستوس مال إلى تسليمه إليهم لكي يودعهم منة.
لَيْسَ كَأَنَّ لِي شَيْئاً الخ كان بولس مظلوماً من أمته ولكنه لم يشكهم بذلك تشفياً وانتقاماً وإنما رفع دعواه إلى قيصر ليحامي عن حقوقه الشخصية ويدفع عن حياته.
٢٠ «فَلِهٰذَا ٱلسَّبَبِ طَلَبْتُكُمْ لأَرَاكُمْ وَأُكَلِّمَكُمْ، لأَنِّي مِنْ أَجْلِ رَجَاءِ إِسْرَائِيلَ مُوثَقٌ بِهٰذِهِ ٱلسِّلْسِلَةِ».
ص ٢٦: ٦ و٧ وص ٢٦: ٢٩ وافسس ٣: ١ و٤: ١ و٦: ٢٠ و٢تيموثاوس ١: ١٦ و٢: ٩ وفليمون ١٠ و١٣
لِهٰذَا ٱلسَّبَبِ أي لئلا تظنوا أني أتيت إلى هنا مشتكياً على أمتي وأني خائن ديني وشعبي.
مِنْ أَجْلِ رَجَاءِ إِسْرَائِيلَ مُوثَقٌ أي من أجل أمانته لدين آبائه كما بُيّن في شرح (ص ٢٣: ٦). وعنى «برجاء إسرائيل» الإيمان بالمسيح الموعود به في كتب أنبياء اليهود وأنه آمن بما قال أولئك الأنبياء وأن نبوآتهم تمت بيسوع. وهذا سبب الخلاف بينه وبين أمته وكونه موثقاً ومبغضاً ومشكواً عليه.
بِهٰذِهِ ٱلسِّلْسِلَةِ التي كانت تُربط منه إلى العكسري دائماً (انظر شرح ص ٢٦: ٢٩).
٢١ «فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ لَمْ نَقْبَلْ كِتَابَاتٍ فِيكَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَلاَ أَحَدٌ مِنَ ٱلإِخْوَةِ جَاءَ فَأَخْبَرَنَا أَوْ تَكَلَّمَ عَنْكَ بِشَيْءٍ رَدِيٍّ».
إن كان مرادهم بهذا الجواب أنه لم يبلغهم كتابة أو شفاهاً نبأ أمر بولس منذ توجه من قيصرية فالمحتمل أنهم تكلموا بالحق لأن فصل الشتاء حينئذ لم يمكن السفن من السفر إلى رومية لتحمل شيئاً من أنباء بولس ولم يكن في تلك الأيام من وسيلة إلى نقل الأنباء من اليهودية إلى رومية غير السفن. وإن كان معناهم أن يهود أورشليم لم يرسلوا قط كتاباً قانونياً يسألون فيه يهود رومية أن يشكوا بولس إلى نيرون فالمحتمل أيضاً أنهم صدقوا لأن يهود أورشليم يئسوا من أن نيرون يحكم على بولس بعد ما بذلوا كل جهدهم في أن ينالوه من ليسياس وفيلكس وفستوس وأغريباس الملك اليهودي. وإن كان قصدهم أنهم لم يسمعوا شيئاً من أمر بولس كالقبض عليه في الهيكل وشكاوي اليهود عليه وعللها وإبقائه في سجن قيصرية سنتين ففي قولهم شك وعلى كل أن هذا جوابهم على قول بولس في (ع ١٧ - ١٩).
٢٢ «وَلٰكِنَّنَا نَسْتَحْسِنُ أَنْ نَسْمَعَ مِنْكَ مَاذَا تَرَى، لأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَنَا مِنْ جِهَةِ هٰذَا ٱلْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُقَاوَمُ فِي كُلِّ مَكَانٍ».
لوقا ٢: ٣٤ وص ٢٤: ٥ و١٤ و١بطرس ٢: ١٢ و٤: ١٤
ما في هذه الآية جواب على قوله في (ع ٢٠) أنه موثق لتمسكه برجاء إسرائيل لا لرفضه إياه أي أن كونه مسيحياً لا ينافي كونه إسرائيلياً حقاً.
