النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: تفسير انجيل يوحنا

  1. #1

    تفسير انجيل يوحنا

    المقدمة وفيها خمسة فصول

    الفصل الأول: في الكاتب


    أجمعت الكنيسة المسيحية على أن كاتب هذه البشارة يوحنا الرسول. وهو ابن زبدي وسالومي (متّى ٤: ٢١ و٢٢ ومرقس ١: ١٩ و٢٠ قابل ذلك بما يأتي متّى ٢٠: ٢٠ و٢٧: ٥٦ ومرقس ١٥: ٤٠ و١٦: ١). وُلد في بيت صيدا (لوقا ٥: ٩ ويوحنا ١: ٤٤). وكان صياداً يصيد في بحر الجليل كأبيه زبدي. وكان أبوه غير محتاج لأنه كان صاحب السفينة التي يصيد فيها وتحت يده أجراء (مرقس ١: ٢٠). وكانت أمه من النساء اللواتي رافقن المسيح في أسفاره وخدمته وأنفقن عليه من أموالهن (متّى ٢٧: ٥٦ ولوقا ٨: ٣) وهي من اللواتي وقفن عند صليب يسوع (مرقس ١٥: ٤٠) وأتت إلى القبر بأطياب لتحنيط جسد المسيح (مرقس ١٦: ١).
    وكان أولاً من تلاميذ يوحنا المعمدان (يوحنا ١: ٣٧ - ٤٠) وهو الذي عرّفه بالمسيح وذهب مع يسوع حينئذ لكنه لم يتبعه تلميذاً إلا بعد حين وذلك يوم دعاه المسيح وأخاه يعقوب دعوة خاصة (متّى ٤: ٢١ ومرقس ١: ١٩ ولوقا ٥: ١٠).
    وسُمي «ٱلتِّلْمِيذِ ٱلَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ» (يوحنا ١٣: ٢٣ و١٩: ٣٦ و٢٠: ٢ و٢١: ٩). وهو الذي وكّل المسيح إليه أمه وهو على الصليب (يوحنا ١٩: ٢٧). سكن في أورشليم مدة بعد صلب المسيح وأشار بولس إلى أنه كان من أحد أعمدة الكنيسة (أعمال ١: ١٤ و٣: ١ و٤: ١٣ وغلاطية ٢: ٩).
    ذكر المؤرخون المسيحيون أنه في أواخر أيامه ذهب إلى آسيا الصغرى وسكن مدينة أفسس والأرجح أنه سافر إلى هناك قرب خراب أورشليم وكتابته ما في رؤياه إلى كنائس آسيا السبع تؤيد هذا القول (رؤيا ١: ١١). ونُفي إلى جزيرة بطمس بسبب دينه وهنالك كتب سفر الرؤيا (رؤيا ١: ٩) والمظنون أنه رجع عند ما أُطلق من بطمس إلى مدينة أفسس ومات هنالك شيخاً طاعناً في السن في نهاية القرن الأول للميلاد أو في نحو السنة الثامنة والستين بعد الصلب.

    الفصل الثاني: في مصدر علم يوحنا بما كتبه في بشارته


    صرّح يوحنا أنه كتب أنباء ما رآه وسمعه (يوحنا ١: ١٤ و١٣: ٢ و١٨: ١٥ و١٩: ٢٦ و٣٥ و٢٠: ٢ و٢١: ٢٤) وهذا لا ينافي أنه كتب بإلهام الروح القدس.

    الفصل الثالث: في زمن كتابته إنجيله ومكانها


    الأرجح أن يوحنا كتب بشارته في مدينة أفسس في المدة الأخيرة من حياته أي بين سنة ٨٠ و٩٠ ب. م. أو ليس بأقل من عشرين سنة بعد كتابة سائر البشائر ولعله كتب بعدهم بثلاثين سنة.
    والدليل على أنه كتب بشارته بعد خراب أورشليم أنه لم يذكر شيئاً من أنباء المسيح بذلك الخراب كما ذكر غيره من البشيرين.

    الفصل الرابع: في غاية يوحنا من بشارته


    لم يكتب يوحنا هذه البشارة لمخصوصين من اليهود أو الرومانيين أو اليونانيين بل للمؤمنين بالمسيح من كل أمة لكي يثبتهم بيسوع ابن الله نور العالم وحياته كما يظهر من قوله «وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا ٢٠: ٣١) ويقرب من هذا ما في ص ١٩: ٣٥. ولم يذكر في هذه البشارة الضلالات التي كانت قد دخلت في الكنيسة يومئذ لكنه وجه كلامه إلى إبطالها.

    الفصل الخامس في خواص هذه البشارة


    تمتاز بشارة يوحنا بسبعة أشياء:

    • الأول: بساطة العبارة وسمو المعنى وروحانيته.
    • الثاني: أن سائر البشيرين ذكروا حوادث حياة المسيح وأعماله إثباتاً لتعاليمه وأما هو فذكر لاهوت المسيح وصفاته وتعاليمه عينها وكثيراً ما ذكر خُطب المسيح ومحاوراته والغالب أنه ذكر من أعمال يسوع ما لم يذكره سواه من كاتبي البشائر.
    • الثالث: أن سائر الإنجيليين كتبوا معظم أناجيلهم في خدمة المسيح في الجليل أما هو فمعظم بشارته في خدمة يسوع في اليهودية.
    • الرابع: أنه ذكر حوادث مهمة لم يذكرها سواه منها شهادة يوحنا المعمدان للمسيح (يوحنا ١: ١٤ - ٤٠). والمعجزة الأولى (ص ٢: ٢ - ١١). والفصح الأول وما جرى فيه (ص ٢: ١٣ - ٢٢). وزيارة نيقوديموس ليسوع ص ٣: ١-٢١. ومحادثته المرأة السامرية (ص ٤: ٤ - ٥٤). وقيامة لعازر (ص ١١). وبعض خطب يسوع العامة (ص ٥ إلى ص ١٠) وخطابه الأخير لرسله (ص ١٣ إلى ص ١٦) وصلاته قبل صلبه (ص ١٧) وثلاثة أقوال من أقوال المسيح وهو على الصليب الأول قوله لأمه «يا امرأة هذا ابنك الخ» والثاني قوله «أنا عطشان» والثالث قوله «قد أكمل».
    • الخامس: أنه ترك ذكر حوادث ميلاد يسوع ومعموديته وتجربته والوعظ على الجبل والتجلي وكل الأمثال التي ذكرها سائر الإنجيليين ومعجزاته سوى سبع منها ورسم العشاء الرباني وآلامه في جثسيماني. وصعوده إلا على سبيل التلميح.
    • السادس: أنه لو لم يذكر يوحنا عدد أعياد الفصح التي حدثت في مدة خدمة المسيح لم نستطع معرفة مدتها وهي نحو ثلاث سنين ونصف سنة.
    • السابع: إن سائر الإنجيليين اكتفوا بذكر أعمال المسيح وخطبه أما هو فزاد على ذلك شروحاً وتفاصيل من نفسه.



    الأصحاح الأول


    مقدمة البشارة ع ١ إلى ١٨


    ١ «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ».
    أمثال ٨: ٢٢ الخ وكولوسي ١: ١٧ و١يوحنا ١: ١ ورؤيا ١: ٢ و١٩: ١٣، أمثال ٨: ٣٠ وص ١٧: ٥ و١يوحنا ١: ٢، فيلبي ٢: ٦ و١يوحنا ٥: ٧
    فِي ٱلْبَدْءِ لم يستفتح بشارته كما استفتح متّى بشارته ببيان أن يسوع من سلالة إبراهيم وداود متتبعاً سلسلة النسب إلى اثنتين وأربعين حلقة ليثبت من ذلك أن يسوع هو المسيح ابن آدم من جهة ناسوته كما فعل لوقا بياناً لمشاركته الجنس البشري. ولا بشروع سابقه في الخدمة كما فعل مرقس بل ابتدأ بذكر الأزلية التي لله والتي ليسوع باعتبار كونه ابن الله. والروح القدس ألهم كل بشير بما كتبه ونحن في حاجة إلى تعليم الجميع.
    والبدء المذكور هنا هو بدء العالم واقتتاح الكلام هنا مثل افتتاح كلام موسى في أول كتبه (تكوين ١: ١). وشهادة يوحنا هنا مبنية على ما سمعه من المسيح وتعلمه من الروح القدس ع ١٤.
    كَانَ ٱلْكَلِمَةُ يُظهر قوله في الآية الرابعة عشرة أنه أراد بالكلمة المسيح. وكأن يوحنا وقف في بدء الخليقة يشاهد الأزلية فرأى المسيح فيها قبل إنشاء الخلق فإذن هو غير مخلوق ولا بداءة له واجب الوجود أزلي. وبمثل هذا أُشير إلى أزلية الله وهو قول صاحب المزامير «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ ٱلْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ ٱلأَزَلِ إِلَى ٱلأَبَدِ أَنْتَ ٱللّٰهُ» (مزمور ٩٠: ٢). ولم يقل ذلك على يسوع المسيح بعد تجسده بل على الكلمة قبل ذلك ع ١٤. ويوافق هذا ما قيل في (يوحنا ٨: ٥٨ و١٧: ٥ و٢٤ وفيلبي ٢: ٥ و٦ و١يوحنا ١: ١ ورؤيا ٣: ٤).
    ولفظة «الكلمة» لا يراد بها صفة كالحكمة أو قوة كالنطق أو كتاب الله لأنه لا يصح أن يقال أن الكتاب المقدس صار جسداً ع ١٤ بل المراد بها أقنوم. واعتاد اليهود تسمية المسيح المنتظر «بالكلمة» ولا سيما المتشتتون بين الأمم الذين عرفوا الفلسفة اليونانية. والذين كتب يوحنا إنجيله إليهم يفهمون بالكلمة الأقنوم الثاني من الثالوث. ولم ترد تسميته بالكلمة في غير هذا الموضع في العهد الجديد إلا في (عبرانيين ٤: ١٢ و١٣ ورؤيا ١٩: ١٣).
    ويحق للمسيح أن يُسمى كلمة لأن الله كلمنا به (عبرانيين ١: ١) ولأنه أعلن لنا أفكار الله ومشيئته (ع ١٨) كما أن كلمة الإنسان تعلن أفكار الإنسان وإرادته. فالمسيح أعلن الله لنا بتعليمه وبسيرته وبأعماله.
    وتسمية ابن الله بكلمة الله تنفي كل نسبة جسدية بينهما كنسبة الابن للأب البشريين.
    وكون المسيح كلمة الله يوجب كونه إلهاً لأنه لا يعرف أفكار الله ليعلنها إلا الله كما قيل «مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً» (رومية ١١: ٣٤) و «مَنْ مِنَ ٱلنَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ ٱلإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي فِيهِ؟ هٰكَذَا أَيْضاً أُمُورُ ٱللّٰهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ ٱللّٰهِ» ( ١كورنثوس ٢: ١١). «وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلاَبْنُ الخ» (متّى ١١: ٢٧ ولوقا ١٠: ٢٢).
    وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ أي الآب كما في ع ١٨ حيث يقول «ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ» وهذا قول ثان من جهة ابن الله وخلاصته أمران. الأول أن الابن كان أقنوماً مميزاً عن أقنوم الآب. والثاني أنه مع ذلك بينهما اتحاد كامل واتفاق تام في كل رأي وقضاء وعمل. فما كان لأحدهما من المجد والعظمة والكرامة كان للآخر وهذا وفق قول المسيح «وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (ص ١٧: ٥) وقوله «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (ص ١٠: ٣٠) وقوله في (ص ١٤: ٩ - ١١ و١يوحنا ١: ٢ و٢: ١).
    وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ وهذا قول ثالث في شأن المسيح ومعناه أنه ليس ملاكاً أو مخلوقاً آخر دون الآب لكنه مساوٍ للآب في الجوهر أي أن له صفات الآب نفسها وقوته واستحقاقه الإكرام والطاعة والعبادة التي يستحقها الآب. ولفظة «الله» هنا تختلف عنها في الجملة التي قبلها ومعناها هنا جوهر اللاهوت. وهذه الآية مما يثبت صحة تعليم التثليث لتمييزها أقنومين وتبيينها أنهما متساويان. وفي هذه العبارات الثلاث بيان ثلاثة أمور. الأول أزلية الكلمة. والثاني أقنوميته واتحاده بالآب. والثالث لاهوته أي كونه والآب واحداً في الجوهر. وفيها جواب لثلاث مسائل:

    • الأولى: متى كان الكلمة. جوابه أنه كان منذ الأزل لأنه عند بدء الكون كان.
    • الثانية: أين كان. جوابها عند الآب.
    • الثالثة: من هو الكلمة. جوابها الله.


    وهي تنفي ثلاث ضلالات:

    • الأولى: ضلالة آريوس وهي قوله أن المسيح مخلوق دون الخالق.
    • الثانية: ضلالة سوسينيوس وهي قوله أن المسيح ليس سوى رجل كامل في صفاته.
    • الثالثة: ضلالة سابا ليوس الذي نفى التثليث وقال بأن اللاهوت أقنوم واحد ظهر مرة آباً وتارة ابناً وطوراً روح قدس.


    ٢ «هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّٰهِ».
    تكوين ١: ١
    هذا تكرير العبارة الثانية من الآية الأولى مع زيادة أبانت أزلية النسبة بين الآب والابن لئلا يظن أحد أن الاتحاد بين الأقنومين حادث بدليل كون تلك النسبة وُجدت قبل بدء الكون. وهذا وفق مخاطبة الآب للابن قائلاً «نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تكوين ١: ٢٦). وما في سفر الأمثال إذ عبّر عن المسيح بالحكمة وهو قوله «اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. مُنْذُ ٱلأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ ٱلْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ ٱلأَرْضِ الخ» (أمثال ٨: ٢٢-٣١). لم يستطع أن يكون الابن كلمة الله ليعلن للناس أفكار الله إلا بأن كان في البدء عند الله يعرف افكاره منذ الأزل.
    فينتج مما ذُكر أننا لا نقدر أن نعبد المسيح كما يحق له إلا بأن نعتقد أقنوميته ولاهوته حسب ما قيل «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلاَبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ» (ص ٥: ٢٣). ولنا منه أيضاً أعظم التأكيد لأمر خلاصنا لأن الذي أخذ على نفسه أمر الفداء ليس سوى الله القدير.
    ٣ «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ».
    مزمور ٣٣: ٦ وع ١٠ وأفسس ٣: ٩ وكولوسي ١: ١٦ وعبرانيين ١: ٢ ورؤيا ٤: ١١
    كُلُّ شَيْءٍ أي العالم كله بمادته وأرواحه وحيواناته وكل ما فيه.
    بِهِ كَانَ أي بالكلمة وهذا القول يبين لاهوت الابن لأن الخلق مما يختص بالله وحده بدليل أنه «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ» (تكوين ١: ١). والمسيح خلق كالآب فتبين من أعماله أنه الله. ويوافق ما قيل هنا ما جاء في (كولوسي ١: ١٦ و١٧ وعبرانيين ١: ٢ و١٠ و٢: ١٠ ورؤيا ٤: ١١). فكما أظهر الابن أنه كلمة الله بتعليمه أظهر أنه كذلك بالخلق لأنه أعلن بذلك كونه إله القدرة والحكمة والجودة.
    وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ الخ معنى هذه العبارة عين معنى العبارة الأولى إلا أن ما جاء في الأولى في صورة الإيجاب جاء في الثانية في صورة السلب. وكُرر للتوكيد ولدفع كل ريب في أنه لا استثناء في كل خلق الله في السماء والأرض وتحت الأرض لشيء من أنه عمل المسيح. ولم يعمل المسيح كآلة بيد الله بل كان عاملاً معه كما يبين من ( ١كورنثوس ٨: ٦) وما قيل هنا ينفي قول أفلاطون بأزلية المادة وقول الغنوسيين بأن خالق المادة روح شرير دون الله.
    ٤ «فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ».
    ص ٥: ٢٦ و٦: ٢٣ و١يوحنا ٥: ١١، ص ٨: ١٢ و٩: ٥ و١٢: ٣٥ و٤٦
    فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ لأنه الله (ع ١) وهذا دليل آخر على لاهوت المسيح. والإحياء عمل أعظم من خلق المادة وهو مما يختص بالله وحده (تكوين ٢: ٧) فالمسيح حياة في ذاته وهو مصدر حياة سائر الأحياء المحدثة عقلية وغير عقلية جسدية وروحية زمنية وأبدية (ص ٥: ٢٦ و٦: ٣٣ و١٤: ٦ و١١: ٢٥ و١يوحنا ٥: ١١ و٢٠). ومفاد هذه العبارة أنه قبل أن ظهرت حياة الخليقة كانت للمسيح حياة في ذاته وابتدأ في ذلك الوقت يهبها لبعض ما خلق. فهو لم يزل يفعل ذلك منذ بدء الخليقة إلى أن جاء هذه الأرض.
    وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ أي الجزء الناطق من المخلوقات. وأُستعير هنا النور للعلم. فقد نُسب إلى المسيح ثلاثة أعمال وهي الخلق والإحياء والإنارة. فالكلمة الأزلي الخالق الحي الواهب الحياة هو أيضاً نور العالم بالذات أي هو معلم البشر يرشدنا إلى طريق الحق والسلام ويحمينا من مسالك الضلال والإثم. ويتبين من كونه نوراً لاهوته لأن «الله نور» (١يوحنا ١: ٥). وأثبت المسيح كذلك بقوله «أنا هو نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢) (انظر أيضاً يوحنا ١٢: ٣٥ و٣٦ و٤٦) وكان المسيح نور الناس قبل تجسده (غلاطية ٣: ٩) وكان كذلك بواسطة خدمته الذاتية (عبرانيين ١: ٢ و٣) ولا يزال نور العالم بروحه (يوحنا ١٤: ١٦ و٢٦) وبواسطة مبشريه ( ١كورنثوس ١٢: ٢٨ وأفسس ٤: ١١) والمسيح على نوع خاص نور الناس الذين ينظرون إليه معلماً سماوياً يطلبون النور منه. فمنذ سقوط آدم لم يكن في العالم حياة روحية أو نور سماوي إلا منه وكل جماعات المخلّصين في السماء اهتدوا إلى السماء بنوره.
    ٥ «وَٱلنُّورُ يُضِيءُ فِي ٱلظُّلْمَةِ، وَٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ».
    ص ٣: ١٩
    وَٱلنُّورُ يُضِيءُ فِي ٱلظُّلْمَةِ ليست الظلمة هنا نتيجة عدم النور المادي كما كانت الحال في بدء العالم (تكوين ١: ٢) ولكنها ظلمة أدبية أي ظلمة الجهل والخطيئة التي سقط العالم بأسره إليها بسقوط الإنسان الأول ولم تزل فيه إذ لم يشرق عليه المسيح نور العالم. على أن المسيح أرسل أشعته إلى العالم قبل تجسده بأعمال الخليقة وعنايته الإلهية (رومية ١: ٢٠ و٢١) وبتأثيره في ضمائر الناس وبوحيه في الأحلام والرؤى وبالنبوات والمبشرين كأخنوخ ونوح وبالشعائر والرموز وبالبركات على الذين أطاعوا الحق وبعقاب الذين عصوه. ولم يكن من وقت في تاريخ العالم لم يشرق المسيح فيه بنور سماوي ليرشد النفوس التي طلبت النور ورغبت فيه. ولكن النور الذي أشرق به قبل تجسده كان بالنسبة إلى ما بعده كالفجر بالنسبة إلى النهار الكامل.
    وَٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ أُشير بالظملة هنا إلى الناس الجهلاء والأشرار والمعنى أن أكثر الناس على الدوام يرفضون النور الذي في المسيح ولا يفهمون تعاليمه ولا يقبلون أن يدخل نوره قلوبهم. فلذلك جهل أهل عصره حقيقة الله وملكوته وطريق عبادته لأنهم اختاروا أن يبقوا في جهلهم وإثمهم لم يحبوا النور وكانوا جسدانيين فأغمضوا عيونهم عمداً واختياراً. وهذا وفق ما قيل في (متّى ١٣: ١٥ وص ٣: ١٩).
    ٦ «كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ ٱللّٰهِ ٱسْمُهُ يُوحَنَّا».
    ملاخي ٣: ١ ومتّى ٣: ١ ولوقا ٣: ٢ وع ٢٣
    بعد أن أبان البشير حقيقة الكلمة ذكر كيف أن الكلمة أتى إلى العالم. فكان الاستعداد لذلك مجيء يوحنا المعمدان وعلة ذكره هنا كونه سابق المسيح وكون تعليمه شهادة بصحة دعوى المسيح.
    كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ ٱللّٰهِ الفرق عظيم بين الكلام على يوحنا وما سبق من الكلام على المسيح فالواحد «إنسان» والآخر «الكلمة» والأول «مرسل من الله» والثاني «الله». وظن كثيرون من اليهود أن يوحنا المعمدان هو المسيح (لوقا ٣: ١٥ وص ١: ١٩) فصرح كاتب هذه البشارة أن يوحنا ليس هو المسيح إنما هو الرسول الموعود به (ملاخي ٣: ١) أرسله الله ليهيء الطريق أمام المسيح.
    ٱسْمُهُ يُوحَنَّا هو يوحنا المعمدان واسمه مختصر يهوه حنان أي الرب رحيم وسُمي بذلك بأمر من الله (لوقا ١: ١٣) وهو لاوي ابن زكريا وأليصابات (متّى ص ٣ ولوقا ص ١) وكان نبياً وسابقاً للمسيح ومنادياً بالتوبة وشاهداً لابن الله.
    ٧ «هٰذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ ٱلْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ».
    أعمال ١٩: ٤
    هٰذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ هذه وظيفته الخاصة وهي أن يشهد بأن يسوع هو المسيح (ص ١: ٣١) فنادى بين الناس بوجوب التوبة قبل مجيء المسيح ليعد قلوبهم لقبوله عند مجيئه ثم عينه لهم بعد ما أتى.
    لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ أي للمسيح الذي هو نور (ص ١٢: ٣٦ وإشعياء ٦٠: ١) فأخذ يوحنا علامة من الله لكي يعرف المسيح ع ٣٣.
    لِكَيْ يُؤْمِنَ ٱلْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ أي لكي يصدقوا بواسطة شهادته أن يسوع هو المسيح. وكانت شهادته كافية لإقناعهم لو أرادوا. وقصد الله أن يفتح به أبواب الإيمان للجميع. ولو أتى المسيح بالمجد الذي كان له في السماء قبل إنشاء العالم لم يحتاج إلى شاهد وإنما احتاج إلى ذلك لاستتار مجده بثوب الاتضاع.
    ٨ «لَمْ يَكُنْ هُوَ ٱلنُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ».
    لَمْ يَكُنْ هُوَ ٱلنُّورَ أي نور العالم الذي له النور ذاته ويهبه لغيره. نعم إنّه كان «هُوَ ٱلسِّرَاجَ ٱلْمُوقَدَ ٱلْمُنِيرَ» (ص ٥: ٣٥) ونوره مقتبس من المسيح شمس البر. وظن بعض الناس أن يوحنا هو شمس البر لأنه ظهر نبياً عظيماً بعد ختام النبوات بنحو أربع مئة سنة وسمع الناس أنباء حوادث ولادته الغريبة ثم تأثروا من جراءته وقوة مواعظه (لوقا ٣: ١٥) فدفع البشير ذلك الظن بقوله «لم يكن هو النور».
    فمن وقت يوحنا المعمدان كل فلاسفة العالم وأشهر معلميه ولاهوتييه وواعظيه ليسوا أنواراً بالذوات لكنهم شهود للنور الذي مصدره المسيح.
    ٩ «كَانَ ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى ٱلْعَالَمِ».
    إشعياء ٤٩: ٦ وع ٤ و١يوحنا ٢: ٨
    كَانَ ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ أي الذي استحق أن يسمّى بالنور. وهو استحق أن يسمّى كذلك لأربعة أسباب:

    • الأول: تمييزاً له عن النور المادي الذي ما هو إلا إشارة إلى النور الروحاني.
    • الثاني: تمييزاً له عن كل الأنوار الكاذبة كأديان الأمم الوثنية والأنوار الجزئية كتعاليم الفلاسفة والأنوار الرمزية التي في الشعائر والطقوس المشيرة إلى النور الحقيقي.
    • الثالث: تمييزاً له عن النور المستعار كتعاليم يوحنا وسائر المسيحيين (متّى ٥: ١٤) لأن المسيح هو النور الأصيل الأزلي غير المتغير العام لكل العالم.
    • الرابع: الإشارة إلى عظمته تمييزاً له عن كل نور عادي. وكما سمى المسيح بالنور الحقيقي سُمي أيضاً بالخبز الحقيقي وبالكرمة الحقيقة والقدس الحقيقي (عبرانيين ٩: ٢٤).


    ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى ٱلْعَالَمِ لم يتضح من الأصل اليوناني أقوله «آتياً» الخ متعلق بكل إنسان أم بالنور أي المسيح والأرجح الثاني. إنه كثيراً ما أشير إلى المسيح «بالآتي» «وبالذي يأتي». فإذا نسبناه إلى كل إنسان لا يزيد المعنى شيئاً إذ ليس من إنسان لا يأتي إلى العالم. فمعنى هذه الجملة ستة أمور.

    • الأول: غاية مجيء المسيح إلى العالم هي أن يكون نور العالم.
    • الثاني: كفاية الإنارة لأنه يهب النور الكافي للخلاص لكل من يقبل نوره ويسير بموجبه.
    • الثالث: افتقار كل الناس إلى المسيح فمهما وُجد في العالم من النور في أديانه وفلسفته وشرائعه وقلوب الناس وضمائرهم فمنه.
    • الرابع: عموم ذلك النور لأنه لكل بني آدم يهوداً وأمماً في كل عصر وموضع.
    • الخامس: كون المسيح نور العالم الوحيد قبل التجسد وبعده.
    • السادس: كون كل المخلصين في المجد اهتدوا إلى السماء بنور المسيح.


    ١٠ «كَانَ فِي ٱلْعَالَمِ، وَكُوِّنَ ٱلْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ ٱلْعَالَم».
    ع ٣ وكولوسي ١: ١٧ وعبرانيين ١: ٢ و١١: ٣
    كَانَ فِي ٱلْعَالَمِ الكلام هنا على قبل تجسده والكلام عليه في الآية الآتية بعد ذلك التجسد. كان في العالم منذ البدء لا تنظره العيون البشرية إنما كان حاضراً بالروح بخلق العالم كما في العبارة التي تلي هذه وينير العالم كما في العبارة السابقة. فهو الذي وعظ في أيام نوح (١بطرس ٣: ١٩). وهو الملاك الذي سار مع بني إسرائيل في البرية (أعمال ٧: ٣٨).
    كُوِّنَ ٱلْعَالَمُ بِهِ ذُكر هذا قبلاً وكُرر هنا بياناً لأنه كان يجب على العالم أن يعرفه حين أتى علانية. فهو لم يدخل العالم كغريب عنه لأنه كان فيه قبلاً يخلق ويعتني. وكما تُعرف نباهة المخترع بمخترعاته كان يجب على العالم أن يعرف صفات المسيح من أعماله.
    وَلَمْ يَعْرِفْهُ ٱلْعَالَمُ هذا مع كل وسائل معرفته المذكورة. ومعنى «العالم» هنا البشر عامة فأكثرهم لم يعترفوا بالله ولم يؤمنوا به ولم يطيعوه وعبدوا الأوثان دونه وسموها آلهة حتى أنه لم يوجد بين ألوف من المذابح التي كانت للوثنيين ما ينسب منها إلى الإله الحق سوى واحد وهو الذي كُتب عليه «لإله مجهول» (أعمال ١٧: ٢٣).
    ولا يُخفى على القارئ أن للعالم هنا ثلاثة معانٍ:

    • الأول: مكان معين هو هذه الأرض.
    • الثاني: الكون كله.
    • الثالث: الناس.


    ١١ «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ».
    لوقا ١٩: ١٤ وأعمال ٣: ٢٦ و١٣: ٤٦
    إِلَى خَاصَّتِهِ أي الأمة اليهودية دون عالم الوثنيين المذكورين في العدد السابق. وسُميت اليهود خاصته لأن الله اختارها لنفسه (تثنية ٧: ٦ وإشعياء ٣١: ٩) والمسيح هو الله فاختار أولاد إبراهيم (تثنية ١٩: ٥) وفداهم من أرض مصر وأعطاهم أرض كنعان والشريعة والعهود والأنبياء (مزمور ٧٦: ٢ و٧٨: ٧١ و١٣٥: ٤ ورومية ٩: ٤) وسكن بينهم. وكانوا خاصته أيضاً لأن المسيح يهوه العهد القديم اعتنى بهم وحفظهم في كل طرقهم وقصد بذلك إعدادهم لقبوله حين يأتي.
    جَاءَ أي ظهر علانية وهذا تمييز عما في قوله «كان في العالم» في الآية السابقة فجاء وفقاً لقول النبي «يَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ ٱلسَّيِّدُ ٱلَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاَكُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ» (ملاخي ٢: ١).
    وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ جاء في ما سبق أن «ٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ» (ع ٥) وأن «العالم لم يعرفه» (ع ١٠) وزاد على ذلك هنا أن «خاصته لم تقبله» مع أن الله أعدها لقبوله برموز ونبوءات وجعلها تتوقع مجيئه فكان عليها أن تعرفه وتقبله عند مجيئه ولكن لما ظهر بينها رفضته بل صلبته (متّى ٢٣: ٣٧ ولوقا ١١: ٤٩ و٥٠ وأعمال ٧: ٥١ - ٥٣). وعلة رفضها إياه إعماء الخطية لعيونها وعدم رضاها مخلصاً وملكاً روحياً.
    ١٢ «وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ».
    إشعياء ٥٦: ٥ وص ٣: ٣ إلى ٧ وأعمال ١٠: ٤٤ ورومية ٨: ١٥ وغلاطية ٣: ٢٦ و٢بطرس ١: ٤ و١يوحنا ٣: ١
    وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ رفضه الشعب وقبله أفراد قليلون منه. ومعنى قبولهم إياه اعترافهم بأنه الكلمة والنور والحياة وإيمانهم به لخلاصهم.
    وكان الذين قبلوه من كل شعب وأمة رحبوا به في قلوبهم واقتنعوا أنه المسيح بعقولهم.
    فَأَعْطَاهُمْ أي كل المؤمنين به بلا استثناء من فريسيين وصدوقيين وعشارين علماء وجهلاء يهوداً وأمماً.
    سُلْطَاناً أي نعمة خاصة أو حقاً. فلم يهب لهم قوة على تغيير قلوبهم أو تصييرهم أنفسهم أولاد الله بل فعل كل ما هو لازم لكي يكونوا كذلك وذلك بواسطة ثلاثة أمور:

    • الأول: صيرورته إنساناً لكي يجعلنا أولاد الله فكان لنا بذلك أن ندعوه أخاً وندعو الله أباً.
    • الثاني: إزالته كل الموانع من أن نكون أولاد الله إذ رفع عنّا جرم الخطية وغضب الله.
    • الثالث: إعطاؤه إيانا الروح القدس لنكون أولاد الله بالميلاد الجديد (أعمال ١٠: ٤٤) فالبنوة هبة مجانية بدليل قوله «أعطاهم» ولم يكن ذلك إلا به.


    أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ فصيرورتهم من أهل بيت الله شرف وبركة لهم. وهم بالطبيعة أبناء هذا الدهر (لوقا ١٦: ٨) وأبناء المعصية (أفسس ٢: ٢) وأبناء الغضب (أفسس ٢: ٣) وتتضمن صيرورتنا أبناء الله خمسة أشياء:

    • الأول: ولادتهم الجديدة.
    • الثاني: محبة الله لهم كمحبة الأب لبنيه.
    • الثالث: اعتناء الله بهم وحمايته إياهم ومنحه لهم كل ما يحتاجون إليه.
    • الرابع: مشابهتهم له (غلاطية ٤: ١ و٧ وأفسس ٤: ١٣ وعبرانيين ١٢: ١٠).
    • الخامس: إرثهم ميراثاً سماوياً (رومية ٨: ١٦).


    وبقي غير ما ذكر من متعلقات تلك النسبة ما لا يستطيع إدراكه المؤمنون إلا بعد دخولهم السماء وهذا وفق قول الرسول «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢).
    أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ هذا تفسير قوله السابق «الذين قبلوه» فلا يستطيع الإنسان أن يكون ابناً لله ما لم يؤمن به. وقبول المسيح هنا يقتضي الإيمان لأن مجده مستتر ولاهوته محجوب بحجاب جسده. والإيمان به يستلزم تصديق دعواه والاتكال عليه للخلاص والثقة به.
    بِٱسْمِهِ أي به كما هو معلن لنا. لأننا نعرفه بالاسم الذي يُدعى به والمراد بالاسم هنا مجموع الصفات التي أُعلن بها ومن ذلك «عمانوئيل» و «يسوع» و «الكلمة» و» «الرب برنا» فيكون الإيمان باسمه اتخاذنا إياه «الله معنا» ومخلصاً ومعلن مشيئة الله والاتكال عليه لتبريرنا وطاعتنا له رباً لنا.
    ١٣ «اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ».
    أعمال ١٧: ٢٦، أفسس ٢: ٣ و٨ و٩ ص ٣: ٥ ويعقوب ١: ١٨ و١بطرس ١: ٢٣، ١يوحنا ٣: ٩
    غاية هذا العدد بيان كيفية صيرورة الناس أولاد الله وهي دفع كل وهم أن ذلك بالتسلسل الطبيعي كما زعم اليهود لأنهم ذرية إبراهيم. وذكر الإنجيلي هنا ثلاث عبارات تشير إلى ذلك التسلسل وهي «دم» و «مشيئة جسد» و «مشيئة رجل» ونفى كون أولاد الله بشيء منها. وصرّح أن الناس صاروا أولاد الله بالولادة الروحية.
    دَمٍ يعسر أن نميز الفرق بين معنى الدم هنا ومشيئة الجسد ومشيئة الرجل ولعلّ في ذلك وصف الولادة الطبيعة من أدنى درجات نشوئها إلى أعلاها. والمعلوم أن الدم هو مركز الحياة كقوله تعالى «نَفْسَ ٱلْجَسَدِ هِيَ فِي ٱلدَّمِ» (لاويين ١٧: ١١).
    والمعنى أن نعمة النبوءة ليست بالتسلسل من أب إلى ولد إبراهيم كان أم غيره لكن من الله تعالى إلى نفس الإنسان.
    مَشِيئَةِ جَسَدٍ لعل معنى ذلك أن الإنسان عاجز عن أن يُصير نفسه ابناً لله وكل اتكاله على مقاصده في ذلك وأعماله عبثٌ.
    مَشِيئَةِ رَجُلٍ لعل معنى هذا اتكال الإنسان على غيره من الناس لينال بنوة الله باطل. ولو كان المتكل عليهم أقدس البشر فلا تكفي ذلك صلواتهم ولا تعاليمهم ولا تعميدهم ولا رسمهم. وما صدق على الأفراد هنا يصدق على الجميع وهو أن البنوءة لله ولا تتوقف على اتفاقهم إنما تتوقف على نعمة الله. وما قيل في هذا التمييز صحيح في ذاته لكنه لم يتحقق أنه مقصود الإنجيلي والأرجح أن المعنى ما سبق ذكره في الكلام العام في أول هذه الآية.
    بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ أي أن الولادة المقصودة هنا هي هبة من الله. وهذا مثل قول الرسول «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (١بطرس ١: ٢٣). وعلة هذه الهبة أي الولادة الجديدة هي النعمة الإلهية بقوة الله وهي تتضمن الدعوة والتجديد والتقديس. والوسيلة التي يتخذها روح الله في الولادة الجديدة هي الحق.
    ١٤ «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً».
    متّى ١: ١٦ و٢٠ ولوقا ١: ٣١ و٣٥ و٢: ٧ ورومية ١: ٣ وغلاطية ٤: ٤ و١تيموثاوس ٣: ١٦ وعبرانيين ٢: ١١ و١٤ و١٦ و١٧ و١يوحنا ٤: ٢ إشعياء ٤٠: ٥ ومتّى ١٧: ٢ وص ٢: ١١ و١١: ٤٠ و٢بطرس ١: ١٦ و١٧ و١٨ و١يوحنا ١: ١، كولوسي ١: ١٩ و٢: ٣ و٩ و١٠
    وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً العلاقة بين هذا الكلام وما قبله بيان أن الإنسان صار ابن الله لأن ابن الله الوحيد صار الإنسان.
    الكلمة التي في الآية الأولى كان في البدء وكان عند الله وكان الله قد صار جسداً ولم يكن كذلك قبلاً وذلك ليعلن الله أوضح إعلان. فالذي كان في العالم بالروح خالقاً (ع ٣) وحياة ونوراً (ع ٤ و٥) يفعل في قلوب الناس وضمائرهم أخذ طريقاً جديدة لإعلان الله بإضافة الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية وفي ذلك سر التجسد.
    ومعنى «جسد» هنا إنسان كامل كما في يوحنا ١٧: ٢. وذلك يتضمن أن جسد المسيح كان جسداً حقيقياً لا صورة كما قال الدوسيتيون ولا هيئة إنسان أُخذت وقتياً كما في إعلانات العهد القديم. ويتضمن أيضاً أنه كان للمسيح نفس بشرية كما يظهر من (ص ١٢: ٢٧ و١٣: ٢١) وأن الروح الإلهي لم يحل محل الروح الإنساني كما قال أوبوليناريوس.
    وأتى المسيح ذلك لكي يكون شبه «إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين ٢: ١٧ قابل بذلك ١يوحنا ٤: ٢ و٣ و٢يوحنا ٧). وأمكنه بذلك أن يتألم ويجرب ويتعلم وينمو ويصلي ويموت كسائر الناس. وسر المسيح أن يسمي نفسه «ابن الإنسان» ع ٥٢.
    والطريقة التي فيها صار الكلمة جسداً هي أنه وُلد من مريم العذراء إذ حبلت به بطريق غير عادية بقوة الروح القدس. ولم يختلف عن البشر شيئاً سوى أنه كان بلا «خطية» (٢كورنثوس ٥: ٢١) فإذاً كان المسيح إلهاً تاماً وإنساناً تاماً ذا طبيعتين ممتازتين في أقنوم واحد. واتخاذه الناسوت لم ينزع منه اللاهوت بل علامات اللاهوت الظاهرة إلا عند ما أظهره بعض الظهور بعمل المعجزات ليثبت دعواه. واتحاد الطبيعتين جعل لآلامه من أجل البشر قيمة لا تحد. وقدره أن يشارك الإنسان في كل انفعالاته. فالمسيح باعتبار أنه إله وإنسان عاش على الأرض وتألم ومات وقام وصعد إلى السماء وهو جالس الآن عن يمين الله يشفع فينا.
    وَحَلَّ بَيْنَنَا بعد التجسد من هو قبل التجسد «كان عند الله» ع ١. فكما سكن روحياً خيمة الاجتماع في وسط بني إسرائيل في البرية نحو أربعين سنة (أعمال ٧: ٣٨) سكن الأرض إنساناً نحو ثلاث وثلاثين سنة. وسكن خصوصاً بين تلاميذه بعض ذلك الوقت حسب قول الرسول «اَلَّذِي كَانَ مِنَ ٱلْبَدْءِ، ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ، ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ» (١يوحنا ١: ١). وفي ذلك الحلول تنازل عجيب من المسيح ومجد عظيم لأرضنا وفرح وبركة للذين شاهدوه.
    وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ أي نحن تلاميذه كما في (١يوحنا ١: ٣ و٢بطرس ١: ١٦). أظهر الله مجده في أزمنة العهد القديم بسحابة نور في خيمة الاجتماع وفي الهيكل وبالرؤى (إشعياء ٦: ١) فأظهر المسيح مجده بمعجزاته (ص ٢: ١١ و١١: ٤). وبتجليه والذين رأوا ذلك من تلاميذه هم يوحنا وبطرس ويعقوب. وبصعوده أمام كل الرسل. وبقداسة سيرته وجودة تعليمه وإحسانه واحتماله الآلام من أجل البشر وفي هذا كله بيان صفاته المجيدة كأشعة من شمس لاهوته. فذكر يوحنا أنهم رأوا مجده برهاناً على أنه ليس مجرد ابن الإنسان بل إنّه ابن الله أيضاً. والمجد الذي رآه التلاميذ أقل مما كان له قبل تجسده (ص ١٧: ٥) لكنه كاف لإثبات كونه ابن الله.
    كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ أي كما يليق بوحيد الخ. ويسمى المسيح «وحيد الآب» تمييزاً عن أولاد الله الذين ذُكروا في ع ١٢ و١٣ وهم كثيرون نالوا ولادتهم من الله هبة بواسطة إيمانهم بالمسيح وإنما هو واحد أزلي واجب الوجود وابن الله بمعنى لا يصدق على غيره. وسمي الأقنوم الثالث ابن الله ليس لأنه وُلد من الله تعالى كولد من والدين بشريين لكن ذلك اسمه منذ الأزل وهو يصدق عليه لثلاثة أوجه.

    • الأول: الشبه التام بينه وبين الله.
    • الثاني: المساواة في المجد والإكرام.
    • الثالث: إعلان المحبة بين الأقنوم الأول والأقنوم الثاني من اللاهوت.


    مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً الذي كان قبل التجسد خالقاً ونوراً وحياة ظهر عند تجسده مملوءاً نعمة وحقاً بطبيعته وقوله وعمله وهذا جزء من المجد الذي رآه التلاميذ. والصفتان المذكورتان هنا من صفات الله المميزة له عن كل خليقته (خروج ٣٤: ٦) فالمسيح باعتبار كونه كلمة الله أعلن هاتين الصفتين للناس. وفي هذا القول إشارة إلى البركات الروحية التي أتى المسيح ليهبها للناس فهي مجموعة في أمرين النعمة والحق. فأتى ببشارة النعمة بغية إظهار المحبة الإلهية للخطاة الهالكين لغفران خطاياهم وخلاص نفوسهم. وأتى أيضاً بإعلان حق الله الروحي غير محجوب برموز وإشارات وظلال العهد القديم.
    ويوحنا بعد ما عبّر عن المسيح بالكلمة في هذا العدد لم يعبّر عنه بهذا الاسم في سائر إنجيله.
    ١٥ «يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى: هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي».
    ع ٣٢ وص ٣: ٣٢ و٥: ٣٣، متّى ٣: ١١ ومرقس ١: ٧ ولوقا ٣: ١٦ وع ٢٧ و٣٠ وص ٣: ٣١ ص ٨: ٥٨ وكولوسي ١: ١٧
    هذه الآية والتي بعدها فحوى كل شهادة يوحنا المعمدان للمسيح وفُصلت في بقية الأصحاح.
    يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ أورد البشير هنا شهادة يوحنا إثباتاً لما قاله في العدد السابق وهو أن الكلمة صار جسداً... ورأينا مجده، وهو ممن رأوا ذلك المجد وشاهدوه. قيل في العدد السابق «هذا جاء للشهادة ليشهد للنور» وهنا بيان ما شهد به.
    هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قُلْتُ عَنْهُ قال هذا قبلما شاهده وعرفه (ع ٣٣) وكان يومئذ يكرز في البرية (متّى ٣: ١١ - ١٣).
    ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي أي الذي أنا سابقه. وصح ذلك في أمرين الولادة والشروع في الخدمة.
    صَارَ قُدَّامِي الخ لثلاثة أمور:

    • الأول: أنه منذ الأزل.
    • الثاني: أنه كان قبل المعمدان في العالم بروحه زمن العهد القديم (يوحنا ١٢: ٤١ و ١كورنثوس ١٠: ٤)
    • الثالث: كون المسيح أعظم منه كما أن الملك أعظم من سابقه.


    ١٦ «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ».
    ص ٣: ٤٣ وأفسس ١: ٦ و٧ و٨ وكولوسي ١: ١٩
    مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا هذا كلام يوحنا الرسول لا يوحنا المعمدان وهو تابع لقوله في الآية الرابعة عشرة «مملوءاً نعمة وحقاً». وقوله «نحن» يتضمن نفسه وسائر المؤمنين فكما قال في ع ١٤ «رأينا مجده» قال هنا «أخذنا من ملئه» أي من غنى نعمته وحقه الذي لا يُستقصى. أشار بقوله «أخذنا» إلى نوال ذلك هبة مجانية.
    وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ كما أن بني إسرائيل كانوا يجمعون ما يحتاجون إليه لأجسادهم من المن يوماً فيوماً كذلك المؤمنين يأخذون من نعمة المسيح ما يحتاجون إليه لنفوسهم يوماً فيوماً سوى أن المؤمنين يزيد ما يأخذونه من النعمة على توالي الأيام. وهذا موافق لقوله تعالى «مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ» (متّى ١٣: ١٢) وقول الرسول «لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ» (أفسس ٣: ١٩).
    ١٧ «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صَارَا».
    خروج ٢٠: ١ الخ وتثنية ٤: ٤٤ و٥: ١ و٣٣: ٤، رومية ٣: ٢٤ و٥: ٢١ و٦: ١٤ ص ٨: ٣٢ و١٤: ٦
    لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أي الناموس بقسميه الأدبي والطقسي. وفي هذا الناموس الإعلان لله استعداداً لإعلان آخر أسمى وأكمل وأُعطي بواسطة بشرية أي بواسطة موسى فجاء به كخادم (عبرانيين ٣: ٥).
    أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ غاية الناموس بيان ما يجب على الإنسان عمله وغاية النعمة والحق بيان ما أراد الله أن يعمله من أجلنا. وأظهر المسيح نعمة الله بإعلانه طريق الخلاص والمناداة بمغفرة الخطية لكل مؤمن وبموته على الصليب لأجل البشر وبمنحه الحياة الأبدية للمؤمنين به. وأظهر الحق بنفسه وتعليمه باعتبار كونه النبي الحقيقي والكاهن الحقيقي والذبيحة الحقيقية وأنه تم فيه كل رموز العهد القديم.
    والنعمة والحق هما الإنجيل أتى به المسيح كابن (عبرانيين ٣: ٦) وفضل الإنجيل على الناموس يتضح مما قيل في (رومية ٧ وص ٨ و٢كورنثوس ٣: ٧ - ٩ وغلاطية ص ٣ وص ٤ وعبرانيين ص ٧ وص ١٠).
    فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا أول ما ذكره يوحنا الإنجيلي بهذا الاسم ومعناه المخلص الممسوح من الله لإجراء عمل الفداء.
    ١٨ «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاَبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ».
    خروج ٣٣: ٢٠ وتثنية ٤: ١٢ و١٥ وص ٦: ٤٦ و١تيموثاوس ١: ١٧ و٦: ١٦ و١يوحنا ٤: ١٢ و٢٠، متّى ١١: ٢٧ ولوقا ١٠: ٢٢ وع ١٤ وص ٣: ١٦ و١٨ و١يوحنا ٤: ٩
    اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ فإذاً لا أحد من الناس ولا من الملائكة عرف الله حق المعرفة ليستطيع أن يعلن صفاته بلا خطإ لأن رؤية الله ضرورية لكمال معرفته. فليس لهم إلا ان يعلنوا إلا ما أُعلن لهم بوحي أو برؤيا (عبرانيين ١: ١). فموسى لم ير الله (خروج ٣٣: ٢٠) ومعلناته الروحية ومعلنات إبراهيم ويشوع وإشعياء ودانيال لم تكن إلا إعلانات الأقنوم الثاني من اللاهوت. والنتيجة أنه لا يمكن الإنسان أن يعلن ملء النعمة والحق.
    اَلاَبْنُ ٱلْوَحِيدُ هذا هو القادر أن يعلن الله لانه «كلمة الله» وكان عند الله منذ الأزل ويعرف كل أفكار الله ومقاصده ويعرف ذلك من تلقاء نفسه حق المعرفة وهذا يجعله أهلاً للإعلان (ص ٣: ١١ و٦: ٤٦ و١٤: ٧) ويحق له أن يعلن لأنه ليس خادمه كموسى لأن الخادم لا يعرف فكر سيده بل هو ابن وله ولأبيه طبيعة واحدة وبينه وبين الآب محبة تامة وهو ابن الآب الوحيد وهذا دليل على النسبة بينه وبين الآب خاصة ممتازة عن نسبة كل كائن آخر.
    فِي حِضْنِ ٱلآبِ هذا إشارة إلى كون النسبة بين الآب والابن أقرب ما يكون وإلى حصول الابن على كمال المحبة من الآب والاتحاد به والمشاركة في عواطفه ومعرفة أفكاره وإلى سعادته وراحته. ولم يقل هنا الذي كان في حضن الآب بل «الذي هو في حضن الآب» فإذاً مع أن المسيح كان بناسوته على الأرض كان بلاهوته في حضن الآب كما هو منذ الأزل وإلى الأبد.
    هُوَ خَبَّرَ أي هو لا غيره أعلن الله لأن هذا التخبير خاص به كالكلمة. ونتيجة ما قيل في هذا الفصل أن المسيح أعظم من يوحنا المعمدان بأزليته وأفضلية تعليمه وبأنه أعظم من موسى ومن كل الكهنة والأنبياء الذي أعلنوا الله ولذلك وجب أن نتخذه معلمنا ونبينا وأن ندرس كلامه ونتأمل فيه ونسأله الإرشاد لأنه عجيب مشير إله قدير.

    شهادة يوحنا الخاصة ع ١٩ إلى ٣٦


    ١٩ «وَهٰذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا، حِينَ أَرْسَلَ ٱلْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟».
    ص ٥: ٣٣، يشوع ٣: ٣
    حِينَ أَرْسَلَ الأرجح أن ذلك الوقت كان بعد وقت المعمودية ورجوع المسيح من تجربته أربعين يوماً في البرية.
    ٱلْيَهُودُ اختص هذا الاسم أولاً بسبط يهوذا ثم أُطلق بعد رجوع الإسرائيليين من سبي بابل على كل الأسباط. واليهود هنا وفي سائر هذه البشارة الذين قاوموا المسيح من اليهود. واصطلح يوحنا على ذلك لأن أكثر تلك الأمة ولا سيما رؤساؤها قاوم يسوع وأما سائر البشائر فذكروا مقاومي المسيح باسم فرقتهم كالفريسيين والصدوقيين أو باسم وظيفتهم كرؤساء الكهنة ونحو ذلك. واستعماله لفظة اليهود بهذا المعنى من الادلة على أن يوحنا كتب إنجيله بعد خراب أورشليم بزمن طويل وأن اليهود كانوا عند كتابته ملة دينية فقط لا أمة سياسية وأنه تقضت عليه مدة طويلة وهو ساكن بين الأمم.
    مِنْ أُورُشَلِيمَ كان الذين أتوا من هذه المدينة لجنة مختارة أرسلها مجلس السبعين من قاعدة البلاد ومركز الديانة. وغاية إرساله إياها الفحص عن دعاوي ذلك النبي أي المعمدان الذي جمع إليه الجموع العظيمة وحمل كثيرين على ظنهم إياه المسيح (لوقا ٣: ١٥) وإرسال تلك اللجنة دليل جليّ على شدة تأثير ما أتاه يوحنا المعمدان من المواعظ.
    كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ هما من خدم الهيكل. والكهنة فرقة من اللاويين أي أولاد هارون وكان أكثر الكتبة من اللاويين. والمجلس الكبير مؤلف من الشيوخ والكتبة والكهنة.
    مَنْ أَنْتَ لا ريب في أنهم عرفوا أنه لاوي وأنه ابن الكاهن زكريا فالذي أرادوا معرفته هو ماهية الوظيفة التي ادّعى أنه نالها من السماء. والمسيح اشار إلى هذا في خطابه بعد ذلك (ص ٥: ٣٣).
    ٢٠ «فَٱعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا ٱلْمَسِيحَ».
    لوقا ٣: ١٥ وص ٣: ٢٨ وأعمال ١٣: ٢٥
    ما في هذا العدد من تكرار المعنى للتأكيد وبيان أهمية الشهادة. فرفض يوحنا كل دعوى في أنه هو المسيح وأبى الإكرام الذي استعد الناس أن يقدموه له باعتبار كونه المسيح.
    ٢١ «فَسَأَلُوهُ: إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟ فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا. أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟ فَأَجَابَ: لاَ».
    ٢ملوك ١: ٨ وملاخي ٤: ٥ ومتّى ١٧: ١٠، تثنية ١٨: ١٥ و١٨ وص ٦: ١٤ و٧: ٤٠ و٤١
    إِيلِيَّا أَنْتَ انتقل إيليا النبي إلى السماء قبل ذلك بنحو ٩٠٠ سنة. وقال ملاخي منذ ٤٠٠ سنة قبل ذلك باسم الرب «هَئَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا ٱلنَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ ٱلرَّبِّ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ وَٱلْمَخُوفِ» (ملاخي ٤: ٥). فتوقع اليهود مجيء إيليا حقيقة من السماء قبل مجيء المسيح. ثم مسيره مع المسيح على الأرض ومسحه إياه وتعميد الناس عموماً وفقاً لقوله تعالى في (حزقيال ٣٦: ٢٥ و٢٦ وفي زكريا ١٣: ١).
    لَسْتُ أَنَا أي لست إيليا حقيقة كزعمهم من إتيان ذلك النبي فعلاً. نعم أن يوحنا المعمدان أتى «بروح إيليا وقوته» (لوقا ١: ١٧) وشبهه وهو الذي قصده ملاخي بنبؤته (ملاخي ٣: ١ ومتّى ١١: ١٤ و١٧: ١٢ و١٣).
    أَلنَّبِيُّ أَنْتَ أي الذي أشار إليه موسى في تثنية ١٨: ١٥ فإن بعض اليهود فسر تلك النبوءة بأنها إشارة إلى المسيح وهو الصحيح (ص ٦: ١٤). وبعضهم فسرها بأنها إشارة إلى غيره من الأنبياء يقترن مجيئه بمجيء المسيح (ص ٧: ٤٠ و٤١). وبعضهم ظنه إرميا أو أحد الأنبياء القدماء قام من الأموات (متّى ١٦: ١٤ ومرقس ٦: ١٥) فأنكر يوحنا أنه أحد هؤلاء.
    ٢٢ «فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟».
    فرضت تلك اللجنة ثلاثة فروض وهو أن المعمدان إما المسيح وإما إيليا وإما واحد من الأنبياء القدماء قام من الأموات فنفى يوحنا كل ذلك فالتَمَسَت منه أن يصرح بحقيقة أمره.
    ٢٣ «قَالَ: أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ ٱلنَّبِيُّ».
    إشعياء ٤٠: ٣ ومتّى ٣: ٣ ومرقس ١: ٣ ولوقا ٣: ٤ وص ٣: ٢٨
    أظهر المعمدان تواضعه بهذا الجواب وشعوره بأهمية مرسليته لأنه لم يجب اللجنة حسبما سألت كأن الجواب عن نفسه مما لا طائل تحته. لكن الأمر المهم هو تأدية الشهادة للمسيح فلم يكن في هذا إلا مثل صوت يعلن تلك الشهادة. وأظهر بجوابه هذا أنه أتى لإتمام النبوءة المذكورة في إشعياء ٤٠: ٣. وحوّل بجوابه التفات الناس عنه إلى موضوع مناداته وبالنتيجة إلى الملك الآتي الذي هو سابقه.
    قد أشار إشعياء إلى مجيء المسيح بإنبائه من ص ٤٠ إلى ص ٤٦ فاتخذ يوحنا المعمدان مجيء نفسه وتبشيره ومناداته إتماماً لأول ذلك الإنباء وأشار بذلك أن كله على وشك التمام أي أنه قد اقترب قدوم الملك المنتظر أو الموعود به وأنه هو نفسه يعد الطريق قدامه. فإذاً جوهر جوابه أنه سابق المسيح وظهور ذلك المسبوق قريب جداً.
    ٢٤ «وَكَانَ ٱلْمُرْسَلُونَ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ».
    مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم فرقة من فرق اليهود الثلاث التي انقسموا إليها والباقيتان هما الصدوقيون والاسينيون. وكان الفريسيون غيورين جداً في حفظ شريعة موسى وتقاليد الشيوخ ولذلك فحصوا بكل تدقيق عن كل شيء خارج عن مجراهم العادي في الدين كفحصهم عن علة تعميد يوحنا المعمدان. ولم تكن غايتهم من السؤال الآتي الوقوف على الحق بل المقاومة كعادتهم (لوقا ٧: ٣٠) وذكر يوحنا أن المرسلين فريسيون لئلا يظن أحد أنهم أتوا ذلك بغية الوقوف على الحق والأمر ليس كذا كما اتضح مما ذُكر.
    ٢٥ «فَسَأَلُوهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ ٱلْمَسِيحَ، وَلاَ إِيلِيَّا، وَلاَ ٱلنَّبِيَّ؟».
    يتضمن سؤال الفريسيين ليوحنا التسليم بأنه لو كان أحد أولئك الثلاثة الذين ذكروهم لحق له أن يعمد بناء على قول (حزقيال ٣٦: ٢٥ و٢٦ وقول زكريا ١٣: ١). ولم يستغربوا المعمودية كأنها أمر جديد في الدين لأنهم اعتادوا التطهيرات الطقسية التي يمارسها كل يهودي لنفسه وتُعرف عندهم بالمعمودية (مرقس ٧: ١ - ٤) واعتادوا أيضاً تعميد الدخلاء أي الذين تهودوا من الأمم لكنهم تعجبوا من تعميد يوحنا مع نفيه أنه ليس أحد أولئك الثلاثة المفروضين. ولعلهم تعجبوا من أنه عمد اليهود الذين هم على زعمهم أمة مقدسة طاهرة لا تحتاج إلى معموديته. والأرجح أن سؤالهم لم يكن إلا عن سلطانه.
    ٢٦ «أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا: أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلٰكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ ٱلَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ».
    متّى ٣: ١١، ملاخي ٣: ١
    لم يجبهم يوحنا عن سؤالهم بالتصريح بل بالتضمين هو أنه سابق المسيح وأن عمله إنما هو تهيئة الطريق أمامه إن المسيح أتى وفعل يوحنا ما فعله بسلطان ذلك إذاً حق له أن يعمد كما أوضح أيضاً في ع ٣٣.
    أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ زاد يوحنا المعمدان على ذلك في بعض الأحيان قوله «هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ» (ع ٣٣ ومتّى ٣: ١١).
    فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ أي هو الآن بينكم في الأرض اليهودية. ومعنى ذلك أن المسيح قد أتى وأن يوحنا يفعل ما يفعله بسلطانه. ويظهر من الآية التاسعة أن المسيح لم يكن قدام يوحنا عند هذا الكلام.
    ٱلَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ اي لم تتحققوا أنه المسيح.
    ٢٧ «هُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، ٱلَّذِي صَارَ قُدَّامِي، ٱلَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ».
    ع ١٥ و٣٠ وأعمال ١٩: ٤
    هُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي أشار بهذا إلى شهادته السابقة في ع ١٥.
    أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ كان الحذاء يومئذ نعلاً يربط إلى الرجل بسيور من جلد. وكان حل تلك السيور من الأعمال الخاصة بالعبيد (انظر الشرح متّى ٣: ١١).
    أثبت يوحنا المعمدان بما ذُكر ثلاثة أمور:

    • الأول: أن المسيح قد أتى.
    • الثاني: أن الناس جهلوه.
    • الثالث: أنه عظيم جداً. وأظهر فوق ذلك وفرة تواضعه فإنه حسب شهادة المسيح لم «يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان». ومع ذلك لم يحسب نفسه أهلاً لأن يخدم المسيح كعبد. وفي ذلك مثالاً لكل خدم الدين فعلى كل منهم أن يقتدي به في التواضع.


    ٢٨ «هٰذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ».
    قضاة ٧: ٢٤ وص ١٠: ٤٠
    فِي بَيْتِ عَبْرَةَ معنى هذا الاسم في الأصل معبر النهر وهو محل على شاطئ الأردن لم يتحقق مركزه والأرجح أنه غير بعيد عن أريحا. والشهادة التي أداها يوحنا هنالك لا ريب في أنه أداها مراراً كثيرة قبل أن عمّد المسيح كما في (لوقا ٣: ١٦) وبعد ذلك كما هنا.
    ٢٩ «وَفِي ٱلْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ».
    خروج ١٢: ٣ وإشعياء ٥٣: ٧ وع ٣٦ وأعمال ٨: ٣٢ و١بطرس ١: ١٩ ورؤيا ٥: ٦ الخ إشعياء ٥٣: ١١ و ١كورنثوس ١٥: ٣ وغلاطية ١: ٤ وعبرانيين ١: ٣ و٢: ١٧ و٩: ٢٨ و١بطرس ٢: ٢٤ و٣: ١٨ و١يوحنا ٢: ٢ و٣: ٥ و٤: ١٠ ورؤيا ١: ٥
    فِي ٱلْغَدِ أي غد اليوم الذي أدى شهادته فيه قدام لجنة اليهود التي أُرسلت من أورشليم.
    نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ ذهب يسوع بعد ما عُمّد إلى البرية لكي يُجرب وبقي هنالك أربعين يوماً والوقت المذكور هنا هو الزمن الذي رجع فيه من البرية أو بعده بقليل. وأتى وقتئذ بغية أن يعطي يوحنا فرصة ليشهد له. ولعل يوحنا كان في تلك المدة يتأمل في نبوات العهد القديم المتعلقة بالمسيح من جهة كونه عرضة للمصائب وحمل آثام البشر ولا سيما النبوة المذكورة في ص ٥٣ من إشعياء حتى استعد أن يؤدي الشهادة للمسيح على الوجه الذي أداها عليه.
    فَقَالَ الأرجح أنه قال ذلك على مسامع الجمع الذي اجتمع إليه.
    هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ تشير تسمية المسيح حملاً إلى كونه ذبيحة الخطية وأنه المرموز إليه بكل الذبائح التي قُدمت في العهد القديم كفارة عن الإثم. فإن الحملان أكثر ما تُقدم لذلك (لاويين ٥: ٦) والمسيح هو الحمل الحق المشار إليه بخروف الفصح ( ١كورنثوس ٥: ٧) وهو تمم نبوءة إشعياء المذكورة في ص ٥٣ ولا سيما الآية السابقة من ذلك الأصحاح وهي قوله «كشاة تساق إلى الذبح» (انظر أيضاً رومية ٥: ٦ و١٣: ٨) ولاق بالمسيح أن يكون ذبيحة لأنه كان «حَمَلاً بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ» (١بطرس ١: ١٩).
    وهو «حمل الله» لأربعة أسباب:

    • الأول: تعيين الله إياه منذ الأزل ذبيحة إثمٍ.
    • الثاني: وعد الله بأنه يكون كذلك في النبوءات والرموز التي هو عيّنها.
    • الثالث: إرسال الله إياه من السماء إلى العالم ليكون ذبيحة فاستحق أن يسمى حمل الله تمييزاً له عن سائر الحملان التي هي حملان الناس (رومية ٣: ٢٥ و٨: ٣٢).
    • الرابع: قبول الله إياه ذبيحة إثم بدل عالم الأثمة.


    ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ أي يصنع كفارة تامة عن الخطية (١يوحنا ٢: ١٢ وعبرانيين ٩: ٢٦). وأفرد الخطية هنا باعتبار أن كل خطايا العالم جُعلت حملاً واحداً ليحمله المسيح.
    وهو رفع عن الناس (الذين يريدون) أولاً الخطية الأصلية والخطية الفعلية.
    ثانياً: جرم الخطية وقصاصها.
    ثالثاً: دنس الخطية وسلطتها عليهم. وقد رفعها عن غيره بوضعه إياها على نفسه وفق نبوءة إشعياء وهي قوله «جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ ... وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا» (إشعياء ٥٣: ١٠ و١١) وقول الرسول «ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ» (١بطرس ٢: ٢٤). وهو يرفع خطايا العالم أيضاً بشفاعته على يمين الآب في الخطأة المؤمنين به.
    ٱلْعَالَمِ أي كل البشر لا اليهود فقط كما زعموا أن يفعل المسيح المنتظر. ومعنى «حمل المسيح خطية» العالم تقديمه ذبيحة تجعل خلاص كل البشر ممكناً. والفداء الذي قام به كاف للجميع وما افتقر إليه الكل. وقدم ذلك الفداء مجاناً لكل إنسان بدليل قول الرسول «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (٢كورنثوس ٥: ١٩) وقول الآخر «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (١يوحنا ٢: ٢) ومع هذا كله لم يقبله العالم كله فالذين استفادوا بذلك (من الراشدين) إنما هم المؤمنون به.
    ألهم الروح القدس يوحنا أن يوضح عمل المسيح على ما ذُكر خلافاً لزعم اليهود في ذلك العمل. وفاق يوحنا جميع الرسل بمعرفته أن المسيح ذبيحة الإثم إلا بعد قيامة يسوع وحلول الروح القدس عليهم ودعا اليهود إلى مشاهدة المسيح بعيون أجسادهم وعيون أرواحهم المصدقة شهادته بقوله «هوذا حمل الله». فعلنيا أن ننظره بعين العبادة والشكر والمحبة والإيمان لخلاصنا الآن وتعزيتنا عند الموت وتمجيدنا في السماء.
    ٣٠ «هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي».
    ع ١٥ و٢٧
    أشار بهذا إلى شهادة أدّاها قبلاً ع ١٥ وكان قد أشار إليه أنه الآتي وهنا عينه حسياً وهو في الحضرة قائلاً «هذا هو».
    ٣١ «وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لٰكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذٰلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِٱلْمَاءِ».
    ملاخي ٣: ١ ومتّى ٣: ٦ ولوقا ١: ١٧ و٧٨ و٣: ٣ و٤
    وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ قصد يوحنا بهذه الكلمات أن يبيّن لليهود أن شهادته بأن يسوع هو المسيح مبنية على إعلان الله لا على معرفته الشخصية به. ولا ريب أنه سمع خبر ولادة المسيح غير المعتادة وأنباء حكمته وجودته فحمله ذلك على أن يقول له يوم أتاه ليعتمد منه «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ»» (متّى ٣: ١٤). وقوله «لم أكن أعرفه» لم يقصد أن يجهله كل الجهل إنما قصد أنه لم يعرفه المعرفة التامة المعلنة من الله التي تقدره على تأدية الشهادة الصريحة العامة وأنه لم يكن له سلطان على التصريح قبل نزول العلامة الموعود هو بها من السماء. ونستنتج مما قيل هنا مع القرابة بين أم يسوع وأم يوحنا (لوقا ١: ٣٦) أن الله قضى بأن لا يجتمع يوحنا بيسوع قبل معموديته إذ سكن أحدهما في الناصرة والآخر في البرية قرب حبرون (لوقا ١: ٨٠) وغاية الله من ذلك دفع توهم الناس سبق مؤامرة بين يسوع ويوحنا.
    لٰكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ الخ أي ليظهر أن يسوع هو المسيح فلم ينكر يوحنا أنه أتى ليبشر بالتوبة ويعمد بالماء إشارة إلى التطهير الروحي وأنه يهيء بما أتاه الطريق للمسيح إنما صرح بأن تقديم هذه الشهادة أمر جوهري في مرسليته.
    ٣٢ «وَشَهِدَ يُوحَنَّا: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ٱلرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱسْتَقَرَّ عَلَيْهِ».
    متّى ٣: ١٦ ومرقس ١: ١٠ ولوقا ٣: ٢٢ وص ٥: ٣٢
    انظر الشرح متّى ٣: ١٦ ومرقس ١: ١٠ و١١.
    فَٱسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أي بقي عليه مدة وهو إشارة إلى أن الروح مكث فيه.
    ٣٣ «وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لٰكِنَّ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِٱلْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: ٱلَّذِي تَرَى ٱلرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهٰذَا هُوَ ٱلَّذِي يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
    لوقا ٣: ٢، متّى ٣: ١١ وأعمال ١: ٥ و٢: ٤ و١٠: ٤٤ و١٩: ٦
    هذا تكرير ما قيل في آخر العدد ٣١ وكُرر للتأكيد والأيضاح. ويوحنا لم يستنتج من نفسه أن حلول الروح القدس على يسوع علامة كونه المسيح لأن تلك العلامة وتعيين المراد بها كليهما من الله إذ أوحى إليه تعالى أن يعطيه علامة بها يعرف المسيح ويكون له سلطان إلهي على أن يشهد له.
    ويُستفاد من هذا العدد أربعة أمور:

    • الأول: أن الله أمر يوحنا أن يعمد.
    • الثاني: أنه وعده بأن يعرّفه بالمسيح.
    • الثالث: أن يعيّنه له بالعلامة.
    • الرابع: أنه أمره بالشهادة للمسيح.


    يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ هذا عمل يسوع الخاص وهو مميز عن معمودية يوحنا التي هي معمودية الماء المشيرة إلى معمودية الروح (إشعياء ٦١: ١ ولوقا ٤: ١٨). وبهذه المعمودية يهب المسيح حياة روحية لنفس الإنسان المؤمن به.
    ٣٤ «وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ».
    هذا تأكيد وتقرير فكأنه قال رأيت جلياً وأيقنت كل الإيقان ومنذ ذلك شهدت علانية أن يسوع هو المسيح الكلمة المتجسد لا ابن مريم فقط بل ابن الله الحي أيضاً. ومما حققه أن لا أحد يُعمد بالروح القدس ويهب للناس المواهب الروحية ما لم يكن هو الله. وعلم أنه ابن الله أيضاً بسمعه شهادة الآب له (متّى ٣: ١٧).
    ٣٥ «وَفِي ٱلْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَٱثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ».
    هذه شهادة ثالثة خاصة أدّاها يوحنا. الأولى للجنة الفريسية والثانية للجمع الذي حضر وعظه والثالثة وهي المذكورة هنا لبعض تلاميذه.
    وَفِي ٱلْغَدِ أَيْضاً أي في غد اليوم الذي فيه أدى شهادته للجمع وهو اليوم الثالث من تأدية شهادته لتلك اللجنة.
    كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً الأرجح أنه وقف في ساحة بيت عبرة حيث اعتاد أن يقف ويبشّر.
    وَٱثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ لنا أن نظن أنه كان له تلاميذ كثيرين. وكان أحد المذكورين هنا أندراوس (ع ٤٠) ولا ريب في أن الآخر يوحنا كاتب هذه البشارة. ولم يذكر اسمه جريا على عادته وإنما كان يشير إلى نفسه بما يعيّنه (ص ١٣: ٣٣ و١٨: ١٥ و١٩: ٢٦ و٢٠: ٣ و٢١: ٢٠).
    ٣٦ «فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ».
    ع ٢٩
    فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ تفرس فيه قصد الإيماء إليه كما لو أشار إليه بغية أن يوجه نظر التلميذين إليه.
    مَاشِياً أي ماراً بين بقية الناس غير معروف ولا مكرم.
    فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ» اقتصر على ذلك دون تفسيره لأنه فسره قبل ذلك بيوم. ولم يكن هذا الكلام مجرد شهادة للمسيح بل دعوة للتلميذين إلى اتباعه أيضاً. والأرجح أن هذين التلميذين سمعا ذلك القول في اليوم الأول وأثر فيهما وسمعهما إياه ثانية حملهما على أن يتبعا المسيح.

    إتيان بعض تلاميذ المعمدان إلى يسوع ع ٣٧ إلى ٥١


    ٣٧ «فَسَمِعَهُ ٱلتِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ».
    فَتَبِعَا يَسُوعَ لا بمعنى أنهما تركا كل شيء وصارا له تلميذين كما فعلا بعدئذ (لوقا ٥: ١٠ و١١) ولكنهما اقتفياه.
    ٣٨ «فَٱلْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَاذَا تَطْلُبَانِ؟ فَقَالاَ: رَبِّي، (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) أَيْنَ تَمْكُثُ؟».
    متّى ٣: ٧ و٨
    مَاذَا تَطْلُبَانِ علم يسوع أفكارهما ومقاصدهما أحسن معرفة وإنما سألهما هذا السؤال ليشجعهما ويمهّد لهما طريق المعرفة والمحادثة فالظاهر أنهما تبعاه ولم يجسرا على مخاطبته.
    رَبِّي، (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) تفسير يوحنا لهذه الكلمة من الأدلة على أنه لم يكتب بشارته في اليهودية أو للعبرانيين فقط. ودعوة التلميذين يسوع «يا معلم» دليل على إرادتهم أن يعلمهما.
    أَيْنَ تَمْكُثُ أظهرا بهذا السؤال إرادتهما أن يواجهوه على انفراد في بعض أوقات المستقبل لأجل المحادثة.
    ٣٩ «فَقَالَ لَهُمَا: تَعَالَيَا وَٱنْظُرَا. فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْعَاشِرَةِ».
    تَعَالَيَا وَٱنْظُرَا هذه دعوة لهما أن يأتيا إليه في الحال.
    أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ كان منزله الوقتي في بيت عبرة.
    نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْعَاشِرَةِ أي قبل المغرب بساعتين ولأن ما بقي من النهار كان غير كاف للمخاطبة شغلا بخطابه الوقت ما بين المغرب والنوم وباتا عنده.
    ٤٠ «كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ ٱلاَثْنَيْنِ ٱللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ».
    متّى ٤: ١٨
    ذُكر اسم أحدهما وهو أندراوس الذي صار تلميذاً للمسيح قبل بطرس وأما التلميذ الآخر فاتفق كل المفسرين على أنه يوحنا الرسول لأنه لم يذكر اسمه قط في إنجيله ولما كان يريد أن يسند أمراً إلى نفسه كما حدث في سبع أوقات غير هذا اتى ذلك بإشارة تعيّنه. ولم يفعل ذلك إلا تواضعاً (ص ١٣: ٣٣ و١٩: ٢٦ و٣٥ و٢٠: ٢ - ٨ و٢١: ٧ و٢٠ و٢٤).
    أما أندراوس وسمعان وبطرس فقد مر الكلام عليهما في الشرح (متّى ١٠: ٢). ولم يذكر يوحنا اسم بطرس قبلاً في بشارته ولكنه كتب ما يتعلق به كان كل قارئ لبشارته يعرفه.
    ٤١ «هٰذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: ٱلْمَسِيحُ)».
    ص ٤: ٢٥
    أَوَّلاً لم يتضح ما هو معنى هذه الكلمة هنا فذهب البعض أنهما تركا المسيح وقتاً قصيراً ووجدا بطرس ثم رجعا معه إلى المسيح. وذهب آخر إلى أن أندراوس ويوحنا ذهبا ليفتشا عن بطرس في طريقين مختلفتين وأن أندراوس وجده أولاً لأنه أخوه فيعرف أين يوجد. وظن غيره أن كل واحد منهما ذهب لكي يجد أخاه أي أن أندراوس ذهب ليجد بطرس ويوحنا ذهب ليجد يعقوب فنجح أندراوس في مقصده أولاً.
    قَدْ وَجَدْنَا هذا هتاف الفرح وهو كهتاف من وجد كنزاً ثميناً. وفيه إشارة إلى أنه كان يفحص بانتباه عن نبوات العهد القديم المتعلقة بالمسيح ليعرف على من تصدق. وأنه كان متوقعاً مجيء المسيح الذي انتظره العالم أربعين قرناً. وما قاله هنا نتيجة مخاطبته ليسوع وتصديقه أنه المسيح فلا يستطيع أحد أن يقول «وجدت المسيح» ما لم يكن المسيح نفسه قد وجده قبلاً بروحه (متّى ١٨: ١١ و١٢).
    مَسِيَّا (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: ٱلْمَسِيحُ) يدل هذا التفسير على أن يوحنا الإنجيلي لم يكتب لمجرد إفادة اليهود الذين لم يكونوا في حاجة إلى هذا التفسير. ومعنى المسيح ممسوح من الروح القدس ليكون نبياً وكاهناً وملكاً (أعمال ١٠: ٣٨).
    شهد يوحنا المعمدان بأنه «حمل الله» وبأنه «ابن الله» أما أندراوس فعرف أن يسوع هو المسيح إما استنتاجاً من عبارتي يوحنا المذكورتين وإما تحققاً مما سمعه من يسوع نفسه. فعلينا جميعاً أن نقتدي بأندراوس ونجتهد في إرشاد غيرنا إلى المسيح لنفع نفوسهم.
    ٤٢ «فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ)».
    متّى ١٦: ١٨ وص ٢: ٢٥
    الأرجح أن ذينك الأخوين كانا قد تكلما ملياً في شأن المسيح وأن كلا منهما كان مثل الشيخ «المنتظر تعزية إسرائيل» (لوقا ٢: ٢٥).
    نَظَرَ إِلَيْهِ لم يقتصر على التفرس في وجهه بل كان يرى خفايا قلبه أيضاً فعلم كيف يكون بعد وسماه اسماً يشير إلى صفاته وعمله حين يصير رسولاً.
    أَنْتَ سِمْعَانُ أي السامع.
    تُدْعَى صَفَا أي صخراً وهو ترجمة بطرس في السريانية ولقبه بذلك إشارة إلى شجاعته وثباته فهو إنباء من المسيح بصفات بطرس في المستقبل. وفي الكتاب المقدس وقع تغيير الاسم من الله دليلاً على منح مواهب أو مواعيد جديدة كتبديل ساراي بسارة وأبرام بإبراهيم (تكوين ١٧: ٥) ويعقوب بإسرائيل (تكوين ٣٢: ٢٨). ودل المسيح بعد مدة على سبق هذا التغيير (متّى ١٦: ١٨). وما حدث هنا بين المسيح والأخوين استعداد لدعوته إياهما بعدئذ في الجليل ليكونا تلميذين ورسولين (متّى ٤: ١٨ - ٢٤).
    ٤٣ «فِي ٱلْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي».
    فِي ٱلْغَدِ أي اليوم الرابع بعد شهادة المعمدان للجنة اليهود ع ١٩.
    أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ أي قصد الذهاب أو عزم عليه.
    فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ أي وجده على وشك السفر وهو لم يزل في اليهودية.
    فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي لعل فيلبس فهم من هذا ان يرافقه إلى الجليل فقط ولكن يسوع علم أن نتيجة هذه المرافقة اتباعه إياه قلبياً إلى الأبد ومشاركته له في حمل صليبه وليس إكليله. ولا بد من أن يسوع رأى في قلب فيلبس استعداداً لتلبية هذه الدعوة قبل أن دعاه ولا ريب في أن ذلك الاستعداد فعل روح الله.
    ٤٤ «وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا، مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ».
    ص ١٢: ٢١
    بَيْتِ صَيْدَا انظر الشرح مرقس ٦: ٤٥ ولوقا ٩: ١٠.
    ٤٥ فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا ٱلَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ».
    ص ٢١: ٢، تكوين ٣: ١٥ و١٧: ٧ و٢٢: ١٨ و٤٩: ١٠ وتثنية ١٨: ١٨ ولوقا ٢٤: ٢٧، إشعياء ٤: ٢ و٧: ١٤ و٩: ٦ و٥٣: ٢ وميخا ٥: ٢ وزكريا ٦: ١٢ و٩: ٩، متّى ٣: ٢٣ ولوقا ٢: ٤
    نَثَنَائِيلَ لفظة عبرانية معناها عطية الله وهو من قانا الجليل ص ٢١: ٢ والأرجح أنه برثولماوس المذكور في متّى ١: ٣ (فارجع إلى الشرح هناك) وبرثولماوس كنيته لا اسمه ومعناه ابن ثولماوس ولفظه العبراني «بن تلماي».
    أظهر فيلبس الرغبة في إرشاد غيره إلى المسيح كما فعل أندراوس.
    كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى أشار خاصة إلى وعد الله لإبراهيم (تكوين ١٧: ٧) وليعقوب (تكوين ٥٩: ١٠) ولرموز الطقوس والذبائح الموسوية ولا سيما ما كتُب في تثنية الاشتراع ١٨: ١٥.
    وَٱلأَنْبِيَاءُ في أماكن كثيرة.
    ِيَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَة تكلم حسب زعم الناس وكلامهم العام ولم يكن قد عرف حينئذ إلا بعض الحق من جهة المسيح فقال البشير الذي قاله فيلبس لا الذي كان يجب أن يعرفه من أمره ويقوله فيه.
    ٤٦ «فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟ قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: تَعَالَ وَٱنْظُرْ».
    ص ٧: ٤١ و٤٢ و٥٢
    أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ معنى الصالح هنا أمر جليل ومشهور.
    كانت الناصرة قرية حقيرة في الجليل وكانت الجليل عينها أقل اعتباراً من سائر أرض فلسطين وليس للناصرة من ذكر في العهد القديم انظر الشرح (متّى ٢: ٢٣) واستفهام نثنائيل يراد به التعجب والشك لا الاستخبار فكأنه قال من العجب أن تكون هذه القرية الصغيرة مولد المسيح النبي والملك العظيم والنبوءة تصرح بكون مولده بيت لحم لا الناصرة. وقال آخرون بعد ذلك مثل قول نثنائيل هنا «أَلَعَلَّ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلْجَلِيلِ يَأْتِي؟ أَلَمْ يَقُلِ ٱلْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي ٱلْمَسِيحُ؟» (ص ٧: ٤١ و٤٢).
    تَعَالَ وَٱنْظُرْ سلك فيلبس أحسن طريق لإزالة شكوك نثنائيل فلم يجادله في الدعوى بل دعاه ليرى يسوع بعينيه ويفحص عن الحق فكأنه قال له أنا أتيت ونظرت وصدقت فتعال أنت وافعل كما فعلت.
    ٤٧ «وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ: هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ».
    مزمور ٣٢: ٢ و٧٣: ١ وص ٨: ٣٩ ورومية ٢: ٢٨ و٢٩ و٩: ٦
    وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ أي نظر وجهه ونفسه ايضاً كما رأى بطرس ع ٤٢ وكما عرف كل ما يتعلق بالمرأة السامرية (يوحنا ٤: ١٧ و١٨). ووجه المسيح كلامه إلى كل الناس الواقفين حوله.
    إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً معنى إسرائيلي في الأصل جندي الله وصفات نثنائيل كانت موافقة لهذا الاسم فعنى المسيح أنه صادق وتقيٌّ. ولم يقصد المسيح بذلك أن نثنائيل كان بلا خطية لأنه ليس كذلك إلا واحد (١بطرس ٢: ٢).
    لاَ غِشَّ فِيهِ هذا تفسير لقوله «إسرائيلي حقاً».
    ٤٨ «قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟ أَجَابَ يَسُوعُ: قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ».
    مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي سمع نثنائيل قول المسيح فيه وشعر بأنه حق فقال هذا عجباً وحيرة من علم المسيح وهو لم يعرفه ولم يواجهه إلا في تلك الدقيقة وما ذلك إلاّ لأنه لم يعرف قوة المسيح الفائقة الطبيعة لمعرفة القلوب فأبان ذلك له المسيح بجوابه.
    وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ تقتضي القرينة أن محل التينة لم يكن من هناك ويلزم منها أنه حدث لنثنائيل حادثة ذات شأن تحت تلك الشجرة حتى خصها المسيح بالذكر ولعله كان يصلي هنالك أو يعترف بإثم أو ينذر نذراً فإشارة المسيح إلى تلك الحادثة أقنعت نثنائيل إقناعاً تاماً أن للمسيح معرفة خارقة العادة وبمثل هذا اقتنعت المرأة السامرية أن الذي كان يخاطبها هو المسيح ص ٤: ١٩ و٢٩.
    ولم يعن المسيح بقوله «رأيتك» أنه نظره بالعين الجسدية بل بتلك العين التي يرى بها كل ما في السماء وما على الأرض.
    ٤٩ «فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!».
    متّى ١٤: ٣٣، متّى ٢١: ٥ و٢٧: ١١ و٤٢ وص ١٨: ٣٧ و١٩: ٣
    أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ قال فيلبس أنه ابن يوسف ولكن نثنائيل تحقق أن الذي يعرف ما عرفه يسوع لا يكون إلا إلهاً وسماه ابن الله فمعرفته الفائقة الطبيعة هي المعجزة التي انقاد بها إلى التسليم بصحة دعواه الإلهية.
    مَلِكُ إِسْرَائِيلَ! عُرف المسيح المنتظر عند اليهود بابن الله باعتبار نسبته إلى الآب وبملك إسرائيل باعتبار نسبته إلى شعب الله المختار فيكون نثنائيل قد أقرّ بأن يسوع هو المسيح. فكأنه قال أنت عرفتني إسرائيلياً وأنا عرفتك ملك إسرائيل واتخذتك ملكاً لي.
    نرى أن نثنيائيل آمن في الحال إيماناً وطيداً والدليل على ذلك أنه في أول مشاهدته يسوع خاطبه بدون لقب يدل على الاحترام (ع ٣٨) ولكنه بعد قليل سماه معلماً وابن الله وملك إسرائيل.
    ٥٠ «أَجَابَ يَسُوعُ: هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هٰذَا!».
    مدحه يسوع لأنه آمن به ولم يقف على سوى برهان واحد على قوته الإلهية.
    سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هٰذَا هذا جزاء ما أظهره من الإيمان وهو أنه يرى معجزات كثيرة على توالي الأوقات لكي تزيد ثقته بأن يسوع هو المسيح ابن الله. وهذا من الأدلة على أن نثنائيل كان بعد ذلك ممن انتخبهم يسوع رُسلاً مع أنه لم يذكر بينهم بهذا الاسم.
    ٥١ «وَقَالَ لَهُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تَرَوْنَ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ ٱللّٰهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ».
    إشعياء ٦٤: ١ وحزقيال ١: ١ وملاخي ٣: ١٠، تكوين ٢٨: ١٢ ودانيال ٧: ١٣ ومتّى ٤: ١١ ولوقا ٢: ٩ و١٣ و٢٢: ٤٣ و٢٤: ٤ وأعمال ١: ١٠
    ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ هذا التكرار للتوكيد والإيماء إلى أهمية ما بعده ولم يروهِ أحد من الإنجيليين سوى يوحنا وذكره في إنجيله خمساً وعشرين مرة.
    أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تَرَوْنَ كان أول الخطاب لنثنائيل وحده ثم شمل بقية التلاميذ بما وعده به.
    ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً لعل المسيح أشار هنا إلى مجيئه بالمجد في اليوم الأخير الذي سيكون أعظم برهان على لاهوته كما ذكر في (متّى ٢٦: ٥٤ وأعمال ٧: ٥٦) والأرجح أن كلامه هنا مجاز بُني على ما رآه يعقوب في الحلم (تكوين ٢٨: ١٠ - ١٧) ومعناه أنه يصير بواسطة المسيح اتصال دائم بين السماء والأرض أي بين الله والإنسان ليحصل الإنسان على النعمة والمعونة والإرشاد. وورد انفتاح السماء بهذا المعنى في (إشعياء ٦: ١ و٦٤: ١ و٦ وحزقيال ١: ١ وملاخي ٣: ١٠) وكان انفتاح السماء كذلك عند معمودية المسيح (متّى ٢: ١٦) وعند صعوده (أعمال ١: ٩) فكما كان نزول الملائكة وصعودهم على السلم الذي رآه يعقوب في الحلم وعداً له بالحماية السماوية والعناية الإلهية على الدوام كذلك وُعد التلاميذ بالمسيح الذي هو بمنزلة ذلك السلم بالاتصال بين الله والإنسان (كولوسي ١: ٢٠) وأنه بواسطته تصعد من الأرض إلى السماء التضرعات والتسبيحات والصلوات وتنزل منها إلى الأرض البركات والمواهب الروحية وأن الله يرسل ملائكته إلى الناس برسائل المحبة والعناية والحفظ والتعزية (أعمال ١٢: ٧ و٢٧: ٢٣ وعبرانيين ١: ١٤ ورؤيا ٨: ٣ و٤).
    عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ هذا كنية المسيح وهي مبنية على ما قيل في (دانيال ٧: ١٣) فتكنى به المسيح في البشائر نحو ثمانين مرة ولم يستعمله أحد من كتبة العهد الجديد إلا من لفظه أو مما نُقل من كلماته سوى أن استفانوس استعمله مرة في أثر خطابه ويوحنا مرتين في سفر الرؤيا. وعنى المسيح به الكلمة متجسداً وأنه إنسان تام (كما أنه إله تام) ونائب البشر وآدم الثاني ونسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تكوين ٣: ١٥) انظر تفسير ذلك في الشرح (متّى ٨: ١٨ و٢٠ ولوقا ٥: ٢٤).
    ورد في هذا الأصحاح تسعة عشر اسماً للمسيح: (١) الكلمة. (٢) الله. (٣) الحياة. (٤) النور. (٥) النور الحقيقي. (٦) وحيد الآب. (٧) المملوءة نعمة وحقاً. (٨) يسوع المسيح. (٩) جسد. (١٠) رب. (١١) حمل الله. (١٢) يسوع. (١٣) إنسان. (١٤) ابن الله. (١٥) ربي أو معلم. (١٦) المسيح. (١٧) يسوع الناصري ابن يوسف. (١٨) ملك إسرائيل. (١٩) ابن الإنسان.


    الأصحاح الثاني


    معجزة المسيح في قانا ع ١ إلى ١١


    ١ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ».
    يشوع ١٩: ٢٨ وص ٤: ٤٦
    ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ أي بعد دعوة فيلبس (ص ١: ٤٣ - ٥١) وهو اليوم السادس من تأدية يوحنا شهادته أمام اللجنة اليهودية (ص ١: ١٩).
    قَانَا ٱلْجَلِيلِ أضافها إلى الجليل تمييزاً لها عن قانا التي في سهم أشير التي هي شرقي صور بميلة إلى الجنوب. وقانا الجليل كانت قرية في الشمال الشرقي من الناصرة وعلى أمد نحو ساعتين منها وآثارها واسمها باقية إلى هذا اليوم. وأخطأ من حسبها كفركنة وقانا على مسافة يومين أو ثلاثة من المكان الذي كان يوحنا المعمدان يكرز ويعمد فيه. وكان نثنائيل من هذه القرية (ص ٢١: ٢).
    أُمُّ يَسُوعَ لم يذكر يوحنا اسمها في إنجيله كما أنه لم يذكر اسمه ولا اسم أخيه يعقوب. ولعله لم يذكر اسمها لكونه معروفاً أو لأنه كانت قد دخلت في أهل بيته (ص ١٩: ٢٦). ولنا من عدم ذكر اسم يوسف هنا أنه كان قد مات ولم نر من إشارة إلى بقائه حياً إلا منذ نحو ١٨ سنة قبل هذا (لوقا ٣: ٤١). وكانت مريم حينئذ لم تزل ساكنة في الناصرة (مرقس ٦: ٣) ويحتمل أنه كانت قرابة بينها وبين أهل العرس في قانا لأنها أظهرت اهتمامها في بعض أمور العرس وأطلعت على ما لم يطلع عليه غريب من أمور ذلك البيت.
    ٢ «وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ».
    متّى ١١: ١٨ و١٩
    وَتَلاَمِيذُهُ الأرجح أن هؤلاء التلاميذ كانوا وقتئذ ستة وهم أندراوس وبطرس وفيلبس ونثنائيل ويوحنا كاتب هذه البشارة وأخوه يعقوب. أما سائر الاثني عشر فدعوا بعد ذلك وأجاب المسيح الدعوة ليُري مجده ويقوّي إيمان تلاميذه ويُظهر الصداقة لأهل العرس. وبحضوره ذلك العرص وإتيانه المعجزة فيه أباح لنا المسرات التي ليس فيها خطية وكرّم الزواج واعتبر النظام العائلي. فيجب على أهل كل عرس أن يجعلوه في أحوال تليق بأن يكون يسوع أحد المحتفلين به.
    ٣ «وَلَمَّا فَرَغَتِ ٱلْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ».
    وَلَمَّا فَرَغَتِ ٱلْخَمْرُ يحتمل أن الضيوف كانوا أكثر ممن توقعوا حضورهم أو أنهم أقاموا أكثر من المدة المنتظرة حتى نفذت الخمر المعدة للعرس. وكانت أيام العرس أحياناً نحو أسبوع (قضاة ١٤: ١٥). والظاهر أن أهل العرس لم يكونوا من الأغنياء.
    قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ الخ هذا براعة طلب وهي أن يلوّح السائل عما في نفسه دون أن يُصرح بالطلب كقول أختي لعازر «الذي تحبه مريض» (يوحنا ١١: ٣). وعلى ذلك يكون الكلام طلباً بصورة الخبر. وما أتته أم يسوع دليل على أن لها يداً في مهام ذلك العرس وأنها كانت خائفة من أن يُلام أهل العرس ويتكدرون بنقص القيام بالواجبات للمدعوين.
    ولا ريب في أن مريم حفظت في قلبها كل علامات عظمة ابنها منذ الحبل به والمواعيد في شأنه وقتئذ (لوقا ٢: ١٩ و٥١) واعتقدت أن له قوة يستطيع أن يظهرها في أوقاتها. ولعلها استنتجت أن الوقت منذ معموديته وجمع تلاميذه وشروعه في خدمته هو الوقت المناسب لإظهار تلك القوة. ويحتمل أن تلاميذه أخبروها بحوادث المعمودية وشهادة يوحنا المعمدان له ووعده لنثنائيل (ص ١: ٥٠ و٥١) فتوقعت أنه لا بد من أن يفعل على أثر ذلك شيئاً من المعجزات. ولا ريب في أنها كانت قد قرأت كيف أن إيليا صنع معجزة تكثير الدقيق والزيت في وقت الضيق (١ملوك ١٧: ١٤) واعتقدت أن ابنها قادر على أن يفعل مثله.
    ٤ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: مَا لِي وَلَكِ يَا ٱمْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ».
    ٢صموئيل ١٦: ١٠ و١٩: ٢٢ ص ١٩: ٢٦ ص ٧: ٦
    مَا لِي وَلَكِ يَا ٱمْرَأَةُ! لا يخلو هذا الجواب من التوبيخ لها على ما أظهرت من التعرض لما لا يعنيها والجسارة على ادعاء أن لها حقاً أن تأمره بإجراء عمل مما لا يعمله إلا بإرادة أبيه السماوي. ولكن لا شيء من التوبيخ بدعوته إياها «امرأة» لأنه دعاها كذلك حين أراد إظهار الحب لها ورقة قلبه عليها (يوحنا ١٩: ٢٦). لكن قوله «ما لي ولك» يشف عن عدم الرضى أن يتعرض الإنسان لما يعنيه ويؤيده ما جاء في (قضاة ١١: ١٢ و٢صموئيل ١٦: ١٠ و١٩: ٢٢ و١ملوك ١٧: ١٨ و٢ملوك ٣: ١٣ و٢أيام ٣٥: ٢١ ومتّى ٨: ٢٩ ومرقس ١: ٢٤ و٥: ٧ ولوقا ٤: ٣٤ و٨: ٢٨) فكأن المسيح قال لأمه ليس لك أن تشيري عليّ ما يجب أن أعمله فهذا بيني وبين أبي السماوي.
    فعلى الذين ينسبون إلى أم يسوع قوة الشفاعة مع ابنها في السماء أن يروا أي باب ترك المسيح لرجاء ذلك بعد أنه لم يسمح لها أن تتعرض أدنى تعرض لعمله على الأرض فكيف يسمح لها الآن أن تتعرض لشفاعته في السماء التي استعد لها بموته ولم تتم إلا به.
    لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ أي لم يئن أن أظهر مجدي علانية بفعل المعجزة. ووردت هذه العبارة بهذا المعنى في (ص ٧: ٣٠ و٨: ٢٠ و١٢: ٢٣ و٢٧). ووردت في أماكن أُخر بمعنى موته ورجوعه إلى الآب (ص ١٣: ١ و١٧: ١) وهي في كل المواضع وقت عيّنه الله الآب منذ الأزل لا يمكن أن يتقدم دقيقة ولا أن يتأخر كذلك. ولعل المعنى هنا أن الخمر لم تنفد كل النفاد فإن صنعت المعجزة الآن شك الناس في صحتها لتوهمهم أنه مزج ما بقي من الخمر بالماء. وفي هذا الجواب إشارة إلى أن تلك الساعة ستأتي بعد.
    وذهب البعض إلى أن معنى المسيح هنا أنه لم يأت الوقت المناسب ليعلن لأمة اليهود أنه هو المسيح إذ لا يليق ذلك الإعلان في قرية حقيرة كقانا وبين أصدقائه وأقربائه فلم تكن تلك الساعة إلا حين حضوره في قاعدة اليهودية أورشليم وفي هيكلها عينه على وفق النبوءة القائلة «وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ ٱلسَّيِّدُ ٱلَّذِي تَطْلُبُونَهُ» (ملاخي ٣: ١) فعلى ذلك لا تكون معجزة المسيح في قانا إعلان نفسه للأمة أنه المسيح بل إظهار بعض أشعة مجده لتوطيد إيمان تلاميذه.
    ٥ «قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَٱفْعَلُوهُ».
    قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ يدل كلامها هذا على أنها توقعت من جواب المسيح أنه يصنع المعجزة في الوقت المناسب ولذلك أمرت الخدام بالاستعداد لطاعة أمره وأمرها للخدام يؤيد القول بأنها من أقرباء أهل العرس.
    ٦ «وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ ٱلْيَهُودِ، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً».
    مرقس ٧: ٣ و٤
    وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ الظاهر أن تلك الأجران كانت موضوعة في مدخل الدار أو في الدهليز حيث لا يراها العريس ولا المدعوون في مجالسهم ع ٩.
    حَسَبَ تَطْهِيرِ ٱلْيَهُودِ على مقتضى تقاليد الشيوخ وعادة الفريسيين في غسل أيديهم قبل الأكل (متّى ١٥: ٢ ومرقس ٧: ١ - ٤ ولوقا ١١: ٣٨). وكتب يوحنا هذه العبارة التفسيرية لأنه كان حينئذ ساكناً في أفسس كما هو المرجح.
    يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً أي يسع أكثر من مطرين وأقل من ثلاثة ومعدل كل واحد نحو عشرين رطلاً فبلغ موسوع الكل نحو مئة وعشرين رطلاً.
    وبما أن تلك الأجران معينة للماء لم يكن فيها من دردي أو أثر للخمر. والذين ملأوها ماء صاروا بذلك شهوداً بصحة المعجزة. وكان مقدار ما صنعه المسيح من الخمر كبيراً فكل عطايا المسيح بسخاء من فيض غناه (مزمور ٦٥: ٩ - ١٣ ولوقا ٥: ٦ و٧). وليس لنا أن نظن أن المتكئين شربوا كل ذلك. ولعل المسيح قصد بذلك تقديم هدية لأهل العرس إكراماً ومساعدة لهم.
    ٧، ٨ «٧ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ٱمْلأُوا ٱلأَجْرَانَ مَاءً. فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ٨ ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: ٱسْتَقُوا ٱلآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ ٱلْمُتَّكَإِ. فَقَدَّمُوا».
    الظاهر أن الأجران كانت فارغة أو ناقصة باستعمال المدعوين.
    إِلَى فَوْقُ يظهر هذا رغبة الخدم ومسرتهم في العمل وبيان أنه لم يبق من موضع للحيلة بوضع خمر في الأجران بعد ذلك.
    ٱسْتَقُوا ٱلآنَ هذا يدل على أن الماء استحال خمراً بين وقت ملء الأجران وأمر المسيح بالاستقاء فكان التحويل بمجرد إرادته بلا توسط شيء آخر.
    رَئِيسِ ٱلْمُتَّكَإِ وهو ليس العريس بل أحد الأقرباء أو المدعوين المعيّن للاعتناء بالضيوف والآمر بتقديم ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب ومن وظيفته أو يذوق ذلك قبل تقديمه لهم. وكيفية مخاطبة رئيس المتكإ للعريس تدل على أنه ليس بخادم بل من أمثال العريس في المقام.
    ٩ «فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْمَاءَ ٱلْمُتَحَوِّلَ خَمْراً، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ لٰكِنَّ ٱلْخُدَّامَ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱسْتَقَوُا ٱلْمَاءَ عَلِمُوا دَعَا رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْعَرِيس».
    ص ٤: ٤٦
    ٱلْمَاءَ ٱلْمُتَحَوِّلَ خَمْراً بفعل إلهي.
    وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ أي لم يعلم أنها من أجران الماء وهذا دليل على أنه لم يشاهد فعل الخدام لما ملأوا الأجران ماء واستقوا منها خمراً.
    دَعَا رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْعَرِيسَ أي دعاه إليه من متكأ العرس.
    ١٠ «وَقَالَ لَهُ: كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ ٱلدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ إِلَى ٱلآنَ».
    يَضَعُ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَمَتَى سَكِرُوا تكلم على عادة الناس في الولائم فلا يلزم من ذلك أنه حدث مثله في هذا العرس إذ ليس من دليل على أن المدعوين إليه خرجوا عن دائرة الاعتدال بشربهم. والقانون الذي ذكره مأخوذ من اختبار الناس أن الذوق يعجز عن التمييز بين الخمرة الجيدة والدون بعد استمرار الشرب خلافاً لما في أوله. وكان الرئيس يحافظ على صحوه لئلا يخل بالواجبات.
    أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ الخ يظهر من هذا أن المسيح لم يكتف أن يصنع الماء خمراً عادية بل صنعه من أفضل الخمر. كذلك كل مواهب المسيح تليق به. وبمقابلة عطاياه بعطايا الناس تظهر أنها خير من جميعها في الوفرة والجودة. ومما يستحق الملاحظة هنا أن المسيح لم يكلف رئيس المتكإ تصديق استحالة لم تتبين له صحتها بشهادة ذوقه. وشهادة الرئيس بينت حقيقة المعجزة. وهو شهد بدون سبق مؤامرة بينه وبين الخدام إن ما قُدم له خمر من أفضل صنوف الخمر.
    ١١ «هٰذِهِ بِدَايَةُ ٱلآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُه».
    ص ١: ١٤
    هٰذِهِ بِدَايَةُ ٱلآيَاتِ استحسن يوحنا أن يسمي أفعال المسيح الإلهية آيات بالنظر إلى غايتها لتكون برهاناً على صحة مرسليته وعلامة لصدق لاهوته.
    وسُميت أحياناً عجائب إشارة إلى تأثيرها في المشاهدين وسميت أحياناً معجزات وقوات إشارة إلى أنها فوق قوة البشر. ولم يذكر يوحنا من آيات المسيح سوى سبع المذكورة هنا أولها. والثانية شفاء المحموم. والثالثة إشباعه الألوف. والرابعة مشيه على الماء. والخامسة شفاء المقعد. والسادسة فتح عيني الأعمى. والسابعة إقامة لعازر. وقوله «بداءة الآيات» تنفي زعم بعضهم أنه صنع في صبوته معجزات فضلاً عن أن المعجزات التي نُسبت إليه في الصبوة لا تليق بشأنه. وسُمي تحويله الماء آية مع أنه ليس بخلق لأنه يحتاج إلى قوة إلهية لإنشائه حالاً. وكانت بداءة الآيات العشر التي أجراها الله على يد موسى في مصر تحويل الماء إلى دم للانتقام وأما بداءة آيات المسيح فكانت تحويل الماء إلى خمر للبركة.
    فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ على وفق نبوءة إشعياء بما يتعلق بتلك البلاد قبل ذلك بنحو مئة سنة وهي قوله «جَلِيلَ ٱلأُمَمِ. اَلشَّعْبُ ٱلسَّالِكُ فِي ٱلظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً. ٱلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ» (إشعياء ٩: ١ و٢ ومتّى ٤: ١٤ - ١٦).
    أَظْهَرَ مَجْدَهُ أي مجد الكلمة المذكورة في ص ١: ١٤ فآيات موسى وإيليا وسائر الأنبياء أظهرت مجد الله وآيات المسيح أظهرت مجد نفسه. وهذا كان غايته الأولى. والمجد الذي أظهره في قانا كان محجوباً عن أعين الناس مدة ثلاثين سنة تقضّت عليه وهو ساكن بينهم يظهر لهم في الهيئة كسائر الناس. وفعله هذه المعجزة لإظهار مجده لا ينفي أنه فعلها أيضاً ليظهر لطفه وحنوه لبيت العرس ويدفع عنهم الخجل من التقصير في الواجبات.
    فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ أي صدقوا أنه المسيح بيقين فثبّتت إيمانهم السابق. ولم يذكر البشير تأثير المعجزة في سائر الحاضرين فالأرجح أنهم تعجبوا منها وتحدثوا بها ثم نسوها. وما فعله المسيح وقتئذ رمز إلى كل فعله بمجيئه إلى العالم فإنه رفع شأن كل شيء في العالم بحضوره وبركته لأنه رفع طبيعة الإنسان باشتراكه فيها وحوّل قلوب الناس الحجرية إلى قلوب لحمية وجعل خرب سقوط آدم هياكل حية وحول أحزاننا إلى مسرات والخطأة إلى الأبرار والموت إلى باب الحياة وجعل القفار مجرى مياه وبدل عتق الناموس بجدة الروح.

    انحدار يسوع إلى كفرناحون وصعوده إلى أورشليم وإخراجه الباعة من الهيكل ع ١٢ إلى ١٧


    ١٢ «وَبَعْدَ هٰذَا ٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتَلاَمِيذُهُ، وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً لَيْسَتْ كَثِيرَةً».
    متّى ١٢: ٤٦
    ٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ كانت كفرناحوم على شاطئ بحر الجليل فلذلك كانت أوطأ من قانا. وقد سبق الكلام على كفرناحوم في الشرح (متّى ٤: ١٣). وانحداره من قانا إلى كفرناحوم لا يمنع أنه مال إلى الناصرة في الطريق وبقي فيها مع أمه أياماً. ولم يتبين من الكلام هنا علة زيارته كفرناحوم هذه الزيارة القصيرة. والأرجح أنه صنع معجزات هناك وهي التي أشار إليها أهل الناصرة في ما نُقل عنهم في بشارة لوقا (لوقا ٤: ٢٣).
    وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ المرجح أن علة ذهابهم معه الرغبة في مشاهدتهم الآيات التي توقعوا أن يصنعها. ولعل إخوته انتظروا أنه يعلن كونه ملكاً أرضياً فلما أبى ذلك انثنوا عن تصديق أنه المسيح لأن البشير صرح بعد ذلك «لأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضاً لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ» (يوحنا ٧: ٥) وذكر تلاميذه هنا منفصلاً عن إخوته من الأدلة على أنهم لم يكونوا قد آمنوا به. وذكر أمه دون ذكر يوسف ما دل على أنه كان قد مات.
    وَتَلاَمِيذُهُ وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً الخ فكان بذلك للتلاميذ فرصة لأن يزوروا بيوتهم قبل أن دعاهم المسيح رسلاً يبقون معه دائماً.
    ١٣ «وَكَانَ فِصْحُ ٱلْيَهُودِ قَرِيباً، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    خروج ١٢: ١٤ وتثنية ١٦: ١ و١٦ وع ٢٣ وص ٥: ١ و٦: ٤ و١١: ٥٥
    وَكَانَ فِصْحُ ٱلْيَهُودِ إضافة الفصح هنا إلى اليهود دليل على أن يوحنا لم يكتب إنجيله لهم فقط وأنه لم يكتبه في اليهودية. وسبق الكلام على الفصح في الشرح (متّى ٢٦: ٢).
    لم يذكر أحد من البشيرين سوى يوحنا عدد أعياد الفصح التي تقضت على يسوع مدة خدمته والتي ذكرها أربعة. الفصح الأول في (ص ٢: ١٢) والثاني في (ص ٥: ١) والثالث في (ص ٦: ٤) وبقي وقته في الجليل والرابع في (ص ١١: ٥). والأرجح أن الفصح المذكور هنا كان بعد ستة أشهر من بداءة خدمته.
    فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لم يذكر هذا الصعود والحوادث التي حدثت حينئذ سوى يوحنا. وبقي النظام اليهودي مدة حياة المسيح على الأرض وأكرمه يسوع كل الإكرام بعدم تركه شيئاً من فرائضه فذهب إلى الفصح طوعاً للأمر في (خروج ٢٣: ١٧) واجتماع اليهود العظيم في العيد جعل له فرصة مناسبة لإعلان دعواه لهم أنه المسيح.
    ١٤ «وَوَجَدَ فِي ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً، وَٱلصَّيَارِفَ جُلُوسا».
    متّى ٢١: ١٢ ومرقس ١١: ١٥ ولوقا ١٩: ٤٥
    فِي ٱلْهَيْكَلِ أي إحدى الأدور الأربع التي للهيكل والأرجح أنها هي الدار التي كانت تسمى دار الأمم وهي نحو ثلثي المساحة المحيطة بجدران الهيكل. وكان رواق سليمان في شرقي هذه الدار حيث اعتاد يسوع أن يتمشى ويعلم (يوحنا ١٠: ٢٣) وكان دخول يسوع إلى الهيكل وقتئذ إتماماً لنبوءة ملاخي ٣: ١ - ٣ وبموجب تلك النبوءة كان أول عمل المسيح في الهيكل التطهير لا صنع المعجزة.
    ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً كانت هذه للذبائح تُباع لليهود الآتين من خارج أورشليم. ولم يسمح الكهنة للباعة بهذه التجارة إلا لمشاركتهم إياهم في الربح. فجعل ذلك الاتجار الهيكل مثل سوق ومُنع من أن يكون محلاً مناسباً للعبادة الدينية والتأملات والمحادثات الروحية.
    وَٱلصَّيَارِفَ جُلُوساً كان المطلوب من كل يهودي أن يؤدي جزية الهيكل السنوية نصف شاقل (انظر الشرح متّى ١٧: ٢٤ - ٢٦) وهو وفق ما في خروج ٣٠: ١٣. ولا ريب في أن اليهود الآتين من الخارج لا يكون معهم إلا النقود الرائجة في البلاد التي أتوا منها فاحتاجوا أن يبدلوها بالنقود اليهودية المطلوبة وهذا هو الذي اتخذه الصيارفة حجة على جلوسهم هناك ولا بد من أنه كان في ذلك ربح لهم وقسم من ذلك الربح للكهنة.
    نعم إنّ بيع حيوانات الذبيحة جائز وكذا تبديل النقود ولكن ذلك يحرم في دار الهيكل التي هي أرض مقدسة أي موقوفة لعبادة الله.
    ١٥ «فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ ٱلْجَمِيعَ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَٱلْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ ٱلصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ».
    سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ لكي يطرد به البقر والغنم. ولكن الرجال طردهم بالكلام وبظواهر هيبته التي ألقت في قلوبهم الرعب كما في ص ١٨: ٦ ولا بد من أن ضمائرهم وبختهم حتى لم يستطيعوا المقاومة.
    وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ التي كان عليها النقود وفعل ذلك منعاً لهم من مداومة العمل.
    ١٦ «وَقَالَ لِبَاعَةِ ٱلْحَمَامِ: ٱرْفَعُوا هٰذِهِ مِنْ هٰهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ».
    لوقا ٢: ٤٩
    وَقَالَ لِبَاعَةِ ٱلْحَمَامِ لم يقصد المسيح بهذا إكرام باعة الحمام خلافاً لما فعل بباعة الغنم والبقر بل لأنه ما كان يمكنه أن يطرد الحمام كما طرد تلك الحيوانات إلا بخسران أربابها ألزمهم أن يخرجوا بها بأقفاصها بأمر لم يستطيعوا عصيانه.
    بَيْتَ أَبِي كلامه هنا مثل كلامه في لوقا ٢: ٤٩. وقال هذا للباعة على مسامع كل الذين كانوا في الهيكل فحامى به عن حق الله لأنه رفع من هيكله التدنيس وأظهر محبته للآب وغيرته لمجده وعلم الشعب الاعتبار الذي يجب لبيت الله وعبادة الله وأظهر لهم أيضاً أنه أتى المصلح الممحص الذي أنبأ به ملاخي ٣: ١ - ٣ وفي ذلك كله إعلان أنه ابن الله لأنه دعا الله أباه. وأنه المسيح الذي أنبأ به الأنبياء. وقدم نفسه باعتبار هاتين الصفتين لإسرائيل. وهذا الإعلان مع شهادة يوحنا المعمدان له كاف لإيضاح كل دعواه.
    ومن الضروري أن نميز بين تطهير الهيكل الأول الذي ذكره يوحنا هنا والثاني الذي ذكره سائر الإنجيليين (متّى ٢١: ١٢ ومرقس ١١: ١٥ و١٦ ولوقا ١٩: ٤٥) لأن هذا كان في أول خدمته وذاك قبل موته بأربعة أيام. والفرق بينهما أيضاً أن المسيح صنع هنا سوطاً من الحبال وقلب موائد الصيارفة وطرد باعة الحمام بمجرد الكلام ولا شيء من ذلك في المرة الثانية. وكلمات التوبيخ مختلفة بينهما فوبخهم هنا على مجرد التجارة في بيت الله ووبخهم في ذلك على الزور والخطف. ومحادثة المسيح في هذه تختلف عن محادثته إياهم في تلك. ولا دليل على أن تعرضه لهم في هذا الوقت ألغى تلك التجارة. وكان لائقاً بشأنه عندما انتهت خدمته أن يشهد لقداسة الهكيل ويوبخ المدنسين كما لاق به في أولها.
    ١٧ «فَتَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي».
    مزمور ٦٩: ٩
    الكلام هنا مقتبس من مزمور ٦٩: ٩ وهو كتب أولاً بياناً لحال داود النبي فإنه كان في أمور كثيرة رمزاً إلى المسيح وما قاله على نفسه في هذا المزمور نُسب في سبع مواضع من البشائر والرسائل إلى المسيح.
    (١) هنا. (٢) في ص ١٥: ٢٥. (٣) في رومية ١٥: ٣ (٤) في ص ١٩: ٢٨. (٥) في أعمال ١: ٢٠. (٦) في رومية ١١: ٩. (٧) في مرقس ١١: ١٧. ومعناه أن غيظ المسيح على الذين أهانوا بيت أبيه واجتهاده في تطهيره وتمجيد اسم الآب وحزنه على شر المعتدين كانت كنار تتوقد في قلبه وظهرت إمارات وجهه وكلامه وفعله كما يظهر اللهب في الحطب فتلك الغيرة شغلت كل قواه وأفكاره.

    إنباء يسوع بموته وقيامته وهزء اليهود به وإيمان بعضهم ع ١٨ إلى ٢٥


    ١٨ «فَسَأَلَهُ ٱلْيَهُودُ: أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟».
    تثنية ١٣: ١ إلى ٣ و١٨: ٢١ و٢٢ ومتّى ١٢: ٣٨ وص ٦: ٣
    فَسَأَلَهُ ٱلْيَهُودُ ذُكر آنفاً تأثير عمل المسيح وكلامه في الباعة وفي التلاميذ وظهر هنا تأثيره في حراس الهيكل وسائر اليهود من الكهنة والفريسيين ولكن لم يظهر أدنى تأثير في جمهور الشعب بإعلانه بواسطة عمله أنه ابن الله المسيح الموعود به فصحّ قول الإنجيلي «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (ص ١: ١١).
    أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا أي ما المعجزة التي تفعلها إثباتاً لدعواك. وفي سؤالهم هذا أن ليس ليسوع حق الادعاء أنه مصلح إلا بإتيانه إياهم بآية من السماء كما فعل موسى أمام فرعون. فكأنهم قالوا له أنت ليس بكاهن ولا لاوي فإن كنت نبياً فأين آية نبوءتك. فأظهر أنهم لم ينتبهوا لدعواه أنه ابن الله ولو سلموا بذلك ما سألوه آية.
    ١٩ «أَجَابَ يَسُوعُ: ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ».
    متّى ٢٦: ٦١ و٢٧: ٤٠ ومرقس ١٤: ٥٨ و٥: ٢٩
    ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ هذا خبر ونبوءة بصورة الأمر. قصد المسيح أن يجعل كلامه لليهود لغزاً والذي جعله كذلك اتخاذ الهيكل بمعنيين.
    الأول: البناء المعروف أي القدس لا الدار.
    الثاني: جسد المسيح.
    والمعنى المراد لم يظهر لأحد إلا بعد ذلك. فمعنى قوله «انقضوا الهيكل» أي بعد أن تقتلوا جسدي أقيمه. وصحّ أن يسمّى جسده هيكلاً لأنه كان فيه كل «ملء اللاهوت» فهو مسكن الله الحي المقدس الحقيقي. وكان هيكل أورشليم رمزاً إلى المسيح لأنه مسكن الله بين الناس ولكن بما أن يسوع المرموز إليه قد أتى زالت الحاجة إلى ذلك الرمز. ولم يكن المسيح الهيكل فقط بل أعظم من الهكيل أيضاً (متّى ١٢: ٦).
    ولا دليل على أن المسيح أشار بإصبعه إلى نفسه حين قال «هذا الهيكل» ولو فعل ذلك لفهم التلاميذ وسائر اليهود مراده وكونهم لم يفهموا يظهر من ع ٢٠ و٢٢.
    وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ اشار بذلك إلى قيامته فأوقف صحة دعواه على صدق قيامته. فكأنه قال إن قمت فصدقوني وإلا فلا. ولكن إن قمت ولم تصدقوا لم يبق لكم عذر. والكلام هنا كالكلام في متّى ١٢: ٣٩. وقوله أنه يقيم نفسه لا ينفي ما قيل في مواضع أُخر ينسب فيها إقامته إلى الآب وبيان موافقة القولين في ص ١: ١٧ و١٨ وهو أنه أخذ ذلك السلطان من الآب.
    نقض جسد المسيح كان علة نقض هيكل أورشليم ولما قام المسيح قام معه الهيكل الروحي الحقيقي الذي فيه يقدم كل المؤمنين العبادة الروحية المقبولة (١بطرس ٢: ٥ - ٧).
    ٢٠ «فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟».
    هذا ليس استخباراً عن الممكن بل استهزاء به بناء على أنه ادعى المحال.
    فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ الهيكل المذكور هنا ليس هو الهيكل الأول الذي بناه سليمان ولا الثاني الذي بناه زربابل لكن الذي جدده وأصلحه هيرودس الكبير حتى صح أن يسمّى الهيكل الثالث (انظر الشرح متّى ٢١: ١٢). فابتدأ هيرودس الكبير يُصلح الهيكل قبل ميلاد المسيح بنحو ست عشرة سنة وكان المسيح عندما قال ذلك الكلام في سن الثلاثين فيكون قد مر على الهيكل وهو يصلح ستة وأربعون سنة ولم يكمل. واستخدم هيرودس لما أصلحه فيه ثمانية عشر ألف فاعل وأكمل المقدس عينه في سنة ونصف سنة والأبنية حوله في ثمانية سنين بعد ذلك. وظل الترميم والتجديد على قول يوسيفوس المؤرخ جارياً إلى سنة ٦٤ ب. م وتممه حينئذ هيرودس أغريباس الثاني.
    أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ هذا استهزاء وتنبيه على الباطل ومعناه «أيقدر الجليلي الفقير أن يصنع في ثلاثة أيام ما لم يستطع الملوك الأغنياء القادرون أن يكملوه في ست وأربعين سنة». والنتيجة أن دعوة يسوع عندهم باطلة مضحكة.
    ٢١ «وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ».
    ١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩ و٢كورنثوس ٦: ١٦ وكولوسي ٢: ٩ وعبرانيين ٨: ٢
    هذا تفسير يوحنا لقول المسيح في العدد التاسع عشر وقد سبق الكلام عليه.
    ٢٢ «فَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هٰذَا، فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ وَٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ».
    لوقا ٢٤: ٨
    تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ لم يقل يوحنا أن التلاميذ فهموا مراد المسيح حين قال ما سبق لكنه أشار إلى أنهم حفظوا الكلام في قلوبهم وتأملوا فيه ثم فهموا معناه عند تمام النبوءة التي تضمنها ذلك الكلام. وذكر ذلك اليهود أيضاً واتخذوه جزءاً من شكايتهم عليه في مجلس السبعين (متّى ٢٦: ٦١) وكان موضوع هزئهم به وهو معلق على الصليب (متّى ٢٧: ٤٠).
    وكثيراً ما يحدث أن التعليم الديني لا يظهر نفعه في الحال لكنه يكون بعد سنين ذا نفع عظيم. ومثل ذلك أن الصغار يحفظون كثيراً من آيات الكتاب المقدس التي تنفعهم في البلوغ والشبيبة.
    فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ وَٱلْكَلاَمِ الخ أي أنهم تقووا في الإيمان. ولعل المراد «بالكتاب» هنا ليس آية مخصوصة في العهد القديم تنبئ بقيامة المسيح أو قولاً من أقواله المختصة بذلك بل كل ما ذُكر في ذلك العهد في أمر موته وقيامته. ومنه المزمور ١٦ و١٧: ١٥ و٧٣: ٢٣ و٢٤ وإشعياء ٥٣ و٢٦: ١٩ وهوشع ٦: ٢ وقوله في متّى ٢٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٠: ١٧ و١٩.
    ٢٣ «وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِٱسْمِهِ، إِذْ رَأَوُا ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَ».
    آمَنَ كَثِيرُونَ مع أن الرؤساء وأكثر الشعب رفضوه لكن بعضهم قبلوا أنه المسيح واثقين بصحة معجزاته وصدق كلامه ولكن لم يكن إيمانهم روحياً كاملاً كما يتضح مما بعده.
    بِٱسْمِهِ أي كما أعلن باعتبار كونه ابن الله والمسيح.
    إِذْ رَأَوُا ٱلآيَاتِ لم يذكر يوحنا ما هي تلك الآيات ولا كم هي. وكانت عظيمة مشهورة حتى أن نيقوديموس شهد بها بقوله «لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَهُ» (ص ٣: ٢). وشهد الجليليون كذلك (ص ٤: ٤٥). وأما قوله «هذه آية ثانية صنعها يسوع» فلا ينفي أنه صنع آيات كثيرة في اليهودية لأن تلك الآية قُيدت بكونها صُنعت في الجليل.
    ما يحدث للإنسان من الإيمان بمشاهدة المعجزات وبحمله على الحيرة والتعجب والاعتقاد أنها كانت بقوة فوق الطبيعة ليس سوى مقدمة للإيمان الحق الذي ينشئه الروح القدس.
    ٢٤، ٢٥ «٢٤ لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. ٢٥ وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ».
    ١صموئيل ١٦: ٧ و١أيام ٢٨: ٩ ومتّى ٩: ٤ ومرقس ٢: ٨ وص ٦: ٦٤ و١٦: ٣٠ وأعمال ١: ٢٤ ورؤيا ٢: ٢٣
    لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ أي لم يصدق صحة إيمانهم ولم يحسبهم تلاميذ ثابتين نعم إنّ عقولهم اقتنعت بمشاهدتهم الآيات بأنه نبي الله لكنهم لم يقبلوا تعاليمه في قلوبهم ويتجددوا.
    لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ بمعرفته الإلهية التي استطاع بها أن يعرف نثنائيل (ص ١: ٤٧). وتذمرات الفريسيين بقلوبهم ونية يهوذا الاسخريوطي. والمضمون هنا أن المسيح عرف أنهم سيتغيرون وأنهم مستعدون أن يتركوه وقت الخوف واستهزاء اليهود به.
    لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ هذا تكرير لمعنى العدد السابق بتغيير اللفظ. والمعنى أن معرفته غنية عن الوسائل التي يتخذها الناس ليعرف بعضهم بعضاً فهو يعلم كل شيء لأنه الله (ص ١: ١) وفحص القلوب من الصفات المختصة بالله (إرميا ١٧: ١٠).


    الأصحاح الثالث


    محاورة يسوع لنيقوديموس ع ١ إلى ٢١


    ١ «كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ».
    مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم فرقة من اليهود ادعوا زيادة تقواهم على تقوى الناس وحفظهم كل وصايا الشريعة وتقاليد الشيوخ بتدقيق وأكثر هذه الفرقة قاوم المسيح في كل خدمته أشد مقاومة.
    نِيقُودِيمُوسُ هذا الاسم يوناني لكنه كان شائعاً بين اليهود في ذلك العصر. وذُكر مرتين غير هذه في هذا الإنجيل (ص ٧: ٥٠ و١٩: ٣٠).
    رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ من مجلس السبعين فإن بعض أعضاء ذلك المجلس كان من الكهنة وبعضه من العامة (ص ٧: ٥٠).
    ٢ «هٰذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَه».
    ص ٧: ٥٠ و١٢: ٤٢ و١٩: ٣٩ ص ٩: ١٦ و٣٣ وأعمال ٢: ٢٢ و١٠: ٣٨
    جَاءَ إِلَى يَسُوعَ نعلم من معاملة المسيح له أنه لم يأت جاسوساً ولا مرائياً ولا طالب الخلاص لكنه سمع بشهادة يوحنا المعمدان له للجنة التي أرسلها المجلس وبمعجزات يسوع وأعماله في الهيكل ودعواه وتحقق أنه مُرسل من الله وتوقع أن يتعلم منه أموراً جديدة.
    لَيْلاً قصد نيقوديموس أن يأتي إلى يسوع ليلاً فلم يكن اتفاقاً لأنه كان كلما ذُكر اسمه يُذكر معه أنه جاء إلى يسوع ليلاً (ص ٧: ٥٠ و١٩: ٣٩). وسبب ذلك إما الخوف من أصحابه في المجلس أن يعتبروه من تلاميذ يسوع ويعاتبوه على ذلك وإما الحياء من الشعب.
    يَا مُعَلِّمُ هو ترجمة «ربي» وقد مر الكلام عليه في ص ١: ٣٨. فأظهر له بذلك إكراماً عظيماً لأن هذا اللقب لم يكونوا يلقبون به أحداً إلا من تعلم في المدارس ولم يكن يسوع كذلك ص ٧: ١٥.
    أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً عرف ذلك من أنه لم يكن له من معلم أرضي ومن الآيات التي صنعها ص ٢: ٢٣. فحكم بأنه يقدر لكونه نبياً على إجابته على مسائل كثيرة في الدين عسرت عليه.
    لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَهُ حكمه بذلك صواب لأن الله لا يسمح لخادع بقوة على صنع معجزة حقيقية لإثبات الكذب بها. نعم إنّ الأنبياء الكذبة كانوا يأتون بعض الغرائب كسحرة مصر لكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا مثل ما فعل يسوع. ومراد نيقوديموس بما في آخر هذه العبارة أن الله كان مع يسوع كما كان مع إبراهيم ويوسف ودانيال وهذا دون ما كان يستحقه المسيح وما دلت عليها المعجزات التي صنعها. وقول نيقوديموس «نعلم» يشير إلى أنه حاور جماعة من رفقائه في المجلس وأنهم سلموا له بما قاله هنا. ولا بد من أن نيقوديموس قصد بكلامه المدح والتعظيم ليسوع وأن يكون كلامه مقدمة لما أراده من المسائل.
    ٣ «فَقَالَ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰه».
    ص ١: ١٣ وغلاطية ٦: ١٥ وأفسس ٥: ٢٦ وتيطس ٣: ٥ ويعقوب ١: ١٨ و١بطرس ١: ٢٣ و١يوحنا ٣: ٩
    فَقَالَ يَسُوعُ لم يسأله نيقوديموس شيئاً عما كان كلام المسيح جواباً له لأنه إجابة على أمر كان قد قصد أن يسأله إياه. ولعل نيقوديموس كان يقصد أن يسأل يسوع عن رأيه في شأن ملكوت المسيح.
    ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ هذا يشير إلى تيقن المتكلم ما يقوله وإلى سلطانه وأهمية الموضوع.
    إِنْ كَانَ أَحَدٌ يهودياً أو غير يهودي.
    لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ أشار بذلك إلى الولادة الجديدة الروحية فهو مثل قوله «الذين ولدوا... من الله» (ص ١: ١٣) ومثل ما في (١يوحنا ٢: ٢٩ و٣: ٩). وبيّن ضرورية تغير قلب الإنسان الخاطئ تغيراً عظيماً كاملاً مستمراً كأنه وُلد ثانية ويحدث ذلك عندما يتوب ويؤمن.
    لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ مرّ الكلام على معنى ملكوت الله في الشرح متّى ٣: ٢. وقوله «يرى» بمعنى يدخل كما يظهر من ع ٥. وبما ان ملكوت الله ملكوت روحي كان الذين يدخلونه محتاجين إلى الولادة الروحية. فرؤية الملكوت الروحي تتوقف على وجود الحياة الروحية وهذه تتوقف على الولادة الروحية. وتعليم هذه الولادة من أعظم مبادئ دين المسيح الأساسية. وصرح المسيح بأنها ضرورية لكل إنسان بلا استثناء من عالٍ أو دون أو خاطئ أو بار في عيون الناس. وعلة ذلك أن الطبيعة البشرية قد فسدت منذ سقوط آدم فلا يخلص إلا من وُلد ثانية من الروح القدس.
    وظن نيقوديموس كسائر اليهود أن ملكوت الله خارجي زمني دنيوي. وأن لكل يهودي حقاً أن يدخله بناء على أنه ابن إبراهيم. ولكن المسيح علمه أن تلك الولادة الطبيعية لا تنفع اليهود شيئاً وأن الذي يحتاجون إليه هو الولادة الجديدة.
    وهذا التلعيم ذُكر في العهد القديم أيضاً (تثنية ١٠: ١٦ وإرميا ٤: ٤ و٣٠: ٣٣ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٥). وعبّر عنه أيضاً بالخليقة الجديدة (٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥) و «بالقيامة من الأموات» (يوحنا ٥: ٢٤ وأفسس ٢: ١).
    وكان من عادة المسيح أن يخاطب كل إنسان حسب استعداده إلى قبول تعليمه. مثال ذلك أمره للرئيس الغني المتكل على غناه أن يبيع ما له ويوزعه على الفقراء (لوقا ١٨: ٢٢). وللجموع الطالبة الخبز بقوله «اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (ص ٦: ٢٧). وللمرأة السامرية التي أتت لتستقي ماء بأن تستقي الماء الحي (ص ٤: ١٠). ولهذا الفريسي المتكل لتبريره على أنه ابن إبراهيم بأن «يولد من فوق». وخاطبه المسيح بهذا الكلام لكي ينفي أفكاره الدنيوية الزمنية في شأن ملكوت المسيح. فحقق له أن ملكه روحي لا زمني. وان غايته لم تكن الانتصار على الرومانيين بل على الطبيعة البشرية الفاسدة ونجاة النفس من رق الشيطان لا اليهود من رق قيصر. وعلمه أيضاً أن هذا الملكوت ليس لليهود خاصة بل للناس المتجددي القلوب من كل أمة.
    ٤ «قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ ٱلْإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟».
    في جواب نيقوديموس إشارة إلى التعجب والحيرة وطلب زيادة الإيضاح لأن الولادة الثانية على ظاهر معناها محال. نعم إنّه يصعب علينا تصديق أن معلماً لاهوتياً عالماً مشهوراً لا يفهم من كلام المسيح إلا ظاهر المعنى الجسدي أي الولادة الطبيعية ويغفل عن المعنى الروحي الذي قصده المسيح من أن تعليم تجديد القلب من تعاليم العهد القديم التي عرفها نيقوديموس ودرسها وعلمها (مزمور ٥١: ١٠ و٨٦: ١١ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٦).لكن نعلم أنه يصعب على القلب الطبيعي أن يدرك الحقائق الروحية. فالمرأة السامرية لم تفهم مراد المسيح «بالماء الحي» والتلاميذ لم يفهموا ما عناه المسيح «بخمير الفريسيين» ويهود كفرناحوم لم يفهموا ما قصد المسيح «بالخبز النازل من السماء». على أن تعليم الولادة الجديدة لم يزل إلى اليوم من أصعب الحقائق على القلب البشري. ولا دليل على أن نيقوديموس حمل كلام المسيح على نفسه أي أنه هو يجب أن يولد ثانية. ولعله قصد ما معناه أن مثل ذلك التغير الأدبي العظيم الذي أشار إليه المسيح يستحيل على البالغ الذي اعتاد الشر كما يستحيل على الشيخ أن يولد ثانية ولادة طبيعية.
    ٥ «أَجَابَ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
    مرقس ١٦: ١٦ وأعمال ٢: ٣٨
    ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ كرره بياناً لأهمية الكلام وسلطان المتكلم.
    لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ هذا تكرير لقوله «لا يولد من فوق» مع شيء من التفسير. ولم يشر المسيح هنا إلى ولادتين ولادة الماء وولادة من الروح لأنهما ولادة واحدة فالأولى رمزية والأخرى حقيقية وقُدمت الرمزية تمهيداً لفهم الثانية. والمعنى أن الولادة من فوق هي الولادة من الروح القدس الذي يطهر القلب كما يطهر الماء الجسد. وكثيراً ما أُشير بالماء في العهد القديم إلى تطهير القلب من الخطيئة (مزمور ٥١: ٢ وإشعياء ٥٣: ١٥ وحزقيال ٣٦: ٢٥ وزكريا ١٣: ١).
    وقد ورد مثل هذا أي ذكر الرمز والمرموز معاً في قول يوحنا المعمدان في المسيح «هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» وهذه العبارة بمعنى العبارة التي نحن في شرحها إلا أنه فيها النار بدل الماء وكلاهما رمز إلى التطهير. وعدم ذكر الماء في الآية الثامنة إشارة إلى كون الولادة من الروح هو الأمر الجوهري. والأرجح أنه ليس هنا من إشارة إلى وجوب المعمودية على أن الكتاب نص على وجوبها في عدة أماكن غير هذا. ولو سلمنا بأن المعمودية مشار إليها هنا لوجب أن يخلص كل من اعتمد وأن يهلك كل من لم يعتمد وهذا خلاف تعاليم الكتاب الصريحة. وخلاصة ما عناه المسيح هنا هو أنه كما يتطهر جسد الإنسان بالماء كذلك يجب أن تتطهر نفسه وتتجدد بالروح القدس.
    لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ الخ هذا تفسير لقوله «لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» ع ٣ ومعناه أنه لا شركة له في بركات ذلك الملكوت.
    ٦ «اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ هُوَ رُوحٌ».
    ذكّر المسيح نيقوديموس بما كان قد تحققه من المماثلة الطبيعية بين الوالد والمولود ليحقق له لزوم الولادة الروحية لأن كل والد حي يلد مثله. ومعنى «الجسد» هنا البشر أو الإنسان في الحال التي وُلد عليها من الضعف والفساد. فالإنسان الخاطئ الفاسد لا يستطيع أن يلد إلا من كان مثله في الخطيئة والفساد (تكوين ٥: ٣ وأيوب ١٤: ٤). فإذن كل من ولدوا من البشر فاسدون لا يستحقون أن يدخلوا ملكوت الله. ولو وُلد الشيخ ثانية من أمه كما قال نيقوديموس لوُلد خاطئاً دنيوياً فإذاً من المحال أن تتوقع وجود الحياة الروحية في مصدر أرضي. ولا يدخل المسيح تحت قوله «المولود من الجسد جسد هو» لأنه وُلد من مريم ولادة خارقة الطبيعة بفعل روح الله. نعم إنّه «صَارَ جَسَداً» (ص ١: ١٤) لكنه لم يشارك الجسد في الخطيئة (٢كورنثوس ٥: ٢١).
    وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ الخ الروح السماوي مصدر كل حياة روحية وهو المصدر الوحيد لذلك. فالإنسان الذي استمد حياة جديدة من الروح هو روحي ويستطيع أن يدرك الأمور الروحية ويشترك في البركات الروحية ويقدر على الأعمال الروحية كالمحبة والإيمان والطاعة والمشابهة لله الطاهر القدوس (غلاطية ٥: ٢٢ و٢٣).
    ولم يذكر المسيح هنا وجوب الولادة من الماء وهذا دليل على أن الأمر الجوهري هو الولادة الروحية التي التطهير بالماء رمز إليها.
    ٧، ٨ «٧ لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. ٨ اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوح».
    جامعة ١١: ٥ و ١كورنثوس ٢: ١١
    لاَ تَتَعَجَّبْ عرف المسيح أفكار نيقوديموس مما ظهر من هيئته وكلامه أي علم من ذلك أنه لم يقتصر على التعجب بل كان على وشك أن يرفض ذلك التعليم كأمر يجاوز التصديق البشري ومما لا يُدرك. اعترض نيقوديموس على تعليم المسيح الولادة الجديدة بقوله «كيف يمكن أن يكون» فأخذ يسوع يبيّن له أنه يصدق أموراً غير هذا الأمر عسرة الوقوع مثله فلا حق له أن يرفض ذلك التعليم لهذا السبب.
    اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ شبّه سابقاً فعل الروح بالماء وشبهه هنا بالريح. لا أحد يقدر أن يرى الريح أو أن يخبر بمصدرها أو غايتها وهي غير خاضعة لأمره لكنه مع ذلك لم ينكر وجودها عندما يسمع صوتها. فأوجب المسيح بذلك على نيقوديموس أن لا ينكر حضور الروح القدس وفعله في قلب الإنسان لأنه لا يراه ولا يعرف كيف يعمل.
    والمشابهة هنا أو وجود الريح وقوتها يعرفان من فعلها كذلك وجود الروح القدس وقوته يعرفان بفعله وهو ما يحدثه من التغيير في قلب الإنسان وأعماله كما كان لشاول الطرسوسي المضطهد فإن المسيح شهد له بقوله «هوذا يصلي» (أعمال ٩: ١١). وكما كان للوثنيين في أفسس من أنهم آمنوا بالمسيح وأحرقوا كتبهم السحرية الثمينة (أعمال ١٩: ١٩).
    هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ يشبه فعل الريح فعل الروح في ثلاثة أمور:

    • أولاً: أن «الريح تهب حيث تشاء» والروح يفعل حيث يريد أي أنه حر مستقل بأعماله.
    • ثانياً: أن الريح تأتي وتذهب غير منظورة والروح يفعل في قلب الإنسان فعلاً سريّاً لا يدركه إلا من يفعل هو فيه.
    • ثالثاً: أن قوة الريح عظيمة لا تقاوم وقوة الروح في تغيير الأفراد والجماعات لا تُحصى ولا تُحدّ.


    ٩ «فَسَأَلَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟».
    ص ٦: ٥٢ و٦٠
    كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يُظهر هذا السؤال قدر صعوبة إدراك العقل البشري للحقائق الروحية. والفرق بين سؤال نيقوديموس هنا وسؤاله في العدد الرابع أن السؤال الأول يتضمن رفض تعليم الولادة الجديدة بناء على كونه محالاً كولادة الشيخ ثانية. والسؤال هنا يتضمن عدم قبوله ذلك التعليم بناء على أنه غريب مخالف لما اعتاده هو. وهذا ظاهر من قول المسيح «وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا... وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ» (ع ١١ و١٢).
    آراء نيقوديموس الفريسية منعته من إدراك كل معنى المسيح الروحي وحملته على أن ينفر مما فهمه منه. ولا ريب أنه في هذا السؤال طلب إلى المسيح زيادة إيضاح معناه كأنه لا يريد التسليم بشيء ما لم يدركه كل الإدراك. كذا عادة الناس أبداً أن يطلبوا إيضاحاً في الدين لا يطلبونه في العلوم الطبيعية لأنهم لا ينكرون المعلومات لتعلقها ببعض المجهولات.
    هٰذَا أي ما قاله المسيح في حقيقة الولادة الجديدة ووجوبها.
    ١٠ «أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هٰذَا!».
    لم يجب المسيح نيقوديموس على سؤاله في الحال لكنه وبخه أولاً على جهله ثم أتى بالجواب في العدد الرابع عشر وهو الإيمان بالمسيح.
    وتضمن كلام المسيح أنه كان على نيقوديموس أن يفهم تعليم الولادة الجديدة لأنه معلم ديني للشعب وقد درس أسفار العهد القديم وأدعى معرفة حقيقتها وذلك التعليم فيه على غاية الإيضاح (مزمور ٥١: ١٠ وإرميا ٤: ٤ وحزقيال ١٨: ٣١ و٣٦: ٢٦) فاستحق اللوم على جهله ذلك. وهكذا كثيرون يقرأون الكتب المقدسة كل أيام الحياة وبعضهم يعلمونها وهم لا يدركون حقائقها لأنه لا يقبلونها كالأولاد ولا يطلبون تعليم الروح. وكثيرون من أرباب العلوم والفلسفة يجهلون مبادئ الدين المسيحي.
    ١١ «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا، وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا».
    متّى ١١: ٢٧ وص ١: ١٨ و٧: ١٦ و٨: ٢٣ و١٢: ٤٩ و١٤: ٢٤، ع ٣٢
    نَتَكَلَّمُ عبّر المسيح هنا عن نفسه بصيغة الجمع كما في مرقس ٤: ٣٠. فيحتمل أنه جمع معه الآب والروح ولعله جمع معه كل من وُلدوا ثانية وتعلموا من الروح.
    بِمَا نَعْلَمُ حقق لنيقوديموس أنه تكلم بسلطان ويقين وأنه يعلم حقائق عرفها منذ الأزل لا كسائر الأنبياء الذين تكلموا بما تعلموا ولا كالكتبة الذين علموا تقاليد الناس.
    وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا لم يشر بذلك إلى مجرد ما قاله لنيقوديموس في ذلك الوقت بل إلى كل تعليمه علناً في اليهودية. ومعناه أنكم أيها الفريسيون ترفضون شهادتي مع أني أثبتها بالمعجزات.
    ١٢ «إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ ٱلأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ؟».
    حقق له يسوع أن لا نفع له من أن يعلمه حقائق الدين السامية ما لم يقبل مبادئه البسيطة.
    ٱلأَرْضِيَّاتِ أي التعاليم المتعلقة بالولادة الجديدة وفعل الروح القدس في قلب الإنسان. وسُميت «أرضيات» لوجوب حدوثها على الأرض ولأن نتائجها ظاهرة هنا. فجيب أن يختبرها كل إنسان في هذه الحياة وهي مما يستطيع العقل البشري أن يحكم بها أي بأنه هل حصل عليها الإنسان أو لا. وهي مما تشبه بالاشياء الأرضية كالماء والريح. وذهب بعضهم أن المسيح أشار بالأرضيات إلى كل تعاليمه التي أعلنها لليهود منذ بدء خدمته كوجوب التوبة وحقيقة ملكوته الجديد وتجديد القلب وقداسة السيرة. وكل هذه الأمور أُعلنت قبلاً في أسفار العهد القديم وصارت من المسلمات المحققة عند أهل الأرض.
    وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ أظهر نيقوديموس عدم إيمانه بقوله «كيف يكمن أن يكون هذا» وأظهر اليهود عدم إيمانهم برفضهم تعاليم المسيح.
    ٱلسَّمَاوِيَّاتِ أي الحقائق التي لا يستطيع العقل التوصل إليها ولا الحكم بمجرد قواه. ولم تُعلن إلا بالوحي وهي مما يُقبل بالإيمان. ولعل المسيح قصد بها المواضيع التي أتى نيقوديموس يسأل عنها من جهة ملكوت الله والمسيح المنتظر أو سؤال نيقوديموس في ع ٤ و٩ عن كيفية عمل الروح أي تجديده للقلب وعلة أنه ينتخب البعض ويترك الآخر وهي مما يختص بقضاء الله في السماء (تثنية ٢٩: ٢٩). والأرجح أن مراد المسيح «بالسماويات» الأمور التي قصد بيانها في ع ١٤ و١٥ وهي لاهوته وكون الفداء بموته على الصليب ومحبة الله لكل العالم وكون الإيمان به شرط الخلاص ودينونة الذين لا يؤمنون.
    ١٣ «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ».
    أمثال ٣٠: ٤ وص ٦: ٣٣ و٣٨ و٥١ و٦٢ و١٦: ٢٨ وأعمال ٢: ٣٤ و ١كورنثوس ١٥: ٤٧ وأفسس ٤: ٩ و١٠، ص ١: ١٨
    أكد المسيح لنيقوديموس أنه لا يقدر أحد أن يعلن له هذه السماويات إلا هو. وأبان أنه هو المعلن الإلهي للحقائق السماوية.
    لَيْسَ أَحَدٌ أي لا أحد ممن هم الآن على الأرض.
    صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ ثم هبط إلى الأرض لينبئ الناس بما شاهده هناك. فإذن لا أحد من الناس يقدر أن يعلن أسرار السماء وحقائقها مما عاينه وسمعه إلا المسيح.
    ولا إشارة في ذلك إلى الذين ماتوا بالإيمان وصعدوا إلى السماء بأرواحهم كإبراهيم وإسحاق ويعقوب أو إلى من انتقل إلى السماء بالجسد كأخنوخ وإيليا (تكوين ٥: ٢٤ و٢ملوك ٢: ١١) إنما أشار إلى الباقين على الأرض الذين يمكننا أن نسألهم عن الحقائق السماوية.
    إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي المسيح وهو لم يكن قد صعد بالجسد لكن لكونه ابن الله كما أنه ابن الإنسان لا يحتاج أن يصعد كأحد الناس ليعلم أمور السماء ويخبر بها أهل الأرض. والمعنى أنه كان يعلم ما لم يعلمه أحد من الناس إلا بالصعود من الأرض إلى السماء. فقوله «ابن الإنسان الذي هو في السماء» يتضمن كل ما يقتضي الصعود. وهذه الآية تثبت أزلية المسيح وطبيعته الإلهية. وهو يمتاز عن كل الذين أعلنوا ما لله من الآباء الأقدمين والأنبياء والرسل بأنه الساكن العُلى منذ الأزل وأتى الأرض لكي يعلم الناس ويخلصهم. وكثيراً ما يُنسب إلى المسيح أنه نزل من السماء كقوله «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى ٱلْعَالَمِ» (ص ١٦: ٢٨). ومثله ما في (ص ٦: ٣٣ و٣٨).
    ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ أي الكلمة الذي صار جسداً (ص ١: ١٤ و٥١).
    ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ هذا مثل قول البشير «اَلاَبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ» (ص ١: ١٨) وفي ذلك زيادة على كون المسيح نزل من السماء أنه كان يسكن بالروح في السماء مع أبيه في كل المدة التي كان فيها بين الناس بالجسد. وهو تصريح بلاهوت المسيح واحد «السماويات» التي لم يؤمن اليهود بها ع ١٢ أي أن ابن الإنسان وهو على الأرض يخاطب الناس هو في السماء أيضاً. لأنه ابن الله فهو يملأ الكون السموات والأرض في وقت واحد (ص ١: ١ و٦: ٦٢ و١٧: ٥) وله حياتان متوازيتان حياة في الجسد على الأرض وحياة مع الآب في السماء وله طبيعتان متميزتان إحداهما إلهية والثانية إنسانية ومع ذلك ليس هو سوى أقنوم واحد.
    وخلاصة ما قصده المسيح من إفادة نيقوديموس في هذا العدد هي أنه إذا أراد أن يعلم الأمور السماوية فليتعلم منه إذ لا يستطيع أن يتعلم من غيره.
    ١٤ «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ».
    عدد ٢١: ٩ ص ٨: ٢٨ و١٢: ٣٢
    أعلن يسوع لنيقوديموس في هذه الآية الأمر الثاني من السماويات وهو أن المسيح معيّنٌ للآلام والموت. وتخليص الناس لا بارتفاعه على عرش المجد والسلطان بل على الصليب. وفي كل ذلك إعلان عجيب لمحبة الله العالم.
    كَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ عدد ٢١: ٦ - ٩. رُفعت الحية النحاسية على راية كانت في معسكر إسرائيل حيث يراها كل من أراد أو كانت تُحمل فيه وتُعرض على عيون كل الإسرائيليين. وحفظها بنو إسرائيل وهم يجولون في البرية وأتوا بها إلى الأرض المقدسة ثم اتخذوها وثناً وعبدوها فكسرها حزقيا الملك (٢ملوك ١٨: ٤).
    فِي ٱلْبَرِّيَّةِ تجاه جبال أدوم وهي برية التيه أو فاران جنوبي جبل هور.
    هٰكَذَا يَنْبَغِي لكي يوفي مطاليب شريعة الله والعدل حقه بمقتضى قضاء الله الأزلي ونبوءات الكتاب المقدس لأنه لا نعلم غير موت المسيح طريقاً يكون بها الله باراً ويبرر الخاطئ (رومية ٣: ٢٦). وقد أكد الكتاب أيضاً أنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين ٩: ٢٢) (انظر أيضاً لاويين ١٧: ١١ ولوقا ٢٤: ٢٦ و٢٧ و٤٦).
    أَنْ يُرْفَعَ على الصليب ليموت بالآلام والهوان كما تبيّن في ص ٢: ٣٣ و٣٤. وأشار المسيح إلى ذلك أيضاً في ص ٨: ٢٨. فانتظر نيقوديموس أن يُرفع المسيح على العرش الملكي باحتفال وقوة ومجد لكن المسيح صرّح له أنه ينبغي أن يُرفع أولاً على صليب العار ثم يُرفع بذلك ملكاً ومخلصاً على عرش المجد السماوي (أعمال ٤: ٣٠ و٣١ وفيلبي ٢: ٨ و٩ وعبرانيين ٢: ٩).
    صُوِّرت الحيّة النحاسية على صورة الحيّات السامة لكنها لم تكن سامة فكذلك أتى المسيح في صورة الجسد الخاطئ لكنه كان بلا خطية (رومية ٨: ٣ و٢كورنثوس ٥: ٢١ و١بطرس ٢: ٢٢ و٢٤). وعُومل كما يعامل الخاطئ ليفدي الخطاة. ومعنى هذه الآية كمعنى قول المعمدان في المسيح «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (ص ١: ٢٩).
    ١٥ «لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ».
    ع ٣٦ وص ٦: ٤٧
    في هذا العدد بيان علة رفع يسوع على الصليب والطريق التي بها يكون المسيح المصلوب واسطة الخلاص وذلك لا لمجرد كونه مصلوباً بل لكونه موضوع الإيمان أيضاً. وكما أنه لم يكن سبيل إلى شفاء الذين لدغتهم الحيّات من الإسرائيليين إلا نظرهم إلى الحيّة النحاسية كذلك لا طريق للخطأة إلى نوال الحياة الأبدية إلا الإيمان بيسوع المسيح مصلوباً.
    كُلُّ مَنْ هذا يعم كل البشر بلا استثناء فالخلاص بالإيمان بالمسيح معروض على كل نسل آدم الساقط.
    يُؤْمِنُ بِهِ الإيمان المراد هنا ليس مجرد تصديق العقل وجود المسيح ولاهوته وموته من أجل الخطأة بل قبوله بالقلب والإرادة والاتكال عليه مخلصاً وحيداً كافياً وتسليم النفس إلى يديه لأجل الخلاص (أعمال ١٦: ٣١ وعبرانيين ١٢: ٢).
    لحظة عين خلصت إسرائيلياً ملدوغاً من الموت الجسدي ولحظة إيمان تُخلص نفس الخاطئ من الموت الأبدي وفي الأمرين كليهما الشرط الوحيد هو النظر (عدد ٦١: ٩ وإشعياء ٤٥: ٢٢).
    لاَ يَهْلِكَ أي لا يقاسي القصاص على خطيئته في جهنم.
    بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ هذا يتضمن زيادة على نجاة الأثيم من الهلاك رضى الله والقداسة والسعادة الكاملتين الدائمتين في السماء وأن يُحسب باراً ويُجعَل وارثاً لمجد السماء وغناها.
    ١٦ «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ».
    رومية ٥: ٨ و١يوحنا ٤: ٩
    هذه الآية إنجيل مختصر.
    هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰه أعلن المسيح هنا أن أصل الفداء محبة الله فالإنسان مع أنه أثيم مستحق غضب الله لم تكن إحساسات الله من جهته إحساسات الغضب والانتقام بل عواطف المحبة. وجاء مثل هذا في ٢يوحنا ٤: ٧ - ١١. والمحبة هنا ليست محبة الرضى والمسرة كمحبة الله لسكان السماء بل محبة الحنو والشفقة على الذين هم عرضة للهلاك الأبدي ولا ملجأ لهم والرغبة في إنقاذهم ومباركتهم.
    ٱلْعَالَمَ لا الملائكة فقط والمختارين ولا الأمة اليهودية فقط كما زعم نيقوديموس كسائر اليهود أن المسيح لهم دون غيرهم وأن رحمة الله مختصة بهم بل كل نسل آدم. وجاء «العالم» بهذا المعنى أيضاً في (ص ١: ١٠ و٢٩ و٦: ٣٣ و٥١ و٨: ١٢ ورومية ٣: ١٩ و٢كورنثوس ٥: ١٩ و١تيموثاوس ٢: ٤ وعبرانيين ٢: ٩ و٢بطرس ٣: ٩ و١يوحنا ٢: ٢ و٤: ١٤). وهذه الحقيقة من «الحقائق السماوية» التي صعب على اليهود التسليم بها وهي أن محبة الله تعمّ الأمم كما تعمّ اليهود وأن المسيح مخلص للجميع.
    حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ هذا مقياس محبة الله لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل عنه لا العالم أو الملائكة بل أفضل موهبة في السماء وهي ابنه الوحيد يسوع المسيح فهو «عطية الله» (ص ٤: ١٠) و «عَطِيَّتِهِ ٱلَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا» (٢كورنثوس ٩: ١٥). وسمي المسيح عطية لأنه قُدّم لنا مجاناً إذ ليس لأحد حق فيه ولا يستطيع أن يثيبه على عمله. ولا يخفى ما في تقديم تلك العطية من إنكار الذات والنفقة العظيمة.
    والله بذل ابنه لا ليملك باحتفال ويُكرم ويُمدح من الناس بل ليكون مهاناً مرذولاً ولا يُسخر به مصلوباً وميتاً لفداء البشر (رومية ٤: ٢٥ و٨: ٣٢). وعلة عطية المسيح للعالم ليست محبة العالم لله بل محبة الله للعالم.
    سمّى المسيح نفسه في هذه الآية «ابن الله»: وسمّى نفسه في الآية التي قبلها «ابن الإنسان» لكي يعلم نيقوديموس أنه ذو طبيعتين. وقد مر الكلام على معنى كون المسيح ابن الله في الشرح ص ١: ١٤. وذهب البعض أن في هذا العدد تلميح إلى ما أتاه إبراهيم فإنه كان مستعداً لبذل ابنه الوحيد إسحاق طوعاً لأمر الله وأظهر بذلك محبته لله (تكوين ص ٢٢) فالله أعطى الإنسان الخاطئ أكثر مما رضي تعالى أن إبراهيم يعطيه.
    كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ جاء في تفسير هذه في الآية السابقة. الله أحب العالم كله لكن الذين يستفيدون من تلك المحبة هم المؤمنون فإنه لا ينال الخلاص الذي أعده إلا هم. إنّ الله فعل كل ما اقتضاه خلاص البشر ببذل ابنه والابن فعل كل ما اقتضى ذلك بموته على الصليب من أجلهم فبقي على الناس أن يفعلوا ما عليهم وهو أن يؤمنوا بيسوع مصلوباً فالإيمان بيسوع هو الشرط الوحيد لنوال كل فوائد «عطية الله التي لا يُعبر عنها».
    بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ هذا المقصود من عطية الله وهو خلاص الهالكين.
    ١٧ «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَم».
    لوقا ٩: ٥٦ وص ٥: ٤٥ و٨: ١٥ و١٢: ٤٧ و١يوحنا ٤: ١٤
    بيّن المسيح في هذه الآية حقيقة أخرى «من الحقائق السماوية» وهي غاية مجيء المسيح. زعم نيقوديموس أن غايته دينونة أكثر العالم أي جميع الأمم ولا سيما الرومانيين.
    لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ استحق العالم الدينونة فكان من الحق والعدل لو أرسل الله ابنه ليدينه لكنه اختار أن يظهر رحمته للخطاة بإرساله ليعد له الخلاص.
    وما قيل هنا لا ينفي أن تكون غاية المسيح من مجيئه الثاني أن يدين غير المؤمنين كما أُعلن في ص ٥: ٢٢ و٢٧ وأعمال ١٧: ٣١ و٢كورنثوس ٥: ١٠ بل يبيّن علّة مجيئه الأول وهو إتيانه للخلاص لا كما ظن نيقوديموس أنها إنقاذ اليهود من عبودية الرومانيين بل إنقاذ العالم من عبودية الشيطان والإثم والموت.
    بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ بشرط أن يؤمن العالم به. ولعل سبب قوله «ليخلص به العالم» بدل على أن يقول «ليخلص العالم» يبيّن أنه على العالم مسؤولية الإيمان لتحصيل الخلاص.
    ١٨ «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيد».
    ص ٥: ٢٤ و٦: ٤٠ و٤٧ و٢٠: ٣١
    تفيد هذه الآية أن مجيء المسيح وإن لم تكن غايته الدينونة يستلزم دينونة بعض الناس. وهي تقسم العالم إلى شطرين المذنبين والمبررين وذلك باختيارهما رفض المسيح أو قبوله.
    اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ هذا مثل ما قيل في ص ٥: ٢٤ ورومية ٨: ١. ومعنى «لا يُدان» أنه بُرر لأجل المسيح وانتقل من الموت إلى الحياة (١يوحنا ٣: ١٤) وغُفرت خطاياه واُنقذ من لعنة الناموس ويحصل على كل ذلك عندما يؤمن.
    ٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ الكلام هنا ليس على دينونة مستقبلة بل على دينونة حاضرة. وهذه الدينونة قد جلبها الخاطئ على نفسه بخطاياه والحاكم عليه بتلك الدينونة ضميره وشريعة الله. فلا حاجة إلى إتيان المسيح ليدينه دينونة أخرى فهو باق في الحال الأصلية لعدم إيمانه كأن المسيح لم يمت وهالك بآثامه. وبما أن الحاكم الأول ثابت عليه وهو «أن النفس التي تخطئ تموت» لا تبقى حاجة إلى حكم ثانٍ ودينونة ثانية.
    لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ أي لأنه لم يستفد من الطريق الوحيد الذي أعده الله للنجاة. فيكون كالإسرائيلي الملدوغ الذي أبى أن ينظر إلى الحية النحاسية. ويكون فوق ذلك قد استهان بنعمة الله فزاد إثماً على إثمٍ (عبرانيين ١٠: ٢٩) ولا خطية تضر النفس مثل الكفر بالنعمة.
    بِٱسْمِ أي بكل ما تُعلن به صفاته وأعماله. وأحد تلك الأسماء «يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متّى ١: ٢١).
    ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ ليس لله ابن آخر ليأتي للخلاص إذا رُفض هذا. وتسميته «بالوحيد» تشير إلى عظمته واعتبار الآب إياه. فعلى قدر عظمة المسيح تعظم خطيئة من لم يؤمن به.
    وبمقتضى نص هذه الآية أن الإنسان الذي يدان لا حق له في أن يلوم آدم على ذلك أو أن ينسب دينونته إلى الخطية الأصلية إنما يجب عليه أن يلوم نفسه لأنه لم يؤمن بالمسيح الذي يرفع الخطيئة وينجو به من كل دينونة.
    ١٩ «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً».
    ص ١: ٤ و٩ و١٠ و١١ و٨: ١٢
    هذه الآية تفيدنا أن الناس يدينون أنفسهم برفضهم المسيح.
    وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ أي علة الدينونة وذلك لأنها أظهرت أحوال قلوبهم من صالحة وطالحة بمعاملتهم للمسيح ودينه.
    إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ أي المسيح (ص ١: ٧) لأنه أعلن طريق الخلاص وأشرق به نور الإنجيل (متّى ٤: ١٦ وإشعياء ٩: ٢ و٦٠: ١).
    وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ الظلمة هنا مستعارة للخطية والضلال وكل ما هو مضاد للحق. فالناس لا يهلكون لجهلهم الحق بل لرفضهم إياه اختياراً ولم يضلوا لعدم النور بل لمحبتهم ظلمة الإثم. فليس من علة لهلاك الناس سوى فساد قلوهم وعواطفهم. إن الله وضع أمام الإنسان النور وترك له الحرية في اختياره أو رفضه ففضل باختياره الجهل والانخداع والأوهام الدينية وسائر أنواع الضلال فجلب الهلاك على نفسه (هوشع ٤: ١٧ ورومية ١: ٢٨).
    لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً أعمال الإنسان ترجمان أفكاره وعواطفه وخصاله فلو أتوا إلى النور أي المسيح وآمنوا به لاضطروا إلى الانفصال عن كل الأعمال الشريرة التي أحبوها ومعظم المانع للناس من قبول الحق هو شر قلوبهم لا جهلهم. فأعمال الفريسيين الشريرة منعتهم من الاقتناع بالبراهين أن يسوع هو المسيح وأن تعليمه من السماء.
    ٢٠ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلسَّيِّآتِ يُبْغِضُ ٱلنُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى ٱلنُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُه».
    أعمال ٢٤: ١٣ و١٧ وأفسس ٥: ١٣
    كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلسَّيِّآتِ أي كل من يرتكب الشرور ولا يرجع عنها أو كل إنسان لم يتجدد قلبه.
    يُبْغِضُ ٱلنُّورَ أي يكرهه ويبتعد عنه لأنه يُعلن شره لنفسه فيؤنبه ضميره فلا يرى وسيلة إلى الراحة إلا بهربه من النور (١ملوك ٢٢: ٨ أمثال ١٥: ١٢) ويظهر سيئاته لغيره فيوبخه عليها. وكثيراً ما حُكم في عصور الجهل بأن بعض الرذائل فضائل فيكره أهل الشر النور لأنه يكشف شرورهم.
    وَلاَ يَأْتِي إِلَى ٱلنُّورِ الخ هذا نتيجة بغض النور والخوف من توبيخ الضمير لأن يبغضه الإنسان ويخفافه يبتعد عنه.
    ولنا من هذه الآية أربع فوائد:

    • الأولى: إن إحدى غايات الإنجيل توبيخ الناس على خطاياهم.
    • الثانية: سبب بغض أكثر الناس في كل عصر للإنجيل ومقاومتهم إياه. وهو أنه يوبخ على الظلم والخداع والزور والبغض والحسد والبخل والقساوة والسكر والزنا وكل الخطايا التي يكشف الإنجيل الحجاب عن فظاعتها.
    • الثالثة: أن أحوال قلوب الناس تُعرف من معاملتهم للإنجيل. فإن الصالحين يحبونه والأشرار يبغضونه (يوحنا ١٨: ٣٧).
    • الرابعة: أنه توجد دينونة قبل دينونة اليوم الأخير وهي دينونة الإنسان لنفسه. فالحكيم يطلب طريق التبرير ما دام في إمكانه.


    ٢١ «وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ ٱلْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ».
    مزمور ١٥ ولوقا ٨: ١٥
    وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ ٱلْحَقَّ أي النقي المتجدد القلب الذي يحب الحق ويفعله ويطيع الضمير ويسير بمقتضى ما حصل عليه من النور ويسر بأن يقوده روح الله.
    فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ أي يميل قلبه إلى المسيح وإنجيله ويسر بالحق ويُرحب به ويسير بمقتضاه فلا يخاف توبيخ ضميره له مما يُظهره النور ولا ما يعلنه له من صفات الله وإحساساته من جهته. ومن يُقبل إلى النور يواظب على درس الكتاب المقدس وعلى سؤال الروح القدس أن يرشده إلى فهم ذلك الكتاب وينتهز كل الفرص لمعرفة الحق والنجاة من الضلال.
    لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ لا يخاف أن يُدان بواسطة النور على رياء وخداع وشر عمل ومشاركة للشيطان. وإن أظهر النور أن شيئاً من أعماله شريرة وهو غافل عنه سُرّ بذلك وأسرع إلى تركه.
    أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ أي عُملت طوعاً لأمر الله وإرضاء له تعالى وهي كأعمال الله ونتيجة إرشاد روحه القدوس. والإتيان إلى النور هو عينه من الأعمال المعمولة بالله.
    وهذه نهاية المحاورة بين المسيح ونيقوديموس ولم يذكر البشير تأثيرها في نيقوديموس. والأرجح أنه استفاد منها كما يستدل مما ذُكر في (ص ٧: ٥٠ و١٢: ٤٢ و١٩: ٣٩). وفي هذا الفصل أي من ع ١ إلى ع ٢١ بيان حقائق عظيمة منها عمل أقانيم اللاهوت الثلاثة وهو محبة الآب للعالم وموت المسيح على الصليب وفعل الروح القدس في تجديد قلب الإنسان ومنها فساد الطبيعة البشرية وحقيقة الولادة الثانية ومنزلة الإيمان في خلاص الخاطئ ومعظم علة دينونة الهالكين.

    معمودية يوحنا وشهادته للمسيح ع ٢٢ إلى ٣٦


    ٢٢ «وَبَعْدَ هٰذَا جَاءَ يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ، وَكَانَ يُعَمِّدُ».
    ص ٤: ٢
    وَبَعْدَ هٰذَا أي بعد كل ما يتعلق بالفصح الأول حين كان يسوع في مدينة أورشليم (ص ٢: ٢٣).
    إِلَى أَرْضِ ٱلْيَهُودِيَّةِ ترك قاعدة البلاد التي هي أورشليم وجال في الأرض المجاورة لها.
    واليهودية هي القسم الجنوبي من الأقسام الثلاثة التي قُسمت إليها الأرض المقدسة في عصر المسيح وهي ممتدة من برية التيه في الجنوب قرب بئر السبع إلى تخوم السامرة في الشمال وتلك التخوم إلى أمد ثماني ساعات من أورشليم وتمتد من الأردن في الشرق إلى سهل الفلسطينيين في االغرب. والأرجح أن المسيح شغل بذلك الجولان ثمانية أشهر أو تسعة لأن الفصح كان في آذار وهو ذهب إلى السامرة في كانون الأول قبل بداءة الحصاد بأربعة أشهر (يوحنا ٤: ٣٥). ولم يذكر متّى في إنجيله خدمة المسيح في اليهودية ولو ذكرها لكان موضع ذكرها في الأصحاح الرابع من إنجيله بين العدد ١١ و١٢ منه.
    وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ أي في محال مختلفة في أرض اليهودية.
    وَكَانَ يُعَمِّدُ لم يعمد هو نفسه بالماء بل تلاميذه كانوا يفعلون ذلك بأمره وسلطانه (ص ٤: ٢) فكان عمل المسيح وقتئذ التبشير والتعليم. فالأرجح أن تلك المعمودية كانت كمعمودية يوحنا المعمدان وهي معمودية التوبة بغية إرشاد الناس إلى المسيح. وكانت مناداة تلاميذ المسيح مثل مناداة يوحنا وهي قوله «ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ»(متّى ١٠: ٧) ولعل الغاية من تلك المعمودية كانت إقرار المعمودين بأن يسوع هو المسيح، ولم نسمع بعد أن تقدم يسوع في الخدمة أنهم عمدوا. ولم تكن معمودية الروح قد أُجريت يومئذ (ص ٧: ٣٩). والمعمودية المسيحية رُسمت بعد قيامة المسيح (متّى ٢٨: ١٩) ومورست أولاً في يوم الخمسين (أعمال ٢: ٤٢).
    ٢٣ «وَكَانَ يُوحَنَّا أَيْضاً يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ، لأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانُوا يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُون».
    ١صموئيل ٩: ٤ ومتّى ٣: ٥ و٦
    عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ لم يتحقق موقعا هذين المحلين إلى الآن والأرجح أنهما غربي الأردن وشرقي شكيم أي نابلس. والقرينة تدل أنهما قرب الموضع الذي مكث فيه المسيح وتلاميذه بعض الوقت.
    مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ كثرة الجموع الذين قصدوا يوحنا المعمدان اقتضت كثرة الماء لهم ولبهائمهم فلا يلزم من ذاك شيء من جهة كيفية معموديته.
    ٢٤ «لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي ٱلسِّجْنِ».
    متّى ١٤: ٣
    ذاك في مدة خدمة المسيح في اليهودية لأنه حين أُلقي يوحنا في السجن ترك يسوع اليهودية وذهب إلى الجليل (متّى ٤: ١٢ ومرقس ١: ١٤). والغاية من النبإ في هذه الآية بيان أن خدمة يوحنا وخدمة يسوع بقيتا مدة معاً وأن خدمة المسيح لم تبتدئ وقت سجن يوحنا وأن خدمة يوحنا لم تنته عند ابتداء يسوع بالكرازة. وقد مر استيفاء الكلام على سجن يوحنا في شرح ع ١٢ من ص ٤ من بشارة متّى وع ٢٠ من ص ٣ من بشارة لوقا.
    ٢٥ « وَحَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ تَلاَمِيذِ يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ جِهَةِ ٱلتَّطْهِيرِ».
    تَلاَمِيذِ يُوحَنَّا تبع بعض تلاميذ يوحنا المعمدان المسيح ص ١ وبقي الآخرون (وهم الأكثر) معه. وموضوع المباحثة هنا حُسب عند اليهود ولا سيما عند الفريسيين من أهم المواضيع. ولم يتضح هنا أي شيء من أمور التطهير كان مدار البحث عليه. ولعله منزلة المعمودية في التطهير ثم أنفعية إحدى المعموديتين معمودية يوحنا أو معمودية المسيح وأنه هل تغني الثانية عن الأولى. لأن القرينة تدل على أن تلك المباحثة لم تنشأ إلا والمعموديتان جاريتان معاً ومتجاورتان.
    ووقع بعد ذلك مباحثة بين المسيح والفريسيين من جهة التطهير الخارجي والداخلي (مرقس ٧: ٥ ولوقا ١١: ٣٩).
    ٢٦ «فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، هُوَذَا ٱلَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ، ٱلَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ، هُوَ يُعَمِّدُ، وَٱلْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ».
    ص ١: ٧ و١٥ و٢٧ و٣٤
    فَجَاءُوا أي تلاميذ يوحنا.
    ٱلَّذِي كَانَ مَعَكَ يدل كلام تلاميذ يوحنا على الحسد والغيرة من نجاح عمل المسيح ووفرة اعتبار الناس له ومما يشير إلى ذلك عدم ذكرهم اسم يسوع. والظاهر أنهم توقعوا مشاركة يوحنا لهم في ذلك. ولا يمكن أن يحدث هذا كله لولا جهلهم عظمة يسوع وحقيقة النسبة بينه وبين معلمهم.
    ٱلَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ قالوا هذا إشارة إلى ما ذُكر في ص ١: ٢٩ وإلى أن يسوع كان مديوناً ليوحنا بتلك وأنه أنكر معروفه بمباراته له في المعمودية وصرف اعتبار الناس عن يوحنا إليه.
    وَٱلْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ أي كل الذين يأتون إلى يوحنا ص ٤: ١ وهذه علة هياجهم أي خوفهم من زوال اعتبار الناس لمعلمهم. ولا ريب في أن غيرتهم حملتهم على شيء من المبالغة بقولهم «الجميع» الخ والواقع أن كثيرين أتوا إليه. وهذه ليست المرة الوحيدة التي فيها أظهر الناس لأجل طائفتهم أو رئيسها الغيرة التي كان يجب عليهم أن يظهروها للمسيح نفسه.
    ٢٧ «فَقَالَ يُوحَنَّا: لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
    ١كورنثوس ٤: ٧ وعبرانيين ٥: ٤ ويعقوب ١: ١٧
    أما يوحنا فلم يشارك تلاميذه في غيرتهم ولم يتأثر من كلامهم. ومضمون كلامه أن كل النجاح من الله. وأنه هو عيّن لكل منا مقامه وعمله وقوته في الكلام والعمل وتأثيره في الناس. وأن عظمة يسوع من الله وبرهان على أنه هو المسيح المرسل من السماء فلا داعي للغيرة والحسد لما قضى الله به وهو لم يعطني مقام المسيح فأنا لست سوى سابقه.
    ٢٨ «أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا ٱلْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ».
    ص ١: ٢٠ و٢٧، ملاخي ٣: ١ ومرقس ١: ٢ ولوقا ١: ١٧
    تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ ذكّر يوحنا تلاميذه شهادته ليسوع ليبينوا مَنَّه عليه. أما هو فنبههم على معنى شهادته ص ١: ٢٠ و٢٥ - ٢٧ وأن الشيء الذي غاظهم من تقدم يسوع على يوحنا هو الواجب أن يكون بمقتضى تلك الشهادة.
    إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ كالمنادي أمام الملك (لوقا ٣: ٣ - ٦) فإني لم آت لأجمع شعباً واعتباراً لنفسي بل لأهيئ الطريق قدام المسيح فنجاحه نجاحي وغاية مجيئي.
    ٢٩ «مَنْ لَهُ ٱلْعَرُوسُ فَهُوَ ٱلْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ ٱلْعَرِيسِ ٱلَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ ٱلْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هٰذَا قَدْ كَمَلَ».
    متّى ٢٢: ٢ و٢كورنثوس ١١: ٢ وأفسس ٥: ٢٥ و٢٧ ورؤيا ٢١: ٩، نشيد الأناشيد ٥: ١
    أظهر يوحنا بهذا نسبته إلى المسيح وهي أمران الأول أنه دونه في المقام والثاني أنه راضٍ ومسرور بذلك. ولا مقتضى لطلب معنى لكل ما في هذا التمثيل والجوهر فيه الأمران المذكوران.
    مَنْ لَهُ ٱلْعَرُوسُ فَهُوَ ٱلْعَرِيسُ هذه قاعدة عامة تصح في كل عرس وهو أن العروس للعريس. جعل يوحنا هنا المسيح بمنزلة العريس وجعل نفسه بمنزلة الصديق الذي يكون الوسيط في الخطبة ويعتني بأمور العرس في حينها. فبالطبع يكون العريس المقدم في الاعتبار وقت العرس. له العروس والاعتبار والإكرام وأما صديق العريس فلا يستحق شيئاً من ذلك الاعتبار ولا يتوقعه بل يفرح لفرح العريس.
    يَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ ٱلْعَرِيسِ اعتبر يوحنا شيوع الخبر بنجاح يسوع وتأثير تعليمه وإتيان الكل إليه بمنزلة سمع الصديق لصوت العريس عتد ابتهاجه فيفرح معه.
    إِذاً فَرَحِي هٰذَا قَدْ كَمَلَ الذي أغاظكم بإتيان الجميع إليه هو الذي سرني السرور الكامل.
    ومن أراد الوقوف على وجه الشبه بين العروس والكنيسة في الكتاب المقدس فليطالع (إشعياء ٦٢: ٥ وإرميا ٣: ٣١ وأفسس ٥: ٢٦ و٣٢ ورؤيا ٩: ٢١). ولا دليل على أن يوحنا قصد تشبيه الكنيسة بالعروس هنا إنما ذكرها إتماماً للمعنى.
    ٣٠ «يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ».
    أظهر يوحنا بهذا الكلام التواضع الحقيقي وقصد به إزالة كل ما خامر قلوب تلاميذه من أفكار الحسد ليسوع.
    يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ يزيد أي أن الله قضى أن يكون كذلك وهو لائق بذاته لكونه مسيحاً وملكاً فلا بد من أن يزيد مجده وسلطانه بلا نهاية إلى الأبد وأن يكثر عدد تابعيه وتأثيره فيهم.
    وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ كما ينقص نور كوكب الصبح عند طلوع الشمس لانتهاء وظيفتي وهي كوني سابق الملك والمنادي بقدومه عن مجيء الملك نفسه.
    وكذلك نقصت قيمة الرموز الموسوية عند ظهور المرموز إليه ونقص اعتبار نظام العهد القديم الذي كان يوحنا من أتباعه وزادت قيمة النظام الإنجيلي وسوف يزيد على الدوام.
    ويجب على كل خادم للإنجيل أن تكون غايته كغاية يوحنا المعمدان وهي اشتياقه إلى أن يمجد المسيح بتبشيره وأن يهدي إليه الضالين في قفر الهلاك لا أن يكون هو الممجد المكرم المحبوب.
    ٣١ «اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ، وَٱلَّذِي مِنَ ٱلأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ ٱلأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ».
    ع ١٣ وص ٨: ٢٣، متّى ٢٨: ١٨ وص ١: ١٥ و٢٧ ورومية ٩: ٥، ١كورنثوس ١٥: ٤٧، ص ٦: ٢٣ وأفسس ١: ٢١ وفيلبي ٢: ٩
    الكلام في هذا العدد والأربعة التابعة له أيضاح لما قيل في العدد الثلاثين في عظمة المسيح وأفضلية شأنه على شأن يوحنا المعمدان.
    اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ أي المسيح (ع ١٣ وص ٦: ٣٣ و٨: ٢٣) وأفضلية يسوع على يوحنا تقوم بموجب هذه الشهادة بمصدره السماوي لأن يوحنا لم يقصد هنا أن تعليم المسيح من السماء بل أنه هو نفسه من هنالك لأن المسيح لم يكن إنساناً فقط بل إلهاً أيضاً فأتى «من فوق» حين اتخذ طبيعة الإنسان فوجب أن يسمو على الجميع عظمة واعتباراً.
    فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ أي أن يرأس كل خدم الدين من أنبياء وملائكة ومرسلين أمام وجهه بمقامه وسلطانه (رومية ٩: ٥ وعبرانيين ١: ١ و٢ و٤: ١٤).
    وَٱلَّذِي مِنَ ٱلأَرْضِ أي كل إنسان مثلي أصله من هنا مخلوق من التراب ويرجع إليه.
    هُوَ أَرْضِيٌّ كسائر البشر ضعيف ناقص أفكاره وأعماله وإحساساته من متعلقات هذه الأرض فهو دون ذاك الذي هو من فوق.
    وَمِنَ ٱلأَرْضِ يَتَكَلَّمُ أي يتكلم إنساناً مجرداً محدود العلم ناقص الإدراك. نعم إنّ تعليم يوحنا المعمدان بالنسبة إلى تعليم الكتبة والفريسيين كان سماوياً ولكنه بالنسبة إلى تعليم المسيح أرضي.
    اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ أي أن المسيح يفوق كل الأنبياء والمعلمين والمبشرين بعلمه وبكل صفات طبيعته وبمجده وسلطانه.
    ٣٢ «وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ، وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا».
    ع ١١ و٨: ٢٦ و١٥: ١٥
    وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ أبان يوحنا أن تعليم المسيح إلهي كما شهد بأن طبيعته إلهية ومصدره سماوي. وبما أن المسيح أتى من السماء يقدر أن يشهد بالأمور السماوية من اختباره مما رآه وسمعه هنالك ومن علمه بكل أفكار الله كما شهد لنفسه في ع ١١ وص ٥: ١٩ و٣٠: و٨: ٣٨. فما تكلم به يوحنا المعمدان إنما تكلم به كخادم ينقل كلام سيده ولا يدرك كل معناه ولكن ما تكلم به المسيح تكلم كابن في ما رآه وسمعه في بيت أبيه. وقوله «رآه وسمعه» كناية عن العلم الكامل. ومفاد شهادة يوحنا المعمدان أن تعليم المسيح حقٌ يقين لا ريب فيه وأظهر بذلك فضل المسيح على كل معلمي البشر الذين لا يستطيعون أن يتكلموا إلا بما تعلموه من الروح القدس أو من أمثالهم من الناس.
    وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا هذا رد من يوحنا المعمدان على قول تلاميذه «الجميع يأتون إليه» فكأنه قال لهم ما علمته غير ما ظننتم. فإنّه علم أن مجلس السبعين وأكثر الأمة اليهودية رفضوا قبول يسوع مسيحاً ولذلك قال ما قال. وليس معناه نفي قبول بعض أفراد الناس للمسيح كما يتبين من الآية الآتية. فمعناه أنه مع إتيان الجميع إليه كما قلتم لم يقبل شهادته ويؤمن به إلا قليلون فإتيان أكثرهم إليه كان وقتياً ولغايات مختلفة (ص ٦: ٢٦ و٦٦ ومتّى ٢٦: ٥٦).
    ٣٣ «وَمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ صَادِقٌ».
    رومية ٣: ٤ و١يوحنا ٥: ١٠
    مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ المراد بقبول شهادة المسيح هنا تصديق دعواه والإيمان به وإخضاع القلب له.
    فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ صَادِقٌ أي أن الإيمان بالمسيح هو الإقرار بصدق الله الذي تكلم أولاً بلسان يوحنا المعمدان نفسه لأنه سمع قول الله في يسوع «هذا هو ابني الخ». وشاهد علامة من الله بنزول الروح القدس عليه كحمامة فتحقق بها أنه هو المسيح. فمن صدق المسيح صدق الله المتكلم بلسان يوحنا.
    ثانياً: بألسنة الأنبياء الذين تنبأوا بوحي الله وتمت نبوءتهم بالمسيح.
    ثالثاً: بواسطة المعجزات التي صنعها المسيح وشهد بها الله بصدق دعوى ابنه.
    رابعاً: بلسان المسيح عينه الذي هو كلمة الله والمعلن للناس كلام أبيه.
    ومعنى قوله «ختم أن الله صادق» أنه أثبت صدق الله كل الإثبات بناء على أن الناس عادة يثبتون شهادتهم بالختم. فإذاً كل مؤمن بالمسيح يشهد بصدق الله. وجماعات المسيحيين في كل عصرهم جيوش شهود ختموا ويختمون على شهادة المسيح بصدق الله. وأما الذين ينكرون المسيح وتعليمه فكانهم يبذلون جهدهم في أن يجعلوا الله كاذباً (١ يوحنا ٥: ١٠).
    ٣٤ «لأَنَّ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ ٱللّٰهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي ٱللّٰهُ ٱلرُّوحَ».
    ص ٧: ١٦ ص ١: ١٦
    ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ ٱللّٰهُ أي المسيح، وكثيراً ما ذُكر المسيح أنه مرسل من الله ولذلك سُمّي «رسول اعترافنا» (عبرانيين ٣: ١) ولكنه ليس كسائر الرسل لأنه من السماء ع ٣١ وأُرسل ليكون المسيح المخلص.
    يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ ٱللّٰهِ هذا شرح ما قيل في العدد السابق وهو أن تصديق المسيح تصديق لله لأن المسيح لم يتكلم من عنده كما يمكن الإنسان أن يتكلم بل إنّه مُرسل إلهي من السماء أتى ليعلن للناس أفكار الله وكلامه الذي أراد الله أن يعرفه الإنسان ويأمر يسوع أن يتكلم به.
    لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي ٱللّٰهُ ٱلرُّوحَ أي الروح القدس. والمعنى أن الله لم يعط ابنه مقداراً قليلاً من الروح القدس لأن القليل المحدود يُوزن ويُكيّل بخلاف الوافر غير المحدود. وقد رأى يوحنا المعمدان الروح القدس نازلاً على المسيح بهيئة حمامة وعرف انه امتلأ من ذلك الروح (ص ١: ٣٢ و٣٣ ولوقا ٤: ١) وكان يسوع حاصلاً على كل مواهب الروح ومستعداً لإعلان أسرار الله. والكلام على المسيح هنا باعتبار كونه وسيطاً وكلمة الله المتجسد لا باعتبار كونه ابن الله المتحد منذ الأزل بالروح القدس. فمسحه الله بروحه لكي يمارس وظيفته ملكاً ونبياً وكاهناً لشعبه (إشعياء ٦١: ١ وأعمال ١٠: ٣٨).
    أعطى الله سائر الأنبياء من روحه في أوقات معينة لغايات خاصة. أما المسيح فكان روح الله عليه أبداً وكان هو ممتلئاً منه.
    ٣٥ «اَلآبُ يُحِبُّ ٱلاَبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ».
    متّى ١١: ٢٧ و٢٨: ١٨ ولوقا ١٠: ٢٢ وص ٥: ٢٠ و١٣: ٣ و١٧: ٢ وعبرانيين ٢: ٨
    اَلآبُ يُحِبُّ ٱلاَبْنَ زاد يوحنا المعمدان هذا على ما قاله آنفاً بياناً لأفضلية المسيح عليه وهو أن المسيح ابن وأن يوحنا وسائر الأنبياء والمعلمين ليسوا سوى خدام. وعرف أن الآب يحبه بالوحي والإعلان بصوت مسموع وهو قول الآب من السماء «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت». وكانت محبة الآب للمسيح أعظم من محبته لسائر أتقيائه الناس والأنبياء والرسل كما أن محبة الآب للإبن تكون أعظم من محبته للخدم (ص ١٧: ٢٤).
    وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ باعتبار كونه الوسيط لأمرين. الأول أن يكون قادراً على ممارسة عمل الفداء. والثاني الإثابة له على اتضاعه الاختياري.
    وهذا وفق ما قيل في متّى ١١: ٢٧ وأفسس ١: ٢١ و٢٢ وفيلبي ٢: ٩ وكولوسي ١: ١٩ - ٢٠ انظر أيضاً الشرح متّى ٢٨: ١٨ وهذا أي قوله «دفع كل شيء في يده» زيادة على قوله في الآية السابقة في شأن إعطائه الروح وتمييز بين ما وهبه الله للأنبياء من البشر من المواهب المعينة والقوة المحدودة وما أعطاه للمسيح. قابل هذا بما في (مزمور ٢: ٧ - ٩). وأشار بقوله «في يده» إلى تصرف المسيح في كل شيء كما يشاء.
    ٣٦ «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلاَبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِٱلاَبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ».
    حبقوق ٢: ٤ وص ١: ١٢ وع ١٥ و١٦ وص ٦: ٤٧ ورومية ١: ١٧ وايوحنا ٥: ١٠
    هذا البيان الأخير لأفضلية المسيح وهي قائمة ببيان أفضلية الإيمان به. فالحياة والموت أي السماء وجهنم بقبول ذلك الذي كان «مع المعمدان في عبر الأردن» (ع ٢٦) أو برفضه.
    اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلاَبْنِ أي يقبله مخلصاً وحيداً كافياً ويتكل عليه ويعترف به. فإنه لكونه الابن كان الإيمان به. حياة النفس ورفضه موتها.
    لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ المراد بالحياة هنا الحياة الروحية هي نجاة النفس من دينونة الخطية ولعنة الناموس وحصولها على غفران الخطايا والسلام مع الله والميراث السماوي. والكلام هنا غير مقصور على المستقبل بل يعم ما تناله النفس في حال قبولها المسيح فإنها في ذلك الوقت عينه «تنتقل من الموت إلى الحياة» وتحصل على بداءة السعادة التي تكون في السماء بلا نهاية. وهذا مطابق لقول المسيح في ع ١٥ و١٦ و١٨.
    لَنْ يَرَى حَيَاةً ما دام غير مؤمن فلا يكون له أقل نصيب في بركات الحياة الروحية في هذا العالم ولا في العالم الآتي. ولأن المسيح المصدر الوحيد لتلك الحياة كان من لم يتحد به خالياً منها وليس له ملجأ من عواقب إثمه.
    بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ أي الغضب الذي يوجبه الله على الخاطئ لخطيئته. وكل البشر عرضة لذلك الغضب لأنهم خطاة وفقاً لقول الرسول «وَكُنَّا بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ كَٱلْبَاقِينَ أَيْضاً» (أفسس ٢: ٣). وهذا الغضب هو الذي احتمله المسيح بدلاً من الخطأة والذي ينجو منه كل من يؤمن باسمه (رومية ٢: ٨ وأفسس ٤: ٣١ وكولوسي ٣: ٨ ورؤيا ١٩: ١٥) وقوله إنّ هذا الغضب يمكث على غير المؤمن يفيد أنه يمكث عليه الآن ويبقى إلى الأبد لسبب خطيئته كأن يسوع لم يمت عنه. وزاد على نفسه الغضب برفضه النعمة التي عرضها الله عليه بواسطة ابنه.
    والله لا يظهر في هذا العالم غضبه على الخطأة غير المؤمنين لأنه يسر بأن يعطيهم فرصة للتوبة (٢بطرس ٣: ٩) ولأن يسوع يشفع فيهم (لوقا ١٣: ٨) لكنه لا يبقى بعد الموت وموقف الدين سوى غضب بلا رحمة.
    وليس في ما قيل هنا ما ينافي «أن الله محبة» لأن الله أعد طريق النجاة من ذلك الغضب لكل إنسان وكلفه ذلك ما لا يُحد. وما جاء في هذه الآية شهادة يوحنا المعمدان الأخيرة للمسيح وخلاصة كل ما قاله فيه وهو تحذيره الأخير لتلاميذه وللأمة اليهودية. والأرجح أن المعمدان سُجن بعد ذلك بقليل. ولم يذكر البشير سجنه وموته مع ما يتعلق بها من الحوادث لأنه حسب قارئ بشارته عارفاً بذلك وهي ليست من مقاصد إنجيله. لكن ما قيل في ص ٥: ٣٥ يشير إلى أن خدمته كانت قد انتهت يومئذ. وأفضلية المسيح على يوحنا المعمدان خمسة أمور:

    • أولاً: أصل المسيح ع ٣١.
    • ثانياً: تعليمه فإنه تكلم من اختباره وكان تصديقه تصديق الله نفسه ع ٣٢ و٣٣.
    • ثالثاً: أن له الروح بلا كيل ع ٣٤.
    • رابعاً: أنه ابن الله وله كل سلطان ع ٣٥.
    • خامساً: أن نتيجة قبوله أو رفضه ذات شأن عظيم جداً.