نَسْتَحْسِنُ أَنْ نَسْمَعَ مِنْكَ أظهروا ميلهم إلى سمع آرائه المخالفة لآراء اليهود وعلى أي شيء بنى دعواه أنه لم يترك دين آبائه.
هٰذَا ٱلْمَذْهَبِ أي المعتقد المسيحي المعروف أن بولس من الدعاة إليه.
يُقَاوَمُ ما قالوه كان صحيحاً وقتئذ في ظاهر معناه ولم يزل كذلك إلى اليوم في أكثر أقطار المسكونة. ولكنه يستلزم أنهم لم يعرفوا من أمر الدين المسيحي غير المقاومة له وهذا من المحال لأنه كان قد مضى نحو ثلاثين سنة على موت المسيح وإنشاء الكنيسة المسيحية وكان اليهود يأتون إلى أورشليم من كل جهات الأرض ليحضروا الأعياد فيها ثم يرجعون إلى أوطانهم. فما حدث في أورشليم لا بد من أنه انتشر في كل البلاد. وكانت في رومية كنيسة مسيحية من اليهود والأمم كتب بولس إليها رسالة قبل ثلاث سنين قال فيها «اَشْكُرُ إِلٰهِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، أَنَّ إِيمَانَكُمْ يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ» (رومية ١: ٨).
٢٣ «فَعَيَّنُوا لَهُ يَوْماً، فَجَاءَ إِلَيْهِ كَثِيرُونَ إِلَى ٱلْمَنْزِلِ، فَطَفِقَ يَشْرَحُ لَهُمْ شَاهِداً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَمُقْنِعاً إِيَّاهُمْ مِنْ نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ بِأَمْرِ يَسُوعَ، مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى ٱلْمَسَاءِ».
لوقا ٢٤: ٢٧ وص ١٧: ٢ و١٩: ٨ ص ٢٦: ٦ و٢٢
فَعَيَّنُوا لَهُ يَوْماً لم تُذكر المدة بينه وبين زمن التعيين لكن القرينة تدل على أن تلك المدة كانت قصيرة.
كَثِيرُونَ في هذا تلميح أن الذين أتوا من وجوه اليهود في اليوم المعيّن أكثر من الذين أتوا أولاً.
يَشْرَحُ لَهُمْ شَاهِداً كما فعل في سائر خطبه في أوقات وأماكن مختلفة.
بِمَلَكُوتِ ٱللّٰه أي ملك المسيح الذي أنبأ به الأنبياء وتم بيسوع (انظر ص ١: ٣ و٨: ١٢ و١٤: ٢٢ و١٩: ٨ و٢٠: ٢٥).
وَمُقْنِعاً إِيَّاهُمْ ... بِأَمْرِ يَسُوعَ أنه المسيح الموعود به وأن يقبلوه ملكاً وكاهناً ومخلصاً كما في (ص ١٣: ٤٣ و١٨: ٤ و١٩: ٨ و٢٦ و٢٨: ٢٨).
مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى ٱلْمَسَاءِ أي النهار كله فشغل بعضه بالخطاب وبعضه بالمحاورة. وهذا دليل على صبر بولس وغيرته ورغبته الشديدة في إرشاد عشيرته إلى المسيح.
٢٤ «فَٱقْتَنَعَ بَعْضُهُمْ بِمَا قِيلَ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا».
ص ١٤: ٤ و١٧: ٤ و١٩: ٩
كان تأثير خطابه هنا كتأثيره في أماكن أخر خاطب فيها اليهود (ص ١٣: ٤٣ - ٤٥ و١٤: ١ - ٤ و١٨: ٤ - ٦ و٨: ١٢ و١٩: ٨ و٩). ولم ينتظر بولس النجاح العظيم لكنه لم يترك فرصة للشهادة بالحق.
٢٥ «فَٱنْصَرَفُوا وَهُمْ غَيْرُ مُتَّفِقِينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، لَمَّا قَالَ بُولُسُ كَلِمَةً وَاحِدَةً: إِنَّهُ حَسَناً كَلَّمَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ آبَاءَنَا بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ».
فَٱنْصَرَفُوا عندما فرغ بولس من الخطاب والمحاورة.