    الأصحاح الرابع


    مخاطبة يسوع امرأة سامرية ع ١ إلى ٣٨


    ١ «فَلَمَّا عَلِمَ ٱلرَّبُّ أَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تَلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا».
    ص ٣: ٢٢ و٢٦
    ٱلرَّبُّ اعتاد التلاميذ أن يلقبوا يسوع بالرب بعد صعوده وتمجيده وكثر منهم ذلك في الرسائل وندر في البشائر.
    ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم فرقة من اليهود اشتهروا بشدة الغيرة لشريعة موسى وتقاليد الشيوخ وامتازوا على سائر الفرق اليهودية بمقاومتهم ليسوع (انطر الشرح متّى ٣: ٧).
    سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ الخ مضمون هذا الكلام مضمون الخبر الذي أنبأ به يوحنا تلاميذه بقولهم «هُوَ يُعَمِّدُ، وَٱلْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ» (ص ٣: ٢٦). والفريسيون كانوا قد أرسلوا لجنة إلى المعمدان تسأله لماذا يُعمد (ص ١: ٢٤) ولم يُسروا بوعظ يوحنا (متّى ٣: ٧ و٢٠: ٢٥). وكرهوا وعظ يسوع أكثر من ذلك وعندما سمعوا نبأ نجاحه اغتاظوا واشتدت مقاومتهم إيّاه. ولأن ساعة موت يسوع لم تكن قد أتت رأى أن يذهب إلى موضع آخر حيث أعداؤه أقل عدداً وقوة.
    ٢ «مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تَلاَمِيذُهُ».
    ١كورنثوس ١: ١٤ إلى ١٧
    ظن الفريسيون بناء على الخبر الذي بلغهم أن يسوع نفسه كان يعمد فجاء البشير بما ذكره هنا بياناً للواقع. ولعل الأسباب التي منعت يسوع عن التعميد بيده الخوف من أن تلاميذه يستنتجون من عمله أن رسم المعمودية يستحق اعتباراً أكثر مما يليق به وارادته أن يشغل وقته بالتبشير لا بشيء آخر. وكون التعميد بالروح القدس عمله الخاص وهذا أعظم تلك الأسباب.
    ٣ «تَرَكَ ٱلْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى ٱلْجَلِيل».
    تَرَكَ ٱلْيَهُودِيَّةَ بعد ما تقضى عليه فيها نحو ثمانية أشهر. وعلة تركه اليهودية حسد الفريسيين وبغضهم إياه ومؤامرتهم عليه وهي التي منعته عن التبشير وجعلت حياته في خطر قبل إتيان الساعة المعينة لموته (ص ٧: ٣٠).
    وَمَضَى أَيْضاً قال البشير هذا لأن يسوع كان قد زار الجليل قبل هذا زيارة قصيرة وقد ذُكرت في (ص ٢: ١٢).
    إِلَى ٱلْجَلِيلِ هي القسم الشمالي من أقسام الأرض المقدسة الثلاثة وفي نحو هذا الوقت ألقى هيرودس يوحنا المعمدان في السجن (متّى ٤: ١٢ ومرقس ١: ١٤). ولم يذكر متّى ومرقس عِلل ذهاب يسوع يومئذ إلى الجليل إنما اقتصروا على ذكرها أن ذلك كان وقت إلقاء يوحنا في السجن وهي أن سلطة الفريسيين أعداء المسيح كانت في الجليل أقل منها في اليهودية وأن أهل الجليل كانوا أكثر رغبة في قبول تعليمه من أهل اليهودية وأنه استحسن أن يعظ هنالك أكثر مواعظه ويصنع أوفر معجزاته ويتخذ معظم تلاميذه.
    ولنا مما فعله المسيح الإباحة للمسيحي في وقت الاضطهاد والخطر بترك مكانه والذهاب إلى حيث يأمن على سلامته وحياته ويستطيع أن ينفع غيره.
    ٤ «وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ ٱلسَّامِرَة».
    بين اليهودية والجليل طريقان تمر إحداهما بالسامرة وهي مستقيمة وأقرب من الأخرى. وتمر الأخرى ببيرية شرقي الأردن سار فيها المسيح في سفره الأخير من الجليل إلى أورشليم (متّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١). وقوله «لا بد له الخ» مبني على اضطراره أن يتمم مقاصد الله في السامرة وعلى رغبته في تبشير أهلها أو على قصده الطريق الأقرب.
    ٱلسَّامِرَةَ هي القسم الأوسط من أقسام الأرض المقدسة الثلاثة سُميت باسم قاعدتها التي بناها عَمري ملك أسباط إسرائيل العشرة سنة ٩٢٠ ق. م (١ملوك ١٦: ٢٣ و٢٤) وجدد بناء تلك القاعدة هيرودس الكبير وزينها وسماها سيبستي إكراماً لأغسطس لان سيبستي اسمه في اليونانية. وهي الآن قرية حقيرة مبنية على أطلال القديمة واسمها سيبسطية.
    ظن بعضهم أن البشير ذكر ما ذكره هنا دفعاً لشبهة التناقض بين ذهاب المسيح إلى السامرة وأمره للتلاميذ بقوله «إِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا» (متّى ١٠: ٥) وبياناً أن ذهابه إليها كان لمجرد المرور في الطريق ولكن الأرجح أن المسيح أراد بذلك الذهاب أن يترك لتلاميذه مثالاً في ما يجب عليهم أن يفعلوه بعد موته والمناداة بإنجيله أولاً بين اليهود وهو أن يبشروا بالإنجيل كل قبائل الأرض.
    ٥ «فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ ٱلضَّيْعَةِ ٱلَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ٱبْنِهِ».
    قضاة ٩: ٧ و٤٦ و١ملوك ١٢: ٢٥ وإشعياء ٢٨: ١،تكوين ٣٣: ١٩ و٤٨: ٢٢ ويشوع ٢٤: ٣٢
    سُوخَارُ ظنها بعضهم شكيم (تكوين ٢٣: ١٨ وقضاة ٩: ٧) وتسمى اليوم نابلس. وهذا الظن لم يثبت لأن شكيم تبعد عن بئر يعقوب ميلين أي أكثر من نصف ساعة. وهي وافرة الماء فلم يكن من داع لأحد سكانها أن يذهب منها إلى تلك البئر للاستقاء. والأرجح أنها كانت قرب البئر وهي خربة تُسمى عسكر.
    وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ٱبْنِهِ الأرجح أن ما وهبه يعقوب ليوسف اشترى بعضه (تكوين ٣٣: ١٩) وملك البعض الآخر بالحرب (تكوين ٤٨: ٢٢) وهنالك دُفنت عظام يوسف (قابل ما في تكوين ٣٣: ١٩ بما في يشوع ٢٤: ٣٢).
    ٦ «وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ ٱلسَّفَرِ، جَلَسَ هٰكَذَا عَلَى ٱلْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَة».
    بِئْرُ يَعْقُوبَ ذُكر أن يعقوب اشترى تلك الأرض في (تكوين ٣٣: ١٨ - ٢٠) ولكن لم نجد من ذكر أنه حفر تلك البئر ولما قسم يشوع الأرض على الإسرائيليين كانت تلك الأرض في سهم أفرايم (يشوع ٢١: ٢١ و٢٤: ٣٢). وهناك اليوم بئر تُسمى بئر يعقوب في سهل بين جبل جرزيم وجبل عيبال قاس بعضهم عمقها فوجده مئة قدم وخمسة أقدام، خمس عشرة قدماً منها تحت الماء وقطرها نحو تسع أقدام. ثم وجد بعضهم أنه قد طُرح فيها مقدار عظيم من الحجارة والتراب حتى نقص عمقها فلم يكن سوى نحو خمس وسبعين قدماً وخلت من الماء. وقد سُد فمه إلا قليلاً بما سقط عليه من كبار الحجارة. ويصعب علينا أن نرى سبباً لحفر تلك البئر في أرض كثيرة العيون والينابيع إلا إذا قيل أن يعقوب أراد الاستغناء ببئره عن كل ماء لجيرانه وأن يثبت بحفرها ملكه لتلك الارض.
    إِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ ٱلسَّفَرِ تعب لأنه كان إنساناً تاماً كما كان إلهاً تاماً ولأنه قطع ماشياً المسافة من أورشليم إلى بئر يعقوب وهي نحو أربعين ميلاً أو مرحلتين.
    وقد أظهر رب المجد غاية التنازل لأجلنا لأنه مع كونه «خَالِقُ أَطْرَافِ ٱلأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا» (إشعياء ٤٠: ٢٨) «اَلْمُفَجِّرُ عُيُوناً فِي ٱلأَوْدِيَةِ» (مزمور ١٠٤: ١٠) عرّض نفسه للتعب والعطش بالجولان ماشياً في حرّ الصيف وبرد الشتاء حتى احتاج إلى الراحة وطلب شربة ماء من غريبة استثقلت أن تجيب طلبه.
    جَلَسَ هٰكَذَا عَلَى ٱلْبِئْرِ أي في الحال التي كان عليها وهو تعب ليس له شيء يجلس عليه سوى حجر البئر. وذكر البشير ذلك بياناً لعلة جلوسه. ولنا في هذا مثال القناعة. ويتبيّن جلياً بمقابلتنا حال المسيح في سفره وقتئذ بحالنا في السفر اليوم على أن قليليين من الناس يرضون أن يحتملوا مشقات المسيح في أسفارهم.
    ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ أي الظهر.
    ٧ «فَجَاءَتِ ٱمْرَأَةٌ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَعْطِينِي لأَشْرَبَ».
    ٱمْرَأَةٌ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ ليس المراد أنها مدينة السامرة لأنها كانت على أمد ثلاث ساعات من تلك البئر بل إنّها من السامريين جنساً وديناً والأرجح أنها من قرية عسكر.
    رضي المسيح أن يلفظ موعظة من أحسن مواعظه لإنسان واحد وهو امرأة نصف وثنية ونصف يهودية وأن يكون منبره حجر البئر. وأظهر بما أتاه حينئذ قيمة نفس واحدة في عينيه وترك لخدم الدين مثالاً لئلا يتخذوا تعب الجسد عذراً لتركهم الفرصة المناسبة لعمل الخير.
    فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَعْطِينِي لأَشْرَبَ كان وقتئذ الظهر ويسوع تعب من المشي فلا شك في أنه كان عطشان وهذا علة طلبه الماء على أنه اتخذ ذلك الطلب وسيلة إلى افتتاح الحديث مع المرأة لإفادة نفسها. ومن المعلوم أنك إذا سألت أحداً معروفاً جعلته راضياً عنك لأن في سؤالك اعترافاً له بالفضل وبأنه يملك ما لم تملكه أنت.
    ٨ «لأَنَّ تَلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً».
    ذكر البشير هذا بياناً لعلة طلب المسيح الماء من المرأة السامرية لا من تلاميذه.
    ٩ «فَقَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ ٱلسَّامِرِيَّةُ: كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا ٱمْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟ لأَنَّ ٱلْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ ٱلسَّامِرِيِّين».
    ٢ملوك ١٧: ٢٤ ولوقا ٩: ٥٢ و٥٣ وأعمال ١٠: ٢٨
    كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ هذا الاستفهام للتعجب لا للاستخبار. وطلب الإنسان شربة ماء من الأمور العادية فليس فيه ما يحملها على الاستغراب لولا البغض بين اليهود والسامريين الذي كان قد مر عليه يومئذ نحو خمس مئة سنة. وذلك منذ إتيان أسرحدّون ملك أشور بخمس أمم وثنية وإسكانه إيّاها في الأرض التي سبى منها عشرة أسباط إسرائيل (٢ملوك ١٧: ٢٤ - ٤١ عزرا ص ٤ راجع الشرح متّى ١٠: ٥ ولوقا ٩: ٥٢). وليس في كلامها هذا من رفض خالص لطلب المسيح ولا من إجابة.
    وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ عرفت أنه يهودي إما من هيئته وإما من لهجته وإما من كليهما.
    لأَنَّ ٱلْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ ٱلسَّامِرِيِّينَ قال البشير هذا بياناً لعلة جوابها. قال أحد الربانيين من أكل من اليهود شيئاً من خبز السامريين فكأنه أكل من لحم الخنزير. ويتضح من هذا أنه لم تكن من معاملة بين اليهود والسامريين بعد ذلك أن يبيت المسيح وتلاميذه في إحدى قراهم ليلة واحدة (لوقا ٩: ٥٢) وهذا لا يستلزم المنافاة كما سبق من ان التلاميذ مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً لأن ربانيي اليهود أجازوا من طعام السامريين الفواكه والبقول والبيض. وأن عامة الإسرائيليين لم يتمسكوا على الدوام بكل تعصبات الرؤساء.
    وأعنف الخصومات ما نتجت عن الاختلال الديني وهذا ليس من شريعة الله لأنه يريد أن يعامل الناس بعضهم بعضاً كإخوة ولكن الناس اضطهد بعضهم بعضاً لأن بعضهم يعبده تعالى في مكان والآخر يعبده في مكان آخر.
    ١٠ «أَجَابَ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّا».
    إشعياء ١٢: ٣ و٤٤: ٣ وإرميا ٢: ١٣ وزكريا ١٣: ١ و١٤: ٨
    لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ جهل الناس حقيقة المسيح من الأسباب لرفضهم نعمته.
    عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ وهي يسوع المسيح ابن الله الحبيب (ص ٣: ١٦).
    وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ ظنته المرأة إنساناً يهودياً معيياً محتاجاً إلى شربة ماء لانتعاش جسده وجهلت كونه «عطية الله» والمرسل منه بل الله نفسه متجسداً الذي في يده قدرة لا تُحد وفي قلبه حنّو لا يقاس.
    لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ عدل المسيح عن بيان حاجته إليها إلى بيان حاجتها إليه وأنه قادر على أن يهب لها عطية أعظم مما طلبه منها. ومضمون ما قاله لها أنه لو عرفت وظيفة المسيح وما أتى به من المواهب المحيية نفوس الناس وأنه هو الذي يخاطبها حينئذ لطلبت منه أعظم البركات ونالتها منه.
    فَأَعْطَاكِ جعل المسيح الطلب الشرط الوحيد للنوال بقوله «لطلبت أنت منه فأعطاك» وجعل جهلها إياه العلة الوحيدة لعدم طلبها بقوله «لو كنت تعلمين... لطلبت الخ».
    مَاءً حَيّاً أي دائم الجريان من نبع لا من جمع. والمقصود به هنا كل ما ينال به الإنسان الخلاص والحياة الأبدية وما يروى ظمأ النفس الروحي إلى الأبد. وهذا يتضمن غفران الخطيئة والسلام مع الله والنعمة والتبرير والتقديس. والمسيح بهبته نفسه لنفس الإنسان وبإعطائه إياه مواهب الروح القدس يؤكد له كل ما ذُكر.
    وكثيراً ما أُستعير الماء للبركات الروحية في الكتاب المقدس منها ما يأتي (مزمور ٢٣: ٢ و٣٦: ٨ وإشعياء ٥٥: ١ وإرميا ٢: ١٣ و١٩: ١٣ وحزقيال ٣٦: ٢٥ وزكريا ١٣: ١ والجامع بينهما التطهير والإحياء.
    وإن قيل ماذا حمل المسيح على المجاز أي استعارة الماء الحي لنعمته قلنا أولاً جعل كلامه في الروحيات متعلقاً بما سبق فإنه طلب منها ماء لرواء جسده فوعدها بماء لرواء نفسها.
    ثانياً: حمل المرأة على فرط الإصغاء إليه لأن العقل البشري مطبوع على لذة التدرج من الخفاء إلى الوضوح والانتقال من الرمز إلى المرموز إليه.
    كما أن المسيح أظهر حكمته بدعوته بطرس وأندراوس من تلاميذ صيادي السمك إلى اتباعه بقوله «هلمّ ورائي فأجعلكما صيادي الناس» ورغبة الجموع الذين تبعوه بعد معجزته إشباع ألوف ببضعة أرغفة في الطعام الروحي بقوله «أنا خبز الحياة» كذلك أظهر حكمته في مخاطبة المرأة السامرية التي أتت إلى بئر يعقوب لتستقي الماء في الماء الحي ليرقي أفكارها من البركات الجسدية إلى البركات الروحية التي الماء إشارة إليها.
    ١١ «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَٱلْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ ٱلْمَاءُ ٱلْحَيُّ؟».
    يَا سَيِّدُ هذا يدل على تأثير كلامه فيها لأنها أخذت تخاطبه بألقاب الاعتبار التي لم تلتفت إليها أولاً فبدلت قولها يهودي (ع ٨) بقولها «يا سيد».
    والظاهر لنا من هذه الآية أن المرأة لم تفهم معنى المسيح الروحي بل أخذت كلامه على ظاهر معناه وفهمت بالماء الحي الماء المادي كما جاء في (تكوين ٢٦: ١٩ ولاويين ١٤: ٥). ولا عجب من أنها لم تدرك معنى كلام المسيح الروحي فإنها لم تكن أقل ذكاء من نيقوديموس في إدراك الروحيات (ص ٣: ٤). وليس في جوابها رفض لعطية المسيح بل التعجب من وعده إياها لما لا وسيلة له إليه. فكأنها قالت إن كنت قد قصدت بالماء الحي ماء هذه البئر فلست قادراً على أن تعطيني إياه إذ لا دلو لك ولا حبل وإن كنت عنيت أنك تعطيني ماء أحسن من ماء هذه البئر فقد ادعيت أنك أعظم من يعقوب. وأما قولها أن البئر عميقة فهو صحيح لأن عمقها نحو تسعة وأربعين ذراعاً كما أنبأ الذين قاسوه.
    ١٢ «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا ٱلْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟».
    أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ أي لا ريب في أنك لست بأعظم.
    مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ ادعى السامريون نسبتهم إلى يعقوب بناء على تقليدهم أنهم سلالة ابني يوسف ابنه افرايم ومنسى. ولا سند لهم في ذلك سوى أن بقايا ذينك السبطين بعد السبي اختلطوا بالأمم الخمس التي هي أصل السامريين. ولا برهان لهم على أن يعقوب أعطاهم تلك البئر إلا أنهم سكنوا أرضها التي وهبها يعقوب ليوسف ع ٦. ومعناها أن هذه البئر اكتفى بها يعقوب وأولاده ومواشيه وسُروا بها فكيف تستطيع أنت أن تعطي ماء أفضل من مائها ولماذا أطلب أنا أحسن منه. فعظمت البئر لعظمة الذي حفرها واتخذ ماءها. أو لعلها أرادت ما معناه هل تدّعي أنت أنك نبي كموسى قادر أن تضرب الصخرة فتخرج منها ماء حياً.
    ١٣ «أَجَابَ يَسُوعُ: كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضا».
    لم يجبها يسوع بأنه أعظم من يعقوب بصريح العبارة بل أفادها ذلك بطريق الكناية إذ قال ما مفاده أن عطيته أعظم من عطية يعقوب. وهذا حق لأن المسيح أعظم من يعقوب وسائر الآباء والأنبياء والرسل.
    هٰذَا ٱلْمَاءِ الذي تقولين أن يعقوب أعطاك إياه.
    يَعْطَشُ أَيْضاً هذا مما تيقنته المرأة باختبارها. وما صدق على هذا الماء يصدق على كل بركة جسدية فإنها لا تقوم بالحاجة إلا وقتاً قصيراً ثم يعود الاحتياج إلى مثلها. فحقق لها بذلك أنه لو أعطاها من أصل ينبوع ذلك البئر ماء لما كان ما يعطيها خيراً دائماً. وبمثل هذا أظهر لليهود عدم كفاية المن الذي أُعطي على يد موسى بياناً لأفضلية ما يعطيه هو من خبز الحياة بقوله «آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا... أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ» (ص ٦: ٤٩ و٥١).
    ١٤ «وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».
    ص ٦: ٣٥ و٥٨ ص ٧: ٣٨
    مَنْ يَشْرَبُ أي يقبل قبولاً تاماً أو يؤمن حق الإيمان.
    ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا أي نعمتي وخلاصي والروح القدس الذي أنا أرسله.
    فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ أي يحصل على كل ما يشتاقه أو يحتاج إليه من البركات الروحية. والمجاز هنا كالمجاز في (ص ٦: ٥١ ورؤيا ٧: ١٦ و٢١: ٦).
    بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ ببذل حياتي من أجل العالم وبإقامتي بقلب المؤمن (ص ١٤: ١٩ و٢٣) وبإرسال الروح القدس إلى ذلك القلب (ص ٧: ٣٩ و١٦: ١٤ و١٥ و١٧: ٢٣). وشرح المسيح في هذا العدد الماء الحي ووصفه بأربعة أمور:

    • الأول: أنه هو الذي يعطيه تمييزاً له عن الماء الذي أعطاه يعقوب.
    • الثاني: أنه يروي ظمأ النفس أكمل رواء بأنها تشفي أشواقها بالاتحاد بالله وبالمصالحة له وبمعرفة الحق وراحة الضمير وبمغفرة الإثم وبالقداسة والقناعة والسعادة.
    • الثالث: أنه يغني من حصل عليه بالإيمان عن كل وسائل السعادة الخارجية فكأنه يكون فتح في قلبه ينبوع الفرح الروحي فيستطيع أن يستقي «مِيَاهاً بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ ٱلْخَلاَصِ» (إشعياء ١٢: ٣).
    • الرابع: أنه دائم إلى الأبد يبقى لمن حصل عليه مع كل النوازل التي تحل به حتى الموت نفسه لأن مصدر ذلك الماء هو الله «ساكن الأبد» وهو يجري من الله إلى قلوب المؤمنين (رومية ٨: ٣٥ - ٣٩ و٢تيموثاوس ١: ١٢).


    ١٥ «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هٰذَا ٱلْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ».
    ص ٦: ٣٤ و١٧: ٢ و٣ ورومية ٦: ٢٣ و١يوحنا ٥: ٢٠
    لم تدرك المرأة تمام معنى المسيح لكنها صدقت أنه قادر على إعطائها عطية زمنية عجيبة تغنيها عن التعب والعناء في الإتيان إلى تلك البئر. وكلامها يشبه قول اليهود في كفرناحوم «يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز» في أنهم لم يقصدوا به سوى النفع المادي مثلها. أما هي فأصابت إلى حد أنها قالت «أعطني» وشعرت بأنها محتاجة إلى شيء يقدر المسيح أن يهبه لها إذ وعدها بذلك بقوله «لطلبت أنت منه فأعطاك» (ع ١٠) فطلبت وإن لم تفهم كل المراد مما طلبت وحصلت على أكثر مما توقعت بما لا يوصف.
    ١٦ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: ٱذْهَبِي وَٱدْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هٰهُنَا».
    عدل المسيح من هنا عن مخاطبة المرأة بالمجاز إذ نال به غايته من تنبيه ذهنها وحملها على زيادة الإصغاء إلى كلامه وطلب الماء الحي منه. وبقي أن يبيّن لها أنه يعلم ما لم يستطع أحد من الناس أن يعلمه ويُعدها بذلك إلى التسليم بأنه المسيح والشعور بانها خاطئة. فإنه عرف سيرتها الماضية وماذا يكون تأثير كلامه فيها بتبيين هذه المعرفة لها. فكان كطبيب ماهر يعالج النفوس بأن جعلها تشعر بمرض نفسها واحتياجها إلى الشفاء ليرشدها إلى الدواء الروحي. وهذه غايته من قوله «اذهبي وادعي زوجك الخ» وسلك هذا السبيل ليعطيها الماء الحي إجابة لطلبتها وهي قولها «أعطني هذا الماء» أي ليقودها أولاً إلى الشعور بالخطيئة ثم إلى التوبة ثم إلى الإيمان بأنه هو المسيح.
    ١٧ «أَجَابَتِ ٱلْمَرْأَةُ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ».
    صدقت هذه المرأة ولم تدّع أن الرجل الذي كانت تعيش معه زوجها الشرعي. أظهر المسيح حكمته بمدحه إياها على صدقها باعترافها بدلاً من توبيخه إياها على خطيتها لأنه لو لامها لقست قلبها وانصرفت عنه غاضبة وما أصغت إلى كلامه بعد.
    ١٨ «لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَٱلَّذِي لَكِ ٱلآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هٰذَا قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ».
    هذا بيان أنها كانت خاطئة متعدية الوصية السابعة من وصايا الله العشر وأنها لا تزال عائشة في الزنا.
    وكما عرف المسيح خطايا تلك المرأة الخفية يعرف خفايا كل إنسان في كل حين وموضع.
    قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ مدحها المسيح ثانية على صدقها بإقرارها. وهذا وفق قول الكتاب «مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ» (أمثال ٢٨: ١٣) وقوله «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (١يوحنا ١: ٩) والظاهر أن تلك المرأة وإن كانت خاطئة لم تكن قاسية القلب حتى تنكر إثمها أو تعتذر عليه.
    ١٩ «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!».
    لوقا ٧: ١٦ و٢٤: ١٩ وص ٦: ١٤ و٧: ٤
    ما قالته هذه المرأة هنا يدل على تغيّر أفكارها تغيّراً عظيماً من جهة مُخاطبها. وفي كلامها تسليم بصدق قوله عليها.
    أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ تيقّنت استحالة أن شخصاً غريب المكان يهودياً يعرف ما عرف من أمرها وهو مجرد إنسان وتحققت كونه معلماً إلهياً مرسلاً من الله ليُعلن الحق للناس. وتحققت عظمة يسوع بمثل البرهان الذي تحقق به نثنائيل عظمته (ص ١: ٤٨ و٤٩). لكنها لم تكن قد تحققت أنه هو المسيح ع ٢٥ فكان إيمانها به كإيمان التلميذين الذاهبين إلى عمواس (لوقا ٢٤: ١٩).
    ٢٠ «آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيه».
    قضاة ٩: ٧، تثنية ١٢: ٥ و١١ و١ملوك ٩: ٣ و٢أيام ٧: ١٢
    اعتبرته نبياً يعلم كل شيء فابتغت أن يفيدها جواب سؤال مقدر هو أين محل العبادة المقبولة وكان هذا من أهم الأمور عندها. ولعلها أرادت معرفته منذ زمن طويل وهو جوهر الاختلاف بين دين السامريين ودين اليهود وعلة البغض الشديد بينهما. فكأنها قالت لنفسها إن كان الحق في هذا مع السامريين كان الحق معهم في سائر الاختلافات.
    ولا دليل في كلامها أنه أرادت العدول عن الكلام على خطاياها إلى موضوع آخر بل رغبت في أن تستعلم من ذلك المعلم الإلهي طريق الصواب إلى عبادة الله. وظهر بسؤالها ذلك منه أنها خالية من كل تعصب ديني يمنعها من قبول الإرشاد من يهودي وهي سامرية.
    آبَاؤُنَا المرجح أنها أرادت بهؤلاء الآباء السامريين الذي سجدوا في جبل جرزيم منذ عصر نحميا.
    فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ أي جبل جرزيم المشرف على شكيم أي نابلس القريب من بئر يعقوب حيث هما. وكان السامريون قد بنوا هيكلاً هنالك سنة ٣٣٢ ق . م هدمه يوحنا هركانوس سنة ١٢٩ ق. م. ولكن ذلك لم يثن السامريين عن إقامة العبادة هناك وحسبوا ذلك الجبل أقدس جبال الأرض وأثبتوا ادعاءهم أقدسيته بما جاء في (تثنية ٢٧: ٤) بادلين في نسختهم «جبال عيبال» بجبل جرزيم وبما جاء في (تكوين ١٢: ٦ و٧ و١٣: ٤ و٣٣: ١٨ و٢٠) وظنوا أنه هو الجبل الذي ذهب إليه إبراهيم ليقدم عليه إسحاق.
    وكثيرون من الناس في كل عصر يسلكون مسلك هذه المرأة بأن يعبدوا الله كما عبده آباؤهم ويؤمنون به كما آمنوا مستندين استنادها بقولهم «آباؤنا سجدوا الخ» ونحن على آثارهم مقتفون.
    وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لم تزل مع اعتقادها أنه نبي تعتبره يهودياً.
    فِي أُورُشَلِيمَ الخ اختار داود ذلك الموضع للعبادة بإرشاد الله (١أيام ٢١: ٢٦ و٢٢: ١). وأخبر الله سليمان بأنه قبل أورشليم موضعاً لعبادته (٢أيام ٦: ١٢ انظر أيضاً مزمزر ٧٨: ٦٨ و٦٩ و١٣٢: ١٣ و١٤). وفي هذا العدد إيجاز الحذف فلو ذكرته لقالت «وأنت ماذ تقول أي المكانيين ينبغي أن يُسجد فيه وأي مكان قصده موسى بما قاله» في (تثنية ١٢: ٥ - ٧).
    ٢١ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا ٱمْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ».
    ملاخي ١: ١١ و١تيموثاوس ٢: ٨
    يَا ٱمْرَأَةُ، صَدِّقِينِي قال هذا تأكيداً لكلامه وتنبيهاً على أهميته. دعته هي نبياً وهو علمها باعتبار كونه نبياً وأمرها بتصديق كلامه كما يحق لكلام الأنبياء فهو بمنزلة قوله لتلاميذه «الحق أقول لكم» (متّى ٥: ١٨).
    تَأْتِي سَاعَةٌ أي وقت كما في (ص ٢: ٤ و٥: ٢٥ و٢٨ و٣٤) وهو زمان الإنجيل. وفي هذا العدد إشارة إلى بداءة نظام جديد وإزالة النظام القديم الذي استمر نحو ١٥٠٠ سنة وأوجب فيه على اليهود أن يذهبوا ثلاث مرات في السنة ليعبدوا الله في مكان مُعين. وأن ذلك لا يكون بعد أربعين سنة حين تهدم مدينة اليهود وهيكلهم كما هُدم الهيكل في جرزيم قبل وقت هذا الكلام بنحو ١٦٠ سنة بل ابتدأ الآن.
    لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ أي أنتم أيها السامريون. ولا ريب في أن هذه المرأة توقعت أن يقول لكونه يهودياً أن موضع السجود هو أورشليم وأنها تعجبت لما سمعته قال خلاف ذلك أي أن لا فرق في الأمكنة فلا يجب على اليهود أن يسجدوا في جرزيم ولا على السامريين أن يسجدوا في أورشليم. وأبان لها أن سؤالها الذي ظهر لها مهماً جداً وكان كذلك في الأزمنة الماضية ليس بمهم بعد.
    وأعلن يسوع للعالم بما قال هنا إعلاناً جديداً مغايراً لكل الرسوم الماضية ولاعتقاد كثيرين في هذه الأيام لأن الله كان قد عين محال خاصة للعبادة وكان لا بد من تلك المحال مدة بقاء الديانة مفتقرة إلى الرموز والطقوس عن تلك المحال لأنها كانت كلها رموزاً إلى المسيح والمرموز إليه قد أتى فلم تبق حاجة إليه.
    لِلآبِ أحب يسوع أن يعبر للناس عن الله بهذا الاسم باعتبار أنه تعالى آب للناس لعنايته بهم وحبه إياهم على السواء وجعل يسوع بهذا القول اليهود والسامريين في منزلة واحدة أمام الله وذلك خلاف اعتقاد اليهود أنه أبوهم دون غيرهم. نعم إن الله قال لفرعون «إسرائيل ابني» (خروج ٤: ٢٢) ولكن الآن بالمسيح صار جميع البشر أولاد الله.
    وفي ما ذكره المسيح للمرأة قاعدتان أولاً. أنه يجوز تقديم العبادة إلى الله في كل مكان.
    ثانياً: أنه إذا اقتربنا إلى الله يحق لنا أن ندنو منه تعالى كالأولاد من أبيهم.
    ٢٢ «أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ لأَنَّ ٱلْخَلاَصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ».
    ٢ملوك ١٧: ٢٩، إِشعياء ٢: ٣ ولوقا ٢٤: ٤٧ ورومية ٣: ١ و٢ و٩: ٤ و٥
    لم يرد المسيح أن تستنتج المرأة من جوابه أن ديانة السامريين تسرّ الله كديانة اليهود.
    أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ قال هذا بنسبة معرفة السامريين إلى معرفة اليهود. فإن تاريخهم الأصلي أبان جهلهم الله لأنهم أشركوا به بعبادتهم الأوثان معه (٢ملوك ١٧: ٢٤ - ٣٤) وأن معرفتهم بالله كانت ناقصة وأكثرها من تعاليم الناس رفضهم أكثر الأسفار التي أعلن الله مشيئته فيها وتعاليم الأنبياء الذين أرسلهم الله مع أنه لا يستطيع الإنسان أن يعرف الله حق المعرفة وطريق عبادته إلا بمعلناته.
    أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ هذه المرة الوحيدة تكلم المسيح باعتبار كونه يهودياً وهو جواب قول المرأة في العدد العشرين «وأنتم تقولون الخ».
    لِمَا نَعْلَمُ لأن لنا إعلاناً كاملاً من شأن الله. قال ذلك تمييزاً لليهود على السامريين لأنهم قبلوا كل أسفار العهد القديم والسامريون قد رفضوا أكثرها.
    لأَنَّ ٱلْخَلاَصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ بدل المسيح هنا الكلام في معرفة الله وعبادته بالكلام على الخلاص لأن الخلاص هو غاية تلك المعرفة وتلك العبادة.
    وخصّص الخلاص باليهود لثلاثة أسباب:

    • أولاً: إن الله أعلن كل ما يتعلق بالخلاص لليهود. وأوضح معلنات الخلاص في نبوءات العهد القديم وهذه قبلها اليهود ورفضها السامريون فلذلك نال اليهود من معرفة المسيح والخلاص ما لم ينله السامريون.
    • ثانياً: إن يسوع المسيح المخلّص وُلد في الأمة اليهودية.
    • ثالثاً: إن الله جعل الأمة اليهودية وسيلة إيصال الخلاص إلى سائر أمم الأرض لأن عبادة تلك الأمة كانت استعداداً للعبادة المسيحية. وكانت أنبياؤها وكهنتها وملوكها وذبائحها وكل طقوسها رموزاً إلى المسيح وكانت كتبها الدينية تنبئ بذلك الخلاص. وأن المسيح نفسه وُلد من عذراء يهودية في قرية يهودية. ومارس معظم أعماله وتعليمه بين اليهود. وقدم نفسه ذبيحة إثم في أورشليم قاعدة اليهودية. وكان أول المبشرين بالإنجيل يهود. وأول انتصارات الإنجيل في بلاد اليهود وهناك انسكب الروح القدس بقوة وانتظمت الكنيسة المسيحية.


    ٢٣ «وَلٰكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ ٱلسَّاجِدُونَ ٱلْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ، لأَنَّ ٱلآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هٰؤُلاَءِ ٱلسَّاجِدِينَ لَهُ».
    فيلبي ٣: ٣، مزمور ١٤٥: ١٨ وص ١: ١٧
    تفيدنا هذه الآية أن الخلاص لم ينحصر باليهود وإن كان الخلاص منهم.
    وَهِيَ ٱلآنَ أي الساعة المذكورة في ع ٢١ وهي زمن الإنجيل الذي أوله يوم أتى المسيح وأعلن تعليمه الروحي وآخره اليوم الأخير.
    ٱلسَّاجِدُونَ ٱلْحَقِيقِيُّونَ لا اليهود خاصة ولا السامريون ولا الأمم ولا الذين يعبدون الله في موضع دون آخر بل هم المخلصون المقدمون العبادة القلبية الروحية المرضية لله لا المراؤون المقدمون مجرد العبادة الظاهرة الرمزية.
    يَسْجُدُونَ لِلآبِ تدل القرينة على أن المراد هو أن الساجدين الحقيقيين يعرفون من يعبدونه حق المعرفة ويعتبرونه أباً لا كالذين يسجدون لمن لا يعلمون كالسامريين المذكورين في ع ٢٢ وعلى أن العبادة الحقيقية لا تقيد بمكان دون آخر ولا بأمة دون غيرها. فيمكن أن تُؤتى في كل مكان من أيٍّ كان وأن يقترب الإنسان إلى الله كما يقترب الولد من أبيه بوقار وثقة ومحبة.
    بِٱلرُّوحِ أي بالقلب لا بمجرد الشفتين. وهذا هو الأمر الجوهري في العبادة وما سواه عرض كالموضع واللغة وهيئة العابد ووضعه. وتكون العبادة بالروح إذا قُدمت بمعونة الروح القدس وتعليمه (رومية ٨: ٢٦) ونتجت عن أشواق روحية تدل على حياة العابد الروحية ( ١كورنثوس ٦: ١٩ قابل ما في رومية ١: ٩ بما في أفسس ٦: ١٨).
    وَٱلْحَقِّ لأن مجرد الإخلاص لا يكفي إذ يمكن الإنسان أن يعبد الشمس بالإخلاص. فالعبادة المقبولة تتضمن معرفة الله وطريق الاقتراب منه كما أعلنها يسوع المسيح الذي هو الحق. وأن تكون صحيحة لا ظاهرة فقط (مزمور ١٤٥: ١٨) وأن لا تكون بواسطة ظلال النظام الموسوي ورموزه بل بواسطة نور النظام المسيحي الكامل. وفي هذه العبارة بيان الفرق بين الديانة المسيحية وسائر الأديان.
    لأَنَّ ٱلآبَ سمى يسوع هنا الله «بالآب» ثلاث مرات (ع ٢١ و٢٣) إشارة إلى أنه إله المحبة لا إله النقمة والقدرة فقط.
    طَالِبٌ مِثْلَ هٰؤُلاَءِ الخ لا يعتبر الله من الألوف وألوف الألوف الساجدين إلا الذين يسجدون له بالروح والحق. والكلام يدل على أن هؤلاء قليلون وأن الله يسر بهم غاية المسرة حيث كانوا. وأنه أرسل ابنه إلى العالم ليجمعهم. وهذا علة مخاطبة يسوع لتلك السامرية.
    ٢٤ «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا».
    ٢كورنثوس ٣: ١٧، أعمال ٧: ٤٨ و١٧: ٢٥ ويهوذا ٢٠
    اَللّٰهُ رُوحٌ هذا سبب ثان لوجوب أن نعبد الله بالروح والحق والسبب الأول ذُكر في ع ٢٣ وهو طلب الله لمن يعبدونه كذلك. فروحية الله تقتضي أن يُعبد عبادة روحية. وفي هذه العبارة ثلاث حقائق:

    • الأولى: إن الله ليس بمادة وليس بجزء من الكون ولا كله.
    • الثانية: إن الله لا يمكن أن يراه إنسان أو أن يبيّنه بصورة أو تمثال.
    • الثالثة: إن الله يمتاز عن أرواح الملائكة وأرواح الناس لأنها مخلوقة ومحدودة ولذلك يستحيل أن يُحصر في مكان جبلاً كان أم هيكلاً كما زعمت السامرية (أعمال ٧: ٤٨ و١٧: ٢٥). وقوله «الله روح» حقيقة امتازت بها الديانة اليهودية على كل ما سواها من ديانات الأمم.


    فَبِٱلرُّوحِ أي بالعقل والقلب والحرارة والأشواق الروحية لغايات روحية وبإرشاد الروح القدس.
    وَٱلْحَقِّ أي بالإخلاص دون رياء أو خداع أو اتكال على الطقوس التي هي ظلال الحقائق وبمعرفة المعبود حق المعرفة كما أعلنه المسيح الذي هو الحق.
    يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا أوجب كون الله روحياً أن يُعبد عبادة روحية قلبية غير قائمة بحركات الشفتين والركوع وغيره من الأوضاع الجسدية دون القلب. وأوجبها أيضاً عدم قبول الله غيرها. وما قيل هنا لا يمنع مشاركة الجسد للروح في العبادة إنما ينفي اتخاذ العبادة الخارجية بدلاً من العبادة القلبية.
    ٢٥ «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْء».
    ع ٢٩ و٣٩
    كلام المسيح على الماء الحي حمل هذه المرأة على أن تسأله إياه. وكلامه على خطيئتها حملها على الاعتراف بأنه نبي. وكلامه هنا على بطلان عبادتها السامرية ووجوب أن تعبد الله عبادة جديدة قلبية سامية حيّرها وحملها على الشعور بجهلها ونقصان عبادتها القديمة وعلى الاشتياق إلى ما هو أحسن وأفضل. وما قيل هنا بيان ذلك الاشتياق.
    أَنَا أَعْلَمُ كانت كسائر السامريين في الإيمان بأسفار موسى الخمسة وانتظارهم المسيح بناء على ما قيل في تثنية ١٨: ١٥.
    مَسِيَّا، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ قوله «الذي يقُال له الخ» تفسير «لمسيا» وهذا التفسير لإفادة قراء بشارته من الأمم.
    يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ انتظرت معلماً إلهياً مثل موسى يزيل من قلبها كل الشكوك الدينية ويحكم بالصواب في ما اختلف فيه معلمو الدين ويفسر لها ما لم تفهمه من كلام يسوع في روحية الله وعبادته.
    ٢٦ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَنَا ٱلَّذِي أُكَلِّمُكِ هُو».
    متّى ٢٦: ٦٣ ومرقس ١٤: ٦١ و٦٢ وص ٩: ٢٧
    أظهر المسيح بهذا خمسة أمور:

    • أولاً: تنازله تنازلاً عجيباً. فإنه أنبأها بكونه هو المسيح وهي امرأة سامرية جاهلة خاطئة ولم ينبئ بذلك الكتبة العلماء ولا اليهود المنتقدين. ولا ريب أنه رآها مستعدة لقبول كلامه وتصديقه. وكلامه هذا جواب عن سؤالها وهو قولها «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ» (ع ١٢). ومطلوب شوقها إلى إتيان المسيح والتعلم منه. ومنال طلبتها أي قولها «اعطني من هذا الماء» أي الماء الحي.
    • ثانياً: الرحمة العظيمة. فإنّه رغب في خلاصها وهي خاطئة.
    • ثالثاً: الحكمة العظيمة. فإنه قادها إلى المطلوب تدريجاً إذ سألها أولاً معروفها ثم حملها على الانتباه لمراده بالمجاز أي الماء الحي ثم أيقظ ضميرها بكلامه على سيرتها الماضية ثم علمها روحية العبادة ثم أوصلها بما ذُكر إلى إعلانه الأخير أي أنه هو المسيح.
    • رابعاً: صبره العظيم بتعليمه إياها على ما هي عليه من الجهل.
    • خامساً: قوته العجيبة بتغيير قلبها ونتيجة نفسها لأن نتيجة الحادثة تبيّن أنها آمنت بالمسيح عندما أعلن نفسه لها.


    ٢٧ « وَعِنْدَ ذٰلِكَ جَاءَ تَلاَمِيذُهُ، وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ ٱمْرَأَةٍ. وَلٰكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: مَاذَا تَطْلُبُ أَوْ لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا».
    عِنْدَ ذٰلِكَ أي حين بلغ الحديث إلى هذا الحدّ.
    جَاءَ تَلاَمِيذُهُ أي عادوا من المدينة التي ذهبوا إليها ليبتاعوا طعاماً ع ٨ فالمرأة لم ترد أن تتكلم في حضورهم فانصرفت.
    وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ ٱمْرَأَةٍ علة تعجبهم أنه كلف نفسه أن يعلم امرأة لاعتقادهم كسائر اليهود قلة فهم المرأة وقبولها التعليم أو إتيانه ذلك على أثر ما عرفوه من تعبه من السفر أو تعصبهم لأنها كانت امرأة سامرية. وهذا مما يدلنا على أن حنو المسيح أعظم من حنو رسله.
    وَلٰكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ الخ لم يجسروا أن يسألوه عن علة مخاطبته للمرأة مع تعجبهم منها لهيبته وشدة احترامهم إياه.
    ٢٨ «فَتَرَكَتِ ٱلْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ».
    فَتَرَكَتِ ٱلْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا حملتها رغبتها في الأمور الروحية التي سمعتها من المسيح على عدم الالتفات إلى الأمور الدنيوية وشدة محبتها لأهل وطنها حملتها على الإسراع في تبليغهم أنباء المسيح السارة حتى لم ترد أن تعاق بملء جرتها وحملها إياها إلا بعد أن تذهب وترجع. وحملتها مسرتها بالماء الحي الذي حصلت عليه على عدم المبالاة بماء بئر يعقوب.
    وَقَالَتْ لِلنَّاسِ في الطريق وفي المدينة.
    ٢٩ «هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ؟».
    ع ٢٥
    هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا رغبتها في نفع الغير وتنوير أذهانهم تدل على أنّ قلبها تجدد حقاً. فكان ذلك كأندراوس بإخباره بطرس وفيلبس بإخباره نثنائيل. وكانت أول من بشّر السامريين بالمسيح. وأظهرت الحكمة بأنها لم تجادل الناس وتجتهد في أن تقنعهم بكلامها بل سألتهم أن يأتوا ويفحصوا عن ذلك بأنفسهم. فقولها لهم كقول فيلبس لنثنائيل (ص ١: ٤٦). وكثيراً ما نرى الأسلوب في الإرشاد أنفع من الجدال ويستطيعه الساذج والعالم والفصيح والعيّ وهو أن يقول الإنسان لغيره قرأت الإنجيل وعرفت الحق فهلمّ انظر.
    قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ قصدت بهذه المبالغة أن تنبئ الناس بمعرفة يسوع الخارقة الطبيعة لأن ما أنبأها به يسوع أقنعها أنه قادر على إنبائها بسائر ما فعلت. فالبرهان الذي أقنعها بأن يسوع هو المسيح كالبرهان الذي أقنع نثنائيل بأن يسوع كذلك فأقامته لأهل وطنها بشهادتها.
    أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ لم تقل هذا هو المسيح على سبيل الإخبار دفعاً للإنكار والجدال وادعاءها أنها تعرف ما لم يعرفوا وأنها أهل لأن تعلمهم. واستفهامها أحسن دعوة لهم إلى الفحص والوقوف على الحق.
    ٣٠ «فَخَرَجُوا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ».
    فَخَرَجُوا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ كان لكلام هذه المرأة تأثير عظيم في كل أهل المدينة. ولا ريب في أن روح الله حرك قلوبهم حتى أصغوا إلى كلامها واهتدوا به.
    وفي ما ذُكر هنا تشجيع لمن يتعب في إرشاد نفس واحدة إلى الحق لأنه ربما كان بذلك واسطة إرشاد أهل مدينة إلى المسيح كما فعل المسيح بإرشاده تلك المرأة. وفيه تشجيع للنساء على أن يكنّ شاهدات للمسيح ولحق الإنجيل فإن تلك المرأة مع جهلها هدت بتعليمها إلى المسيح أكثر ممن هداهم نيقوديموس مع كل علمه.
    وَأَتَوْا إِلَيْهِ ولم يبلغوا البئر حيث المسيح وتلاميذه بل كانوا مقبلين في الطريق حيث يمكن المسيح والتلاميذ أن يروهم وعند ذلك حدثت المكالمة التي ذُكرت بعد (ع ٣١ - ٣٨).
    ٣١ «وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: يَا مُعَلِّمُ، كُلْ».
    وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ أي المدة بين ذهاب المرأة وقدوم أهل المدينة.
    سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أتوا بالطعام من المدنية ع ٨ وعرفوا أن جسد يسوع في حاجة إليه لما لقي من تعب السفر فطلبوا إليه أن يأكل.
    ٣٢ «فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُم».
    المعنى أنه حدث لي ما أبهجني وانتعشت نفسي منه حتى لم يبق لي قابلية للطعام الجسدي وأنتم تجهلون ذلك الحادث.
    لِي طَعَامٌ لآكُلَ كلمهم المسيح بالمجاز ليكون لتفسير كلامه بعد وقع في قلوبهم أشد مما لو كلمهم بغيره. وأشار بذلك إلى ما أتاه في غيبتهم من تبشير السامرية بالإنجيل وأن مسرته بالتبشير أوفر من مسرة الجوعان بتناول الطعام. وأن تلك المسرة عظمت حتى شغلت جسده عن الحاجة إلى الأكل فإن الناس يأكلون بغية اللذة والتقوّي لكن المسيح وجد كل ذلك من نفسه بالعمل الروحي. كذلك يكون للناس الروحيين من القوت السماوي ما يقويهم للعمل ويعزيهم في الشدائد مما لا يعرفه غيرهم.
    ٣٣ «فَقَالَ ٱلتَّلاَمِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟».
    قالوا ذلك في المناجاة أو على بعد من المسيح وكانوا بطيئي القلوب عن فهم مراد المسيح الروحي فلم يستطيعوا أن يدركوا معنى للطعام غير المأكول المادي المعتاد. وكذلك عسر على نيقوديموس إدراك مراد المسيح «بالولادة الجديدة» والمرأة السامرية «بالماء الحي».
    ٣٤ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَه».
    أيوب ٢٣: ١٢ وص ٦: ٣٨ و١٧: ٤ و١٩: ٣٠
    طَعَامِي وصل المسيح إلى البئر معيياً (ع ٦) عطشاً (ع ٧) ولا ريب في أنه كان جائعاً أيضاً فلما رأى فرصة لعمل الخير نسي تعبه وعطشه وجوعه ووجده في عمل مشيئة أبيه وإتمام عمله راحة ورياً وشبعاً. وقول المسيح هنا يوافق قوله في عدة أماكن أُخر مما يبين مسرته بعمله (ص ٥: ٣٠ و٦: ٣٨ و٧: ١٨ و٨: ٥٠ و٩: ٤ و١٢: ٤٩ و٥٠ و١٤: ٣١ و١٥: ١٠ و١٧: ٤).
    مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي أي المناداة بالخلاص للهالكين كما يتضح من قوله في (ص ٦: ٣٩ و٤٠).
    وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ اي عمل الفداء والمسيح تمم ذلك بطاعته الكاملة للناموس عوضاً عن الناس وكفّر بموته على الصليب عن كل سيآتهم (ص ١٧: ٤).
    ٣٥ «أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي ٱلْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱرْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَٱنْظُرُوا ٱلْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ٱبْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ».
    متّى ٩: ٣٧ ولوقا ١٠: ٢
    أَمَا تَقُولُونَ هنا محذوف تقديره إذا «تكلمت على ما هو طبيعي في الزرع والحصاد».
    إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي ٱلْحَصَادُ يُفهم من هذا أن المسيح تكلم به في نحو منتصف كانون الأول أي قبل أربعة أشهر من منتصف كانون الأول الذي يبتدئ الحصاد فيه هنالك (لاويين ٢٣: ١٠ وتثنية ٦: ٩) وهذا هو الواضح المرجح. وذهب بعضهم إلى أن المسيح ذكر قانوناً عاماً وهو أن بين الزرع والحصاد أربعة أشهر.
    ٱرْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ هذا مجاز حقيقته انتبهوا للسامريين الآتين جماعات من سوخار ليسمعوا تعليمي ع ٣٠ وقال «الحقول ابيضت» لأن البياض لون الحنطة عند الحصاد. ولم تكن حينئذ حقول سوخار قد ابيضت لأن ذلك لا يكون إلا بعد أربعة أشهر فاعتبر استعداد الناس لقبول الإنجيل ورغبتهم فيه حصاداً روحياً وكلامه للمرأة زرع ذلك الحصاد.
    بين الزرع الحقيقي (على التفسير الثاني المذكور آنفاً) والحصاد أربعة أشهر أما بين زرع المسيح المجازي وحصاده لم يكن أكثر من ساعة. وقابل المسيح التبشير بالإنجيل بالزرع في (متّى ٩: ٣٦ - ٣٨ ومتّى ص ١٣ ولوقا ١٠: ٣٧).
    ٣٦ «وَٱلْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ ٱلزَّارِعُ وَٱلْحَاصِدُ مَعاً».
    دانيال ١٢: ٣
    كلام المسيح هنا لم يقيّد بما كان يحدث في السامرة بل أُطلق على العالم كله باعتباره حقلاً لزرع الحق فيه حسب قوله «الحقل هو العالم» (متّى ١٣: ٣٨). وفي هذا الكلام تشجيع لكل الذين يتعبون في سبيل خلاص النفوس ويؤكد لنا «أَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ» (غلاطية ٦: ٩).
    وَٱلْحَاصِدُ أي قائد الناس بتبشيره إلى المسيح.
    يَأْخُذُ أُجْرَةً يأخذ بعضها في الحال بمسرته بإنقاذ الهالكين وإكرام يسوع وأكثرها في السماء كما قيل في (دانيال ١٢: ٣ ومتّى ١٩: ٢٨).
    ثَمَراً لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ أي نتائج روحية تدوم إلى الأبد لأن النفوس الناجية بالتبشير تنال سعادة لا نهاية لها. وهذا خلاف حصاد الحنطة الذي لا يبقى إلا وقتاً قصيراً.
    لِكَيْ يَفْرَحَ ٱلزَّارِعُ وَٱلْحَاصِدُ مَعاً كما كان وقتئذ باعتبار المسيح بمنزلة الزارع وهو والتلاميذ بمنزلة الحاصد وكما يكون على الدوام لكل من يسعى في خلاص النفوس.
    وكما أنه في الفلاحة العادية يشترك كثيرون من الفعلة في الحرث كذلك يكون في الفلاحة الروحية. ومن الزرع الروحي تعليم الوالدين أولادهم بالتعليم في مدارس الأحد وقراءة الكتاب المقدس على مسامع الناس ومخاطبتهم في الواجبات الدينية وتوزيع الكتب الروحية عليهم. ومن الحصاد الروحي معرفة إيمانهم بتلك الوسائط وقبولنا إياهم في شركة الكنيسة أو مشاهدتنا ذلك.
    والمشاركة في الفرح تكون في هذا العالم إذا ظهرت نتائج العمل فيه ولكن معظم المشاركة في الفرح يكون في نهاية العالم يوم الحصاد العظيم (متّى ١٣: ٣٩).
    ٣٧ «لأَنَّهُ فِي هٰذَا يَصْدُقُ ٱلْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُد».
    هذا القول مثلٌ عند اليهود أو الأمم بُني على ما يحدث كثيراً في هذا العالم وهو أن الواحد يتعب وغيره ينتفع بتعبه وسمح الله بذلك لما تقتضيه حكمته (ميخا ٦: ١٥).
    ٣٨ «أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».
    أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا أشار المسيح بهذا إلى أعمال كل التلاميذ باعتبار كونهم رسلاً وذلك بمناداتهم أن المسيح قد أتى ودعوتهم الناس إلى الإيمان به وبتأسيس الكنيسة كما فعلوا في يوم الخمسين ويجمعهم المؤمنين إليها من كل قطر.
    مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ كان عمل الرسل في خدمتهم الإنجيل زهيداً بالنسبة إلى العمل الاستعدادي الذي ظل جارياً نحو أربعة آلاف سنة ولم يتم إلا حين عُلق المسيح على الصليب.
    آخَرُونَ تَعِبُوا وهم أنبياء العهد القديم من أولهم إلى يوحنا المعمدان (وهو أعظمهم بموجب شهادة المسيح) والكهنة الذين قدموا ذبائح أشارت إلى ذبيحة المسيح العظمى والمسيح نفسه وهو لم ير مدة حياته على الأرض من نتائج خدمته سوى قليل.
    وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ لأن نجاحهم في التبشير لم يكن سوى نتيجة العمل الاستعدادي الذي أتاه خدم الله في كل زمان العهد القديم. ولا ريب في أن حصاد النفوس الذي كان في يوم الخمسين نتيجة تعب بعض الفعلة الذين ماتوا ولم يروا نتائج أتعابهم (مزمور ١٣٦: ٦ وجامعة ١١: ٤).
    كل مبشر بالإنجيل بأمانة زارع بالنسبة إلى من يأتون بعده وحاصد بالنسبة إلى الذين سبقوه.

    إيمان أهل السامرة بالمسيح ع ٣٩-٤٢


    ٣٩ «فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلسَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ ٱلْمَرْأَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْت».
    ع ٢٩
    فَآمَنَ بِهِ... كَثِيرُونَ هذا بدء الحصاد المذكور في العدد الخامس والثلاثين.
    بِسَبَبِ كَلاَمِ ٱلْمَرْأَةِ لم يذكر البشير أن يسوع صنع شيئاً من المعجزات في السامرة إلا معرفته الفائقة الطبيعة التي أظهرها في مخاطبة المرأة السامرية فتوقع هؤلاء السامريون مجيء المسيح وآمنوا بأن يسوع هو المسيح بشهادة تلك المرأة. ومن العجائب أن أعظم النتائج قد يكون من وسائط زهيدة كما كان من نتائج مخاطبة مسافر يستريح قليلاً لامرأة تستقي من بئر. وهذا خبر مثالٍ لانتهاز كل فرصة من فرص فعل الخير.
    ٤٠ «فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلسَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ».
    جاء المسيح إلى خاصته اليهود ولم تقبله وأما السامريون الذين يعدهم اليهود من المرفوضين فقبلوه بفرح. وعاملوه بخلاف ما عامله الجدريون فإنهم طلبوا إليه أن ينصرف عن تخومهم (متّى ٨: ٣٤).
    سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ سروا بتعليم المسيح سروراً عظيماً حتى لم يكتفوا بما سمعوه من ذلك التعليم عند البئر بل دعوه إلى أن يقيم عندهم مدة يعلمهم.
    فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ لا ريب في أن هذين اليومين كانا وقت سرور للمعلم والمتعلمين. ويمكننا أن نعرف ماذا كانت فائدة تعليمه في ذينك اليومين مما عرفناه من فائدة مخاطبته للمرأة بعض الدقائق. وظهرت تلك الفائدة بعد موت المسيح بوفرة من آمن واعتمد من السامريين بواسطة فيلبس المبشر والرسولين بطرس ويوحنا (أعمال ٨: ٥ - ٢٥).
    ٤١، ٤٢ «٤١ فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كَلاَمِهِ. ٤٢ وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَم».
    ص ١٧: ٨ و١يوحنا ٤: ١٤
    بِسَبَبِ كَلاَمِهِ يختلف تأثير الأدلة في الناس باختلاف عقولهم فيقنع بعضهم بنوع من البراهين والآخر بنوع آخر فبعض السامريين اقتنع بشهادة المرأة (ع ٣٩) وبعضهم بما ظهر في كلام المسيح من الحكمة والسلطان الإلهي. وعلة إيمان كل من الفريقين أن روح الله ليّن قلوبهم وأنار عقولهم وأعدهم للإيمان. فالذي يجدد النفوس نعمة روح الله لا الآيات والمعجزات.
    قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ هذا وفق قول الرسول «الإيمان بالخبر» (رومية ١٠: ١٧).
    ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَمِ أدرك السامريون ما لم يدركه إلا قليل من اليهود ومن الرسل أنفسهم يومئذ من روحانية خدمة المسيح وعمومها. وهو أنه منقذ الناس من الخطية والموت الأبدي. وأنه لم يأت لأمة واحدة بل لجميع قبائل الأرض.
    اعتقد السامريون وحيَ أسفار موسى وفي هذه الأسفار وعد لإبراهيم بأنه «تَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ» (تكوين ١٢: ٣) وفيها نبوة بالمسيح (تكوين ٤٩: ١٠) ولعل المسيح فسر في خطابه للسامريين في ذينك اليومين هاتين النبؤتين وغيرهما مما يتعلق به في تلك الأسفار فعرفوا من ذلك ما اعترفوا به هنا وهو أن يسوع هو المسيح مخلص العالم. وكان السامريون أقل من اليهود تعصباً وكبرياء ولم ينتظروا كاليهود أن يكون المسيح ملكاً أرضياً فيمتنعوا مثلهم عن قبوله منقذاً روحياً. تقضّى على المسيح قبل ذلك ثمانية أشهر في اليهودية مبشراً ولم يحصل هناك على نتيجة مثل النتيجة التي حصل عليها بتبشيره يومين في السامرة.

    بداءة خدمة المسيح في الجليل ع ٤٣ إلى ٥٤ سنة ٢٧ م. ومدة تلك الخدمة نحو خمسة أشهر


    ٤٣ «وَبَعْدَ ٱلْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى ٱلْجَلِيلِ».
    ع ٤٠
    وَبَعْدَ ٱلْيَوْمَيْنِ وهما اللذان تقضيا عليه في السامرة.
    مَضَى إِلَى ٱلْجَلِيلِ سوى الناصرة. وذُكر هذا المضي في (متّى ٣: ١٢ ومرقس ١: ١٤ ولوقا ٤: ١٤) والموضع الذي ذُكر أنه بلغه أولاً في الجليل هو قانا (ع ٤٦). وأبان البشير في الآيتين الرابعة والأربعين والخامسة والأربعين الفرق بين قبول السامريين للمسيح (مع كونه غريباً يهودياً والسامريون لا يخالطون اليهود وهو لم يعمل بينهم معجزة) وقبول أهل وطنه الجليليين الذين شاهدوا معجزاته في اليهودية له.
    ٤٤ «لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ أَنْ: لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ».
    متّى ١٣: ٥٧ ومرقس ٦: ٤ ولوقا ٤: ٢٤
    لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ هذا علة عدم ذهابه إلى الناصرة فكأن البشير قال مضى يسوع إلى الجليل ولم يدخل الناصرة وطنه «لأن يسوع نفسه شهد» الخ. أو قصد بيان على أن المسيح لم يبتدئ خدمته في الجليل وذهب أولاً إلى اليهودية وبشر فيها نحو ثمانية أشهر وصنع هناك معجزات كثيرة واشتهر بأنه نبي ثم أتى إلى الجليل «لأن» الخ.
    لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ انظر الشرح (متّى ١٣: ٥٧) والمراد بوطنه هنا إما الناصرة حيث تربى كما في لوقا ٤: ٢٤ أو بلاد الجليل التي الناصرة إحدى قراها.
    ٤٥ «فَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْجَلِيلِ قَبِلَهُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي ٱلْعِيدِ، لأَنَّهُمْ هُمْ أَيْضاً جَاءُوا إِلَى ٱلْعِيدِ».
    ص ٢: ٢٣ و٣: ٢، تثنية ١٦: ١٦
    قَبِلَهُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ أي سكان الجليل سوى أهل الناصرة وقبلوه نبياً أو معلماً من الله وكانت معرفتهم به ناقصة وإيمانهم ضعيفاً كإيمان اليهود المذكور في (ص ٢: ٢٣).
    إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ تدل القرينة على أن الجليليين لم يميلوا إلى قبوله نبياً لأنه واحد منهم ولكن لاشتهاره في أورشليم وما صنعه من المعجزات هنالك قبلوه كذلك.
    فِي ٱلْعِيدِ أي عيد الفصح وكان قد حدث منذ ثمانية أشهر كما من مقابلة ما في ص ٢: ٢٣ بما في ص ٤: ٣٥.
    ٤٦ «فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا ٱلْجَلِيلِ، حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ٱبْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرَنَاحُومَ».
    ص ٢: ١ إلى ١١
    قَانَا ٱلْجَلِيلِ انظر الشرح ص ٢: ١
    حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً ص ٢: ١ - ١١. لا بد من أن مجيء المسيح ثانية إلى قانا ذكّر أهلها المعجزة التي صنعها عندهم في مجيئه الأول.
    وَكَانَ خَادِمٌ الخ الأرجح أن هذا الخادم كان قائداً في عسكر هيرودس أنتيباس وأن كفرناحوم كانت إما محل خدمته وإما محل سكنه مع أهل بيته.
    ٱبْنُهُ مَرِيضٌ كان هذا في حد ذاته مصاباً لخادم الملك لكنه كان علة إتيانه إلى المسيح ووسيلة إلى خلاص نفسه ونفوس أهل بيته.
    ٤٧ «هٰذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، ٱنْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ٱبْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ».
    إِذْ سَمِعَ الخ كان إيمانه بالمسيح نتيجة مما سمعه من نبإ معجزاته وظن إتيان المسيح إلى مخدع المريض ضرورياً لشفائه. وكان سؤاله إياه أن ينزل من قانا إلى كفرناحوم مبنياً على كون قانا أعلى منها.
    ٤٨ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!».
    ١كورنثوس ١: ٢٢
    يدل كلام المسيح على أن إيمان خادم الملك بقدرة المسيح لم يكن خالصاً من الشكوك وأنه كان يتوقع أن يشاهد بعينيه معجزة من معجزات المسيح قبل أن يثق به كل الثقة فامتحنه قبل إجابة طلبته لكي يقوي إيمانه ويزيد رغبة في الطلب. فعامله كما عامل المرأة الفينيقية (متّى ١٥: ٢٤). وخاطبه بصيغة الجمع بقوله «لا تؤمنون الخ» لكونه لم ينفرد بذلك بل كان له فيه أمثال كثيرة.
    ٤٩ «قَالَ لَهُ خَادِمُ ٱلْمَلِكِ: يَا سَيِّدُ، ٱنْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ٱبْنِي».
    ص ١١: ٢١ و٣٢
    هذا صراخ لجاجة ويأس وخوف لئلا تذهب بالتمهل فرصة إنقاذ الابن من الموت الذي أشرف هو عليه. وشدة احتياجه إلى المسيح زادته تمسكاً به لكنه ما برح يعتقد أن وصول المسيح إلى المريض ضروري لشفائه وأن قوته محدودة في الشفاء ما دام المريض حياً وأنه لا يستطيع شيئاً بعد موته.
    ٥٠ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ. فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ، وَذَهَبَ».
    دل جواب المسيح أن تمهله كان لإفادة الوالد تقوية إيمانه لا لعدم إرادته شفاء ولده وأنه قبل إيمانه وإن لم يكن خالصاً.
    ٱذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ أي أني شفيت ابنك فهو صحيح معافى فلا حاجة إلى ذهابي إليه.
    أظهر المسيح بهذه المعجزة خير شفقة بشفائه من لم يره قبلاً بطلب أبيه وقوة غريبة بأنه شفاه على البعد بمجرد إرادته وبأنه عرف النتيجة في الحال.
    فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ طلب منه المسيح أن يؤمن بمجرد قوله دون أن يرى شيئاً من الآيات والعجائب فاحتمل الامتحان ودليل صحة إيمانه أنه انصرف ولم يسأل المسيح أن يذهب معه.
    ٥١ «وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ».
    وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ أي إلى كفرناحوم وهي مدينة على شاطئ بحيرة طبرية وأوطأ من قانا التي هي في كورة جبلية.
    ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ آتين من كفرناحوم لتبشيره بشفاء ابنه.
    ٱبْنَكَ حَيٌّ قال له المسيح «ابنك حي» وبشره عبيده بشفاء ابنه بالعبارة نفسها.
    ٥٢ «فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى، فَقَالُوا لَهُ: أَمْسٍ فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ ٱلْحُمَّى».
    فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ليثبت إيمانه ويدفع الظن أنه شُفي اتفاقاً لأن شفاءه كان في الدقيقة التي فيها أنبأه المسيح بشفائه.
    أَمْسٍ كان أول اليوم عندهم المغرب فيصح هذا الكلام إن كان العبيد لقوه في أي ساعة كانت بعد مغرب النهار الذي شُفي فيه الابن.
    فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ أي الساعة الثانية بعد الظهر لأنه كان ذلك في شهر كانون الأول (ص ٤: ٣٥) والمسافة بين قانا وكفرناحوم خمسة وعشرون ميلاً أو سفر يوم. وقد عجب البعض من أن الوالد لم يبلغ بيته يوم شفاء ابنه مع شدة رغبته في شفائه ولكن الذي ظهر لنا مما ذُكر أنه لم يتمهل في السفر. فعجبهم ليس في محله لوجهين الأول ما ذُكر والثاني تحققه شفاءه بإيمانه بالمسيح وعلى هذا كان في راحة بال وغنى عن سرعة السير.
    ٥٣ «فَفَهِمَ ٱلأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّه».
    وقوع أنباء المسيح بشفاء الابن وشفاءه في وقت واحد حقق لخادم الملك أن الأول علة الثاني.
    فَآمَنَ هذا الإيمان أعلى درجة من الإيمان الذي ذُكر في الآية. ففي الأول آمن بأن يسوع قادر على شفاء ابنه وفي هذا آمن بأنه المسيح وصار تلميذاً له. فبلغ الإيمان الحقيقي في ثلاث درجات الأولى عند وصوله إلى المسيح والثانية عند قول المسيح له «ابنك حي» والثالثة لما بلغ بيته وشاهد ابنه صحيحاً معافى.
    وَبَيْتُهُ كُلُّهُ مرض واحد من أهل هذا البيت كان وسيلة حياة أبدية للجميع بالإيمان بالذي شفاه. فأهل البيت شاهدوا شفاء الولد بغتة ثم فهموا من الوالد أن علة ذلك الشفاء المسيح.
    ٥٤ «هٰذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيل».
    آيَةٌ ثَانِيَةٌ في الجليل غير المعجزات الكثيرة التي صنعها في اليهودية ص ٣: ٢ و٦: ٢٣. والآية الأولى في الجليل تحويل الماء خمراً صنعها قبل ذهابه إلى اليهودية وعوده إلى الجليل.
    لَمَّا جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ ذكر البشير هذا كأنه قسم جديد من خدمة المسيح. واكتفى يوحنا بذكر معجزتين من كل المعجزات التي صنعها المسيح في هذا القسم من خدمته إحداهما شفاء ابن خادم الملك التي مر ذكرها والأخرى إشباع خمسة الآلاف المذكورة في ص ٦. والآية الأولى التي ذكرها كل من متّى ولوقا غير الآية الأولى التي ذكرها يوحنا.
    وكانت غاية يوحنا كتابة أنباء المسيح في اليهودية ومعظم غاية سائر الإنجيليين كتابة إنبائه في الجليل فلذلك عدل يوحنا عن ذكر ما يتعلق بالخدمة الجليلية كذهاب يسوع إلى الناصرة ورفض أهلها إياه (لوقا ٤: ١٦ - ٣١) ومكثه في كفرناحوم (متّى ٤: ١٣). ودعوة أربعة من رسله (متّى ٤: ١٨ - ٢٢ ومرقس ١: ١٦ - ٢٠ ولوقا ٥: ١ - ١١). وجولانه في الجليل (متّى ٤: ٢٣ - ٢٥). ودعوة متّى (متّى ٩: ٩). ومعجزات كثيرة صنعها في تلك المدة.


    الأصحاح الخامس


    شفاء المريض عند بركة بيت حسدا وما نتج عن ذلك (أبريل - نيسان سنة ٢٨م)


    ١ «وَبَعْدَ هَذَا كَانَ عِيدٌ لِليَهُودِ، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    لاويين ٢٣: ٢ وتثنية ١٦: ١ ويوحنا ٢: ١٣
    وَبَعْدَ هَذَا أي بعد مرور المدة بين ما جاء في آخر أصحاح ٤ وأول أصحاح ٥، وهي غالباً نحو أربعة أشهر.
    كَانَ عِيدٌ الأرجح أنه عيد الفصح، فإن كان كذلك كانت مدة تبشير المسيح نحو ثلاث سنين ونصف سنة.
    فَصَعِدَ يَسُوعُ بقيت شريعة موسى سائدة إلى أن مات المسيح، وتمم يسوع أثناء حياته على الأرض كل مطالب تلك الشريعة.
    ٢ «وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ».
    نحميا ٣: ١، ٣٢ و١٢: ٣٩
    بَابِ الضَّأْنِ كان هذا الباب قرب الهيكل في جانب المدينة الشرقي، والأرجح أنه سُمِّي كذلك لأنهم كانوا يأتون منه بغنم الذبيحة إلى الهيكل.
    بِرْكَةٌ.. بَيْتُ حِسْدَا أي بيت الرحمة، ولعلها سُمّيت بذلك لما نسبه الناس إليها من قوة الشفاء. ولا نستطيع اليوم تعيين موقعها. وظن بعضهم أنه ما يُعرف الآن بنبع العذراء الذي يجري ماؤه في قناة تحت الأرض إلى بركة سلوام، وتُسمى أيضاً ببركة الملك (نحميا ٢: ١٤).
    لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ الأرجح أنها بُنيت لنفع المرضى الذين كانوا يزدحمون هناك طلباً للشفاء، وكانت مفتوحة من جهة ومسدودة من الجهة الأخرى.
    ٣ «فِي هَذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ، يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ المَاءِ».
    جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى من أصحاب الأمراض المزمنة الذين يئسوا من الشفاء بواسطة الأطباء والأدوية، فلجأوا إلى تلك الأروقة.
    عُسْمٍ أي مصابين بتيبُّس مفاصل اليدين أو الرجلين.
    يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ المَاءِ هذا يدل على أن ذلك الماء لم يكن نافعاً للشفاء ما لم يتحرك. وأجمع المفسرون على أن ماء تلك البركة كان يجري إليها من عينٍ يجري ماؤها جرياً معتدلاً، وأحياناً يعظم ويجري بشدة. ومعروفٌ أن مياه بعض العيون معدنية تنفع في كثير من الأمراض نفعاً عظيماً. ولعل ماء بركة بيت حسدا كان كذلك يومئذ، لكن حال مائها لم يبقَ على ما كان عليه. ولعل خواصه المعدنية النافعة للمرضى كانت تكثُر عند فيضانه بقوة.
    ٤ «لأنَّ ملاكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي البِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ المَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ المَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ».
    لأنَّ ملاكاً كَانَ يَنْزِلُ لم يقل إن هذا الملاك كان يُشاهد بالبصر، فلا نحكم أن البشير يخبرنا أن ذلك معجزة، لأنه لو كان كذلك لذكره يوسيفوس وغيره من مؤرخي اليهود. إنما ذكر ذلك بياناً لاعتقاد العامة يومئذ وتعليلهم فيضان الماء فيضاناً دورياً وخواصه المعدنية في الشفاء. ويجب أن لا نستغرب كثيراً اعتقاد العامة بذلك، لأن الناس في كل زمان اعتادوا أن ينسبوا ما يجهلون علته من النافعات إلى خدمة الملائكة. على أن الكتاب المقدس نفسه يعلمنا أن الله يستخدم الملائكة لتوصيل بركاته إلى الناس، فمن استخدامهم العام ما جاء في عدد ٢٠: ١٦ و٢ملوك ٦: ١٧ ومزمور ٣٤: ٧ و٩١: ١١ و١٢ ودانيال ٣: ٣٨ و٦: ٢٢ ولوقا ١: ٢٢ وعبرانيين ١: ١٢. ومن استخدامهم الخاص ما ورد في تكوين ١٩: ١٥ ومتّى ٤: ١١ و١٨: ١٠ ولوقا ١٦: ٢٢ وأعمال ٧: ٥٣ و١٢: ١١.
    فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً هذا ما اعتقده العامة، فلا يلزم منه أنه لم يكن يُشفى في السنة إلا مريض واحد. ولعل المقصود أنه لم ينزل في البركة عند تحريك الماء إلا قليلون بالنسبة إلى الجماعة الكبيرة التي كانت تنتظره. ولا شك أن المرضى انتفعوا بذلك الماء نفسياً، فوق منفعة خواصه الطبيعية، لقوة اعتقادهم بمنفعته فور تحريكه.
    ٥ «وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاثِينَ سَنَةً».
    مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاثِينَ سَنَةً هذا مدة مرض ذلك الإنسان ولم يُذكر عمره، ولا كم مضى عليه من سني مرضه وهو يتوقع الشفاء بجوار البركة. ويدل طول مدة مرضه على اليأس من الشفاء بالوسائط العادية، وعلى عظمة قوة المسيح على الشفاء. ولعل مرضه كان ضعف الأعصاب أو الشلل الخفيف مما صعَّب حركته (ع ٧). كما لم يكن له صاحب يعتني به (ع ٧). ويدل الحديث على أن مصابه كان نتيجة بعض الخطايا (ع ١٤).
    ٦ «هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً، فَقَالَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟».
    وَعَلِمَ عرف يسوع باعتبار لاهوته كل تاريخ ذلك الإنسان في الماضي، كما عرف من أمر المرأة السامرية (يوحنا ٤: ١٧، ١٨). ورأى علامات الألم على وجهه فأشفق عليه. ولا دليل على أنه شرع في شفاء غيره من جمهور المرضى هناك (ع ٣) فكان كملك مطلق في اختيار من يريد شفاءه.
    فَقَالَ لَهُ لم يحمل المسيح على الإقبال إلى ذلك طلب المصاب الرحمة، بل مجرد شفقة المسيح عليه. وللذين أزمنت أمراضهم الآن تعزية عظيمة بأن المسيح يعرف كل مريض في الأرض ومدة مرضه وكل ما يتعلق بذلك، وإن قلبه اليوم رقيق كما كان حين مشى تحت أروقة بركة بيت حسدا.
    أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟ غاية المسيح في هذا السؤال إظهار حزنه على مصابه، وإنشاء الرجاء فيه، وتوجيه نظره إليه، وتهيئته بذلك إلى الشفاء. وكذلك فعل بطرس ويوحنا بالمقعد عند باب الهيكل الجميل بقولهما «انظر إلينا» (أعمال ٣: ٤). وكان المسيح يريد أن يجعل شفاء أجساد الناس رمزاً إلى شفاء نفوسهم، فطلب اقتران إرادة الإنسان بإرادة الله للشفاء، ليبين أن الله لا يريد أن يشفي نفس الخاطئ ما لم يُرد الخاطئ نفسه الشفاء. ولعل المسيح أراد بقوله «أتريد أن تبرأ؟» شفاءين: شفاءً جسدياً وشفاءً روحياً، ولم يفهم المريض سوى الأول منهما.
    ٧ «أَجَابَهُ المَرِيضُ: يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلقِينِي فِي البِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ المَاءُ. بَل بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ».
    لا شك أن المريض استغرب هذا السؤال، لأنه من البديهي أن كل إنسان يفضل الصحة على المرض. ووجود ذلك المريض عند تلك البركة دليل واضح على رغبته في الشفاء.
    لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلقِينِي فِي البِرْكَةِ مضمون جوابه نعم أريد الشفاء، ولكن لا وسيلة لنواله. والظاهر أنه لم يكن يتوقع الشفاء إلا بأن يُلقى في البركة. ولعله رجا أن هذا الغريب الذي سأله يشفق عليه ويساعده على النزول إليها متى تحرك ماؤها. ولا شك في أن مصاب هذا الإنسان كان عظيماً جداً، لأنه علاوة على مضي زمان طويل عليه وهو يقاسي آلام المرض لم يكن له صاحب يحسن إليه ويلقيه في البركة. ومن العجب أنه مع كثرة الألوف في أورشليم لم يلتفت أحد ليساعد ذلك المسكين ليصل إلى البركة. وصرخة «ليس لي إنسان» هي صرخة ملايين المصابين اليوم في الأجساد والأرواح، وحولهم من يقدرون أن يساعدوهم. وعرف يسوع كل أحوال ذلك المريض، فاقترب إليه ليشفيه، فهو صاحب من لا صاحب له ومعين من ليس له معين. وعلة اقترابه من ذلك الإنسان هي علة من السماء لخلاص نفوس الهالكين، كما قال النبي «فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ» (إشعياء ٥٩: ١٦).
    يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ تكلم حسب معتقد العامة وهو أن قوة الماء على الشفاء محدودة من أول تحرك الماء إلى أول النازلين فيه.
    ٨ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: قُمِ. احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ».
    متّى ٩: ٦ ومرقس ٢: ١١ ولوقا ٥: ٢٤
    قَالَ لَهُ يَسُوعُ خرجت قوة الشفاء من المسيح مع خروج الكلام من شفتيه، كما حدث عندما قال ليابس اليد «مُد يدك» (متّى ٣: ٥).
    قُمِ. احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ أمره المسيح بثلاثة أعمال لا يستطيع أن يقوم بأيٍّ منها، وذلك امتحاناً لإيمانه وطاعته اللذين بدونهما لا يُظهر المسيح قوته. فمن شاء شفاء نفسه من مرض الخطية يجب أن يُظهر مثل ذلك الإيمان وتلك الطاعة، فينال البرء من يد المسيح التي أبرأت ذلك الرجل. وأمره المسيح أن يحمل سريره ويسير به في أزقة أورشليم بياناً لصحة شفائه، وشهادةً ليسوع بأنه المسيح. وذلك برهان لا يمكن إنكاره، فقد كان المريض مقعداً مدة ٣٨ سنة، فشفاه يسوع بكلمة، فحمل سريره ومشى. وعلم يسوع أن حمل السرير يوم السبت سيكون سبب تذمر اليهود وشكواهم، فأمره به لتكون هناك فرصة توصيل التعليم الصحيح عن حفظ يوم السبت بمقتضى وصية الله خلافاً لتقليدهم.
    ٩ «فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سَبْتٌ».
    يوحنا ٩: ١٤
    فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى برئ هذا الإنسان في الحال برءاً تاماً بكلمة يسوع. وأظهر يسوع بذلك قوته الفائقة. وأظهر الرجل إيمانه وطاعته بما فعله. ولعل سريره لم يكن سوى فراش صغير لو تركه لكان فقده.
    سَبْتٌ اختار المسيح هذا الإنسان الموضوع الوحيد لرحمته من بين ألوف المرضى في أورشليم، واختار السبت دون غيره من أيام الأسبوع وقتاً لإظهار تلك الرحمة، ليبيّن فيه حقائق مهمة وهي إبطال تقاليد الفريسيين، وبيان أن أفعال الرحمة جائزة في السبت، وإثبات أن ابن الإنسان هو رب السبت.
    ١٠ «فَقَالَ اليَهُودُ لِلَّذِي شُفِيَ: إِنَّهُ سَبْتٌ! لا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ».
    خروج ٢٠: ١٠ ونحميا ١٣: ١٩ وإرميا ٧: ٢١ ومتّى ١٢: ٢ ومرقس ٢: ٢٤ و٣: ٤ ولوقا ٦: ٢ و١٣: ١٤
    لا يَحِلُّ لَكَ قالوا ذلك لزعمهم أن ما فعله يخالف شريعة الله وتقاليد الشيوخ. نعم إن الله نهى عن الأعمال المعتادة في السبت (خروج ٢٠: ٨ - ١٠) ولم يسمح لهم أن يحملوا أحمالاً في ذلك اليوم (عدد ٣١: ١٣ - ١٧ ونحميا ١٣: ١٥ وإرميا ١٧: ٢١). وزاد اليهود على أمر الله كثيراً من أوامرهم (انظر شرح متّى ١٢: ٢). واغتاظ اليهود من أمرين: شفاء يسوع المقعد يوم السبت، وحمل المقعد سريره في ذلك اليوم. فعنفوا المقعَد أولاً على حمله السرير، وطلبوا ثانياً قتل المسيح على إبرائه إياه (ع ١٥، ١٦ ويوحنا ٧: ١٩، ٢٣).
    ١١ «أَجَابَهُمْ: إِنَّ الَّذِي أَبْرَأَنِي هُوَ قَالَ لِي احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ».
    مضمون جوابه: إني مجبَر على طاعة أمر من فعل مثل هذه المعجزة بقوته. ومن البديهي أن الله لا يمكِّن إنساناً يأمر بالحرام من صنع عجيبة كهذه.
    ١٢ «فَسَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي قَالَ لَكَ احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ؟».
    أظهر اليهود خبث قلوبهم، فلم يسألوا الذي شُفي عن الذي شفاه ليكرموه، بل سألوه عمن قال له احمل سريرك، لينتقموا منه. وغضّوا النظر عن فعل الخير وإظهار الرحمة وإقامة البرهان على قوة إلهية، ولم يلتفتوا إلا إلى أنه خالف تقليد اليهود.
    ١٣ «أَمَّا الَّذِي شُفِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ، لأنَّ يَسُوعَ اعْتَزَلَ، إِذْ كَانَ فِي المَوْضِعِ جَمْعٌ».
    أتى المسيح إليه وهو غريب عنه وفعل له الرحمة وانصرف عنه واختلط بالجمهور. والأرجح أن تلاميذه لم يكونوا معه وإلا لما جُهل أمره.
    ١٤ «بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فلا تُخْطِئْ أَيْضاً، لِئلا يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ».
    متّى ١٢: ٤٥ ويوحنا ٨: ١١
    بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ كان يجب على الذي شُفي أن يسأل عن اسم شافيه ويطلبه ليشكره على معروفه، بدلاً من أن المحسن يسأله عنه ويجده.
    فِي الهَيْكَلِ الأرجح أنه ذهب إلى الهيكل ليشكر الله على ما ناله من الرحمة، وليقدم تقدمة الشكر. فأحسن بذلك لأن من أول واجبات الذين ينجون من مرض أو خطر أن يشكروا الله في بيته على النجاة (مزمور ١١٦: ١٦ - ١٩).
    هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ ذكَّره المسيح بشفائه من مرض طال عليه، ليعلمه أن خطيته كانت على ذلك المرض، ويحمله على طلب شفاء نفسه من داء الإثم، ومعرفة أن لا نفع من شفاء الجسد الوقتي ما دامت علة المرض فيه.
    فلا تُخْطِئْ أَيْضاً أبان له المسيح بهذا ثلاثة أمور: (١) إن مرضه الماضي نتيجة خطية مخصوصة لم يذكرها. كما قيل في ١كورنثوس ١١: ٣٠. وكان من علامات لاهوت المسيح أنه عرف سيرة هذا الإنسان الماضية وخطيته السرية التي كانت علة مرضه. وبهذا بيّن العلاقة بين الشر الجسدي والشر الأخلاقي، واجتهد أن يجعل شفاء الجسد من المرض وسيلة إلى شفاء النفس من الخطية كما اعتاد في معجزاته. (٢) إن شرط دوام الصحة لذلك المصاب الامتناع عن تكرير الخطية التي كانت علة مرضه. (٣) إن الرجوع إلى تلك الخطية بعد الشفاء والإنذار تكون سبب موته وهلاكه، لأن الموت والهلاك أشرّ من مرض ٣٨ سنة.
    ولا يلزم مما قيل هنا أن كل مرض ينتج عن خطية، لكن كثيراً ما يرسل الله أمراض الجسد لشفاء النفس. فيجب أن يستفيد الإنسان من المرض الذي يعتريه.
    ١٥ «فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ اليَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ».
    سبق أن قال لليهود إنه لم يعلم من أبرأه. ولما علم رجع في الحال وأخبرهم. والأرجح أنه عرف اسم يسوع من الذين كانوا على القرب منه عند الحديث. ولا نظن أنه أراد بهذا أن يؤذي المسيح الذي أحسن إليه، لكنه أراد أن يكرمه. ويُحتمل أنه أنبأ اليهود بهذا خوفاً من أن يقتلوه لحمله السرير إن لم يبرهن لهم أنه فعل ذلك بأمر المسيح.
    ١٦ «وَلِهَذَا كَانَ اليَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ، وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ».
    وَلِهَذَا أي شفاء المقعد وأمره بحمل سريره.
    يَطْرُدُونَ يَسُوعَ أي يحرمونه ويسيئون إلى سمعته لأنه وهو نبي يخالف الشريعة. فبدلاً من أن يحترموه لتلك المعجزة امتلأوا حقداً ورغبة في إيقاع الضرر به، لأنه لم يحترم سلطانهم ولا تقاليد الشيوخ.
    يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ بدعوى أن ذلك أمر الشريعة (خروج ٣١: ١٥). مع أن العلة الحقيقية كانت حسدهم، لأنهم سلَّموا بجواز فعل الرحمة للبهيمة في ذلك اليوم (لوقا ١٤: ٥). فبالأولى يجوز ذلك للإنسان كما فعل المسيح.
    ١٧ «فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ».
    يوحنا ٩: ٤ و١٤: ١٠
    برر يسوع نفسه في ما صنع بقوله «إن له سلطاناً من الآب على السبت» وأنه شفى المقعد في ذلك اليوم اقتداءً بالله الذي يعمل في السبت.
    أَبِي صرح يسوع في هذا بأنه «ابن الله» بمعنى لا يصدُق على غيره. وفهم اليهود من ذلك أنه يدَّعي المساواة بالآب (ع ١٨). ولم ينكر هو ما فهموه، بل صدَّق عليه.
    هذه مناظرة ثانية بين المسيح واليهود. كانت الأولى عندما طهَّر الهيكل من التجارة وأعلن أن الله أبوه بقوله: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» (يوحنا ٢: ١٦). والثانية عندما نقَّى شريعة السبت من تقاليد الشيوخ، وفيها صرح أيضاُ بأن الله أبوه.
    شفي المسيح في السبت مرضى كثيرين وبرّر نفسه بأساليب مختلفة، منها الإشارة إلى ما يفعلونه في يوم السبت للبهائم، ومنها ما فعله داود يوم أكل خبز التقدمة، ومنها ما يفعله الكهنة في السبوت إذ يقدمون الذبائح ويختنون الأولاد. وذكر هنا أن الآب يعمل في السبت!
    يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ أي لم يزل يعمل في السبت بعض الأعمال منذ الخليقة إلى الآن. نعم إن الله استراح في اليوم السابع من عمل الخليقة (تكوين ٢: ٢) لكنه داوم على عمل العناية، الذي به يدبر حاجات الخلق. ومن أعماله تسيير الكواكب في أفلاكها، ونزول الأمطار، وجريان الأنهار، وشروق الشمس، وهبوب الرياح، ونمو النبات والحيوان. وفي هذه كلها لا نرى فرقاً بين عمله في السبت وغيره من الأيام. ولو لم يفعل ذلك نهاراً وليلاً وصيفاً وشتاء وسبوتاً وغيرها من الأيام لعمَّ الهلاك الخليقة كلها. وأعمال الله الروحية كتجديد قلوب الناس وتقديسها في أيام الراحة أكثر منها في غيرها.
    وَأَنَا أَعْمَلُ أي أعمال الرحمة كما يعمل الله. فشفاء المقعد يوم السبت كحفظ الله البشر أحياء في ذلك اليوم. فإن أصاب اليهود بتخطئة المسيح لأنه تعدى شريعة الله بذلك الشفاء، فإنهم يخطِّئون الآب أيضاً، لأن المسيح فعل ما يفعله الآب. ولم يقتصر المسيح على أن يبيّن حقه في الإبراء بناءً على مشابهته فيه الآب، بل زاد على ذلك بيان مساواته له، وأنه رب السبت كأبيه.
    وقد صرح المسيح بمساواته للآب في مواضع كثيرة من هذا الأصحاح، مثل عمله الأعمال التي يعملها الآب (ع ١٩). وأنه عالم بكل ما يقضي به الآب (ع ٢٠). وأنه يحيي الأموات أجساداً وأرواحاً كما فعل الآب (ع ٢١، ٢٨). وأنه ديان العالمين (ع ٢٢). وأنه يستحق الإكرام الذي يستحقه الآب (ع ٢٣). وأنه واضع الشريعة وواهب الحياة الأبدية للمؤمنين (ع ٢٤). وأن دعواه ثبتت بشهادة الله والبشر (ع ٣٢ - ٣٧) وثبتت أيضاً بنبوات الكتاب المقدس (ع ٣٩).
    ١٨ «فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَل قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ».
    يوحنا ٧: ١٩ و١٠: ٣٠ و٣٣ وفيلبي ٢: ٦
    وجد اليهود هنا علة ثانية للشكوى على المسيح، وهي أعظم من الأولى لأنهم حسبوها من أفظع التجاديف. فإنهم كانوا يعتقدون أن يسوع إنسان فقط، وهو يقول إنه «ابن الله» بمعنى أنه مساوٍ للآب. والحق أنه لو لم يكن إلهاً لكان مجدفاً، لكنه برهن بأعماله صدق قوله.
    يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ بناء على ما قيل في لاويين ٢٤: ١٦.
    ١٩ «فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إلا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذَلِكَ».
    ع ٣٠ ويوحنا ٨: ٢٨ و٩: ٤ و١٢: ٤٩ و١٤: ١٠
    حمله إنكار اليهود أنه ابن الله على توضيح علاقته بالآب، وهذا يشغل بقية الأصحاح.
    لا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً لم يقل «أنا لا أقدر» بل قال «لا يقدر الابن» لبيان العلاقة التي سلم بها اليهود وهي أن ابن الله يكون المسيح. ثم إيضاح أنها هي علاقته هو بالآب. وعدم القدرة المنسوب إلى الابن هنا نتيجة عدم الإرادة. وذلك كقولنا «لا يقدر الله أن يكذب» ومثله قوله «لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئاً حَتَّى تَجِيءَ إِلَى هُنَاكَ» (تكوين ١٩: ٢٢). ولا إشارة في هذه الآية إلى أن الابن دون الآب في الجوهر والقدرة والحكمة، بل المقصود استحالة الانفصال بين الأقنومين في الرأي أو في العمل، واستحالة استقلال الابن عن الآب إلى الاتحاد الكلي بينهما والمحبة الكاملة.
    إلا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ في أعمال الخليقة والعناية وسياسة الكون. وهذا يوافق لقب المسيح «كلمة الله». فكما أن كلمة الإنسان تُعلن فكره يعلن المسيح الكلمة أفكار الآب ومشاعره ومقاصده. ولا يقصد المسيح بهذا القول مجرد طاعة الابن للآب في ما فعله لفداء الناس كسفير يعلن أفكار ملكه باعتبار كونه إلهاً وإنساناً معاً، بل باعتباره الإله الأزلي الذي هو والآب واحد (يوحنا ١٠: ٣٠). ويظهر أفكار الله إظهاراً كاملاً لاتحاده الأزلي به. نعم إن الله لم يظهر ذاته لخلائقه إلا بواسطة ابنه، وكل عمل الابن هو إعلان الآب (يوحنا ١: ١٨). ومعنى «ينظر» هنا يعلم (يوحنا ٥: ١٩). والناس ينظرون نتائج أعمال الله فقط، وأما الابن فينظر مقاصد الآب التي هي علة تلك الأعمال.
    لأنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذَلِكَ أي كل أعمال الله المتنوعة يعملها الابن مثله بقدرته وكماله. هذا يوضح مساواة الابن للآب في القدرة والحكمة والمعرفة. ومن له سلطان كسلطان الآب وذراع كذراعه وصوت كصوته، لا بد أن يكون الله (أيوب ٤٠: ٩ وأعمال ١٠: ٣٦ وكولوسي ١: ١٦، ١٧). فبالنظر إلى كون المسيح فادياً هو دون الآب «لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً» ولكنه مساوٍ للآب في الجوهر «لأن مهما عمل ذاك يعمله الابن كذلك». فمستحيلٌ أن ينقض المسيح شريعة الله بأعماله أو تجديفه على اسمه، كما اتهمه اليهود.
    ٢٠ «لأنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ».
    متّى ٣: ١٧ ويوحنا ٣: ٣٥ و٢بطرس ١: ١٧
    هذه الآية تبين مساواة الابن للآب لأن الابن يعرف كل أسرار الآب ومقاصده.
    لأنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ هذا هو علة تسمية الأقنوم الثاني من اللاهوت «الابن». وذُكر بياناً لإعلان الآب كل شيء له، ويلزم عن محبته له أن لا يخفي عنه شيئاً، بل يثق به كل الثقة، ويبدي له كل أفكاره. وهذا وفق ما قيل في المسيح «الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ» (يوحنا ١: ١٨).
    وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ هذا غير ما يعمله الله مع الناس حتى الأنبياء والرسل، فيلزم أن يكون علم الابن غير محدود ليمكنه أن يدرك كل أفكار الله ومقاصده.
    وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً «سيريه» أي يُعيِّن له ما يفعله بين الناس كما يدل عليه سائر العبارة.
    أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ أي المعجزات التي صنعها كإبراء المقعد وغيره. ومن تلك الأعمال العظمى ما سيذكره من ع ٢١ - ٣٠ من إقامة موتى الروح، وموتى الجسد، ودينونة العالم.
    لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ التأثير الأول من مشاهدة المعجزات هو التعجب والرهبة، وهو تأثير اضطراري واستعداد لتأثير ثان أسمى من الأول، وهو التسبيح لله والإيمان بصانع المعجزة وإكرامه (ع ٢٣). نعم إنهم أغمضوا عيونهم عن معجزة بيت حسدا لكي لا تؤثر فيهم، لكنهم لا بد أن يتأثروا من الأعمال العظمى التي ستأتي.
    ٢١ «لأنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذَلِكَ الابْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ».
    لوقا ٧: ١٤ و٨: ٤٥ ويوحنا ١١: ٢٥ و٤٣
    ذُكر في هذه الآية أحد الأعمال العظمى التي ذُكرت في الآية السابقة، وهو إحياء الموتى الذي يتضمن منح الحياة الروحية للنفوس والحياة الجسدية للأجساد (ع ٢٥، ٢٨).
    كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَات اعتقد كل اليهود أن للآب هذا السلطان وأنه مما يختص باللاهوت (تثنية ٣٣: ٣٩ و١صموئيل ٢: ٦). وقد أقام الله الأجساد فعلاً على يد النبيين إيليا (١ملوك ١٧) وأليشع (٢ملوك ٤: ٣٢ - ٣٥). ونُسب ذلك إلى الآب (رومية ٨: ١١). والكتاب مشحون بإقامة النفوس.
    كَذَلِكَ الابْنُ صرح المسيح بأن سلطانه كسلطان الآب، وأثبت صحة دعواه بإقامة ابنة يايرس (لوقا ٨: ٥٥) وابن أرملة نايين (لوقا ٧: ١٤، ١٥) ولعازر (يوحنا ١١: ٤٣، ٤٤) وهو يمنح الحياة الروحية لموتى الأرواح بواسطة روحه القدوس الذي يرسله إلى قلوبهم.
    يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ الإحياء متوقف على مجرد مشيئة الابن، أي أنه لا يحيي إلا من يريد إحياءه، وأن الوسيلة الوحيدة إلى ذلك الإحياء إرادته وأمره.
    ٢٢ «لأنَّ الآبَ لا يَدِينُ أَحَداً، بَل قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ».
    متّى ١١: ٢٧ و٢٨: ١٨ وع ٢٧ ويوحنا ٣: ٣٥ و١٧: ٢ وأعمال ١٧: ٣١ و١بطرس ٤: ٥
    هذا عمل ثان من تلك الأعمال العظيمة، أي الدينونة وهو مما يختص بالله.
    لأنَّ الآبَ لا يَدِينُ أَحَداً علة ذلك وعد الآب للابن في عهد الفداء وهو أنه يدين العالم إثابة له على تواضعه الاختياري لفداء العالم (فيلبي ٢: ٥ - ١١). وتستلزم القوة على دينونة الناس القدرة على فحص قلوب الجميع، ومعرفة الأسباب الموجبة لأعمالهم. ولا يقدر على ذلك إلا الله، فيكون المسيح هو الله.
    قَدْ أَعْطَى (متّى ٢٥: ٣١ - ٤٥ وأعمال ١٧: ٣١).
    ٢٣ «لِكَيْ يُكْرِمَ الجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لا يُكْرِمُ الابْنَ لا يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ».
    ١يوحنا ٢: ٢٣
    لِكَيْ يُكْرِمَ الجَمِيعُ الابْنَ هذا قصد الآب في إعطاء الابن أن يحيي الناس ويدين العالم فهو يحبه (ع ٢٠ ويوحنا ٣: ٣٥).
    كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ أي أن الله أراد أن يكون إكرام ابنه مساوياً لإكرامه، فيعتبر الناس ابنه ويعبدونه ويسجدون له ويطيعونه. وينتج من ذلك أن الابن مساوٍ للآب، وأنه يجب أن نقدم للابن ما نقدمه للآب من المحبة والإكرام والطاعة، فهذا ما يفعله سكان السماء (رؤيا ٥: ١٢ و٧: ١٠).
    مَنْ لا يُكْرِمُ الابْنَ لا يُكْرِمُ الآبَ ظن اليهود أن غيرتهم للآب توجب عليهم أن لا يعتبروا الابن اعتبارهم له، وأن يحسبوا دعوى المسيح أنه ابن الله تجديفاً. فأوضح لهم أن امتناعهم عن اعتبار الابن هو التجديف، لأن من يأبى إكرام المسيح لجهله أو كبريائه أو عناده يأبى إكرام الآب. لأن الآب والابن ليسا إلهين حتى يستلزم إكرام الواحد سلب إكرام الآخر، بل هما أقنومان وإله واحد متحدان. فإنكار ما للواحد يستلزم إنكار ما للآخر.
    أعلن الله إرادته أن تكون إحدى طرق إكرامه إكرام ابنه الذي هو «بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ» (عبرانيين ١: ٣). فإذاً لا عبادة حقيقية بلا إكرام الابن، فالذي لا يكرم الابن يهين الله الآب.
    الَّذِي أَرْسَلَهُ إهانة السفير تُحسب إهانة لملكه، وإهانة الرسول إهانة لمرسله. وقال هنا إنه لم يأت من تلقاء نفسه لكنه سفير الله مرسَل من السماء إلى الناس، فلذلك يستحق الإكرام الذي تقتضيه منزلته. والنتيجة المشار إليها هنا تبلغ الكمال عند إتمام عمل الفداء، حين يُظهر المسيح مجده بإقامة الموتى، ومحاسبة العالم، وإثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين.
    ٢٤ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلامِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، ولا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَل قَدِ انْتَقَلَ مِنَ المَوْتِ إِلَى الحَيَاةِ».
    يوحنا ٣: ١٦، ١٨ و٦: ٤٠، ٤٧ و٨: ٥١ و١٢: ٤٤ و٢٠: ٣، مزمور ١٤٣: ٢ و١يوحنا ٣: ١٤
    تكلم المسيح على الابن في ما سبق بضمير الغائب، وأخذ هنا يتكلم عليه بطريق المخاطب ليبين أن كل ما ذُكر من أمر الابن يصدق عليه، وبدأ كلامه بقوله «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ» تأكيداً وتثبيتاً.
    مَنْ يَسْمَعُ تكلم في ما مرّ على نفسه ووظيفته، وأخذ يتكلم هنا على تأثير عمله في المؤمنين. و «السمع» المراد هنا ليس الإدراك بالأذن فقط، بل قبول القلب بالانتباه والوقار والمحبة والإيمان والطاعة أيضاً، كما يُفهم من متّى ١١: ١٥ ويوحنا ٨: ٤٧ و١٠: ٢٧ وأعمال ٣: ٢٣.
    كلامِي أي تعليمي في الله وفي نفسي وواجبات الإنسان وكل الحقائق المعلنة في الإنجيل. فسماع قول المسيح ضروري اليوم كما كان يومها.
    وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي أي بالآب الذي أرسل المسيح إلى العالم ليخلص الخطاة (يوحنا ٣: ١٧) ومعنى الإيمان بالآب هنا تصديق شهادته لابنه وفقاً لقول الرسول «مَنْ لا يُصَدِّقُ اللَّهَ فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِباً، لأنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا اللَّهُ عَنِ ابْنِهِ» (١يوحنا ٥: ١٠ و١١ انظر رومية ٤: ٢٤ و١بطرس ١: ٢١). ونتيجة الإيمان بالآب كنتيجة الإيمان بالابن (يوحنا ٣: ٣٦) وإن أحد هذين الإيمانين مرتبط بالآخر حتى يتعذر أحدهما بدون الآخر، لأن الإيمان بالمُرسِل يستلزم الإيمان بالمُرسَل الذي بدونه لا يُعرف الذي أرسله ولا مراده. وقد ذُكر هنا سماع كلام المسيح والإيمان بالله معاً شرطاً لنوال الحياة الأبدية.
    فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ أي أنه دخل في الحياة الجديدة التي تشمل الولادة الروحية، ومقاومة الخطية، والنمو في القداسة، وراحة الضمير، ومصالحة الله، ومشابهة صورته، وتنتهي بالانتصار على الموت ونوال الطهارة التامة والسعادة الكاملة في السماء إلى الأبد (أعمال ١٣: ٣٩ ورومية ٥: ١). فعندما يؤمن الخاطئ تُغفر خطاياه ويتبرر ويصير وارثاً للسماء.
    ولا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ كما يستحق هو وكل نسل آدم الخاطئ (يوحنا ٣: ١٨) وكما يصيب الذين لا يؤمنون. وعلّة نجاة المؤمن من الدينونة أن الإيمان بالمسيح وبالله المتكلم بواسطته يرفع عنه كل آثامه التي كانت سبب الدينونة (يوحنا ٣: ١٨ و١٠: ٢٨ ورومية ٨: ١).
    بَل قَدِ انْتَقَلَ مِنَ المَوْتِ إِلَى الحَيَاةِ أي من الموت الروحي إلى الحياة الروحية. وذلك انتقال: (١) من حال الجهالة والشقاء وعدم الشعور بالحقائق الروحية، إلى حال المغفرة والميراث السماوي واللذة بالأمور الروحية والمحبة والطاعة والغيرة لخدمة الله. (٢) من حكم الموت بمقتضى الشريعة، إلى حال التبرير والتبني. (٣) من بين الموتى بالخطية، إلى جماعة الأحياء بالقداسة. ويحدث هذا الانتقال للخاطئ عند توبته وقبوله المسيح، وينتج عن قوة المسيح واختيار الخاطئ، فليس هو إجبارياً ولا مما يُشعر به، بل هو من النعمة بواسطة الإيمان لا من التسلسل من الوالدين المؤمنين ولا من المعمودية ولا من مجرد التعليم.
    ٢٥ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ».
    أفسس ٢: ١، ٥ و٥: ١٤ وكولوسي ٢: ١٣
    اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ قال ذلك لأهمية ما يأتي وبيان أنه موضوع جديد، وهو أمر آخر من الأعمال العظمى التي ذُكرت في ع ٢٠.
    إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ بدء هذه الساعة عند مجيء المسيح. وما قيل على أثر هذه العبارة لا يصح قبل ذلك المجيء.
    حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ هؤلاء الأموات هم الأموات بالروح (أفسس ٥: ١٤) العائشين في الجهل والمعصية وعدم الشعور بسوء أحوالهم الروحية، وهم تحت حكم الهلاك الأبدي. والموت الجسدي رمز إلى هذا الموت الروحي. وأبان المسيح قدرته على إقامة الموتى في الروح بإحيائه الموتى في الجسد. وذلك لما قال لابنة يايرس «طليثا قومي» ولابن الأرملة «قم» وللعازر «هلم خارجاً». ومعنى «صوت ابن الله» هنا دعوته الأموات إلى الاستيقاظ من جهلهم وغفلتهم وحبهم العالم والخطية، فيسمعون ذلك الصوت بقلوبهم حين يقبلون الدعوة بالإيمان والطاعة. وتم ذلك بأن كثيرين سمعوا صوته وهو على الأرض وآمنوا به. وسمع صوته ثلاثة آلاف نفس في يوم الخمسين، ومنذ ذلك الوقت إلى الآن كل من سمع أصوات المبشرين المنادين بالإنجيل وآمن، سمع صوت ابن الله، وكذلك الذي قرأ كتابه وآمن.
    وَالسَّامِعُونَ أي الذين ينتبهون من موتهم الروحي عند سماعهم صوت المسيح ويصغون إليه بالإيمان والطاعة.
    يَحْيَوْنَ حياة روحية هي حياة الإيمان والبر والقداسة والطاعة لله، ويدخلون تلك الحياة وهم على الأرض، ويستعدون بذلك للدخول أخيراً في حياة القديسين في السماء. ولا نصيب لغير المؤمنين في هذه الحياة، خلافاً لأحوال المذكورين في ع ٤٠.
    ٢٦ «لأنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذَلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ».
    كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ ذلك «الإله الحي» تمييزاً له عن الأوثان الذين بلا حياة، ولأن حياته ذاتية أبدية، ولأنه مصدر حياة كل حي في العالم (تكوين ٢: ٧ ومزمور ١٠٤: ٢٩، ٣٠).
    كَذَلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضاً أي كما أن الآب حي بالذات ومصدر حياة كل الأحياء كذلك الابن متجسداً. ولم يشر بقوله «أعطى الابن» إلى أن تلك الحياة لم تكن له قبل التجسد، بل قصد أن الله عيَّن للمسيح في ممارسته عمل الفداء أن يكون هو الواهب الحياة لموتى الأرواح وموتى الأجساد.
    وفي هذا برهان على لاهوت المسيح، لأنه يستحيل أن يكون للمخلوق حياة كحياة الله ومصدر لكل أحياء العالم، لأن من خصائص الله أن الناس به تحيا وتتحرك وتوجد (أعمال ١٧: ٢٨).
    ٢٧ «وَأَعْطَاهُ سُلطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ».
    ع ٢٢ وأعمال ١٠: ٤٢ و١٧: ٣١، دانيال ٧: ١٣، ١٤
    وَأَعْطَاهُ سُلطَاناً بالنظر إلى أنه وسيط في عمل الفداء.
    أَنْ يَدِينَ أَيْضاً عيّن الله المسيح في نظام الفداء ديّاناً لكل البشر، فإذاً الذي يجلس على عرش الدينونة الابن لا الآب ولا الروح. نعم الله «ديان الجميع» (عبرانيين ١٢: ٢٣) لكنه قضى أن يُجري تلك الدينونة على يد ابنه.
    لأنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ يليق أن يكون ابن الإنسان ديّان الناس لثلاثة أمور: (١) أن الدينونة تكملة عمل الفداء الذي تجسد لأجله، فإن ابن الله صار ابن الإنسان ليموت عن الإنسان ويفديه ويحييه ويشفع فيه ثم يدينه. (٢) إن ذلك إثابة له على تواضعه الاختياري، فإنه وقف أمام كرسي قيافا وكرسي بيلاطس، ودِين ظلماً ولذلك عيّنه الله ديّاناً للعالمين (فيلبي ٢: ٩). (٣) إنه كابن الإنسان عرف ضعف الإنسان وقوة التجربة عليه، فاستعد بهذا لأن يكون ديّاناً شفوقاً كما أنه ديّان عادل.
    وقوله «الآب أعطى الابن» يبطل قول سباليوس بأن الآب والابن أقنوم واحد، يتميزان باعتبار ممارسة العمل. وليس في ذلك القول ما يسند قول أريوس بأن الابن مخلوق، لأنه قيل على يسوع باعتبار أنه فادٍ لا بالنظر إلى طبيعته الأصلية.
    ٢٨ «لا تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي القُبُورِ صَوْتَهُ».
    لا تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا الأرجح أنهم أظهروا بكلامهم أو بإمارات وجوههم أنهم استغربوا ما قاله في أنه «يحيي ويدين». ومضمون قوله في هذه الآية أنه سيريهم سبباً أعظم من هذا للتعجب عندما يبرهن صدق ما قاله فعلاً أمام كل المخلوقات، أي بإقامة أجساد الموتى. وليس ذلك لأنه أعظم مما ذُكر بالذات، بل إنه يجعل المشاهدين يندهشون ويتعجبون أكثر من ذلك، نظراً للأحوال والنتائج.
    فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ في اليوم الأخير أي يوم القيامة العظيم.
    جَمِيعُ الَّذِينَ فِي القُبُورِ أي كل الموتى الذين أجسادهم في القبور. فتلك الأجساد وإن اختلط ترابها بتراب الأرض، وحُجبت عن أبصار الناس تحت لجة البحر، تقوم وتشارك أرواحنا في الفرح أو في الحزن. وهذه الآية من أوضح البيّنات على القيامة وعمومها، لأنها قيلت عن جميع الموتى كباراً وصغاراً أغنياء وفقراء صالحين وأشراراً مؤمنين وكفرة في كل أمة وعصر.
    يَسْمَعُ.. صَوْتَهُ الذين يسمعون هم أرواح الموتى عند رجوعها إلى الأجساد، والصوت الذي يسمعونه وقتئذ هو نفس الصوت الذي خاطبهم به لينبههم من موتهم الروحي. وشُبِّه الموت هنا بالنوم الذي ينتبه منه الراقدون بصوت المنادي. والمنادي العظيم هنا هو ابن الله. ولا نعلم كيف يوقظ صوته الموتى. قيل إن ذلك الصوت يقترن بصوت البوق (١ كورنثوس ١٥: ٥٢). وقيل إن «الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ» (١تسالونيكي ٤: ١٦).
    وتقتضي إقامة كل الموتى من البر والبحر منذ آدم إلى آخر إنسان يموت، تقتضي قوة إلهية لا يمكن عقل البشر أن يتصوّرها، وأن يسوع يجري كل ذلك بكلمة. وهو برهان قاطع أنه ذو طبيعة إلهية وقدرة غير محدودة.
    ٢٩ «فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ».
    إشعياء ٢٦: ١٩ و ١كورنثوس ١٥: ٥٢ و١تسالونيكي ٤: ١٦، دانيال ١٢: ٢ ومتّى ٢٥: ٣٢، ٣٣، ٤٦
    فَيَخْرُجُ من القبور كما خرج لعازر يوحنا ١١: ٤٣، ٤٤ فلا بد من أن يسمع الجميع ويخرجوا، ولكن لا يخرج الجميع إلى قيامة الحياة.
    الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ أي الذين أظهرت أعمالهم أنهم آمنوا بالمسيح وأطاعوه، لأن الإيمان بلا أعمال لا يخلِّص أحداً (انظر شرح متّى ٢٥: ٣٢ - ٣٦).
    إِلَى قِيَامَةِ الحَيَاةِ سُميت قيامة هؤلاء قيامة الحياة لأنها مدخل إلى الحياة الأبدية، ولأنهم قاموا لكيلا يموتوا أيضاً (رؤيا ٢١: ٤) ولأنهم يشاركون المسيح عند قيامتهم في حياته الممجدة. وكلمة «الحياة» هنا تعم كل خير وبركة وقداسة وسعادة ورضى الله.
    وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ يتضح من هذا أن أعمالهم الشريرة هي العلة الوحيدة لدينونتهم، فلا يمكنهم أن يلوموا إلا أنفسهم.
    إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَة سُميت كذلك لأنه يلحقهم بعدها الدينونة والعقاب (دانيال ١٢: ٢. انظر متّى ١٠: ٢٨ و٢٥: ٣٤، ٤٦ وأعمال ٢٤: ١٥ و٢تسالونيكي ١: ٨، ٩ و٢بطرس ٢: ٩ ورؤيا ٢٠: ٥، ١٢).
    وجملة ما قيل في هذا العدد أربعة أشياء: (١) إن بعد القبر حياة، فالموت ليس نهاية كل أمور الإنسان. (٢) إن في العالم الآتي حالين: الحياة والدينونة. (٣) إن القيامة ليست مختصة بالمؤمنين فيتلاشى الأشرار، بل إن الأشرار يقومون كالأبرار. (٤) إن العلامات التي يُعرف بها الصالحون والأشرار ويُميَّزون ويُدانون في اليوم الأخير هي أعمالهم. ولم يذكر بولس قيامة الأشرار في ١كورنثوس ١٥ لأن غايته كانت إقناع المؤمنين بالمسيح بقيامة أجسادهم، ولم يكن من داعٍ للكلام على قيامة غيرهم.
    ٣٠ «أَنَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لأنِّي لا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَل مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
    ع ١٩، متّى ٢٦: ٣٩ ويوحنا ٤: ٣٤ و٦: ٣٨
    تكلم في هذه الآية وما يليها إلى آية ٣٩ على الشهود الذين يشهدون بصدق قوله وهم ثلاثة: الآب، ويوحنا المعمدان، وكتَبَة الأسفار المقدسة.
    أَنَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً كرر المسيح هنا قوله في ع ١٩ وهو أنه ليس مستقلاً بأعماله باعتبار أنه وسيط، إنما هو نائب الآب ومُجري قضائه وعامل بسلطانه. وفي ذلك إشارة إلى تمام الاتفاق بينه وبين الآب في القصد والعمل. فيكون معنى قوله «لا أقدر» أنه لا يريد، كما نقول إن الله لا يقدر أن يكذب.
    كَمَا أَسْمَعُ تكلم هنا جرياً على عادة الناس الذي يسمعون بآذانهم ويبلغون بألسنتهم أخبار مرسليهم. ومقصود المسيح هنا بيان أنه يعلم تمام العلم إرادة الآب التي أتى ليعلنها.
    أَدِينُ المعنى أن حكمه في الناس وفي التعاليم الآن وفي اليوم الأخير موافق كل الموافقة لأفكار الله ومقاصده التي يعرفها هو أكمل معرفة.
    وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لسببين: (١) ما ذكره سابقاً وهو أنها مبنية على معرفة كل أفكار الله تمام المعرفة. (٢) خلوُّه من الظلم، فمشيئته وفق مشيئة الآب.
    لأنِّي لا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي الخ لا يستلزم ذلك أن المسيح لو طلب مشيئة نفسه كان حكمه جائراً، بل يدل على أنه ليس أنانياً، ولا يخطئ في الحكم لأنه أتى ليعمل مشيئة الله لا ليُرضي نفسه. وأبان خضوعه التام لمشيئة الآب بصلاته في جثسيماني (لوقا ٢٢: ٢٢). وأشار المسيح بذلك إلى أن اليهود طلبوا مشيئة أنفسهم وإكرامها عندما حكموا ببطلان دعواه خلافاً لما فعله هو.
    ٣١ «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً».
    يوحنا ٨: ١٢، ١٤ ورؤيا ٣: ١٤
    في الآيات ٣١ - ٤٠ كلام في شهادة الآب للابن.
    إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي قال هذا دفعاً لاعتراض في أفكار اليهود، وهو: إنك تشهد لنفسك وليس مَن يشهد لك. والمعنى: إن كنتُ انفردت بذلك بلا سند فاعتراضكم في محله.
    فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً أي لا تُقبل شرعاً (لوقا ٢٠: ٢١ ويوحنا ٨: ١٣ و١٧). وهذا تصريح من المسيح بقبوله أن يُحكم في دعواه بمقتضى قوانين الشريعة التي لا تثبت الدعوى بأقل من شاهدين (عدد ٣٥: ٣٠ وتثنية ١٧: ٦) والناس ينظرون في صفات الشاهد قبل أن يثقوا كل الثقة بشهادته، والمسيح استشهد الآب وهو أصدق الصادقين. ولعل معنى المسيح هنا: لو أمكن أن أكون منفرداً بشهادتي لأمكن أن تكون كاذبة، لكن ذلك فرض محال فالنتيجة محال أيضاً.
    ٣٢ «الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ».
    متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥ ويوحنا ٨: ١٨ و١يوحنا ٥: ٦، ٧، ٩
    الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ أي الآب (ع ٣٦). نعم إنه ذكر أيضاً شهادة يوحنا المعمدان له (ع ٣٣) لكنه لم يشر إليها إلا بياناً أنه لا يستند عليها إثباتاً لدعواه، بل على شهادة الآب.
    وَأَنَا أَعْلَمُ الخ أي الآن كما علمت منذ الأزل. قال ذلك بياناً لشرف مقامه واتحاده مع الآب وليذكرهم استحالة شهادة الله للكذب.
    ٣٣ «أَنْتُمْ أَرْسَلتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلحَقِّ».
    يوحنا ١: ١٥، ١٩
    أَنْتُمْ أَرْسَلتُمْ إِلَى يُوحَنَّا أشار بذلك إلى اللجنة التي أرسلها الفريسيون إلى المعمدان يوحنا ١: ١٩. والمعنى أنكم أنتم أرسلتم إلى المعمدان وسألتموه شهادته فهو شاهدكم المختار.
    فَشَهِدَ لِلحَقِّ (في يوحنا ١: ٢٦، ٢٩، ٣٦). كان يجب أن يقتنعوا بشهادته. كأن المسيح قال لهم: لا تستطيعون أن تنكروا أن المعمدان نبي مخلص بلا غاية شخصية تمنعكم من قبول شهادته، وقد شهد لي، فلي حق أن أتخذ شهادته إثباتاً كافياً لدعواي لو أردت أن أستند على شهادة بشر.
    ٣٤ «وَأَنَا لا أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ».
    وَأَنَا لا أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ أي لا أكتفي بها وحدها، ولا أجعلها جلَّ معتمدي لأني لست مفتقراً لشهادة بشر بأني المسيح. نعم كان المعمدان أعظم الأنبياء، لكنه إنسان وأنا متكل على شاهد أعظم منه.
    وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا أي أشير إلى شهادة المعمدان لأنكم طلبتم شهادته، فجاءتكم واضحة صادقة مستوفية تستحق أن تثقوا فيها (متّى ٢١: ٢٣ - ٢٧).
    لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ أي أني أشرت إلى شهادة المعمدان لمنفعتكم، لإثبات دعواي لأني في غنى عن ذلك. فإن قبلتم شهادته آمنتم بأني المسيح وخلصتم بي. ولكن برفضكم تلك الشهادة رفضتم رسول الله ورسالته فستهلكون بخطاياكم وعدم إيمانكم.
    ٣٥ «كَانَ هُوَ السِّرَاجَ المُوقَدَ المُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً».
    ٢بطرس ١: ١٩، متّى ٢١: ٢٦
    كَانَ هُوَ استخدم هنا الفعل الماضي، فقد قال هذا حين كان في الجليل وكان المعمدان في السجن (متّى ٤: ١٢ ويوحنا ٤: ٤٤) ثم قطع هيرودس رأسه بعد ذلك بقليل (يوحنا ٦: ١ ومتّى ١٤: ١٣) ولذلك ذكر المسيح شهادته في الماضي.
    السِّرَاجَ المُوقَدَ المُنِيرَ هذا تشبيه ووصف ليوحنا باعتبار أنه سابق المسيح، ومرسل ليُهيئ قلوب الناس لقبوله، ويبين لهم ما يعرفونه به. وكثيراً ما يُشبَّه المعلم بالنور (رومية ٢: ١٩ ومتى ٥: ١٤ ويوحنا ٨: ١٢ و١٢: ٤٦) ويُشبَّه كتاب الله بالسراج لأنه يُري الناس طريق القداسة والحق (مزمور ١١٩: ١٠٥) وكذلك فعل المعمدان. وهذه شهادة قوية بعظمة المعمدان، ولاق أن يُشبَّه بالسراج لا بالشمس، لأن السراج لا ينير بذاته لأن الناس يضعون فيه الزيت ويوقدونه لغايات مخصوصة، ولأن نوره وقتي يُطفأ متى أُدركت الغاية التي أُوقد من أجلها. كذلك يوحنا عيًنه الله مرشداً وقتاً معيناً للناس يخبرهم بما أمره الله به ويقودهم إلى «النور الحقيقي» (يوحنا ١: ٨، ١٣).
    وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا أشار بذلك إلى ما اشتهرت به كرازة المعمدان حين خرج إليه «أورشليم وكل اليهودية» (متّى ٣: ٥). وخاطبهم يسوع باعتبار الأمة كلها. والأرجح أن كلامه صدق أيضاً على بعض الحاضرين، لأن بعض الفريسيين خرج إلى يوحنا (متّى ٣: ٧) واعتبره الناس نبياً، فكان للمسيح أن يشير إلى شهادته إثباتاً لدعواه لو أراد ذلك.
    سَاعَةً أي وقتاً قصيراً. ابتهج شعب اليهود بتعليم يوحنا حين بشرهم بقرب مجيء المسيح قبل أن عرفوا أنه قصد به يسوع الناصري، لكن لما ألحَّ عليهم أن يتركوا خطاياهم ويقبلوا يسوع مسيحاً لهم تركوه. وكان تأثير كرازة يوحنا في اليهود وقتياً، لأن قليلين ممن سمعوا وعظه قبلوا نصيحته وتبعوا يسوع. ولكن لما سُجن وقُتل لم يبالوا بتعاليمه ولا بشهادته.
    ٣٦ «وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي».
    ١يوحنا ٥: ٩ يوحنا ٣: ٢ و١٠: ٢٥ و١٥: ٢٤
    شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا أي أشد إقناعاً وأقطع حجة وأكثر استحقاقاً للقبول.
    الأَعْمَالَ أي المعجزات التي صنعها كشفاء المرضى وفتح عيون العميان وإقامة الموتى. وشهد الآب بصحة دعواه بإعطائه أن يفعل تلك المعجزات. واستشهد المسيح بمعجزاته أربع مرات في هذه البشارة هنا وفي ٣: ٢ و١٠: ٢٥ و١٥: ٢٤. والذي قوَّى شهادة تلك المعجزات أربعة أمور: (١) عددها، فهي كثيرة جداً. و(٢) عظمتها. و(٣) لأن صنع أكثرها أمام أعدائه وأصدقائه. و(٤) لأنها خيرية لا مجرد إظهار قوته.
    وكانت طهارة سيرته وجودة تعليمه علاوة على عظمة معجزاته شهادة بصدق دعواه.
    أَعْطَانِي الآبُ أي عيّن لي أن أصنعها. أراد أن يبيّن اتحاده بالآب بصنع الآيات كما بيّنه قبلاً بالتعليم.
    لأُكَمِّلَهَا أي أتممها جميعاً حتى يمكنني أن أقول وأنا على الصليب في شأن كل عملي باعتبار كوني وسيط الآب ومعلن إرادته «قد أُكمل» (يوحنا ١٩: ٣٠).
    هِيَ تَشْهَدُ لِي أني من عند الله، لأنها أعمال إلهية لا يستطيعها إنسان. ولو استطاع أن يصنعها لا يسمح الله بها لمن لا يرضيه. وقد سلَّم نيقوديموس بصحة شهادة هذه المعجزات (يوحنا ٣: ٢) وسلَّم بها الأعمى الذي شُفي (يوحنا ٩: ٣١ - ٣٣).
    ٣٧ «وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، ولا أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ».
    متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥ ويوحنا ٦: ٢٧ و٨: ١٨، تثنية ٤: ١٢ ويوحنا ١: ١٨ و١تي ١: ١٧ و١يوحنا ٤: ١٢ - ١٤
    وَالآبُ نَفْسُهُ هذا فوق ما شهد بواسطة المعجزات. والأرجح أن المعنى هنا أن الآب يشهد بطريقين: (١) بأنبياء العهد القديم (٢) بروحه الذي يخاطب قلوبهم. ولا نقول إن المسيح أشار هنا إلى شهادة الآب المسموعة حين عمّده يوحنا، ولا إلى شهادته له على جبل التجلي، لأن الأرجح أن الأولى لم يسمعها سوى يوحنا، والثانية لم يسمعها سوى ثلاثة من الرسل. والكلام هنا في شهادة الآب له لأمة اليهود كلها.
    لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ يمكن أن يكون هذا تفسيراً لما سبق أو توبيخاً لليهود. ولا ندري أيهما المقصود. فإن كان تفسيراً لما سبق يكون قصد المسيح في هذه الآية وما يليها. لا أقول لكم أيها اليهود إن الله أبان لكم شهادته لي بصوت مسموع كما تكلم مع آبائكم في طور سينا، أو أنه ظهر لكم بتلك الشهادة كما ظهر لعيون الآباء القدماء، أو أنه جعلكم تشعرون بها في داخل قلوبكم كالذين يسكن الروح القدس فيهم ويعلّمهم كل حق (يوحنا ٣: ٣٣). بل أقول إن تلك الشهادة بين أيديكم مكتوبة وتتلونها بشفاهكم وأنتم لم تقبلوها.
    وإن كان توبيخاً فقصده أنكم أيها اليهود لم تريدوا قط قبول شهادة الله منذ أول مخاطبته إياكم إلى الآن. ويكون معنى «الصوت» أوامر الله و «السمع» طاعتها، فكأنه قال «كلمكم الله في طور سيناء وسمعتم صوته بآذانكم دون قلوبكم» (تثنية ٤: ١٢) و «كلمكم أيضاً بأنبيائه وأبيتم سماعه» (إرميا ٧: ١٣ و١١: ٧، ٨) «وكلمكم بفم ابنه أيضاً فلم تسمعوا. وهو لا يزال يكلمكم بأعمال عنايته وروحه القدوس ولم تصغوا».
    ولا أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ لا ريب في هذا إذا أخذناه على ظاهره لأن «الله لم يره أحد قط» (يوحنا ١: ١٨). ولكن معنى «الإبصار» هنا الالتفات بالقلب (كما في ٣يوحنا ٢ و١يوحنا ٣: ٦). وأشار «بالهيئة» إلى الطرق التي أظهر الله وجوده كما أظهر ذلك بالسحابة في البرية (عدد ٩: ١٥، ١٦) وبالحمامة عند معمودية يسوع (لوقا ٣: ٢٢) وبكل الوسائل التي شهد بها الآب لابنه وهو على الأرض، لأن المسيح باعتباره معلن صفات الآب كان يعلّم بينهم ويصنع المعجزات، ولم تكن لهم عيون تنظر علامات كون الله بينهم، ولا آذان تسمع كلامه.
    ٣٨ «وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ، لأنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ».
    لَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ المراد بكلمة الله هنا كل الوسائط التي أظهر بها نفسه للناس، ولا سيما كلامه المكتوب. فهذا كان بين أيديهم، وفي تابوت العهد، وفي المجامع، وعلى صفحات ذاكرتهم. لكنه لم يكن على صفحات قلوبهم. لقد ادَّعى اليهود أنهم غيورون على كلمة الله، لكنهم لم يدركوا معناها الروحي ولم يحبوها ولم يشاءوا أن يتأملوا فيها ويطيعوها. ولو ثبتت كلمة الله فيهم لظهر تأثيرها في سيرتهم.
    لأنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ الخ هذا برهان على أن كلمة الله ليست ثابتة فيهم منذ أول إعلانها لهم، فلو قبلوا شهادة الأنبياء وثبتت فيهم لأعدَّت قلوبهم لقبول المسيح عند مجيئه. ولأن الأنبياء شهدوا لهم، فبرفضهم المسيح رفضوا كلمة الله الشاهدة له.
    ٣٩ «فَتِّشُوا الكُتُبَ لأنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي».
    إشعياء ٨: ٢٠ و٣٤: ١٦ ولوقا ١٦: ٢٩ وع ٤٦ وأعمال ١٧: ١١، تثنية ١٨: ١٥، ١٨ ولوقا ٢٤: ٢٧ ويوحنا ١: ٤٥
    فَتِّشُوا الكُتُبَ أبان المسيح في آية ٣٧ أن الآب شهد له بالأعمال التي أعطاه أن يصنعها. وأعلن في هذه الآية شهادة ثانية من الآب وهي ما كتب من أمره في الأسفار المقدسة. ومعنى قوله «فتشوا الكتب» اجتهدوا أن تعرفوا المعنى الروحي للكتب لتتحقَّقوا ما هي شهادة الآب ولا سيما شهادته لابنه. نعم إن اليهود يفتشون الكتب بغية المعرفة العقلية وحفظ الألفاظ، لكنهم لم يلتفتوا إلى المعنى الروحي.
    ويحتمل تعبير «فتشوا الكتب» في أصله اليوناني معنى «أنتم تفتشون الكتب». فيكون قصد المسيح على ذلك توبيخ اليهود على أنهم بعد أن درسوا الكتب رفضوا شهادتها للمسيح.
    لأنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وهو ظن في محله، لأن كتب الوحي ترشد الناس إلى الحياة الأبدية لا باقتنائها فقط أو بمجرد تلاوتها، بل بأن يصحب ذلك روح الله الذي يجعل المطالع يفهم المعنى ويستفيد منه الفائدة الروحية.
    وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي أي الكتب التي تظنون أن لكم فيها حياة أبدية هي نفسها التي تشهد لي. ومعنى هذه العبارة أن خلاصة تعليم أسفار العهد القديم لا سيما ما كُتب في إشعياء ٥٣ ودانيال ٩: ٢٦، ٢٧ هي الشهادة للمسيح والإعلان أن به الحياة الأبدية. وهي «تشهد لي» بثلاث طرق: (١) النبوات والمواعيد الصريحة، (٢) الرسوم أو الرموز كالذبائح وما شابهها، (٣) أشخاص العهد القديم الذين كانوا رموزاً إلى المسيح كموسى وداود وغيرهما.
    ٤٠ «ولا تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ».
    يوحنا ١: ١١ و٣: ١٩
    لا تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ ما أعظم الفرق بين اعتقادهم وعملهم، فإنهم طلبوا الحياة ورفضوا الذي أتى بها، مع أن الكتب المقدسة شهدت له أنه معلم ومخلِّص، لكنهم لم يقبلوا براهينها فابتعدوا عن الحياة الأبدية المعلنة فيها. ولم يقتنعوا بالبراهين لأنهم لم يريدوا أن يأتوا إليه، وليس لأن البراهين أو عقولهم كانت ضعيفة.
    لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ المسيح هو الطريق والحق والحياة (يوحنا ١٤: ٦) وغاية مجيئه منح الحياة. والإتيان إليه هو الطريق الوحيد لنوال الحياة الأبدية (يوحنا ١٠: ١٠). وهذه الحياة روحية أبدية (غلاطية ٥: ٢٢، ٢٣ وأفسس ٢: ١٠) ويتضح مما قيل هنا أن المانع الوحيد للناس من نوال الحياة الأبدية فساد الإرادة، لا كثرة الخطايا، ولا قضاء الله، ولا محدودية الفداء، ولا قلّة المعرفة، ولا ضعف البراهين. فمتى أراد الإنسان أن يكون تلميذاً ليعرف طريق الخلاص أراد الله أن يكون معلماً له. وينبوع الكفر الأصلي في الإرادة لا في العقل.
    ٤١ «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ».
    ع ٣٤ و١تسالونيكي ٢: ٦
    قصد يسوع هنا أنه لا يخاطبهم لأنه يطلب مجد نفسه بجعلهم تلاميذه، فلو أنه طلب ذلك لكان معناه أنه ملك زمني كما يشتهي اليهود. ولم يعلن المسيح هنا غايته، لكن من الواضح أنها مجد الآب وخلاص النفوس. ولم يطلب المسيح قط مجداً من الناس بل من الله (فيلبي ٢: ٩).
    ٤٢ «وَلَكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ».
    تثنية ٦: ٤، ٥
    قَدْ عَرَفْتُكُمْ أي أدركت أسرار قلوبكم، وكل العلل التي تحملكم على رفضكم إياي، لأنها مكشوفة لي دائماً.
    أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ هذا هو السبب الأول لرفضهم المسيح. نعم إنهم ادَّعوا عبادة الإله الحق وإكرامه وطاعته، لكن قلوبهم خلت من المحبة الخالصة له. وأظهروا عدم حبهم برفضهم نبيَّه وكلامه وابنه، ولذلك لم يفهموا كتابه ولا عرفوا إرادته ورفضوا شهادته. لقد اشتكوا على المسيح بأنه خالف شريعة الله ولم يقدس السبت، لكنهم لم ينتبهوا إلى أنهم خالفوا الشريعة الأولى والعظمى وهي شريعة المحبة (تثنية ٦: ٥).
    ٤٣ «أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ».
    أَنَا قَدْ أَتَيْتُ... وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي هذا دليل قاطع على عدم محبتهم لله لأنه رفضوا رسوله وشهادته له. لا مناسبة بين يسوع الوديع المتواضع القلب والفريسيين المدَّعين المتكبرين البخلاء الحساد المرائين.
    بِاسْمِ أَبِي صرحت لكم أني جئت بأمر الله الآب لعمل مشيئته وطلبت دائماً مجده. وطاعتي له هي سبب تأسيسي ملكوتاً روحياً لا زمنياً. والمعجزات التي صنعتها حُجة قاطعة على أني أتيت باسمه وسلطانه.
    إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ في هذا تاريخ لماضٍ ونبوَّة بمستقبل، فإن اليهود كانوا يميلون دائماً إلى قبول المسحاء الكذبة الذي غايتهم مجد أنفسهم. والمسحاء الكذبة الذين أعلنوا أنهم «المسيح» كثيرون جداً (انظر شرح متّى ٢٤: ٥).
    فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ شبيه الشيء منجذب إليه. طلب اليهود ملكاً أرضياً فاستعدوا لقبول من يدّعي ذلك الملك. فأكرمهم مثل هذا وتملقهم ليصل إلى غايته وارتقائه، فلذلك سرّوا به.
    ٤٤ «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟».
    يوحنا ١٢: ٤٣، رومية ٢: ٢٩
    في هذا العدد علة ثانية لعدم قبول اليهود للمسيح وشهادة الآب له، وهي رغبتهم في المجد الدنيوي وتفضيلهم إياه على المجد الذي من عند الله. والاستفهام هنا للتنبيه على استحالة اتفاق الضدين.. فمن المحال أن تؤمنوا ما دمتم على هذه الحال التي تمنع قلوبكم من قبول شهادة الله للمسيح الحق. فقد كانوا يتوقعون مسيحاً يعظمهم ويمجدهم. فلو جاء يسوع باحتفال ومجد وسلطان ملكي لتبعوه بغية أن يشاركوه في مجده. ولهذا صعب عليهم أن يتبعوه وهو معلم وديع وملك روحي.
    وَالمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الوَاحِدِ افتخر اليهود بتمسكهم بتوحيد الله وفق قوله بلسان كليمه موسى «إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية ٦: ٤) وأنهم مجدوه بذلك، ولكنهم بطلبهم المجد لأنفسهم سلبوا المجد منه. فلو تركوا مجد أنفسهم بغية مجد الله لنالوا مدح ضمائرهم في الدنيا وثواب السماء في الآخرة، لأن الإنسان لا يمكن أن ينال المجد من الله ما لم ينكر ذاته (يوحنا ١٢: ٤٣).
    ٤٥ «لا تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ».
    رومية ٢: ١٢
    لا تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ المسيح أتى ليخلِّص لا ليشكو. ولو أراد أن يشكو لما احتاج إلى شكواه لأنه يوجد شاك آخر كاف.
    يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى ليس المعنى أن موسى يشكوهم فعلاً إلى الله، بل إن كتب موسى التي يقرأونها كل يوم في مجامعهم تدينهم، كأنه هو الذي يتكلم، لأنهم ادَّعوا أنهم تلاميذه وأنهم يعتبرون كلامه كل الاعتبار، لكنهم رفضوا مضمون كتبه، أي الشهادة للمسيح. ولا يعين هنا وقت تلك الشكاية، فهي ليست مختصة بيوم الدين، بل هي عليهم دائماً ما لم يؤمنوا بالمسيح.
    الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ اتكلوا لتبريرهم في اليوم الأخير على شدة حفظهم كل ما أمر به في الشريعة التي جاء بها موسى، فكانوا كأنهم يتوقعون أن يقوم موسى من قبره ويشهد لهم بأمانتهم، لكن الأمر على خلاف ما توقعوا، لأن موسى يشكوهم إلى الآب بدلاً من أن يشهد لهم. وما قاله المسيح هنا ينقض كل أساس ما اتكل اليهود عليه لخلاص نفوسهم، لأن موسى يطلب دينونتهم من الله، وهو الذي رجوا أن يبررهم.
    ٤٦ «لأنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي».
    تكوين ٣: ١٥ و١٢: ٣ و١٨: ١٨ و٢٢: ١٨ و٤٩: ١٠ وتثنية ١٨: ١٥ و١٨ ويوحنا ١: ٤٥ وأعمال ٢٦: ٢٢
    لأنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي الإيمان بأحدهم يستلزم الإيمان بالآخر، فالذي يقبل تعليم موسى قبولاً صحيحاً لا بدّ أن يقبل تعليم المسيح، لشدة العلاقة الواضحة بينهما. واليهود لم يدركوا المعنى الروحي من تعاليم موسى ورموزه كالذبائح والتطهيرات والكهنوت، ولذلك لم يستعدوا لقبول المسيح المشار إليه بكل هذا التعليم.
    لأنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي إني نسل المرأة «الذي يسحق رأس الحية» (تكوين ٣: ١٥)، ونسل إبراهيم الذي «به تتبارك جميع قبائل الأرض» (تكوين ١٢: ٣)، و «شيلون الذي له يكون خضوع شعوب» (تكوين ٤٩: ١٠)، و «الكوكب الذي يبرز من يعقوب والقضيب الذي يقوم من إسرائيل» (عدد ٢٤: ١٧)، والنبي «الذي يقيم لك الرب إلهك من وسطك من إخوتك مثلي» (تثنية ١٨: ١٥ - ١٨).
    والكلام هنا وفق قول الرسول «قد كان الناموس مؤدبنا (المربّي) إلى المسيح» (غلاطية ٣: ٢٤) وأن شريعة موسى الطقسية وكل رسومها وشعائرها رموز إلى المسيح (كولوسي ٢: ١٧). وكانت حيّة النحاس التي رفعها موسى في البرية إشارة إلى المسيح مرفوعاً على الصليب (عدد ٢١: ٩ ويوحنا ٣: ١٤).
    هذه الآية شهادة واضحة من المسيح بأن الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى هي من وحي الله لموسى (قارن لوقا ٢٤: ٤٤ برومية ١٠: ٥).
    ٤٧ «فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلامِي؟».
    تقول هذه الآية ما قالته آية ٤٦ بتغيير اللفظ، أي أن رفض شهادة موسى يستلزم رفض تعليمي، لأن تلك الشهادة هي الوسيلة إلى معرفة صحة دعواي. فكأنه قال: تدَّعون أنكم تلاميذ موسى وأنكم تعتبرون كلامه وتوقّرونه نظراً لكثرة من تمسكوا به من الأتقياء في قرون كثيرة، ومع ذلك لم تؤمنوا بذلك الكلام حق الإيمان. فلا عجب أنكم لم تؤمنوا بكلامي وأنتم تحتقرونني وتبغضونني.
    ولم يخبرنا البشير بتأثير هذا الكلام في اليهود، لكن نستنتج مما نقرأه في مواضع أُخرى أنه أثار غضب اليهود عليه وبغضهم له وإصرارهم أن يقتلوه (ع ١٨).
    وفي هذه المخاطبة اثنتا عشرة حقيقة ذات شأن: (١) الاتحاد الكلي بين الآب والابن. (٢) شرف الابن وإرساليته الإلهية. (٣) حقوق المؤمن. (٤) إحياء الموتى بالروح. (٥) الدينونة والديان. (٦) قيامة الجسد. (٧) قيمة شهادة المعجزات. (٨) وجوب درس الكتاب المقدس. (٩) فساد مشيئة الإنسان. (١٠) محبة مجد الناس علة الكفر. (١١) قيمة كتب موسى بالنظر إلى أنها تشهد للمسيح. (١٢) حقيقة حفظ يوم الراحة.


    الأصحاح السادس


    إشباع يسوع خمسة آلاف، ووعظه في كفرناحوم ع ١ - ٦٥


    ١ «بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ».
    متّى ١٤: ١٤ الخ ومرقس ٦: ٣٥ الخ ولوقا ٩: ١٠ الخ
    بَعْدَ هَذَا أي بعد الأمور المذكورة في أصحاح ٥. وبدء هذا الأصحاح كبدء أصحاح ٥، وليس فيه ما يبيّن طول المدة الماضية أو قصرها والمرجح أنها نحو سنة. ومن حوادث هذه المدة قتل يوحنا المعمدان (متّى ١٤: ١٣)، ودعوة الرسل وإرسالهم إلى التبشير ورجوعهم (مرقس ٦: ٣٠، ٣١)، والوعظ على الجبل، وجولان المسيح ثانية في الجليل، وصنعه معظم معجزاته، ووعظه بأكثر أمثاله. ولم يذكر يوحنا من معجزات المسيح في الجليل سوى اثنتين، وهما: تحويل الماء خمراً، وشفاء ابن خادم الملك (يوحنا ٢، ٤).
    مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الجَلِيلِ أي من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي. والموضع الذي ذهب إليه في جوار بيت صيدا أو من توابعها (لوقا ٩: ١٠).
    وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ زاد البشير هذا التفسير لإفادة قراء بشارته من الأمم. وسُمّي هذا البحر «جنيسارت»، كما نُسب إلى مدينة طبرية المبنية على شاطئه، والتي بناها هيرودس أنتيباس وأطلق عليها اسم طيباريوس قيصر الرومان (انظر شرح متّى ٤: ١٨).
    ٢ «وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي المَرْضَى»
    أشار يوحنا هنا بالاختصار إلى وفرة الجموع الذين تبعوا المسيح من مكان إلى آخر وهو يجول في الجليل وكثرة ما صنع من المعجزات التي ذكرها غيره من الإنجيليين بالتفصيل (متّى ٤: ٢٤ و٨: ١٦ و٩: ٣٥ و١٥: ٣٠ ومرقس ٦: ٥٦ ولوقا ١٩: ١١، ١٢).
    ٣ «فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تلامِيذِهِ».
    فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ أي إلى تل أو أرض مرتفعة شمال شرق البحر. وصعد إلى هناك للراحة والصلاة وتعليم رسله (مرقس ٦: ٣٠).
    ٤ «وَكَانَ الفِصْحُ عِيدُ اليَهُودِ قَرِيباً»
    لاويين ٢٣: ٥، ٧ وتثنية ١٦: ١ ويوحنا ٢: ١٣ و٥: ١
    أضاف «الفصح» لفائدة قراء بشارته ممن يجهلون شريعة اليهود، وفي ذلك تلميح إلى عدم تكليف المسيحيين بذلك العيد. وقد سبق الكلام على الفصح بالتفصيل في شرح متّى ٢٦: ٢. والأرجح أن هذا العيد هو الفصل الثالث في مدة خدمة المسيح. ولم يصعد إليه المسيح لأن اليهود رفضوه في الفصح الذي قبله (يوحنا ٢: ١٨ و٥: ١، ١٨) فكان لا يستطيع أن يصعد إليه بلا خطر، وساعته لم تكن قد أتت. وكان ازدحام الناس على المسيح في الجليل بسبب قرب الفصح، إذ كانوا يجتمعون من الشمال استعداداً للصعود إلى أورشليم.
    ٥ «فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاءِ؟».
    سبق الكلام على هذه المعجزة وحوادثها في شرح (متّى ١٤: ١٣ - ٢١ ومرقس ٦: ٣٢ - ٤٤ ولوقا ٩: ١٠ - ١٧. ولكن يوحنا ذكر من متعلقات ذلك ما لم يذكره سائر البشيرين. وهذه المعجزة هي الوحيدة التي ذكرها كل الإنجيليين الأربعة. وذكرها يوحنا ليتخذها مقدمة لخطاب المسيح الذي بُني عليها.
    وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ كان بعض هذا الجمع هناك عند خروجه من السفينة، وظلوا مجتمعين وهو على الجبل، فتحنَّن عليهم ونزل إليهم.
    فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ لم يذكر هذه المحادثة إلا يوحنا، وقد مر الكلام على فيلبس في شرح متّى ١٠: ٣. ولم يتضح سبب سؤال يسوع إيّاه دون غيره، ولعل إيمان فيلبس كان وقتئذ أضعف من إيمان غيره من الرسل، أو لعله كان أقرب التلاميذ إليه. وكان أحد الستة الذين كانوا في قانا يوم تحويل الماء خمراً. ولعل يسوع أراد أن يرى ما استفاده فيلبس يومئذ.
    ٦ «وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ».
    وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ أي ليمتحن قوة إيمانه به من جهة قدرته على إشباع الجمع الكثير. ولا تناقض بين ما قيل هنا وما قاله متّى من أن المسيح علَّم الجمع إلى المساء ثم أتى إليه تلاميذه وسألوه أن يصرف الجمع، لاحتمال أن المسيح وجَّه سؤاله إلى فيلبس قبل إتيان التلاميذ أو بعده. فلو عرفنا كل الأحوال وقتئذ لعرفنا الاتفاق التام بين الخبرين (انظر شرح متّى ١٤: ١٥).
    لأنَّهُ هُوَ عَلِمَ الخ شهادة البشير بعلم المسيح كل شيء نتيجة اختباره، فأيقن أن المسيح لم يسأل فيلبس ما سأله إياه ابتغاء نصيحته.
    ٧ «أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: لا يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً»
    عدد ١١: ٢١، ٢٢
    أظهر جواب فيلبس ضعف إيمانه بيسوع، لأنه لم يلتفت إلى قدرة المسيح على كل شيء، بل حصر نظره في صعوبة إشباع مثل ذلك العدد.
    بِمِئَتَيْ دِينَارٍ كان ذلك أجرة فاعل في مئتي يوم (متّى ٢٠: ٩، ١٠). ولا شك أن فيلبس ذكر ذلك المبلغ لأنه يتعذر على جميع التلاميذ.
    ٨، ٩ «٨ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تلامِيذِهِ، وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ: ٩هُنَا غُلامٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاءِ؟»
    ٢ملوك ٤: ٤٣
    أَنْدَرَاوُسُ هو أحد تلميذي المعمدان اللذين تبعا المسيح أولاً، والآخر يوحنا كاتب هذه البشارة (يوحنا ١: ٤٠ انظر شرح متّى ١٠: ٢). وكان قوله بعض الجواب عن فيلبس لقول يسوع «أين نبتاع خبزاً؟» وقوله لجميع الرسل «كم رغيفاً عندكم؟» (مرقس ٦: ٣٨).
    أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ لم يذكر أحد من الإنجيليين سوى يوحنا من أي الحبوب كانت تلك الأرغفة، ومن أين هي. وكان خبز الشعير مأكول الفقراء في الجليل. وأتى ذلك الغلام بالخبز ليبيعه بين ذلك الجمع، فاشترى الباقي منه أحد التلاميذ، أو كان حامل زاد التلاميذ.
    أظهر جواب فيلبس عظمة الحاجة وأظهر جواب أندراوس قلة الوسائل.
    ١٠ «فَقَالَ يَسُوعُ: اجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ. وَكَانَ فِي المَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلافٍ».
    وَكَانَ فِي المَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ لأن الوقت كان ربيعاً، وقت الفصح أي في شهر نيسان (ع ٤).
    فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلافٍ وزاد متّى قوله عدا عن النساء والأولاد (متّى ١٤: ٢١) وعلة ذكر عدد الرجال دون غيرهم جلوسهم وحدهم صفوفاً مئة مئة وخمسين خمسين ليسهل توزيع الخبز عليهم، وبذلك هان إحصاؤهم. أما النساء والأولاد فلم يكونوا كذلك.
    ١١ «وَأَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ، وَوَزَّعَ عَلَى التّلامِيذِ، وَالتّلامِيذُ أَعْطَوُا المُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا».
    جاء في سائر البشائر «بارك» بدل «شكر» والمعنى واحد، لأن الشكر يجلب البركة.
    ١٢، ١٣ «١٢ فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ لِتلامِيذِهِ: اجْمَعُوا الكِسَرَ الفَاضِلَةَ لِكَيْ لا يَضِيعَ شَيْءٌ. ١٣ فَجَمَعُوا وَملأوا اثْنَتَيْ عَشَرَةَ قُفَّةً مِنَ الكِسَرِ، مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ».
    قَالَ لِتلامِيذِهِ روى سائر البشيرين أن التلاميذ جمعوا الكسر، وقال يوحنا إنهم جمعوها بأمر المسيح. والغاية من ذلك الانتقاع بها، والتذكير بالمعجزة.
    ١٤ «فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا هُوَ بِالحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى العَالَمِ!».
    تكوين ٤٩: ١٠ وتثنية ١٨: ١٥، ١٨ ومتّى ١١: ٣ ويوحنا ١: ٢١ و٤: ١٩، ٢٥ و٧: ٤٠
    النَّبِيُّ الآتِي إِلَى العَالَمِ هو الذي أنبأ به موسى في تثنية ١٨: ١٥ - ١٨، وتوقعت الأمة اليهودية مجيئه، والذي نادى المعمدان بإتيانه.
    ١٥ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الجَبَلِ وَحْدَهُ».
    يَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً قصدوا أن يجعلوه ملكاً زمنياً ليأخذوه باحتفال إلى أورشليم ويجمعوا الجنود ويحاربوا الرومان وينقذوا بلادهم من سلطان قيصر. ولم يقصدوا قط أن يقبلوه ملكاً روحياً ويطيعوا أوامره الروحية.
    انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الجَبَلِ أي الأراضي الجبلية حيث كان سابقاً (ع ٣). ذكر متّى ومرقس علة واحدة لانصرافه وهي الصلاة، وزاد يوحنا على ذلك التخلص من تمليكه. ولنا من هذه المعجزة أربع فوائد: (١) برهان شفقة المسيح وقوته. (٢) الثقة فيه على الدوام، فالذي أشبع خمسة آلاف في ذلك اليوم قادر ومستعد أن يقوم بواجبات تلاميذه الجسدية الآن. (٣) ما يجب أن تعمله الكنيسة من أجل غيرها من الناس، فتجتهد في بذل المنافع الجسدية والروحية لهم. (٤) الإشارة إلى ما كان المسيح مزمعاً أن يفعله لأجل خلاص العالم إذ جعل جسده «المكسور لأجلنا» واسطة حياة وقوة له.
    ١٦ - ٢١ «١٦ وَلَمَّا كَانَ المَسَاءُ نَزَلَ تلامِيذُهُ إِلَى البَحْرِ، ١٧ فَدَخَلُوا السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ البَحْرِ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ. وَكَانَ الظّلامُ قَدْ أَقْبَلَ، وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ. ١٨ وَهَاجَ البَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ. ١٩ فَلَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاثِينَ غَلوَةً، نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى البَحْرِ مُقْتَرِباً مِنَ السَّفِينَةِ، فَخَافُوا. ٢٠ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ لا تَخَافُوا. ٢١ فَرَضَوْا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ. وَلِلوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا».
    متّى ١٤: ٢٣ ومرقس ٦: ٤٧
    انظر شرح هذه المعجزة في شرح متّى ١٤: ٢٢ - ٣٣ ومرقس ٦: ٤٥ - ٥٢. ولم يذكرها لوقا.
    المَسَاءُ (ع ١٦) يبدأ المساء بالمغرب، وهو المساء الثاني. والمساء الأول يبدأ بالعصر، وفيه أتى التلاميذ إلى المسيح وسألوه أن يصرف الجموع (متّى ١٤: ١٥).
    نَزَلَ تلامِيذُهُ إِلَى البَحْرِ بأمره بدليل ما جاء في بشارتي متّى ومرقس. والمرجح أن السفينة التي نزلوا إليها هي التي أتوا فيها (ع ١).
    إِلَى كَفْرَنَاحُومَ قال مرقس «إلى بيت صيدا» (مرقس ٦: ٤٥) والمكانان في جهة واحدة من موضع المعجزة وهي جهة الغرب، فالأرجح أنهم قصدوا أن يلاقوا يسوع في بيت صيدا ويأخذوه بالسفينة إلى كفرناحوم، فقذفت بهم الريح إلى وسط البحر وأتى يسوع إليهم هنالك. وبقوا متوجهين إلى نواحي كفرناحوم.
    نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاثِينَ غَلوَةً الغلوة نحو ٢٠٠ متراً، وعرض البحر هناك نحو ٨٠٠ متراً فيكونوا قد سافروا ما بين خمسة وستة كيلومترات.
    فَخَافُوا توقعوا أن يلتقوا بالمسيح في بيت صيدا (مرقس ٦: ٤٥) لكنهم لم يتوقعوا أن يأتيهم ماشياً على أمواج البحر، وذلك أمر لم يروا مثله ويسمعوا به. نعم إن موسى شق البحر بقوة الله، وأما يسوع فمشى على الماء بقوته.
    فَرَضَوْا أَنْ يَقْبَلُوهُ (ع ٢١) وقد زال خوفهم بعد سماعهم صوته. زاد متّى على هذا أن بطرس نزل لملاقاته على الماء.
    لِلوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ أشار بهذا إلى سرعة السفينة بعد سكون الريح، ولا يستلزم ذلك أن تكون سرعتها بمعجزة.
    إِلَى الأَرْضِ الخ أي سهل جنيسارت قرب كفرناحوم (متّى ١٤: ٣٤).
    ٢٢ «وَفِي الغَدِ لَمَّا رَأَى الجَمْعُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ البَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ، وَهِيَ تِلكَ الَّتِي دَخَلَهَا تلامِيذُهُ، وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ مَعَ تلامِيذِهِ بَل مَضَى تلامِيذُهُ وَحْدَهُمْ».
    وَفِي الغَدِ أي غد يوم المعجزة.
    رَأَى الجَمْعُ لا شك أن بعض الجمع انصرف إلى القرى المجاورة بعد أن صرفهم المسيح (متى ١٤: ٢٢)، وبعضه ظل سائراً إلى أورشليم ليحضر العيد، وآخرون توقعوا نزول يسوع من الجبل ولما لم يروه تحيروا إذ لم يعملوا كيف ذهب، فلم تكن هناك إلا سفينة واحدة نزل التلاميذ إليها ويسوع ليس معهم. ولو مرَّ يسوع على الشاطئ لشاهدوه لأنهم كانوا واقفين هناك.
    وَاقِفِينَ ليأخذوه متى نزل ويجعلوه ملكاً.
    فِي عَبْرِ البَحْرِ أي الجانب الشرقي.
    ٢٣ «غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ المَوْضِعِ الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الخُبْزَ، إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ».
    ذكر البشير هذا ليبين سبب وجود سفينة يسافرون فيها بعد ما ذكر أنه لم تكن هنالك سوى سفينة واحدة سافروا فيها (ع ٢٢).
    إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ لا يلزم من ذلك أن الرب لم يعتد أن يشكر على كل طعام، بل يفيد أن في ذلك الشكر شيئاً غير معتاد من كيفية تقديمه ونتيجته.
    ٢٤ «فَلَمَّا رَأَى الجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ ولا تلامِيذُهُ، دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً السُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ».
    الجَمْعُ بعض الخمسة الآلاف لا كلهم (ع ٢٢).
    إِلَى كَفْرَنَاحُومَ ذهبوا إلى المدينة لأنها عاصمة تلك البلاد ومجتمع كثرة الناس حيث يرجح أن يسمعوا شيئاً من أخبار يسوع، ولأنه كان يتردد إلى هناك. ولم يذهبوا إلى طبرية ليبحثوا عنه لأنهم عرفوا من السفينة الآتية منها أنه ليس فيها (ع ٢٣).
    ٢٥ «وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ البَحْرِ، قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟».
    وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ البَحْرِ لم يجدوه في أول الأمر وهو في سهل جنيسارت، بل وجدوه يوم السبت في مجمع كفرناحوم (ع ٥٩). و «عبر البحر» هنا الجانب الغربي منه. وظن بعض المفسرين أنه بدأ هذه المخاطبة في سهل جنيسارت واستمر عليها إلى ما في آية ٤٠ وأتمها في المجمع. ولم يذكر يوحنا ما صنع المسيح من المعجزات في ذلك السهل وذكره متّى ومرقس (متّى ١٤: ٣٤ - ٣٦ ومرقس ٦: ٥٣ - ٥٦).
    يَا مُعَلِّمُ هذا ترجمة «ربي» وهو لقب احترام للمعلم عند اليهود.
    مَتَى صِرْتَ هُنَا؟ سألوه ذلك تعجباً من مشاهدتهم إياه هناك، حيث لا توجد وسيلة توصله إلى ذلك الموضع براً أو بحراً. وسؤالهم هذا تمهيد لسؤال ثانٍ هو: كيف جئت؟ وذلك دليل على أنهم كانوا يفتشون عنه.
    ٢٦ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَل لأنَّكُمْ أَكَلتُمْ مِنَ الخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ».
    لم يجبهم المسيح على سؤالهم، لكن كلامه كان جواباً على سؤال لم يصرح هو به وهو: «لماذا جئتم تطلبونني؟». كان ظاهر عملهم يدل على رغبتهم في إكرام المسيح وسماع تعاليمه واعتباره رسولاً لله، أما هو فعرف أن قصدهم كان غير ذلك.
    لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ شاهد اليهود المعجزات وتعجبوا منها لكنهم لم يستفيدوا منها فائدة روحية، ولم يستنتجوا منها أنه هو المسيح فيأتون إليه ليعبدوه ويتعلموا منه الحقائق الروحية. وهذا وفق قول مرقس «لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً» (مرقس ٦: ٥٢).
    بَل لأنَّكُمْ أَكَلتُمْ مِنَ الخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ ظنوا أنهم إذا تبعوه شبعوا دائماً كما شبعوا سابقاً. وتوقعوا أن ينالوا بواسطته كل البركات الجسدية والمنافع العادية بلا تعب. فكانت غايتهم دنيوية فقط، ولم يشعروا بجوع النفس ليطلبوا الطعام الروحي أي تعليم المسيح. فلم يُسرّ يسوع بمجيئهم إليه لتلك الغاية. ولا يريد الآن أن يُكثر عدد تابعيه بمنح الخيرات العالمية، فلا يتوقف نجاح الإنجيل في بلد ما على كثرة المتنصرين بل على تغيير قلوبهم. فالديانة التي تُتخذ تجارة باطلة، فيجب أن تتبع المسيح حباً له لا محبة لعطاياه.
    ٢٧ «اِعْمَلُوا لا لِلطَّعَامِ البَائِدِ، بَل لِلطَّعَامِ البَاقِي لِلحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لأنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَه».
    ١كورنثوس ٦: ١٣ ويوحنا ٤: ١٤ وع ٥٤، متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥ ومرقس ١: ١١ و٩: ٧ ولوقا ٣: ٢٢ و٩: ٣٥ ويوحنا ١: ٣٣ و٥: ٢٧ و٨: ١٨ وأعمال ٢: ٢٢ و٢ بطرس ١: ١٧
    اتخذ المسيح إشباع الجموع خبزاً وسيلة لتعليمهم الحقائق السماوية، كما اتخذ طلبه شربة ماء من المرأة السامرية ذريعة إلى الكلام عن الماء الحي (يوحنا ٤: ١٠)، وكما انتقل بالكلام عن الخميرة إلى الكلام عن الرياء (متّى ١٦: ٦)، وبالإنباء بقتل الجليليين إلى الكلام عن وجوب التوبة (لوقا ١٣: ١)، وبدعوة العشاء إلى الكلام عن العرس السماوي.
    اِعْمَلُوا لا لِلطَّعَامِ البَائِدِ ليس في هذا نهي عن العمل لتحصيل أسباب المعاش الضرورية، لأن ذلك مما أوجبه كتاب الله (خروج ٢٠: ٩ وأعمال ١٨: ٣ وأفسس ٤: ٢٨ و١تسالونيكي ٣: ١٠ و٤: ١٠ - ١٢ و١تيموثاوس ٥: ١) إنما فيه نهي عن الاقتصار على طلب حاجات الجسد دون حاجات النفس (إشعياء ٥٥: ٢ ومتّى ٥: ٢٤). فالخطأ كامن في زيادة الاهتمام بالزمنيات. ووصف الطعام هنا «بالبائد» لأنه زائل، وفائدته وقتية، ولا قوة له على حفظ الحياة ( ١كورنثوس ٦: ١٣). وكلام المسيح على الطعام هنا ككلامه على الماء (يوحنا ٤: ٣٢).
    بَل لِلطَّعَامِ البَاقِي أي الروحي وإلا لم يكن باقياً. والطعام البائد والطعام الباقي كلاهما عطية الله، فهو الذي خلق الإنسان ويعرف ما يحتاج الإنسان إليه، وأمره هنا أن نعمل للباقي ولا نقلق للأول. ومعنى قوله «اعملوا للطعام الباقي»: اشتهوا الخيرات الروحية، واتخذوا كل الوسائل التي أعدها الله لتحصيلها من الصلاة ومطالعة الكتاب المقدس والحضور في بيت الله وممارسة الفرائض الدينية واتباع المسيح.
    لِلحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ أي الدائمة نتائجها إلى الأبد في تقوية النفس، وراحة الضمير، والثقة بالغفران، والنمو الروحي (يوحنا ٤: ١٤ و٥: ٣٨ و٦: ٥٦ و٨: ٣١ و١٥: ٤، ٧ و١يوحنا ٢: ٦، ٢٧).
    الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ جعل المسيح البركات الروحية موهبته الخاصة التي نزل من السماء ليهبها للناس وهو يُسرّ بمنحها (رومية ٦: ٢٣) نعم إنّه يعطي أيضاً «الطعام البائد» لكنه لم يجعله الهبة الخاصة، بل يتخذ منحه إشارة إلى تلك، وبياناً لقوته على إعطائه إياها. كذلك اتخذ شفاءه للجسد إشارة إلى قدرته على شفاء النفس. وهو يعطي البركات الروحية بسخاء أكثر مما يعطي به الجسدية، ويسر بأن يعطيها دائماً لكل من يسأله إياها «بلا كيل».
    لأنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ يتخذ الناس الختم للتثبيت (١ملوك ٢١: ٨ وأستير ٣: ١٢ و٨: ٨). والمعنى أن الله عيّن المسيح منذ الأزل ليعطي الحياة الأبدية (يوحنا ١٠: ٣٦) وشهد له إفادة للناس عند معموديته بصوت مسموع وآية ظاهرة ومعجزات أجراها على يده (يوحنا ٥: ٣٦) فكانت تلك ختماً لإثبات أن الله عيَّنه.
    ٢٨ «فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟».
    مَاذَا نَفْعَلُ؟ فهم اليهود من كلام المسيح أنه يجب عليهم لكي يستحقوا «الطعام الباقي للحياة الأبدية» أن يعملوا بعض الأعمال كالأصوام وطاعة الشريعة وإنكار الذات. فسؤالهم كسؤال الشاب الذي أتى للمسيح «أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟» (متّى ١٩: ١٦). فإن أخطأوا في السؤال أصابوا بأن وجَّهوه إلى من يقدر أن يرشدهم إلى الصواب. وكثيراً ما يكون مثل هذا السؤال وسيلة لنوال أعظم مما يُتوقع، كسؤال اليهود يوم الخمسين (أعمال ٢: ٣٧) وسؤال شاول الطرسوسي (أعمال ٩: ٦) وسؤال سجان فيلبي (أعمال ١٦: ٣٠).
    أَعْمَالَ اللَّهِ أي الأعمال التي أمر بها وسيثيب عليها. سألوه عنها لتكون وسيلة إلى نوالهم «الطعام الباقي للحياة الأبدية».
    ٢٩ «أَجَابَ يَسُوعُ: هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَه».
    ١يوحنا ٣: ٢٣
    أعظم أعمال الله وأولها هو الإيمان بالمسيح، فهو يسره ويكرمه ويؤكد سائر الأعمال الصالحة. وسألوه عن أعمال الله كأنها كثيرة فجمعها كلها في واحد، جعله شرط الحياة الأبدية (يوحنا ١٧: ٣ ورومية ١٠: ٤). وكذلك حسب كل أعماله عملاً واحداً بقوله «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يوحنا ١٧: ٤).
    جعل المسيح هنا الإيمان به بمنزلة عمل أساسي، فالإيمان أصلٌ لكل الأعمال الصالحة ومنشئها. فجواب المسيح المذكور حكم بأهمية الإيمان به، وبأنه أساس كل ديانته. وهو الجواب الوحيد لمن يسألوننا عن طريق الخلاص.
    ٣٠ «فَقَالُوا لَهُ: فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟».
    متّى ١٢: ٣٨ و١٦: ١ ومرقس ٨: ١١ و ١كورنثوس ١: ٢٢
    أَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لا دليل على أن أصحاب هذا السؤال غير أصحاب الذي قبله، لكنهم أظهروا مقاومة القلب البشري للتعاليم الروحية. وطلبه أن يؤمنوا به أثار بغضهم لتعليمه. نعم إنهم حين صنع المعجزة قالوا «هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم» (ع ١٤) وأرادوا أن يجعلوه ملكاً، فلو قبل منهم اكتفوا بالآية برهاناً على صحة دعواه. ولكن عندما رفض أن يملك عليهم، وأزال كل رجائهم أن ينقذهم من نير الرومان، وصرح بأنه ذو ملكوت روحي لينقذ نفوسهم من رق الخطية، تحققوا أنه ليس المسيح الذي أرادوه، ولا الذي علمهم ربانيوهم أن يتوقعوه. وكثيراً ما طلب اليهود من المسيح أن يصنع لهم آية ظاهرة دائمة كنزول المن في البرية ( ١كورنثوس ١: ٢٢).
    لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ طلبوا آية أخرى حجة لعدم إيمانهم، وكانت الأولى كافية فأنكروها.
    ٣١ «آبَاؤُنَا أَكَلُوا المَنَّ فِي البَرِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا».
    خروج ١٦: ١٥ وعدد ١١: ٧ ونحميا ٩: ١٥ و ١كورنثوس ١٠: ٣، مزمور ٧٨: ٢٤، ٢٥
    آبَاؤُنَا أي اليهود الذين قادهم موسى في البرية.
    أَكَلُوا المَنَّ (خروج ١٦: ١٤، ٣١ وعدد ١١: ٧). لم يذكروا موسى في هذا بل أشاروا إليه، فكأنهم قالوا: هات لنا برهاناً كبرهان موسى لآبائنا فنؤمن بك. فالمعجزة التي صنعتَها أصغر من معجزات موسى، فأنت أعطيتنا خبزاً عادياً من الأرض، وذاك أعطى خبزاً من السماء. أنت أعطيتنا الخبز مرة واحدة، وذاك أعطى خبز السماء أربعين سنة. أنت أشبعت خمسة آلاف، وذاك أشبع من لا يقلون عن مليونين.
    كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في مزمور ٧٨: ٢٤، ٢٥.
    ٣٢ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَل أَبِي يُعْطِيكُمُ الخُبْزَ الحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ».
    الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ اعتاد المسيح أن يقول هذا مقدمة لكل موضوع مهم.
    لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ لم ينكر المسيح أن الله أعطى بني إسرائيل المن على يد موسى، بل بيّن أن المنَّ ليس هو الخبز الروحي الحقيقي الذي يعطي حياة للعالم، وأنه لا يدوم إلى الأبد، فلا ينقذ النفس من الموت الأبدي. إنما هو مجرد إشارة إلى الخبز الحقيقي النازل من السماء الذي يخلّص النفس من الهلاك.
    بَل أَبِي يُعْطِيكُمُ أعطى موسى آباءكم الرمز، وأما الآب فأعطاكم المرموز إليه الذي لم يستطع موسى أن يعطيكم إياه. وموسى أعطى وقتياً، وأما أبي فيعطي الآن وإلى الأبد.
    الحَقِيقِيَّ قال هذا تمييزاً له عن الرمزي الوقتي الأرضي. وكثيراً ما ورد «الحقيقي» بهذا المعنى كقوله «النور الحقيقي» (يوحنا ١: ٩) و «الكرمة الحقيقية» (يوحنا ١٥: ١) و «المسكن الحقيقي» (عبرانيين ٨: ٢).
    ٣٣ «لأنَّ خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الوَاهِبُ حَيَاةً لِلعَالَمِ».
    هذا تفسير للخبز الحقيقي الذي يعطيه الآب، وهو هبته العظمى اللائقة به، الذي يمدحه الله ترغيباً فيه للجياع المحتاجين إليه. وقال هذا إصلاحاً لخطإ اليهود بظنهم المن «خبز الله» و «النازل من السماء» (مزمور ٧٨: ٢٤، ٢٥). وفي هذه الآية ثلاث صفات تميز الخبز الحقيقي: (١) أنه نزل من السماء العليا حيث يسكن الله، لا من السماء الدنيا (أي الجو) كالمن. (٢) أنه واهب الحياة لا كالمن الذي يسند فقط حياة الجسد وقتياً لا دائماً، لأن كل الذين أكلوا منه ماتوا (ع ٤٩). وأما هذا فيعطي النفس حياة روحية أبدية. (٣) أنه لنفع العالم كله بخلاف ذاك، لأن نفعه كان مقصوراً على اثني عشر سبطاً من أمة واحدة مدة حياة جيل واحد منها، ثم انقطع (يشوع ٥: ١٢). أما هذا فكان لمنفعة كل من يقبله من نسل آدم يهوداً وأمماً مدة كل الأجيال إلى منتهى الزمان. ورفض أكثر الناس هذه العطية لا ينفي أن الله وهبها للجميع. لقد أعطانا الله تلك العطية العظمى بابنه، ولكن لم يصرّح هنا بأنه هو تلك الهبة، إنما صرح بذلك في آية ٣٥.
    ٣٤ «فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا الخُبْزَ».
    يوحنا ٤: ١٥
    هذه الطلبة كطلبة المرأة السامرية للماء الحي، ولم تكن ناتجة عن إدراك المعنى الذي قصده المسيح، ولا دالة على استعداد اليهود لاتخاذ الوسائل لتحصيل المطلوب. وإنما هي اشتهاؤهم نوال نفع عظيم زمني لأجسادهم فقط.
    ٣٥ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ خُبْزُ الحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِل إِلَيَّ فلا يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلا يَعْطَشُ أَبَداً».
    ع ٤٨، ٥٨ ويوحنا ٤: ١٤ و٧: ٣٧
    أَنَا هُوَ انتقل المسيح في حديثه من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم. وفي كلامه هنا جواب قولهم «أعطنا هذا الخبز» وهو قوله «أنا هو» أي أن الخبز الذي طلبتموه كأنه غائب ها هو أمامكم.
    خُبْزُ الحَيَاةِ وجه الشبه بين المسيح والخبز ثلاثة أمور: (١) أن كليهما ضروري لحياة الإنسان. (٢) أن كليهما مناسب للجميع في كل زمان ومكان. (٣) نحتاج إلى كليهما في كل يوم: الخبز لإسناد الجسد، ونعمة المسيح وشفاعته وبره لحياة النفس. وسُمي المسيح «خبز الحياة» لأنه الحياة وقادر أن يمنح الحياة لغيره. و «الحياة» هنا تحوي كل ما يجعل النفس حكيمة تقية سعيدة. ولأن المسيح «كلمة الله» يعلن للإنسان الحقائق الإلهية الضرورية للنفس كالخبز للجسد، وهو في كل وظائفه قوت للنفوس.
    مَنْ يُقْبِل إِلَيَّ هذا بيان لكيفية حصول نفس الإنسان على خبز الحياة. ومعنى ذاك كمعنى «من يؤمن بي» في هذه الآية عينها. والفرق بينهما أن الأول مجاز والثاني حقيقة، وكمعنى «أكل وشرب» (آية ٥٤).
    والمقصود بالإقبال ثلاثة أمور: (١) قبول أن يسوع هو المسيح بكل وظائفه نبياً وكاهناً وملكاً. (٢) تصديق كل كلامه ومواعيده والتسليم بدعواه والخضوع لأوامره. (٣) الاتكال عليه باعتباره المخلص الوحيد الكامل، الذي صُلب وقام ويشفع. والطلب إليه أن يرشد ويُطهر ويغفر ويبرر ويمجد. ويلزم ذلك الإقبال أن يكون دائماً لأوامره واحدة نتيجة الاتحاد بالمسيح واستمداد كل حياة وقوة منه.
    فلا يَجُوعُ... فلا يَعْطَشُ انظر شرح يوحنا ٤: ١٤. المعنى أن المسيح يسد كل احتياجات النفس لأنه المخلّص الذي يقنع عقلها، ويريح ضميرها، ويكفي أشواقها، ويكمل سعادتها. وليس في هذه المواعيد ما يدل على أن النفس تتمكن في المستقبل من الاستقلال عن المسيح، فهي تبقى إلى الأبد في حاجة إلى أن تقتات به وتستقي من نعمته (متّى ٥: ٦ ورؤيا ٧: ١٦). وعلة شعور المؤمنين الآن ببعض جوع النفس وعطشها أنهم لم يأخذوا الكفاية من ملء المسيح، ولكنهم يشبعون في السماء شبعاً كاملاً (مزمور ١٧: ١٥ و١يوحنا ٣: ٢).
    وفي هذا القول تلميح إلى أن الذين لا يأتون إليه يهلكون جوعاً وعطشاً، أي يبقون إلى الأبد في عذاب الاحتياج إلى البركات التي عرضها المسيح عليهم.
    ٣٦ «وَلَكِنِّي قُلتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ».
    ع ٢٦، ٦٤
    وَلَكِنِّي قُلتُ لَكُمْ هذا مضمون ما قاله لهم في ع ٢٦ وهو أنهم طلبوه بعد ما شاهدوا معجزاته لغايات جسدية لا لإيمانهم بأنه هو المسيح.
    قَدْ رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ أي شاهدتم معجزاتي ووقفتم على أحسن برهان أني مرسل من الله، ومع هذا كله سألتموني آية لتروا وتؤمنوا بي. وأنا صنعت لكم آيات كثيرة كنت بصنعها آية أعظم من نزول المن من السماء ولم تؤمنوا.
    ٣٧ «كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِل إِلَيَّ لا أُخْرِجْهُ خَارِجاً».
    ع ٤٥ متّى ٢٤: ٢٤ ويوحنا ١٠: ٢٨، ٢٩ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ و١يوحنا ٢: ١٩
    قال المسيح هذا بياناً أنه وإن لم يؤمنوا به لم يكن عمله عبثاً، لأنه يأتي إليه البعض ويخلص.
    كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ ذكر المسيح في ما سبق عطية الله للإنسان (ع ٢٧، ٣١، ٣٢، ٣٤) ولا سيما أنه أعطاهم ابنه خبز الحياة. وتكلم هنا على عطية الآب لابنه وهي نفوس المفديين بدمه المؤمنين به الذين يحبونه ويسبحونه، وذلك كقوله في ع ٣٧، ٣٩ ويوحنا ١٠: ٢٩ و١٧: ٢، ٦، ٩، ٢٤ و١٨: ٩. والآب أعطى الابن تلك النفوس حين قطع معه عهد الفداء. ووعده بها إثابة له على تواضعه وموته (مزمور ٢: ٧، ٨ وإشعياء ٥٣: ١٠ - ١٢ و٥٥: ٤، ٥). والنفوس التي أعطاها الله لابنه اختارها لمجرد إرادته لا بالنظر إلى استحقاقها، فهو أعدّ الوسائط لتعرف الحق، وأرسل روحه القدوس إليها لتستفيد منها أي لتتوب وتؤمن به وتطيعه. والنفوس التي أعطاها الآب لابنه هي التي يجتذبها (ع ٤٤) وهي التي تكون متعلمة من الله (ع ٤٥). وعدد تلك النفوس وافر جداً بدليل قول البشير في رؤياه «بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ» (رؤيا ٧: ٩). وسمّاها يسوع خرافه (يوحنا ١٠: ٢٧، ٢٩ وأفسس ١: ٤، ٥).
    فَإِلَيَّ يُقْبِلُ فُسر الإقبال المقصود هنا في ع ٣٥. فكل نفس تأتي إلى المسيح يقبلها المسيح كعطية من أبيه. والذين أعطاهم الآب له يُقبلون كلهم إليه.
    وَمَنْ يُقْبِل إِلَيَّ أي يؤمن بي ويعمل بموجب ذلك الإيمان. و «الإقبال» هو فعل الإنسان الاختياري، فالله لا يجذب الإنسان غصباً إنما يريه خطيته وخطره، وحكمة طريق الفداء ومحبته الظاهرة في تلك الطريق حتى يُسرَّ بالإقبال إلى المسيح.
    والإتيان إلى المسيح هو الشرط الوحيد لنوال الخلاص. والوعد هنا عام غير قاصر على عدد معين. فالذي يأتي إلى المسيح شاعراً بأنه خاطئ هالك طالباً الغفران، يقبله المسيح ويرحب به من أي أمة كان، ومهما كانت خطاياه كثيرة وعظيمة.
    لا أُخْرِجْهُ خَارِجاً أي لا أرفض سمعي له وإعانتي إياه. وهذا النفي يستلزم إيجاباً هو أن المسيح يقبل الآتي إليه بفرح ويحفظه ويخلصه. وليس ما يمنع أحد الخطاة من أن يجد المسيح وينال الخلاص إلا عدم إرادته. فلا يمنعه من ذلك قضاء الله، ولا قوة الشيطان، ولا توغله في الإثم، ولا ضعف الطبيعة البشرية (يوحنا ١٠: ٢٨، ٢٩). وهذا الوعد يتضمن كل ما يفتقر إليه الخاطئ ليحصل على الخلاص التام الأبدي. والشرط الوحيد لنوال ذلك إرادة الخاطئ أن يقبله. ومثاله الابن الضال (لوقا ١٥).
    ومن العجب أن بعض الناس يرفض الحق المعروض عليهم بأوضح البراهين (كما في ع ٣٦) وبعضهم يقبله (كما في ع ٦٩). وذكر المسيح في هذه الآية سببين لذلك: (١) إرادة الله الأزلية منح البعض نعمة الإيمان. (٢) اختيار الإنسان. وهذان أمران حقيقيان لا يستطيع العقل البشري أن يدرك العلاقة بينهما، فلا أحد يأتي إلى المسيح ما لم يجتذبه الله. ولا شيء يمنع الإنسان من الخلاص إلا عدم إرادته.
    ٣٨ «لأنِّي قَدْ نَزَلتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَل مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
    متّى ٢٦: ٣٩ ويوحنا ٥: ٣٠ و٤: ٣٤
    لأنِّي قَدْ نَزَلتُ مِنَ السَّمَاءِ فإذن كان في السماء قبل أن تجسّد (يوحنا ١: ٢) وهذا لا يصدُق على نبي من البشر.
    لَيْسَ لأعْمَلَ مَشِيئَتِي الخ مشيئة الآب أن المسيح لا يترك من يأتي إليه خارجاً. وهذا ينفي كل محاباة في قبوله البعض ورفضه البعض، فهو لا يمكن أن يظلم أحداً، بل هو يقبل الذين اختارهم الآب وأعطاهم له وجذبهم إليه وختمهم بختم رضاه.
    ٣٩ «وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لا أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً، بَل أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
    يوحنا ١٠: ٢٨ و١٧: ١٢ و١٨: ٩
    هذا تأكيد لما قاله في الآيتين السابقتين وبيان أن مشيئة الآب، فوق أنها قبول الآتين إلى المسيح، تتضمن حفظهم إلى النهاية، وإعطاءه كل قوة لإنقاذهم من الهلاك، ومنحهم الحياة الأبدية.
    كُلَّ مَا أَعْطَانِي لا أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً عبّر عن كل النفوس التي أعطاه الآب إياها بمجموع واحد، وهي رغبته الخاصة. وقرر أنه لا يُفقَد أحد ممن يأتون إلى المسيح بالإيمان. فلا يستطيع العالم ولا الشيطان ولا الموت أن يفصله عن محبة المسيح ويهلكه.
    بَل أُقِيمُهُ هذا نهاية عمل الفداء وثمرته، ويكون ذلك عند قيامة أجساد المؤمنين على صورة جسد مجد المسيح، وعودة الروح إليها لتشاركه في المجد (فيلبي ٣: ٢١ وكولوسي ٣: ٤) وحينئذ تتم لهم هبة الحياة الأبدية التي اشتراها المسيح لهم بطاعته وموته.
    فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ أي يوم القيامة وهو يوم الدين. ولا داعي هنا لذكر قيامة الأشرار، ولا يستلزم عدم ذكرها هنا أنهم لا يقومون. وقد ذُكر قيامة البعض للدينونة في يوحنا ٥: ٢٩.
    ٤٠ «لأنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
    يوحنا ٣: ١٥، ١٦ و٤: ١٤ وع ٢٧، ٤٧، ٥٤
    الفرق بين ما في هذه الآية وما في آية ٣٩ أن ما في هذه الآية قيل عن كل شخص بمفرده، وعُبر فيها عن المفديين بأنهم «عطية الله» وما في آية ٣٩ قيل عن الجميع جملة، وعبّر فيها عن كل مفدي بأنه يرى ويؤمن. ويتضح من هذه الآية أن الخلاص لا يتوقف على مجرد رحمة الله بل على مشيئة الإنسان أيضاً، لئلا يقول أحدٌ: إن كنت ممن أعطاهم الآب للابن أخلُص، وإلا فلا. فما عليَّ من مسؤولية فالله الذي عيّن أناساً للخلاص عيّن أيضاً أنهم ينالون ذلك الخلاص بالإيمان بابنه. وإيمان المؤمنين برهان على أن الآب أعطاهم للابن.
    كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ ليست الرؤية هنا نظر العين وقتياً بالصدفة، بل فعل الإنسان اختياراً وعمداً، وتوجيه بصيرته إلى المسيح بشوق وحمد بلا انقطاع وقطع النظر عن كل ما سواه. فمن يرى المسيح بالعين الظاهرة وعين العقل ولا يؤمن به فدينونته أعظم من دينونة الذين لا يرونه أبداً. وعلى المفديين أن يحمدوا مشيئة الله، وقد ذُكرت هنا وفي ع ٣٨، ٣٩ ثلاث مرات أنها علة نجاتهم.
    وَأَنَا أُقِيمُهُ الخ كرر ذلك للتوكيد.
    ٤١ «فَكَانَ اليَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأنَّهُ قَالَ: أَنَا هُوَ الخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ».
    اليَهُودُ اعتاد يوحنا أن يعبر «باليهود» عن أعداء المسيح ويعبّر عن غيرهم «بالشعب». ولعلهم شاهدوا معجزة الخبز في عبر البحر وتبعوه إلى كفرناحوم، أو لعلهم أتوا من أورشليم ووجدوه هناك. وقولهم «نحن عارفون بأبيه وأمه» يدل على كونهم جليليين.
    يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ بيَّنوا شكوكهم لينشروا الشك في قلوب الشعب ويمنعوهم من الإيمان بالمسيح (ع ٤٣). وعلة تذمرهم تصريحه بمصدره الإلهي بقوله «لأني قد نزلت من السماء» لا بقوله «أنا الخبز» أو «أنا خبز الحياة».
    ٤٢ «وَقَالُوا: أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا: إِنِّي نَزَلتُ مِنَ السَّمَاءِ؟».
    متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣ ولو ٤: ٢٢
    يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ هذا يدل على أن اليهود لم يعرفوا أن ولادة يسوع كانت خارقة الطبيعة، بل اعتقدوا أنه ابن يوسف ومريم. وعلة جهلهم أن الحوادث التي تعلقت بولادته كانت منذ ثلاثين سنة ولم يعرفها في وقتها سوى قليلين، وأنه قد مضت على يسوع تلك المدة وهو في عزلة عن الناس، فلا عجب من أن اليهود تذمروا على المسيح بدعواه أنه سماوي أزلي، خلافاً لما اعتقدوا في شأنه، فحسبوا دعواه كذباً.
    ٤٣ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: لا تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ».
    اقتصر يسوع على توبيخهم لبغضهم إياه الذي أظهروه بتلك التذمرات، إذ علم أن لا نفع من إخبارهم بما يتعلق بميلاده، وأنهم لا يتخذون ذلك إلا وسيلة إلى زيادة الهزء والتعيير. ففائدة النبإ الصحيح بميلاد المسيح العجيب تثبيت إيمان المؤمن، لا إزالة شكوك غير المؤمنين.
    ٤٤ «لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
    نشيد الأنشاد ١: ٤ وع ٦٥
    أخبر يسوع اليهود أن قساوة قلوبهم هي سبب عدم إدراكهم، ورفضهم دعواه، وتذمرهم عليه.
    لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ أي يؤمن بي ويعمل بموجب هذا الإيمان. وأبان في ع ٣٧ أن كل ما يعطيه الآب يأتي إليه، وأبان في هذا العدد أن ليس أحد يأتي إليه إلا من يغيّر الله قلبه. وعدم القدرة ناتج عن عدم الإرادة، كما حدث من إخوة يوسف فإنهم «لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُكَلِّمُوهُ بِسلامٍ» (تكوين ٣٧: ٤) وهذا مبدأ عام وهو أن «الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ» ( ١كورنثوس ٢: ١٤).
    إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ هذا وفق ما قيل في يوحنا ٥: ٤٠، ٤٤. وفعل الله في القلب جذب لا إجبار فهو يجعل القلوب راضية الإتيان إلى المسيح.
    والروح القدس هو الذي يجذب قلوب الناس إلى المسيح بإنارة العقول (ع ٤٥)، وإعداد المشيئة، وتحريك الضمير، وإقناع العقل، وترهيب الإنسان من جهنم وترغيبه في السماء، وتعريفه بجمال القداسة وقباحة الإثم. وذلك الروح يتخذ كلمة الله آلة لفعله العظيم في القلوب. ويجتذب الله القلب من بغضه الطبيعي للحق ومن الكبرياء والحسد والعناد وحب العالم إلى محبة الحق والقداسة والغنى الروحي، وبالإجمال إلى المسيح نفسه الذي هو كنز الفضائل.
    الَّذِي أَرْسَلَنِي الذي أرسل المسيح من السماء ليطلب النفوس هو نفسه الذي يجتذبها إلى المسيح.
    وَأَنَا أُقِيمُهُ الخ هذه مرة ثالثة ذُكر ذلك في هذا الأصحاح وسيذكره مرة رابعة. بدء أمر الخلاص من الآب (يوحنا ٣: ١٦) ونهايته من الابن كما في هذه الآية. فالآب «يجتذب» النفوس ويعطيها (ع ٣٨) و «يعلمها» (ع ٤٥) والابن «يقبلها» ويمنحها الحياة (ع ٣٣).
    ٤٥ «إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللَّهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ».
    إشعياء ٥٤: ١٣ وإر ٣١: ٣٤ وميخا ٤: ٢ وعبرانيين ٨: ١٠ و١٠: ١٦ وع ٣٧
    أثبت يسوع كلامه باقتباس من نبوات العهد القديم (إشعياء ٥٤: ١٣) وهو يتضمن قوله في إرميا ٣١: ٣٣، ٣٤ ويوئيل ٢: ٢٨ وميخا ٩: ١ - ٤.
    مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللَّهِ هذا تفسير قوله «يجتذبه الآب» (ع ٤٤). ويجتذب الله النفوس بواسطة حقائق كتابه. فكل من يجتذبه الله يتعلم منه. والقرينة في نبوة إشعياء تدل على أن لفظة «الجميع» لا تعم كل البشر بل شعب الله السامع لصوته.
    فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ معنى ذلك كمعنى قوله «يرى ويؤمن» (ع ٤٠). وليس السمع هنا مجرد الإدراك بالأذن، بل الإصغاء بحرص وسرور وشوق إلى زيادة الإعلان وتصديق المسموع. فمن سمع كذلك يتعلم، وأما من يقتصر على سماع الأذن ولا يحب الحق ولا يرغب في التعليم لا يتعلم شيئاً.
    ٤٦ «لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ إلا الَّذِي مِنَ اللَّهِ. هَذَا قَدْ رَأَى الآبَ».
    متّى ١١: ٢٧ ولوقا ١٠: ٢٢ ويوحنا ١: ١٨ و٥: ٣٧ و٧: ٢٩ و٨: ١٩
    لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ يستحيل أن يرى الله أحدٌ من البشر. فإذاً لا أحد منهم يستطيع إدراك كنهه ومقاصده وإرادته ليبينها للناس. فإتمام النبوة بأن الجميع يكونون متعلمين من الله لا يمكن بلا واسطة، ولا يمكن أن تكون تلك الواسطة إلا من هو مساوٍ للآب.
    إلا الَّذِي مِنَ اللَّهِ أي المسيح الذي استطاع أن يعلن لنا الآب لأنه «الكلمة» (يوحنا ١: ١، ١٤) و «كان في حضن الآب» (يوحنا ١: ١٨) وهو «بهاء مجده ورسم جوهره» (عبرانيين ١: ٣).
    ٤٧ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ».
    يوحنا ٣: ١٦، ١٨، ٣٦ وع ٤٠
    ما في هذا العدد وما يليه إلى ع ٥١ تكرير التعليم الذي تذمر اليهود منه. وبين هذه الآية وآية ٤٠ فرق قليل.
    اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ قال هذا تأكيداً لصدق تعليمه، تذمر السامعون ورفضوا أم لا.
    مَنْ يُؤْمِنُ بِي قال في آية ٤٠ «من يؤمن بالابن» وقال هنا «من يؤمن بي» فدل بذلك على أن كل ما نسبه إلى نفسه، وأنه هو ابن الله مخلص البشر، وأن الإيمان به الشرط الضروري. وما قيل في هذه الآية جوهر كل هذا الخطاب، أي أن الإيمان بالمسيح شرط نوال الحياة الأبدية، وأنه بدونه لا خلاص لأحد، وأن الخلاص به مؤكد لكل إنسان من كل أمة وملة وعصر.
    فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ أي يبدأ أن ينال الميراث الذي يكمل بعد القيامة في السماء. ومعنى «الحياة الأبدية» حياة النفس الروحية التي أتى المسيح من السماء ليهبها للمؤمنين به، وتبدأ في النفس فور ولادتها من فوق.
    ٤٨ «أَنَا هُوَ خُبْزُ الحَيَاةِ».
    ع ٣٣، ٣٥
    هذا القول علة ما قبله. فكأن المسيح قال: لي الحق في ما قلته في آية ٣٥، أي أني خبز الحياة، لأن كل من يقتات بي بالإيمان ينال الحياة الأبدية. فيسوع هو الحياة وهو خبز الحياة، لأنه بذل نفسه للمؤمن ليقتات بها بالإيمان، وهو ينشئ في الإنسان الحياة الروحية ويقويها ويقيها من الاضمحلال. وهذا جوابه لطلبهم في ع ٣٤ «أعطنا في كل حين هذا الخبز» فكأنه قال لهم: ها أنا ذا. . والمن في البرية لم يكن إلا رمزاً للمسيح الذي هو خبز الحياة.
    ٤٩، ٥٠ «٤٩ آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا المَنَّ فِي البَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. ٥٠ هَذَا هُوَ الخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ ولا يَمُوتَ».
    ع ٣١، ٥١، ٥٨
    حسب اليهود المن الذي أكله آباؤهم هبة أعظم من هبة المسيح، فأبان لهم قلة نفعه لأنه لا يفيد النفس شيئاً، وأفاد الجسد وقتياً لأن كل الذين أكلوه ماتوا. أما المسيح فهو القوت الروحي لنفوس جميع الناس لا لبني إسرائيل فقط. والذين يقتاتون به يحيون إلى الأبد حياة روحية.
    النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ (ع ٥٠) هذا هو الأمر الذي تذمر اليهود منه، كرره هنا وفي الآية التالية. وفيه تصريح بوجوده قبل تجسده، وتلميح إلى ولادته الفوق طبيعية.
    لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ أي كل من أراد من الناس بلا استثناء. ومعنى الأكل هنا الاشتراك في كل فوائد مجيء المسيح إلى العالم بواسطة الإيمان به.
    ولا يَمُوتَ الموت الذي هو نتيجة الخطية، وهو الهلاك الأبدي في جهنم المعروف بالموت الثاني (رؤيا ٢٠: ١٤ و٢١: ٨).
    ٥١ «أَنَا هُوَ الخُبْزُ الحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ العَالَمِ».
    يوحنا ٣: ١٣، كولوسي ١: ١٧ وعبرانيين ١٠: ٥، ١٠
    أَنَا هُوَ الخُبْزُ الحَيُّ أي الذي فيه الحياة، لا مجرد الخبز المحيي. ولهذا هو أعظم من المن الذي هو مادة لا حياة فيها، وإذا تُركت فسدت، ولا يكفي آكله سوى ليوم واحد. والذي لا حياة له لا يستطيع أن يعطي الحياة غيره. وقوله «أنا الخبز الحي» كقوله «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يوحنا ١٤: ١٩).
    الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ أي السماء العليا حيث عرش الله، وهو مسكن المسيح منذ الأزل. أما المن فليس هو إلا من السماء الدنيا أي الجو.
    يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ يعطي المسيح المؤمنين من الحياة الروحية التي فيه لاتحادهم به. وهذه الحياة تشتمل على كمال القداسة والسعادة. فالذي ينالها لا يُدان لأنه يتبرر ثم يتقدس ثم يتمجد. نعم قد لا ينجو من الموت الأول وهو موت الجسد، لكن هذا الموت «يُبتلع إلى غلبة» ( ١كورنثوس ١٥: ٤٥).
    وَالخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي كلام المسيح من هنا إلى ع ٥٧ تفسير لهذه العبارة، وتكرير لها. وقد عدل من هنا عن المجاز بالخبز إلى المجاز بالجسد لثلاثة أسباب: (١) موافقة الجسد لمراده موافقة أتم من موافقة الخبز الحي له. (٢) دفع توهم الناس أن تعليمه هو الخبز الحي دون نفسه. (٣) الإشارة إلى أنه ذبيحة.
    الَّذِي أَبْذِلُهُ في المستقبل. والإشارة هنا إلى موته كفارة عن الخطايا، فالمسيح لم يخلّص الناس بمجرد تجسده بل بموته على الصليب بدلاً عنهم لينالوا الغفران، والمصالحة مع الله، والحياة الأبدية. وهذا وفق ما أنبأ به إشعياء ويوحنا المعمدان من أن المسيح حمل الله (إشعياء ٥٣ ويوحنا ١: ٣٦) وهو الفصح الحقيقي ( ١كورنثوس ٥: ٦). وخلاصة هذا الموضوع أن يسوع المسيح المصلوب هو مصدر الحياة الروحية وقوتها.
    العَالَمِ البشر كلهم لأن ذبيحة المسيح كافية للجميع ومعروضة على الجميع كقول الرسول «هُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَل لِخَطَايَا كُلِّ العَالَمِ أَيْضاً» (١يوحنا ٢: ٢).
    ٥٢ «فَخَاصَمَ اليَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟».
    يوحنا ٧: ٤٣ و٩: ١٦ و١٠: ١٩ و٣: ٩
    أخطأ اليهود فهم معنى المسيح كما أخطأ نيقوديموس (يوحنا ٣: ٤) والمرأة السامرية (يوحنا ٤: ١١) وجهلوا معنى كلامه الروحي.
    فَخَاصَمَ أي جادل بعضهم بعضاً، إذ مال بعضهم إلى قبول كلامه ورفضه بعضهم.
    كَيْفَ يَقْدِرُ الخ هذا استفهام إنكاري، أي لا يقدر. ويتضمن الهزء بالمسيح على وضعه مثل هذا الشرط المستحيل، فغضوا النظر عن كل ما قاله المسيح في شأن الحياة الأبدية ونزوله من السماء، وتمسكوا بالعبارات التي تحتمل معنيين لينتقدوه.
    ٥٣ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ».
    تكوين ٩: ٤ ولاويين ١٦: ١٠ - ١٤ وعبرانيين ٩: ٢٢
    الحَقَّ الحَقَّ مقدمة اعتادها المسيح لبيان الأهمية وللتأكيد. وفي هذا تصريح بأن ما ظهر لليهود مستحيلاً مضحكاً المقصود منه شرط ضروري للخلاص.
    إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ سمَّى المسيح نفسه «ابن الإنسان» وقصد بذلك أنه ابن الله متجسداً، لأنه لا يستطيع أن يموت دون التجسد. ولا يمكن أن يؤخذ كلامه هنا حرفياً، لأننا لو أخذناه حرفياً وقت قوله، لوجَب أن يُؤكل لحمه وهو حي، وذلك ما ينفر منه كل عاقل. وكذلك شرب دمه، فإن هذا محظور على اليهود (تكوين ٩: ٤ ولاويين ٣: ١٧ و٧: ٢٦، ٢٧ و١٧: ١٠ - ١٥). وما صحَّ عليه حينئذ يصح عليه الآن، لأنه لم يأكل إنسان قط جسد المسيح المادي، ولم يمكنه ذلك ولن يمكنه، لأن ذلك الجسد صُلب ودُفن وأُقيم وأُصعد إلى السماء وهو الآن عن يمين الله.
    فيجب أن نعتبر الجسد والدم هنا مجازين يشيران إلى تقديم المسيح نفسه ذبيحة على الصليب لأجل خطايا العالم. والأكل والشرب هنا يشيران إلى اشتراكنا بالإيمان في فوائد ذبيحته. وكما أن الغذاء المعتاد ضروري لحياة الجسد كذلك يسوع المصلوب القوت الضروري للحياة الروحية تتناوله النفس بالإيمان به.
    ولا توجد إشارة هنا إلى العشاء الرباني، فإنه لم يُرسم إلا بعد هذا الكلام بنحو سنة، ولم يُذكر في الإنجيل شرطاً ضرورياً للخلاص. لكن الإيمان المراد بالأكل والشرب هو الشرط الضروري لذلك. فيمكن الإنسان أن يأكل العشاء الرباني ولا يأكل جسد المسيح بالمعنى المراد هنا. إن ذلك السر تذكار وإشارة إلى نفس المسيح.
    وهذه الآية تفيد ما قاله المسيح قبلها في هذا الأصحاح عينه، ففيها الوعد بالحياة الأبدية. وهو ما وعد به قبلاً. والمجاز فيها أي «الأكل» هو نفس المجاز فيما قبلها، والمراد به طريق نوال تلك الحياة (ع ٣٥، ٤٨، ٥١). وقدم فيها يسوع نفسه غذاء للنفس كما قدمها قبلاً (ع ٣٩، ٤٠، ٤٤). فلا شك أن المقصود بذلك بيان أن الإيمان بالمسيح شرط ضروري للخلاص وحقيقة أساسية في الدين المسيحي.
    فإن قيل: هل هناك فرق بين أكل جسد المسيح وشرب دمه؟ قلنا لا، لأن «الجسد» و «اللحم والدم» بمعنى واحد لأنه قيل «الكلمة صار جسداً» (يوحنا ١: ١٤) وقيل إن «الابن اشترك في اللحم والدم» (عبرانيين ٢: ١٤). وقد ذكر الأكل والشرب ليفيد أنه كما أنهما كل ما يحتاج إليه الجسد لحياته، كذلك المسيح هو كل ما تحتاج إليه النفس لحياتها.
    وزاد المسيح على ذكر جسده ذكر دمه، إشارة إلى أن مجرد تجسده لا يأتي بالحياة الروحية للعالم، فإن ذلك لا يتم إلا بسفك دمه، ونظر الخاطئ إليه بالإيمان مصلوباً. وكثيراً ما ورد في الإنجيل «الدم» بمعنى موت المسيح كفارة (رومية ٣: ٢٥ وكولوسي ١: ١٤، ٢٠ وعبرانيين ٩: ١٤، ٢٠ و١٠: ١٠ و١يوحنا ١: ٧ ورؤيا ١: ٥).
    ورأى بعضهم في ذلك إشارة إلى الفصح اليهودي الذي كان فيه لحم الخروف ودمه ضروريين لنجاة بني إسرائيل من الهلاك الذي نزل بالمصريين.
    فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ أي ليس لنفوسكم حياة روحية الآن إلا بإيمانكم بي، ولا رجاء للحياة الأبدية في السماء، لأنه ليس لأحد من الناس حياة روحية بالذات، والله لم يجهز طريقاً لنوالها غير الإيمان بابنه. فلم يكن يكفي اليهود لينالوا الحياة أن يروا أعمال المسيح ويسمعوا كلامه ما لم يقبلوا المسيح بالإيمان قوتاً لنفوسهم.
    ٥٤ «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
    يوحنا ٤: ١٤ وع ٢٧، ٤٠، ٦٣
    مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ذكر هذا تأكيداً لما قبله، لأنهما بمعنى واحد، سوى أن الأول نفي الحياة عن غير المؤمن، والثاني إيجابها للمؤمن. المسيح مصدر كل الحياة، والمؤمن يتحد به بالإيمان، فيشترك في الحياة الأبدية التي هو مصدرها. وتبدأ تلك الحياة في الإنسان عند ما يقتات بالإيمان به باعتباره كفارة عن الإثم (ع ٤٧ ويوحنا ٣: ١٨).
    ولا إشارة هنا إلى العشاء الرباني لأن ألوفاً يأكلون منه وليس لهم شيء من الحياة الأبدية.
    وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ هذه مرة رابعة لهذا الوعد (ما سبق في ع ٣٩ و٤٠ و٤٤). ولنا من ذلك أن نفس المؤمن لا تنال كمال الحياة الأبدية إلا متى قام الجسد وشارك الروح في السعادة (رومية ٨: ٢٣) وهو أن فداء الإنسان يتضمن فداء جسده، وما قيل في ١كورنثوس ٥: ٢٦ وهو انتصار يسوع على الخطية لا يتم إلا متى سلم عدو الإنسان الأخير وهو الموت ما استولى عليه. وهبة الحياة الأبدية الآن تتضمن القيامة للمجد في المستقبل.
    ٥٥ «لأنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ».
    معنى هذه الآية كمعنى آية ٣٥ والفرق بينهما لفظي. كثيراً ما جاء في الكتاب المقدس وصف الشيء بالحق بياناً لأفضليته على كل ما يشاركه في المعنى الذي جرى عليه الحديث. وعلى هذا يكون «الإنسان الحق» النفس لا الجسد، وحياة الإنسان الحق حياته الروحية لا الجسدية، وقوت الإنسان الأحقُّ بأن يسمى قوتاً هو جسد المسيح ودمه. وكان جسد المسيح «مأكلاً حقاً» لأن به الحياة الأبدية، ولأنه يشبع النفس أتم شبع. و «الجسد والدم» هنا إشارة إلى ذبيحة المسيح كفارة، وأكلهما وشربهما الإيمان به. والقضية الأولى من آية ٥٤ كالقضية من هذه الآية، ومعناهما الاتحاد بالمسيح بواسطة الإيمان، ففي الأولى أن ثمرة الإيمان في المؤمن نواله الحياة الأبدية، وفي هذه أن ثمرته الاتحاد الكامل به دائماً.
    ٥٦ «مَنْ يَأْكُل جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ».
    ١يوحنا ٣: ٢٤ و٤: ١٥، ١٦
    يَثْبُتْ فِيَّ دائماً. ويتضمن ثبوت المؤمن في المسيح الاتحاد به، والمشابهة له، وموافقته في الإرادة، والتمتع برضاه، والأمن من الخوف، والتعزية في الضيق، والنجاة من الدينونة (يوحنا ١٤: ١ - ٦ و١٥: ٥ و١٧: ٢١ - ٢٣ وغلاطية ٢: ١٧، ٢٠).
    وَأَنَا فِيهِ كما أن المسيح الابن في الآب والآب في الابن كذلك تلاميذه المؤمنون هم واحد (يوحنا ١٧: ٢١). وكون ما ذُكر نتيجة أكل جسد المسيح وشرب دمه يفسر لنا قصده بحقيقة ذلك الأكل وذلك الشرب، وهو أنهما روحيان، ويمنع أن يكونا ماديين.
    ٥٧ «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي».
    الغاية من هذه الآية إيضاح ثبوت المؤمن في المسيح، وثبوت المسيح في المؤمن، وبيان الاتحاد بين الآب والابن. لا شك أن علاقة الاتحاد بين المؤمن والمسيح ليست كعلاقة الاتحاد بين الآب والابن، ولكن لا سبيل إلى إيضاحها بغير هذه العلاقة.
    كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ لأكمل عمل الفداء.
    الحَيُّ ذُكر في هذه الآية ثلاثة أحياء: الآب والابن والمؤمن، وأن الحياة تجري من الواحد إلى الآخر، وتحقيق وجودها في واحد يثبت وجودها في الآخر. ومصدر تلك الحياة وعلتها في الآب.
    وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ معنى هذا أن حياة المسيح غير منفصلة عن حياة الآب، إنما هي قائمة باتحاد الابن بالآب، ووحدة الفكر والمحبة والمقاصد والعمل. وليس الكلام هنا في أصل حياة الابن لأن الابن أزلي كالآب، إنما هو وصف حياة المسيح على الدوام منذ الأزل وإلى الأبد. وقول المسيح هنا كقوله في موضع آخر «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» وقوله «الآبَ الحَالَّ فِيَّ» (يوحنا ١٤: ١٠، ١١).
    فَمَنْ يَأْكُلنِي يؤمن بي ويتأمل في صفاتي كما هي معلنة في كلامي، ويتمتع بذلك ويدوم كذلك.
    يَحْيَا بِي ينال الحياة الروحية الأبدية التي هي أعظم حياة للإنسان وهي الحياة المذكورة في ع ٥١، ٥٤. والتي ذكرها بولس في قوله «مَعَ المَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لا أَنَا بَلِ المَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللَّهِ» (غل ٢: ٢٠). وهذه هي حياة الإيمان والقداسة والمحبة والنفع في هذا العالم والسعادة والمجد في العالم الآتي. وحقق المسيح هذه الحياة للمؤمن بقوله في أول هذه الآية «كما أرسلني الآب» أي كما تحقق أني رسول الآب كذلك تحقق نوال الحياة بالإيمان بي.
    ٥٨ «هَذَا هُوَ الخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ المَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُل هَذَا الخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ».
    ع ٤٩، ٥٠، ٥١
    تلخص هذه الآية ما قاله المسيح في هذا الخطاب: (١) هَذَا هُوَ الخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وهذا يلخص آيات ٣٢، ٣٣، ٣٥ أي أني أنا هو الخبز الحقيقي، وأني نزلت من السماء، وأقوت العالم بتقديم نفسي ذبيحة لله، ويقتات فيَّ الخاطئ بالإيمان. (٢) «لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُم» هذا بيان لنقص المن الذي أعطاه موسى الآباء، فإنهم لم يأكلوا الخبز الحقيقي، ولم يحصلوا إلا على نفع وقتي لأجسادهم فقط (ع ٣١، ٤٩). (٣) «مَنْ يَأْكُل هَذَا الخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» هذا بيان لكمال ما أعطاه المسيح، فإن الذين قبلوه بالإيمان كفارة عن خطاياهم تحيا نفوسهم في السماء إلى الأبد (ع ٣٣، ٥٠، ٥١، ٥٤، ٥٧).
    ٥٩ «قَالَ هَذَا فِي المَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرَنَاحُومَ».
    قَالَ هَذَا الأرجح أن الإشارة إلى كل ما في هذا الأصحاح من آية ٢٦ إلى هذه الآية، وأنه لفظ كل الخطاب في مجمع كفرناحوم. وظن بعضهم أنه بدأ يخاطب الشعب في سهل جنيسارت عندما خرج من السفينة، وأن ما قاله هناك هو ما في آية ٢٦ - ٤٠. وأن ما في الآية ٤١ إلى هذه الآية قاله في ذلك المجمع.
    ٦٠ «فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تلامِيذِهِ، إِذْ سَمِعُوا: إِنَّ هَذَا الكلامَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟».
    متّى ١١: ٦ وع ٦٦
    مِنْ تلامِيذِهِ هم غير المؤمنين الحقيقيين، بل الذين تبعوه متظاهرين بأنهم تلاميذه (ع ٦٤).
    هَذَا الكلامَ صَعْبٌ أي قوله إنه «خبز الحياة» وقوله في «أكل جسد ابن الإنسان وشرب دمه» وهو صعب الفهم، لأنهم لم يفهموا المعنى الروحي الذي قصده المسيح منه، ولأنه كان منافياً لآرائهم في شأن المسيح المنتظر وملكوته الجديد، ومضاداً لشهوات قلوبهم الدنيوية لأنهم طلبوا خيراً جسدياً. وأما المسيح فوعدهم بخير روحي. طلبوا ملكاً يقود جيوشهم على الرومان ويملك بالمجد كداود وسليمان، وأما هو فقدَّم نفسه لهم مسيحاً يتألم ويموت ليحررهم من الخطية.
    مَنْ يَقْدِر أَنْ يَسْمَعَهُ؟ أي من يريد أن يسمع تعليماً كهذا، ومن يسمعه ويصدقه ويطيعه؟ وجاء «السمع» بهذا المعنى في يوحنا ٥: ٢٤ و٨: ٤٣ و١٠: ٣ و١٦: ٢٧ و١٨: ٣٧.
    ٦١ «فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تلامِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟».
    فِي نَفْسِهِ بالعلم الإلهي المختص به باعتبار كونه ابن الله (يوحنا ٢: ٢٥). وما قاله يجاوب على تساؤلاتهم العلنية، والقلبية.
    أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ قصد بذلك على الخصوص ما قاله في ع ٤١ وهو أنه «نزل من السماء» لأنه يخالف ما ظنوه من أنه ابن يوسف نجار الناصرة، وما قاله من «أكل جسده وشرب دمه» (ع ٥٢) لأنه خلاف ما توقعوا من المسيح المنتظر.
    ٦٢ «ًفَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلا!».
    مرقس ١٦: ١٠ ويوحنا ٣: ١٣ وأعمال ١: ٩ وأفسس ٤: ٨
    فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً أشار بذلك إلى ما تم فعلاً (مرقس ١٦: ٩ ولوقا ٢٤: ٥١ وأعمال ١: ٩).
    حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً صرح يسوع بذلك بوجوده قبل تجسده أي بأزليته. وجواب الشرط هنا محذوف تقديره «فهل تعثرون أيضاً؟». وظن بعضهم أن معنى هذه الجملة: إن رأيتموني صاعداً إلى السماء، كما سيراني بعضكم، فهل يقنعكم ذلك بصحة دعواي وترجعون عن تذمركم؟. والأرجح أن كلام المسيح هنا متعلق بكلامه عن «أكل جسده وشرب دمه». فكأنه قال: «تذمرتم من كلامي بقولكم «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟ وأنا أقول لكم إنه بعد ارتفاعي عن الأرض إلى السماء لا يزال من الواجب الضروري أن تأكلوا جسدي وتشربوا دمي، فإن عثرتم بالأول فكم يكون عثاركم في الثاني؟». فالمسيح لم يدفع ما رأوه من الصعوبة، بل زادها.
    ٦٣ «اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الجَسَدُ فلا يُفِيدُ شَيْئاً. اَلكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ».
    قصد المسيح بهذا أن يعلّم السامعين أن يأخذوا كلامه بالمعنى الروحي.
    اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي هذا شرح ما قاله في ع ٥١، ٥٣ وهم لم يفهموه. ومعناه أن جسدي إذا أكلته أجسادكم لا ينفعكم شيئاً، ولكن النافع هو روحي القدوس في قلوبكم، فهذا هو الذي يحييكم. فيجب أن تدركوا المعنى الروحي لكلامي وتقبلوه في أرواحكم بالإيمان وبإرشاد الروح القدس.
    أَمَّا الجَسَدُ فلا يُفِيدُ شَيْئاً أي لا يسد احتياجات الإنسان الحقيقية العظمى. وهذا القول يصدق على مادة المن ومادة جسد المسيح. فالمن لم يخلِّص أجسادهم من الموت ولم يفد نفوسهم شيئاً. فلو استطاعوا أكل جسد المسيح حرفياً لا ينفع نفوسهم، لأن ما يناله جسد الإنسان لا يؤثر في نفسه.
    ويفيد هذا الكلام أيضاً أن كل ما يتعلق بناسوت المسيح (بقطع النظر عن لاهوته) لا ينفعنا إذا اتكلنا عليه للخلاص، كمجرد نظر وجهه وسماع صوته ولمس هدب ثوبه. لذلك قال الرسول «وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا المَسِيحَ حَسَبَ الجَسَدِ، لَكِنِ الآنَ لا نَعْرِفُهُ بَعْدُ» (٢كورنثوس ٥: ١٦). فلو أمكن الخبز أن يستحيل بالصلاة والبركة إلى جسد المسيح حقيقة، لما كان منه فائدة حسب نص هذه الآية.
    اَلكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ أي يجب أن تأخذوه بالمعنى الروحي، وتتعلموا من الروح القدس وتقبلوه بأرواحكم وضمائركم. فإذا أخذتموه كذلك كان واسطة للحصول على الحياة الروحية الأبدية. وغاية المسيح بذلك تحويل أفكار الناس من الجسديات العالميات الوقتيات إلى الروحيات السماويات الأبديات، والعدول عن اتخاذهم كلامه حرفياً، وحملهم على التفتيش عن المعنى الروحي.
    ٦٤ «وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. لأنَّ يَسُوعَ مِنَ البَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ».
    ع ٣٦ ويوحنا ٢: ٢٤، ٢٥ و١٣: ١١
    وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ هذا سبب عدم إدراكهم المعنى الصحيح لكلام المسيح وتذمرهم عليه ووصفهم كلامه بالصعوبة، لأن الناس استفادوا من المسيح على قدر إيمانهم به فهو كقوله «بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا» (متّى ٩: ٢٩) وقول الرسول «الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ» ( ١كورنثوس ٢: ١٤). ولو آمن أولئك التلاميذ بأن يسوع هو المسيح حق الإيمان لطلبوا منه زيادة إيضاح كلامه، ولم يعثروا بما وجدوا إدراكه صعباً.
    لأنَّ يَسُوعَ مِنَ البَدْءِ عَلِمَ هذا ركن القول السابق. فيسوع يعرف ما في قلوب الناس بقوته الإلهية. فلو لم يكن هو الله لاستحال أن يعلم ذلك. وقصد بقوله «من البدء» بدء خدمته وإتيان التلاميذ إليه (يوحنا ١٥: ٢٦ و١٦: ٤).
    وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ لم يكن المسيح مخدوعاً بيهوذا الإسخريوطي، وإن أراد بحكمته التي لا تُحد أن ينتخبه رسولاً. وسبق معرفة المسيح بخيانة أحد رسله كانت جزءاً من آلام المسيح التي احتملها على الأرض، وأظهر الصبر العظيم باحتماله من عرف خداعه وظل يعلّمه ويحذّره. وفي ذلك مثال لكل رجال الدين الآن أن لا يمتنعوا من تعليم الناس وتبشيرهم وإن علموا أن بعضهم من المرائين.
    ٦٥ «فَقَالَ: لِهَذَا قُلتُ لَكُمْ إِنَّهُ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي».
    ع ٤٤، ٤٥
    أشار بهذا الكلام إلى ما قاله في ع ٤٤، ٤٥ من أنه «لا يقدر أن يأتي أحد إليه إن لم يجتذبه الآب». وهذا الاجتذاب يتضمن إتيانه إليه بالإيمان، وأن الآب يهب له نعمة لذلك الإيمان. أما يهوذا وأمثاله فأتوا إلى المسيح بأجسادهم دون قلوبهم، فلم يكن لهم إيمان. والآب لم يعط المسيح إياهم ولم يجتذبهم. والمسيح لم يتعجب من سقوطهم. فإذا لم يكن القلب مستعداً لقبول الحق لم يتأثر بكلام، ولو كان المتكلم هو المسيح نفسه، وبرهن أقواله بالبراهين والمعجزات.