غَيْرُ مُتَّفِقِينَ وهم في الحال المذكور في (ع ٤) والمعنى أنه اقتنع بعضهم بما قاله بولس من أن يسوع هو المسيح وأنه ترك دين آبائه بتنصره وبعضهم لم يقتنع بذلك والأرجح أنهم أظهروا أفكارهم لفظاً.
كَلِمَةً وَاحِدَةً ختاماً لخطابه وإنذاراً لغير المؤمنين. وهي مقتبسة من إشعياء (ص ٦: ٩ و١٠) وعبّر عن الكلام «بالكلمة» لاختصاره الجديد بالنسبة إلى ما سبق من خطابه. لا آية اقتبسها العهد الجديد مراراً كهذه الآية فإنه اقتبسها ست مرات (متّى ٣: ١٤ ومرقس ٤: ١٢ ولوقا ٨: ١٠ ويوحنا ١٢: ٤٠ ورومية ١١: ٢٥ وهنا).
٢٦، ٢٧ «٢٦ قَائِلاً: ٱذْهَبْ إِلَى هٰذَا ٱلشَّعْبِ وَقُلْ: سَتَسْمَعُونَ سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُونَ، وَسَتَنْظُرُونَ نَظَراً وَلاَ تُبْصِرُونَ. ٢٧ لأَنَّ قَلْبَ هٰذَا ٱلشَّعْبِ قَدْ غَلُظَ، وَبِآذَانِهِمْ سَمِعُوا ثَقِيلاً، وَأَعْيُنُهُمْ أَغْمَضُوهَا. لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِأَعْيُنِهِمْ وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا، فَأَشْفِيَهُمْ».
إشعياء ٦: ٩ وإرميا ٥: ٢١ وحزقيال ١٢: ٢ ومتّى ١٣: ١٤ و١٥ ومرقس ٤: ١٢ ولوقا ٨: ١٠ ويوحنا ١٢: ٤٠ ورومية ١١: ٨
أمر الله إشعياء بهذا الكلام أن يذهب إلى اليهود وينادي لهم بكلامه لكنه أعلن له أن كلامه لا يؤثر في أكثرهم وأنهم يبقون في ظلمات الجهل. وأبان بولس أن هذا الكلام صدق عليهم أيضاً لأن عدم اقتناعهم بما قدمه من البراهين على أن يسوع هو المسيح ناشئ عن قصدهم عدم الاقتناع لا عن ضعف البراهين ولا عن عيّ المبرهن وهذا موافق لنبوءة إشعياء. وهذه النبوءة تمت أولاً في اليهودية أيام إشعياء وتمت ثانياً أيام المسيح وتمت ثالثاً في يهود رومية عندما بشرهم بولس. فالعماية التي اختاروها لإباءتهم أن يفتحوا عيونهم ليروا الحق أرسلها الله إليهم عقاباً على عنادهم.
٢٨ «فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ أَنَّ خَلاَصَ ٱللّٰهِ قَدْ أُرْسِلَ إِلَى ٱلأُمَمِ، وَهُمْ سَيَسْمَعُونَ».
متّى ٢١: ٤١ و٤٣ وص ١٣: ٤٦ و٤٧ و١٨: ٦ و٢٢: ٢١ و٢٦: ١٧ و١٨ ورومية ١١: ١١
فَلْيَكُنْ الفاء للتعليل أي «ليكن لعنادكم» أو اعلموا أن ما يأتي علته عنادكم.
خَلاَصَ ٱللّٰهِ أي التبشير به.
أُرْسِلَ إِلَى ٱلأُمَمِ كما كان في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٤٦). وفي كورنثوس (ص ١٨: ٦). وما صدق على اليهود في رومية وغيرها يومئذ لا يزال يصدق عليهم إلى هذه الساعة. أنهم بقوا في عمى القلب وقساوته التي اختاروها وسمح الله بأن ببقوا فيها عقاباً لهم على رفضهم الحق ومعظم نجاح التشبير بالإنجيل كان بين الأمم.
وَهُمْ سَيَسْمَعُونَ أي أن كثيرون منهم يقبلون التبشير وينالون الخلاص المبشر به.
٢٩ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا مَضَى ٱلْيَهُودُ وَلَهُمْ مُبَاحَثَةٌ كَثِيرَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ».