    رجوع كثيرين من تلاميذه إلى الوراء وإقرار بطرس به (ع ٦٦ - ٧٢)


    ٦٦ «مِنْ هَذَا الوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلامِيذِهِ إِلَى الوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ».
    مِنْ هَذَا الوَقْتِ أي من وقت هذا الخطاب الذي أظهر فيه المسيح روحانية تعليمه. فهذا الإظهار وزن إيمانهم فوُجد ناقصاً.
    رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلامِيذِهِ الذين تبعوه كانوا تلاميذ كثيرين. ومن جملة الذين تركوه بعض الذين ذُكروا في ع ٦٠، فإنهم تيقنوا أنه ليس هو المسيح الذي أرادوه، وهو تحقق أنهم ليسوا التلاميذ الذين أرادهم.
    وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ أي لم يرافقوه ليسمعوا تعاليمه. انفصلوا عنه أولاً في الباطن ثم تركوه في الظاهر ورجعوا إلى منازلهم، لأنهم يئسوا من توقع الخيرات الجسدية منه، ونفروا من تعليمه الروحي.
    لم يستطع ابن الله أن يجعل كلامه مقبولاً عند سامعيه فلا عجب أن عجز المبشرون اليوم أن يرضوا الناس وهم ينادون بالإنجيل.
    ٦٧ «فَقَالَ يَسُوعُ لِلاثْنَيْ عَشَرَ: أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟».
    للاثْنَيْ عَشَرَ هذا أول ذكر لهم في هذه البشارة. ولم يذكر البشير انتخاب المسيح إياهم، واقتصر على ذكر خمسة منهم إليه. وكلام يوحنا هنا يثبت ما قيل في مرقس ٣: ١٣ - ١٩ ولوقا ٦: ١٢ - ١٦.
    أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً الخ لم يسألهم ذلك ليعرف قصدهم «لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون» (ع ٦٤) لكن ليمتحن إيمانهم، وليحملهم على الإقرار بأمانتهم له (يوحنا ٦: ٦) فتتمكن علاقة المحبة بينهم. وأظهر المسيح بما قال أسفه وألمه لأن بعض تلاميذه تركوه، ولرغبته في أن يسمع من أصدقائه الأمناء إقرارهم بخلوص مودتهم، وأمله وثقته بهم أن يثبتوا. وحزنه كغيره من الناس لما تركه أصحابه. وتعزيته كذلك لما تحقق أمانتهم ومحبتهم (لأنه إنسان كما أنه إله) وإرادته أن لا يتبعه أحد كرهاً، وتركه لكل إنسان أن يختار بقاءه معه أو تركه إياه. ولا يزال المسيح يعرض على كل إنسان قوله «ألعلك أنت أيضاً تريد أن تمضي؟». ولا يزال ارتداد البعض عن المسيح تجربة عظيمة على الباقين.
    ٦٨ «فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلامُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ».
    أعمال ٥: ٢٠
    أجاب بطرس بالنيابة عن الجميع بسرعة وحرارة كما فعل في متّى ١٦: ١٦. وكان من عادته أن يسبق الآخرين وينوب عنهم بإظهار مشاعره، ولعله كان أكبر سناً منهم، فناب عنهم.
    إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ أي لا نذهب عنك أبداً. قد تركنا كل شيء في سبيل اتباعك ولم نندم، ولا نعرف معلماً مثلك، ولا نود غيرك فقد وجدنا فيك كل ما نحتاج إليه. وتعليمك هو الذي يقودنا إلى الحياة الأبدية لا تعليم الكتبة والفريسيين والصدوقيين. فالذهاب عنك ذهاب إلى الظلمة والشقاء واليأس. وفي هذا القول إقرار بالمحبة والثقة والطاعة.
    على الناس حين يعثرون بأسرار المسيحية والضيقات الناتجة عنها أن يسألوا مثل هذا السؤال بمطاليبه، أو: أي دين أفضل من دين المسيح؟ وأية ديانة نتائجها خير من نتائج ديانته؟ وأي رجاء منها في المستقبل خير من مثل ذلك الرجاء في تلك الديانة؟ أو ماذا تكون أحوالهم إذا تركوا كل دين؟
    كلامُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ الطريق الوحيدة لنوال الحياة الأبدية هو الإصغاء إلى كلام المسيح، لأنه «الحق والحياة» يقدر أن يمنح الحياة للناس بتعليمه، وبفعل روحه القدوس ينير العقل بالعلم ويُحيي القلب بمحبته.
    لا شك أن بطرس لم يفهم معنى كلام المسيح عن أكل جسده وشرب دمه تمام الفهم، ولم يدرك ذلك إلا بعد موت المسيح وقيامته وصعوده وحلول الروح القدس عليه وعلى سائر التلاميذ، لكنه أقر باعتقاده أن تلك الكلمات معلنات الحياة الأبدية، وأنه يحب أن يسمعها ويهتدي بها.
    ٦٩ «وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الحَيِّ».
    متّى ١٦: ١٦ ومرقس ٨: ٢٩ ولوقا ٩: ٢٠ ويوحنا ١: ٤٩ و١١: ٢٧
    وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا هذا دليل واضح على أن بطرس كان نائباً عن سائر الرسل بإجابته المسيح. ومضمون تلك الإجابة أنهم تحققوا مما أبصروا وسمعوا أن يسوع هو المسيح، وأن إيمانهم به وطيد ومعرفتهم يقينية، فلا يبالون لو شكَّ البعض في المسيح وتركه، وأنهم ليسوا مثل ذلك البعض.
    أَنَّكَ أَنْتَ المَسِيحُ الذي مسحه الله ملكاً ونبياً وكاهناً لشعبه.
    ابْنُ اللَّهِ الحَيِّ لقب آخر من ألقاب المسيح اعتاد اليهود أن يلقبوه به، وفيه دليل على لاهوته. أقر بطرس في هذا الكلام إقراراً حسناً عن نفسه وعن سائر الرسل بلاهوت يسوع، وبكونه المسيح الموعود به. لكنه لم يفهم هو ولا غيره من الرسل أن يسوع لا بد أن يموت كفارة عن البشر وذبيحة «لله» (متّى ١٦: ٢٢، ٢٣).
    ٧٠ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!».
    لو ٦: ١٣ ويوحنا ١٣: ٢٧
    هذا جواب المسيح لقول بطرس في شأن جماعة الرسل كلها فكأنه قال «هل تقول إن الاثني عشر كلهم عرفوا وآمنوا أني المسيح؟» فإني أخبر بما لم تعرفوا، وهو أن ليس الأمر كذلك.
    أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ أشار بذلك إلى انتخابه اثني عشر من تلاميذه رسلاً (لوقا ٦: ١٣) فهذا الاختيار غير الاختيار للخلاص كما في ١٣: ١٨. وفي هذا إشارة إلى فظاعة إثم مسلِّمه، وأن الذي يرتكب ذلك أحد الاثني عشر المنتخب رسولاً من جمهور التلاميذ حاصلاً على وسائط عظيمة لمعرفة الحق، ومرافقاً ليسوع كل يوم متعلماً من شفتيه، ملزوماً بوظيفته بالأمانة والصداقة.
    وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ أي يستحق أن يُلقَّب «بالشيطان» لأنه يظهر نية الشيطان ويعمل إرادته كأحد جنوده، ولأن صفاته كصفاته من البغض والطمع والخداع والرياء. وقال المسيح ذلك قبل أن يسلمه يهوذا بنحو سنة، وهذا دليل على أنه منذ الأول لم يكن تلميذاً أميناً. وما قيل في يوحنا ١٣: ٢ أن الشيطان «أَلقَى فِي قَلبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ» يشير إلى تمام قصده الشرير الذي كان كامناً في قلبه منذ زمان بإغراء الشيطان، وأن الشيطان حركه يومئذ.
    وهدف المسيح من هذا القول أن يوقظ ضمير يهوذا ويرشده إلى التوبة، وحث كل التلاميذ على السهر، ومنعهم من الظن أنه يجهل ضمير يهوذا وخُدع به عند خيانته.
    ٧١ «قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ، لأنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ».
    يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ (متّى ١٠: ٤) أي ابن سمعان. ومعنى «الإسخريوطي» قروي أو رجل قرية. ويحتمل أن يهوذا وُلد في قريوث وهي قرية في نصيب سبط يهوذا (يشوع ١٥: ٢٥). وأضاف يوحنا يهوذا إلى سمعان في بشارته أربع مرات. ولسنا نعرف شيئاً من أمر سمعان، ولماذا أضاف يوحنا يهوذا إليه إلا أن يكون أراد التمييز بينه وبين يهوذا آخر ذُكر في يوحنا ١٤: ٢٢ وهو أخو يعقوب وسُمي أحياناً لبّاوس (متّى ١٠: ٣).
    لأنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً إلخ ذلك تم فعلاً (يوحنا ١٣: ٢). قال يوحنا كذلك بياناً لعلة تسمية المسيح يهوذا شيطاناً، وليظهر الفرق بين وظيفته وفعله.


    الأصحاح السابع


    إلحاح إخوة يسوع عليه أن يذهب إلى العيد (ع ١ - ٩)


    ١ «وَكَانَ يَسُوعُ يَتَرَدَّدُ بَعْدَ هَذَا فِي الجَلِيلِ، لأنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي اليَهُودِيَّةِ لأنَّ اليَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ».
    يوحنا ٥: ١٦، ١٨
    بَعْدَ هَذَا أي ما ذُكر في يوحنا ٥، ٦ (ولا سيما ما ورد في يوحنا ٥) من أمر شفاء الإنسان يوم السبت. وكانت المدة نحو سبعة أشهر، أي ما بين عيد الفصح وعيد المظال، قضى شهراً منها في اليهودية وستة شهور في الجليل.
    فِي الجَلِيلِ كان يتردد فيها للتعليم، ولم يصعد مع غيره إلى عيد الفصح (يوحنا ٦: ٤) لأن اليهود الذين في منطقة اليهودية طلبوا قتله (يوحنا ٥: ١٦، ١٨). ولم يذكر يوحنا هذا ليبين الحوادث التي جرت يومها (متّى ١٥ - ١٨ و مرقس ٧ - ٩) بل يكون مقدمة لخبر صعوده إلى أورشليم خفية ليحضر عيد المظال بعد امتناعه عن الذهاب في أول العيد.
    اليَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ هذا سبب بقائه في الجليل وعدم تردده على اليهودية.
    ٢ «وَكَانَ عِيدُ اٰلْيَهُودِ، عِيدُ الْمَظَالِّ قَرِيباً».
    لاويين ٢٣: ٣٤ وتثنية ١٦: ١٣ - ١٧
    عِيدُ الْمَظَالّ هذا أحد الأعياد الثلاثة العظمى التي أمر الله كل ذكور اليهود أن يحضروها في أورشليم، وكان يُسمّى عيد الحصاد، وعيد الجمع (خروج ٢٣: ١٦) وكان يبدأ في يوم ١٥ من شهر ٧ من السنة اليهودية (أكتوبر - ت ١ من سنتنا الميلادية) وكانت مدته ٨ أيام، آخرها يُسمى اليوم العظيم (آية ٧). (انظر خروج ٢٣: ١٦ ولاويين ٢٣: ٤٣ وعدد ٢٩: ١٢ - ٣٨ وتثنية ١٦: ١٣ - ١٨) فرضه الله على بني إسرائيل تذكاراً لسكنهم في الخيام في البرية ٤٠ سنة، وشكراً لله على غلة الأرض من قمح وخمر وزيت. وكانوا يسكنون مدة العيد في مظال يقيمونها على سطوح البيوت وفي الساحات التي بين البيوت وفي أروقة الهيكل. وذُكر خبر حفظ هذا العيد في نح ٨: ١٣ - ١٨ وهو ١٢: ٩ وزكريا ١: ١٦ - ١٩.
    ٣ «فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: انْتَقِل مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ، لِكَيْ يَرَى تلامِيذُكَ أَيْضاً أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ».
    متّى ١٢: ٤٦ ومرقس ٣: ٣١ وأعمال ١: ١٤
    إِخْوَتُهُ ذُكروا في يوحنا ٢: ١٢ وهم يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا (متّى ١٣: ٥٥) ولم يكونوا حينئذ قد آمنوا بأنه هو المسيح (ع ٥). وميز البشير بينهم وبين تلاميذه (ع ٣). وحسبهم المسيح من العالم (ع ٧) ولم يذكرهم يوحنا إلا في هذا الأصحاح. وكانوا يعتبرون يسوع صانع معجزات ومعلماً، ولكنهم نسبوا إليه قلة الحكمة في اتخاذه الوسائل التي تجلب له الشهرة، ولم يستطيعوا التوفيق بين عظمة دعواه أنه هو المسيح المنتظر وتواضعه وإبائه أن يكون ملكاً وتثبيت دعواه بمعجزة عظيمة واضحة تنفي كل شك من قلوب الناس.
    انْتَقِل مِنْ هُنَا أي من الجليل.
    وَاذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ ولا سيما أورشليم حيث يجتمع الألوف، لا من أهل أورشليم واليهودية فقط بل من أماكن مختلفة أيضاً لحضور العيد. ولا بد أنهم عرفوا أن اليهود كانوا يطلبون قتله، ولكنهم على ما يُرجح ظنوا أنه إن كان هو المسيح فلن يستطيعوا ذلك، وأنه إذا أظهر شيئاً من مجده الإلهي كثر تلاميذه وقابلوه بالفرح وأعلنوه ملكاً في مدينة داود وفي هيكل الله.
    لِكَيْ يَرَى تلامِيذُكَ لم يقصدوا تلاميذه في اليهودية فقط مع أنهم كثيرون (يوحنا ٢: ٢٣) بل الذين يحضرون من كل الجهات أيضاً. وكلامهم هنا مبني على أنه لم يصعد إلى أورشليم في الفصح الماضي، وبقي تلك المدة الطويلة في الجليل خاملاً. فأخطأوا بأنهم لم يعتبروا خدمته في الجليل كما تستحق، وادَّعوا أنهم أكثر حكمة من يسوع، وأنهم قادرون على نصحه. فلم يخلُ كلامهم من الاستخفاف به.
    ٤ «لأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئاً فِي الخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ علانِيَةً. إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلعَالَمِ».
    لأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئاً فِي الخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ علانِيَةً هذا كلام جرى مجرى المثل ذكروه ليسوع بياناً لعدم توافق أقواله مع أفعاله، لأنه قال إنه أتى معلماً ورسولاً وملكاً روحياً ومع ذلك انفرد عن الناس. وصنع كل معجزاته التي أجراها دليلاً على لاهوته أمام قليلين من تلاميذه في منطقة حقيرة، بعيداً عن الهيكل وأورشليم عاصمة اليهودية ومركز الدين والأمة. وحسبوا مثل هذا في غير محله، لأن يسوع إن أراد أن يعرفه كل الناس ويعترفوا بأنه المسيح يجب أن يعلن عن ذاته في أورشليم.
    إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لم ينكروا صحة معجزاته، بل لاموه لأنه عملها أمام أناس غير مهمين.
    فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلعَالَم أي فأعلن أمرك للجميع. وكانت أورشليم عندهم مركز العالم، وأنه يجب عليه أن يحضر العيد فيها حيث يجتمع كثيرون من اليهود من كل العالم. فالذي يصنعه أمامهم حينئذٍ ينتشر خبره في كل الأرض.
    ٥ «لأنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضاً لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِه».
    مرقس ٣: ٢١
    أي لم يؤمنوا أنه المسيح. ولكنهم بعد أقل من سنة اجتمعوا مع التلاميذ وحُسبوا منهم (أعمال ١: ١٤). ومن أسباب تغيير أفكارهم ظهور الرب بعد قيامته لأحدهم ( ١كورنثوس ١٥: ١٧).
    ٦ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ، وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ».
    يوحنا ٢: ٤ وع ٨ و٣٠ ويوحنا ٨: ٢٠
    وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ طلب إخوة يسوع منه كطلب أمه منه سابقاً، وجوابه لهم كجوابه لها (يوحنا ٢: ٤). وأبى يسوع في الحادثتين أن يقبل نصيحة البشر، وأبان أنه لا يعمل شيئاً إلا بإرادة أبيه السماوي. ومعنى قوله «وقتي» الوقت المعين لي من الآب الذي عيّن كل أعمالي، فلا أعمل شيئاً إلا بمقتضى تعيينه. وتحتمل لفظة «وقتي» ثلاثة معانٍ: (١) الوقت المناسب لصعوده إلى هذا العيد. (٢) الوقت المناسب لإظهار نفسه للعالم كما طلبوا. (٣) الوقت المعيّن لذهابه إلى الموت ذبيحة من أجل العالم.
    ولم يفسر المسيح مراده بل تركه مبهماً، فإن كان مراده الأول فالمعنى أنه يصعد إلى العيد بعد نحو أربعة أيام. وإن كان الثاني أو الثالث فالمعنى أن وقته يكون بعد ستة أشهر، لأن وقت إظهار نفسه للعالم هو وقت موته.
    وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ أي أنكم لا ترون أنفسكم مقيدة بإرادة أبي، وصعودكم إلى العيد لا يهيج حسد الناس أو مقاومتهم. فلكم أن تفعلوا كسائر الناس بلا معارض.
    لو صعد يسوع مع الصاعدين إلى العيد لأثار ذلك الجليليين الذين كانوا يميلون إلى الشغب أن ينادوا به ملكاً (يوحنا ٦: ١٥) ولأثار أيضاً حسد الرؤساء وبغضهم له. ولعل بعض أعدائه كانوا ينتظرون مجيئه مع الجموع فكمنوا له في الطريق ليقتلوه (ع ١١). ولو شاء يسوع أن يعلن نفسه كما طلب إخوته لاقتضى ذلك أن يموت قبل تتميمه الفداء بالصليب، وهو ما جاء ليفعله.
    ٧ «لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا، لأنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ».
    يوحنا ١٥: ١٩ ويوحنا ٣: ١٩
    لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ أراد المسيح «بالعالم» غير المؤمنين، وبنى جوابه على قول إخوته «أظهر نفسك للعالم» فكأنه قال: أنتم تظنون العالم مستعداً أن يقبلني ويقر بصحة دعواي، لكني أعلم أنه مستعد أن يقتلني. أما أنتم فلا خطر عليكم لأنكم من العالم «والعالم يحب خاصته» (يوحنا ١٥: ١٩). ولستم مضطرين مثلي أن توبخوا العالم وتشهدوا عليه، فيمكنكم أن تذهبوا حيث شئتم غير مبالين بحسد اليهود ولا بحسد الرومان.
    وَلَكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أي أمري خلاف أمركم، فالعالم يقاومني ويحسبني عدوه، وقد حكم عليّ بأني مخادع يستحق الموت، لذلك يجب أن أستعمل الحكمة ولا أصعد إلا في وقتي.
    لأنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ كما في يوحنا ٣: ٢٠. أثارت شهادة المسيح على العالم مقاومة العالم له. وهذا علة كل مقاومة العالم لدين المسيح في كل عصر. و «هَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى العَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً» (يوحنا ٣: ١٩). فالذين يحبون الظلمة يبغضون النور، لأن النور يُظهر لهم خطيتهم ويثير ضمائرهم عليهم.
    ٨ «اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هَذَا العِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هَذَا العِيدِ، لأنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَل بَعْدُ».
    ع ٦ و٣٠ ويوحنا ٨: ٢٠
    اِصْعَدُوا أَنْتُمْ قال يسوع لإخوته أن يذهبوا إذا أرادوا مع القافلة الصاعدة من الجليل التي تصل في بدء العيد وأن لا ينتظروه لعدم إتيان وقته المعيّن من الآب، فإنه لم يُرد أن يسبقه ولو بدقيقة واحدة.
    أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ ليس معنى قول المسيح أنه لا يذهب أبداً، بل أنه لا يذهب حتى يريد أبوه. فما قاله لا يمنع أنه يذهب إلى العيد في الخفاء كما فعل بعد أربعة أيام. ولا ينفي أنه يُظهر نفسه علانية للعالم كما قصد فعله بعد ستة أشهر لما دخل أورشليم باحتفال الجموع وهم يهتفون «أوصنا! مبارك الآتي باسم الرب».
    ٩ «قَالَ لَهُمْ هَذَا وَمَكَثَ فِي الجَلِيلِ».
    الأرجح أنه بقي هناك نحو أربعة أيام لأنه حضر العيد في منتصفه (ع ١٤) وكانت مدة العيد ثمانية أيام.

    حضور المسيح للعيد وخطابه وقتئذ (ع ١٠ - ٥٣)


    ١٠ «وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا، حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضاً إِلَى العِيدِ، لا ظَاهِراً بَل كَأَنَّهُ فِي الخَفَاءِ».
    يوحنا ١١: ٥٦
    كَأَنَّهُ فِي الخَفَاءِ رفض الذهاب مع القافلة الصاعدة إلى العيد عمداً لئلا يتعذر عليه منع الشعب الذي شاهد معجزاته من المناداة به ملكاً، فأظهر الحكمة باعتزال أسباب الهياج قبل موعد تسليمه. فذهابه خفية لا يستلزم أنه بدا له خلاف ما قاله لإخوته، لأنه صعد في أحوال ووقت غير الأحوال والوقت عند طلب إخوته. وصعوده في الخفاء لا يمنع من مصاحبته بعض تلاميذه، ولا من إرسال رسل أمامه ليجهزوا له منزلاً في الطريق (كما ذُكر في لوقا ٩: ٥١). فالمعنى أنه رفض شهرة الصعود مع تلك القافلة العظيمة.
    ١١ «فَكَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَهُ فِي العِيدِ، وَيَقُولُونَ: أَيْنَ ذَاكَ؟».
    يوحنا ١١: ٥٦
    اليَهُودُ أي أعداؤه (ع ١، ١٣، ١٩).
    يَطْلُبُونَهُ ليقتلوه كما يظهر من آية ١. وطلبوه يومئذ لتوقعهم حضوره العيد كسائر اليهود وكعادته غالباً.
    أَيْنَ ذَاكَ لا يخلو كلامهم هذا من الاستخفاف بيسوع، ومن الدلالة على أنه لم يأت مع القافلة لحكمة عنده.
    ١٢ «وَكَانَ فِي الجُمُوعِ مُنَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ نَحْوِهِ. بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ صَالِحٌ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: لا بَل يُضِلُّ الشَّعْبَ».
    يوحنا ٩: ١٦ و١٠: ١٩، متّى ٢١: ٤٦ ولوقا ٧: ١٦ ويوحنا ٦: ١٤ وع ٤٠
    الجُمُوعِ ميّز البشير بين فرقتين من بني إسرائيل هما «اليهود» و «الجموع» وقصد بالأولى رؤساء الشعب الذين جاهروا بعداوتهم ليسوع، وقصد بالثانية «العامة» ومنهم أصحابه الذين عرفوه في الجليل واليهودية وأكرموه وتبعوه.
    يَقُولُونَ «إِنَّهُ صَالِحٌ»: يدل على كثرة أعداء يسوع وقوتهم أن أصحابه لم يجسروا على الشهادة بأنه المسيح والملك كما اعتقدوا واكتفوا بمجرد الشهادة بصلاحه.
    وَآخَرُونَ.. يُضِلُّ الشَّعْبَ هذا قول أصحاب الرؤساء من العامة. ومعناه أنه يضل الناس بدعواه أنه المسيح.
    ١٣ «وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ عَنْهُ جِهَاراً لِسَبَبِ الخَوْفِ مِنَ اليَهُودِ».
    يوحنا ٩: ٢٢ و١٢: ٤٢ و١٩: ٣٨
    كانت قوة الرؤساء شديدة وتأثيرهم في الشعب عظيماً حتى لم يجسر أصحاب يسوع ولا أعداؤه أن يتباحثوا في دعواه. ولعل الرؤساء لم يكونوا قد حكموا علانية ببطلان دعوى المسيح. ولم يُظهر أعداؤه من العامة كل مقاومتهم له خوفاً من أن يغيِّر الرؤساء رأيهم في رفضه.
    ١٤ «وَلَمَّا كَانَ اٰلْعِيدُ قَدِ اٰنْتَصَفَ، صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى اٰلْهَيْكَلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُ».
    اٰلْعِيدُ قَدِ اٰنْتَصَف أي مرّ من أيامه أربعة، وذلك وقت قلّت فيه حركة الشعب ومناقشاتهم في أمر المسيح، ويئس أصحابه وأعداؤه من حضوره.
    صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى الهَيْكَلِ صعد إلى اليهودية في الخفاء، ودخل هيكل أورشليم علانيةً بغتةً. وكان حضوره كذلك أكثر أمناً له لأن الرؤساء خافوا أن يقاوموه في وسط الجموع لئلا يقع شغب (متّى ٢١: ٤٦) فكما أن الشعب خاف الرؤساء (ع ١٣) خاف الرؤساء الشعب. وكان الموضع الذي صعد إليه من الهيكل أحد دوره (انظر شرح متّى ٢١: ١٢).
    وَكَانَ يُعَلِّمُ لعله شرح لهم الفصل الذي قُرئ يومئذ من الكتاب الإلهي كما كان يفعل الربانيون الذين تعلموا في مدارس اليهود المقدسة، أو أنه فسر لهم بعض النبوات المتعلقة بالمسيح وبيّن لهم أنها تمت به كما سبق وفعل في مجمع الناصرة. وكثرة الحاضرين هناك أعدَّت له أحسن فرصة للتعليم.
    ١٥ «فَتَعَجَّبَ اليَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الكُتُبَ وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟».
    متّى ١٣: ٥٤ ومرقس ٦: ٢ ولوقا ٤: ٢٢ وأعمال ٢: ٧
    فَتَعَجَّبَ اليَهُودُ هذا ليس تعجُّب الاستحسان لتعليمه الذي يقود إلى التسليم بصحته، بل تعجب الحيرة والدهشة التي أبكمتهم، فلم يستطيعوا إنكار حكمة المسيح وقوة براهينه وصحة معرفته الشريعة مع أنهم أحبوا أن يصرحوا بجهله لو أمكنهم وعدم استحقاقه أن يُسمع له. ومن الواضح أن أحسن ربانييهم الذين شغلوا سنين كثيرة بالدرس والمطالعة لم يبلغوا معرفته.
    كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الكُتُبَ أي مدونات العلوم حسب اصطلاحهم، وهي مما اعتاد الناس أن يتعلموها في المدارس بعد سنين من الدرس بإرشاد أفضل المعلمين. وكانت العلوم التي اشتغلوا بها يومئذ العلوم الدينية خاصة.
    والذي حيّر اليهود حينئذ لا بد من أن يحير كل إنسان ينكر أن المسيح ابن الله، فعلى المنكِر أن يبيِّن كيف أن يسوع الذي تربَّى نجاراً في قرية حقيرة في الجليل، وكان رفقاؤه كلهم شبه أميين ولم يحضروا قط مدرسة الفلاسفة، علَّم تعليماً يفوق كل ما علمه فلاسفة العالم حكمة وصواباً، وأسس ديناً أخذ يُبطل غيره من الأديان ويعظم ويدوم. وجواب قولهم «كيف يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟»: إنه الله.
    ١٦ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَل لِلَّذِي أَرْسَلَنِي».
    متّى ٣: ١١ و٨: ٢٨ و١٢: ٤٩ و١٤: ١٠، ٢٤
    تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي مضمون جواب المسيح أنه لا محل للتعجب كأني أبدعت علمي من نفسي. فإنه كان من عادة ربانيي اليهود أن يؤيدوا تعاليمهم بذكر مشاهير معلميهم، وباقتباس أقوالهم إثباتاً لما يقولونه. لكن يسوع أسند تعليمه إلى المعلم الإلهي أي الله، وهذا جواب سؤالهم: «من علمه؟» فكأنه قال: السماء مدرستي، والذي أرسلني هو معلمي، وأنا لم أُبدع شيئاً من نفسي. أو لعل معنى قوله «تعليمي ليس لي» إنّه ليس لي وحدي حتى إذا قبلتموه تكونون قد قبلتم مجرد قولي، وإن رفضتموه رفضتم مجرد كلامي.. لكن تعليمي مما سمعته من الآب (يوحنا ٨: ٤٠) وأنا صرحت به بسلطان أبي (يوحنا ١٢: ٤٩) كما كانت أعمالي (يوحنا ٥: ٣٦). فقول المسيح هنا كقوله في يوحنا ٥: ١٨، ٣٠.
    بَل لِلَّذِي أَرْسَلَنِي أي الله (ع ٢٧).
    ١٧ «إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَل هُوَ مِنَ اللَّهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي».
    يوحنا ٨: ٤٣
    إِنْ شَاءَ أَحَدٌ طلب اليهود من يسوع آية يعرفون بها أن تعليمه من الله، وأبوا أن يؤمنوا به إن لم يعطهم الآية التي طلبوها، فصرح لهم هنا أنهم قادرون أن يعرفوا صحة تعليمه بدون معجزة إذا طابقت مشيئتهم مشيئة الله. فإن كانت قلوبهم مستعدة لقبول الحق فلهم براهين كافية لإقناعهم، وإن مالوا إلى تكذيب الحق هان عليهم أن يروا الحق كذباً.
    ومن مبادئ ملكوت المسيح أن ميل القلب إلى الحق يُجهز العقل لإدراكه، فالذي يحب الحق يستعمل كل الوسائط إلى معرفته، وإله الحق يحبه ويهديه سُبُل الحق. وسبب معظم الكفر في العالم ميل القلب إلى الباطل أكثر من ميله إلى الحق. وقد جعل الله ثواب إخلاص النية صفاء البصيرة وفقاً لقوله «إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً» (متّ ٦: ٢٢) وقوله «وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ» (يوحنا ٣: ٢١). وقوله «لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي» (يوحنا ٥: ٤٦).
    هَل هُوَ مِنَ اللَّهِ أي الذي أمر الله بالتكلم به.
    أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي أي بدون أن يرسلني الله ويتكلم بفمي.
    ١٨ «مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلمٌ».
    يوحنا ٥: ٤١ و٨: ٥٠
    هذا برهان على صحة ما قاله في الآية السابقة. وأعطاهم علامة يميزون بها المعلم المرسَل من الله من المعلم الآتي من نفسه والمتكلم بكلماته.
    مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ هذه علامة المعلم الآتي من نفسه، فإنه يحب ذاته ويهتم بشرفه وربحه. وغاية مثل هذا المعلم الدنيوية تبيّن أن أصله دنيوي. وقد صدَقَ هذا على الفريسيين معلمي الشعب، لأن كبرياءهم ومحبتهم لأنفسهم منعاهم من معرفة الحق وتعليمه للناس.
    وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ كان الواضح من أمر المسيح أنه كان في كل كلماته وأعماله لم يطلب مجد نفسه بل مجد الله. فكان عليهم أن يقتنعوا من ذلك بأنه كان يتكلم بالحق لأن المعلم الذي يطلب مجد الله يحفظه الله من كل ميل إلى الضلال. فموافقة مشيئته لمشيئة الله تجعل تعاليمه موافقة لتعاليم الله. ولا يصدق هذا إلا على المسيح الذي طلب مجد الله فقط، وأن تعليمه الحق الخالص، وأنه ليس فيه ظلم.
    ولعل هذه إجابة المسيح على قول بعضهم «إنه يضل الشعب» (ع ١٢) لأنه لا بد للمضل من غاية أنانية. وقد صرح المسيح أن ليس له من غاية كتلك، بل إنه يفعل كل شيء لمجد الله. ولعل ذلك رد على دعواهم أنه تعدى شريعة السبت في زيارته السابقة لأورشليم يوم شفى المقعد عند بركة بيت حِسدا (يوحنا ٥: ١٦).
    ١٩ «أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟».
    خروج ٢٤: ٣ وتثنية ٣٣: ٤ ويوحنا ١: ١٧ وأعمال ٧: ٣٨، متّى ١٢: ١٤ ومرقس ٣: ٦ ويوحنا ٥: ١٦، ١٨ و١٠: ٣١، ٣٩ و١١: ٥٣
    قال هذا دفعاً لشكواهم أنه نقض شريعة السبت (يوحنا ٥: ١٩).
    أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ أي وصية السبت. ولو أجابوه لفظاً لقالوا كلهم: نعم. فإذاً هم مضطرون أن يطيعوا تلك الوصية على الدوام.
    وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ أي شريعة السبت وبرهن هذه الدعوى في ع ٢٢، ٢٣ أي أثبت أنهم يخالفونها بخدمة الهيكل.
    لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي كلامه موجَّه هنا إلى أعدائه رؤساء الشعب، ومبنيٌّ على ما قيل في يوحنا ٥: ١٦. فمعناه: لماذا تخطئونني كأني نقضت شريعة السبت وتطلبون قتلي، بينما أنتم تفعلون ما فعلته أنا، لسبب غير السبب الذي حملني على الفعل؟
    (ظن بعض المفسرين أن المسيح أشار إلى الوصية الناهية عن القتل بقوله «أليس موسى قد أعطاكم الناموس» وأنه أثبت عليهم مخالفة تلك الوصية بطلبهم قتله. لكن ما يأتي في ع ٢٠ - ٢٤ يدل على أنه قصد ما قلناه في تفسيرنا).
    ٢٠ «أَجَابَ الجَمْعُ: بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟».
    يوحنا ٨: ٤٨ ، ٥٢ و١٠: ٢٠
    الجَمْعُ أي جمهور الشعب ممن حضروا العيد من جهات مختلفة، ولم يعرفوا شيئاً من الحوادث الماضية التي ذُكرت في يوحنا ٥ ولا من قصد الرؤساء قتله. وهم يختلفون عن أهل أورشليم (ع ٢٥).
    بِكَ شَيْطَانٌ هذا لم يصدر عن حقد كقول الفريسيين «بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِين» (متّى ٩: ٣٤) بل عن شفقة. فقد ظنوا أن المسيح اتهمهم بطلب قتله، وهو حسب علمهم ليس صحيحاً. ومن عادة الناس أنهم متى حدث لأحد وهمٌ كهذا نسبوه إلى وسوسة الشيطان. فهم حسبوا قول المسيح مجرد ظن، فحكموا عليه باختلال العقل.
    ٢١ «فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمْ: عَمَلاً وَاحِداً عَمِلتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعاً».
    لم يجب يسوع الشعب على دعواهم أنه مختل، بل استمر يخاطب اليهود.
    عَمَلاً وَاحِداً عَمِلتُ أي في السبت، وأشار بذلك إلى شفائه المقعد يوم السبت (يوحنا ٥: ١ - ٨). ولم يذكر غيره من كل معجزاته الكثيرة في أورشليم (يوحنا ٢: ٢٣، ٢٥ و٣: ٢). وقيّد عمله في السبت بكونه «واحداً» ليظهر الفرق بين عمله وعملهم، لأنه فعل ذلك مرة واحدة وهم فعلوه مراراً.
    فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعاً لا من المعجزة بل لصنعي إياها في السبت، كأني ارتكبت ذنباً فظيعاً يستحق الموت. فكأن تعجبهم من معجزة عظيمة، وفظاعة عدم إيمان تقشعر منها الأبدان.
    ٢٢ «لِهَذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الخِتَانَ، لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى، بَل مِنَ الآبَاءِ. فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ».
    لا ١٢: ٣، تكوين ١٧: ١٠
    لِهَذَا أي لسبب سيأتي، وهو بيان أن عمل الخير الضروري للإنسان في السبت لا يناقض وصية السبت.
    أَعْطَاكُمْ مُوسَى الخِتَانَ أي أن الذي أعطاكم ناموس السبت المشار إليه في ع ١٩ هو نفسه أعطاكم الشريعة الأخرى التي تأمر بالختان في اليوم الثامن، فأمر بذلك كل بني إسرائيل بما يكسر شريعة السبت (لا ١٢: ٣ ولو ٢: ٢١).
    لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى، بَل مِنَ الآبَاءِ هذه جملة معترضة قُصد بها تفسير «أن موسى أعطاكم الختان». والمعنى أنه أدخل الختان بين ما أمرهم به من الوصايا، مع أن الله أمر الآباء الذين قبل موسى بالختان، وذلك من عهد إبراهيم (تكوين ١٧). وما قاله في الختان يصح من جهة السبت أيضاً. والخلاصة أن موسى أعطى كلاً منهما، لكنه ليس أول من أعطاهما.
    فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ إن كان الثامن من يوم ولادته. و «الإنسان» هنا الطفل الذكر (يوحنا ١٦: ٢١).
    ٢٣ «فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الخِتَانَ فِي السَّبْتِ، لِئلا يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى، أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأنِّي شَفَيْتُ إِنْسَاناً كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟».
    يوحنا ٥: ٨، ٩، ١٦
    فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الخِتَانَ فِي السَّبْتِ أي إذا كان السبت اليوم الثامن من أيام الولادة. وذكر المسيح ذلك لأنه كان شائعاً بينهم ومقبولاً واشتركوا فيه جميعاً، لكن الختان لم يكن سوى عمل خارجي ورمز يشير إلى التطهير، لا تطهيراً حقيقياً في الباطن.
    لِئلا يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى الآمر بالختان في اليوم الثامن (تكوين ١٧: ١٢ و٢١: ٤ ولاويين ١٢: ٣). أثبت المسيح لليهود في هذا العدد قضيتين: (١) أنه يجوز نقض شريعة السبت لكي لا تُنقض شريعة الختان. (٢) يجوز نقض شريعة السبت للأعمال الضرورية وأعمال الرحمة والأعمال المختصة بالعبادة.
    أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأنِّي شَفَيْتُ إِنْسَاناً كُلَّهُ قارن المسيح الختان بشفائه للمقعد. والختان ليس سوى إشارة إلى التطهير، وأما الشفاء فهو إنقاذ جسد الإنسان كله من المرض، وتطهير نفسه من الخطية لخلاصه الأبدي، وهذا يتفق مع قوله «أنت قد برئت، فلا تخطئ أيضاً» (يوحنا ٥: ١٤).
    يقول المسيح لليهود: لقد وافقتم على جواز الأعمال في يوم السبت، وأنا عملتُ فيه عملاً واحداً، وأنتم تعملون فيه أعمالاً كثيرة لأقل داعٍ. فإن كان الختان جائزاً في السبت فبالأولى شفائي. وما تعملونه أنتم يرمز إلى التطهير، وما عملته أنا هو التطهير الحقيقي. وأنتم تعملون لخير جزئي وأنا عملت لخير كلي.
    ٢٤ «لا تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً».
    تثنية ١: ١٦، ١٧ وأمثال ٢٤: ٢٣ ويوحنا ٨: ١٥ ويعقوب ٢: ١
    لا تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ الحكم حسب الظاهر هو القضاء بلا إمعان النظر في كل أحوال الأمر. وحسب الظاهر الختان محرم في السبت وكذلك شفائي فيه، وعلى هذا حكمتم عليّ بالخطأ لأني شفيت في السبت، والحق أنه جائز كما جاز الختان.
    بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً أي قيسوا عملي في السبت بالمقياس الذي تقيسون به عملكم فيه. برروني كما تبررون أنفسكم فتروا أني أستحق المدح على ما لمتموني عليه. انظروا إلى كل أحوال الأمر والأسباب الموجبة له بلا هوىً أو تعصب، وتأملوا في ما تلزم شريعة السبت به، وفي ما تبيحه من الأعمال الضرورية وأعمال الرحمة.
    ٢٥ «فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟».
    قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ أي من سكان تلك المدينة. قال ذلك ليميزهم عن المذكورين في ع ٢٠ الذين هم من خارج أورشليم، فهؤلاء لم يعرفوا قصد الرؤساء قتل يسوع الذي عرفه أولئك. وقاله أيضاً ليميز بينهم وبين الرؤساء المشار إليهم في هذه الآية والمذكورين في الآية الآتية.
    أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ أي هذا هو حقيقة فالاستفهام هنا إنكاري. والذين طلبوا قتله هم الرؤساء.
    ٢٦ «وَهَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَاراً ولا يَقُولُونَ لَهُ شَيْئاً! أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِيناً أَنَّ هَذَا هُوَ المَسِيحُ حَقّاً؟».
    ع ٤٨
    هَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَاراً هذا كلام تعجب فكأنهم قالوا: غريبٌ أن هذا الذي طلبوا قتله لم يزل حياً، وفوق ذلك هو حر في أن يفعل ويعلّم كما يشاء.
    ولا يَقُولُونَ لَهُ شَيْئاً أي أنهم بدل أن يقتلوه كما قصدوا، لم يمنعوه ولا هددوه ولا اعترضوه بشيء.
    أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِيناً: المقصود بهؤلاء الرؤساء أعضاء مجلس السبعين من الشيوخ ورؤساء الكهنة. ومضمون سؤالهم أنه: هل غيّر أولئك أفكارهم ومالوا إلى قبول دعواه؟ ولم يظهروا ذلك علانية لسبب لا نعلمه. وهل وقفوا على برهان قاطع يثبت أن يسوع هو المسيح ولذلك تركوه في أمن وحرية؟
    ٢٧ «وَلَكِنَّ هَذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَأَمَّا المَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ».
    متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣ ولوقا ٤: ٢٢
    وَلَكِنَّ هَذَا هذا الاستدراك يدل على أن المتكلمين مائلون بعض الميل إلى التسليم بدعوى المسيح، وأنهم ظنوا أن الرؤساء سلَّموا، ولكن شيئاً ما منعهم من إعلان هذا التسليم.
    نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ أي موضع ميلاده ومكان سكنه. وافتكروا أنه لا شك في ولادته في الناصرة، وأن أهله معروفون، أي أنه ابن يوسف النجار. وكان ذلك رأي عامة الناس (يوحنا ٦: ٤٢ ومتّى ١٣: ٥٥، ٥٦). وهذا ما نادى به الشعب يوم دخوله أورشليم إذ هتفوا «هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» وكما كُتب في العنوان فوق صليبه في ثلاث لغات.
    وَأَمَّا المَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ هذا من تقاليد اليهود ورأي العامة حسب أقوال مؤرخي اليهود، وهو أن أصل المسيح يكون سراً مكتوماً. نعم إنهم عرفوا أن الأنبياء تنبأوا بأن يكون المسيح من نسل داود ومن بيت لحم مدينة داود، وكذا أجاب رؤساء الشعب هيرودس (متّى ٢: ٥) وكذا اعتقدوا (ع ٤٢). ولكنهم لم يجدوا تناقضاً بين تلك النبوات وتقاليدهم، لأنهم اعتقدوا أنه لا يولد كسائر الناس، وأن الأرواح والزوابع تخطفه حالاً بعد ولادته عن نظر الناس، ويبقى متوارياً زمناً عن أبصار الناس، ثم يظهر في الهيكل بغتة، ويمسحه إيليا النبي، ويبدأ يمارس أعمال القوة والمجد. وبنوا هذا الزعم على ما قيل في دانيال ٧: ١٣ وملاخي ٣: ١، وذلك قوله «يَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ» (إشعياء ٩: ٦ و٥٣: ٨ وميخا ٥: ٢ وفي متّى ٢٤: ٢٣، ٢٦) إشارات إلى وجود ذلك الوهم عندهم.. فحسب هذا الرأي ظهر للشعب استحالة أن يكون مسيح الله من قرية معلومة كناصرة الجليل، وأبوه وأمه وإخوته كلهم معروفون، وأن يسكن هناك ثلاثين سنة بدل أن يأتي بغتة.
    ٢٨ «فَنَادَى يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الهَيْكَلِ: تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا، وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ».
    يوحنا ٨: ١٤ يوحنا ٥: ٤٣ و٨: ٤٢ ويوحنا ٥: ٣٢ و٨: ٢٦ ورومية ٣: ٤ ويوحنا ١: ١٨ و٨: ٥٥
    فَنَادَى بناءً على ما قالوا في أمره. وقوله «نادى» يدل على أنه رفع صوته ودعا الجميع إلى الانتباه لقوله.
    تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا اختلف المفسرون كثيراً في شرح هذه العبارة، فحسبها بعضهم استفهاماً إنكارياً، أي: لستم تعرفونني. وحسبها البعض من عبارات التهكم (كما في يوحنا ١٦: ٣١). فعلى هذا كأنه قال: ما هذه المعرفة؟ إنها لا تستحق أن تُسمى معرفة! وحسبها بعضهم مجرد تكرير لقولهم، وأن يسوع كرره ليُظهر بطلانه في ما بعد. ورأى بعضهم أنها تسليم بمعرفتهم، أي أنهم يعرفون من أمره ما هو كافٍ لإقناعهم إذا أرادوا الاقتناع، وذلك مما أخبرهم به من أمره ومما شاهدوه من سيرته ومعجزاته وتعليمه. وذلك كله كافٍ لأن يحقق لهم أنه من السماء.
    ولعل المعنى: إنكم تعلمون بعض أمري فتعرفونني إنساناً رأيتموه وسمعتموه، وعرفتم أني كنت ساكناً في الناصرة وأني محسوب ابن يوسف، ولكن هذه المعرفة ليست كاملة. فأنتم تجهلون أني من السماء، وأني مرسل من الله. وهذا ما أوضحه في ما بعد. والتفسير الأخير هو المرجح.
    وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ علموا هذا بما أنبأهم به قبلاً وبما أخبرهم به هنا فإن كل سيرته على الأرض تدل على أنه لم يطلب شيئاً لنفسه.
    بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ أي الله الآب وشهادته لا يمكن إنكارها. وفي هذا الكلام جواب لقول بعضهم «إنه يضل الشعب» (ع ١٢). ويبطل دعواهم هذه أن مجيئه حقَّق مواعيد الله الذي هو الحق ومصدر الحق، وهو أيضاً شهد له بفم المعمدان، وبصوت مسموع من السماء، وبالمعجزات التي أجراها على يده.
    الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أي لا تعرفون حقيقته ولا مقاصده ولا روحانية ملكوته الذي أخذ يؤسسه على الأرض. فجهلوا مقام المسيح المُرسل من الآب، لعدم معرفتهم الآب الذي أرسله.
    وفي هذه العبارة توبيخ شديد للذين ادعوا أنهم وحدهم عبدة الله بالحق. وفيها جواب لقول اليهود «فَمَتَى جَاءَ المَسِيحُ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (ع ٢٧).
    ٢٩ «أَنَا أَعْرِفُهُ لأنِّي مِنْهُ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي».
    متّى ١١: ٢٧ ويوحنا ١٠: ١٥
    قارن يسوع هنا معرفته الكاملة بجهلهم الكبير.
    أَنَا أَعْرِفُهُ لأنِّي مِنْه أي لأني كلمة الله مساوٍ له في الجوهر (يوحنا ١: ١).
    وَهُوَ أَرْسَلَنِي إلى الأرض لأخبر به.
    ٣٠ «فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ، لأنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ».
    مرقس ١١: ١٨ ولوقا ١٩: ٤٧ و٢٠: ١٩ وع ١٩ ويوحنا ٨: ٢٧، ع ٤٤ ويوحنا ٨: ٢٠
    فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ أي بعض اليهود من أعدائه، وفعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم عرفوا قصد الرؤساء، فقصدوا أن يقبضوا عليه ويذهبوا به إليهم. والذي هيّج غضبهم هو قوله «إنهم لا يعرفون الله» ودعواه أنه متحد به كل الاتحاد.
    لأنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ أي الوقت المعيّن من الله لموته. فالذي منعهم من القبض عليه هو قوة الله، وهي نفس القوة التي سدت أفواه الأسود عن دانيال.
    ٣١ «فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الجَمْعِ، وَقَالُوا: أَلَعَلَّ المَسِيحَ مَتَى جَاءَ يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الَّتِي عَمِلَهَا هَذَا؟».
    متّى ١٢: ٢٣ ويوحنا ٣: ٢ و٨: ٣٠
    فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الجَمْعِ وذكر «الجمع» هنا تمييزاً عن وجوه الشعب. ولم يكن إيمانهم كاملاً، إنما مالوا إلى التسليم بدعوى يسوع أنه المسيح. وأحب يوحنا أنه يذكر قبول بعض الناس له مع رفض البعض الآخر (يوحنا ١: ١١ ، ١٢ و٢: ١٨ ، ٢٣ و٣: ٣٢، ٣٣ و٦: ٦٦، ٦٨).
    أَلَعَلَّ المَسِيحَ.. يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ أشاروا بهذا إلى المعجزات التي شاهدوها في اليهودية وسمعوا بعمله مثلها في الجليل. وفي هذا الإقرار تقدُّمٌ عمّا قالوه في ع ١٢ وهو «أنه صالح». ولكن خوفهم من الرؤساء جعلهم يعترفون به بطريق الاستفهام دون أن يعلنوا أنهم تلاميذه. فعلى كل الذين لا يسلمون بدعوى المسيح أن يتأملوا في هذا السؤال الذي هو في محله. ومضمونه أن ما فعله المسيح برهان قاطع بصحَّة دعواه، ولا يمكن أن يزاد عليه.
    ٣٢ «سَمِعَ الفَرِّيسِيُّونَ الجَمْعَ يَتَنَاجَوْنَ بِهَذَا مِنْ نَحْوِهِ، فَأَرْسَلَ الفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ خُدَّاماً لِيُمْسِكُوهُ».
    الفَرِّيسِيُّونَ هم فرقة من اليهود أظهرت يومئذ أشد البغض للمسيح. وكان الصدوقيون بعد موته وقيامته من أشد اليهود مقاومة لتلاميذ المسيح. وفرقة الفريسيين أكثر عدداً وأعظم سلطاناً وقوة من سائر اليهود وأكثر غيرة للديانة اليهودية. وعرفوا تأثير تعاليم يسوع في الشعب مما سمعوه بأنفسهم أو مما بلغهم من الجواسيس الذي أرسلوهم. فخافوا نقص قوتهم من زيادة احترام الناس للمسيح.
    فَأَرْسَلَ الفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ هم أعضاء مجلس السبعين لأنهم كانوا من الفرقتين المذكورتين هنا. ولولا أنهم كانوا في صفة مجلس ما استطاعوا أن يرسلوا العسكر. وهذه أول مرة ذكر يوحنا في بشارته رؤساء الكهنة، وهم رؤساء الفرق الأربع والعشرين التي قُسم الكهنة إليها، وكل من كان قد تولى مقام الحبر العظيم ثم عُزل. وكانوا في تلك الأيام كثيرين على خلاف ما فرضه موسى. والأرجح أنهم أرسلوا العسكر ليقبضوا على المسيح في فرصة مناسبة، لا كيفما اتفق. والفرق بين طلب مسكه في العدد ٣٠ وطلب مسكه في هذا العدد، أن الأول كان تطوعاً من أفراد، والثاني قانونياً من المجلس.
    ٣٣، ٣٤ «٣٣ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. ٣٤ سَتَطْلُبُونَنِي ولا تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا».
    يوحنا ١٣: ٣٣ و١٦: ١٦ هوشع ٥: ٦ ويوحنا ٨: ٢١ و١٣: ٣٣
    فَقَالَ عرف المسيح بمؤامرة اليهود وأن عاقبتها موته بعد قليل، فنبّه السامعين أن يغتنموا الفرصة القصيرة الباقية ليسمعوا تعليمه ويستفيدوا منه.
    أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً قال هذا قبل صلبه بستة أشهر. ووجَّه كلامه إلى كل الجمع من خدام المجلس وغيرهم، بسبب رقة قلبه عليهم وغيرته في خلاصهم. ومعناه للجميع أن هذا هو «يوم افتقادكم» بالرحمة الذي لم تعرفوا به (لوقا ١٩: ٢٤). وأن ذلك اليوم يعقبه يوم العقاب. ومعناه للعسكر أنهم لا يستطيعون أن يقبضوا عليه حيئنذٍ لأن وقت موته لم يكن قد أتى، بل بقي له وقت قصير للتبشير.
    أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي أي أرجع إلى الله بالموت. لم يدرك اليهود هذا المعنى أو ادعوا أنهم لم يفهموه كما يظهر من الآية الآتية. إنما فهموا أنه يعتزلهم حتى لا يراه صاحب ولا عدو.
    سَتَطْلُبُونَنِي الأرجح أن المعنى هنا كما في قوله «تَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ» (لوقا ١٧: ٢٢) فراجع التفسير هنالك. وهو وفق ما قيل في (يوحنا ٨: ٢١ و١٣: ٣٣). ومضمون كلام المسيح في هذه الآية أن اليهود يظلون يتوقعون مجيء المسيح الموعود به، ويشتهونه بغاية الشوق، وينتظرونه ملكاً زمنياً ومنقذاً سياسياً. ولم يعرفوا أن يسوع هو هو، ورفضوه لأنه ملك روحي ومنقذ النفس من سلطان الخطية. وأظهروا غيرتهم بعد في طلب المسيح بقبولهم بسهولة المسحاء الكذبة (متّى ٢٤: ٢٣، ٢٤). وما قاله المسيح يومئذ لليهود يصح أن يقال اليوم لهم.
    ولا تَجِدُونَنِي وليس معناه أنكم إن طلبتموني بالتوبة والإيمان لا تجدونني، لأن البعض طلبوه كذلك يوم الخمسين ووجدوه، بل إنّكم تطلبونني لأكون ملكاً زمنياً ولا تجدونني. تطلبون المسيح على الأرض ولا تجدونه لأنه يكون في السماء. وقوله «لا تجدونني» يشير إلى أن الأمة اليهودية تكون متروكة في حال اليأس والخراب والعجز، لأنها تركت ابن الله المرسل إليها (أمثال ١: ٢٣، ٢٤ وميخا ٣: ٤ وزكريا ٧: ١٣ ومتّى ٢٥: ١٣).
    حَيْثُ أَكُونُ أَنَا أي مع الله كقوله «ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ» (يوحنا ٣: ١٣) فإن المسيح الله فلذلك يكون دائماً مع الله الآب.
    لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا وأنتم على ما أنتم فيه. لأنكم لستم أهلاً للحضور أمام الله والوقوف في حضرته، ولستم مستعدين للاشتراك في أفراح السماء الروحية.
    ٣٥، ٣٦ «٣٥ فَقَالَ اليَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: إِلَى أَيْنَ هَذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لا نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ اليُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ اليُونَانِيِّينَ؟. ٣٦ مَا هَذَا القَوْلُ الَّذِي قَالَ: سَتَطْلُبُونَنِي ولا تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟».
    إشعياء ١١: ١٢ ويعقوب ١: ١ و١بطرس ١: ١
    الأرجح أنهم نطقوا بذلك تهكماً واستهزاءً، وادَّعوا عدم فهمهم أن معنى قوله «أمضي إلى الذي أرسلني» (ع ٣٣) أذهب إلى الله، مع أنه فسر ذلك في ع ١٦، ١٨، ٢٨، ٢٩. فلو طلبوا حقاً أن يدركوا معناه لسألوه ولم يكتفوا بتذمرهم فيما بينهم.
    أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ اليُونَانِيِّينَ أي اليهود المشتتين بين اليونانيين (١بطرس ١: ١) والمعنى: هل يذهب إلى أقاصي الأرض حيث ذهب أولئك المتغربون؟ ظنوا أن المسيح قصد هذا السفر لا الموت.
    وَيُعَلِّمَ اليُونَانِيِّينَ أي الأمم الوثنية. كأنهم قالوا لا يقدر أن يقنع اليهود بأنه المسيح، فهل يذهب ليقنع الأمم بذلك؟ ولا شيء يجعل يسوع مكروهاً أكثر من اتهامهم إياه بذلك. ولو أنهم لم يكونوا متأكدين من هذا الافتراض. على أن ما قالوه تهكماً كان نبوة منهم على غير قصد، كنبوة قيافا (يوحنا ١١: ٥١) فإن ذلك تمّ بعد موته وقيامته.
    سَتَطْلُبُونَنِي أعادوا قول المسيح كأنهم يبحثون عن معنىً خفي فيه، ولم يجدوا ذلك المعنى فأثبتوا أنه كلام فارغ.
    ٣٧ «وَفِي اليَوْمِ الأَخِيرِ العَظِيمِ مِنَ العِيدِ وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى: إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَليُقْبِل إِلَيَّ وَيَشْرَبْ».
    لاويين ٢٣: ٣٦، إشعياء ٥٥: ١ ويوحنا ٦: ٣٥ ورؤيا ٢٢: ١٧
    فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ العَظِيمِ أي الثامن من أيام العيد (لاويين ٢٣: ٣٦، ٣٩ وعدد ٢٩: ٣٥ ونحميا ٨: ١٨). وسُمي «عظيماً» لكثرة المحتفلين فيه، ولأنه يوم اعتكاف لا يعملون فيه. كان الكاهن يذهب كل صباح من أيام العيد مع جمع وافر إلى عين سلوام، ويأتي بماء من هناك في إناء من ذهب يسكبه على المذبح مع خمر من إناء آخر، والشعب يهتف هتاف الفرح ويترنم بأغاني التسبيح، والكهنة يبوِّقون وآخرون يعزفون على آلات الطرب. وليس في الشريعة من أمر بذلك إنما فعله اليهود تذكاراً لإخراج موسى الماء من الصخرة في البرية، ووفقاً لقول النبي «فَتَسْتَقُونَ مِيَاهاً بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ الخلاصِ» (إشعياء ١٢: ٣) وقوله «أَيُّهَا العِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى المِيَاهِ» (إشعياء ٥٥: ١). وفعلوه أيضاً إشارة إلى سكب الروح القدس بركاته الروحية على الشعب.
    وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى أي انتصب ليراه الناس، ورفع صوته ليسمعه الألوف المجتمعين هناك.
    إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ اعتبر يسوع نفسه بمنزلة الصخرة التي شرب منها عطاش بني إسرائيل في البرية ليُقبل إليه كل عطاش النفوس ويرتووا كما أقبل أولئك إلى الصخرة. ومعنى «العطش» اشتهاء النفس المغفرة وشدة الرغبة في ما يقوم به. وهو الشرط الوحيد الذي سنَّه المسيح لنوال نعمته (إشعياء ٥٥: ١ ومتّى ٥: ٦ ورؤيا ٢٢: ١٧) ومناداة المسيح أي دعوته عامة لكل البشر.
    فَليُقْبِل إِلَيَّ وَيَشْرَبْ دعوته الألوف الذين كانوا في الهيكل كدعوته المرأة السامرية (يوحنا ٤: ١٢ و١٤) ودعوته لكل العالم (رؤيا ٢٢: ٧). والأرجح أنه بنى كلامه على ما جرى في الهيكل من سكب الماء تذكاراً للصخرة المذكورة. قال الرسول «لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ المَسِيحَ» ( ١كورنثوس ١٠: ٤). وأشار إلى نفسه مبيناً أنه هو ينبوع الحياة، وأنه قادر على القيام بكل حاجات النفس الخالدة. وكما كانت الحال يومئذ باقية اليوم. فإن شعر أحد بعطشه الروحي فليُقبل إلى رئيس الكنيسة الحي، لا إلى وسيط بشري. وفي قوله هنا تصريح بأنه المسيح المنتظر. ولم يقُل قط مثل هذا نبي ولا كاهن ولا رسول. ولم يستطع يسوع نفسه أن يقوله لو لم يعلم أنه هو الله. «والإقبال» إلى يسوع «والشرب» ليسا أمرين مختلفين، بل هما شيء واحد. ومعنى كليهما الإيمان به وقبول نعمته مجاناً.
    ٣٨ «مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ».
    أمثال ١٨: ٤ وإشعياء ١٢: ٣ وحزقيال ٤٧: ١ - ١٢ وزكريا ١٤: ٨
    مَنْ آمَنَ بِي هذا تفسير المسيح لقوله «فليُقبِل إليَّ ويشرب». والمعنى: من أقرَّ بأني المسيح واتكل عليّ للخلاص.
    كَمَا قَالَ الكِتَابُ في مواعيد الكثيرة (مثل: مزمور ١٤: ٨ وإشعياء ٥٨: ١١ و٤٤: ٣، ٤ و٥٥: ١ وحزقيال ٤٧: ١ - ١ي٢ ويوئيل ٢: ٢٣ و٣: ١، ٨، ٢٣ وزكريا ١٣: ١ و١٤: ٨).
    تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ هذا زيادة على ما قيل في الآية السابقة، ففي الآية تصريح بأن نتيجة الإيمان بالمسيح ارتواء النفس روحياً. وفي هذه تصريح بأن نتيجة ذلك الإيمان أن يصير صاحبه بركة لغيره. وأراد «ببطن الإنسان» داخله أي طبعه الروحي. فشبَّه صدور البركات من روح المؤمن كجريان الماء من جوف الصخرة. وأشار «بالأنهار» إلى وفرة بركات المسيحيين للعالم بواسطة قداستهم وسيرتهم وتعليمهم وسخائهم، وبذلك يقتدون بسيدهم يسوع الذي هو ينبوع النعم الأصلي، والذي أمر: «مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا». فإذا اقتصرت فائدة الإيمان على نفس صاحبه شككنا في صحته. وقول المسيح هنا كقوله في يوحنا ٤: ١٤ فراجع الشرح هناك. والماء الحي ما جرى من ينبوع صافٍ بلا انقطاع، وهو إشارة إلى حياة النفس الروحية التي تظهر بالكلام والأعمال كل يوم لنفع الناس عامة.
    ٣٩ «قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ المُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، لأنَّ الرُّوحَ القُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ».
    إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨ ويوحنا ١٦: ٧ وأعمال ٢: ١٧، ٢٣، ٣٨ ورومية ٨: ٢ ويوحنا ١٢: ١٦ و١٦: ٧
    قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ هذا تفسير البشير لقول المسيح «تجري الخ». أي أن الماء الحي رمز إلى نعمة الروح القدس التي هي هبة المسيح الخاصة، لأن الإنسان بواسطة فعل الروح القدس يقدر أن يؤمن بالمسيح، ويتجدد قلبه، ويتشبَّه بالمسيح، ويكون واسطة بركة.
    لأنَّ الرُّوحَ القُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ كما أُعطي بعد موت المسيح وقيامته يوم الخمسين. نعم كان الروح القدس حاضراً على الدوام في أزمنة العهد القديم في الكنيسة الإسرائيلية، وكان الروح القدس يعلّم الآباء الأتقياء وغيرهم من الصالحين والأنبياء أن يؤمنوا بالمسيح الآتي «تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ القِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ» (٢بطرس ١: ٢١) لكنهم لم يشعروا بحضور الروح بينهم وتأثيره كما شعر الرسل والكنيسة التي أسسوها (أعمال ٢ و١٠: ٤٤، ٤٥). والفرق بين الكنيسة الموسوية والكنيسة المسيحية في ذلك أن الأولى كانت كبئر مختوم مقصور نفع مائه عليه، وأن الثانية كانت كأنهار جارية لنفع العالم كله.
    لأنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ أي لم يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين الآب. كان من عهد الفداء بين الآب والابن أن ينال الابن بموته سلطان أن يهب الروح القدس لخاصته، وأن تنفيذ ذلك يكون بعد صعوده (يوحنا ١٦: ٧ و٥: ٨ - ١٢ و١٤: ١٥، ١٦، ٢٦ وأفسس ٤: ٨ - ١١).
    ٤٠ «فَكَثِيرُونَ مِنَ الجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الكلامَ قَالُوا: هَذَا بِالحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ».
    تثنية ١٨: ١٥، ١٨ ويوحنا ١: ٢١ و٦: ١٤
    أجمع الكثيرون على ذلك.
    هُوَ النَّبِيُّ الذي أنبأ به موسى في تثنية ١٨: ١٥ وذُكر في يوحنا ١: ٢١ و٦: ١٤ فراجع الشرح هناك.
    ٤١، ٤٢ «٤١ آخَرُونَ قَالُوا: هَذَا هُوَ المَسِيح. وَآخَرُونَ قَالُوا: َلَعَلَّ المَسِيحَ مِنَ الجَلِيلِ يَأْتِي؟. ٤٢ أَلَمْ يَقُلِ الكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي المَسِيحُ؟».
    يوحنا ٤: ٤٢ و٦: ٦٩ ويوحنا ١: ٤٦ وع ٥٢، مزمور ١٣٢: ١١ وإرميا ٢٣: ٥ وميخا ٥: ٢ ومتّى ٢: ٥ ولوقا ٢: ٤ و١صموئيل ١٦: ١، ٤
    هَذَا هُوَ المَسِيحُ هذا الإقرار أوضح من الأول وأسمى، لأنهم كانوا يعتقدون أن المسيح كاهن ونبي وملك، ولم يُجمع اليهود على أن النبي هو المسيح نفسه أو سابق له.
    أَلَعَلَّ المَسِيحَ مِنَ الجَلِيلِ يَأْتِي عرفوا من النبوات أن المسيح من بيت لحم، وظنوا يسوع من الناصرة، فمنعهم هذا من قبوله مسيحاً. فكأنهم قالوا إن يسوع لا يمكن أن يكون هو المسيح لأن المسيح يخرج من بيت لحم وهذا خرج من الناصرة. وواضح أنهم لم يعرفوا الواقع وهو أن يسوع وُلد في بيت لحم. وقصدوا بقولهم «من الجليل» الناصرة التي هي إحدى قرى تلك المنطقة. وأشاروا بقولهم «ألم يقل الكتاب الخ» إلى ما كُتب في مزمور ٨٩: ٣٦ وإشعياء ١١: ١ وإرميا ٢٣: ٥ وميخا ٥: ١، ٢. وقد أوضح متّى تحقيق هذا في متّى ٢: ٤ - ٦.
    كَانَ دَاوُدُ فِيهَا (١صموئيل ١٦: ١ - ٤).
    ٤٣ «فَحَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الجَمْعِ لِسَبَبِهِ».
    ع ١٢ ويوحنا ٩: ١٦ و١٠: ١٩
    هذا وفق ما أنبأ به المسيح من أمره بقوله «أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سلاماً عَلَى الأَرْضِ؟ كلا أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً» (لوقا ١٢: ٥١). وسؤال «ماذا تظنون في المسيح؟» يقسم الناس طوائف.
    ٤٤ «وَكَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُلقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ».
    ع ٣٠
    قَوْمٌ مِنْهُمْ هم من أهل أورشليم، من أتباع الفريسيين وأنصارهم، عرفوا رغبة الرؤساء في القبض عليه، وأرادوا إظهار غيرتهم لهم بتبرعهم بمسكه وتسليمهم إياه.
    وَلَكِنْ لَمْ يُلقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ للسبب المذكور في ع ٣٠. ومنعتهم قوة الله عن مقصدهم. ولعلهم خافوا من ثورة بعض الجمع لأنهم لم يتحققوا قوة أنصاره من الجليل كما كان الأمر بعدئذ (لوقا ٢٢: ٢).
    ٤٥ «فَجَاءَ الخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هَؤُلاءِ لَهُمْ: لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟».
    فَجَاءَ الخُدَّامُ هم المذكورون في ع ٣٢ وهم غير المذكورين في ع ٤٤. ولعلهم جاءوا بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام منذ أمروا بأن يمسكوا يسوع.
    إِلَى رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ أي إلى المجلس السبعين، فاجتمعوا منتظرين إتيان خدامهم بيسوع حسب أمرهم.
    لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ يدل سؤالهم هذا على شدة رغبتهم في القبض على المسيح وانتظارهم وقوع ذلك وغيظهم الشديد على عدم بلوغهم مأربهم.
    ٤٦ «أَجَابَ الخُدَّامُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ».
    متّى ٧: ٢٩
    قالوا ذلك بياناً لعلة مسكهم إياه، ولم يعتذروا بخوفهم من الشعب أو عدم سنوح الفرصة. وهذه أعجب شهادة بقوة كلام المسيح قالوها لمعلمي الشعب. شعر الخدام بتأثير كلام المسيح فيهم ووقاره، وتحققوا أنه يمتاز عن كل من شاهدوه من الناس في شخصه وتعليمه وتأثيره في سامعيه. ولا شك أن شهادة هؤلاء الأعداء ليسوع كانت حقاً، فإنه لم يتكلم نبي ولا رسول ولا واعظ ولا نذير كما تكلم هو. فيجب علينا أن نحترم ما وصل إلينا من كلامه، ونخبئه في قلوبنا، ونعمل به، ونبلغه لغيرنا.
    ٤٧ «فَأَجَابَهُمُ الفَرِّيسِيُّونَ: أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلتُمْ؟».
    أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً أي خدام المجلس، خاصة الذين يُتوقع أنهم يهتمون بما يهتم به أعضاء المجلس أنفسهم. وهذا يدل على غيظهم وحيرتهم وخيبتهم، وهو كلام توبيخ واستهزاء.
    ضَلَلتُمْ حكموا بلا فحص بأن المسيح مُضل، ولم يسألوا الخدام عما رأوا من غرابة تعليمه أو أعماله، ولم يروا سبباً لما قاله الخدام سوى ضلالهم. وقالوا مثل هذا لبيلاطس بعد ذلك، إذ أشاروا إلى المسيح بقولهم «ذلك المضل» (متّى ٢٧: ٣٦). وبقولهم للخدام «ضللتم» اتهام لهم أنهم مالوا إلى التسليم بدعوى المسيح، وشاركوا سائر العامة في ذلك.
    ٤٨ «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟».
    يوحنا ١٢: ٤٢ وأعمال ٦: ٧ و ١كورنثوس ١: ٢٠ ، ٢٦ و٢: ٨
    مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الفَرِّيسِيِّينَ هذا يشمل أعضاء مجلس السبعين، والفرق المشهورة بالتقوى وحفظ الناموس، فهم رؤساء الدين والسياسة. ويدل كلامهم هنا على أنهم اعتبروا أوامر الرؤساء الحاكم الأعظم في الأمور الدينية، لا صوت الضمير. وادعوا أنه لو كانت دعوى يسوع حقاً لكانوا عرفوا ذلك قبل غيرهم، وجهلوا أن كبرياءهم وغلطهم في صفات المسيح المنتظر وحسدهم أعمى قلوبهم عن الحكم بالصواب. وتناسوا أن أحد رؤساء المجلس أتى إلى المسيح ليلاً وأقر بأنه من الله (يوحنا ٢: ٢) وأن آخر منهم كان تلميذاً للمسيح خفية (يوحنا ١٩: ٣٨).
    ٤٩ «وَلَكِنَّ هَذَا الشَّعْبَ الَّذِي لا يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلعُونٌ».
    هَذَا الشَّعْبَ الذين أنتم كنتم بينهم وشاركتموهم في آرائهم واعتقادهم أن يسوع هو المسيح.
    الَّذِي لا يَفْهَمُ النَّامُوسَ كما نفهمه نحن الذين درسناه في مدارس الربانيين. حكموا أن الشعب لعدم درسه الناموس لم يقدر أن يميز صحة دعوى يسوع أو بطلانها، وأنهم وحدهم مفسرو الناموس وأرباب مفاتيح المعرفة. ولمَّحوا بذلك إلى دعواهم أن في الناموس براهين قاطعة على بطلان دعوى يسوع، لو عرفها الشعب مثلهم لرفضوا دعواه أنه المسيح. «والناموس» هنا بمعنى كل أسفار العهد القديم. وهم فسروا ما يختص بالمسيح في الناموس بخلاف ما ظهر به يسوع، فإنهم فهموا من الناموس أن المسيح يكون ناصراً مجيداً وملكاً زمنياً يفوق داود في غناه وسلطانه.
    هُوَ مَلعُونٌ هذه صفة تدل على استهزاء الرؤساء بالشعب واستهانتهم به. وأطلقوا على الشعب هذا الوصف ليبينوا أن آراءهم في المسيح لا قيمة لها، فشفوا غيظهم بلعن الشعب لعدم استطاعتهم أن يمسكوا يسوع، ولأن الخدام والشعب مالوا إليه.
    ولا زال أعداء دين المسيح يقاومونه بطريقة رؤساء اليهود، وهو الاستهزاء لا بالبراهين، وبوصفه أنه دين لا يقبله سوى البسطاء أو الجهلاء، ولا يزالون حين يعجزون عن الانتصار بالبينات يلعنون خصومهم الذين هم أتباع الحق. ولم يزل الله يخفي حقائقه عن الحكماء والفهماء ويظهرها للأطفال.
    ٥٠ «قَالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ».
    يوحنا ٣: ٢
    الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً يوحنا ٣: ١ و١٩: ٣٩ ووصف بما ذُكر ثلاث مرات، وهذا دليل على أنه لم يأت إلى يسوع في الليل اتفاقاً بل خوفاً أو حياءً.
    وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أي من أعضاء مجلس السبعين، وكان وجود هذا الإنسان الصالح بين الفريسيين مثل لوط في سدوم، وعوبديا في بيت أخآب، ودانيال في بابل، والقديسين في بيت قيصر.
    ٥١ «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟».
    تثنية ١: ١٧ و١٧: ٨ الخ و١٩: ١٥
    لم ينكر نيقوديموس دعوى المسيح ولم يقر بصحتها، إنما طلب معاملته بقوانين العدل التي تُجرى على سائر الدعاوى. ونبههم أنهم خالفوا الناموس بقضائهم على يسوع بالموت بلا محاكمة ولا شهود حسب الناموس. وما أشار إليه مدوّن في خروج ٢٣: ١ و٢ ولاويين ١٩: ١٥ و١٦ وتثنية ١: ١٧ و١٧: ٨ و١٩: ١٥، ١٨ وإن دعواهم معرفة الناموس لا تنفعهم شيئاً إذا خالفوها. ويتضمن سؤال نيقوديموس لأعضاء المجلس أنه يجب عليهم أن يعتبروا يسوع بريئاً إلى أن يثبت عكس هذا أمام القضاء العادل. فأظهر بذلك شجاعة، لأنه تكلم بما يخالف آراء أعضاء المجلس المجمعين على وجوب قتل يسوع. ومن العجب وجود من يحامي عن يسوع بين أولئك الرؤساء. وقد وجدوا ثلاثة موانع عن بلوغ مقاصدهم: الأول الشعب، والثاني خدامهم، والثالث واحد منهم.
    ٥٢ «أَجَابُوا: أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الجَلِيلِ».
    إشعياء ٩: ١، ٢ ومتّى ٤: ١٥ ويوحنا ١: ٤٦
    ليس هذا جواباً لما قاله نيقوديموس، ولكنهم لجأوا إليه لأنهم لم يستطيعوا أن يبرروا أنفسهم مما فعلوه، فأخذوا يعاتبون نيقوديموس بكلام ناتج عن الغيظ والهزء. واستنتجوا من طلبه الإنصاف ليسوع أنه من أتباعه.
    أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الجَلِيلِ قالوا هذا تهكماً لأنهم كانوا يعلمون جيداً أنه ليس كذلك، فكأنهم قالوا «أنت من تلاميذ ذلك الجليلي، ولا أحد يسلم بدعوى يسوع إلا من كان من أهل وطنه وقد أعماه الهوى حتى لا يفرق بين الحق والباطل».
    لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الجَلِيلِ استدلالهم هنا كالاستدلال في ع ٤١. وقصدوا بذلك إبطال دعوى يسوع. وقصدوا «بالنبي» هنا من يستحق أن يدَّعي أنه المسيح، فلا نظن أن مثل هؤلاء المعلمين يجهلون أن يونان النبي كان من تلك البلاد. ولعل منها النبيين هوشع وناحوم أيضاً. وظن البعض أنهم لغيظهم لم يفطنوا للحقيقة.
    ٥٣ «فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ».
    انصرف أعضاء المجلس خائبين مغتاظين، لم يفعلوا شيئاً إذ عجزوا عن تحقيق مقاصدهم في المسيح. وعلة عجزهم خوفهم من الشعب، وامتناع الخدام عن طاعتهم، ومعارضة نيقوديموس في المجلس. وتم بذلك قصد الله أنهم لا يقبضون على المسيح ما لم تأت ساعته.


    الأصحاح الثامن


    إتيان اليهود بزانية إلى يسوع للمحاكمة (ع ١ - ١١)


    ١ «أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ».
    كان يجب أن يضاف هذا العدد إلى الأصحاح السابع، ويكون جزءاً من عدد ٥٣ منه. ومفادهما أنه بعد انصراف أعضاء المجلس والشعب إلى بيوتهم من أعداء يسوع وأصحابه لم يمض المسيح إلى بيته، إذ ليس له بيت، بل ذهب إلى جبل الزيتون شرقي أورشليم (راجع شرح متّى ٢١: ١). ولا يلزم من ذلك أنه قضى الليل في الخلاء هناك. ولو أنه قضى ليلته في الخلاء في الصلاة لما كان هذا غريباً (لو ٦: ١٢). ويحتمل أنه ذهب إلى بيت عنيا على السفح الشرقي حيث بيت لعازر وأختيه مريم ومرثا، فقد اعتاد التردّد إليه (يوحنا ١١: ١ ولوقا ٢١: ٣٧). ويحتمل أنه قضى بعض الليل أو كله في بستان جثسيماني غرب الجبل حيث اعتاد التردّد أيضاً (يوحنا ١٨: ٢).
    ٢ «ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ».
    ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الهَيْكَلِ الأرجح أنه كان ذلك غد اليوم الأخير من العيد.
    فِي الصُّبْحِ: أتى المسيح الهيكل باكراً ليعلم الشعب، وأتى الشعب كذلك رغبة في سماع أقواله والاستفادة منها.
    جَمِيعُ الشَّعْبِ أي عدد كثير من أهل المدينة وغيرهم ممن أتوا إليها للعيد.
    فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ كعادة معلمي اليهود وقت التعليم (متّى ٥: ١، ٢ و٢٦: ٥٥ ومرقس ٩: ٣٥ ولوقا ٤: ٢٠ و٥: ٣ وأعمال ١٦: ١٣)، ولم يُذكر هنا موضوع تعليم يسوع، والأرجح أنه تحدث عن حقيقة ملكوته وتعليم الكتاب المقدس في شأن المسيح الموعود به.
    ٣ «وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الكَتَبَةُ وَالفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الوَسَطِ».
    الكَتَبَةُ لم يذكرهم هذا البشير في إنجيله سوى هذه المرة. وكانوا حفظة الأسفار الإلهية ومفسريها، وحُسبوا علماء الأمة، وكانوا في سمو المقام والسلطة. وأبغضوا يسوع كل البغض فاتفقوا مع الفريسيين عليه. ويشير يوحنا إلى كل أعدائه «باليهود».
    امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً قدموا هذه المرأة ليسوع ليوقعوه في ما يشتكون به عليه، وظنوا يسوع يُسرّ بأن يحكم في مثل هذا الأمر ليثبت دعواه أنه المسيح، وأن له حقاً أن يقضي ويدين. وتوهموا أنهم يستطيعون تملقه بطلبهم نصيحته فيخدعونه ويصطادونه.
    أَقَامُوهَا فِي الوَسَطِ أتوا بها إلى حيث كان يسوع يعلّم، ثم أحاطوا به هم وأتباعهم.
    ٤ «قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، هَذِهِ المَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الفِعْل».
    يَا مُعَلِّمُ هذا من الألقاب العظيمة عند اليهود، ولم يلقبه أولئك العلماء به إكراماً بل خبثاً وخداعاً ليأنس بهم ويُصاد بسهولة.
    ٥ «وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟».
    لاويين ٢٠: ١٠ وتثنية ٢٢: ٢٢
    مُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ حكمت الشريعة على الزاني والزانية بالقتل (لاويين ٢٠: ١٠ وتثنية ٢٢: ٢٢) ولم تعيِّن نوع القتل. وحكم اليهود في عصر المسيح أن يكون بالرجم، وفي أيام حزقيال النبي بالرجم والقطع بالسيف معاً (حزقيال ١٦: ٣٨، ٤٠) ولكن إذا كانت الزانية بنت كاهن أُحرقت (لاويين ٢١: ٩).
    فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ ادعوا أنه ألغى الوصية الرابعة فسألوه حكمه بمقتضى السابعة.
    ٦ «قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ».
    لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ كما فعلوا بعدئذ في أمر إعطاء الجزية لقيصر (متّى ٢٢: ١٧، ١٨). وظنوا أنهم يوقعونه في مخالفة الشريعة اليهودية مهما كان حكمه، فإن حكم بقتل الزانية بمقتضى شريعة موسى شكوه إلى الرومان بأنه اختلس حقوقهم وتصرَّف تصرُّف ملك، لأن سلطان الحكم بالموت لم يكن لأحدٍ من اليهود وقتئذ (يوحنا ١٨: ٣١). ولم يكن القتل عقاب الزانية حسب شريعة الرومان. فلو حكم بقتلها خالف شريعتهم. وإن حكم بإطلاقها شكوه إلى الشعب بأنه خالف شريعة موسى والشريعة الأخلاقية، فتكون دعواه بأنه المسيح باطلة.
    فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ على الغبار الذي يغشي بلاط الهيكل. ومن أتى مثل ما أتاه يسوع أتى ذلك ما اتفاقاً لانشغال باله بأمر من الأمور، وأما قصداً لبيان عدم الاكتراث بالسائلين وعدم إرادته الإجابة. وقصد المسيح هنا بما فعله بيان أنه لم يُرد أن يقوم مقام القاضي ليحكم بذنب تلك المرأة أو ببراءتها، أو نوع عقابها إن كانت مذنبة. فعمله هنا يكون كقوله في موضع آخر «يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» (لوقا ١٢: ١٤). وأشار أيضاً إلى أنه علم مكرهم، وأنهم لم يسألوه بغية الفائدة، وأنه لا يحترم وجودهم ولا سؤالهم.
    ٧ «وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلا خَطِيَّةٍ فَليَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!».
    تثنية ١٧: ٧ ورومية ٢: ١
    وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ لم يُرد الكتبة والفريسيون أن يحسبوا سكوت المسيح وعمله دليلاً على رفضه أن يقوم مقام القاضي، بل قصدوا أن يجبروه على الجواب بإلحاحهم.
    بِلا خَطِيَّةٍ تدل القرينة على أنه قصد بالخطية الزنا وما شابهه من مضادات العفّة (لوقا ٧: ٣٧).
    فَليَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ أشار بذلك إلى أمر الشريعة بأن يبدأ الشهود برجم المذنب (تثنية ١٧: ٧). ومعنى قوله «إني لا أحكم في هذه القضية، فإن كنتم قد تحققتم إثم المرأة كما ادعيتم فأنتم تعلمون ما هو عقابها بمقتضى شريعة موسى، وتعلمون ما تحكم به في شأن الشهود من أنهم هم الذين يبدأون الرجم. فإن كنتم غيورين للشريعة وجب أن تقوموا بما تطلبه. فإذاً حكمي الذي تطلبونه هو أن البريء منكم فكراً أو قولاً أو فعلاً يجب أن يبدأ في رجمها». وحوّل أفكارهم بما قاله عن خطيتها إلى خطاياهم، وأمرهم أن يدينوا أنفسهم أولاً ثم يدينونها. وبهذا الجواب أبكم مجربيه بدون أن يبرر المرأة أو يدينها، وأكرم شريعة موسى باعتبار أنها عادلة لائقة.
    ولا يلزم من كلام المسيح أنه ليس للقضاة الشرعيين حق أن يدينوا المذنبين ما لم يكونوا أبرياء من خطايا أولئك، إنما كلامه مقصور على الذين أقاموا أنفسهم مشتكين وقضاة.
    ٨ «ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ».
    قصد المسيح بهذا أنه لا جواب غير ما ذُكر. فهم كانوا قد أشاروا إلى ما كُتب في شريعة موسى بياناً أنه يجب تطبيقها، وأما هو فأشار إلى الشريعة المكتوبة على صفحات ضمائرهم بإصبع الله، وتركهم يدينون أنفسهم بها، ويدينون المرأة كذلك إن شاءوا.
    ٩ «وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً، مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الوَسَطِ».
    رومية ٢: ٢٢
    ما قيل في هذه الآية يظهر قوة الضمير على تبكيت الإنسان على الإثم. وواضح أن ضمائر أولئك الناس شهدت عليهم بأنهم ليسوا أبرياء، وتبيّن لهم أنهم ليسوا أهلاً لأن يكونوا قضاة على تلك المرأة ومعاقبين لها. ولا شك أن المسيح أيقظ ضمائرهم ليحكموا على نفوسهم. فجرى عليهم مثل ما جرى على الجنود الذين ذهبوا ليمسكوا يسوع «رَجَعُوا إِلَى الوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْض» حين قال لهم «إِنِّي أَنَا هُوَ» (يوحنا ١٨: ٦).
    خَرَجُوا صار الشاكون مشكوين، وانزعجوا من حضور المسيح لأنه عرف أفكارهم وأعمالهم، وخجلوا من الجمع المشاهد لهم إذ عرف بعدم استقامتهم، فلم يجدوا ملجأً سوى الانصراف. ومن دواعي انصرافهم أن مؤامرتهم كانت عبثاً ولم يبق لهم غرضٌ من بقائهم.
    مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ جرياً على عادة سبق الكبير للصغير. والمرجح أن إتيانهم كان كذلك. ولا يلزم من ذلك أن خطايا الكبار كانت أكبر من خطايا الصغار، ولا أن توبيخات ضمائرهم أشد ورغبتهم في التخلّص من نظر المسيح أوفر.
    وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ أي لم يبق أحد من المشتكين من الكتبة والفريسيين، لكن بقي التلاميذ وبعض الجمع الذين كانوا يسمعون تعليمه قبل مجيء أولئك.
    وَالمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الوَسَطِ أي وسط التلاميذ والجمع المذكور في عدد ٢. لو قصد الكتبة والفريسيون أن تحاكم المرأة بالعدل لكانوا أخذوها وقتئذ إلى المعيّنين للحكم، ولكن إذ لم يكن مقصدهم ذلك تركوها.
    ١٠ «فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى المَرْأَةِ، قَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ المُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟».
    فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ أي بعد ما شغل دقائق منحنياً.
    لَمْ يَنْظُرْ أَحَداً من الذين أتوا بها.
    أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ قال هذا ليسمع الحاضرون من الجمع لكي لا يلوموه بعد.
    ١١ «فَقَالَتْ: لا أَحَدَ يَا سَيِّدُ. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: ولا أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي ولا تُخْطِئِي أَيْضاً».
    لوقا ٩: ٥٦ و١٢: ١٤ ويوحنا ٣: ١٧ ويوحنا ٥: ١٤
    فَقَالَتْ لا أَحَدَ لم تجبه بغير هذا على سؤاله، وليس فيه شيء من طلب رحمة ولا تقديم عذر. ولم تُظهر شيئاً مما كان في ضميرها. ولكن المسيح عرف أفكارها وعاملها بمقتضى حكمته وشفقته على الخطاة. وإذ لم يبق مشتكٍ ولا شهود ولا إثبات، لم يكن هناك ما يدعو للحكم عليها، فسقطت الدعوى من تلقاء نفسها.
    ولا أَنَا أَدِينُكِ عرض المسيح على المشتكين أن يرموها بالحجارة إن كانوا أبرياء فيدينونها بذلك فعلاً فلم يريدوا، وهو لم يرد أن يدينها بالموت. فمعنى قوله للمرأة كمعنى سكوته قبلاً عن جواب الفريسيين، وكقوله لبيلاطس «ملكوتي ليس من هذا العالم» (لوقا ١٢: ١٥). أي أنه لم يرد أن يمارس وظيفة القاضي والملك في الأمور الأرضية.
    ولم يبررها المسيح بما ذُكر، بدليل قوله «لا تخطئي أبداً». ولم يقل إنها لا تستحق العقاب على إثمها، إنما أبان أنه لا يريد أن يحكم بما تستحقه من قصاص.
    وكلامه لهذه الخاطئة ليس ككلامه لواحدة مثلها أظهرت علامات التوبة، فقال لها «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ.. اِذْهَبِي بِسلامٍ» (لوقا ٧: ٤٨، ٥٠). وأما هذه فلم يقل لها ذلك لأنها لم تظهر علامة التوبة. ولكن في كلامه إشارة إلى أنها تقدر أن تنال المغفرة إذا تابت، لأنه لم يقل لها «لا تزني بعد لكيلا يدينك إنسان» بل قال «لا تخطئي لتنالي الرحمة من الله». ولعل كلمات المسيح أثرت فيها أكثر من كل شكاوى الفريسيين وتهديداتهم.
    ولم يرد لهذه المرأة ذكر بعد ذلك، ولا نعلم أسمعت من المسيح واستفادت أم لا؟ فقد غابت عن أبصارنا كما غاب الفريسيون عنها منذ «خرجوا واحداً فواحداً». ورجاء الخلاص لتلك الخاطئة طوعاً لأمر المسيح ليس بأقوى من رجاء الخلاص لأولئك المرائين.
    أظهر يسوع حكمة عظيمة بأنه لم يقع في الحفرة التي أخفاها له أعداؤه مكراً وبغضاً، وبإكرامه شريعة موسى، وبأنه لم يدن المرأة بموجبها، وبإفحام خصومه وإيقاظ ضمائرهم وإجبارهم على أن يغادروا المكان في خجل، وتوبيخه على الخطايا الخفية والظاهرة المضادة للعفاف، وإعلان كراهيته للإثم الذي ارتكبته المرأة، وأمره بحياة التقوى. ونتعلم من هذا أنه يجب علينا أن ندين أنفسنا أكثر مما ندين غيرنا. وأن نجتهد في حفظ أنفسنا من الخطية أكثر مما نجتهد لنرفع حجراً نرجم به غيرنا.

    يسوع نور العالم (يوحنا ٨: ٢ - ٢٠)


    ١٢ «ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: أَنَا هُوَ نُورُ العَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلا يَمْشِي فِي الظُّلمَةِ بَل يَكُونُ لَهُ نُورُ الحَيَاة».
    يوحنا ١: ٤، ٥، ٩ و٣: ١٩ و٩: ٥ و١٢: ٣٥، ٣٦، ٤٦
    ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً نستنتج من ذلك أن وعظ يسوع كان في وقت غير وقت الحادثة المذكورة (في ع ١ - ٧) لأنه في تلك كان الفريسيون قد انصرفوا، وفي هذه كانوا حاضرين (ع ١٣). ولعل الحادثتين كانتا في وقتين مختلفين من يوم واحد.
    قال بعضهم (ولعله أصاب) إن كلام المسيح هنا مبني على بعض المناظر التي كانت في عيد المظال، كما قلنا إن قوله «إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب» مبنيّ على سكب الماء في الهيكل نظراً للصخرة التي خرج منها الماء لبني إسرائيل في البرية. فكلامه عن النور مبني على عادتهم أن يوقدوا في دار الهيكل مصابيح كبيرة من ذهب على أربع منارات غير المنارة التي في قدس الأقداس، وكان علو كل واحدة منها نحو ١٥ متراً لتنشر ضوءها على كل المدينة. وكان الناس يرقصون مسرة في دور الهيكل ويترنمون بالأغاني الروحية ويعزفونها على آلات الطرب تذكاراً لعمود النار الذي كان يتقدم بني إسرائيل في البرية. ويقوّي هذا الظن أن يسوع قال هذا وهو واقف في خزانة الهيكل (ع ٢٠). وكانت الخزانة في دار النساء في المكان الذي كانت فيه المنارات الأربع تضيء في ليالي العيد.
    أَنَا هُوَ نُورُ العَالَمِ انظر الشرح في يوحنا ١: ٤، ٩. «العالم» هنا كل نسل آدم، والمسيح هو نوره الحق، لأنه كان منذ بدء العالم معلّم البشر ومرشدهم إلى السماء. وكان في وقت خطابه يضيء بنوره في الهيكل وهو يعلم حقائق الحياة الأبدية، وكان على وشك أن يضيء بنوره ليس في الهيكل فقط ولا في أورشليم ولا في اليهودية، بل في العالم كله. أعلن يسوع نفسه لليهود بهذا التشبيه أنه هو المسيح الموعود به، فقد تنبأ أنبياء التوراة بصفته هذه (إشعياء ٩: ٢ و٤٣: ٦ و٤٩: ٦ وملاخي ٤: ٢). فكما كان عمود النار لبني إسرائيل زمان غربتهم في البرية، صار المسيح كذلك لشعبه، ويكون لهم كذلك إلى الأبد.
    طلب اليهود منقذاً لأمتهم زمنياً، وقدَّم يسوع نفسه مرشداً روحياً لكل الأمم في هذا العالم إلى العالم السماوي.
    مَنْ يَتْبَعْنِي أي كل من يؤمن أني المسيح. وليس ذلك فقط بل يتمثل بي ويطيعني دائماً. فالاتباع ليس مرة واحدة، بل هو استمرار الإنسان في كل حياته على ما ذُكر. فكما أن المسيح نورٌ لا ينطفئ أبداً، كذلك يجب أن يتبعه المؤمن بلا انقطاع. وهذا الاتباع هو الشرط للتمتع بفوائد ذلك النور.
    بَل يَكُونُ لَهُ نُورُ الحَيَاةِ أي النور الذي يقود إلى الحياة الأبدية. قال قبلاً إنه هو «ماء الحياة» «وخبز الحياة» وهنا قال إنه «نور العالم». فالمؤمن بالمسيح يتخذه كذلك، ويعرف به طريق الحياة، فيحفظه حضور المسيح في قلبه من الخطية، وينقذه من الهلاك، ويقوده إلى سُبُل القداسة والسعادة (يوحنا ١٢: ٤٦). وهذه الآية ليست مجرد خبر، بل هي وعد أيضاً، وهو أن الذي لا يتكل على حكمة نفسه أو إرشاد غيره من البشر بل ينظر إلى المسيح، يقوده المسيح بكلامه وروحه فينجو من الضلال.
    ١٣ «فَقَالَ لَهُ الفَرِّيسِيُّونَ: أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً».
    يوحنا ٥: ٣١
    انظر شرح يوحنا ٥: ٣١. تطلب الشريعة شاهدين لإثبات القضية، فلهذا رفض الفريسيون أن يسلموا بقوله لمجرد شهادته لنفسه، وأمكنهم أن يقوّوا اعتراضهم بقول المسيح قبلاً «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً» (يوحنا ٥: ٣١).
    شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً أي لا تُقبل شرعاً لأنها بلا دليل.
    ١٤ «أَجَابَ يَسُوعُ: وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لأنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فلا تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي ولا إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ».
    يوحنا ٧: ٢٨ و٩: ٢٩
    لا تناقض في ما قاله هنا مع قوله في يوحنا ٥: ٣١ لأنه لا يلزم أن الذي يُطلب مرة من الشهادة يُطلب دائماً، فالمرسَل الذي أثبت صحة إرساليته مرة لا يحتاج لأن يثبتها كلما تكلم عنها. فقوله السابق كان قبل أن أثبت دعواه بشهود، ثم أثبت دعوى أنه رسول الله بشهادة المعمدان وشهادة الآب له بالآيات التي صنعها على يده، وبالنبوات التي تمت فيه. فحقَّ له أن يطلب تصديق دعواه بمجرد قوله. ووضع نفسه أولاً موضع سائر الناس بالنظر إلى الشرع في الأمور الأرضية تنازلاً وتواضعاً. ولكن هنا كانت مقتضيات الحال غير ما كانت سابقاً، لأن دعواه هنا ليست مما يقبل شهادة الغير لأنها مما يقيِّم هو نفسه به. فقوله «أنا هو نور العالم» متوقف على شعور نفسه بنفسه، فلا يستطيع أحد غيره أن يشعر به ليعرفه ويشهد به، ولذلك يُستثنى من قوله «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً» ويبدله بقوله «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق». ومع ذلك كله رضي أن يضع نفسه تحت ذلك القانون (ع ١٧، ١٨) بعد توبيخه إياهم على طلبهم أن يثبت دعواه.
    لأنِّي أَعْلَمُ تطلب الشريعة شاهدين لأن واحداً بمفرده قد يخطئ أو يكذب لغرض من الأغراض. فشهادة المسيح ثابتة لأنها ليست شهادة إنسانية بل شهادة إلهية باعتباره الله، فهو لا يخطئ ولا يتكلم بالهوى.
    مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ أي من عند الآب (يوحنا ١٦: ٢٨) وأتيت إلى هذا العالم لأتجسد فيه.
    وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ أي السماء بواسطة الموت (يوحنا ٧: ٣٣) وهذا جواب لقولهم السابق «ولكن هذا نعلم من هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو». فكأنه قال: معرفتكم بي قاصرة على حياتي الجسدية الأرضية، وهي جزئية ناقصة. وأما حياتي الروحية فلا تستطيعون معرفتها إلا بشهادتي، وسلطاني الذي أخذته من الآب، والأوامر التي أوصاني بها.
    ١٥ «أَنْتُمْ حَسَبَ الجَسَدِ تَدِينُونَ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً».
    يوحنا ٧: ٢٤ ويوحنا ٣: ١٧ و١٢: ٤٧ و١٨: ٣٦
    أَنْتُمْ حَسَبَ الجَسَدِ تَدِينُونَ أي بقولكم «أنت تشهد لنفسك. شهادتك ليست حقاً». تكلم في ما سبق عن الشهادة ولم يغيّر الموضوع هنا، إلا أنه بدل لفظة الشهادة بالدينونة بناءً على أنها غاية الشهادة ونتيجتها. ومعناه: إنكم تحسبونني كسائر الناس الذين يخطئون ويكذبون، لأنكم تنظرونني في هيئة إنسان وديعاً متواضعاً، ولا شيء من الظواهر يدل على أصلي السماوي. ولكن لو أصغيتم إلى كلامي وأدركتم معناه الروحي وحكمتم بمقتضاه لعرفتم أني المسيح نور العالم. فقوله هنا كقوله سابقاً «لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكماً عادلاً». ودانوا حسب الجسد بثلاث طرق: (١) النظر إلى المسيح كمجرد إنسان. (٢) حكمهم عليه بأفكار وآراء جسدية لظنهم وجوب أن يكون المسيح ملكاً أرضياً. (٣) إرادتهم أن يحكموا في دعواه بمقتضى القوانين الجسدية المعتادة، كطلب شاهدين الخ. وأخطأوا بالطرق الثلاث كالذين حكموا على المسيح أنه يستحق الصلب مع أن الله حكم بأنه يستحق المجد.
    أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً انظر شرح يوحنا ٣: ١٧. ويحتمل قوله هنا ثلاثة معان: (١) أنه لا يدين أحداً إلا مع الآب (ع ١٦). (٢) أنه لا يدين الآن كما يدين في مجيئه الثاني، فإنه جاء أولاً فادياً دياناً وسيأتي أخيراً دياناً لا فادياً. (٣) أنه لا يدين كما هم يدينون بالجهل والقساوة والظلم والهوى.
    ١٦ «وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ، لأنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَل أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
    ع ٢٩ ويوحنا ١٦: ٣٢
    وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ بيّن سابقاً أنه لم يُرسَل ليدين (يوحنا ٣: ١٧) وصرح هنا بأنه اضطُر أن يدين الذين رفضوا أن يقبلوا خلاصه، كما دان الفريسيين في متّى ٢٣. وكانت دينونته حقاً وصحيحة لأنها ليست كدينونتهم، ولأنه إله لا مجرد إنسان، فلا يخاف ولا يخطئ ولا يظلم.
    لأنِّي لَسْتُ وَحْدِي انظر شرح يوحنا ٥: ٣٠. أظهر هنا أن كل أعماله في الدينونة موافقة لإرادة الآب وحقه ومقاصده، فلا يمكنهم أن ينكروا صحة حكم الله، ولذلك لا يستطيعون أن ينكروا صحة حكم يسوع لتلك الموافقة.
    بَل أَنَا وَالآبُ الخ أي أن ما يفعله الآب يفعله بي لأني كلمته.
    ١٧ «وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ».
    تثنية ١٧: ٦ و١٩: ١٥ ومتّى ١٨: ١٦ و٢كورنثوس ١٣: ١ وعبرانيين ١٠: ٢٨
    نَامُوسِكُمْ نسب الناموس إليهم لأنهم ادعوا أنهم مفسرون، واستشهدوا على يسوع ليبينوا أنه مذنب وليشتكوا عليه بأنه مخالف له، مع أنه خضع لناموسهم طوعاً واختياراً، بينما هم مكلفون به ومجبرون عليه، ولذلك لم يقل «ناموسنا» دون أن يقصد بذلك إبطال الناموس أو نقضه (متّى ٥: ١٧).
    شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ تثنية ١٧: ٦ و١٩: ١٥ معنى الحق هنا الأمر المثبت بمقتضى مطالب الشرع.
    ١٨ «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
    يوحنا ٥: ٣٧
    هذا جواب لقول الفريسيين «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً» (ع ١٣). فالمسيح بعد أن بيّن عدم اضطراره إلى الشهود كالناس، وأن شهادته لنفسه حق وكافية، شاء أن يتنازل إلى إثبات دعواه بالشهود كما يفعل الخطاة الذين هم عُرضة للخطأ، وذلك كما فعل يوم معموديته إذ قال للمعمدان «اسْمَحِ الآنَ، لأنَّهُ هَكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ» (متّى ٣: ١٥) وكما فعل لبطرس في أمر جزية الهيكل (متّى ١٧: ٢٧).
    أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي قال إنه «نور العالم» وشهدت بذلك سيرته وتعليمه. والشمس لا تحتاج إلى دليل على وجودها لأن ضوءها يشهد لها.
    وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي أخطأ اليهود بظنهم قول المسيح شهادة شاهدٍ واحدٍ بشريٍ، والحق أن الله هو الذي كان يتكلم بفمه، وكان يجب عليهم أن يروا لاهوته تحت حجاب ناسوته، وأنه نائب عن الآب في كل أعماله.
    ١٩ «فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا ولا أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً».
    ع ٥٥ ويوحنا ٦: ٣ ويوحنا ١٤: ٧
    أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟ هذا ليس نتيجة الشك، لأن المسيح أوضح لهم مراراً أن الله أبوه، إنما هو استهزاء به وإنكار لدعواه، فكأنهم قالوا: أهذا شاهدك؟ أين هو؟ دعه يأتي ليشهد!
    لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا ولا أَبِي أي يدل سؤالكم على جهلكم إيانا، وعدم إرادتكم أن تعرفونا، وعلى جهلكم عماكم الروحي، وإلا لما سألتم ذلك وأنا أمامكم. نعم إن رؤية الله بالمسيح بعين الجسد من المحال، إنما يرى ذلك بعين الإيمان وفقاً لقول المسيح «أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» (يوحنا ١٤: ١٠).
    لَوْ عَرَفْتُمُونِي الخ جهل أحد الأقنومين يتضمن جهل الآخر، فعدم معرفة المسيح يستلزم عدم معرفة الآب الذي أعلنه المسيح. وعدم معرفة الله الحقيقية تمنع معرفة الابن. وعلة عدم معرفتهم الأمرين هو عدم إرادتهم الوقوف على البراهين والأدلة على ذلك، لا نقصان تلك البراهين وضعف الأدلة.
    ٢٠ «هَذَا الكلامُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ، لأنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ».
    مرقس ١٢: ٤١ ويوحنا ٧: ٨ ، ٣٠
    لشدة أهمية قول المسيح «أنا هو نور العالم» عند يوحنا وتأثيره فيه، ذكر بعد نحو خمسين سنة المكان الذي قاله فيه.
    فِي الخِزَانَةِ انظر شرح مرقس ١٢: ١٤. كانت الخزانة في أحد أطراف دار النساء، قرب المحكمة الكبيرة التي كان يجتمع فيها أعضاء مجلس السبعين. فإن كانوا مجتمعين حينئذ أمكنهم أن يسمعوا كلامه. وكانت في تلك الدار المنارات التي ذُكرت في شرح ع ١٢.
    فِي الهَيْكَلِ أي في إحدى دوره. فإذاً اختار أنسب مكان في المدينة ليخاطب الجموع.
    وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ مع أنه في وسط أعدائه وفي بيتهم وتحت سلطانهم. والذي منعهم من ذلك هيبته، وخوف محاماة الشعب عنه، وقوته الإلهية لأن ساعته لم تكن قد أتت، أي الوقت الذي عيَّنه الله لموته فداء.

    مخاطبة يسوع لليهود عن نفسه وإرساليته (ع ٢١ - ٥٩)


    ٢١ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي، وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا».
    يوحنا ٧: ٣٤ و١٣: ٣٣ ع ٢٤
    قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً في وقت آخر، والأرجح أنه لم يكن بعيداً عما ذُكر آنفاً. وكان السامعون من كل صنوف أعدائه لا فرقة واحدة منهم، بدليل تسمية يوحنا إياهم يهوداً (ع ٢٢).
    أَنَا أَمْضِي بتسليمي نفسي طوعاً واختياراً إلى الموت.
    سَتَطْلُبُونَنِي لا بالتوبة والإيمان بل لشعوركم باحتياجكم إليَّ، وفوات فرصة الحصول عليّ، لأنكم رفضتم أني المسيح. ولا تجدون المسيح العالمي الذي تطلبونه لأنه لم يكن ولا يكون (راجع شرح يوحنا ٧: ٣٤).
    وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ أي في حال الإثم التي أنتم فيها. هذا نتيجة رفضهم إياه لأنه أتى ليخلصهم من خطاياهم فرفضوا واسطة نجاتهم الوحيدة، فبقوا بلا توبة ولا مغفرة ولا تبرير. ولا إشارة هنا إلى خراب أورشليم بل إلى هلاكهم الروحي. ويتبيّن مما قيل هنا أن الموت لا يفصل بين الخطاة وخطيتهم، فإنهم يموتون فيها جسداً، ويقومون فيها، ويقفون قدام الله يوم الدين وهم فيها، ويُعاقَبون عليها في جهنم بالموت الثاني الذي هو المقصود هنا خاصة. ويتبيّن منه أيضاً أن عدم معرفة المسيح والموت في الخطية شيء واحد.
    حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا هذا كما في يوحنا ٧: ٣٤ و١٣: ٣٣. فإن المسيح كان ماضياً إلى الله وإلى السماء محل القداسة والنور والسعادة. وعجزهم عن الذهاب إلى هناك هو عدم سماح الله به لهم، لأنه ثواب المؤمنين، ولأنهم هم لا يستحقونه لسوء صفاتهم، ولأن المسيح لا يساعدهم على ذلك، وهو وحده طريق الخلاص. وقول المسيح هنا ينفي كل توبة بعد الموت. وذُكر سبب مضي المسيح في يوحنا ١٤: ٣ و١٧: ٢٤.
    ٢٢ «فَقَالَ اليَهُودُ: أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟».
    أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ هذا تفسيرهم لقوله «حيث أمضي لا تقدرون أنتم أن تأتوا» فكأنهم قالوا له: إن كنت قصدت بذلك أن تمضي إلى دار الموتى فنحن لا نريد أن نأتي إليك هناك، ولا يعلم أحد وقت موته إلا من يقتل نفسه (وقد اعتقد اليهود أن قاتل نفسه يُعاقب في أشر مكان في جهنم، كما جاء في أقوال يوسيفوس المؤرخ اليهودي المشهور، وأن كل أولاد إبراهيم لا بد يذهبون إلى السماء). فإن كنا لا نجتمع بك في العالم الآتي فأنت تقصد قتل نفسك، وهو ما يؤدي بك إلى أشر أماكن جهنم وأبعده عن باقي بني إسرائيل. وهذا استهزاء بالمسيح، كما سبق أن فسروا كلامه بأنه يقصد الذهاب إلى شتات اليونانيين ليبشر الأمم (يوحنا ٧: ٣٥). وهو تجديف فظيع.
    ٢٣ «فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا العَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا العَالَمِ».
    يوحنا ٣: ٣١ ويوحنا ١٥: ١٩ و١٧: ١٦ و١يوحنا ٤: ٥
    أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ... أَنْتُمْ مِنْ هَذَا العَالَمِ هاتان الجملتان بمعنىً واحد، والثانية تفسر الأولى. ومعنى «العالم» هنا حال الناس المنفصلين عن الله غير الخاضعين لمشيئته. وأشار المسيح بقوله «هذا العالم» إلى أنهم أرضيون أصلاً وطبعاً، مولودون من أرضيين ورثوا منهم طبيعة أرضية خاطئة، محتاجون أن يولدوا ثانية ليستطيعوا دخول ملكوت الله (يوحنا ٣: ٥، ٦) وأنهم باختيارهم قيدوا أنفسهم بما هو أرضي وفاسد، وسلَّموا بالمبادئ الشريرة المتسلطة على أهل هذه الأرض، وأنهم عرضة للهلاك مع أهل العالم.
    أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ.. فَلَسْتُ مِنْ هَذَا العَالَمِ بيّن بهذا الفرق العظيم بينه وبينهم أصلاً وطبعاً وفكراً وفعلاً. وقد مرّ الكلام على مثل هذا في يوحنا ٣: ٣١. وما قاله المسيح في الفرق بينه وبين اليهود حينئذ يصدُق على الفرق بين المؤمنين به وغير المؤمنين الآن وإلى الأبد، لأنهم يختلفون في الطبيعة وهم أحياء، ويختلفون بعد الموت في الطبيعة والحال والمكان.
    ٢٤ «فَقُلتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُم».
    ع ٢١ مرقس ٦: ١٦
    فَقُلتُ لَكُمْ قال ذلك في ع ٢١ وعلته ما قاله في ع ٢٣ وهو أنهم دنيويّون فاسدون متمسكون بخطاياهم، ولم يتمسكوا بالمسيح لينجوا من الهلاك وينالوا الحياة.
    إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا الإيمان بالمسيح هو الواسطة الوحيدة للخلاص فباب السماء لا يزال مفتوحاً لهم بالمسيح.
    أَنِّي أَنَا هُو صرح المسيح بهذا أنه هو الله، فهذا معنى «أنا هو» عند اليهود من يوم ظهور الله لموسى ولهم في مصر، إذ قال له «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج ٣: ١٤). وقال في نبوة إشعياء «لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ» (إشعياء ٤٣: ١٠). وجاء بهذا المعنى في ع ٢٨، ٥٨. ومعنى العبارة أن يسوع هو المسيح الإله المتجسد، الحي من الأزل، وواهب الحياة للمؤمنين به.
    ٢٥ «فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مِنَ البَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ».
    مَنْ أَنْتَ؟ قصدوا بهذا الاستهزاء بدعواه وتوقعوا أن جوابه يمكِّنهم من الشكوى عليه إلى المجلس أنه مجدف، ولهذا لم يقل لهم صريحاً: أنا المسيح، لكنه ذكر ما يفيد ذلك.
    أَنَا مِنَ البَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ اختلف المفسرون في معنى هذه الجملة، فرأى بعضهم إن معنى «البدء» هنا أول خدمته، فيكون معناها: أنا أشهد لنفسي الآن كما شهدت لها منذ أول تبشيري، فلا غيَّرتها ولا زدتُ عليها، فلم تبق لكم حاجة إلى أن تسألوني ما سألتم، إنما عليكم أن تذكروا ما أوضحته لكم دائماً. ورأى البعض الآخر أن معنى «البدء» هنا الأزل (يوحنا ١: ١). وعلى هذا يكون معناها: أنا منذ الأزل ما صرحتُ به الآن أني «أنا هو». ورأى غيرهم أن معنى «البدء» هنا التمام، فيكون معناها: أوضحتُ لكم الحق تماماً من أول الأمر إلى آخره، فافحصوا شهادتي لنفسي تعلموا من أنا. وأشار بذلك إلى قوله إنه «الماء الحي» وإنه «خبز الحياة» الذي نزل من السماء وإنه «نور العالم». والأرجح أن التفسير الأول هو الصحيح.
    ٢٦ «إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ، لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلعَالَمِ».
    يوحنا ٧: ٢٨ ويوحنا ٣: ٣٢ و١٥: ١٥
    إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ علاوة على ما قتله إنكم «من أسفل» و «تموتون في خطاياكم» و «حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا» وجواباً على إهانتكم إيّاي ومقاومتكم لي.
    وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ فوق ما حكمتُ به قبلاً. ومن تلك الأشياء في ع ٣٤، ٣٧، ٤٠، ٤١، ٤٣، ٤٤.
    لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ أي الله الذي هو الإله الحق أرسلني، فتعليمي منه، فلا بد أنه صادق مهما قلتم عليه.
    وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلعَالَمِ علانية ليعلمه كل إنسان. معنى قوله «ما سمعتم منه» ما أوصاني أن أتكلم به في شأن طريق النجاة من جهنم، ونوال الحياة الأبدية، وما وبختكم به على خطاياكم. وقول المسيح هنا كقوله في يوحنا ٥: ٣٠. وتكلم المسيح هنا باعتبار أنه رسول الله إلى البشر فادياً ومخلصاً لا باعتباره ابن الله الأزلي الذي يعرف كل شيء من تلقاء نفسه، ولا يحتاج إلى أن يخبره الآب بشيء.
    ٢٧ «وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآبِ».
    لم يفهموا من قوله «الذي أرسلني» أن الآب أرسله. ولو شاءوا أن يفهموا لفهموا، فسبب جهلهم أنهم رفضوا أن يؤمنوا به.
    ٢٨ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَل أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي».
    يوحنا ٣: ١٤ و١٢: ٣٢ ورومية ١: ٤ ويوحنا ٥: ١٩، ٣٠ ويوحنا ٣: ١١
    فَقَالَ لأنهم لم يفهموا كرر لهم ما قاله قبلاً وزاد عليه.
    مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ أشار بذلك إلى صلبه (يوحنا ١٢: ٣٢. انظر شرح يوحنا ٣: ١٤) وأنهم هم الذين يصلبونه. ومرَّ الكلام على ابن الإنسان في شرح يوحنا ١: ٥١.
    تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ تنبأ يسوع أنهم سيعرفون بعد صلبه أنه هو المسيح، وأنه لم يتكلم بمجرد سلطانه بل بسلطان الآب، ولم يتكلم إلا بما عيَّن الآب له. ووسائط معرفتهم إياه عند صلبه وبعده هي الظلمة، والزلزلة، وانشقاق حجاب الهيكل، وقيامته، وحلول الروح القدس، والمعجزات التي صنعها الرسل باسمه. وبعض الذين لم يعرفوه بهذه عرفوه يوم خراب أورشليم حين تحققت نبوته. وأما الذين لم يعرفوا بكل ذلك فلا بد سيعرفونه يوم مجيئه الثاني، لأنه «هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ» (رؤ١: ٧) ويحتمل قوله «تفهمون» أن يكون خطاباً للسامعين وقتئذ خاصة، أو للأمة اليهودية. والثاني هو الأرجح. والمقصود «بالفهم» هنا إما إدراك ما يقودهم إلى الإيمان به والخلاص، وإما علم ما ينتهي بهم إلى الندامة واليأس على انتهاء يوم الرحمة وفوات فرصة النعمة. ومعنى «أني أنا هو» أي أني المسيح على ما ذُكر في شرح ع ٢٤.
    وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي أي أني رسول الله كما في يوحنا ٥: ١٩، ٣٠ وأنه متحد بالآب في كل ما قال وفعل.
    كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي قارن هذا بما في ع ٧، ١٦، ٢٦. أشار بذلك إلى الحقائق التي علَّمها منذ الأزل باعتباره كلمة الله الذي كان في البدء عنده، وأتى بها رسالة من الآب ليعلنها للناس متجسداً.
    ٢٩ «وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لأنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ».
    يوحنا ١٤: ١٠ و١: ١ ع ١٦ ويوحنا ٤: ٢٤ و٥: ٣٠ و٦: ٣٨
    الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي هذا تكرار لما صرّح به من الاتحاد التام بين الآب والابن، والاتفاق الكامل بينهما في الإرادة والقصد، وأن الابن هو من ينفذ قولاً وعملاً ما أراده الآب حتى سُرَّ به كل السرور. نعم إن الإرسال بين الناس يستلزم انفصال الرسول عن مرسِله، وليس كذلك بين الآب والابن بدليل قوله «الذي أرسلني هو معي».
    وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي ترك الناس يسوع ورفضوه (يوحنا ١٦: ٣٢). نعم إن الآب حجب وجهه عن المسيح وقتياً على الصليب، وكان ذلك لأنه حمل على الصليب لعنة الخطية عن البشر.
    أَفْعَلُ باعتبار أني ابن الله متجسداً لأُجري على الأرض عمل الفداء. كانت طاعة المسيح للآب كاملة كما كان اتحاده به كاملاً.
    مَا يُرْضِيهِ انظر متّى ٣: ١٧ وفي ٢: ٨، ويوافق ذلك ما قيل في إشعياء ٥٣: ١٠ - ١٢ ومتّى ١٧: ٥ ولوقا ٣: ٢٢ و٢بطرس ١: ١٧).
    ٣٠ «وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ».
    يوحنا ٧: ٣١ و١٠: ٤٢ و١١: ٤٥
    أراد يوحنا أن يبيّن أن بعض الناس آمنوا بيسوع، مع أن كثيرين قاوموه.
    بِهَذَا أي بما ذُكر في هذا الخطاب كله، وليس فقط بما قاله في ع ٢٩.
    آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ أي اقتنعوا بقوة كلماته كما اقتنع خدام الهيكل (يوحنا ٧: ٤٦). ولم يكن إيمانهم كاملاً ليؤول إلى خلاص النفس بل كان تصديقاً عقلياً جزئياً، فإنهم صدقوا أنه نبي أو معلم مرسل من الله، وأنه ربما كان المسيح الذي انتظروه. ويدل على ذلك قول المسيح لهم بعد ذلك.
    ٣١ «فَقَالَ يَسُوعُ لِليَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كلامِي فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلامِيذِي».
    فَقَالَ يَسُوعُ لِليَهُودِ قصد يوحنا «باليهود» رؤساءهم، وأكثرهم أعداء للمسيح، وكان بعضهم قد مال إلى تصديق دعواه فوجَّه الكلام إليهم.
    الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ظهر مما يأتي أن إيمانهم كان جزئياً إلى حين وظاهراً لا باطناً.
    إِنْ ثَبَتُّمْ جعل المسيح ثبوتهم شرطاً لتتلمذهم (انظر تفسير ذلك في شرح يوحنا ٥: ٣٨). والثبوت هو الفضيلة الوحيدة التي لا يُتصف به في الظاهر دون الباطن. ولا ثبوت حيث لا إيمان حقيقي أو تجديد قلب.
    فِي كلامِي هذا متعلق بقوله «ثبتم» والمراد تمسكهم بتعليمه وسيرتهم بموجبه (يوحنا ١٤: ٢١ و١يوحنا ٢: ٤ و٣: ٢٤ و٢يوحنا ع ٦).
    فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلامِيذِي أشار بذلك إلى أنهم ليسوا كذلك، وأنهم لم يتبعوه إلا لتأثر وقتي بكلامه، وأنه يجب عليهم تقديم برهان أقوى على صحة إيمانهم لكي يوثق به، وذلك استمرارهم على حفظ كلامه وطاعته فهم كالذين ذُكروا في يوحنا ٢: ٢٣، ٢٤.
    ٣٢ «وَتَعْرِفُونَ الحَقَّ وَالحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ».
    رومية ٦: ١٤، ١٨، ٢٢ و٨: ٢ ويعقوب ١: ٢٥ و٢: ١٢
    تَعْرِفُونَ الحَقَّ أي تزيد معرفتكم بأبي، وبحقيقتي، وبعملي، وبملكوتي، وبإنجيلي، وبكل أمور ديني. وذلك كله نتيجة الثبوت فيّ. كانت معرفتهم قاصرة عن كل تلك الحقائق، أما الذي يثبت في المسيح فيعرف بالاختبار ما لم يتعلمه بالسمع أو بالمطالعة.
    وَالحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ المقصود بالتحرير هنا الإنقاذ من العبودية الروحية أي من تسلط الشهوات الشريرة والأفكار الرديئة، ومن قوة الشيطان، ومن جرم الخطية وعاقبتها، ومن نير تعليم الفريسيين الثقيل أيضاً.
    ويدل على كون الخاطئ عبداً للخطية ما جاء في رومية ٦: ١٦ - ٢٠ و٧: ٦ و٨: ١١. والإنسان لا يستطيع أن يدرك شر عبودية الخطية ما لم يعرف الحق. ومتى أدرك أنه مستعبد ينال قوة من فوق ليطرح ذلك النير عنه. وتتقدس النفس نتيجة تصديق الحق بدليل قول المسيح في صلاته «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كلامُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا ١٧: ١٧). والحصول على الحرية الروحية هو في المسيح القائل «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ المُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متّى ١١: ٢٨). ووفق قوله في مجمع الناصرة «لأُنَادِيَ لِلمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاقِ» كما تنبأ إشعياء (لوقا ٤: ١٨ وإشعياء ٤٢: ١).
    انتظر اليهود أن المسيح الموعود به يحررهم من عبودية الرومان ولكن الحرية التي أتى بها المسيح أعظم من ذلك جداً. وتنال النفس الحرية الروحية حيت تكون أفكارها وإرادتها موافقة لأفكار الله وإرادته. وخدمة الله هي الحرية الحقيقية، وتسلط الشهوات على الإنسان هي العبودية الحقيقية وشر من كل عبودية.
    ٣٣ «أَجَابُوهُ: إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَاراً؟».
    لاويين ٥: ٤٢ ومتّى ٣: ٩ وع ٣٩
    أَجَابُوهُ أي اليهود المؤمنون إيماناً غير قلبي (ع ٣١).
    إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأحَدٍ قَطُّ أي سلالة إبراهيم من إسحاق الوارث. وإبراهيم لم يكن عبداً، إذاً نحن لسنا عبيداً ولسنا أولاد إسماعيل ابن الجارية (غلاطية ٤: ٢١ - ٢٣). وأظهروا بهذا الكلام كبرياءهم التي استولت عليهم كما استولت على سائر اليهود بافتخارهم بنسبتهم الجسدية إلى إبراهيم. ووبخ المعمدان اليهود على ذلك بقوله «ولاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً» (متّى ٣: ٩). والمفتخرون بذلك هنا أظهروا بكلامهم أنهم ليسوا تلاميذ المسيح بالحق. وكذبوا بقولهم «لم نُستعبد لأحد قط» مع أنهم استُعبدوا لمصر وبابل وأشور واليونان وخضعوا حينئذ للرومان. ومن العجب أنهم قالوا ذلك وجنود الرومان حولهم، وهم يؤدون الجزية لقيصر من العملة التي تحمل صورته وكتابته. نعم إن الرومان سلكوا سبيل الحكمة وتركوا لهم شبه الحرية في أمور دينهم، ولعل هذا سبب قولهم إنهم «لم يستعبدوا قط». ولعلهم أشاروا بذلك أنهم لم يسلّموا بتلك الحال اختياراً، وأنهم لا يعتبرون قياصرة الرومان ملوكهم الشرعيين، وأنهم مستعدون لخلع نيرهم عند أول فرصة.
    كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ الخ هذا يعرب عما في قلوبهم من الغيظ، كأنهم قالوا: إن قولك لا يصدق علينا.
    ٣٤ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلخَطِيَّةِ».
    رومية ٦: ١٦ ، ٢٠ و٢بطرس ٢: ١٩
    الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ هذا التكرار للتأكيد ولبيان أهمية ما بعده. بيّن المسيح أن قوله حق، وأنهم رفضوه بقولهم إنهم «لم يستعبدوا لأحد قط». وفسّر الحرية التي قصدها وأراد أن يمنحهم إياها ببيان العبودية التي هم فيها، وهي شر من عبودية ملوك الأرض، لأنها عبودية النفس للشهوات والخطية والشيطان.
    مَنْ يَعْمَلُ الخَطِيَّةَ أي كل من يعتاد الخطية أو يمارسها من أولاد إبراهيم وغيرهم.
    هُوَ عَبْدٌ لِلخَطِيَّةِ لأنه تحت سلطانها كالعبد تحت سلطان سيده، وقد سلّم إرادته للشيطان والشهوات، وهذه عبودية أشر من كل عبودية. وقوله «من يعمل الخطية هو عبد للخطية» مبدأ أخلاقي ذكره بولس في رومية ٦: ١٦ - ٢٠، وذكره بطرس في ٢بطرس ٢: ١٩. ونتيجة هذه الآية أن كل الخطاة عبيد باختيارهم. وأعمال الناس تبيّن إن كانوا أحراراً أم عبيداً، فالذين يسيرون في التقوى هم الأحرار، والذين يسيرون في الخطية هم عبيد. وعبيد الخطية لا يمكن أن يكونوا أولاد الله الأحرار.
    ٣٥ «وَالعَبْدُ لا يَبْقَى فِي البَيْتِ إِلَى الأَبَدِ، أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَد».
    غلاطية ٤: ٣٠
    ذكر المسيح في هذه الآية أمرين شرعيين معلومين:
    العَبْدُ لا يَبْقَى فِي البَيْتِ إِلَى الأَبَدِ أي لا حقوق شرعية له في البيت، وبقاؤه في البيت من الأمور المشكوك فيها، لأن سيده يمكن أن يبيعه أو يطرده من بيته متى شاء، كما طرد إبراهيم هاجر وإسماعيل. ومعنى «البيت» هنا الأهل والمراد بقوله «إلى الأبد» مدة الحياة.
    أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ لأن له حقوقاً شرعية في البيت، فهو من دم السيد وورثته، فلا خوف من أن يُباع أو يُطرد منه (غلاطية ٤: ٢٨ - ٣١). فإذاً بين حال الابن وحال العبد فرق عظيم، فللأول كل الحقوق الشرعية في البيت، وليس للثاني حق فيه.
    ٣٦ «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً».
    رومية ٨: ٢ وغلاطية ٤: ١٩ الخ و٥: ١
    أظهر بما مر أن اليهود في حاجة إلى التحرير، وبيَّن هنا أنه أتى ليبشرهم بالحرية ويمنحهم إياها.
    فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ قال في ع ٣٢ «الحق يحرركم» ومعنى القولين واحد لأن المسيح هو الحق وإنجيله كتاب الحق وجوهره الابن يسوع المسيح. وأعلن يسوع هنا أنه هو واهب الحرية ومتمم نبوة إشعياء القائل «الرَّبَّ مَسَحَنِي.. لأُنَادِيَ لِلمَسْبِيِّينَ بِالعِتْقِ، وَلِلمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاقِ» (إشعياء ٦١: ١).
    طلب اليهود منقذاً لأجسادهم من نير الرومان، فقدم يسوع نفسه منقذاً لنفوسهم من نير الشيطان والإثم، لأنه يجعل المؤمنين به إخوة له وورثة معه وأعضاء أهل بيت الله، فهم أولاد الله (يوحنا ١٤: ١، ٣ وأفسس ٢: ١١ - ٢٢).
    فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً هذا وفق قول الرسول «لأنَّ نَامُوسَ رُوحِ الحَيَاةِ فِي المَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الخَطِيَّةِ وَالمَوْتِ» (رومية ٨: ٢). والمسيح حررنا من عقاب الخطية لأنه حمله عنا، ومن عبودية الخطية لأنه كتب شريعته على قلوبنا، وأعطانا سلطاناً أن نصير أولاد الله. وقال «فبالحقيقة» تمييزاً للحرية التي يمنحها عن الحرية التي ادَّعوها لأنفسهم، فدعواه صحيحة ودعواهم كاذبة، وحريته روحية وحريتهم سياسية.
    ويحرر المسيح كل المؤمنين به من قيود الجهل والضلال والأوهام، ويعتقهم من سلطان الخطية وجرمها، ومن سلطة الشيطان. وهم متحدون مع الله بالمسيح، ولا يقدر أحد غير المسيح أن يمنحهم الحرية والبنوية.
    والعلاقة بين قول اليهود «إننا ذرية إبراهيم» وكلام المسيح في ع ٣٥ و٣٦ هي ظن اليهود أنه لأنهم أولاد إبراهيم هم أحرار أبناء الله ساكنون في بيته وورثة الحياة الأبدية. وأبطل المسيح صحة حكمهم بقوله «لستم أولاد الله بل أنتم عبيد الخطية». فإذاً ليس لكم من حقوق بيت الله إلا الوقتية الخارجية كما للعبيد في بيت أسيادهم. نعم إنكم سلالة إبراهيم كابن الجارية الذي طُرد، لا كإسحاق الذي بقي. فأشير عليكم أن تقبلوا مني البنوة الحقيقية والحرية الصحيحة.
    ٣٧ «أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لَكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لأنَّ كلامِي لا مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ».
    يوحنا ٧: ١٩ وع ٤٠
    أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ سلم المسيح بذلك بالمعنى الجسدي وأنكره بالمعنى الروحي، لأن طبيعتهم وأعمالهم ليستا كطبيعة إبراهيم وأعماله، فلم يكونوا مستحقين أن يسموا أولاده. وبيّن الاختلاف بينهم وبين إبراهيم في هذه الآية وآية ٣٩.
    تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي (يوحنا ٥: ١٦ و٧: ٣٢). لم يصرح المسيح بأن الذين خاطبهم وخاطبوه في ع ٣٠، ٣١ هم الذين طلبوا قتله، إنما قصد بذلك رؤساء اليهود عامة لأنهم جعلوا أنفسهم في ع ٣٣ شركاء هؤلاء، وأنهم وإيّاهم جماعة واحدة. وأظهر بذلك ضعف إيمانهم، وأن الحق في قلوبهم كالزرع في أرض محجرة لا أصل لها (متّى ١٣: ٢١).
    لأنَّ كلامِي لا مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ هذا بمعنى قوله «إنكم إن ثبتم في كلامي» ع ٣١ بتغيير اللفظ. وقصد «بكلامه» تعليمه الإنجيلي، فإن تأثيره فيهم كان وقتياً ولم يصل إلى قلوبهم وتظهر ثمرته في سيرتهم، خلافاً لتأثير الخميرة التي وُضعت في ثلاثة أكيال الدقيق وخمرت العجين كله (متّى ١٣: ٣٣).
    أخبرهم سابقاً أنهم إن ثبتوا في كلامه كانوا بالحقيقة تلاميذه. وأخبرهم هنا أنه لا موضع لكلامه فيهم، فإذاً هم ليسوا تلاميذه، لأن قلوبهم مملوءة أفكاراً دنيوية وأوهاماً فاسدة من جهته وجهة ملكوته، ولأنهم نفروا من تعليمه فأبغضوه لذلك التعليم وأرادوا قتله.
    ٣٨ «أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي، وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ».
    يوحنا ٣: ٣٢ و٥: ١٩، ٣٠ و١٤: ١٠، ٢٤
    أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي هذا كقوله في ع ٢٨. إن المسيح «كلمة الله» وعمله أن يخبر الناس بأمور الله التي رآها هو في مقامه الأزلي مع الآب، وباتحاده التام به (يوحنا ٣: ٣٢ و٥: ١٩). ولأن مصدر تعليمه الإله القدوس لزم أن يكون تعليمه مقدساً روحياً نافعاً للجميع.
    وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ في طلب قتلي وفي كل سلوككم.
    مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ أراد بأبيهم هنا من يقتدون به، وتظهر صفاته فيهم، ويعملون أعماله. وقد أظهروا ببغضهم يسوع وطلبهم قتله أنهم ليسوا أولاد إبراهيم بالحقيقة، ولا أولاد إله إبراهيم. فأعمالهم بينت من هو أبوهم، كما بينت تعاليم المسيح من هو أبوه.
    وأظهر المسيح أن اختلاف أعماله عن أعمالهم يرجع لاختلاف مصدريهما. وما قاله المسيح هنا عن اليهود يصدق دائماً على كل البشر. فأعمال كل إنسان تبيِّن من هو مصدر أفكاره وأعماله، وهل هو متعلّم من الله وملهَم من ملكوت النور، أو هل هو متأثر من ملكوت الظلمة وجنودها.
    ٣٩ «أَجَابُوا أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ أَوْلادَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ!».
    متّى ٣: ٩ وع ٢٣، رومية ٢: ٢٨ و٩: ٧ وغلاطية ٣: ٧ و٢٩
    أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ كرروا قولهم السابق إنهم ذرية إبراهيم، ورفضوا ما أشار إليه المسيح من تسلسلهم من أصل آخر.
    لَوْ كُنْتُمْ أَوْلادَ إِبْرَاهِيمَ سلم في ع ٣٧ أنهم أولاد إبراهيم بالتسلسل الجسدي، وأنكر هنا مماثلتهم لإبراهيم في الروح والعمل.
    لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ كالطاعة لله (تكوين ١٢، ٢٢) واعتبار رسل الله (تكوين ١٦، ١٨) وإذ لا مماثلة فلا علاقة حقيقية. فمجرد التسلسل الجسدي من إبراهيم لا يمنح كرامة ولا بركة.
    ٤٠ «وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ. هَذَا لَمْ يَعْمَلهُ إِبْرَاهِيمُ».
    ع ٣٧، ٢٦
    تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي أظهر المسيح هنا الفرق بينهم وبين إبراهيم، وهو أنهم رفضوا رسول الله وطلبوا قتله.
    إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالحَقِّ فكان عليكم أن تصغوا إليه وتحبوه وتشكروه.
    الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّه أنه رسول الله ويجب أن يُطاع ويُكرم أعظم إكرام. ولأنه تكلم بالحق وجاء من عند الله صارت خطية رافضيه أفظع الخطايا.
    هَذَا لَمْ يَعْمَلهُ إِبْرَاهِيمُ فأعمالكم مضادة لكل أعمال إبراهيم، فلا مشابهة لكم به، ونسبتكم إليه باطلة.
    ٤١ «أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ».
    تثنية ٣١: ١٦ وإشعياء ١: ٢١ وهوشع ٢: ٤ إشعياء ٦٣: ١٦ و٦٤: ٨ وملاخي ١: ٦
    أَعْمَالَ أَبِيكُمْ لم يُذكر اسم هذا الآب بل أشار إليه فقط في ع ٣٨ فترك تسميته لضمائرهم، ومعناه أنهم أصغوا إلى الشيطان وتعلموا منه وتشبهوا به واستحقوا أن يُسموا أولاده.
    إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً ظنوا المسيح اتهمهم بأنهم نسل أخلاط وثنيين كالسامريين بإنكاره عليهم أنهم أولاد إبراهيم، فردّوا عليه بأن لهم دليلاً من جداول النسب على أن إبراهيم أبوهم. ولعل معنى قولهم «لم نولد من زنا» أنهم ليسوا وثنيين ولم يولدوا هم ولا آباؤهم من وثنيين، لأن الزنا جاء بالمعنى الروحي مراراً في الكتاب المقدس، منها إشعياء ١: ٢١ و٥٧: ٣ وهوشع ١: ٢ و٢: ٤.
    لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ عدَل اليهود عن نسبة أنفسهم إلى إبراهيم ونسبوها إلى الله، وقالوا: نحن نعبد الله وحده فنحن أولاده. وكان اليهود يفتخرون كل الافتخار باعتقادهم وحدانية الله واعتبارهم إياه ملكهم.
    ٤٢ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللَّهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ. لأنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَل ذَاكَ أَرْسَلَنِي».
    ١يوحنا ٥: ١ ويوحنا ١٦: ٢٧ و١٧: ٨، ٢٥ ويوحنا ٥: ٤٣ و٧: ٢٨، ٢٩
    نفى أنهم أولاد الآب السماوي بالبرهان الذي نفى به أنهم أولاد إبراهيم حقيقة. نعم إن الله كان أباهم بمعنى أنه خلقهم واختار أمتهم شعباً له، ودعا إسرائيل ابناً (مزمور ٨٠: ١٥ وهوشع ١١: ١) ولم يكن كذلك بالمعنى الروحي الحقيقي، لأنهم لو كانوا أولاده لشابهوه وأحبوا ما يحبه، ولأحبوا بالأكثر ابنه الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره. ولكنهم بدل ذلك طلبوا قتله (ع ٤٠). ولا يزال حب الابن علامة أولاد الله الحقيقيين، ويبقى كذلك إلى الأبد.
    لأنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ كان المسيح عند الله منذ الأزل، وأتى من عنده وتجسّد على الأرض. فحضوره هنا نتيجة خروجه من عند الله.
    لأنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي الخ أي لم يأت بمشيئته الخاصة، إنما أتى بتعيين الله له رسولاً إلى الناس. وخلاصة كل هذه الآية أن كل أولاد الله الحقيقيين يعرفون الابن ويحبونه لأنه أزلي، وأصله سماوي، وإرساليته إلهية.
    ٤٣ «لِمَاذَا لا تَفْهَمُونَ كلامِي؟ لأنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي».
    يوحنا ٧: ١٧
    لِمَاذَا لا تَفْهَمُونَ كلامِي؟ هذا توبيخ لهم على تحويلهم كلامه إلى غير معناه في كل هذا الخطاب (من ع ٣٢ - ٤٣) لأنهم أذنبوا بذلك لوضوح معناه. ولم يتوقع جوابه على هذا السؤال، فأجاب عليه من ع ٤٤ - ٤٧.
    لأنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي هذا سبب عدم فهمهم كلامه، لأنه روحي وقلوبهم جسدية، فلم يُسروا به ولم يؤمنوا ولم يطيعوا. وعدم الاستطاعة نتيجة عدم الإرادة. وكرهوا كلامه لأنه مضاد لكبريائهم وشهواتهم وميولهم، ولأن عدو الحق ملأ قلوبهم بالأهواء الشريرة، فصُمَّت آذانهم عن سماع صوت الله المتكلم بالمسيح.
    ٤٤ «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالا لِلنَّاسِ مِنَ البَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الحَقِّ لأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الكَذَّابِ».
    متّى ١٣: ٣٨ و١يوحنا ٣: ٨ يهوذا ٦
    أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ أنتم ادعيتم أن إبراهيم أبوكم وأن الله أبوكم، والحق أن إبليس هو أبوكم (وهو الذي أشار إليه في ع ٣٨، ٤١ وصرح به هنا). فإن الأفكار والأعمال التي أظهرها اليهود يومئذٍ لم تكن إلا من عدو الله والناس. وشابهوه في صفاتهم كما يُشبه الأولاد والديهم.
    وكلام المسيح هنا يدل على أن الشيطان ذات، لا معنى متوهَّم، وأن له تأثيراً عظيماً في العالم وقوة شديدة. ويدل على الشركة بين الشيطان والناس الأشرار، فهو أبو الكذبة والقتلة.. وليس الناس أولاد إبليس بنفس معنى أنهم أولاد الله، لأنه ليس للشيطان قوة عليهم إلا باختيارهم وتسليمهم أنفسهم إلى تجاربه، وبارتكابهم الأعمال التي ترضيه وهو يحثهم عليها.
    وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ أي ما يسر به ويرغب الناس به وينتج عنه الضلال والإثم والشقاء.
    تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا أي تعملونه طوعاً واختياراً وتميلون إليه وتسرون به كالخدام المطيعين. وهذا سبب دينونة كل خاطئ يخطئ باختياره. ولو لم يكن حراً مختاراً ما كان عرضة للدينونة. وذكر المسيح في ما يأتي ثلاثة من أعمال إبليس: وهي القتل، والكذب، وإغراء الغير به.
    ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ البَدْءِ أي منذ خلق الإنسان الأول لا من بدء نفسه، لأنه كان في البدء ملاك نور. وهو «قتَّال الناس» لأن بواسطته دخلت الخطية والموت إلى العالم (تكوين ٣ ورومية ٥: ١١ و١٢). وغايته في قوله «لن تموتا» قتل جنس البشر (تكوين ٣: ٤) وقد أدرك تلك الغاية. وكان عمله في كل عصور العالم تضليل الناس وإهلاك نفوسهم. وهو المهلك الذي حرض قايين على قتل هابيل (١يوحنا ٣: ١٢) وأثار كثيرين مثله على قتل إخوتهم. وهو يقتل نفوساً كثيرة بتجاربه على الدوام فيستحق أن يسمى «قتَّال الناس» لأنه لا يقتل شخصاً بل جنساً، لأن الموت عمَّ جميع الناس بمعصيةٍ هو سببها. فأظهر اليهود بطلبهم قتل يسوع أنهم مثل إبليس (ع ٤٠). وكانوا قتلة نفوس الناس الذين أضلوهم (متّى ١٥: ١٤) والذين جعلوهم أبناء لجهنم أكثر منهم أضعافاً (متّى ٢٣: ١٥).
    وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الحَقِّ المقصود «بالحق» هنا البرّ. وفي هذا الكلام إشارة إلى سقوط الشيطان من الحال التي خلقه الله عليها التي هو فيها الآن. وعدم الثبوت في الحق من صفاته وصفات أتباعه دائماً، لأنه يقاوم الحق فكراً وقلباً وفعلاً، ويُسر بالضلال وبتوزيعه.
    لأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لا يقدر أحد أن يثبت في الحق ما لم يكن على شيء من حب الحق والمسرة به. لكن الشيطان يميل بكل قواه وغرائزه إلى الكذب، فلا محل في قلبه للحق.
    مِمَّا لَهُ أي مما هو وفق صفاته وطبعه وميل قلبه، فيصدُق عليه ما يصدق على الإنسان الشرير وهو أنه «من الكنز الشرير (في القلب) يُخرج الشرور» (متّى ١٢: ٣٥) وهو مثل قوله «من فضلة القلب يتكلم الفم» (متّى ١٢: ٣٤). وهذا خلاف ما تكلم به المسيح لأنه كلمة الحق (ع ٤٠) وما يتكلم به الروح القدس كذلك (يوحنا ١٦: ١٣).
    لأنَّهُ كَذَّابٌ لا شك أن المسيح أشار بهذا إلى كذب الشيطان الأول الفظيع الذي به أضلَّ والدينا الأوَّلين (تكوين ٣: ٤) وإلى أن عمل الشيطان على الدوام أن يخدع الناس ليهلكهم، وأنه عدو كل حق.
    وَأَبُو الكَذَّابِ أي أن كل الكذابين أولاد الشيطان لأنهم يشبهونه ويتكلمون بما يحثهم عليه. وبيّن المسيح هنا فظاعة الكذب بحسبانه مع القتل وصرّح بأن مصدر كليهما الشيطان. رفض اليهود الحق الذي تكلم به المسيح، وسُروا بالكذب، فأظهروا بذلك أنهم أولاد إبليس (ع ٤٥).
    ٤٥ «وَأَمَّا أَنَا فَلأنِّي أَقُولُ الحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي».
    ترك المسيح هنا الكلام على إبليس، وأخذ يتكلم على أولاده، فقال إنهم يشبهون الشيطان لأنهم لم يصدقوا المسيح الذي تكلم بالحق. وقال إنه لو أخفى الحق وكلمهم بالكذب لكانوا صدَّقوه. والغالب أن التكلم بالحق يجلب للمتكلم ثقة السامعين به، لكن أولئك اليهود من كثرة مقاومتهم للحق رفضوه (رومية ١: ٢١ و٢تسالونيكي ٢: ١١ وأفسس ٤: ١٨).
    ٤٦ «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟».
    مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ أشار المسيح بذلك إلى استقامته وطهارة سيرته، برهاناً على صدق قوله «أتيت من الله». وطلب من أعدائه أن يشهدوا عليه بخطية إن استطاعوا. وقال المسيح ذلك بناءً على تسليمهم بأن كل مستقيم في أعماله مستقيم في أقواله، وهذا قانون صحيح. ولعله سكت قليلاً ليترك لهم فرصة للجواب.
    فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي اتخذ المسيح سكوتهم دليلاً على عجزهم أن يبكتوه على خطية، فسألهم ذلك. فكأنه قال لهم «لا تقدرون أن تنكروا استقامة سيرتي التي أثبتَتْ صدقي، فيجب أن تؤمنوا بي. فلماذا شككتم؟». ولا يقدر إنسان أن يقول ما قاله المسيح من أنه بلا خطية في الفكر والقول والفعل، وأن العالم يعجز عن أن يثبت عليه أدنى زلة أو هفوة. ونحن في حاجة إلى مثل هذا المخلِّص ليكون فادياً لنا ووسيطاً. ويصح أن يقال الآن في الكتاب المقدس ما قاله المسيح في نفسه، فكيف يكون كاذباً وكل تأثيره في الناس حسن. إنه يجعلهم أبراراً طاهرين كالله ويصبح تابعوه كالملائكة، وتصبح الأرض كالسماء.
    ٤٧ «اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلامَ اللَّهِ. لِذَلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللَّهِ».
    يوحنا ١٠: ٢٦، ٢٧ و١يوحنا ٤: ٦
    اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلامَ اللَّهِ أي أولاد الله كما دعوتم أنفسكم (ع ٤١) يسمعون كلام الله بسرور ويصدقونه ويطيعونه. وكل أهل الله مستعدون لقبول الحق قبل إعلانه، وللتسليم بأنه من الله عند إعلانه، ولطاعته، لأن محبة الله تجعل المحب يثق بكلامه. فعدم قبولهم كلام الله من المسيح حقق أنهم ليسوا من الله.
    ٤٨ «فَقَالَ اليَهُودُ: أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟».
    يوحنا ٧: ٢٠ وع ٥٢ و١٠: ٢٠
    إِنَّكَ سَامِرِيٌّ احتقر اليهود السامريين وأبغضوهم وحسبوهم ضالين، ونسبوا إلى المسيح أنه سامري بغية إهانته والهزء به كالسامريين، وعدوٌ لليهود بدليل قوله إنهم «أولاد إبليس».
    وَبِكَ شَيْطَانٌ سبقت هذه التهمة في يوحنا ٧: ٢٠ لكنهم أرادوا بها هنالك أنه مختل العقل يستحق الشفقة، وقصدوا بها هنا أنه منقاد بروح الشيطان يستحق التوبيخ، فكلامهم كالكلام في متّى ١٢: ٢٤. وبيّن اليهود نسبتهم إلى الشيطان بهذا أيضاً، وهو أنهم لما عجزوا عن إجابة المسيح بالبراهين لجأوا إلى اللعن والتجديف شأن معلمهم وأبيهم.
    ٤٩ «أَجَابَ يَسُوعُ: أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ، لَكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي».
    لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ لم يجبهم على شتمهم بغيظٍ وحدّة، وسكت على قولهم إنه سامري. ولكنه ردَّ على قولهم «بك شيطان» بالإنكار، لا بالشتم وفقاً لقول الرسول «الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً» (١بطرس ٢: ٢٣). وقدم برهاناً ينفي قولهم إن تأثير تعليمه من عند إبليس، فقال إن ذلك التأثير إكرام لله الآب، لأنه علَّم الناس أن يحبوا الله ويطيعوه. وهذا ما لا يفعله الشيطان ولا يريده.
    وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي أي أنكم بدلاً من أن تسمعوا كلام الله تهينون رسوله الذي كلمكم بكلامه إكراماً له، وبذلك أظهرتم أنكم لستم أولاد الله.
    ٥٠ «أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ».
    يوحنا ٥: ٤١ و٧: ١٨
    أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي لم يبالِ بإهانتهم له لأنه لم يطلب المجد والكرامة من الناس، ورضي بحمل العار، ولم يرغب في تبرير نفسه من تهمتهم، وترك تبريره لله.
    يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ أي الله، وهو يميز بين الذين يقبلون ابنه والذين يرفضونه، ويجازي كلاً بما يستحق. وفي هذا إنذار بالدينونة الآتية عليهم أخيراً (جامعة ٥: ٨). وفيه تعزية للمؤمنين المهانين والمضطهدين لأجل البر، ووجوب أن يحتملوا العار بصبر وحلم كما احتمله المسيح، وأن يتركوا لله تبريرهم والانتقام لهم (مزمور ٣٧: ٦) فلا بد أن الله يحامي عنهم ويُسكت كل معيريهم كذباً.
    ٥١ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلامِي فَلَنْ يَرَى المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ».
    يوحنا ٥: ٢٤ و١١: ٢٦
    اَلحَقَّ الحَقَّ هو التكرار المعتاد في الأمور ذات الشأن للتأكيد والتنبيه. والأرجح أنه كان بين الجمهور بعض المؤمنين الحقيقيين أراد المسيح تقوية إيمانهم بما قاله في هذه الآية. ووعدهم في ع ٣٢ بالنجاة من عبودية الخطية، ووعدهم هنا بالنجاة من الموت.
    إِنْ كَانَ أَحَدٌ الوعد عام لكل إنسان، يهودياً كان أم يونانياً.
    يَحْفَظُ كلامِي هذا كقوله «إن ثبتم في كلامي» (ع ٣١) ومعناه التمسك الدائم بكلامه والسلوك بموجبه، وليس فقط حفظه في الذاكرة دون تخبئته في القلب وطاعته (مزمور ١١٩: ١١). والشرط «إن كان» يدل على موانع من ذلك الحفظ، وهي ميل القلب إلى العصيان، وتجارب الشيطان وجنوده، وارتداد بعض التلاميذ عن الحق. وقصد «بالكلام» هنا تعاليمه أو إنجيله.
    فَلَنْ يَرَى المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ هذا وعد عظيم يشتمل على إزالة كل نتائج السقوط. «والموت» هنا هو الموت الثاني أي الهلاك الأبدي، وهو الأمر الوحيد الذي يستحق أن يُسمى بالموت، لأن موت المسيحي بالجسد لا يُحسب موتاً، كما أنه لم يحسب حياة جسده الحياة الحقيقية. وقوله هنا كقوله في (يوحنا ٣: ٣٦ و٥: ٢٤ و٦: ٤٧ - ٥٠ و١١: ٢٥، ٢٦). ونفي الموت يستلزم ضرورة حياة من يحفظون كلام المسيح. ووفى المسيح بوعده هنا برفعه عن المؤمنين أربعة أمور: (١) الموت الروحي الذي ورثناه من آدم. (٢) شوكة الموت التي هي الخطية ( ١كورنثوس ١٥: ٥٥ - ٥٧). (٣) خوف الموت (عبرانيين ٢: ١٥). (٤) الموت الثاني الذي هو الهلاك الأبدي.
    والحياة هي عطية الله للذي يؤمن بصدق كلام المسيح، لأن له المسيح نفسه، والذي له المسيح يشترك معه في حياته الأبدية. وأظهر المسيح هنا الفرق العظيم بين عمله وعمل إبليس، لأنه هو واهب الحياة (أفسس ٢: ١١) وذاك قتَّال للناس (ع ٤٤).
    ٥٢ «فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ: الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ، وَأَنْتَ تَقُولُ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلامِي فَلَنْ يَذُوقَ المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ».
    زكريا ١: ٥ وعبرانيين ١١: ١٣
    فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ أي غير المؤمنين من الجمع.
    الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً أي ما قلناه أولاً ظناً من أنك مختل العقل (ع ٤٨) تأكدناه هنا من كلماتك.
    قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ وهم من الأتقياء المحبوبين والمكرمين من الله حفظوا كلام الله ومع ذلك ماتوا.
    وَأَنْتَ تَقُولُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلامِي فهم اليهود أن الموت في كلام يسوع هو الموت الطبيعي، وأنه يمنح تلاميذه امتيازاً لم يحصل عليه أفضل القديسين وأعظمهم، فرأوا أنه لا يقول ما قاله يسوع إلا المجنون.
    فَلَنْ يَذُوقَ المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ غيروا قول المسيح لفظاً لا معنىً. عبر المسيح عن الموت بكلمات النصرة، إذ قال «لن يرى الموت» وهم عبروا عنه بكأس مُرة إذ قالوا «لا يذوق».
    ٥٣ «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ. وَالأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟».
    أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ قالوا هذا هزءاً واستخفافاً به فكأنهم قالوا: من أنت حتى تهب لتلاميذك سلطاناً على الموت لم يحصل عليه أعظم الآباء والأنبياء؟ هل تدّعي أنك أعظم من إبراهيم حتى ضمنت لنفسك الخلود؟ وسؤالهم هذا يشبه سؤال المرأة السامرية له: «ألعلك أعظم من أبينا يعقوب؟» (يوحنا ٤: ١٢) لكنها هي قالت ذلك تعجباً وهم قالوه استهزاءً.
    مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ لم يقولوا ذلك للاستفادة بل للاستخفاف، كأنه ادّعى عظمةً لا حق له فيها.
    ٥٤ «أَجَابَ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي، الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ».
    يوحنا ٥: ٣١، ٤١ و١٦: ١٤ و١٧: ١ وأعمال ٣: ١٣
    إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي بقولي إن «من يحفظ كلامي لن يرى الموت» كما يستفاد من قولكم «من تجعل نفسك؟». فمضمون جوابه هنا أنه لم يجعل نفسه شيئاً، وأنه لم يدَّعِ لنفسه وحده بحقٍّ وسلطانٍ أو قوة غير ما جعله له الآب وعيّنه.
    فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً لو أني ادعيت لنفسي مجداً وقوة وسلطاناً. وأنا لم أدّع شيئاً من هذا.
    أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي بإرساله إياي لأجهز تلاميذي بمواعيده، وبوضعه في يدي مفاتيح الموت والحياة. وهو أكرمني بذلك أكثر من إبراهيم والأنبياء، وأثبت دعواي بما أجراه من المعجزات على يدي.
    الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ بقولكم إنه إله إسرائيل وإله آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فكان يجب أن تعرفوه، وهو الذي مجدني، ولم أمجد نفسي.
    ٥٥ «وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً، لَكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ».
    يوحنا ٧: ٢٨، ٢٩
    وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ ولو عرفتموه أي أدركتم طبيعته وإرادته ومقاصده، لعرفتم العلامات التي شهد بها لي ولم ترفضوني وأنا أتكلم بسلطانه وأعلن إرادته، ولحفظتم أقواله. فكانوا كالذين قال فيهم الرسول «يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللَّهَ، وَلَكِنَّهُمْ بِالأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ» (تيطس ١: ١٦).
    وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ ذكر معرفته الله مقارنة بجهلهم إياه. ومعرفة المسيح بأبيه ليست مكتسبة، بل ذاتية كاملة دائمة.
    وَإِنْ قُلتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً أي لا أنكر معرفة أبي لأن إنكاري إياها يوجب الكذب كادعائكم أنكم تعرفونه.
    وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ اتخذ طاعته لله دليلاً على صحة معرفته إياه ومعرفة إرادته.
    ٥٦ «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ».
    لوقا ١٠: ٢٤ عبرانيين ١١: ١٣
    ذكر يسوع شهادة إبراهيم له لأن اليهود حسبوا نسبتهم إليه من أعظم صنوف الشرف، وأن كلامه يستحق كل اعتبار، وأعماله مما يجب الاقتداء بها.
    أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي سأل اليهود المسيح قائلين «ألعلك أعظم من إبراهيم؟» فقال هذا جواباً على ذلك، وهو أن أباهم إبراهيم سُر بما اغتاظوا به ولعنوه ورفضوه. ودلّ قوله «تهلل» على شدة شوق إبراهيم ورجائه وانتظاره. ولا يستلزم ذلك أن إبراهيم توقع إتيان المسيح في عصره، ولكنه تحقق أنه سيأتي في المستقبل. وكان رجاؤه مبنياً على المواعيد التي وعده الله بها (تكوين ١٢: ٣ و١٥: ٤ و١٧: ١٧ و١٨: ١٠) وأوضحها قوله «يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ» (تكوين ٢٢: ١٨). ومعنى «يومي» وقت مجيئي مسيحاً بركة للعالم وخلاصاً للبشر.
    فَرَأَى وَفَرِحَ يحتمل قوله «رأى» معنيين: (١) أنه رآه بالإيمان وهو حي، وفقاً لقول الرسول في إبراهيم وسائر الأنبياء «فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا المَوَاعِيدَ، بَل مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا» (عبرانيين ١١: ١٣). وأن الله أعلنه له حين بشره بولادة إسحاق (تكوين ١٨: ١٠) ووقت عزمه على تقديم إسحاق ذبيحة (تكوين ٢٢: ١٨) وأنه أراه إياه في رؤيا أو بظهور الرب له في هيئة ملاك وكلامه معه (تكوين ١٨: ٢٢). (٢) أن الله أعلن له وهو في السماء نزول المسيح إلى الأرض ليتجسد فيها. والملائكة عرفوا بولادة المسيح وترنموا بفرح، ويمكن أنه كان كذلك القديسون في السماء.
    وعرف موسى وإيليا بخروجه (أي موته) الذي كان عتيداً أن يكمله في أورشليم. ولا مانع من صحة هذا التفسير، لكننا لا نستطيع أن نؤكد أنه ما قصده المسيح هنا، إذ لم يكن من قصده أن يعيّن اليوم الذي رآه إبراهيم فيه، بل أن يبين أنه هو الذي وعد به إبراهيم، وبأنه نسله الذي «يتبارك به كل أمم الأرض» وأنه «تهلل» بذلك الرجاء ورآه من بعيد بالإيمان.
    ٥٧ «فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ: لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟».
    لم يفهم اليهود من المسيح أو ادعوا أنهم لم يفهموه. المسيح قال «إن إبراهيم رأى يومي» وهم فسروه بأنه رأى إبراهيم وإبراهيم رآه.
    لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً كان سن الخمسين عند اليهود نهاية كمال البلوغ، وبدء الشيخوخة، فكأنهم قالوا للمسيح: أنت لم تبلغ الشيخوخة بعد، فإنه كان في نحو سن الثالثة والثلاثين، فزادوا عليها حتى لا يبقى وجه للاعتراض، وحتى يُظهروا استحالة دعواه. وخلاصة ذلك أنه يستحيل على من هو أقل من ٥٠ سنة أن يرى من مات منذ نحو ١٩٠٠ سنة!
    ٥٨ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ».
    خروج ٣: ١٤ وإشعياء ٤٣: ١٣ ويوحنا ١٧: ٥ ،٢٤ وكولوسي ١: ١٧ ورؤيا ١: ٨
    الحَقَّ الحَقَّ هذا مقدمة لكلام ذي شأن كما ذُكر مراراً.
    قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ هذا تصريح بأنه كان قبل إبراهيم. كأنه قال لهم أنتم هزأتم بقولي إذ فهمتم منه أني معاصر لإبراهيم، وأنا أصرّح لكم أني كائن من قبله! وفي هذا تصريح بلاهوته، لأنه بالنظر إلى ناسوته لم يكن إلا منذ أقل من خمسين سنة، فلا يمكن أن يراه إبراهيم في عصره باعتبار أنه إنسان. فإذاً لا بد من أن له طبيعة أخرى أزلية كانت منذ البدء (يوحنا ١: ١). وقوله «أنا كائن» هو نفس الاسم الذي أعلن نفسه به لليهود يوم أرسل موسى إليهم إذ قال «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج ٣: ١٤). وهذا وفق ما في مزمور ٩٠: ٢. لم يقل قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت، لأنه لو قال كذلك لاحتمل معناه أنه حدث قبل حدوث إبراهيم. واليهود فهموا من قوله أنه ادعى الأزلية، وأنه إله إبراهيم. فهو بالضرورة قبله.
    ٥٩ «فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هَكَذَا».
    يوحنا ١٠: ٣١، ٣٩ و١١: ٨ لوقا ٤: ٣٠
    رَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ لم يبق لهم بعد جواب المسيح في الآية السابقة إلا أن يسجدوا معترفين أنه المسيح كما فعل الأعمى الذي أبصر (يوحنا ٩: ٣٨) أو أن يرجموه حاكمين أنه مجدف. فاختاروا أن يحسبوه مجدفاً، وأرادوا أن يعاقبوه بمقتضى ما قيل في (لاويين ٢٤: ١٦). وكان سهلاً عليهم أن يجدوا حجارة يرجمونه بها في دار الهيكل، لأنه كان تحت الترميم الذي بدأه هيرودس الكبير. وكان محظوراً على اليهود أن يقتلوا أحداً لأنهم كانوا تحت سلطة الرومان الذين منعوهم من سلطان القتل الذي كان لهم، فكان ما قصدوه من عقاب المسيح من قبل أنفسهم بمنزلة هيجان الشعب كما فعلوا باستفانوس (أعمال ٧: ٥٨).
    أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى الخ ليس في هذا نص على أن اختفاءه كان معجزة، ولعله نجا منهم بمثل ما فعل في لوقا ٤: ٣٠. وكان في الهيكل جمهور عظيم من الناس، كثيرون منهم من تلاميذه وأصدقائه، وكان سهلاً عليه أن يختفي بين ذلك الجمهور. ولا شك أن الله حماه لأن ساعته لم تكن قد أتت. وانتهى بذلك أشد خصام بين المسيح واليهود في اليهودية.
    ومما نراه في هذا الخطاب كثرة المقاومة التي لاقاها المسيح، إذ كان فيه وحده عشر معارضات من التكذيب والشتم (في آيات ١٩، ٢٢، ٣٩، ٤١، ٤٨، ٥٢، ٥٣، ٥٧). ومما نراه أيضاً قوة البرهان على صحة تعليم يسوع بأن أعداءه لم يستطيعوا أن يُسكتوه أو يجاوبوه بالأدلة. ولو كان تعليمه لأصحابه دون غيرهم لم يكن للبرهان مثل تلك القوة. ونستفيد من معارضات أعدائه له أنها حملت المسيح على تفسير تعاليمه بأحسن إيضاح. ومن الحقائق العظمى التي أوضحه قوله «إنه نور العالم» وإن أصله «من فوق» (ع ٢٣). وإنه «مانح الحرية للمؤمنين به» (ع ٣١ - ٣٦). وإنه «بلا خطية» (ع ٤٦). وإنه «واهب الحياة». وإظهار أنه يهوه العهد القديم بقوله «أنا كائن» (ع ٥٨).


    الأصحاح التاسع


    شفاء يسوع الأعمى وخطابه المبني على ذلك ع ١ إلى ٤١


    ١ «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ».
    وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ الأرجح أن ذلك كان في مدخل الهيكل أو على القرب منه حيث كان يجتمع المتسولون (أعمال ٣: ٢) ولم يتضح لنا أمتعلقة الحوادث التي في الأصحاحين السابقين بحوادث هذه الأصحاح أم منقطعة عنه وذلك ليس من الجوهريات لكن نعلم أن حوادث هذا الأصحاح كانت في يوم السبت (ع ١٤) من الوقت الذي شغله بهذه الخدمة في اليهودية وأوله من بداءة الأصحاح السابع ونهايته العدد ٣٩ من ص ١٠ وهو نحو شهرين.
    رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى في معجزة شفاء يسوع للأعمى ستة أمور تستحق الاعتبار.

    • الأول: أنه لم يذكرها أحد من الإنجيليين سوى يوحنا.
    • الثاني: أنه ذكرها بكل تدقيق.
    • الثالث: أنها واحدة من المعجزات الثلاث التي ذُكر أن يسوع صنعها في اليهودية (والمعجزات التي ذكرها يوحنا سبع، ثلاث صُنعت في اليهودية وأربع صُنعت في الجليل).
    • الرابع: أنها إحدى المعجزات التي توقع اليهود أن يصنعها المسيح عند إتيانه بناء على قوله تعالى بلسان إشعياء «يَسْمَعُ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلصُّمُّ أَقْوَالَ ٱلسِّفْرِ، وَتَنْظُرُ مِنَ ٱلْقَتَامِ وَٱلظُّلْمَةِ عُيُونُ ٱلْعُمْيِ» (إشعياء ٢٩: ١٨).
    • الخامس: أنها من الآيات التي أوردها يسوع دليلاً على أنه هو المسيح بقوله «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ الخ» (متّى ١١: ٤ و٥).
    • السادس: أنها صُنعت علانية في إنسان معلوم وفي موضع مشهور وأمام كثيرين حتى لا يستطيع اليهود إنكارها. وكانت علة جلوس الأعمى هنالك الاستعطاء ع ٩. وشفاه المسيح تبرعاً أي من دون أن يسأله أحد وذلك كشفائه المقعد عند بركة بيت حسدا (ص ٥: ٦).


    مُنْذُ وِلاَدَتِهِ كونه وُلد أعمى لم يُبق من أمل أن يبرأ بواسطة بشرية. وكان إبراؤه في عيون الشعب أعجب من إبرائه لو أنه كان عُمي بعد البصر. ولعل هذا الأعمى كان ينادي بأنه وُلد أعمى تحريكاً لشفقة المارين به فعرف التلاميذ ذلك من مناداته.
    ٢ «فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟».
    ع ٣٤
    فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ تدل إحاطة تلاميذه به ومخاطبته إياهم باطمئنان على أن الأحوال يومئذ كانت خلاف الأحوال التي عرفناها من آخر الأصحاح التاسع. ولعل المسيح وقف عند الأعمى فوجه بذلك أبصار التلاميذ إليه فأخذوا يسألون عن أموره.
    مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ الخ هذا السؤال كان موضوع بحث طويل عند اليهود واختلفت فيه آراء علمائهم كثيراً. ونسبوا كل المصائب الأرضية إلى خطايا مخصوصة (ع ٣٤ انظر شرح لوقا ١٣: ١ - ٤) وصعب عليهم تصحيح ذلك القانون مع مولود أعمى فرفعوا أمرهم وهم في حيرة منه إلى المسيح. ولقولهم «من أخطأ هذا» (أي هذا اخطأ) سند وهو اعتقاد بعض اليهود التناسخ وأن الذي في جسد يعاقب على خطيئته في جسد آخر تنتقل نفسه إليه. واعتقاد آخرين أن الولد يستطيع أن يخطئ قبل ولادته بناء على ما قيل في (تكوين ٢٥: ٢٢ ومزمور ٥١: ٥). ولقولهم «أم أبواه» أي «أخطأ أبواه» سند وهو اعتقاد أكثر اليهود أن علة مصائب الأولاد قبل الولادة خطايا والديهم بناء على ما قيل في (خروج ٢٠: ٥ و٣٤: ٧ وعدد ١٤: ١٨ و٣٣ وإرميا ٣٢: ١٨). ولا ريب أن في نفس كل إنسان ما يحمله على أن ينسب عموم المصائب في الأرض إلى الخطيئة. ويوافق ذلك شهادة الكتاب المقدس في (تكوين ٣: ١٦ - ١٩ وفي رومية ٥: ١٢ - ١٩). وحاصله أن مصائب نسل آدم نتيجة معصيته. وغلط اليهود أنهم جعلوا المصائب نتائج خطايا مخصوصة.
    ٣ «أَجَابَ يَسُوعُ: لاَ هٰذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ».
    ص ١١: ٤
    لاَ هٰذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ أي أن عماه ليس نتيجة خطيئة مخصوصة منه ولا من أبويه. ولا يلزم من قول المسيح هنا أن ذلك الأعمى كان بلا خطيئة وأن أبويه كانا كذلك. ولم ينكر المسيح أن خطايا الوالدين قد تجلب على أولادهم الأمراض والموت لأن ذلك من الواقعات المشاهدة (خروج ٢٠: ٥). ولم ينكر أنه قد يكون بعض الخطايا علة بعض المصائب أو الأمراض وأشير إلى ذلك في (مرقس ٢: ٥ ويوحنا ٥: ١٤ ولاويين ٢٦: ١٦ وعدد ١٢: ١٠ وتثنية ٢٨: ٢٢ و٢ملوك ٥: ٢٧) لكنه نفى أن يكون مصاب ذلك الأعمى من هذا الباب.
    لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ المعنى أن الله سمح بحكمته غير المحدودة أن يصيب هذا الإنسان ذلك المصاب لكي يظهر الله قوته ومحبته بشفائه ولكي يثبت دعوى يسوع أنه المسيح وأنه نور العالم بواسطة إبرائه وليجعله وسيلة إلى نشر التعاليم الروحية في الشعب ولكي يُقاد الأعمى عينه إلى الإيمان بالمسيح لشفاء نفسه وخلاصه الأبدي بواسطة بر جسده.
    ولنا في هذه الآية أربع فوائد:

    • الأولى: وجوب أن نشفق على المصابين وأن لا نلومهم أو نحتقرهم كأن الله قد غضب عليهم.
    • الثانية: وجوب أن لا ننسب كل مصيبة إلى خطيئة مخصوصة فنغلط بذلك غلط أصدقاء أيوب.
    • الثالثة: أن هذا يعزينا إذا و قعنا في المصائب إذ نعلم أن الله سمح بها لأسباب اقتضتها حكمته مثل أن تكون وسيلة إلى إظهار رحمته وقوته ومحبته وتمجيده تعالى وواسطة نعمة لنا (أمثال ٣: ١٢ وعبرانيين ١٢: ٦ و١١ ورؤيا ٣: ١٩).
    • الرابعة: أنه يجب على المصابين الصبر لأنه ربما لم يظهر لهم قصد الله من مصائبهم إلا بعد زمان طويل وربما لم يظهر لبعضهم إلا بعد أن يدخل السماء.