هذا مكرر ما في (ع ٢٥) ومبيّن نتيجة كل ما سبق من تعليم وإنذار.
٣٠ «وَأَقَامَ بُولُسُ سَنَتَينِ كَامِلَتَيْنِ فِي بَيْتٍ ٱسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ. وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ إِلَيْهِ».
سَنَتَينِ كَامِلَتَيْنِ أي سنة ٦١ و٦٢ ومضى عليه هذا الوقت وهو متوقع المحاكمة عند نيرون وعلة ذلك تقديم الشهود من أماكن بعيدة مختلفة كان بولس قد بشر فيها ليشهدوا «مُفْسِداً وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ بَيْنَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَسْكُونَةِ» (ص ٢٤: ٥ و٦) وانشغال نيرون بأمور أخرى. والأرجح أن بولس كان ينفق مما أعطاه إياه أصدقاؤه في أماكن مختلفة (فيلبي ٤: ١٠ - ١٤).
فِي بَيْتٍ ٱسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ وكان تحت تصرفه إلا أنه كان عليه شرطان الأول أن لا يخرج من ذلك البيت والثاني أن يكون معه عسكري روماني مقيدة يده بيده (فيلبي ١: ٩ - ١٦ و٢٣ وكولوسي ٤: ١٨).
وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ الخ ممن كانوا في المدينة وممن أتوها من كافة الولايات الرومانية وكانوا يأتون إليه للصداقة وبعضهم بغية أن يروه ويسمعوا لكونه مشهوراً والبعض رغبة في سمع الإنجيل منه وبعضهم ممن أرسلوا إليه. وفي قول الكاتب «يقبل الجميع» تلميح أنه لا يقدر أن يذهب إليهم.
٣١ «كَارِزاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَمُعَلِّماً بِأَمْرِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ، بِلاَ مَانِعٍ».
ص ٤: ٣١ وأفسس ٦: ١٩
في هذه الآية أنباء بما شغل بولس به الوقت فإنه لم يتقضّ عليه وهو آيس وبطال بل كان غيوراً مجتهداً نشيطاً ينفع كل من يأتي إليه وينفع بهؤلاء غيرهم.
كَارِزاً مبشراً كما في (ص ٨: ٥ و٩: ٢٠ و١٠: ٤٢ و١٩: ١٣ و٢٠ و٢٥).
بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ (انظر شرح ع ٢٣).
وَمُعَلِّماً أي منادياً ومفسراً (ص ١٥: ٣٥ و١٨: ٢٥ و٢٠: ٢٠). والكرازة والتعليم يشتملان على كل وسائط إعلان الحق شفاهاً وهذا لم يكن بلا نفع (انظر فيلبي ١: ١ - ١٤). فكان واسطة إيمان أُنسيمس وعبد فليمون من كولوسي أرجعه بولس إلى سيده مع رسالة منه (فليمون ١٠). وكان يبشر العساكر التي هي من كتيبة أوغسطس أو حرس الأمبراطور وكانوا كثيري العدد لأنهم كانوا يتبدلون وتنصر بعضهم كما ظهر من قوله لأهل فيلبي «ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلإِنْجِيلِ، حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ» (فيلبي ١: ١٢ و١٣). وكتب إليهم أيضاً قوله «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ ٱلْقِدِّيسِينَ وَلاَ سِيَّمَا ٱلَّذِينَ مِنْ بَيْتِ قَيْصَرَ» (فيلبي ٤: ٢٢).
بِأَمْرِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ الموعود به فإنه ملك شعب إسرائيل وكاهنه ونبيه.
بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ أي بتمام الحرية في التكلم مظهراً كل الحق بلا محاباة. والنعمة المساعدة على ذلك طلبها الرسل في صلواتهم (ص ٤: ٢٩) ووهبها الله لهم إجابة لطلبهم (ص ٤: ٣١). وأبان بولس أنها ضرورية في ممارسة التبشير (١تسالونيكي ٢: ٢ وأفسس ٦: ١٩ و٢٠ وفيلبي ١: ٢٠).