    ٤ «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ».
    ص ٤: ٣٤ و٥: ١٩ و٣٦ و١١: ٩ و١٢: ٣٥ و١٧: ٤
    يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ يشير هذا إلى أن المسيح شعر برغبة شديدة في فتح عيني ذلك الأعمى بناء على رغبته في إرضاء الله علاوة على ميله إلى نفع الناس نفوساً وأجساداً. ويشير أيضاً إلى أن إبراءه ذلك الأعمى يهيج اليهود على مقاومته وبغضه. وقوله هنا وفق قوله في وقت آخر «وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟» (لوقا ١٢: ٥٠).
    أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي أي الأعمال التي أمرني بعملها من إعلان الله للناس وإتمام عمل الفداء وهي تشبه أعمال الآب الذي أرسلني لأنها أعمال القوة والمحبة والرحمة والبركة. ومعلوم أن فتح عيني ذلك الأعمى من تلك الأعمال.
    مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ الخ أي كلما سنحت الفرصة المناسبة. وهو مجاز مبني على أن وقت العمل المعتاد هو النهار وأن العمل يعسر في الليل وقد يستحيل. ويعبر بالنهار عن مدة حياة الإنسان التي أعطاه الله إياها للعمل فيها وبالليل عن موته حين ينتهي عمله (جامعة ٩: ١٠). وتكلم هنا المخلص باعبتار كونه إنساناً مدة خدمته على الأرض قصيرة لكي يعلم فيها الناس شفاهاً ويصنع معجزاته. وذكر قصر الوقت لأنه على شدة رغبته في العمل بلا انقطاع. وكانت سنو حياته على الأرض نحو ثلاث وثلاثين ونصف ومدة خدمته نحو ثلاث ونصف. وكان قد بقي من تلك المدة نحو ستة أشهر. وما ذكره من قصر خدمته الأرضية لا يناقض ما مفاده في موضع آخر أنه يجري أعماله في الكنيسة والعالم بروحه بعد ارتفاعه إلى السماء. وفي هذه الآية علتان:
    الأولى: علة الإبراء وهي أن يعمل أعمال الله.
    الثانية: أن يشفي الأعمى في ذلك اليوم يوم السبت ولا يُبقي شفاءه إلى يوم آخر. ودلّ على ذلك بقوله «يأتي ليل» الخ.
    ٥ «مَا دُمْتُ فِي ٱلْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ ٱلْعَالَمِ».
    ص ١: ٥ و٩ و٣: ١٩ و٨: ١٢ و١٢: ٣٥ و٤٦
    هذا شرح إجمالي لكل أعمال خدمته وبيان أن فتح عيني الأعمى جزء من تلك الأعمال لكونه رمزاً إلى هبته البصيرة لعميان النفوس بالجهل والخطيئة.
    فَأَنَا نُورُ ٱلْعَالَمِ انظر شرح ص ٨: ١٢. خلاصة معنى هذا أن المسيح معلم البشر ومرشدهم إلى السماء ومُعلن الله لهم لكي يروا الحق. وفتح عيون العمي بالجسد رمز إلى فعله الروحي في النفوس. وعلى هذا نبوءة إشعياء (إشعياء ٢٩: ١٨ و٣٥: ٥ و٤٢: ٧) وهذه الأية موضوع كل ما في هذا الأصحاح من التعليم والعمل.
    ٦ «قَالَ هٰذَا وَتَفَلَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ ٱلتُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِٱلطِّينِ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى».
    مرقس ٧: ٣٣ و٨: ٢٣
    صنع المسيح معجزات كثيرة في الحال بلا واسطة إنما هنا أتى المعجزة بخلاف ذلك لسبب لم نتحققه ولعله بيان أنه غير مقيّد بطريقة واحدة في إظهار آياته فإنه أبرأ يوماً أحد العميان باللمس (متّى ٢٠: ٣٤) وفتح يوماً آخر عيني غيره بأن تفل في عينيه ووضع يديه عليه (مرقس ٨: ٢٣). ولعله قصد بذلك أن ينشئ في الأعمى رجاء للشفاء وإيماناً بالشافي فيعده بذلك لقبول تلك النعمة وأن يجعله ينسب الإبراء إلى المسيح لأنه اقترب منه وتكلم معه وطلى عينيه بالطين حتى أنه لما برئ ورآه عرف أنه هو الذي أبرأه من مجرد سمع صوته.
    حسب بعض الناس التفل على العين ووضع الطين عليها علاجاً لبعض أمراضها ونسبوا مثل ذلك إلى ماء بركة سلوام وظنوا أن ذلك على ما فعل المسيح بالأعمى وما أمره به. لكنه معلوم أنه لا شفاء لمولود أعمى من طين أو تفل أو ماء بركة إنما شفاؤه بقوة إلهية فقط.
    ٧ «وَقَالَ لَهُ: ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ. ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً».
    نحميا ٣: ١٥ ولوقا ١٣: ٤ ٢ملوك ٥: ١٤
    ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ أي اغسل عينيك. ذلك شرطاً لنواله البرء وامتحاناً لإيمانه وطاعته كما امتحن الله نعمان الآرامي أو السرياني (٢ملوك ٥: ١٠).
    فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ انظر شرح (لوقا ١٣: ٤ ويوحنا ٥: ٢). وكانت هذه البركة إلى جنوبي الهيكل منخفضة عنه وذُكرت في (نحميا ٣: ١٥ وإشعياء ٨: ٦) وكان اسمها قديماً «شيلوه» وتسمى اليوم بركة سلوان.
    ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ فسر ذلك لإفادة اليونانيين «فمرسل» معنى شيلوه وهي لفظة عبرانية من الفعل شله أو أرسل وجاءت بهذا المعنى في (أيوب ٥: ١٠ وحزقيال ٣١: ٤). ولم تتحقق علة تفسير يوحنا لها هنا لكن ذهب البعض إلى أن المسيح قصد بإرسال الأعمى إلى تلك البركة ليذكره اسمها أن الذي شفاه مرسل من الله. نعم إنّ المسيح كان ينبوع شفاء للعالم كما كانت بركة سلوام لذلك الأعمى ولكن ذهابهم إلى أنه قصد ذلك هنا ضعيف.
    فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً ذلك مختصر حادث غريب عظيم سارٍ. وأظهر هذا الأعمى بذهابه واغتساله إيماناً وطاعة. والأرجح أنه أبصر وهو يغتسل. ولا عجب من اسطاعته أن يبلغ البركة وهو أعمى لأنه كان في سن الأربعين وقد اعتاد الجولان كثيراً. والأرجح أنه أتى من البركة إلى بيته رأساً لأنه أول من شاهده بصيراً جيرانه. ولا دليل على أنه رجع إلى حيث شفاه المسيح لكي يراه ويشكره.
    ٨ «فَٱلْجِيرَانُ وَٱلَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا: أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟».
    فَٱلْجِيرَانُ وَٱلَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً عرف الجيران كل ما يتعلق به لقربهم منه وكذلك الذين اعتادوا أن يمروا به كل يوم في الأزقة أو عند باب الهيكل وهو يستعطي وكلهم عرفوا أنه أعمى.
    أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي قالوا ذلك تعجباً وحيرة لأن اختبارهم في الماضي كان خلافاً لمشاهدتهم حينئذ. وكان لهم أمران عرفوه بهما وهما عماه وتسوله. وعدم ذكر تسوله في العدد الأول لا ينافي ما قاله عارفوه هنا لأن العميان يغلب أنهم يسألون الصدقات لعجزهم عن الأعمال.
    ٩ «آخَرُونَ قَالُوا: هٰذَا هُوَ. وَآخَرُونَ: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ. وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا هُوَ».
    آخَرُونَ قَالُوا: هٰذَا هُوَ. وَآخَرُونَ: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ اختلف الناس في آرائهم في ذلك الأعمى كاختلاف معرفتهم به. فالذين قالوا «هذا هو» هم الجيران الذين عرفوه من صغره. والذين قالوا «أنه يشبهه» هم الذين لم يروه إلا بعض الأحيان وهو يستعطي. ولا ريب في ان انفتاح عينيه غيّر منظره كثيراً.
    ١٠ «فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ ٱنْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟».
    المتكلمون هم الجيران والذين ذُكروا معهم في ع ٩ والجماعات الذين أتوا عند سماعهم النبأ الغريب بإبصار الأكمه وعجبوا جميعاً من ذلك رغبوا في معرفة علة برئه.
    ١١ «أَجَابَ: إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: ٱذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَٱغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَٱغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ».
    ع ٦ و٧
    هذا نبأ الواقع بأسلوب بسيط بلا زيادة. ولم يذكر أن المسيح تفل على الأرض لأنه لم يره حينئذ. ولم يذكر من أنبأه بأن شافيه يسوع ولعل بعضهم أخبره به عند ما أمره أن يذهب إلى بركة سلوام وكان هذا الأعمى بسؤاله عن اسم المحسن إليه أفضل من ذلك البصير الذي شفاه المسيح عند بركة بيت حسدا (ص ٥: ١٣).
    ١٢ «فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ: لاَ أَعْلَمُ».
    أَيْنَ ذَاكَ لعلهم أرادوا أن يروا ذلك الشافي ذا القوة العجيبة أو أن يقبضوا عليه ويذهبوا به إلى الرؤساء لأنه فتح عيني الأعمى في سبت.
    لاَ أَعْلَمُ يدل كلامه هذا على أنه لم يرجع إلى حيث كان المسيح عندما أبرأه وإلا لقال تركته هنا والأرجح أنه ليس ببعيد عنا.
    ١٣ «فَأَتَوْا إِلَى ٱلْفَرِّيسِيِّينَ بِٱلَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى».
    ص ١١: ٤٦
    الذين أُتي إليهم بالأعمى هم أعضاء مجلس السبعين إذ لا حق لغيرهم أن يخرج أحداً من المجمع كما فعلوا ع ٣٤. وكان من أعضاء المجلس بعض الصدوقيين (أعمال ٢٣: ٦) ولكن أكثرهم كان من الفريسيين وهم أشد غيرة ومقاومة للمسيح فقيل للجميع «فريسيون». وعلة إتيان البعض بالأعمى إلى ذلك المجلس ظنهم أن أمراً غريباً كهذا يستحق نظر المجلس فيه. وقصد أكثرهم شكاية المسيح بإبرائه إياه في سبت وكانت عاقبة عملهم تأدية شهادة جديدة بدعوى يسوع أنه هو المسيح على لسان الأعمى الذي برئ وفرصة جديدة لتبيين المسيح صحة تعليمه.
    ١٤ «وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ ٱلطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ».
    ذكر البشير هذا لغايتين:
    الأولى: بيان أن يسوع اعتاد أن يأتي أعمال الرحمة في السبوت وعلّم اليهود بذلك كيف يجب أن يحفظوا ذلك اليوم خلافاً لتقاليدهم.
    الثانية: بيان على بغض اليهود للمسيح ومقاومتهم إياه كما ظهر منهم في هذا الأصحاح. ولم تكن مقاومتهم إياه لغيرتهم على الوصية الرابعة بل لأن يسوع أبطل تقاليدهم وخفض سلطتهم بين الشعب. انظر شرح (ص ٥: ١٦ وشرح متّى ١٢: ١٠ وشرح لوقا ١٢: ١١ - ١٦ و١٤: ١ - ٥).
    ١٥ «فَسَأَلَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَٱغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ».
    أَيْضاً الظاهر أن المجلس سمع النبأ منقولاً عنه على ألسنة العامة فأرادوا أن يسمعوه من لسانه. أو لعل المراد أن المجلس سأله ما سأله الجيران إياه سابقاً ع ١٠.
    فَقَالَ لَهُمْ الخ أجابهم كما أجاب الجيران أولاً إلا أنه ترك اسم يسوع واسم المكان الذي اغتسل به. ولعله لم يذكرهما لأنهما معلومان والأرجح أن علة تركه اسم يسوع معرفته أن أكثر أعضاء المجلس أعداء ليسوع فلم يرد التفصيل دفعاً لتهيجيهم.
    ١٦ «فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ ٱلسَّبْتَ. آخَرُونَ قَالُوا: كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ؟ وَكَانَ بَيْنَهُمُ ٱنْشِقَاقٌ».
    ص ٣: ٢ وع ٢٣ ص ٧: ١٢ و٤٣ و١٠: ١٩
    يتبيّن من هذه الآية أنه كان المجلس حزبين الحزب الأكبر يرغب في الحكم على يسوع بأي وجه كان والأصغر يميل إليه شيئاً.
    هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ أي ليس بنبي أرسله الله ولا بتقيٍّ. قالوا هذا مع تسليمهم بوقوع المعجزة فتكون النتيجة أنه أتاها بقوة الشيطان كما في (متّى ٩: ٣٤).
    لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ ٱلسَّبْتَ كان لديهم أمران ونتيجتان الأول الشفاء ونتيجته أن الشافي من الله. والثاني أن الشفاء كان في يوم السبت ونتيجته أن الشافي ليس من الله فأغمضوا عيونهم عن الأول ولم يتلفتوا إلا إلى الثاني. ولم يخطر على بالهم إمكان أن يغلطوا في حكمهم بطريق حفظ السبت فرأوا وجوب تحريم كل الأعمال حتى أعمال الرحمة في يوم السبت ولذلك حكموا أن يسوع خاطئ. ولولا بغضهم المسيح وقصدهم أن يتخلصوا من دعواه ما حكموا ذلك الحكم عليه واتخذوا الدين ستراً لحقدهم ومكرهم.
    كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ هذا قول الحزب الثاني الذي كان منه أناس كنيقوديموس ويوسف الرامي ويحتمل أن منهم غمالائيل فهم نظروا إلى المعجزة فقط واستنتجوا منها استحالة أن يكون المسيح خادعاً محتالاً بناء على اعتقادهم أن الله لا يهب صنع المعجزات للاثيم الماكر. وهذا وفق قول نيقوديموس سابقاً (ص ٣: ٢). وقد ظهر من جوابهم أنهم خائفون لأنهم لم يقولوا صريحاً أن أعمال هذا الرجل برهان على أنه نبي لكن أوردوا ما يلزم عنه هذا المعنى على سبيل الاستفهام للبحث فكأنهم قالوا انظروا هل يمكن الخاطئ رفيق الأبالسة أن يأتي عمل الرحمة وقوة كما أتى هذا.
    وَكَانَ بَيْنَهُمُ ٱنْشِقَاقٌ حدث مثل هذا الأنشقاق مرتين آخريين (ص ٧: ٤٣ و١٠: ١٩).
    ١٧ «قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى: مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ».
    ص ٤: ١٩ و٦: ١٤
    قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى قال ذلك المجلس كله بغية أن يقف كل من الحزبين على ما يسند قوله.
    مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ سلموا أن الأعمى الذي شُفي يعلم من أمر شافيه أكثر مما يعلمه غيره وسألوه لعدم معرفتهم ماذا تكون شهادته ولكنهم لما علموا أن شهادته مما يثبت دعوى يسوع أنه المسيح أنكر أكثرهم وقوع المعجزة وطردوا الإنسان هازئين به لتأديته تلك الشهادة. ولعل الأكثر سأل الأعمى ذلك السؤال بغية أن يكون في جوابه ما يوقع الشك في حدوث المعجزة أو ما يدل على كون يسوع أتى ذلك بالسحر.
    فَقَالَ إِنَّهُ نَبِيٌّ هذا خلاف قول أكثر المجلس «هذا الإنسان ليس من الله» (ع ١٦). اقتنع ذلك الإنسان أن قوة الذي أبرأه سماوية وأن الشافي مرسل من الله على أنه لم يكن يعلم أنه المسيح ابن الله إذ لم يقل «النبي» بل «نبي» كأحد الأنبياء مثل إيليا وأليشع. وظهر مما ذُكر أن ذلك الرجل شجاعاً محباً للحق لأنه شهد تلك الشهادة ليسوع أمام المجلس الذي أكثر أعضائه أعداء يسوع علانية.
    ١٨، ١٩ «١٨ فَلَمْ يُصَدِّقِ ٱلْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ ٱلَّذِي أَبْصَرَ. ١٩ فَسَأَلُوهُمَا: أَهٰذَا ٱبْنُكُمَا ٱلَّذِي تَقُولاَنِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ؟».
    فَلَمْ يُصَدِّقِ ٱلْيَهُودُ اليهود هنا الرؤساء وهم أعضاء المجلس. وعلة عدم تصديقهم عدم إرادتهم التسليم بالشهادة التي نتيجتها تمجيد يسوع. ومن أغرب الأمور أن عدم إرادة التسليم تعمي الذهن عن صحة البراهين.
    دَعَوْا أَبَوَيِ ٱلَّذِي أَبْصَرَ عجز اليهود عن أن يروا شيئاً في شهادة الابن الذي كان أعمى تناقض دعوى يسوع فلجأوا إلى سؤال والديه آملين أن يكذبا وينكرا أنه ابنهما أو أنه وُلد أعمى خوفاً منهم أو إكراماً لهم. فسألوهما ثلاث مسائل رجاء أن يجدوا في جواب إحداها ما يبطل دعوى المسيح وهي «هل هذا ولدكما. وهل وُلد أعمى. وبأي واسطة أبصر».
    ٢٠، ٢١ «٢٠ أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ: نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱبْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى، ٢١ وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ فَلاَ نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلاَ نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ ٱلسِّنِّ. ٱسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ».
    أظهرا صدقهما بعدم إنكار كونه ابنهما وأنه أبصر وأظهرا الجبن والضعف في ترك جواب المسئلة الثالثة على أبنهما إذ خافا أن يكرما يسوع بجوابهما. أما المجلس فأضر نفسه بهذه المسائل إذ أثبت بشهادة شاهدين آخرين أن ذلك الرجل وُلد أعمى وأبصر.
    فَلاَ نَعْلَمُ (ع ٢١) نتج قولهما هذا عن خوفهما ولعل فيه شيئاً من الصدق إذ لم يعرفا كل أحوال الحادثة ولم يكونا شاهدا عين واستحضرها المجلس حين أبصر ابنهما ولم يكن لهم وقت كاف للاستخبار عما وقع.
    هُوَ كَامِلُ ٱلسِّنِّ كان السن الكامل عند اليهود سن الثلاثين.
    ٢٢ «قَالَ أَبَوَاهُ هٰذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ ٱعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ ٱلْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ.
    ص ٧: ١٣ و١٢: ٤٢ و١٩: ٣٨ وأعمال ٥: ١٣ ع ٣٤ وص ١٦: ٢
    لأَنَّ ٱلْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا هذا اتفاق الرؤساء بين أنفسهم ولا ريب في أنهم كانوا قد أعلنوا ذلك حتى عرفه أبو الأعمى. ولم يكن في طاقة الرؤساء أن يخرجوا أحداً من المجمع لأن ذلك كان من حقوق المجلس وإنما تعاهدوا على أمل أن يقنعوا المجلس ليحكم بما أرادوا.
    يُخْرَجُ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ اي يُحرم من الحقوق الدينية والاجتماعية. وكان عند اليهود ثلاثة أصناف من الحرم.

    • الأول: أن يمنع المحروم ثلاثين يوماً من كل مخالطة لأقربائه.
    • الثاني: أن يمنع من ذلك مدة حياته ومن مخالطة كل واحد من اليهود إلا لمقتضيات الحياة الضرورية.
    • الثالث: فصله التام عن كل واحد من الشعب وقتله إن أمكنهم. ولم يُعلم أي صنف أرادوا هنا ولكن لا ريب في أنه كان حرماً هائلاً.


    ٢٣ «لِذٰلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ: إِنَّهُ كَامِلُ ٱلسِّنِّ، ٱسْأَلُوهُ».
    هذا علة تركهما جواب المسئلة الثالثة لابنهما لأنهما لو جاوبا بشيء في شأن الشفاء لحسبه اليهود اعترافاً بصحة دعوى يسوع وأخرجا من المجمع.
    ٢٤ «فَدَعَوْا ثَانِيَةً ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ: أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ».
    يشوع ٧: ١٩ و١صموئيل ٦: ٥ ع ١٦
    الظاهر أن الرؤساء أخرجوا الأعمى من موضع الاستنطاق بعد سؤالهم أبويه «أهذا ابنكما» ع ١٩ وهنا استدعوه ثانية ليحملوه بالتجديف على النطق بما يفسد شهادته أو على إنكارها.
    أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ أي اذكر أنك في حضرة الله وتكلّم بالحق. وهذا ضرب من استحلاف الشاهد اعتاده اليهود كما يظهر من قول يشوع لعاخان «فَقَالَ يَشُوعُ لِعَخَانَ: يَا ٱبْنِي، أَعْطِ ٱلآنَ مَجْداً لِلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ، وَٱعْتَرِفْ لَهُ» الخ (يشوع ٧: ١٩) ومثله ما في (١صموئيل ٦: ٥ وإرميا ١٣: ٦). والاستحلاف بهذا اللفظ مبنيٌّ على اعتقاد أن الله يتمجد بإظهار الحق لأنه إله الصدق والقوة والسلطان يثبت الصادقين ويعاقب الكاذبين. ومطلوب الرؤساء مع ذلك أن يكذب وينكر شهادته الاولى.
    نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ أي نحن أرباب المعرفة القادرون على تمييز الحق من الباطل اتفقنا في المجلس أنه يستحيل أن الله يهب قوة الشفاء لمن يتعدى الشريعة ع ١٦ فإذاً أنت كاذب فاعترف بكذبك.
    ٢٥ «فَأَجَابَ: أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ أُبْصِرُ».
    أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ لم يسلم بأن يسوع خاطئ ولم ينكر ذلك بياناً أنه غير ملزم به.
    إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً انزل هذا الأمر منزلة كل ما يعلمه لشدة أهميته حتى أنه لا أهمية لغيره من معلوماته بالنسبة إليه وهو كقول المسيح للشاب «يعوزك شيء واحد» (مرقس ١٠: ٢١ ولوقا ١٠: ٤٢) وهو بالحقيقة صرح بأمرين الأول أنه كان أعمى والثاني أنه أبصر. وترك لهم الحكم بأن يسوع خاطئ فأعطى مجداً لله بثبوته على الشهادة الأولى والصدق.
    يستعير الناس قول الأعمى هنا لتغيّر قلب الخاطئ عندما يؤمن. فيصح أن يقول كنت أعمى والآن أبصر أي كنت أجهل الروحيات والآن أعلمها بالاختبار.
    ٢٦ «فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟».
    لم ينل أعضاء المجلس مقصودهم أي حمل الأعمى على إنكار شهادته فأمروه أن يعيد القصة من أولها أملاً أن يجدوا فيها شيئاً من التناقض أو يقفوا على شيء يخطئون المسيح به أو يتخلصون به من حيرتهم. ثم أنهم رجعوا عن سؤالهم عن الواقع وأخذوا يسألونه عن الكيفية.
    ٢٧ «أَجَابَهُمْ: قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ؟».
    استثقل ذلك الرجل تكريرهم سؤاله وعرف سوء غايتهم أنها ليست الوقوف على الحق بل التشفي من المسيح بجعلهم إياه ينكر الحق الذي تحققه بالمشاهدة والاختبار.
    وَلَمْ تَسْمَعُوا أي لم تصدقوا.
    أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ قال هذا على سبيل التهكم فكأنه قال ألعل غايتكم من تكرير السؤال والفحص أن تؤمنوا به لأن فعلكم يستلزم ذلك.
    ٢٨ «فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلاَمِيذُ مُوسَى».
    فَشَتَمُوهُ وشتمهم ما جاء بعد هذا أي قولهم أنه تلميذ ليسوع المحتال.
    أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ قابلوا يسوع بموسى وقابلوا أنفسهم بالأعمى بأنهم تلاميذ موسى وبأنه تلميذ يسوع بناء على غيرتهم في حفظ السبت الذي أمر موسى بتقديسه وبأن يسوع دنس السبت بشفائه فيه. وعلى ذلك رأوا استحالة أن يكون كلاهما (يسوع وموسى) نبيّين وأنه لا بد من أن يكون أحدهما كاذباً.
    ٢٩ «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ، وَأَمَّا هٰذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ».
    ص ٨: ١٤
    مُوسَى كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ وذلك يثبت أنه نبّي أخذ سلطانه ورسوليته من الله سبحانه وتعالى. وهذا من الأمور المعلومة المحققة فلا بد من أننا نحن تلاميذ موسى نُرضي الله الذي أرسله.
    وَأَمَّا هٰذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ أي لا برهان على أن الله أرسله وكل أمره مجهول ولا ندري أمجنون هو أرسله إبليس أم عاقل تكلم من نفسه. وعذرهم على رفضهم المسيح هنا عكس العذر الذي أوردوه سابقاً وهو قولهم «هٰذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَأَمَّا ٱلْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (ص ٧: ٢٧). وقولهم «من أين هو» مبني على أن أصل الإنسان دليل على طبيعته كسؤال اليهود عن معمودية يوحنا (متّى ٢١: ٢٥) وكسؤال بيلاطس ليسوع «من أين أنت» (ص ١٩: ٩).
    ٣٠ «أَجَابَ ٱلرَّجُلُ: إِنَّ فِي هٰذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ».
    ص ٣: ١٠
    أظهر الأعمى في هذا الجواب حكمة وشجاعة عظيمة.
    إِنَّ فِي هٰذَا عَجَباً الأمر العجيب هنا أن رؤساء الشعب الروحيين الذين وظيفتهم أن يفحصوا في دعاوي المدّعين النبوءة ويحكموا بصدق الواحد وبكذب الآخر يعترفون أنهم لم يعرفوا يسوع من أين هو ومن أين سلطانه وهو أتى بمعجزة لا يستطيع أن يفعلها أحدٌ من البشر.
    ٣١، ٣٢ «٣١ وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱللّٰهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي ٱللّٰهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ فَلِهٰذَا يَسْمَعُ. ٣٢ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى».
    أيوب ٢٧: ٩ و٣٥: ١٢ ومزمور ١٨: ٤١ و٣٤: ١٥ و١٦ و ٦٦: ١٨ وأمثال ١: ٢٨ و١٥: ٢٩ و٢٨: ٩ وإشيعاء ١: ١٥ وإرميا ١١: ١١ و١٤: ١٢ وحزقيال ٨: ١٨ وميخا ٣: ٤ وزكريا ٧: ١٣
    نَعْلَمُ أي نحن البشر. هذا العلم محصل غريزة الإنسان واختباره.
    لاَ يَسْمَعُ أي لا يجيب السؤال ولا سيما سؤال القوة على صنع المعجزات.
    لِلْخُطَاةِ أي المصرّين على خطاياهم فهو كقول داود «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ» (مزمور ٦٦: ١٨ انظر أيضاً مزمور ٥٠: ١٦ و١٠٩: ٧ وأمثال ١: ٢٨ و١٥: ٨ و٢٨: ٩ وإشعياء ١: ١٥ و٥٩: ١ و٢ وإرميا ١١: ١١ و١٤: ١٢ وحزقيال ٨: ١٨ وميخا ٣: ٤).
    وفي استدلال الأعمى هنا ثلاث قضايا:

    • الأولى: المبدأ العام وهو أن الله لا يسمع للخطاة أي الأنبياء الكذبة المحتالين.
    • الثانية: أن الله قد سمع ليسوع لأن الذي فعله لا يمكن أن يُفعل إلا بقوة إلهية.
    • الثالثة: نتيجة تينك القضيتين اللتين هما مقدمتا قياس حمليّ وهي أن يسوع ليس بخاطئ بل هو من الله.


    لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى ميز فتح عيني مولود أعمى عن غيره من الآيات والعجائب التي يمكن أن تكون بوسائط بشرية ففضل بذلك يسوع على موسى وسائر الأنبياء لأنه ليس في كل أنباء الكتاب المقدس خبر أن أحداً منهم فتح عيني مولود أعمى.
    ٣٣ «لَوْ لَمْ يَكُنْ هٰذَا مِنَ ٱللّٰهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً».
    ع ١٦
    مِنَ ٱللّٰهِ أي من أتقياء الله ورسله.
    لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً من مثل ما صنعه من المعجزات. ومثل ذلك سمع الله لإيليا النبي في جبل الكرمل وعدم سمعه لكهنة البعل. فهذا الأعمى الجاهل أظهر بقوله حكمة في الدين أكثر من الحكمة التي أظهرها فيه رؤساء الدين الحكماء وهذا وفق قول المسيح «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ» (متّى ١١: ٢٥).
    ٣٤ «قَالُوا لَهُ: فِي ٱلْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا! فَأَخْرَجُوهُ خَارِجا».
    ع ٢ وع ٢٢
    عجز الرؤساء أن يحملوا الأعمى على الكذب بالتهديد وبالتملق وخجلوا بعجزهم عن دفع حجته وشهادته الواضحة للحق وغضبوا من تجاسره على تعليمهم وتعجبه من جهلهم فانتقموا منه قولاً وفعلاً وشفوا به غيظهم من المسيح أيضاً.
    فِي ٱلْخَطَايَا وُلِدْتَ أشاروا بذلك إلى عماه منذ خليقته واتخذوا ذلك دليلاً على خطيئته المخصوصة وحلول غضب الله عليه كأنه دخل العالم ولعنة الله على وجهه وهذا نقض لإنكارهم أنه وُلد أعمى ع ١٨.
    وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا حسبوا ما قاله الأعمى في ع ٣١ و٣٢ تعليماً لهم فأنِفوا وغضبوا شديداً لأنه أميّ جاهل ادّعى أنه لا يعلم ما لا يعلمه معلمو الشريعة. وأن المولود وعليه علامات الخطيئة يأخذ يعلم الفريسيين الذين هم أقدس البشر (على زعمهم).
    فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً أي طردوه من المجلس وقطعوه من الشعب كما سبق في شرح ع ٢٢ وكان ذلك عند اليهود مخيفاً كأنه الموت. وقدر أرباب المجلس على هذا الحكم بأكثر الأصوات وإن اعترض البعض او سكتوا. ولم يزل أعداء الحق الروحي منذ أيام الفريسيين يقاومون أهله بالشتم والحرم.
    ٣٥ «فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟».
    متّى ١٤: ٣٣ و١٦: ١٦ ومرقس ١: ١ وص ١٠: ٣٦ و١يوحنا ٥: ١٣
    الأرجح أنه مضت مدة ما بين هذه الآية والآية التي قبلها لأن شيوع خبره كذلك يقتضي مرور شيء من الزمان.
    فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ سمعه ذلك باعتبار كونه إنساناً لا ينفي أنه علم ما كان بلاهوته وعرف أيضاً علة إخراجه وهي ثبوته في الاعتراف بالحق من جهة شفائه والإقرار بأن يسوع نبي.
    فَوَجَدَهُ لم يذكر متى وجده ولا أين وجده لا ريب في أن المسيح طلبه لكي يعزي قلبه ويقوي إيمانه ويعلمه ويشفع شفاءه الجسدي بشفائه الروحي. وفي هذا وفق ما اختبره داود أوضحه بقوله «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي» (مزمور ٢٧: ١٠). وما وعد المسيح بقوله «طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ ٱلنَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا ٱسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ» (لوقا ٦: ٢٢).
    أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ أي بالمسيح الموعود به. عبّر اليهود عن المسيح «بابن الله» بناء على ما قيل في مزمور ٢: ٧ و٨٩: ٢٧ لكنهم فضلوا أن يسموه بابن داود متوقعين أن يجلس في كرسي داود كملك أرضي (متّى ٢٢: ٤٢). لكن يسوع أراد أن يُظهر أن ملكوته روحي لا أرضي فسمى نفسه «بابن الله».
    ٣٦ «أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟».
    لم يقل ذلك لشكه بل لرغبته في المعرفة إذ لا يقر بأكثر مما يعرف. فكأنه قال نعم أني أؤمن بالمسيح المنتظر لكن لا أعرف أحداً له حق أن يُسمى بهذا الاسم. فإنه لم يرَ المسيح قبل هذا إنما سمع صوته قبل أن أبصر وعرفه أن هو الذي أبرأه إما بصوته أو بوصف الناس إيّاه له. واعتقد أنه نبي فهو قادر أن يصف له المسيح ويعلمه من هو. ويشبه سؤاله هذا سؤال شاول الطرسوسي وهو قوله «من أنت يا سيد» (أعمال ٩: ٥).
    ٣٧ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ».
    ص ٤: ٢٦
    صرّح المسيح بجوابه كما صرح بجوابه للمرأة السامرية (ص ٤: ٢٦) وذلك لأنه كان مستعداً لقبول كلامه.
    قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ أي تشاهد المسيح الآن بعينيك وتسمع صوته بأذنيك.
    ٣٨ «فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ».
    أُومِنُ يَا سَيِّدُ لا بد من أنه كان مستعداً لهذا الإيمان بفعل الروح القدس في قلبه وبتأمله في المعجزة وفي قوة الذي صنعها.
    وَسَجَدَ لَهُ أي عبده باعبتار أنه ابن الله كما فعل توما بعد قيامة يسوع إذ قال «ربي وإلهي». ولم يظهر أحد مثل إيمان الأعمى سوى قليلين قبل قيامة المسيح. وبلغ ذلك الإيمان في درجات (١) أنه ذكره بقوله «إنسان يقال له يسوع» ع ١١. و(٢) أنه نبي ع ١٧. و(٣) أنه من الله ع ٣٣. و(٤) أنه المسيح كما هنا.
    نرى مما قيل في هذه الآية أن يسوع باعتبار كونه «نور العالم» أوضح كونه كذلك بما فعله لهذا الأعمى وهو أنه مكنه من رؤية ضوء الشمس الحقيقي بعيني جسده ورؤية شمس البر بعيني نفسه.
    ولا نسمع شيئاً بعد من أمر هذا الإنسان والعجب من أن الفريسيين لم يطلبوا قتل يسوع لإبرائه ذلك الأعمى يوم السبت كما فعلوا عندما أبرأ المقعد عند بركة بيت حسدا في ذلك اليوم (ص ٥: ١٦).
    ٣٩ «فَقَالَ يَسُوعُ: لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هٰذَا ٱلْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ ٱلَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى ٱلَّذِينَ يُبْصِرُونَ».
    ص ٣: ١٧ و٥: ٢٢ و٢٧ و١٢: ٤٨ متّى ١٣: ١٣
    لا مناقضة بين ما قيل هنا وما قيل في ص ٣: ١٧ و١٢: ٤٧ حيث قال يسوع أنه لم يأت للدينونة لأن الدينونة المذكورة هنا غير الدينونة المذكورة هناك. وعاقبة التي هنا عمى قلوبهم لأنهم أبوا أن ينظروا الحق. وعاقبة التي هنالك هلاك الأشرار في جهنم فالمسيح أتى أولاً للخلاص لا للدينونة لكن أعمال الناس أوجبت الدينونة عليهم طبعاً وهو يأتي ثانية للدينونة لا للخلاص. فقوله هنا متعلق بقوله «أنا هو نور العالم» وهو بيان نتيجة إيمان البعض به ورفض البعض إياه. فالمتسول الأعمى آمن به فانتقل من الظلمة الجسدية أولاً إلى النور الجسدي ثم من الظلمة الروحية إلى النور الروحي.
    لِدَيْنُونَةٍ أي لتمييز أناس عن أناس وإعلان ما في قلوب الفريقين. وكان إتيانه امتحاناً لباطن كل إنسان. وهذا كقول سمعان الشيخ لمريم «إِنَّ هٰذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ الخ» (لوقا ٢: ٤٣ و٣٥). وقول الرسول أن المسيح «صار رأس الزاوية» للبعض «وحجر صدمة وصخرة عثرة» لآخرين (١بطرس ٢: ٦ - ٨) وكذا قول بولس في (٢كورنثوس ٢: ١٦). وحين أتى إلى العالم اجتمع إليه كل أبناء النور ذوي الأفكار الروحية وأما الجسدانيون أبناء هذا الدهر فانضموا إلى أعدائه من جنود ملكوت الظلمة.
    حَتَّى يُبْصِرَ ٱلَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ أي الذين يحسبهم الفريسيون عمياناً وهم الذين سماهم يسوع «بالأطفال» (متّى ١١: ٢٥ ولوقا ١٠: ٢١) وهم المتواضعون البسطاء الجهلاء الذين يطلبون المعرفة كالمرأة السامرية والأعمى الذي فتح عينيه. ومعنى قوله «يبصر الخ» ينالون البصيرة الروحية النيرة ويرون طريق الحق والواجبات والخلاص (ص ١٠: ٩).
    وَيَعْمَى ٱلَّذِينَ يُبْصِرُونَ أي الذين يحسبون أنفسهم من أهل النظر وهم الفريسيون المتكبرون المبررون أنفسهم الذين يظنون أن لهم كمال النور الروحي وأنهم لا يحتاجون إلى النور الذي من فوق يدعون أن لهم مفتاح المعرفة (لوقا ١١: ٥٢) وأنهم هم الحكماء والفهماء المذكورون آنفاً (متّى ١١: ٢٥ انظر أيضاً رومية ٢: ١٧ و ١كورنثوس ١: ٢١ و٣: ١٨) وهذا يصدق على أكثر الأمة اليهودية. ومعنى قوله «يعمي» يتبين لهم عماهم ويؤخذ منهم من النور ما يظهر أنه لهم ويًُتركون إلى الظلمة التي اختاروها وذلك قصاص كاف لهم لأنهم يأكلون من ثمر أعمالهم إذ أحبوا الظلمة أكثر من النور. وما قاله يسوع هنا يصدق على كل فرد وأمة. والقسم الأول من هذه الآية يصدق بالأكثر على الأمم والقسم الثاني يصدق بالأكثر على اليهود.
    ٤٠ «فَسَمِعَ هٰذَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟».
    رومية ٢: ١٩
    أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ هذا الاستفهام ضرب من التهكم كأنهم قالوا نحن علماء الشريعة فكيف تخاطبنا بمثل ذلك أتحسبنا عمياً بالروح. وهو إنكار أيضاً فكأنهم قالوا لسنا بالعميان.
    ٤١ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ».
    ص ١٥: ٢٢ و٢٤
    لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ العميان هنا إما عمي البصيرة وإما الشعور بالعمى الروحي. فإن كان قصد المسيح الأول كان المعنى أنكم لو كنتم عمي البصيرة حقيقة لا نور عقل لكم ولا نور الضمير أو نور الوحي لم تُحسب عليكم مسؤولية ولا خطيئة لأن المسؤولية على قدر الإدراك والمعرفة فالذي لا واسطة له لمعرفة الحق ولا قدرة على التمييز بين الحلال والحرام لا يدينه الله على عمايته. فكان خيراً لكم لو كنتم كما ذُكر إذ لا يكون عليكم حساب. وإن كان قصده الثاني فالمعنى لو شعرتم بجهلكم واعترفتم به لكنتم بلا خطيئة بالنسبة إلى خطيئتكم الآن لأنه يُرجى حينئذ أنكم تبصرون في المستقبل إذ أنا أشفيكم ولكن ما دمتم تظنون أنكم تبصرون أكثر من غيركم وتغمضون عيونكم عن الحق والإعلان السماوي ولا تسألون شفائي فلا رجاء فيكم.
    وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ أي أنتم أنفسكم تقرون أن لكم وسائط معرفة الحق فإذاً لا حجة لكم إن ادعيتم أنكم رفضتموني لجلهكم أني المسيح إذ لكم النبؤات المتعلقة بي ومعجزاتي وكلماتي ونور العقل ونور الضمير ومع كل هذه الوسائط والبراهين أمام عيونكم حولتم نظركم عن الحق أني أنا المسيح.
    فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ لأنه ثبت أن عمايتكم اختيارية وأنكم جنيتموها على أنفسكم فلم تُشف. وذلك لأنكم لم تؤمنوا بالمسيح وتطلبوا الشفاء منه وهو الطبيب الوحيد لهذا الداء. وإنما كانت خطيئة هؤلاء اليهود باقية لأنها هي التجديف على الروح القدس الذي لا مغفرة له لأنه إنكار الحق الواضح. ومعنى بقائها أنه لا مغفرة لها ولا فداء ولا شفاعة.
    لا تزال الحال حال الأمة اليهودية إلى هذا اليوم إذ لم تزل الخطيئة العظيمة باقية عليهم وهي رفضهم يسوع الناصري مسيحهم.



  2. #2
    الأصحاح العاشر

    مثل الراعي الصالح ع ١ إلى ٤٢


    ١ «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱلَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ ٱلْخِرَافِ، بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ».
    إرميا ٢٣: ١ إلى ٤ وحزقيال ٣٤ وزكريا ١١: ٤ إلى ١٧
    لم يتحقق هل من علاقة بين هذا الأصحاح والذي قبله أولاً. وإن كان هنالك علاقة فهي أن المسيح وصف الفريسيين الذين هم رؤساء الشعب بأنهم «قادة عميان» في الأصحاح التاسع. وأخذ يصفهم في هذا الأصحاح بأنهم رعاة لرعية الله يهملون واجباتهم ويظلمون الرعية. ولا يبعد عن الظن أن المسيح تكلم بذلك وهو خارج أورشليم وأمامه حظيرة غنم والرعاة. ولا يلزم أن هذا الفرض هو الداعي إلى ضرب المثل لأنه كثيراً ما عبر في العهد القديم عن الله وشبعه بالراعي والغنم وعن رؤساء إسرائيل بالرعاة. وكان أعظم مشهوري الإسرائيليين وأبطالهم رعاة كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وداود (انظر مزمور ٢٣ وإشعياء ٤٠: ١١ الخ).
    ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ ذكر الحق مكرراً كذلك في هذه البشارة أربعاً وعشرين مرة وقصد بها دائماً بيان أهمية الكلام وتأكيده.
    ٱلَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ ٱلْخِرَافِ الخ المقصود «بالحظيرة» هنا كنيسة الله المنظورة وكانت يومئذ الشعب اليهودي. كما يظهر من (إرميا ٢٣: ١ - ٤ وحزقيال ٣٤: ١ - ١٩ و٣٧: ٢٤ وزكريا ١١: ٤ - ١٧). والذين لم يدخلوا من الباب بل طلعوا من مكان آخر هم رؤساء الكهنة والفريسيون الذين استولوا يومئذ على شعب الله ولم يتصرفوا بسلطانهم كما يقتضيه خير الشعب. دعوا أنفسهم رعاة وأدخلوا إلى الحظيرة من أرادوا وطردوا منها من شاؤوا وادعوا انهم مفسروا كلام الله وأنهم يغذون به رعية الله لكنهم كانوا بالحقيقة متكبرين محبين لأنفسهم لا يسألون عن حاجات الشعب. فأظهروا حقيقتهم بمعاملتهم الأعمى الذي شفاه المسيح بأن طردوه من المجمع (ص ٩: ٣٤) فوجد المسيح هذا الخروف الضال واعتنى به.
    فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ قصد المسيح بذلك الفريسيين لأن أعمالهم في رعية الله كانت أعمال سراق ولصوص في حظيرة الغنم. والفرق بين السارق واللص هنا أن الأول يدخل الحظيرة بالمكر خفية والآخر يدخل إجباراً وعلانية. وكان أولئك الرؤساء يشبهون الاثنين وهم لا يستحقون وظائفهم مضرون ظالمون أهل خداع وجور. وليس مقصود المسيح أن ينكر عليهم حق الرئاسة بناء على أن الكهنة منهم لم يكونوا من أولاد هارون الذين عينهم الله كهنة وعلى أنه ليس للفريسيين منهم حقوق سياسية لكنه قصد أن صفاتهم لا تؤهلهم لأن يكونوا مرشدي الشعب الروحيين ومعلميهم ورؤسائهم. والمقصود هنا «بالموضع الآخر» غير باب الحظيرة الذي يدخل منه الراعي وهو ما فوق الجدران. والمقصود بالذي يطلع من ذلك «الموضع الآخر» هو من لم يدع دعوة روحية إلى أن يرأس الشعب إنما اتخذ الرئاسة بالميراث أو حباً بالربح والسلطان والكرامة والراحة.
    ٢ «وَأَمَّا ٱلَّذِي يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ فَهُوَ رَاعِي ٱلْخِرَافِ».
    وَأَمَّا ٱلَّذِي يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ ظن بعضهم أن المقصود «بالذي يدخل من الباب» المسيح نفسه لكن المسيح قال «أنا هو الباب» ع ٩ فلنا من ذلك أن المقصود بذلك الداخل المعلم الصادق الأمين. وإيمانه بالمسيح ومحبته إياه وطاعته له وحده تؤهله لوظيفته فمثل هذا يدعوه المسيح إلى وظيفته ويعينه ويُعده لممارستها.
    فَهُوَ رَاعِي ٱلْخِرَافِ هذه إحدى العلامات التي يُميز بها الراعي عن السارق واللص.
    ٣ «لِهٰذَا يَفْتَحُ ٱلْبَوَّابُ، وَٱلْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ، فَيَدْعُو خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا».
    أعمال ١٤: ٢٧ و١٦: ٦ و٧ و ١كورنثوس ١٦: ٩ و٢كورنثوس ٢: ١٢ وكولوسي ٤: ٣ ورؤيا ٣: ٨
    لِهٰذَا يَفْتَحُ ٱلْبَوَّابُ بواب الحظيرة إما أحد الرعاة الذين يرعون الغنم نهاراً ويحرسونها ليلاً في نوبتهم أو مستأجر لتلك الخدمة خاصة. فهو يعرف الراعي عند قدومه ويُدخله. وعلى ذلك يكون البواب ليس من ضروريات المثل إنما هو تكملة له لكونه الواقع. والدليل على ذلك أن المسيح لم يتكلم بعد على البواب كما تكلم على الباب والراعي. وذكر «البواب» هنا لأنه من جملة المميزات للراعي الحقيقي أنه لا يحتاج إلى دخول الحظيرة مكراً أو إجباراً بل أنه صديق وله حق أن يدخل. وفسر بعضهم «البواب» بالروح القدس الذي يدعو الرعاة الحقيقيين ويفتح قلوب الناس لقبول تعليمهم كما جاء في (أعمال ١٧: ٢٧ و٢كورنثوس ٢: ١٢) وفسره بعضهم بالآب.
    وَٱلْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ عندما يدعوها للخروج إلى المرعى وللرجوع منه إلى الحظيرة. والمعنى الروحي أن الشعب يقبلونه معلماً روحياً أميناً لاعتبارهم أن تعليمه من الله وأنه موافق لحاجاتهم وأنه محب لنفوسهم وأنه أمينٌ في وكالته. ويتضمن سمع صوته الإصغاء والطاعة.
    فَيَدْعُو خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ هذا دليل على أنه هو الراعي لأنه لو لم يكن كذلك ما عرف تلك الأسماء. والمعنى الروحي أن المعلم الديني يعرف كل الشعب الذي هو راعيه واحتياجاته المخصوصة لكي ينصحه أو يوبخه أو يعزيه أو يأتي غير ذلك مما تقتضيه الأحوال. وأشار بقوله «الخاصة» إلى الحصة الموكل بإرشادها من رعية المسيح الجامعة.
    وَيُخْرِجُهَا إلى المرعى والماء على وفق الراعي الحقيقي في (حزقيال ٣: ١) وعلى وفق الراعي الروحي في (مزمور ٢٣: ٢). والمراد «بالإخراج» هنا فعل المعلم بغية نفع جماعته بتحصيلها المعرفة الدينية والبركة السماوية. وما قيل هنا من صفات الراعي الأمين يوافق ما قاله موسى للرب «لِيُوَكِّلِ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ أَرْوَاحِ جَمِيعِ ٱلْبَشَرِ رَجُلاً عَلَى ٱلْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ أَمَامَهُمْ وَيَدْخُلُ أَمَامَهُمْ وَيُخْرِجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ، لِكَيْلاَ تَكُونَ جَمَاعَةُ ٱلرَّبِّ كَٱلْغَنَمِ ٱلَّتِي لاَ رَاعِيَ لَهَا» (عدد ٢٧: ١٦ و١٧ انظر أيضاً ١صموئيل ١٧: ٣٤ - ٣٧ و٢صموئيل ١٢: ٣).
    ٤ «وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا، وَٱلْخِرَافُ تَتْبَعُهُ، لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَه».
    وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ إما بصوته وإما بيده كل ما لم يسمع صوته منها.
    يَذْهَبُ أَمَامَهَا هذا عمل الراعي الحقيقي دائماً وهو يقود الغنم إلى المرعى. كذلك رعاة النفوس الأمناء يقودون النفوس إلى المسيح وإلى كلامه لإفادتهم وذلك بواسطة تعليمه إياهم وكونه قدوة لهم. ويتمثل بذلك بالمسيح الراعي العظيم الذي ذهب أمام شعبه في طريق التواضع وإنكار الذات والطاعة لأبيه وبجولانه يعمل خيراً وفي حمل صليبه ودخوله القبر ثم صعوده إلى السماء.
    وَٱلْخِرَافُ تَتْبَعُهُ أي يثق الشعب بتعليمه ويعتقد صحة تفسيره لكلام الله وأنه شاهد أمين بكل مشورة الله.
    لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ هذا زيادة على ما قيل قبلاً أنها تسمع صوته ع ٣ وفي ذلك إشارة إلى اختبار الخراف لأمانته.
    ٥ «وَأَمَّا ٱلْغَرِيبُ فَلاَ تَتْبَعُهُ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ، لأَنَّهَا لاَ تَعْرِفُ صَوْتَ ٱلْغُرَبَاء».
    ع ١
    وَأَمَّا ٱلْغَرِيبُ أي المعلم الخادع. ولا فرق بينه وبين السارق واللص المذكورين (آنفاً ع ١) إلا في درجات الضرر.
    فَلاَ تَتْبَعُهُ هذا عادة الغنم بالطبع كما نعلم ذلك بالاختبار. والمعنى أن رعية المسيح المتعلمة بكلامه وروحه تميز غالباً المرشد الحقيقي من المرشد المحتال. وذلك وفق قول الرسول «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ ٱلْقُدُّوسِ وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ» (١يوحنا ٢: ٢٠).
    بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ أي لا تصغي إلى قوله خوفاً من الضلال لتحققها أن قصده بدعوتها قصد اللص في الليل.
    لأَنَّهَا لاَ تَعْرِفُ صَوْتَ ٱلْغُرَبَاءِ أي لا تعتبر صوتهم صوت الأصحاب. وقصد المسيح «بالغرباء» هنا الفريسيين المتكبرين محبي الذات غير المحبين للحق فإنه كان للفريسيين أتباع كثيرة من أمثالهم لكنهم لم يكونوا من خراف المسيح.
    ٦ «هٰذَا ٱلْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ، وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ».
    هٰذَا ٱلْمَثَلُ الكلام هنا غير جار على سنن المثل تماماً. وإنما سمي مثلاً لأنه مستعار لمعنى روحي.
    فَلَمْ يَفْهَمُوا الخ كلامه في الرعاة والخراف واضح في نفسه والذين لم يفهموه منه أنه قصدهم «بالسارق» و «اللص» و «الغرباء» لظنهم أنه ما ساقه إلى ذلك إلا ما يحدث عادة للرعاة والخراف فإن كبرياءهم أعمت أذهانهم عن إدراك معناه.
    ٧ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ ٱلْخِرَاف».
    فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضا لأن هذا القول مكرر القول السابق وأبسط إيضاح لما لم يفهموه منه وأظهر بذلك طول أناته وتنازله.
    إِنِّي أَنَا بَابُ ٱلْخِرَافِ معنى المسيح بذلك أن الإيمان به واسطة دخول الكنيسة الحقيقية لمعلمي الديانة واتباعها كما أن باب الحظيرة واسطة دخول الخراف والرعاة إليها. وقوله هنا يتضمن أنه الوسيط بين الله والناس بناء على استحقاقه وعمله وشفاعته وتعيين الله إياه. وسترى شرح ذلك أيضاً في ع ٩.
    ٨ «جَمِيعُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ».
    ص ٨: ٤٤
    جَمِيعُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ ليس معناه أن كل الأنبياء والمعلمين من إبراهيم وموسى إلى يوحنا المعمدان هم كذلك بل أن أولئك هم الذين أتوا قبله معلمين في الدين وادعوا أنهم باب الخراف ولم يدخلوا بواسطته كالفريسيين وأمثالهم من رؤساء الشعب. ووصفهم بالسرقة واللصوصية لأن غايتهم أن يمجدوا أنفسهم ويظلموا الشعب. جلسوا على كرسي موسى ليبطلوا وصية الله بتقاليدهم ومنعوا الشعب من قبول يسوع المسيح الذي هو غاية الناموس فصدق عليهم قوله تعالى «وَيْلٌ لِلرُّعَاةِ ٱلَّذِينَ يُهْلِكُونَ وَيُبَدِّدُونَ غَنَمَ رَعِيَّتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ الخ» (إرميا ٢٣: ١ - ٤). وقوله «وَيْلٌ لِرُعَاةِ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَرْعَوْنَ أَنْفُسَهُمْ. أَلاَ يَرْعَى ٱلرُّعَاةُ ٱلْغَنَمَ؟ تَأْكُلُونَ ٱلشَّحْمَ وَتَلْبِسُونَ ٱلصُّوفَ وَتَذْبَحُونَ ٱلسَّمِينَ وَلاَ تَرعَوْنَ ٱلْغَنَمَ الخ» (حزقيال ٣٤: ٢ - ٦).
    ويشمل قوله «الذين أتوا قبلي» كل من ادعى أنه المسيح.
    ٱلْخِرَافَ أي شعب الله من الأتقياء المتواضعين كسمعان الشيخ وحنة النبية ووالدي المعمدان نعم إن أكثر الشعب كان قد فسد لكن بقي منه بقية من الأمناء (رومية ١١: ٣ و٤) وجه الشبه بين المسيحيين والخراف بيّن في شرح (ع ٢٧).
    لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ أي لم تقبل تعليم أولئك المرائين ولم تسلك بمقتضى أوامرهم ولا يلزم من ذلك أن الضلال لا يدخل الكنيسة أو أن شعب الله لا يسقط وقتاً بخداع الرؤساء بل أنه إذا ضل أو سقط يرجع إلى الحق. فكما أن الولد يعرف صوت أبيه كذلك أولاد الله يعرفون صوت الله الذي يخاطبهم بروحه وبكلامه ويخدم دينه ويميّز بين المدعين منهم كذباً أنهم يتكلمون باسم الرب والأمناء الصادقين.
    ٩ «أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعى».
    ص ١٤: ٦ وأفسس ٢: ١٨ عدد ٢٧: ١٦ و١٧
    أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ هذا كقوله «أنا نور العالم» «وأنا خبز الحياة» و «أنا الطريق والحق والحياة» وهو من معلنات المسيح العظيمة من جهة نفسه قصد به على الخصوص أن الرعاة الصادقين يدخلون كنيسته بواسطته وحده ويقامون للخدمة الدينية فيختارون ذلك محبة له ويخدمون الرعية إكراماً له بالروح الذي هو خدمها به فيسألونه دائماً الإرشاد في أعمالهم.
    ويتضمن قوله هذا أن المسيح هو الواسطة الوحيدة التي بها يستطيع الخطأة أن يأتوا إلى الله والسماء وينالوا الأمن والراحة وكل ما يحتاجون إليه.
    إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ بسمعه صوتي الذي يدعوه وتأثير روحي القدس في قلبه وبحفظه تعليمي وباقتدائه بي وباتكاله على بري وفدائه بدمي. وهذا وفق قول الرسول «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ» (أفسس ٢: ١٨).
    فَيَخْلُصُ انظر ٥: ٢٤.
    وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ غاية الخراف في الدخول إلى الحظيرة الأمن من الخطر خارجاً وغايتها في الخروج المرعى. ومعنى الفعلين كلهيما الحصول على الأمن والتمتع بالحرية والشبع. والمعنى الروحي أن شعب الله يجد في كنيسة الله الاتحاد بالمسيح والتمتع بمحبته والصيانة من أعداء النفس والحصول على الحرية الدينية والاطمئنان وبالإجمال النجاة من كل نتائج الخطيئة.
    وَيَجِدُ مَرْعىً أي تعليماً روحياً وتعزية وتقوية إيمان وفقاً لقول النبي «ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي الخ» (مزمور ٢٣: ١ - ٤).
    وما قاله المسيح هنا في خدمته للكنيسة لا يزال يأتيه الآن بواسطة روحه القدوس ورعاتها القسوس الذين يرسلهم. فيجب عليهم أن يتمثلوا به لأنه هو الراعي الصالح.
    ١٠ «ٱلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ».
    لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ وصف المسيح الفريسيين سابقاً بأنهم سراق ولصوص وأوضح هنا مقصودهم في الترأس على الشعب وهو نفع أنفسهم وتسلطهم وتحصيل الكرامة والغنى فيضرون بذلك الشعب لأن سيرتهم وتعليمهم من مهلكات نفوس الرعية وأشبهوا بأعمالهم الشيطان اللص الكبير الذي دخل فردوس الله خفية وسرق من الإنسان قداسته وحياته وتركه عرضة للخطيئة والموت.
    وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ أظهر المسيح الفرق العظيم بينه وبين رؤساء الدين عند اليهود بمقابلة مقصوده من مجيئه إلى العالم بمقصودهم من ترأسهم على الشعب. فهم أتوا ليميتوا الناس وهو أتى ليحييهم. والحياة التي منحها للعالم هي الحياة الروحية على هذه الأرض والحياة الأبدية في السماء (ص ٥: ٢٤ وص ٦: ٥٠ و٥١). وأكمل يسوع ذلك المقصود بأربعة أمور:

    • الأول: إعلانه أن الحياة التي أتى ليمنحها حياة روحية وأن الناس في أشد الاحتياج إليها.
    • الثاني: اشتراؤه تلك الحياة للناس بموته على الصليب.
    • الثالث: دعوته الناس إلى الإتيان إليه وقبول الحياة منه.
    • الرابع: هبته تلك الحياة للمؤمنين به.


    وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ هذا كقوله «مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (ص ١: ١٦). ومعنى الجملة أن المسيح لا يكتفي بأن يهب لنا ما هو ضروري للنجاة من جهنم والحصول على الحياة الأبدية بل يعطينا ما يجعل تلك الحياة في أعلى درجات السعادة ويتضمن ذلك راحة الضمير التامة وتأكيد مغفرة الخطايا ومصالحة الله والتبرير التام والوقاية من السقوط بالتجربة والتقديس الذي يُقبل عند بلوغ السماء.
    فالحياة الروحية التي وهبها المسيح للمؤمنين به أفضل من الحياة التي وهبها قبل مجيئه للأتقياء كإبراهيم وموسى وداود وأمثالهم وأفضل من الحياة التي فقدها آدم بمعصيته لانها كانت قابلة الفقدان. وأما الحياة التي وهبها المسيح فأبدية لا تُفقد ولأن الحياة التي ينالها المؤمن بإيمانه بالمسيح أعظم من الحياة التي ينالها باستحقاقه لو استطاع أن يثبت في القداسة الأصلية.
    ١١ «أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ».
    إشعياء ٤٠: ١١ وحزقيال ٣٤: ١٢ و٢٣ و٣٧: ٢٤ وعبرانيين ١٣: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢٥ و٥: ٤
    أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ أي لي كل الصفات المختصة بالراعي الصالح فأحب رعيتي وأنا مستعد أن أفعل كل شيء تحتاج إليه من الخير والصيانة وأنا رئيس كل الرعاة الروحيين الأمناء فيجب عليهم أن يقتدوا بي. وأكد المسيح أنه يكون لشعبه كما يكون الراعي الأمين لخرافه وهذا يتضمن ثلاثة أشياء:

    • الأول: أنه يعتني بإعداد كل ما يحتاج إليه.
    • الثاني: أنه حنون وشفوق بسياسته لها.
    • الثالث: أنه حريص على حمايتها ووقايتها من الخطر.


    يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ هذه العلامة المميزة للراعي الصالح من غيره وهي أنه مستعد أن يخاطر بحياته لكي يحمي غنمه كما فعل داود في وقاية خرافه من الدب والأسد (١صموئيل ١٧: ٣٤ و٣٥). وكما قال يفتاح في خدمته لشعب إسرائيل «لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّكُمْ لاَ تُخَلِّصُونَ، وَضَعْتُ نَفْسِي فِي يَدِي وَعَبَرْتُ الخ» (قضاة ١٢: ٣). فالمسيح قال أنه أتى لكي ينجي رعيته الروحية من الموت الأبدي بوضع حياته من أجلها ع ١٥ وبذلك أكمل النبوءة القائلة «أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ» (إشعياء ٥٣: ١٠). وقال المسيح مثل قوله هنا في (ع ١٥ و١٧ و١٨ وص ١٣: ٣٧ و٣٨ وص ١٥: ١٣).
    ١٢، ١٣ «١٢ وَأَمَّا ٱلَّذِي هُوَ أَجِيرٌ، وَلَيْسَ رَاعِياً، ٱلَّذِي لَيْسَتِ ٱلْخِرَافُ لَهُ، فَيَرَى ٱلذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ ٱلْخِرَافَ وَيَهْرُبُ، فَيَخْطُفُ ٱلذِّئْبُ ٱلْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. ١٣ وَٱلأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلاَ يُبَالِي بِٱلْخِرَافِ.
    زكريا ١١: ١٦ و١٧
    قابل المسيح في هاتين الآيتين عمل الراعي الذي يرعى الغنم بالأجرة بعمل الذي يرعاها وهي له. فالأجير لا ينفق شيئاً على الرعية إنما يعتني بها لمجرد أجرته وإن فقد منها شيء لا يخسر فإذا أتى ذئب ليخطف لا يعرض نفسه للخطر بمقابلته بل يهرب خوفاً من الموت ورغبة في الحياة ويترك الغنم تتبدد وتُفترس. وهذا الوصف يصدق على أكثر الأجراء وأما يعقوب وإن كان أجيراً فحفظ خراف لابان بكل أمانة واعتناء (تكوين ٣١: ٣٨ - ٤٠). والمعنى أن الذين يرعون شعب الله بغية الربح الدنيوي ليسوا بمستعدين أن ينكروا أنفسهم ويخاطروا بوظائفهم وراحتهم وصيتهم وكسبهم وحياتهم لحفظ الكنائس من أعدائها الروحية. فأمثال هؤلاء لم يدعهم الروح القدس إلى خدمة كنيسته ولم يخدموا الرعية حباً أن يخلصوا نفوسهم فأزمنة الخطر تمتحنهم وتظهر جبنهم.
    وكان الفريسيون ورؤساء الكهنة كالأجراء رغبوا في نفع أنفسهم فقط ولم يبالوا بنفوس الشعب ولم يريدوا أن يحموها من تجارب إبليس وغيرها من الأخطار الروحية فلذلك كان الشعب الإسرائيلي عند مجيء المسيح كرعية بلا راع (مرقس ٦: ٣٤). فإن قيل ما الفرق بين الأجير في هذه الآية والسارق واللص في الآية الأولى قلنا الفرق في درجة الشر والمراد بكليهما الفريسيون فإن بعض الفريسيين بمنزلة الأجير يحبون أنفسهم فيخدمون الشعب للربح الدنيوي وهم جبناء زمن الخطر وبعضهم بمنزلة السارق واللص في أنهم مضرون محتالون ظالمون.
    فَيَرَى ٱلذِّئْبَ مُقْبِلاً اقتصر على ذكر الذئب دون سائر المفترسات لأنه العدو المشهور للغنم. واستُعير هنا لكل الأعداء الروحيين الذين يضرون النفوس بتعاليمهم الفاسدة ويهلكونها. وصف المسيح الأنبياء الكذبة بأنهم كذئاب خاطفة (متّى ٧: ١٥). وقال في الأثني عشر «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ» (متّى ١٠: ١٦) وقال في الرسل السبعين «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ» (لوقا ١٠: ٣). وقال بولس لقسوس كنيسة أفسس «إَنِّي أَعْلَمُ هٰذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذَهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى ٱلرَّعِيَّةِ» (أعمال ٢٠: ٢٩). ولا يلزم من قول المسيح هنا أنه لا يجوز قط للراعي الروحي أن يهرب لحفظ حياته لأنه قد يجب عليه ذلك في بعض الأوقات فإن المسيح قال لرسله «مَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ فَٱهْرُبُوا إِلَى ٱلأُخْرَى» (متّى ١٠: ٢٣). وبولس هرب من دمشق خفية (أعمال ٩: ٢٥) وهرب هو وبرنابا من أيقونية (أعمال ١٤: ٦). ولكن يجب على الراعي الأمين أن يستعد لاحتمال الخطر إذا كان ذلك ضرورياً لخير الرعية. وهذا كان من صفات بولس وبرنابا بشهادة كنيسة أورشليم وهي قولها «مَعَ حَبِيبَيْنَا بَرْنَابَا وَبُولُسَ رَجُلَيْنِ قَدْ بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا لأَجْلِ ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (أعمال ١٥: ٢٥ و٢٦).
    فَيَخْطُفُ ٱلذِّئْبُ ٱلْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا أي يخطف البعض ويفرق الباقي.
    ١٤ «أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي».
    ٢تيموثاوس ٢: ١٩
    أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ هذا مكرر ما قيل في الآية الحادية عشرة بياناً لأهمية وظيفة المسيح الراعوية مع ذكر شيء من الأعمال المختصة بها مما لم يذكره قبلاً وزيادة إيضاح الفرق بينه وبين الفريسيين رعاة الشعب الطالحين.
    أَعْرِفُ خَاصَّتِي من صفات الراعي الأمين أن يعرف كل فرد من غنمه كذلك المسيح يعرف كل شخص من شعبه. وفي كلامه هنا دلالة على كمال اتحاده برعيته بناء على محبته واتخاذه طبيعة بشرية كطبيعتهم فإنه يعرف المؤمنين به أصدقاء ويعرف ضيقاتهم وتجاربهم وضعفهم وقصدهم اتباعه واحتياجاتهم كل يوم إلى مساعدته لهم على القيام بما يجب عليهم وعلى احتمال مصائبهم. وهذا وفق ما قاله المسيح لكل من كنائس آسيا السبع (رؤيا ص ٢ و٣). وهذا خلاف ما يقوله لمن ليسوا من خاصته فإنه يقول لهم «إني لم أعرفكم قط» (متّى ٧: ٢٣).
    وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي المؤمنون بالمسيح يعرفون المسيح صديقاً ومخلصاً ويعرفون احتياجهم إليه ورأفته عليهم بناء على اختبارهم عنايته وحمايته وسمعه صلواتهم وعلى هذا الاختبار قال بولس الرسول «إَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي» (٢تيموثاوس ١: ١٢).
    ١٥ «كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ ٱلآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ».
    متّى ١١: ٢٧ ص ١٥: ١٣
    كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ ٱلآبَ هذا تفسير لما قيل في ع ١٤ وتقرير له. قابل المسيح معرفته بالمؤمنين ومعرفة المؤمنين به بمعرفته بالآب ومعرفة الآب به. وقوله هنا بمعنى ما قال في (متّى ١١: ٢٧ ولوقا ١٠: ٢٢). وهذه الحقيقة من الحقائق التي لا يستطيع العقل البشري إدراك كنهها.
    وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ لكي تنجو من الموت. هذه صفة أخرى من صفات المسيح باعتبار راعويته فإنه علاوة على معرفته المؤمنين به مستعد أن يموت عنهم فلذلك أتى إلى العالم وهو على وشك أن يأتي ذلك حينئذ. وأشار بقوله هنا إلى عزمه على أن يسفك دمه على الصليب كفارة عن الناس وفداء لهم من الخطيئة والموت وذلك أعظم برهان على محبته لهم بدليل قوله «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (ص ١٥: ١٣).
    ١٦ «وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِد».
    إشعياء ٥٦: ٨ وص ١١: ٥٢ وأعمال ١٨: ١٠ حزقيال ٢٧: ٢٢ وأفسس ٢: ١٤ وعبرانيين ١٣: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢٥
    وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ أي الذين هم أعضاء كنيستي وأصدقائي وشعبي. قال المسيح أن أولئك الخراف له لأن الآب أعطاه إياها منذ الأزل في عهد الفداء فهو يحسبها له وإن لم تكن قد آمنت به أو سمعت باسمه وهي تعبد الأوثان حينما تكلم المسيح. وبهذا المعنى قول المسيح لبولس في أمر أهل كورنثوس وهم لم يزالوا وثنيين «إَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ» (أعمال ١٨: ١٠).
    لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ أي ليست من اليهود. وأشار بذلك إلى من قصد خلاصهم من الأمم. وهذه الحظيرة الثانية أكبر من الحظيرة الأولى كثيراً. وقد جاءت النبوءة بدعوة الأمم في بعض أسفار العهد القديم (إشعياء ٥٣: ١٣ وميخا ٤: ٢). وتمت هذه النبوءة بإيمان ألوف وربوات من الأمم منذ يوم قوله ذلك إلى هذه الساعة.
    يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً قال «ينبغي» لوجوب أن يتمم مقاصد الآب ونبوءات العهد القديم ويدرك رغبة قلبه في ذلك. ويأتي بتلك الخراف إلى كنيسته على الأرض ثم إلى ملكوته في السماء. ولا يأتي بها بتبشيره بنفسه بل بواسطة رسله ومبشريه وسائر خدم دينه وبإنجيله وروحه.
    يمكننا أن نتخذ كلام المسيح هنا جواباً لقول اليهود «إِلَى أَيْنَ هٰذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ... أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ ٱلْيُونَانِيِّينَ» (ص ٧: ٣٥).
    فَتَسْمَعُ صَوْتِي هذا نبوءة بإيمان الوثنيين به وتتلمذهم له. إن اليهود وهم في الحظيرة أبوا أن يسمعوا المسيح ويتبعوه (متّى ٨: ١١ ورومية ١١: ١٧) فهل تتوقع من الوثنيين أن يتركوا أوثانهم ويسمعوا كلام المسيح في الإنجيل ويؤمنوا به ومع ذلك أكد المسيح أنهم سوف يسمعون ويؤمنون ويطيعون. وهذه النبوءة تمت فعلاً وهو وعد ايضاً يُشجع به المبشرين بالإنجيل للأمم بأن تعبهم لا يكون عبثاً لأن الله بينهم شعباً وللمسيح خرافاً خاصة تسمع وتؤمن.
    تَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ اي أن الحقوق التي خُصت أولاً باليهود باعتبار كونهم شعب الله الخاص تعم المؤمنين من كل أمم الأرض ويُبطل التمييز بين اليهود وغيرهم من الناس وفقاً لقول الرسول «لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلاَثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ» (أفسس ٢: ١٤ انظر أيضاً رومية ١٠: ١٢).
    وَرَاعٍ وَاحِدٌ أي الرب يسوع المسيح الذي يعترف به المؤمنون في كل أرض رباً ومخلصاً. فحسب قول المسيح أن المؤمنين به في كل زمان ومكان ليسوا سوى كنيسة واحدة تُظهر للناس أن حظيرة الرب مقسومة إلى حظائر صغيرة كثيرة لأن لها أسماء مختلفة وطقوساً متنوعة وسياسات شتى وبعضها لا يعرف بعضاً وتنكر هذه أن تلك للمسيح. وأما المسيح فيحسب ما في جميعها قطيعاً واحداً. فوحدة الكنيسة قائمة بأن رأسها واحد هو المسيح وحياة كل فرد في تلك الكنيسة من مصدر واحد هو يسوع الذي اسمه «الحياة» ولها شريعة واحدة هي الكتاب المقدس ولها غاية واحدة هي أن تتبع المسيح وتخدمه وموضوع رجاء واحد هو موت المسيح على الصليب وقيامته فكان يجب أن يكون أعضاؤها في رأي واحد وحس واحد.
    وتظهر وحدة رعية المسيح المذكورة هنا عند مجيئه الثاني لا محالة وهل يتم ذلك قبله أولاً ذلك لا نعلمه لكن يجب أن نجتهد جميعنا في ذلك لأن ظهور تلك الوحدة من أعظم أسباب مجد المسيح ونفع العالم ولأن لا شيء يعوق الإنجيل أكثر من انقسام المسيحيين.
    ١٧ «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً».
    إشعياء ٥٣: ٧ و٨ و١١٢ وفيلبي ٢: ٨ و٩ وعبرانيين ٢: ٩
    لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ أحب الله ابنه منذ الأزل وما ذُكر هنا من جملة الأسباب الكثيرة التي أحب بها الآب ابنه وهو رضاه أن يتجسد ويأتي إلى هذا العالم ليموت عن البشر. ونرى من ذلك رغبة الله في خلاص الخطأة لأنه أحب ابنه كل هذه المحبة الخاصة لموته من أجل الأثمة. وعلامة هذه المحبة قول الآب في الابن «هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متّى ٣: ١٧). وإثابته له على اتضاعه (فيلبي ٢: ٩ وإشعياء ٥٣: ١٢).
    لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي أي حياتي الجسدية كفارة عن شعبي وبدلاً من موتهم وإنشاء لسبيل خلاصهم.
    لآخُذَهَا أي لأقوم من الموت لا لأتركها إلى الأبد. وأخذ المسيح حياته البشرية بعد الموت ذُكر هنا من أسباب زيادة محبة الآب له كأنه إنكار المسيح لذاته. وهذا بخلاف ما يصدق عليه لو كان إنساناً فقط لأن وضع الإنسان حياته وقتاً قصيراً مما يخفف مرارة الموت. وأما المسيح فلو ترك حياته الجسدية إلى الأبد وعاد إلى كونه إلهاً محضاً لكان ذلك أشرف له لكنه ما اكتفى بأن يأخذ الطبيعة البشرية إلى أن يوفي بها دين الناس لله حتى أخذها أيضاً. ولا يزال متسربلاً بها إلى الأبد لكي يهب لشعبه كل فوائد موته (رومية ٤: ٢٥ و١٤: ٩ وعبرانيين ٧: ٢٥ ورؤيا ٧: ١٧). وبهذا امتاز المسيح على أفضل الرعاة لأن خدمتهم للرعية تنتهي عند موتهم.
    ١٨ «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي».
    لوقا ٢٣: ٤٦ وص ٢: ١٩ ص ٦: ٣٨ و١٢: ٤٩ و١٥: ١ وأعمال ٢: ٢٤ و٣٢
    لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي أي لا أحد يغتصبها مني أو يجبرني على وضعها إنما أنا اخترت أن أضعها. فإن كل مؤامرة الفريسيين عليه ذهبت عبثاً حتى أتت ساعة موته. وأنه أخبر بيلاطس بأنه ليس له عليه من سلطان إلا بإذن الله (ص ١٩: ١١) وأن الجنود الذين أتوا ليمسكوه وقعوا في أول الأمر على الأرض (ص ١٨: ٦).
    أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي من أجل خلاص العالم. أبان يسوع بذلك أن محبته للخطاة علة موته لا قوة رؤساء اليهود ولا جند بيلاطس. وكان له حق أن يضع نفسه لأنه الله. وكون موت يسوع اختياراً نفى نسبة كل ظلم إلى الله في قبوله موت البار بدلاً من الأثمة.
    مما يوجب علينا شدة المحبة للمسيح أنه بذل نفسه عنا مجاناً واختار أشد الميتات عاراً وألماً.
    لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا باعتبار كوني المسيح المتجسد لما لي من السلطان الذاتي أي القوة وللسلطان الذي أخذته من أبي. فإن المسيح لعدم كونه خاطئاً لم يكن مُجبراً على أن يموت بحكم الله وحين كان بين أعدائه لو طلب نجدة الآب لأرسل إليه ربوات من الملائكة تنقذه من أيديهم.
    لِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً بعد الموت. وهذا يظهر أنه إله إذ ليس لبشر مثل هذه القوة وهي أن يقيم نفسه وهو ميت فهي قوة مختصة بالله.
    نُسبت قيامة المسيح هنا وفي ص ٢: ١٩ إلى الابن نفسه ونُسبت إلى الآب في أعمال ٢: ٢٤ و٣٢ ونُسبت إلى الروح القدس في ١بطرس ٣: ١٨ ونتيجة كل هذه الشواهد أن الأقانيم الثلاثة كانت تعمل معاً في قيامته.
    هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي حين شرعت في عمل الفداء. وهذه الوصية هي إذن الآب للمسيح في أن يموت ويقوم من تلقاء إرادته أي قول الله الآب له لما دخل العالم «لك أن تموت كمشيئتك». وسماه المسيح «وصية» تواضعاً لأنه لم يكن بالحقيقة سوى إذن. وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالوصية كل ما ذكره المسيح في هذا الخطاب بالنظر إلى كونه راعياً ووضع حياته من أجل الخراف وإدخال خراف أُخر إلى الحظيرة لكي تكون رعية واحدة وراع واحد. ولا شيء في أخذ الابن وصية من الآب ينفي مساواة الأقنوم الثاني للأقنوم الأول لأنه كان جزءاً من عمل الفداء تنازل إليه يسوع لينقذ الإنسان من الخطيئة وعقابها.
    ١٩ «فَحَدَثَ أَيْضاً ٱنْشِقَاقٌ بَيْنَ ٱلْيَهُودِ بِسَبَبِ هٰذَا ٱلْكَلاَمِ».
    ص ٧: ٤٣ و٩: ١٦
    كانت نتيجة خطابه هنا كسائر نتائج خطبه (ص ٧: ١٢ و٣٠ و٣١ و٤٠ و٤١ و٤٣ وص ٩: ٨ و٩ و١٦). وهذا وفق البنوءة القائلة أنه يكون علّة انقسام (إشعياء ٨: ١٤ ولوقا ٢: ٣٤).
    ٢٠ «فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟».
    ص ٧: ٢٠ و٨: ٤٨ و٥٢
    هذا كلام أعدائه من الجمع الذين غضبوا من تأثير كلامه على الباقين. وقولهم مثل ما قيل في ص ٧: ٢٠ و٨: ٤٨ والمعنى أنه مختل العقل لا معنى لكلامه ولا علاقة لبعضه ببعض. وحسبوا دعوى ذلك الجليلي الأمي أنه الراعي الصالح لشعب إسرائيل وأن له سلطاناً أن يضع حياته وأن يأخذها هذياناً.
    ٢١ «آخَرُونَ قَالُوا: لَيْسَ هٰذَا كَلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ ٱلْعُمْيَانِ؟».
    خروج ٤: ١١ ومزمور ٩٤: ٩ و١٤٦: ٨ وص ٩: ٦ و٧ و٣٢ و٢٣
    هذا كلام بعض الذين مالوا إلى يسوع من الفريسيين ولعله كلام غمالائيل ونيقوديموس ويوسف الرامي وأمثالهم. ودافعوا عن المسيح بشهادة كلامه وأعماله.
    هٰذَا كَلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ لأنه كلام ذو شأن وتقىً وحكمة.
    أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ الخ هذا مبني على المبدإ المشهور وهو أن صفة العمل تبين مصدره. فالشيطان لا يريد الأعمال الخيرية لأنه لا يقصد سوى الضرر. فمن شأن الشيطان أن يعمي البصير لا أن يفتح عيني الأعمى.
    ٢٢ « وَكَانَ عِيدُ ٱلتَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَكَانَ شِتَاء».
    الأرجح أنه مضى نحو شهرين بين زمن المخاطبة السابقة في هذا الأصحاح والوقت المذكور في هذه الآية فكانت تلك المخاطبة في عيد المظال الذي يقع في منتصف تشرين الأول وعيد التجديد المذكور هنا كان في منتصف كانون الأول. والأرجح أن المسيح لم يبق تلك المدة في أورشليم لأن اليهود كانوا يطلبون قتله بل رجع إلى الجليل وشرع يجول من هناك في بيرية كما ذُكر في (متّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١ ولوقا ٩: ٥١ - ص ١٨: ١٨).
    عِيدُ ٱلتَّجْدِيدِ عيّن هذا العيد يهوذا المكابي سنة ١٦١ ق. م تذكاراً لتطهير الهيكل بعد أن نجسه أنطيخوس أبيفانس سنة ١٦٤ ق .م فإن أنطيخوس أخذ أورشليم وأخربها وقتل أربعين ألفاً من أهلها وباع أربعين ألفاً من الأسرى وذبح خنزيرة على مذبح الهيكل. وكانت بداءة ذلك العيد في ١٥ كانون الأول وكانت أيامه ثمانية تحتفل فيها المدينة كما تحتفل في عيد المظال بكل علامات الفرح من الأغاني والرقص وما شاكل ذلك. وسُمي أيضاً «بعيد الأنوار» لكثرة المصابيح التي كانوا يوقدونها في تلك الأيام. وكان حضور ذلك العيد اختيارياً لا فرضاً.
    ٢٣ «وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي ٱلْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ».
    أعمال ٣: ١١ و٥: ١٢
    الأرجح أن إقامة يسوع في أورشليم وقتئذ قصيرة جداً بعد أن أرسل السبعين أمامه في بيرية (لوقا ١٠: ١). ولعله زار حينئذ بيت عنيا كما ذُكر (لوقا ١٠: ٣٨ - ٤٢).
    فِي ٱلْهَيْكَلِ أي في إحدى أدوره.
    فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ هو ممشى مسقوف على جانب الهيكل الشرقي يشرف على وادي يهوشافاط (أعمال ٣: ١١ و٥: ١٢ وانظر شرح متّى ٢١: ١٢). قال يوسيفوس المؤرخ أنه هو الجزء الوحيد الباقي مما بناه سليمان. ولا بد من أن زربابل وهيرودس الكبير أصلحاه وبنيا عليه. وعلة ذكر تمشيه في الرواق ما ذُكر في ع ٢٢ وهو أنه كان شتاء أي وقت البرد والمطر.
    ٢٤ «فَٱحْتَاطَ بِهِ ٱلْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْراً».
    فَٱحْتَاطَ بِهِ ٱلْيَهُودُ أي أعداؤه ع ٣١.
    إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا أي تتركنا في الريب. وأشاروا بذلك إلى أنه ادعى دعاوي سامية ولم يزل علة الشك فيها. فمن ذلك تسمية نفسه «راعياً» فالنتيجة أنه ادعى أنه المسيح. وهو صنع بعض الآيات وهذا من الأدلة المصدقة لدعواه ولكنهم مع ذلك لم يقتنعوا لأنه من الجليل والمسيح الموعود به ليس كذلك (ص ٧: ٥٢) وأنه فقير مهان وهذا خلاف ما توقعه اليهود لأنهم انتظروه ملكاً مجيداً وناصراً جليلاً. وعلى الجملة أنه هيّج آمال الأمة أنه المنقذ المنتظر ولكنه لم يأت أمراً مجيداً يليق بدعواه.
    إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ الخ المرجّح أنهم لم يقولوا ذلك عن إخلاص لأن يسوع كان قد أوضح أنه هو المسيح ولم يترك في ذلك مدخلاً للشك ولأنهم اعتمدوا أن لا يقبلوه مسيحاً فكان غرضهم أن يقول أنه هو المسيح صريحاً لكي يشتكوا عليه بأنه مجدف. وسألوا مثل هذا السؤال في لوقا ٢٢: ٦٧ لذلك الغرض أو الخداع عينه.
    ٢٥ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. ٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِٱسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي».
    ص ٥: ١٩ و٨: ٣٦ و٥٦ و٥٨ ص ٣: ٢ و٥: ٣٦ وع ٣٨
    لم يجبهم المسيح على ذلك تصريحاً كما أجاب المرأة السامرية والإنسان المولود أعمى لأنهما سألاه بإخلاص بل أجابهم ضمناً كما في ص ٨: ٢٥. فلو قال أنا المسيح لأنكر عليه ذلك بعضهم وجعل كلامه موضوعاً للهزء وعلى الشكاية إلى الرؤساء. وحمل البعض كلامه على غير مقصوده لأن معنى «المسيح» عندهم ناصر أرضي وملك دنيوي وهو ليس كذلك. ولو أنكر أنه المسيح الذي هم انتظروه لاستنتجوا أنه ليس هو المسيح الذي أنبأ به الأنبياء وأنه ليس برسول الله ولا بالمنقذ الروحي مع أنه هو كذلك.
    إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ أي أنبأتكم بما سألتموني عنه. وأنبأهم بذلك تلميحاً كافياً للإفهام لو أرادوا (انظر ص ٥: ١٩ و٨: ٣٦ و٥٦). وسمى نفسه «نور العالم» «والراعي الصالح» وكثيراً ما قال أنه «ابن الله» وعلموا أنه قصد بذلك بيان أنه المسيح.
    وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ ادعوا أنهم بين الشك واليقين أما هو فحقق لهم أنهم ليسوا كذلك إنما هم منكرون.
    ٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا أشار إلى معجزاته وأنها دليل كاف على أنه المسيح بدعوى أن الله لا يهب للخادع قوة على فعل المعجزات أي أن الله لا يثبت الكذب. وأورد مثل هذا البرهان في (ص ٣: ٢ و٥: ٣٦ و٧: ٣١ و٩: ٣٣ و٣٤).
    بِٱسْمِ أَبِي اي بسلطانه وبكوني رسوله. وذكر اليهود بأنه لا يفعل شيئاً مستقلاً عن الآب.
    ٢٦ «وَلٰكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي، كَمَا قُلْتُ لَكُمْ».
    ص ٨: ٤٧ و١يوحنا ٤: ٦
    وَلٰكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لا تؤمنون بأقوالي ولا بأعمالي.
    لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي من صفات الخراف أنها تعرف صوت راعيها فالذي لا تعرف صوته ليست من رعيته. فاليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح أظهروا أنهم ليسوا من شعبه. فخراف المسيح شعبه المتواضع المحب لتعاليمه والمصدق لها. وكبرياء اليهود وتعصبهم وسوء آرائهم في شأن المسيح المنتظر منعتهم من قبول أن يسوع هو المسيح كما شهدت بذلك أقواله وأعماله. ولم يريدوا أن يؤمنوا بأن مثل هذا الشخص الوديع يكون هو المسيح ولولا ذلك اقتنعوا بالبيّنات.
    كَمَا قُلْتُ لَكُمْ ص ٨: ٤٧ وص ٣: ١٠
    ٢٧ «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي».
    ع ٤ و١٤
    خِرَافِي أي شعبي الحقيقي. وأوجه الشبه بين المؤمنين بالمسيح حق الإيمان والخراف خمسة:

    • الأول: عدم الأذى.
    • الثاني: الوداعة.
    • الثالث: الضعف والاحتياج إلى راعٍ والتعرض للضلال والعجز عن الرجوع ومقاومة الأعداء.
    • الرابع: النفع.
    • الخامس: الطاعة وقبول التعليم.


    ونسبهم المسيح إليه بقوله «خرافي» لستة أسباب:

    • الأول: محبته لهم.
    • الثاني: أنهم عطية أبيه له.
    • الثالث: أنه فداهم واشتراهم بموته.
    • الرابع: أنه اختارهم ودعاهم.
    • الخامس: أنه يرعاهم ويحميهم ويعتني بكل حاجاتهم.
    • السادس: أنهم سلموا أنفسهم إليه طوعاً واختياراً.


    تَسْمَعُ صَوْتِي كما جاء في ع ٣ و٤ وهذا من علامات الخراف. والصوت الذي تسمعه هو قوله «تعالوا إلي» و «توبوا عن خطاياكم» و «آمنوا بي» و «التجئوا إليّ» و «أنكروا أنفسكم» و «كونوا شهوداً لي» و «بشروا بإنجيلي» و «اقبلوا كلامي مصدقين أنه حق وأطيعوه». ولم نزل قادرين على سمع صوت المسيح بإنجيله وبروحه في قلوبنا.
    وَأَنَا أَعْرِفُهَا كما جاء في ع ١٤ و١٥. وتتضمن هذه المعرفة رضاه إياهم ومحبته لهم وسروره بهم. وأنه يعلم رغبتهم في رضاه وطاعته ويعرف حاجاتهم وتجاربهم وأحزانهم وخطاياهم وجودة مقاصدهم. ومعرفته إياهم الآن تتضمن أنه يعترف بهم قدام أبيه في السماء. والذين يعرفهم المسيح لا يعرفهم العالم ولا يبالي بهم بل كثيراً ما يحتقرهم ويضطهدهم (١يوحنا ٣: ١).
    فَتَتْبَعُنِي كما تتبع الخراف راعيها ع ٣. ويتبع المؤمنون المسيح معلماً لهم بأن يطيعوه ويتكلوا عليه ويسيروا في أثره. ويجدوا فيه قوتاً لنفوسهم. ويتبعوه للعمل في كرم الرب. ويتخذوه مخلصاً وقائداً من الظلمة إلى النور ومن الخطيئة إلى القداسة ومن الأرض إلى السماء.
    ٢٨ «وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي».
    ص ٦: ٣٧ و١٧: ١١ و١٢ و١٨: ٩
    وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً تكلم في الآيات السابقات على صفات الخراف وتكلم هنا على حقوقها وامتيازاتها. وهبة الحياة الأبدية تتضمن المغفرة وراحة الضمير والمصالحة لله والسرور في هذه الدنيا وفي الآخرة مع المجد. وحصَّل تلك الحياة لهم بموته وشفاعته ويهبها لهم بروحه القدوس. وبيّن العلاقة بين أتباعه ونوال الحياة في (ص ٨: ١٢) وليس لأحد غير المسيح أن يقول «أنا أعطي الحياة الأبدية» وهذا من الأدلة على لاهوته ونعمته.
    لَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ كما يهلك الأشرار في جهنم حيث يعاقبون على آثامهم (متّى ١٠: ٢٨ و١٨: ١٤ ويوحنا ٣: ١٥). وهذا الوعد توكيد للمسيحيين أنهم يكونون مصونين من الأخطار الداخلية كشهوات الجسد وفساد القلب وضعف الطبيعة ومن الأخطار الخارجية وهي تجارب الشيطان والعالم.
    وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي أي لا يجذبها إلى خدمة الخطيئة وترك المسيح. ولا يقدر على ذلك إنسان بفصاحته وخداعه وقوته وتخويفه ولا يستطيع الشيطان ذلك بحيله واقتداره ومهارته في التجربة. والخطف إما أن يكون في الخفاء كما يفعل السارق وإما في العلانية كما يفعل اللص المغتصب. ولا خوف على نفس المؤمن التي في يد المسيح من شيء منهما.
    وهذا الوعد من الأدلة على ثبوت المؤمنين في النعمة وهو أن كل من آمن الإيمان الحق لا يمكن أن يسقط من النعمة ويهلك (رومية ٨: ٣٨ و٣٩). وهو ليس بوعد لكل المعترفين بيسوع المسيح ولا لكل المعتمدين بل للذين يسمعون صوت المسيح ويتبعونه قلباً وسيرة. وهذه الصيانة ليست ناتجة عن قوة عزمهم على اتباع المسيح وشدة تمسكهم به بل عن مسك المسيح إيّاهم وقصده الأزلي في أمرهم. وعلتها محبة المسيح لهم وقد برهن ذلك بموته عنهم ولا يزال يبرهنه بحفظه إياهم. ولا يلزم مما قيل أن المؤمن لا يُجرب ولا يخطئ ولا يسقط مدة في ضلال بل المعنى أن الله لا يتركه في الضلال إلى أن يسقط في هاوية الهلاك.
    وأسباب صيانة المؤمنين بالحق أربعة:

    • الأول: كون الله أعطى يسوع إياهم.
    • الثاني: تحصيل يسوع الحياة الأبدية لهم ومنحهم إياها.
    • الثالث: تعهد الآب والابن معاً بوقايتهم من الهلاك.
    • الرابع: أنه ليس من قوة في العالم تقاوم قوة الله ومقاصد يسوع الخيرية لهم.


    وقد ذُكر ثلاثة أمور هنا لكل منها وافر البركات وهي معرفة المسيح لخرافه ومنحه إيّاها الحياة الأبدية وصيانته لها من الهلاك.
    ٢٩ «أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي».
    ص ١٤: ٢٨ و١٧: ٢ و٦ الخ
    غاية هذه الآية بيان أمن شعب المسيح.
    أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا (ص ٦: ٣٧). كان ذلك الإعطاء قبل تأسيس العالم (أفسس ١: ١٤). وهو من علل تسمية المؤمنين خرافه وما يؤكد لهم حفظه إياهم وعدم سماحه أن يخطفهم أحدٌ من يده.
    هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ أي كل من يريد أن يخطف خرافي من يدي من الناس والأبالسة. وكونه أعظم من الكل يمنع إمكان خطفها من يده فالله قادر أن يحفظها ويريد ذلك فالمؤمنون في أمان.
    وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي قال مثل هذا سابقاً في شأن يده هو فإذاً للمسيحيين سندان لأمنهم الأول عظمة محبة المسيح لهم والثاني عظمة قدرة الآب المحيطة بهم. وما ذُكر علة بقاء كنيسة المسيح كل تلك القرون مع شدة الاضطهادات التي وقعت عليها والضلالات الفظيعة التي طرأت فيها وكذا يكون في المستقبل.
    ولعل في ما قاله المسيح هنا تلميحاً إلى الأعمى الذي أبرأه وهو أنه وإن كان اليهود قد أخرجوه من مجمعهم وحرموه حقوق الشعب اليهودي لم يُخطف من يد الله أي لم يستطيعوا أن يحرموه الخلاص.
    ٣٠ «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ».
    ص ٧: ١١ و٢٢
    غاية المسيح من كلامه هنا أمن الخراف وإثباتاً لذلك قال أن الآب والابن واحد في القصد والمشيئة والشعور والفعل في شأن الخراف. فالآب يحفظ كل ما للابن والابن يحفظ كل ما للآب. وهذا يتضمن أن الآب والابن واحد في الجوهر والمجد والمقام والقوة. وكذا فهم اليهود معنى المسيح كما يظهر من قولهم في ع ٣٣ والمسيح لم يخطئهم على هذا الفهم. ووحدة الآب والابن لا تمنع من التمييز بينهما في الأقنومية والوظيفة. وما قيل في هذه الآية ينفي ضلال سباليوس في قوله ليس في اللاهوت سوى أقنوم واحد وينفي بدعة آريوس وهي قوله المسيح دون الآب لأنه يستحيل كونهما واحداً بدون المساواة.
    وفي هذه الآية جواب لقول اليهود في ع ٢٤.
    ٣١ «فَتَنَاوَلَ ٱلْيَهُودُ أَيْضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ».
    لاويين ٢٤: ١٠ الخ وص ٨: ٥٩
    أَيْضاً أي كما فعلوا سابقاً لما قال يسوع «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (ص ٨: ٥٨) وفعلوا ذلك لأنهم حسبوا كلامه تجديفاً (ع ٣٣) وأرادوا أن يعاقبوه بمقتضى الناموس (لاويين ٢٤: ١٤ - ١٦ وعدد ١٥: ٣٦) ولم يقدروا أن يجروا ذلك شرعاً لمنع الرومانيين لهم لكنهم قصدوا أن يفعلوه على سبيل الهياج والشغب كما فعلوا باستفانوس (أعمال ٧: ٥٧ و٥٨).
    ٣٢ «فَقَالَ يَسُوعُ: أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟».
    مرقس ٧: ٢٧
    فَقَالَ يَسُوعُ على فكرهم وقصدهم. والظاهر أن إجابته لهم أوقفتهم وقتاً عن رجمهم إياه. وخلاصة قوله أنه لا يجيز العقل ولا الشرع أن ترجموا أحداً قبل بيان ارتكابه الذنب الموجب لذلك.
    أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أي نافعة جيدة. ولم يذكر يوحنا في إنجيله كثيراً من تلك الأعمال بل أشار إلى أنها كثيرة (ص ٢: ٢٣ و٣: ٢ و٥: ٣٦ و٢٠: ٣٠). ومن تلك الأعمال شفاء المرضى وفتح عيون العمي.
    أَرَيْتُكُمْ أي فعلتها أمام عيونكم برهاناً على أني من الله.
    مِنْ عِنْدِ أَبِي أي التي عيّنها الآب لكي أفعلها كما عيّن الأقوال التي قلتها وأقولها. علم المسيح أنهم اغتاظوا من كلامه فقال لهم ماذا وجدتم من الشر في أعمالي لأن القصد في كليهما واحد وهو بيان أنه المسيح ابن الله. فبيّن في هذه الآية أنه بريء من كل ذنب يوجب رجمهم إياه.
    ٣٣ «أَجَابَهُ ٱلْيَهُودُ: لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلٰهاً».
    ص ٥: ١٨
    يظهر من هذا أن المسيح ادعى مساواته لله في ع ٣٠ بقوله «أنا والآب واحد» لأنه كذا فهم اليهود معناه والمسيح لم ينكر أنه عنى ذلك. وقد أعلنوا بجوابهم عجزهم عن أن يبينوا عملاً واحداً شريراً من كل أعمال يسوع مع أن المسيح دعاهم إلى ذلك وهذا مثل ما في (ص ٨: ٤٦).
    لَسْنَا نَرْجُمُكَ أي ما عزمنا على رجمك.
    بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ انظر شرح (متّى ٩: ٣ ويوحنا ٥: ١٨). وهذا على وفق الشريعة في (لاويين ٢٩: ١٠ - ١٦). وفسروا في هذه الآية ما اعدوا أنه تجديف.
    وَأَنْتَ إِنْسَانٌ نعم لو كان المسيح إنساناً فقط لكان كلامه تجديفاً واستحق أن يُرجم بموجب شريعتهم ولكنه مع كونه إنساناً هو الله فكان يستحق الإيمان به والسجود له. فما بقي في المسئلة إلا أحد الأمرين وهو إما أن يعبدوا يسوع إلهاً وإما أن يرجموه مجدفاً.
    تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلٰهاً أي تدعي الألوهية. ادعى اليهود الغيرة العظيمة لله وأنهم مكلفون بالمحاماة عن مجد اسمه والحق أنه لم يحركهم إلى ذلك إلا الحسد والبغض.
    ٣٤ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟».
    مزمور ٨٢: ٦
    دفع المسيح اتهامهم إياه بالتجديف بوجهين:
    الأول: أنه لو كان مجرد إنسان فتسميته نفسه ابن الله ليس بتجديف (ع ٣٤ - ٣٦).
    الثاني: أن أعماله تبيّن أنه الله فله حق أن يعلن أنه كذلك بأسمى معناه (ع ٣٧ و٣٨).
    فِي نَامُوسِكُمْ في كتبكم الإلهية. جاء الناموس في العهد الجديد بثلاثة معانٍ:

    • الأول: أسفار موسى الخمسة (لوقا ٢٤: ٢٤).
    • الثاني: العهد القديم سوى أسفار الأنبياء (متّى ٢٢: ٤٠).
    • الثالث: كل العهد القديم كما في هذه الآية وفي (ص ٧: ٤٩ و١٢: ٣٤ و١٥: ٢٥ ورومية ٣: ١٩ و ١كورنثوس ١٤: ٢١).