كان بولس وهو مسجون في رومية يرسل مبشرين إلى جهات مختلفة ويقبلهم متى رجعوا إليه ويعلمهم وأرسل رسائل إلى الكنائس التي أنشأها منها كنائس فيلبي وكولوسي وأفسس ورسالة إلى فليمون وبذلك جعل رومية مركزاً جديداً لنشر نور الإنجيل بين الأمم في كل أقطار المملكة الرومانية. وهو مع أنه أسير بلا مال ولا جيوش ولا أسلحة أسس مملكة أعظم من مملكة الرومانيين وأبقى.
ومن رفاقه في كل ذلك الوقت أو بعضه تيموثاوس ولوقا وابفراس ومرقس وارسترخس وتيخيكس.
بِلاَ مَانِعٍ لأن أرباب الحكومة الرومانية اعتبروا المسيحيين فرقة صغيرة من اليهود لا تأثير لها ولا خوف منها ولكن في سنة ٦٤ ثار اضطهاد شديد على المسيحيين على أثر احتراق هائل في مدينة رومية بقي نحو أسبوع فأُخرب به جزء كبير من المدينة. والمظنون أن الذي أوقد نيران ذلك الاحتراق وهو نيرون ولكي يتخلص من التهمة أتهم المسيحيين به فهيج عليهم بعض الناس وعداوتهم واضطهادهم. وختم لوقا كلامه في هذا السفر في ربيع سنة ٦١ ب. م. وبولس لم يزل في السجن للمحاكمة. وعدم ذكر لوقا ما جرى لبولس بعد ذلك من محاكمته ونتيجتها وإطلاقه وسجنه ثانية واستشهاده لا يوجب أن تحسب السفر ناقصاً لأن غاية الكاتب لم تكن سوى الأنباء بتأسيس الكنيسة المسيحية وانتشارها بين اليهود والأمم من مركز كبير إلى مثله من أورشليم إلى رومية. وأثبت في هذا السفر قول الرب لرسله «لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (ص ١: ٨).
ونعلم من رسائل بولس التي كتبها في سجنه بعض الحوادث المتعلقة به ونستنتج منها أنه بعد أن سُجن سنتين وقف للمحاكمة وتبرأ وأُطلق ومن أدلة ذلك أنه يظهر من بعض ما كتبه توقعه سرعة التبرئة والإطلاق والمجيء إلى من كتب إليهم كقوله «فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهٰذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي ٱلإِيمَانِ» (فيلبي ١: ٢٥). وقوله «اَعْدِدْ لِي أَيْضاً مَنْزِلاً، لأَنِّي أَرْجُو أَنَّنِي بِصَلَوَاتِكُمْ سَأُوهَبُ لَكُمْ» (فليمون ٢٢).
وما كتبه في رسالتيه إلى تيموثاوس يشير على أنه ترك رومية وزار أسيا وبلاد اليونان ومن ذلك قوله «كَمَا طَلَبْتُ إِلَيْكَ أَنْ تَمْكُثَ فِي أَفَسُسَ، إِذْ كُنْتُ أَنَا ذَاهِباً إِلَى مَكِدُونِيَّةَ» (١تيموثاوس ١: ٣). وقوله «إِلَى أَنْ أَجِيءَ ٱعْكُفْ عَلَى ٱلْقِرَاءَةِ وَٱلْوَعْظِ وَٱلتَّعْلِيمِ» (١تيموثاوس ٤: ١٣). ومنه ما يشير إلى أنه ذهب إلى جزيرة كريت وترك فيها تيطس كقوله «مِنْ أَجْلِ هٰذَا تَرَكْتُكَ فِي كِرِيتَ لِكَيْ تُكَمِّلَ تَرْتِيبَ ٱلأُمُورِ ٱلنَّاقِصَةِ» (تيطس ١: ٥). وما يبيّن أنه كان يقصد أن يشتي في نيكوبوليس وهو قوله لتيطس «بَادِرْ أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ إِلَى نِيكُوبُولِيسَ، لأَنِّي عَزَمْتُ أَنْ أُشَتِّيَ هُنَاكَ» (تيطس ٣: ١٢). ومنه ما يشير إلى أنه زار ميليتس وهو وقوله «أَمَّا تُرُوفِيمُسُ فَتَرَكْتُهُ فِي مِيلِيتُسَ مَرِيضاً» (٢تيموثاوس ٤: ٢٠). وما يشير إلى أنه زار ترواس وهو قوله «اَلرِّدَاءَ ٱلَّذِي تَرَكْتُهُ فِي تَرُوَاسَ عِنْدَ كَارْبُسَ أَحْضِرْهُ مَتَى جِئْتَ، وَٱلْكُتُبَ أَيْضاً وَلاَ سِيَّمَا ٱلرُّقُوقَ» (٢تيموثاوس ٤: ١٣). وكل هذا لا نرى وقتاً لحدوثه إلا بعد سجنه في رومية.
والمرجح أنه قُبض على بولس ثانية وسُجن في رومية في أحوال غير الأحوال السابقة بدليل قوله «ٱلَّذِي فِيهِ أَحْتَمِلُ ٱلْمَشَقَّاتِ حَتَّى ٱلْقُيُودَ كَمُذْنِبٍ» (٢تيموثاوس ٢: ٩). وفي انتظار غير انتظاره الاول بدليل قوله «فَإِنِّي أَنَا ٱلآنَ أُسْكَبُ سَكِيباً، وَوَقْتُ ٱنْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ» (٢تيموثاوس ٤: ٦). وكان حينئذ حزيناً متروكاً من الجميع سوى لوقا ومشتاقاً لحضور تيموثاوس من أفسس وأن يحضر معه مرقس بدليل قوله «أَنْتَ تَعْلَمُ هٰذَا أَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ فِي أَسِيَّا ٱرْتَدُّوا عَنِّي» (٢تيموثاوس ١: ١٥). وقوله «بَادِرْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيَّ سَرِيعاً، لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي... وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي، وَكِرِيسْكِيسَ إِلَى غَلاَطِيَّةَ... لُوقَا وَحْدَهُ مَعِي. خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ» (٢تيموثاوس ٤: ٩ - ١١).
وخلاصة كل ما نستنتجه من هذه الآيات وغيرها أن بولس بعد أن سُجن في رومية نحو سنتين أُطلق في سنة ٦٣ ب. م. وتقضى عليه نحو خمس سنين في التبشير بالإنجيل غربي رومية وشرقيها. وأنه قُبض عليه ثانية وأُرسل إلى رومية وشُدد عليه هناك وأنه كان منتظراً الموت ومستعداً له. وأنه وقف للمحاكمة مرة ثم أرجع إلى السجن بدليل قوله «في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني لا يُحسب عليهم لكن الرب وقف معي وقواني... فأُنقذت من فم الأسد».
والمرجح أنه في المدة بين السجنين كتب الرسالة الأولى إلى تيموثاوس والرسالة إلى تيطس وظن الأكثرون أنه كتب أيضاً الرسالة إلى العبرانيين وأنه في سجنه الثاني كتب الرسالة الثانية إلى تيموثاوس. وأنه مات شهيداً في صيف سنة ٦٨ ب. م.


جدول


تاريخ حياة بولس والأمور المعاصرة لها بمقتضى الأزمنة المحققة والمرجحة

(وأشرنا إلى المرجحة بعلامة الاستفهام)


ب. م التاريخ الحوادث المعاصرة
٣٦؟ ظهور الرب لبولس وهو على طريق دمشق وتنصره أعمال ٩: ١ - ١٩
٣٧؟ وجوده في العربية كل سنة ٣٧ مع جزء من سنة ٣٦وسنة ٣٨ غلاطية ١: ١٥ - ١٧ موت طيباريوس وخلافة كاليغولا موت طيباريوس قيصر وخلافه كاليغولا
٣٨؟ رجوعه إلى دمشق وهربه منها إلى أورشليم ومن أورشليم إلى طرسوس أعمال ٩: ٢٦ - ٣٠
٣٩؟ في هذه السنين بشر بولس في سورية وكيليكية موت كاليغولا وخلافة كلوديوس وتولي
٤٠؟ متخذاً طرسوس مركز إقامته والأرجح أنه حدث أغريباس الأول اليهودية والسامرة
٤١؟ له فيها أكثر المصائب المذكورة في ٢كورنثوس ١١:
٤٢؟ ٢٤ - ٢٦ وهي جلد الرومانيين إياه مرتين واليهود
٤٣؟ ثلاث مرات وانكسار السفينة به خمس مرات
٤٤ إتيان بولس من طرسوس إلى أنطاكية أعمال ١١: ٢٦ استشهاد يعقوب أخي يوحنا أعمال ١٢: ٢ وموت هيرودس أغريباس أعمال ١٢: ٢٣ وتولي كسبيوس فادس الروماني اليهودية
٤٥ إتيانه مع برنابا إلى أورشليم بالإحسان زمن الجوع أعمال ١١: ٣٠
٤٦ بولس في أنطاكية تولي طيباريوس اسكندر اليهودية
٤٧ وجوده في أنطاكية
٤٨ سفره الأول للتبشير من أنطاكية إلى قبرس وأنطاكية تنصيب أغريباس الثاني ملكاً على خلكيس
و بيسيدية وأيقونية ولسترة ودربة وعوده إلى أنطاكية أعمال ص ٢٥
٤٩ ماراً بتلك الأماكن سوى قبرس أعمال ص ١٣ وص ١٤ تولي كيومانوس اليهودية
٥٠ حضور بولس وبرنابا المجمع في أورشليم التئام المجمع في أورشليم
٥١ سفر بولس الثاني للتبشير من أنطاكية إلى كيليكية
٥٢ وليكأونية وغلاطية وإلى ترواس وفيلبي وتسالونيكي وبيرية وأثينا وكورنثوس أعمال ص ١٥ و١٦ و١٧ و١٨ وكتابته الرسالة الأولى إلى كورنثوس طرد كلوديوس اليهود من رومية أعمال ١٨ :٢
٥٣ كونه في كورنثوس وكتابته الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي تولي فيلكس اليهودية
٥٤ تركه كورنثوس (في الربيع) وذهابه إلى أورشليم ومنها إلى أنطاكية (في الصيف) وبداءة سفره الثالث للتبشير وبلوغه أفسس موت كلوديوس وخلافة نيرون
٥٥ و٥٦ وجود بولس في أفسس أعمال ص ١٩
٥٧ كتابته رسالة كورنثوس الأولى في أفسس (في الربيع) وذهابه إلى مكدونية (في الصيف) أعمال ٢٠: ١و ٢ وكتابته رسالة كورنثوس الثانية (في الخريف) وذهابه إلى كورنثوس أعمال ص ٢٠: ١ و٢ وكتابته الرسالة إلى غلاطية (في الشتاء)
٥٨ كتابته الرسالة إلى رومية وتركه كورنثوس ماراً بفيلبي وميليتس (في الربيع) أعمال ٢٠: ٣ - ٦ وذهابه إلى أورشليم والقبض عليه فيها وإرساله إلى قيصرية (في الصيف) أعمال ٢٠ - ص ٢٤
٥٩ أسره في قيصرية
٦٠ إرسال فستوس إياه إلى رومية (في الخريف) وانكسار السفنية في مالطة ومكثه هناك (في الشتاء) أعمال ص ٢٨ عزل فيلكس الوالي وتولي فستوس مكانه
٦١ وصوله إلى رومية (في الربيع) وأسره فيها
٦٢ بقاؤه أسيراً في رومية وكتابته الرسائل إلى فليمون وكولوسي وأفسس وفيلبي أعمال ص ٢٨
٦٣؟ إطلاقه من السجن وذهابه إلى مكدونية فيلبي ٢: ٢٤ وإلى أسيا الصغرى فليمون ٢٢
٦٤؟و الاحتراق الهائل في رومية واضطهاد المسيحيين
٦٥؟ و٦٦؟ تبشير بولس في اسيا الصغرى ومكدونية وكريت وتبشيره في أسبانيا على ما ظن بعضهم على أثره تولي جسيوس فلورس اليهودية
٦٧؟ كتابته الرسالة الأولى إلى تيموثاوس من مكدونية وكتابته الرسالة إلى تيطس من أفسس. والمحتمل أنه كتب الرسالة إلى العبرانيين أيضاً. ووصوله إلى نيكوبوليس (في الشتاء) والقبض عليه هناك وإرساله إلى رومية بداءة الحرب بين اليهود والرومانيين
٦٨؟ سجنه ثانية في رومية وكتابته الرسالة الثانية إلى تيموثاوس (في الربيع) واستشهاده (في الصيف) موت نيرون