    ونُسب الناموس إليهم لاعتبارهم إياه مقدساً ليس فيه من تجديف.
    أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ هذه الآية السادسة من المزمور الثاني والثمانين. والمتكلم هو الله قاضي القضاة. والمخاطبون هم القضاة ودعاهم الله آلهة لأنهم رؤساء الشعب ومنزلتهم أرفع من منزلة غيرهم من الناس وعليهم مسؤولية عظيمة في سياسة الشعب والله نفسه عيّنهم لوظيفتهم وهم أخذوا سلطانهم منه وقضوا بالنيابة عنه بدليل قول حزقيال «وَقَالَ لِلْقُضَاةِ: ٱنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ فَاعِلُونَ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْضُونَ لِلْإِنْسَانِ بَلْ لِلرَّبِّ، وَهُوَ مَعَكُمْ فِي أَمْرِ ٱلْقَضَاءِ» (٢أيام ١٩: ٦). وقول موسى «لاَ تَنْظُرُوا إِلَى ٱلْوُجُوهِ فِي ٱلْقَضَاءِ. لِلصَّغِيرِ كَٱلْكَبِيرِ تَسْمَعُونَ. لاَ تَهَابُوا وَجْهَ إِنْسَانٍ لأَنَّ ٱلْقَضَاءَ لِلّٰهِ» (تثنية ١: ١٧). وسمي الرئيس النائب عن الله إلهاً في (خروج ٤: ١٦ و٧: ١). وكان كل الذين سموا آلهة رموزاً إلى يسوع المسيح الذي هو إله وإنسان.
    ٣٥ «إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوب».
    رومية ١٣: ١٠
    إِنْ قَالَ آلِهَةٌ أي ناموسكم.
    لأُولٰئِكَ أي الرؤساء أو القضاة وهم ليسوا سوى أناس عينهم الله نواباً عنه في سياسة الشعب.
    ٱلَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ أي الذين أعطاهم الله سلطاناً أن يأمروا باسمه ويقضوا.
    وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوبُ انظر شرح (متّى ٥: ١٨). والمراد هنا بالمكتوب الناموس. ومعناه أنه ليس لأحد أن ينسخ الناموس أو يستهين به أو يذمه بل يجب على نفس كل إنسان أن تقبله باحترام وتحسبه قاطع كل جدال لأنه كلام الله كُتب بوحي الروح القدس. ومقصود المسيح بما اقتبسه هنا من المزامير أنه إذا كان الناموس سمى الرؤساء بالآلهة فذلك دليل قاطع على جواز تسميتهم بذلك وما جاز في كتاب الله ليس بتجديف وهذا دفع كاف لأتهامهم المسيح بالتجديف بما نسبه إلى نفسه.
    وما عنى المسيح بذلك أنه مثل أحد أولئك الرؤساء المخلوقين إنما جاءه على سبيل الفرض.
    ٣٦ «فَٱلَّذِي قَدَّسَهُ ٱلآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟».
    ص ٦: ٢٧ ص ٣: ١٧ و٥: ٣٦ و٣٧ و٨: ٤٢ ص ٥: ١٧ و١٨ و١: ٣٥ وص ٩: ٣٥ و٣٧
    فَٱلَّذِي قَدَّسَهُ ٱلآبُ جاءت لفظة «قدس» في مواضع كثيرة من الكتاب بمعنى عيّن للخدمة الإلهية ومن ذلك ما جاء في (خروج ٢٨: ٤١ و٢٩: ١ و٤٤ ولاويين ٨: ٣٠) والمعنى هنا أن الله عيّن ابنه منذ الأزل مسيحاً. ومعنى التقديس هنا كمعنى الختم في (ص ٦: ٢٧).
    وَأَرْسَلَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ كان في السماء فأرسله إلى الأرض ليخلص البشر. وفي هذا إشارة إلى تجسده (ص ٣: ١٧ وعبرانيين ٣: ١ و١يوحنا ٤: ١٤). واختلف المسيح بذلك عن الرؤساء الذين دعاهم آلهة لأنهم كانوا في الأرض وصارت إليهم كلمة الله.
    لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ٱبْنُ ٱللّٰهِ لم يقبل ذلك صريحاً بل لزم عن قوله في (ع ٢٩ و٣٠)، واليهود فهموا ذلك بدلالة الالتزام ع ٣٣. فإذاً كان المسيح أولى منهم بالإنصاف بالألوهة وأن لا سبيل لهم إلى اتهامهم أياه بالتجديف وحجته عليهم لفظ ناموسهم بعينه.
    ٣٧ «إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي».
    ص ١٥: ٢٤
    ما قاله المسيح آنفاً كاف لتبرئة نفسه من التجديف إذ أبان لهم أن ناموسهم نسب الألوهة إلى المخلوقات الذين هم دونه ولكنه لم يقتصر على التخلص من تهمة التجديف بل أراد أيضاً أن يبين لهم كل الحق في تسمية نفسه إلهاً بدليل أن ما فعله لا يستطيع فعله إلا الله.
    أَعْمَالَ أَبِي أي أعمالاً مثل أعمال أبي (ص ٥: ١٧) وهي الأعمال التي لا يستطيع أن يعملها إلا الله. ومراد المسيح هنا أنه لعمله مثل أعمال الله أثبت لنفسه قوة كقوة الله. فإذاً هو مساوٍ له ويحق له أن يعلن ألوهته لفظاً فليس في كلامه شيء من التجديف.
    فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي أي فلا تصدقوا أني المسيح وأني ابن الله. لم يسألهم التسليم بدعواه بلا برهان بل سألهم أن يحكموا هل الأعمال التي عملها كأعمال الله أو لا فإذا كانت كأعمال الله وجب أن يؤمنوا به وإلا فتهمتهم صحيحة. وكلامه هنا وفق كلامه في (ع ٣٢ وص ٥: ١٧ و٣٦ و٩: ٣ و١٤: ١٠).
    ٣٨ «وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِٱلأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ ٱلآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيه».
    ص ٥: ٣٦ و١٤: ١٠ و١١ و١٧: ٢١
    كان عليهم أن يقتنعوا بكلامه لما فيه من الأدلة على أنه تكلم بالحق وأن كلامه كلام الله ولكنهم إذ لم يقتنعوا بذلك أورد لهم شهادة أعماله بصحة دعواه كما أورده لرسولي يوحنا المعمدان إذ قال لهما «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: ٱلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجُ يَمْشُونَ الخ» (متّى ١١: ٤ و٥). انظر شرح (ص ٥: ٣٦).
    أَنَّ ٱلآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذا كقوله «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (ع ٣٠). وهو إيضاح للاتحاد الكلي بينه وبين الآب ومساواة أحدهما للآخر وأن تصريحه بذلك ليس بتجديف.
    ٣٩ «فَطَلَبُوا أَيْضاً أَنْ يُمْسِكُوهُ فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ».
    ص ٧: ٣٠ و٤٤ و٨: ٥٩
    الظاهر أنهم لم يقتنعوا ببرهانه من ناموسهم ولا بشهادة معجزاته بل ظلوا مصرين على قصدهم قتله (ع ٣١ وص ٧: ٣٠ و٣٢ و٣٤). ولعلهم عدلوا عن قصدهم الأول وهو أن يرجموه في الهيكل (ع ٣١) وعزموا على ذلك في موضع آخر.
    فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ كان سهلاً عليه أن يفعل ذلك بدون معجزة ظاهرة إذ جعل كل اجتهادهم عبثاً كما فعل قبلاً (ص ٨: ٥٩ ولوقا ٤: ٣٠).
    ٤٠ «وَمَضَى أَيْضاً إِلَى عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِيهِ أَوَّلاً وَمَكَثَ هُنَاكَ».
    ص ١: ٢٨
    وَمَضَى أَيْضاً إِلَى عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ أي إلى الشرق ذلك النهر إلى البلاد المسماة بيرية وشغل أكثر الستة الأشهر الأخيرة من زمن خدمته على الأرض هنالك.
    إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ كما ذُكر في (ص ١: ٢٨) واسم المكان بيت عبرة. وقال مضى أيضاً لأنه عُمّد هنالك وابتدأ خدمته. ولم يذكر أنه عاد إليه غير هذه المرة في كل زمن خدمته على الأرض. ولا بد من أن مصيره إلى هنالك ذكر تلاميذه بشهادة يوحنا له في ذلك المكان.
    وَمَكَثَ هُنَاكَ من عيد التجديد إلى عيد الفصح الذي صُلب فيه وما بينهما نحو أربعة أشهر. ولا يلزم من الكلام هنا أنه بقي في مكان واحد والأرجح أنه كان يجول في أرض بيرية. وذلك يوافق كلام لوقا في إنجيله على خدمة المسيح في بيرية.
    ٤١ «فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ وَقَالُوا: إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً، وَلٰكِنْ كُلُّ مَا قَالَهُ يُوحَنَّا عَنْ هٰذَا كَانَ حَقّاً».
    ص ٣: ٣
    فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ ممن أرادوا الاستفادة من تعاليمه. وكان موضعه موافقاً لذلك إذ كان قريباً من أورشليم فهان على الناس أن يذهبوا إليه وكان بمعزل عن اضطهاد الفريسيين. ولا بد من أنه ذكرهم بمناداة يوحنا بالتوبة هنالك وشهادته للمسيح.
    وَقَالُوا إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً الخ في قولهم هنا شهادتان إحداهما ليوحنا والأخرى للمسيح. فصدقوا أولاً أن يوحنا كان نبياً بدون معجزة وتحققوا حينئذ أنه كذلك لأنه قد ثبت صدق نبوءته بشأن المسيح. وشهدوا ليسوع بأنه المسيح بناء على شهادة يوحنا بأن يسوع هو «الآتي» أي المسيح وبناء على اختبارهم بما شاهدوا وسمعوا من معجزاته وتعاليمه.
    ٤٢ «فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِهِ هُنَاك».
    ص ٨: ٣٠ و١١: ٤٥
    هذا كما قيل في (ص ٨: ٣٠ و١١: ٤٥) ولا شيء يدل على أن إيمانهم لم يكن قلبياً ثابتاً. فمقاومة أهل أورشليم للمسيح كانت فائدة لأهل بيرية.

    الأصحاح الحادي عشر


    إقامة لعازر وتأثيرها في الرؤساء وفي الشعب (ع١–٥٧)


    ١ «وَكَانَ إِنْسَانٌ مَرِيضاً وَهُوَ لِعَازَرُ، مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا».
    لوقا ١٠: ٣٨، ٣٩
    لا نعرف لماذا لم يذكر أحد من البشيرين هذه المعجزة سوى يوحنا، لكننا نعلم أن الروح القدس ألهم كل بشير أن يكتب ما كتبه، ونعلم أن البشيرين متّى ومرقس ولوقا سجلوا بالأكثر خدمة المسيح في الجليل وتركوا ما حدث في اليهودية، ويوحنا سجَّل ما حدث في اليهودية. وظن بعضهم أنهم لم يذكروا إقامة لعازر خوفاً من اضطهاد اليهود لبيت لعازر (ص ١٢: ١٠، ١١). وأما يوحنا فكتب بعد خراب أورشليم وقد زال كل خوف من وقوع مثل ذلك الاضطهاد. والأرجح أن ما ذُكر في هذا الأصحاح كان في آخر خدمة يسوع في بيرية.
    لِعَازَرُ هو في اليونانية كذلك، ولكنه في العبرانية «ألعازر» ومعناه «الرب عون» ولا نعرف من أمره إلا أنه كان من بيت غني، ونستنتج ذلك من الوليمة التي أُعدت في بيته ليسوع (ص ١٢) ومن الطيب الذي أتت به أخته إلى المسيح فإنه لا يقدر على تقديم مثله سوى الأغنياء، ومن كثرة الأصحاب الذين أتوا ليعزوهم عن وفاة لعازر، وأن لعازر دُفن في قبر منحوت في الصخر.
    مِنْ بَيْتِ عَنْيَا انظر شرح متّى ٢٦: ٢. وتسمى اليوم اللعازرية.
    قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا أي القرية التي كانتا تسكنان فيها (لوقا ١٠: ٢٨). والأرجح أن مرثا هي الكبرى (لوقا ١٠: ٣٨). وذُكرت مريم أولاً لأنها اشتهرت أكثر من مرثا لسبب دهنها جسد يسوع بالطيب.
    ٢ «وَكَانَتْ مَرْيَمُ، الَّتِي كَانَ لِعَازَرُ أَخُوهَا مَرِيضاً، هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ، وَمَسَحَتْ رِجْلَيْهِ بِشَعْرِهَا».
    متّى ٢٦: ٧ ومرقس ١٤: ٣ ويوحنا ١٢: ٣
    انظر شرح متّى ٢٦: ٦ - ١٣.
    هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ قيل ذلك لتمييزها عن غيرها من المريمات، إذ ذُكر أربع منهن في البشائر، وهن مريم أم يسوع، ومريم امرأة كلوبا، ومريم المجدلية، ومريم هذه. وميّزها يوحنا بدهنها جسد الرب لأنه كان أمراً مشهوراً، ذُكر أيضاً في يوحنا ١٢: ٣. ويجب أن نميّز بينها وبين المرأة المذكورة في لوقا ٧: ٣٧، لأن أخت لعازر دهنته في بيت عنيا، وتلك دهنته في الجليل، وأن أخت لعازر كانت تقية وشهد لها المسيح بأنها «اختارت النصيب الصالح» وأما تلك فكانت خاطئة.
    ٣ «فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ قَائِلَتَيْنِ: يَا سَيِّدُ، هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ».
    فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ كان يسوع حينئذٍ في عبر الأردن على نحو سفر يوم أو أكثر من بيت عنيا، وأرسلتا إليه بسبب ما كان بينهم من الصداقة، ولأن المسيح كان يتردد إلى بيتهما حين كان يأتي إلى أورشليم (لوقا ١٠: ٣٨ ويوحنا ١٢: ١، ٢).
    هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ لا بد من أن غايتها من ذلك مجيء المسيح ليشفي أخاهما، أو أن يشفيه بكلمة من على بُعد، كما شفى غيره. ولم تسألاه الشفاء بل اكتفتا بإخباره بالمرض، فأظهرتا بذلك التواضع والإيمان بقوته ومحبته. وما فعلته الأختان بواسطة إرسال الرسول يمكننا أن نفعله الآن بالصلاة عند مرض أحد أقربائنا أو أصحابنا، مع اتخاذ الوسائل البشرية النافعة. ولا يجوز أن نغفل عن أحد الأمرين.
    ٤ «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: هَذَا المَرَضُ لَيْسَ لِلمَوْتِ، بَل لأجْلِ مَجْدِ اللَّهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللَّهِ بِهِ».
    يوحنا ٩: ٣ ،٤٠
    فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ الأرجح أن الرسول حمل الخبر إلى المسيح شفاهاً لا كتابة، وأجابه المسيح شفاهاً على مسمع من التلاميذ. ولم يوضح المسيح مراده تمام الإيضاح، بل قصد بجوابه تعزية الأختين وإنشاء الرجاء في قلبيهما.
    هَذَا المَرَضُ لَيْسَ لِلمَوْتِ قال المسيح هذا بناءً على معرفته العاقبة، وعلى قصده أن يقيمه. فلم يقل إن لعازر لا يموت، بل إن عاقبة هذا المرض ليست للموت المعتاد المستمر. فكأنه قال: هذا المرض لموت وقتي، لا للموت العادي. فهو كقوله في بنت يايرس إنها لم تمت بل هي نائمة لأنه قصد أن يحييها.
    بَل لأجْلِ مَجْدِ اللَّهِ أي لإظهار مجده. وتم ذلك الإظهار بإقامة لعازر. فإكرام يسوع بسبب ذلك، وإيمان الناس به، وزيادة إيمان لعازر وسائر بيته من وسائط إظهار مجد الله، لأنها حملت الناس على تمجيده بألسنتهم وقلوبهم. ويجب أن يكون موت كل مسيحي لمجد الله بالإيمان الذي يُظهره عند احتضاره، وبإيمان أقربائه وأصحابه وصبرهم على وفاته.
    ٥ «وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ».
    الحب هنا بمعنى الحنو وإرادة الخير على ما يفيد الأصل اليوناني، وهو ترجمة الكلمة التي تُرجم عنها حب الله العالم. وأما الحب في ع ٣ فهو ترجمة لفظة تفيد المحبة الشخصية الطاهرة. ويحسُن أن ننتبه لأن محبة يسوع للعازر لم تمنع عنه المرض والموت، ولم تمنع أختيه من الحزن على ذلك. فالمرض والموت ليسا دليلاً على غضب الله أو بغضه أو إهماله. وذكر يوحنا محبة المسيح لهؤلاء الأشخاص لئلا يتوهم القارئ أن إبطاء المسيح المذكور في الآية الآتية نتج عن عدم اكتراثه بهم.
    ٦ «فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي المَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ».
    يوحنا ١٠: ٤٠
    مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي المَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أي في بيت عبرة في بيرية يوحنا ١: ٢٨ و١٠: ٤٠
    يَوْمَيْنِ قصد المسيح أن يمكث هذين اليومين بدلاً من أن يسرع إلى بيت عنيا لأسباب اقتضتها حكمته. ولولا ذلك لشفاه بكلمة أو أدركه قبل أن يموت، ودفع عنه ألم الموت وعن أختيه مرارة الحزن، كما فعل بابن خادم الملك (يوحنا ٤: ٥٠). ومن تلك الأسباب أنه كان عليه عملٌ في بيرية لم يكن قد أجراه. وأنه لو أتى وشفاه ما حدثت تلك المعجزة التي هي أعظم معجزاته (ما عدا قيامته هو)، وما سمعنا منه هذا التعليم الذي ألقاه بمناسبة إحياء لعازر. فخسارة أهل ذلك البيت كانت ربحاً عظيماً لكل مسيحي. ولنا من خبر موت لعازر أن الله يسمح بالمصائب الجسدية للخيرات الروحية، وأن إبطاءه عن إجابة الصلاة ليس دليلاً على أنه يرفضها أو أنه لا يحب السائلين.
    ٧ «ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِتلامِيذِهِ: لِنَذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ أَيْضاً».
    ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أي بعد يومين من وصول الرسول إليه ورده الجواب. والمسافة بين بيت عنيا وبيت عبرة سفر يوم. فإذا فرضنا أن لعازر مات يوم مجيء الرسول إلى يسوع، فذلك اليوم مع اليومين اللذين مكث فيهما يسوع في بيت عبرة، واليوم الذي سار فيه مع تلاميذه إلى بيت عنيا أربعة أيام (ع ٣٩).
    لِنَذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ قال هذا لأنه كان في بيرية (يوحنا ١٠: ٤٠) وبيت عنيا في اليهودية.
    ٨ «قَالَ لَهُ التّلامِيذُ: يَا مُعَلِّمُ، الآنَ كَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ، وَتَذْهَبُ أَيْضاً إِلَى هُنَاكَ».
    يوحنا ١٠: ٣١
    كَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ أشار التلاميذ بذلك إلى ما حدث في أورشليم يوم عيد التجديد منذ بضعة أسابيع حين طلب الكتبة والفريسيون أن يقتلوه (يوحنا ١٠: ٣١، ٣٩).
    وَتَذْهَبُ أَيْضاً إِلَى هُنَاكَ أظهر التلاميذ بذلك تعجبهم من ذهاب المسيح إلى اليهودية وخوفهم على حياته وحياتهم، ورغبتهم في عدوله عن قصده.
    ٩، ١٠ «٩ أَجَابَ يَسُوعُ: أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي النَّهَارِ لا يَعْثُرُ لأنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هَذَا العَالَمِ. ١٠ وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ يَعْثُرُ، لأنَّ النُّورَ لَيْسَ فِيه».
    يوحنا ٩: ٤ يوحنا ١٢: ٣٥
    لم يشجع المسيح تلاميذه الخائفين بقوله: لا تخافوا، بل ضرب لهم مثلاً مناسباً لكل مسافر يستطيعون أن يستنتجوا منه ما يطمئن قلوبهم.
    أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ أخذ اليهود قسمة النهار اثني عشر جزءاً عن البابليين أيام سبيهم إلى بابل، وظلوا على ذلك إلى يومنا هذا. والكلام هنا خبر بصورة الاستفهام، ومعناه أنتم تعلمون أن ساعات النهار إلخ.
    لا يَعْثُرُ لأنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هَذَا العَالَمِ لأن النهار مدة إضاءة الشمس، فيكون فيه ما يكفي المسافر من الضوء ليرى طريقه ويتجنب العثرات، فيكون آمناً فيه. ولذلك لا داعي لخوفه. وسمى الشمس «بنور هذا العالم» لأنه يضيء بها.
    ِإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْل حال المسافر في الليل خلاف حاله في النهار، إذ لا نور في سبيله، فيكون عرضة للتعثر والسقوط، فلا بد من أن يخاف لأسباب وجيهة. وقد أشار المسيح «بساعات النهار الاثنتي عشرة» إلى كل زمن خدمته على الأرض الذي عيّنه الله (يوحنا ٩: ٤، ٥). وأن ذلك الوقت لم ينته بعد، ولذلك لا يخشى أن يؤذيه أحد حتى ينتهي نهاره وتأتي ساعة موته (يوحنا ٧: ٦، ٨ ،٣٠ و٨: ٢٠). وصرّح بأنه مثل مسافر في ضوء الشمس لا يخشى خطراً من عثرة أو سقوط، فطمأنهم بحفظه إياهم من الخطر. فحفظهم منه وهم معه وأنه يجب أن يُجري عمله حتى وسط الأعداء الذين يطلبون قتله. وفي ما ذُكر تلميح إلى أن زمن الأمن الذي عبر عنه «باثنتي عشرة ساعة» على وشك النهاية، وأن ليلة موته قريبة.
    ١١ «قَالَ هَذَا وَبَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لَكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ».
    تثنية ٣١: ١٦ ودانيال ١٢: ٢ ومتّى ٩: ٢٤ وأعمال ٧: ٦٠ و١كورنثوس ١٥: ١٨، ٥١
    هَذَا أي ما ذُكر من كلام على نهار الأمن وليل الخطر.
    حَبِيبُنَا أشار بذلك إلى أن التلاميذ كانوا يحبون لعازر، كما كان هو يحبه. فكان يجب أن يُسروا بالذهاب إليه. وتسمية يسوع لعازر «حبيبه» يدل على محبته لكل مؤمن، إذ لم يكتف بتسميته تلميذاً أو عبداً. فخيرٌ للمؤمن أن يكون حبيباً للمسيح من أن يكون حبيباً لكل ملوك الأرض، لأنه يحبنا في الحياة والموت وبعد الموت وإلى الأبد.
    نَامَ أشار بذلك إلى موت لعازر بأسلوب لطيف جداً. ومن صدَّق أن يسوع إله كما أنه إنسان لا يتعجب من معرفته وهو في بيت عبرة ما حدث في بيت عنيا. وكثيراً ما عبّر الكتاب المقدس عن الموت بالنوم أو الرقاد، ومن ذلك ما في تثنية ٣١: ١٦ ودانيال ١٢: ٢ ومتّى ٩: ٢٤ و٢٧: ٥٢ وأعمال ٧: ٦٠ و١٣: ٣٦ و ١كورنثوس ٧: ٣٩ و١١: ٣٠ و١٥: ٦ - ١٨، ٥١ و١تسالونيكي ٤: ١٣، ١٤ و٥: ١٠.
    وأوجه الشبه بين الموت والنوم ثلاثة: (١) المنظر. (٢) رجاء قيام كل من الميت والنائم، فالموت ليس نهاية الإنسان لأنه لا بد من أن يستيقظ يوم القيامة. (٣) الراحة لأن في النوم راحة من أتعاب النهار، وفي الموت راحة من أتعاب الحياة.
    أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ لم يذكر غايته من الذهاب أولاً (ع ٧) إنما أعلنها هنا، وهي إقامة إنسان ميت. فالمخادع لا يعلن غايته لئلا ينتبه المشاهدون لكشف خداعه.
    إن إيقاظ النائم العادي من أسهل الأمور، وأما إيقاظ الميت فيحتاج إلى قوة إلهية. وأظهر المسيح بهذه العبارة ثقته بسلطانه على تلك القوة الخارقة الطبيعة.
    ١٢ «فَقَالَ تلامِيذُهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى».
    لعل علة جهلهم ما قصده المسيح بكلامه في آية ٤ أنهم فهموا أن مرض لعازر ليس مميتاً، فاتخذوا المجاز حقيقة، وحكموا أن نوم لعازر عادي، وأنه علامة النقاهة بعد المرض. ولا عجب من خطئهم فإنه سبق لهم مثل ذلك في أمر الخميرة (متّى ١٦: ٦) وفي أمر السيف (لوقا ٢٢: ٣٨) وفي أمر الطعام (يوحنا ٤: ٣٢). ونتيجة زعمهم أنه لم تبق هناك حاجة للذهاب إلى بيت عنيا.
    ١٣ «وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ النَّوْمِ».
    هذا تفسير يوحنا لكلام المسيح. كان يجب على التلاميذ أن يذكروا قول يسوع في بنت يايرس (وقد ماتت) «إنها نائمة» (متّى ٩: ٢٤).
    ١٤ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ علانِيَةً: لِعَازَرُ مَاتَ».
    أعدّ قلوبهم بما قال من المجاز إلى الخبر الحقيقي. ولو لم يكن المسيح إلهاً يعلم كل شيء ما استطاع معرفة موت لعازر.
    ١٥ «وَأَنَا أَفْرَحُ لأجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا. وَلَكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ».
    وَأَنَا أَفْرَحُ لأجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا في هذا تلميح إلى أنه لو كان في بيت عنيا عندما مرض لعازر لشفاه لا محالة. ولا شك أن التلاميذ استغربوا كلامه هذا إذ لم يتوقعوا إقامة لعازر، فكانوا يعتقدون أنه كان عليه أن يفرح لو كان هناك لينقذه من مرضه الشديد. ومعنى كلام المسيح هنا أن موت لعازر كان نتيجة غيابه من بيت عنيا، وأن المسيح سيقيمه لأنه مات، وأن تقوية إيمان تلاميذه بأنه المسيح من جملة فوائد تلك الإقامة.
    ولم يقل المسيح إنه فرح بموت لعازر، بل قال إنه فرح بفوائد الإحياء الناتجة عن موته. فموت أصحابنا وإن كان محزناً في ذاته، ربما كان علة فرح لمن استفادوا منه استفادة روحية وآل إلى تمجيد الله.
    ولنا من ذلك أن تقوية إيمان التلاميذ كانت من أعظم الأمور ذات الشأن عند المسيح، وإلا لما سمح بكل ذلك المصاب العظيم لأجلها.
    لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ لم يقل: لنذهب إلى حيث كان أو إلى قبره، بل «إليه». وهذا دليل على قصده إقامته، وإلا لم صحَّ ذهابهم إليه أو اجتماعهم به.
    ١٦ «فَقَالَ تُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ لِلتّلامِيذِ رُفَقَائِهِ: لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ».
    تُومَا ذُكر أيضاً في يوحنا ١٤: ٥ و٢٠: ٢٤ - ٢٧ وما ذُكر من أمره يدل على أنه كان يميل إلى التساؤل والشك.
    لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ أي مع المسيح لأنه لم يسمع لنصحنا أو توسلاتنا أن لا يذهب إلى اليهودية محل الخطر. فالظاهر من كلامه أن قول المسيح إنه يذهب ليوقظه لم يؤثر فيه شيئاً، ولم يتوقع أن المسيح سيقيم لعازر، وأنه ينتظر أن يقتل اليهود يسوع ويقتلوهم معه. ومع كل ذلك قصد لحبه إياه أن لا يتركوه، بل أن يُقْدم على الخطر معه. والأرجح أن كل التلاميذ شاركوا توما في أفكاره وعزمه.
    ١٧ «فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي القَبْرِ».
    فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ من بيت عبرة في بيرية (وهي في عبر الأردن) إلى بيت عنيا نحو مسيرة يوم. ولعل المسيح قضى في ذلك السفر أكثر من يوم، فبلغ بيت عنيا في غد اليوم التالي ليكون له وقت من النهار كافٍ لإقامة لعازر وما تعلق بها. ولم يدخل يسوع القرية عند وصوله إليها بل بقي خارجها (ع ٢٠، ٣٠). ولعل سبب ذلك أن اليهود الذين كانوا في بيت لعازر لم يكونوا من أصدقاء يسوع، وأنه لم يحب أن يشاهد مظاهر الحزن ويسمع الضجيج (مرقس ٥: ٤٠)، وأنه رغب في أن يرى أصحابه الحزانى بمعزل عن الجمع. والأرجح أنه أرسل إليهم نبأ وصوله.
    لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي القَبْرِ لو عرفنا الوقت الذي شغله الرسول بذهابه من بيت لعازر إلى حيث كان يسوع، وعرفنا الوقت الذي شغله يسوع بذهابه من بيت عبرة إلى بيت عنيا، لعرفنا الوقت الذي بقي فيه لعازر حياً بعد ذهاب الرسول من بيته إلى يسوع. فإن الرسول قد صرف يوماً بذلك الذهاب، وصرف يسوع يوماً بالمجيء، وكان موت لعازر في يوم انطلاق الرسول إلى يسوع، وجملة ذلك مع اليومين اللذين مكث فيهما يسوع أربعة أيام. والأرجح أن المسيح صرف ما يزيد على اليوم، وإلا ما بقي وقتٌ من النهار لإقامته، فيكون موت لعازر بعد يوم من انطلاق الرسول. ومرور أربعة أيام على لعازر في القبر يدفع توهّم أنه كان قد أُغمي عليه ولم يمت حقيقة. وقوله في هذه الآية «وجد أنه قد صار له الخ» لا ينفي معرفته ذلك قبلاً، فإنه كان قد أخبر تلاميذه بذلك قبل أن يجيء (ع ١٤). فالمعنى أن الناس هناك شهدوا له بذلك.
    ١٨ «وَكَانَتْ بَيْتُ عَنْيَا قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ نَحْوَ خَمْسَ عَشَرَةَ غَلوَةً».
    وَكَانَتْ قال «كانت» لأنه حين كتب إنجيله كانت أورشليم وكل القرى التي حولها خرباً.
    قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ وذكر ذلك دليل على أنه لم يكتب إنجيله لسكان الأرض المقدسة. وذكر هنا قرب بيت عنيا من أورشليم بياناً لمجيء المعزين من أورشليم إليها.
    خَمْسَ عَشَرَةَ غَلوَةً أي نحو ميلين أو ثلثي ساعة (انظر شرح متّى ٢١: ١).
    ١٩ «وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ اليَهُودِ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيُعَزُّوهُمَا عَنْ أَخِيهِمَا».
    كان من عوائد اليهود أن يعزوا أهل الميت سبعة أيام بعد موته. واعتاد يوحنا أن يعني باليهود رؤساء الشعب الذين كان أكثرهم من أعداء يسوع. ولا دليل أنه لم يقصد ذلك هنا. وأتوا لتعزية ذلك البيت إما لأنهم من أقربائه، أو لأن وظيفتهم اقتضت ذلك.
    ٢٠ «فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاقَتْهُ، وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي البَيْتِ».
    لَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا الأرجح أن مرثا كانت أكبر من مريم، ومن المعلوم أنها كانت مدبرة البيت (لوقا ١٠: ٤٠) عرفت بقدوم المسيح إما من رسول أرسله يسوع، أو لأنها رأته من بعيد، فأسرعت إليه إلى خارج القرية. ولم تخبر أختها بما كان، وإلا لم تقل لأختها بعد ذلك «المعلم قد حضر» (ع ٢٨).
    وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً كأنها قد غرقت في الحزن (أيوب ٢: ٨ وحزقيال ٨: ١٤). وظهرت من الأختين الصفات التي ظهرت منهما يوم الوليمة التي ذُكرت في لوقا ١٠: ٣٩ - ٤٢، إذ كانت مريم جالسة عند قدميه، ومرثا مهتمة بأمور البيت.
    ٢١ «فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي».
    لم تقصد مرثا أن تلوم المسيح على غيابه بل أن تظهر أسفها على ذلك. ولم تتعجب من أنه لم يشفِه بكلمة وإن كان غائباً، كما تعجب غيرها من المعزين. ويفيد كلامها أنها كانت تعتقد أن المسيح لو كان حاضراً عند مرض أخيها لشفاه، لأن محبته له كانت تمنعه من أن يسمح بموته، وأن رئيس الحياة لا يسمح للموت أن يفترس أحداً أمام عينيه. ويفيد أيضاً اعتقادها أنه قد مضت الفرصة النافعة للعازر، وأنه انقطع الأمل بانتهاء حياته. وأن حضور المسيح بشخصه كان ضرورياً لشفاء المريض ودفع الموت. وفي كلام مرثا دليل على ثقتها بمحبة المسيح وقوته الفائقة الطبيعة على شفاء المريض، بشرط حضوره قبل موته، وتمنيها عدم غيابه فكأنها قالت: يا ليتك كنت هنا!
    ٢٢ «لَكِنِّي الآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ يُعْطِيكَ اللَّهُ إِيَّاهُ».
    يوحنا ٩: ٣١
    كلامها هنا مبهم، لكنه أظهر أن مجيء المسيح نبَّه إيمانها وبشرها بالمعونة والبركة بطريق لم تعرفه، ومع ذلك لم تتوقع أن يُحيي أخاها كما يُستدل من أقوالها وأعمالها بعد ذلك. وقولها: «ما تطلب من الله يعطيك الله إياه» يدل على أنها لم تعتبر يسوع سوى نبي، لا قوة له من ذاته على المعجزات، إنما ينال القوة على ذلك من الله بصلواته كما نالها إيليا وأليشع، وأنها نسيت كيف فعل المسيح المعجزات سابقاً.
    ٢٣ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: سَيَقُومُ أَخُوكِ».
    سَيَقُومُ أَخُوكِ لم يقل لها متّى ولا كيف يقوم، وكان هذا امتحاناً لقدر إيمانها به ليزيدها إيماناً. وهي لم تحسب كلامه وعداً بإقامته في الحال.
    ٢٤ «قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي القِيَامَةِ، فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
    لوقا ١٤: ١٤ ويوحنا ٥: ٢٩
    كانت مرثا تعتقد بالقيامة العامة بناءً على أقوال التوراة إن الصالحين يقومون في يوم الدين، ففهمت من كلام المسيح تلك القيامة ولم تتوقع غيرها. وكان ذلك الانتظار في المستقبل البعيد تعزية قليلة في مثل ذلك الحزن الوافر.
    ٢٥ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَنَا هُوَ القِيَامَةُ وَالحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا».
    يوحنا ٥: ٢١ و٦: ٣٩، ٤٠، ٤٤ ويوحنا ١: ٤ و٦: ٣٥ و١٤: ٦ وكولوسي ٣: ٤ و١يوحنا ١: ١، ٢ و٥: ١١ ويوحنا ٣: ٣٦ و١يوحنا ٥: ١٠ الخ
    علَّمها يسوع هنا ما لم تعلم من أمر عظمته وقوته، وهو أنه غير مفتقر إلى غيره، وليس محتاجاً أن يصلي للآب لينال قوة ليفعل ما يريد.
    أَنَا هُوَ القِيَامَةُ أي أنا علة القيامة الجسدية والقيامة الروحية ومصدرهما، علاوة على أني مُعلنهما، فأنا غالب موت وكل نتائجه. والمسيح هو القيامة الآن، وليس فقط في اليوم الأخير، لأنه هو القيامة، فهي ممكنة حيث كان. فلا يلزم أن تتوقع مرثا قيام أخيها في اليوم الأخير فقط. ومثل وصف يسوع نفسه بكونه القيامة وصف الرسول إياه بأنه «صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللَّهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» ( ١كورنثوس ١: ٣٠).
    وَالحَيَاةُ انظر شرح يوحنا ١: ٤. أي هو ينبوع كل حياة جسدية وروحية، وهذا يتضمن أنه القيامة أيضاً لأن مُبدئ الحياة الذي يقدر أن يعيدها، فقد أبدع حياة المخلوقات الحية من العدم. وأن كل من نال الحياة الروحية من البشر إنما نالها منه. وهو يحفظها دائماً، وأن كل الذين يقومون من الموت إنما يقومون به، وأنه لا حياة لأحد من الناس بدونه. فالمسيح صرح هنا بأنه «القيامة والحياة» وأثبت ذلك بالمعجزة وهي إقامته لعازر، وفتح لنا سبيلاً إلى ذلك بموته وقيامته. وحياته عربون قيامتنا وحياتنا، وهو يُجري كل ذلك بقوته.
    مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ كما مات لعازر. فالموت هنا موت جسدي فقط لأن إيمان المؤمن دليل على أنه حي بالحياة الروحية، فلا يمكن أن يكون الإنسان ميتاً بالروح ومؤمناً معاً. ولنا من ذلك أن انفصال الروح عن الجسد لا يؤثر شيئاً في حياة الروح، وأن المؤمنين لا بد من أن يقوموا من الموت ويحيوا فيشاركونه في تلك الحياة إلى الأبد. نعم إن المؤمن يموت كما مات لعازر ويُدفن جسده في القبر، لكن ذلك تسلط الموت على الجسد وقتياً. وأما نفسه فهي متحدة بالمسيح دائماً، فلن يتسلط الموت عليها. وما صحَّ على المسيح الذي هو الرأس يصح على جميع المؤمنين الذين هم أعضاء جسده، فإن الموت استولى عليه وقتياً وقام غالباً للموت، وكذلك كل المؤمنين به يقومون بواسطته. وفي كلامه هنا تسليم بأن الإيمان لا يقي الإنسان من الموت الجسدي، وفيه استخفافٌ بذلك الموت لأنه إلى حين وتليه حياة أبدية.
    فَسَيَحْيَا أي تعود إليه الحياة الجسدية يوم القيامة. والموت للمؤمن باب للحياة الأبدية، ويوافق ما قيل في أعمال ٧: ٥٩ ورومية ١٤: ٨ و١تسالونيكي ٥: ١٠ و٢تيموثاوس ٤: ٨ و٢بطرس ١: ١١.
    ٢٦ «وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟».
    وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً بالجسد كما كانت مرثا حينئذ. فما أثبته المسيح للمؤمنين الموتى أثبته للمؤمنين الأحياء (يوحنا ٦: ٥٠، ٥١، ٥٤، ٥٨).
    فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ موتاً روحياً، فالموت الثاني لا سلطة له على المؤمن، والموت الجسدي لا يأتيه كعدو بل كصاحب لينقله من هذا العالم إلى عالم أفضل منه، لأن المسيح نزع شوكة الموت التي هي الخطية، وأنه يقيمه بعد قليل من القبر ويدخله إلى المجد، فلن يموت أيضاً لأنه يكون مثل المسيح «فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ المَسِيحِ، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ. عَالِمِينَ أَنَّ المَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ لا يَمُوتُ أَيْضاً. لا يَسُودُ عَلَيْهِ المَوْتُ بَعْدُ» (رومية ٦: ٨، ٩). وهنا دليل قاطع على قوة الإيمان لأنه ينتصر على الموت.
    أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا علاوة على إيمانك بأن أخاك يقوم في اليوم الأخير. فهل تصدقين أني علة القيامة وينبوع الحياة، وأن لي مفاتيح الموت والهاوية؟ فإن اقتصرتِ على تصديق أني نبي فذلك لا يكفي. فعلى كل مسيحي أن يسأل نفسه عن إيمانه بالمسيح، ليرى هل هو موافق لما قيل هنا؟ وإلا فليجتهد في إكماله بما شهد به المسيح لنفسه.
    ٢٧ «قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، الآتِي إِلَى العَالَمِ».
    متّى ١٦: ١٦ ويوحنا ٤: ٤٢ و٦: ١٤، ٦٩
    سلمت بمعنى قول المسيح على قدر إدراكها إياه. والنتيجة تدل على أنها لم تفهم كل مضمون قوله إنه هو القيامة والحياة. والظاهر أنها حسبت اعتقادها أنه المسيح فصدقت كل ما قاله.
    آمَنْتُ قال الأعمى الذي شُفي «أومن يا سيد» (يوحنا ٩: ٣٨) لأن إيمانه كان في الحاضر. وقالت مرثا «آمنت» لإيمانها في الماضي وفي الحاضر أيضاً.
    المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، الآتِي إِلَى العَالَمِ في هذا الإقرار ثلاثة أمور: (١) أن يسوع هو المسيح أي الممسوح من الله ملكاً وكاهناً ونبياً. (٢) أنه ابن الله أي إله. (٣) أنه الفادي الموعود بمجيئه إلى العالم. فهذا مثل إقرار بطرس (متّى ١٦: ١٦) وأكمل منه.
    ٢٨ «وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرّاً، قَائِلَةً: المُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ».
    مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ الأرجح أن يسوع أمرها بذلك بدليل قولها «وهو يدعوك». ولا بد من أن حبها لأختها حملها أيضاً على دعوتها إلى يسوع لتتعزى به كما تعزت هي بمشاهدته وبكلامه.
    سِرّاً أي بدون أن تُعلم أحداً غيرها من اليهود الذين في بيتها. وعلة ذلك أنهم لم يكونوا من أصحابه، وأن اجتماع الناس يمنعهما من الحديث المفيد معه، وأن الحزانى يكرهون أن يشاهد الناس علامات حزنهم إذا كان حقيقياً.
    المُعَلِّمُ اصطلح التلاميذ ومعارف يسوع أن يشيروا إليه بهذه اللفظة (متّى ٢٦: ١٨ ويوحنا ١٣: ١٣).
    وَهُوَ يَدْعُوكِ هذا يدل على أن المسيح أمر مرثا بأن تدعو أختها وإن لم يُذكر ذلك.
    ٢٩ «أَمَّا تِلكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَاءَتْ إِلَيْهِ».
    تركت المعزّين الكثيرين لتذهب إلى المعزي الحقيقي. كانت جالسة حزينة يائسة، فقيامها بسرعة يدل على نشوء الأمل في قلبها.
    ٣٠ «وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ جَاءَ إِلَى القَرْيَةِ، بَل كَانَ فِي المَكَانِ الَّذِي لاقَتْهُ فِيهِ مَرْثَا».
    هذا كما استُدل عليه في آية ٢٠ بقوله «لاقته». وعلة بقائه خارج القرية أنه أتى ليقيم لعازر لا ليزور بيته (والأرجح أن القبور كانت خارج القرية) وأن اليهود الذين كانوا ينوحون معهما كانوا من أعدائه كما يُستدل من عمل بعضهم (ع ٤٦).
    ٣١ «ثُمَّ إِنَّ اليَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي البَيْتِ يُعَزُّونَهَا، لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلاً وَخَرَجَتْ، تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى القَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ».
    ع ١٩
    تَبِعُوهَا المرجح أنهم كانوا كثيرين، ولم يسمعوا دعوة مرثا لها، وخرجوا وراءها احتراماً لها ولأختها، وبياناً لمشاركتهم لهما في الحزن. ولم يتبعوا مرثا عند ذهابها لأن مريم كانت باقية، ولكن لما ذهبت الاثنتان تبعوهما كما أوجبت العادة.
    إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى القَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ جرياً على العادة اليهودية وغيرها ليمنعوها من الحزن الشديد المضر لجسمها، لأن مشاهدة القبر تهيج أسفها. وكانت نتيجة ذلك كثرة شهود المعجزة. ولعلهم لو عرفوا أن يسوع هناك ما خرجوا.
    ٣٢ «فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي».
    ع ٢١
    كان كلام مريم حين وصلت إلى يسوع مثل كلام مرثا (ع ٢١) مما يدل على أنهما كررتاه كثيراً بينهما في غيبة يسوع، وأن أمل مريم كان مثل أمل أختها، وهو أن المسيح لو كان حاضراً قبل موت أخيهما لشفاه، وأنه انقطع ذلك الأمر عند موته. وقيل فيها ما لم يُقل في مرثا وهو أنها «خرّت عند رجليه». وهذا دليل على أن الحزن قد اشتد عليها أكثر مما اشتد على مرثا، وأنه سحق روحها. وليس في كلامها مثل ما كان في كلام مرثا مما دل على نشوء الرجاء في قلبها بقدوم المسيح.
    ٣٣ «فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي، وَاليَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ، انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ».
    يحقق لنا ما في هذه الآية ناسوت المسيح التام، كما حققت لنا معجزته لاهوته التام، وأنه يشارك المؤمنين به في أحزانهم. فمعلومٌ أن الإنسان إذا رأى كثيرين يبكون حوله مال إلى البكاء، وكذلك كان أمر يسوع. ولا سبب لبكائه سوى بكاء أولئك الناس، لأنه علم أن لعازر سيقوم. والمسيح لم يزل إلهاً وإنساناً في السماء، يشعر مع شعبه وهو على يمين الله في كل أحزانهم، وهو كرئيس كهنة شفوق يشفع عند الله فينا.
    لم يكن على الأرض إنسان قلبه أرق من قلب المسيح، ولن يكون كذلك. فلا داعي لأن نلجأ إلى غيره بناءً على أنه لا يستطيع أن يشعر معنا. فيوحنا أثبت في الأصحاح الأول من إنجيله أزلية الكلمة، وأثبت في هذا الأصحاح حقيقة قوله «الكلمة صار جسداً».
    انْزَعَجَ بِالرُّوحِ هذا يدل على انفعال شديد في قلبه عرفه البشير من دموعه وسائر إمارات الحزن على وجهه. وعلة هذا الانزعاج شعوره بحزنهم وحزنه، الذي لم يخلُ من الغيظ (كما تدل عليه الكلمة الأصلية في اليونانية). أما حزنه فللخطية التي هي العلة الأصلية لكل الحزن في العالم وللموت. ومثال ذلك هنا واحد من كثير لا يُحصى. وأما غيظه فلرياء بعض الحاضرين الذين تظاهروا بالحزن على وفاة لعازر وطلبوا بعد قليل أن يقتلوه (يوحنا ١٢: ١٠).
    وَاضْطَرَبَ كحاله يوم أنبأ بخيانة يهوذا (يوحنا ١٣: ٢١) وربما هنالك أسباب أخرى لم نعرفها.
    ٣٤ «وَقَالَ: أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟ قَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، تَعَالَ وَانْظُرْ».
    أيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟ تكلم بهذا باعتبار أنه إنسان، لأن الذي يستطيع أن يقيم الميت لا يحتاج إلى أن يدله أحد على قبره. فاختار أن يدله الحاضرون على القبر ليذهبوا معه ويشاهدوا المعجزة.
    ٣٥ «بَكَى يَسُوعُ».
    لوقا ١٩: ٤١
    هذه أقصر آية في الإنجيل لكنها ليست أقل أهمية من غيرها، لأنها دلت على ناسوت المسيح مع كونه إلهاً، وبيّنت رقة قلبه وفرط صداقته للمؤمنين. وفيها برهان على أنه يجوز للمسيحيين أن ينوحوا على موت أقربائهم وأصحابهم، وأن يُظهروا علامات الحزن التي لا تصل إلى درجة حزن الذين لا رجاء لهم، وأنه يجوز لنا أن نشارك غيرنا في حزنه.
    ٣٦ «فَقَالَ اليَهُودُ: انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ».
    هذا يدل على تعجب بعض اليهود، ولا يخلو من الإشارة إلى استحسانهم. وهو أول ذِكْر لشيء قاله رؤساء اليهود غير المقاومة ليسوع. وكان استحسانهم استعداداً لإيمان بعضهم بعد ذلك (ع ٤٥).
    ٣٧ «وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: أَلَمْ يَقْدِرْ هَذَا الَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ الأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا أَيْضاً لا يَمُوتُ؟».
    يوحنا ٩: ٦
    هذا كلام من يميل إلى التشكيك والقدح منهم، فكأنهم قالوا: إن صحَّ أنه فتح عيني الأعمى منذ أربعة أشهر (ص ٩) فلماذا لم يقدر أن ينقذ صديقه هذا من الموت؟ إن كان هو المسيح حقاً فلماذا لم يمنع ذلك المصاب عن لعازر وأختيه؟ أليس هذا برهاناً على أن قوته محدودة وأن الموت حدث رغماً عنه؟ وفي قولهم تلميح أنه لم يفتح عيني الأعمى حقيقة إنما فعله احتيالاً.
    ٣٨ «فَانْزَعَجَ يَسُوعُ أَيْضاً فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى القَبْرِ، وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ».
    فَانْزَعَجَ كما ذُكر في ع ٣٣ والعلل هي هي، وزيد عليها ما قالوه فيما بينهم (ع ٣٧). وعرفه هو بقوته الإلهية.
    مَغَارَةً في الصخر، وهي إما طبيعية وإما صناعية. وكان الناس قد اعتادوا اتخاذ المغائر قبوراً (متّى ٨: ٢٨ ومرقس ١٦: ٢ - ٤ وتكوين ٢٣: ٩ وإشعياء ٢٢: ١٦ ومتّى ٢٧: ٦). ودُفن لعازر في مغارة لا في التراب من الأدلة على أنه من بيت ذي ثروة.
    عَلَيْهِ حَجَرٌ أي على مدخله (انظر شرح متّى ٢٧: ٦٠).
    ٣٩ «قَالَ يَسُوعُ: ارْفَعُوا الحَجَرَ. قَالَتْ لَهُ مَرْثَا، أُخْتُ المَيْتِ: يَا سَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ».
    قَالَ يَسُوعُ ارْفَعُوا الحَجَرَ لم يرد يسوع أن يفعل بقوته الإلهية ما يستطيع الناس فعله، كما أمر الخدام أن يملأوا الأجران ماء في قانا، فكان الذين ملأوا تلك الأجران شهوداً بتحويله الماء خمراً. وهكذا كان الذين رفعوا الحجر عن القبر شهوداً بصحة إقامة لعازر.
    قَالَتْ لَهُ مَرْثَا، أُخْتُ المَيْتِ ذكر البشير هنا نسبتها إلى لعازر بياناً لاعتراضها على فتح القبر دون غيرها.
    قَدْ أَنْتَنَ يظهر من كلامها أن لا أمل لها ولا انتظار أن يقيم يسوع أخاها، لأنها حسبت ما سمعته من يسوع في شأن قيامته مجازاً يتحقق في المستقبل البعيد. وعلة اعتراضها على فتح القبر أنها لم ترد عرض جسد أخيها لأعين الناس بعد ابتداء الفساد فيه، وتعريض المسيح والحاضرين من الأصحاب لمنظر مقبِض ورائحة كريهة، ومعرفتها أن اقترابهم من الميت يدنسهم، وأن كل ذلك بلا نفع للميت.
    ولنا من كلام مرثا هنا ثلاثة أمور: (١) ظنها أن قصد المسيح الوحيد في طلب رفع الحجر أن يرى وجه صديقه الميت، أو أنه لم يعرف كم مرّ على موته، أو أنه نسي ذلك. (٢) أن ما حدث للعازر ليس إغماءً بل هو موت حقيقي، لأن أخته التي حضرت موته شهدت أمام الجميع بذلك، وأن الوقت الذي مر عليه وهو في القبر كافٍ لبدء الفساد في جسده. (٣) أنه لا يوجد اتفاق بين المسيح وبين عائلة لعازر على خداع الشعب، لأنه لو كان هناك خداع بينهما ما اعترضت مرثا على فتح القبر.
    أما الكلام على الأربعة الأيام فقد مر في شرح ع ١٧.
    ٤٠ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَلَمْ أَقُل لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللَّهِ؟».
    ع ٤ ،٢٣
    في كلام المسيح هنا توبيخ لطيف لمرثا على عدم إيمانها، كأنه نتج عن نسيانها كلامه. وفيه تشجيع لها، وتقوية لإيمانها الضعيف.
    أَلَمْ أَقُل لَكِ؟ لم يتضح إلى أي أقواله أشار، والأرجح أنه للكلام الذي أرسله إليها وإلى أختها مع الرسول، وهو قوله «هَذَا المَرَضُ لَيْسَ لِلمَوْتِ، بَل لأجْلِ مَجْدِ اللَّهِ» (ع ٤). وظن بعضهم أنه أشار إلى ما قاله في حديثه معها عند وصوله (ع ٢١ - ٢٧).
    إِنْ آمَنْتِ تكلم هنا كعادته في بيان ضرورة الإيمان لمن يريدون أن يشاهدوا أعماله المجيدة. ومن ذلك قوله «كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلمُؤْمِنِ» (مرقس ٩: ٢٣). ومثله قول البشير «وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ (أي في الناصرة) قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ» (متّى ١٣: ٥٨).
    تَرَيْنَ مَجْدَ اللَّهِ بانتصاري على الموت وشفقتي على الحزانى. وهو بهذا يطلب منها أن تُظهر إيمانها بتسليمها بأمره بفتح القبر، وتعدل عن الاعتراض. ولا شك أنها سلمت بذلك.
    وما يستحق النظر هنا أن طريق المسيح في الإيمان خلاف طريق الإنسان، لأن الإنسان يريد أن يرى ليؤمن، وأما المسيح فيريد أن نؤمن لنرى.
    ٤١ «فَرَفَعُوا الحَجَرَ حَيْثُ كَانَ المَيْتُ مَوْضُوعاً، وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ: أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لأنَّكَ سَمِعْتَ لِي».
    فَرَفَعُوا الحَجَرَ توقفوا عن رفعه قبلاً لاعتراض مرثا صاحبة الحق في ذلك لأنها أخت الميت الكبرى، ولأنها قامت بكل أمور الدفن. ولما عدلت عن الاعتراض أطاعوا المسيح.
    وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ أي نظر إلى السماء، لمخاطبة الله. ووفقاً لاعتقاد الناس أن السماء موضع إظهار مجد الله الخاص. وقد فعل يسوع مثل ذلك في يوحنا ١٧: ١.
    وَقَالَ ما قاله هنا ليس صلاة لله ليعينه على عمل المعجزة، إنما هو تقديم الحمد والشكر له، وبيان الاتحاد التام بينه وبين الآب في الفكر والقول.
    أَشْكُرُكَ لأنَّكَ سَمِعْتَ لِي الآن وقبل الآن. ويُظهِر كلامه هذا أنه اعتبر كل ما يتعلق بلعازر من موته وأحوال ذلك الموت وإقامته إياه إجابةً لصلاة صلاها سابقاً، وشكر الله عليها. فكأن المسيح اعتبر لعازر قد قام. والمسيح كان يصلي دائماً لأبيه، ولا شك أنه جعل كل حادثة جرت له موضوعاً للصلاة.
    ٤٢ «وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلَكِنْ لأجْلِ هَذَا الجَمْعِ الوَاقِفِ قُلتُ، لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي».
    يوحنا ١٢: ٣٠
    وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي فشكري لك ليس لأنك سمعت لي الآن، بل لأنك تسمع لي دوماً.
    وَلَكِنْ لأجْلِ هَذَا الجَمْعِ وهو جمع من يهود أورشليم، وتلاميذه، وكثيرين من أهل القرية.
    لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي قال بعضهم «أنه ببعلزبول» يفعل معجزاته، وأما هو فقال «إن الله أرسله ليفعلها» فأراد أن تكون تلك المعجزة فاصلة بين الأمرين. وبرهن أنه صنع كل ما سبق له من المعجزات برضى الله والاتحاد به. وسمى الله «أباه» في هذه الصلاة فاستشهده بذلك لإثبات دعواه أنه هو ابنه وأنه هو المسيح.
    وبين صلاة المسيح وصلاة إيليا عندما أقام الميت (١ملوك ١٧: ٢٠، ٢١) فرق بعيد، فصلاة إيليا فيها لجاجة وعلامات خوف من أن الله لا يستجيبه.
    ٤٣ «وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجاً».
    يوحنا ٥: ٢٥، ٢٨
    صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ليسمع الجميع وينتبهوا أنه هو الذي أقام لعازر.
    هَلُمَّ خَارِجاً أمره بالخروج بسلطان نفسه، ولم يأمره به باسم أبيه.
    ٤٤ «فَخَرَجَ المَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: حُلُّوهُ وَدَعَوْهُ يَذْهَبْ».
    يوحنا ٢٠: ٧
    هذا رمز إلى ما يحدث في اليوم الأخير وفقاً لقوله «إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي القُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الخ» (يوحنا ٥: ٢٨، ٢٩ انظر ١تسالونيكي ٤: ١٦). وهذا أعظم معجزات المسيح ما عدا قيامته. ولا شك في أن إقامة لعازر معجزة لا يمكن إنكارها لأنها جرت أمام شهود كثيرين من الأصحاب والأعداء. ومعلوم أن لا قوة طبيعية أو بشرية تستطيع أن تجعل الميت يسمع الصوت ويقوم من الموت ويخرج من القبر.
    أقام المسيح ثلاثة موتى، وكان برهان سلطانه على الموت يزيد قوة على التوالي، فأول ميت أقامه ابنة يايرس، وأقامها على أثر خروج روحها. والثاني ابن أرملة نايين وأقامه والناس يحملونه إلى القبر. والثالث لعازر وأقامه بعد دفنه بأربعة أيام.
    فَخَرَجَ المَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ الأرجح أن تلك الأقمطة لم تكن مشدودة لدرجةٍ تمنعه من تحريك أعضائه. وكانت الغاية منها أن تحفظ أطياب التحنيط على جسده. ولما أُعيدت الحياة إليه لم تمنعه من المشي، إنما صعَّبته عليه وألجأته إلى المشي ببطء. فلا داعي لأن نحسب خروجه كما ذُكر معجزة، ولا مانع من أن ننسبه إلى قوته بعد إقامته.
    وَوَجْهُهُ مَلفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ كعادتهم يومئذ في تدبير الموتى (يوحنا ٢٠: ٧).
    حُلُّوهُ وَدَعَوْهُ يَذْهَبْ ليتحقق الجميع أنه لعازر نفسه، وأنه حي، وليمكنه السير بسهولة إلى بيته. وأمرهم بحله كما أمرهم برفع الحجر، لأنه لم يكن يريد فعل المعجزة في ما يستطيعه البشر. ولم يزد البشير شيئاً على ما ذُكر من هذه القصة في ذلك الوقت لأن غايته لم تكن سوى إظهار مجد المسيح بإعلانه أنه القيامة والحياة.
    إن إقامة لعازر كانت إثباتاً للتعليم أن يسوع يقيم الموتى في اليوم الأخير (دانيال ١٢: ٢ ويوحنا ٥: ٢١ - ٢٩ و٦: ٣٩ و١كورنثوس ١٥: ٢٦ و٥٤ و٢كورنثوس ٤: ١٤ وكولوسي ٣: ٤ و١تسالونيكي ٤: ١٤ - ١٧ ورؤيا ١: ١٨ و٢٠: ١٤). وهي أيضاً رمز إلى عمل يفعله أعظم من إقامة أجساد الموتى، وهو إحياؤه النفوس الميتة بالإثم ومنحها الحياة الأبدية.
    ٤٥ «فَكَثِيرُونَ مِنَ اليَهُودِ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى مَرْيَمَ، وَنَظَرُوا مَا فَعَلَ يَسُوعُ، آمَنُوا بِهِ».
    يوحنا ٢: ٢٣ و١٠: ٤٢ و١٢: ١١، ١٨
    لم يذكر البشير تأثير المعجزة في نفس لعازر وأختيه، وذكر تأثيرها في نفوس المشاهدين، وهو ما طلبه المسيح في صلاته (ع ٤٢).
    الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى مَرْيَمَ وبقوا معها وجاءوا كذلك إلى القبر، ولم يذكر أنهم جاءوا إلى مرثا أيضاً كما هو الواقع، لأن مريم كانت سبب مجيئهم إلى القبر ومشاهدتهم المعجزة.
    ٤٦ «وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَمَضَوْا إِلَى الفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُمْ عَمَّا فَعَلَ يَسُوعُ».
    وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَمَضَوْا الذي أنشأ إيمان بعض الجمع وقوى إيمان بعضهم زاد عداوة الآخرين من أعداء يسوع وجواسيس الرؤساء والكهنة. وغاية إبلاغهم الرؤساء هو إرضاؤهم، وإثارة غضبهم على يسوع، وحثهم إياهم على إتمام قصدهم بقتله.
    إِلَى الفَرِّيسِيِّينَ أصحاب معظم القوة السياسية في الشعب، ولأنهم كانوا أشد عداوة ليسوع.
    ٤٧ «فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعاً وَقَالُوا: مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً».
    مزمور ٢: ٢ ومتّى ٢٦: ٣ ومرقس ١٤: ١ ولوقا ٢٢: ٢ ويوحنا ١٢: ١٩ وأعمال ٤: ١٦
    مَجْمَعاً أي مجمع السبعين القانوني (انظر شرح يوحنا ١: ١٩).
    وَقَالُوا بالنظر إلى الشهادة بإقامة لعازر. وكان يجب أن يؤمنوا أن يسوع هو المسيح، ولكن تلك الشهادة كانت سبباً للإسراع في قتله بدلاً من أن تكون سبباً لإيمانهم به. وفي ذلك إثبات لقوله «إِنْ كَانُوا لا يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، ولا إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ» (لوقا ١٦: ٣١).
    مَاذَا نَصْنَعُ؟ لنمنع تعليم يسوع، ونوقف إيمان الشعب به؟ وفي قولهم هذا توبيخ لأنفسهم على تقصيرهم في اتخاذ الوسائل إلى منعه، وبيان ضرورة اتخاذ وسائط أكثر فعالية لمقاومته.
    هَذَا الإِنْسَانَ قالوا ذلك استخفافاً به لأنهم كانوا يعرفون اسمه.
    يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً هذا تسليم غريب منهم أن ما فعلوه أظهر عجزهم عن إنكار معجزاته. وكان عليهم بعد هذا التسليم أن يسلموا بصحة دعواه، ولكن كبرياءهم وقسوتهم وحسدهم منعتهم من ذلك.
    ٤٨ «إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الجَمِيعُ بِهِ، فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا».
    إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا حسبوا كل ما قاوموه به سابقاً ليس شيئاً لأنهم لم يقبضوا عليه، فإنهم حكموا عليه بالموت (يوحنا ٧: ٣٠) وأرسلوا العسكر ليمسكوه (يوحنا ٧: ٣٠) وحرموا تابعيه (يوحنا ٩: ٢٢).
    يُؤْمِنُ الجَمِيعُ بِهِ أي شعب اليهود. ويكون موضوع إيمانهم أن يسوع هو المسيح، وأن تعليمه حق. وهذا معظم سبب خوفهم، لأن نتيجته زوال قوتهم وتأثير تعليمهم في الشعب. ويظهر من قولهم أن تأثير إقامته لعازر في الناس كان أعظم من تأثير سائر معجزاته. ويدل على هذا أيضاً ما قيل في يوحنا ١٢: ١٠، ١١ من تآمر الكهنة في قتل لعازر ولإزالة شهادته، وما قيل في يوحنا ١٢: ١٧، ١٨ من دخول المسيح بعدئذ باحتفال ومجد إلى أورشليم.
    فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ لم يذكروا السبب الحقيقي لخوفهم من نجاح يسوع وهو زوال سلطانهم، بل ادّعوا أن ذلك النجاح يغيظ الرومان. وهذا ادعاء باطل، لأنه لو آمن به جميع اليهود لبقي هيكلهم ومدينتهم بعظمتها إلى اليوم. ولكنهم ادّعوا هنا أن يسوع مزمع أن ينادي بأنه ملك ثائر على الرومان لينشئ مملكة زمنية. وشكوا عليه بذلك لبيلاطس وقت محاكمته (لوقا ٢٣: ٣٢).
    وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا موضعهم هو مدينتهم أو هيكلهم، أو مقامهم بين الناس. نعم إن الرومان كانوا وقتئذٍ قد استولوا على أرضهم، لكنهم تركوا لهم كل حقوقهم الدينية وبعض الحقوق السياسية، فخافوا أن يخسروا هذا أيضاً.
    وَأُمَّتَنَا أي الأمة اليهودية.
    ٤٩ «فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيساً لِلكَهَنَةِ فِي تِلكَ السَّنَةِ: أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً».
    لوقا ٣: ٢ ويوحنا ١٨: ١٤ وأعمال ٤: ٦
    قَيَافَا انظر شرح متّى ٢٦: ٣. كان قيافا قد تولى رئاسة الكهنة ١١ سنة، وصاهر حنّان، وبقيت تلك الرئاسة في بيت حنّان ٥٠ سنة. والرؤساء هو وأربعة أولاد له وصهر. وقد حكم قيافا بواسطتهم بعد أن عُزل. وكثيراً ما ذُكر في الإنجيل أن حنّان كان رئيس الكهنة في الوقت الذي كان غيره متولياً فيه الرئاسة.
    أمر الله بأن يكون رئيس الكهنة من بيت هارون، وأن يبقى الرئيس رئيساً كل حياته. ولكن منذ أيام هيرودس الكبير زالت الرئاسة من ذلك البيت، وكان من أيام هيرودس هذا إلى خراب أورشليم ٢٥ رئيس كهنة في نحو ١٠٧ سنين.
    لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً في الأمر الذي تنظرون فيه. وقال هذا إما للقليلين الذين مالوا إلى يسوع (يوحنا ٣: ١ و٧: ٥٠، ٥١ و١١: ٤٥ و١٢: ٤٢) توبيخاً لهم على عدم تسليمهم بعقابه، أو للفريسيين الذين قالوا في ع ٤٨ ما معناه «هذا الإنسان يُهلكنا إذا تركناه» تسفيهاً لرأيهم، لأنه كان يجب عليهم أن يُهلكوه بدلاً من أن يتركوه يُهلكهم.
    ٥٠ «ولا تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ ولا تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا».
    يوحنا ١٨: ١٤
    خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ الخ أراد قيافا أن يصرف النظر عن أن يسوع مذنب أو بار، يستحق الموت أو لا. وأراد أن يركز على أن منفعة الأمة تقتضي قتله لأنه إذا قُتل فلا خوف من ثورة الشعب، ولا من انتقام الرومان على تلك الثورة. وخلاصة كلامه أن يسوع أقلق الراحة فيجب أن نقتله ونستريح منه.
    ولا دلالة على أن قيافا قصد بما قال النبوة، ولا على أنه كان له قوة التنبؤ. نعم إن الحبر الأعظم كان قديماً قادراً على ذلك بواسطة «الأوريم والتميم» (خروج ٢٨: ٣٠ وتثنية ٢٧: ٢١ و١صموئيل ٣٠: ٧، ٨ وهوشع ٣: ٤) لكن ذلك زال عنه منذ قرون. ولم يقصد قيافا أن يتكلم على موت يسوع ذبيحة عن خطايا الشعب، لكن الله جعل لكلماته معنى غير الذي قصده وهو أن موت المسيح فداءٌ للعالم. وكذلك تنبأ بلعام على غير إرادته وقصده (عدد ٢٣).
    ٥١ «وَلَمْ يَقُل هَذَا مِنْ نَفْسِهِ، بَل إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلكَهَنَةِ فِي تِلكَ السَّنَةِ، تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ».
    وَلَمْ يَقُل هَذَا مِنْ نَفْسِهِ أي أنه لم يقصد النبوة بنتائج موت يسوع العظيمة، إنما قصد قتله لحفظ سلطة الكهنة ورؤساء الشعب. ولكن الله جعل كلامه كنبوة بتلك النتائج، واستخدمه كما استخدم بلعام قديماً.
    رَئِيساً لِلكَهَنَةِ قال يوسيفوس المؤرخ إن مدة رئاسته كانت ١١ سنة، وهي كل مدة تولي بيلاطس.
    فِي تِلكَ السَّنَةِ أي سنة موت المسيح.
    تَنَبَّأَ لم يكن قيافا نبياً حقيقياً، ولم يلهمه الله أن يتنبأ حينئذ، وهو نفسه لم يعرف أن ما قاله نبوة. ولكن سماه البشير نبوة لأنه تم بقصد الله وتعيينه.
    أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ لم يتم ذلك بحسب فكر قيافا، لأن فكره كان أن موت يسوع يكون واسطة لبقاء سلطة رؤساء الأمة، وبقاء الهيكل والمدينة. أما موت يسوع فكان سبب عكس ذلك، فإنه هيج غضب الله على تلك الأمة، فأرسل عليها الرومان ليهدموا مدينتها وهيكلها ويشتتها بين شعوب الأرض. أما الله فقصد أن يكون ذلك الموت واسطة لخلاص نفوس الأمة، وكان كذلك لبعضهم وللجميع لو تابوا وآمنوا به.
    ٥٢ «وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ، بَل لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ المُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ».
    إشعياء ٤٩: ٦ و١يوحنا ٢: ٢ ويوحنا ١٠: ١٦ وأفسس ٢: ١٤ - ١٧
    لَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ رأى أن موت يسوع يكون نفعاً زمنياً فقط وإنما لله قصد أن يكون ذلك الموت واسطة الحياة الأبدية للعالم كله، إن آمن به (يوحنا ٣: ١٦ ورومية ٥: ٦ - ٨).
    لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الخ قصد «بأبناء الله» هنا المؤمنين به من اليهود والأمم (يوحنا ١٠: ١٦). وبيّن أن الإيمان بيسوع مصلوباً والخضوع له ملكاً يضمان كل شعبه إلى ملكوت واحد روحي (متّى ٨: ١١ ويوحنا ١٠: ١٦ و١٧: ٢٠ و٢١ وأفسس ٢: ١٦ - ١٨ وكولوسي ٣: ١١ ورؤيا ٥: ٩).
    ٥٣ «فَمِنْ ذَلِكَ اليَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ».
    نفهم من هذا أن أكثر أعضاء المجلس وافق قيافا، وحكم بوجوب قتل يسوع. ومن ثمَّ بذل الفريسيون والصدوقيون معاً غاية الجهد في إجراء ذلك. ونرى نتيجة ذلك في متّى ٢٢: ١٥، ١٦، ٢٣ و٢٦: ٥ و٢٧: ١، ٢.
    ٥٤ «فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضاً يَمْشِي بَيْنَ اليَهُودِ علانِيَةً، بَل مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الكُورَةِ القَرِيبَةِ مِنَ البَرِّيَّةِ، إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا أَفْرَايِمُ، وَمَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تلامِيذِهِ».
    يوحنا ٤: ١، ٣ و٧: ١ و٢أيام ١٣: ١٩
    لَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضاً يَمْشِي بَيْنَ اليَهُودِ أعلن أعضاء المجلس قصدهم( ع ٥٧) ولم يرد يسوع أن يسمح لليهود بالقبض عليه قبل أن تأتي ساعته في الفصح الآتي، وكان قد اقترب.
    علانِيَةً في أورشليم أو غيرها من مدن اليهودية.
    الكُورَةِ القَرِيبَةِ مِنَ البَرِّيَّةِ تلك البرية غرب نهر الأردن وبحر لوط، وشرق أورشليم.
    أَفْرَايِمُ موقع هذه المدينة مجهول اليوم، وظن أكثر المفسرين أنها التي سُميت عفرة (يشوع ١٨: ٢٣ و١صموئيل ١٣: ١٧ و٢أيام ١٣: ١٩) وتقع على بُعد عشرين ميلاً شمال شرق أورشليم. ولا نعرف كم بقي هناك، والمرجح أنه بقي قليلاً. ونعرف من بشارة لوقا أنه سار في القافلة التي أتت إلى أورشليم في عيد الفصح على طريق أريحا.
    ٥٥ «وَكَانَ فِصْحُ اليَهُودِ قَرِيباً. فَصَعِدَ كَثِيرُونَ مِنَ الكُوَرِ إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبْلَ الفِصْحِ لِيُطَهِّرُوا أَنْفُسَهُم».
    يوحنا ٢: ١٣ و٥: ١ و٦: ٤ عدد ٩: ١٠ و٢أيام ٣٠: ١٧ وأعمال ٢١: ٢٤
    وَكَانَ فِصْحُ اليَهُودِ قَرِيباً (انظر شرح متّى ٢٦: ٢ ويوحنا ٢: ١٣ و٦: ٤). والمرجح أن هذا الفصح هو الفصح الرابع في مدة خدمة يسوع.
    مِنَ الكُوَرِ كل أرض اليهود ما عدا أورشليم.
    قَبْلَ الفِصْحِ لِيُطَهِّرُوا أَنْفُسَهُمْ لم يفرض في الشريعة الموسوية على جميع اليهود أن يأتوا إلى أورشليم قبل العيد للتطهير. لكن كثيرين منهم استحسنوا أن يأتوها مبكرين لزيادة التطهير وتقديم الذبائح المعينة، ولا سيما الذين تدنسوا بلمس ميت أو قبر أو غير ذلك من المدنسات. وكان وقت التطهير يوماً فأكثر إلى ستة أيام (تكوين ٣٥: ٢ وخروج ١٩: ١٠، ١١ ولاويين ٢٢: ١ - ٦ وعدد ٩: ١٠ و٢أيام ٣٠: ١٧، ١٨ وأعمال ٢١: ٢٤، ٢٦ و٢٤: ١٨).
    ٥٦ «فَكَانُوا يَطْلُبُونَ يَسُوعَ وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُمْ وَاقِفُونَ فِي الهَيْكَلِ: مَاذَا تَظُنُّونَ؟ هَل هُوَ لا يَأْتِي إِلَى العِيدِ؟».
    يوحنا ٧: ١١
    المذكورون هنا ليسوا أعداء يسوع إنما هم من عامة الشعب، سمعوا خبره أو رأوه في الأعياد الماضية، ورغبوا في أن يشاهدوه ويسمعوه. وكانوا في شك من حضوره للعيد وفقاً للشريعة بسبب تهديدات الرؤساء. والكلام هنا يدل على أن الناس كانوا يفتشون دائماً عن يسوع ويتحدثون بأمره على توالي الأيام.
    ٥٧ «وَكَانَ أَيْضاً رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْراً أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَليَدُلَّ عَلَيْهِ، لِكَيْ يُمْسِكُوهُ».
    ذُكر هذا بياناً لسبب شكهم في مجيء يسوع إلى العيد. ولولا الخطر كان لا بد من مجيئه طوعاً لأمر الشريعة بحضور كل الذكور للعيد. وأمر الرؤساء هنا مبنيٌ على ما حكموا به في ع ٥٣.


    الأصحاح الثاني عشر


    العشاء في بيت عنيا ودهن مريم ليسوع (ع ١ - ١١)


    ١ «ثُمَّ قَبْلَ الفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ المَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ».
    يوحنا ١١: ١، ٤٣
    نعلم من أقوال البشائر الباقية أن يسوع التقى بالقافلة الآتية من بيرية إلى أورشليم لحضور العيد وسار معها إلى أريحا أولاً، وهنالك فتح عيون أعميين، وجدد قلب زكا، وتكلم بمثل «الشريف وعشرة الأمناء» (متّى ١٩: ١٧، ٢٩ ومزمور ١٠: ٣٢، ٤٦ ولوقا ١٨: ٣١، ٣٥ و١٩: ١).
    سبق في شرح متّى ٢١: ١ جدول حوادث آخر أسبوع من حياة يسوع على الأرض.
    قَبْلَ الفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أي مساء يوم الخميس الثامن من أبريل (نيسان) وهو أول اليوم التاسع منه.
    بَيْتِ عَنْيَا انظر شرح متّى ٢٦: ٦. ولعل يسوع قضى فيها مع تلاميذه كل يوم السبت.
    ٢ «فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ المُتَّكِئِينَ مَعَهُ».
    متّى ٢٦: ٦ ومرقس ١٤: ٣
    فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً إكراماً له وإظهاراً لسرورهم بزيارته. وذكر متّى ومرقس أن ذلك العشاء كان في بيت سمعان الأبرص.
    وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ كما فعلت منذ ستة أشهر حين تعشى يسوع في بيت عنيا (لوقا ١٠: ٣٨ - ٤٢).
    وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ المُتَّكِئِينَ مَعَهُ ذكر البشير اتكاء لعازر مع يسوع تأكيداً لصحة قيامته وبياناً لبعض الدواعي التي حملت مريم على أن تدهن يسوع، وهو شكرها له على إقامة أخيها وإكرامها له.
    ٣ «فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَامْتلأ البَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ».
    ١ملوك ١٠: ١٧ وعزرا ٢: ٦٩ ونحميا ٧: ٧١، ٧٣ وحزقيال ٤٥: ١٢ لوقا ١٠: ٣٨، ٣٩ ويوحنا ١١: ٢
    فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ هي التي اقتصر متّى ومرقس على أنها امرأة. ولعل سبب ذلك خوفهما عليها من اليهود.
    مَناً هو في اليونانية لتراً، وهو وزن يوناني وروماني يعادل نحو مئة درهم. وذكر متّى ومرقس قارورة بدل من «مناً».
    نَارِدِين هو من الأطياب الثمينة التي تنافس بها القدماء (نشيد الأناشيد ١: ١٢ و٤: ١٣، ١٤).
    وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ قال متّى ومرقس إنها دهنت رأسه، وكان ذلك الغالب في الدهن بالطيب (مزمور ٢٣: ٥ ولوقا ٧: ٤٦). ونستفيد من رواية يوحنا أنها زادت على ما ذكراه أنها دهنت قدميه أيضاً، فأظهرت تواضعها كما أظهرت سخاءها ووفرة شكرها بوفرة الطيب الذي دهنته به.
    فَامْتلأ البَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ ذكر ذلك بياناً لحسن الطيب ووفرته.
    ٤، ٥ «٤ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تلامِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ، المُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ. ٥ لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هَذَا الطِّيبُ بِثلاثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلفُقَرَاءِ؟».
    وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ انظر شرح متّى ١٠: ٤. ذكر متّى ومرقس تذمر التلاميذ (متّى ٢٦: ٨ ومرقس ١٤: ٤) ولم يذكر أيّهم بدأ وهيّج الباقين. أما يوحنا فذكره وذكر أيضاً أن ذلك ما يتوقع من محب المال مثله.
    ثلاثَمِئَةِ دِينَارٍ كان الدينار يومئذ أجرة الفاعل في اليوم (متّى ٢٠: ١٠) فتكون قيمة ذلك الطيب ما يعدل أجرة الفاعل في كل أيام العمل من السنة.
    ٦ «قَالَ هَذَا لَيْسَ لأنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالفُقَرَاءِ، بَل لأنَّهُ كَانَ سَارِقاً، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلقَى فِيهِ».
    هذا كلام يوحنا بعد اختباره أحوال يهوذا الإسخريوطي. والظاهر مما ذُكر هنا وفي يوحنا ١٣: ٢٩ أن يهوذا كان قد عُيّن أميناً للصندوق ليحفظ المال الزهيد الذي ليسوع وتلاميذه مما أكرمهم الناس به (لوقا ٨: ٣) وأنه كان خائناً. والأرجح أن التلاميذ لم يعرفوا خيانته إلا بعد ذلك، وإلا ما أبقوه في تلك الوظيفة. وأظهر يومئذ غيرته للفقراء رياءً، تغطية لما شعر به من الغيظ على أن يده لم تصل إلى ثمن ذلك الطيب ليختلس منه.
    ٧، ٨ «٧ فَقَالَ يَسُوعُ: اتْرُكُوهَا. إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ. ٨ لأنَّ الفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ».
    متّى ٢٦: ١١ ومرقس ١٤: ٧
    انظر شرح متّى ٢٦: ١١، ١٢.
    إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ أي لتحنيطي ميتاً، وذلك بحسب احترام يسوع لعملها. أما هي ففعلت ذلك إكراماً له حياً. فلا شك أن كلامه حينئذ عن التكفين كان بالنسبة إليها وإلى التلاميذ وسائر الحاضرين لغزاً. ومخاطبة يسوع للجميع بقوله «اتركوها» يدل على أن التذمر كان من الكل، لا من يهوذا وحده.
    وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ في الجسد، لأنه في الروح معنا في كل حين. فعلى الذين يقولون إن المسيح حاضر بناسوته ولاهوته في العشاء الرباني أن يوفِّقوا بين قولهم هذا وقوله: «أما أنا فلست معكم في كل حين». نعم إنّ الخبز والخمر في ذلك العشاء معنا في كل حين، ولكن ناسوت المسيح ليس كذلك.
    ٩ «فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ اليَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ، فَجَاءُوا لَيْسَ لأجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ، بَل لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَات».
    يوحنا ١١: ٤٣، ٤٤
    فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ أتى مع ألوف من الذين قدموا من أريحا إلى أورشليم ليحضروا العيد، وانفصل عنهم إلى بيت عنيا، وهؤلاء أخبروا الذين كانوا يطلبونه ويرغبون في مشاهدته عن مجيئه (يوحنا ١١: ٥٥).
    مِنَ اليَهُودِ أشار يوحنا «باليهود» هنا وفي ع ١١ إلى أمة اليهود عامة، لا إلى أعداء يسوع خاصة.
    فَجَاءُوا سهُل ذلك عليهم لقصر المسافة، لأنها كانت أقل من سفر ساعة. فازدحمت لأن بعضهم رغب في مشاهدة إنسان عاش بعد أن مكث أربعة أيام في القبر.
    ١٠ «فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً».
    لوقا ٢٦: ٣١
    رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ أكثر هؤلاء الرؤساء صدوقيون (أعمال ٥: ١٧) اتفقوا مع الفريسيين على يسوع (يوحنا ١١: ٤٧).
    لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ هذا يدل على عظمة شرهم، فإنهم طلبوا قتل إنسان بريء للتخلص من شهادته بصحة دعوى يسوع أنه المسيح، لأنه ما دام لعازر حياً يتبين فساد تعليمهم في إنكار القيامة (أعمال ٢٣: ٨).
    ١١ «لأنَّ كَثِيرِينَ مِنَ اليَهُودِ كَانُوا بِسَبَبِهِ يَذْهَبُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ».
    يوحنا ١١: ٤٥ وع ١٨
    يَذْهَبُون أي يعدلون عن الخضوع لرؤساء الكهنة كما كانوا يفعلون سابقاً، ولا يحترمون تعاليم الكتبة والفريسيين كما اعتادوا.
    وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ أنه هو المسيح. ونعتقد أن إيمانهم كان مجرد اقتناع عقلي، وأنه كان وقتياً، زال يوم قُبض على يسوع وحُكم عليه بالموت، وهو لم يفعل شيئاً بغية إنقاذ نفسه.

    دخول يسوع باحتفال إلى أورشليم (ع ١٢ - ١٩)


    ١٢ «وَفِي الغَدِ سَمِعَ الجَمْعُ الكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى العِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    سبق الكلام على هذا الاحتفال في شرح (متّى ٢١: ١ - ١١ ومرقس ١١: ١ - ١١). فعل يسوع في ذلك اليوم غير كل ما فعله في كل أوقاته السابقة، فقد كان يأبى قبول إكرام الناس أو تنصيبه ملكاً (متّى ١٢: ١٩). ولكن لما أتت ساعة موته كفارة عن خطايا الشعب أراد أن يجذب إليه الجميع ليسألوه عن غاية موته، ثم يؤمنوا به مصلوباً.
    فِي الغَدِ أي غد وصوله (ع ١) أي يوم الأحد.
    الجَمْعُ الكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى العِيدِ من الجليل وبيرية حيث رأى يسوع وعرفه.
    أَنَّ يَسُوعَ آتٍ سمع ذلك من اليهود الذين أتوا من بيت عنيا لينظروا يسوع ولعازر (ع ١٩) ومن القافلة التي صحبها من أريحا.
    ١٣ «فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ، مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!».
    متّى ٢١: ٨ ومرقس ١١: ٨ ولوقا ١٩: ٣٥ الخ مزمور ١١٨: ٢٥، ٢٦ ومتّى ٢١: ٩
    فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ إكراماً له باعتبار أنه نبي، وإشارة إلى سرورهم. وفوق هذا أن بعضهم خلعوا أثوابهم قدامه في الطريق (متّى ٢١: ١٨).
    أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي الخ هذا مقتبس من مزمور ١١٨: ٢٥، ٢٦ واعتبر اليهود أن هذا المزمور يشير إلى المسيح، وكانوا يرتلونه جموعاً في عيدي المظال والفصح. ولا شك أن ترانيم المحتفلين كانت متنوعة. فلا عجب أن اختلفت شهادة البشيرين لفظاً، ولكن المعنى واحد. ولا يُستنتج أن كل ذلك الجمع اعتقد أن يسوع هو المسيح اعتقاداً حقيقياً كما تدل عليه كلمات الترنيمة الاحتفالية، ولكن لا شك أن بعضهم اعتقد ذلك، وأن البعض لم يحسبه سوى نبي يستحق الإكرام.
    ١٤ «وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ».
    متّى ٢١: ٧ زكريا ٩: ٩
    لم يذكر يوحنا هذه الحادثة إلا لأنها إتمام نبوة، وذكرها بالإجمال، بينما ذكرها سائر البشيرين بالتفصيل.
    وَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً لم يكن ذلك على سبيل الاتفاق لأنه أرسل سابقاً تلميذين ليُحضروه له (متّى ٢١: ٧).
    ١٥ «لا تَخَافِي يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِساً عَلَى جَحْشِ أَتَانٍ».
    انظر شرح متّى ٢٤: ٥. وهذه نبوة في زكريا ٩: ٩ نطق بها النبي قبل ذلك بنحو ٥٠٠ سنة. ولم يذكر يوحنا من كلام هذه البنوة ما ذكره متّى، لأنه اهتم بنقل المعنى أكثر من اهتمامه بنقل اللفظ.
    ١٦ «وَهَذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تلامِيذُهُ أَوَّلاً، وَلَكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هَذِهِ لَهُ».
    لوقا ١٨: ٣٤ ويوحنا ٧: ٣٩ و١٧: ٥ ويوحنا ١٤: ٢٦
    لَمْ يَفْهَمْهَا تلامِيذُهُ أَوَّلاً أي في وقت الاحتفال. والذي لم يفهموه هو أن دخول يسوع على ذلك المنوال كان إتماماً للنبوة، وأن ما قاله زكريا في المسيح وملكوته لم يدل على ما ظنوه من أنه ملك أرضي يملك مملكة زمنية، لكن كان هو روحياً وملكوته كذلك. فاعترف يوحنا بجهله وقتئذ معنى النبي.
    لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ أي قام من الموت وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب (انظر شرح يوحنا ٧: ٣٩).
    تَذَكَّرُوا حل الروح القدس على التلاميذ ففهموا معنى النبوات المتعلقة بيسوع التي لم يفهموها قبلاً، وتذكروا ما كان يظهر لهم غير ذي شأن، فعلموا أنه إتمام نبوات مهمة.
    ١٧ «وَكَانَ الجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ القَبْرِ وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ».
    متّى ٢١: ١٠ و١١ ولوقا ١٩: ٣٧، ٣٨
    الجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ أي يهود أورشليم الذين ذهبوا إلى بيت عنيا وشاهدوا إقامة لعازر (يوحنا ١١: ٣١، ٤٥) وربما كان منهم بعض أهل بيت عنيا الذين شاهدوا تلك الإقامة.
    يَشْهَدُ بصحة المعجزة وبأن الذي صنعها هو يسوع الذي كان بينهم.
    ١٨ «لِهَذَا أَيْضاً لاقَاهُ الجَمْعُ، لأنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ هَذِهِ الآيَةَ».
    ع ١١
    لِهَذَا أي لشهادة أولئك الشهود التي شاعت بين الناس، ولِما ذُكر في آخر هذا العدد.
    لاقَاهُ الجَمْعُ أي الناس الكثيرون الذين أتوا إلى أورشليم لحضور العيد وخرجوا لمشاهدة يسوع والترحيب به.
    ١٩ «فَقَالَ الفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لا تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءهُ!».
    يوحنا ١١: ٤٧، ٤٨
    هذا كلام المغتاظين المتحيرين الآسفين على أن العاقبة كانت غير ما قصدوا وتوقعوا، فكانوا مثل هامان إذ شاهد مردخاي مكرَّماً بعد بغضه إياه وسعيه في قتله (أستير ٦: ١١).
    انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لا تَنْفَعُونَ شَيْئاً لم ينجح تكليفهم للعسكر أن يقبضوا عليه (يوحنا ٧: ٣٢ ،٤٥ و٤٦) وكذلك حكمهم بقتله (يوحنا ١١: ٥٣) وإصدار أمرهم بأن كل من يعرف أين هو يدل عليه ليقبضوا عليه (يوحنا ١١: ٥٧). ومع ذلك كله أكرمه الشعب أحسن إكرام. وزاد خوفهم من هياج الشعب إذا شرعوا في القبض عليه.
    هُوَذَا العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءهُ في هذه الكلام مبالغة اعتاد المغتاظون أن يقولوها، لكن فيه إشارة إلى انتباه عظيم في المدينة، وأن جموعاً كثيرة احتفلوا به. وخاف الفريسيون أن يبتعد الجمهور عنهم بسبب ذلك وعدم رجوعهم إليهم.

    طلب اليونانيين مشاهدة يسوع وكلامه المبني على ذلك (ع ٢٠ - ٣٦)


    ٢٠ «وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي العِيدِ».
    أعمال ١٧: ٤ ١ملوك ٨: ٤١، ٤٢ وأعمال ٨: ٢٧
    يُونَانِيُّونَ جاءت هذه الكلمة في الإنجيل بثلاثة معانٍ: (١) اليهود الذين سكنوا في غير اليهودية وتكلموا باليونانية (أعمال ٦: ١ و٩: ٢٩). (٢) الوثنيون من اليونان الذين تهودوا وسُموا دخلاء (متّى ٢٣: ١٥). (٣) كل الوثنيين الذين يتكلم أكثرهم باليونانية (يوحنا ٧: ٣٥ وأعمال ١١: ٢٠ ورومية ١: ١٦ و٢: ٩ ،١٠ و٣: ٩). وكان بعض الوثنيين الذين يعبدون آلهة كثيرة يكرمون إله اليهود «يهوه» ويرسلون هدايا إلى هيكله ويأتون إلى أورشليم ليعبدوه كأحد الآلهة. ولذلك عُينت إحدى دور الهيكل لاجتماعهم منذ عهد سليمان وسُميت «دار الأمم» (١ملوك ٨: ٤١ - ٤٣ انظر شرح متّى ٢١: ١٢). والمرجح أن اليونانيين المذكورين هنا هم المتهودون من الوثنيين، كالوزير الحبشي (أعمال ٨: ٢٧) و «اليونانيين المتعبدين» (أعمال ١٧: ٤) وإلا لم يأتوا ليسجدوا في العيد.
    ومما يستحق الذكر هنا أنه كما أتى بعض الأمم الكلدانيين من الشرق ليسجدوا ليسوع وقت ميلاده، جاء بعض الأمم اليونانيين من الغرب ليكرموه وهو على وشك أن يموت على الصليب.
    ٢١ «فَتَقَدَّمَ هَؤُلاءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الجَلِيلِ، وَسَأَلُوهُ: يَا سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ».
    يوحنا ١: ٤٤
    فَتَقَدَّمَ هَؤُلاءِ إِلَى فِيلُبُّسَ انظر شرح متّى ١٠: ٣. ولا نعرف سبب تقدمهم إلى فيلبس دون غيره من التلاميذ، ولعله كان حينئذ في دار الأمم، ويسوع وسائر التلاميذ في دار أخرى لا يجوز للأمم أن يدخلوها، فأتى اليونانيون إلى هناك ووجدوا فيلبس وسألوه.
    مِنْ بَيْتِ صَيْدَا انظر شرح متّى ١١: ٢١.
    لم يذكر البشير وقت ذلك السؤال ولا مكانه. ومن المعلوم أن يسوع أمضى الثلاثة الأيام الأولى من الأسبوع الأخير من حياته على الأرض يعلّم الشعب في الهيكل. والأرجح مما قيل في ع ٣٦ أنه كان مساء يوم الثلاثاء، آخر تلك الأيام الثلاثة. ولعل يسوع كان حيئنذٍ في دار الهيكل التي لا يجوز أن يدخلوها. ولم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين سوى يوحنا. والدلائل واضحة على أنه ذكرها ليصل إلى ذكر الخطاب الذي بُني عليها. ولم يذكر يوحنا من كل الحوادث التي جرت منذ مجيء المسيح إلى أورشليم بالاحتفال يوم الأحد إلى أكله الفصح ليلة الجمعة سوى هذه الحادثة. ومما تركه من الحوادث: تطهير الهيكل وتيبيس التينة وضربه خمسة أمثال (هي مثل الابنين، ومثل رب الكرم، ومثل عرس ابن الملك، ومثل العشر العذارى، ومثل الوزنات) وإسكاته الفريسيين والصدوقيين الذين جربوه بالأسئلة، ونبوته بخراب أورشليم وبيوم الدين.
    نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ على انفراد لتكون لنا فرصة للحديث معه، وسماع تعليمه، ومعرفة حقيقة ملكوته. والأرجح أنهم شاهدوا دخوله بالاحتفال إلى أورشليم، وسمعوا ما قاله أعداؤه وأصدقاؤه، فمالوا كثيراً لأن يسمعوا منه عن أمره. ونحن نمدحهم، فكثيراً ما يكون مثل موقفهم وسيلة إلى خلاص الراغبين، كما كان من أمر زكا العشار (لوقا ١٩: ١ - ٩).
    ٢٢ «فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لأنْدَرَاوُسَ، ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ».
    لأنْدَرَاوُسَ انظر شرح متّى ١٠: ٢، وكان أندراوس من مدينة فيلبس (يوحنا ١: ٤٤) ولعل علة مجيئه إلى أندراوس أولاً ليشاوره شكه في رضى يسوع أن يواجه اليونانيين، لأن ربانيي اليهود كانوا يستنكفون تعليم الأمم الدين اليهودي، ولأن يسوع قال إنه لم يُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (متّى ١٥: ٢٤). وكانت نتيجة مشاورتهما اتفاقهما على إفادة يسوع بطلب أولئك الناس.
    قَالَ.. لِيَسُوعَ لم يقل البشير هل قابل المسيح اليونانيين أو لا؟ والأرجح أنه قابلهم بسبب لطفه ورغبته في قبول جميع الذين يطلبونه.
    ٢٣ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ».
    يوحنا ١٣: ٣٢ و١٧: ١
    وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا وجه يسوع كلامه أولاً إلى التلميذين. والأرجح أن ذلك كان على مسمع من سائر التلاميذ واليونانيين أيضاً. ولعل جوابه كان لِما علمه من أفكارهم التي تيقظت بمناسبة دخوله أورشليم بالمجد والإكرام من الجميع، ومن إتيان هؤلاء اليونانيين ليطلبوه. واستنتجوا من ذلك أن يسوع على وشك أن يقيم ملكوتاً أرضياً مجيداً. أما هو فاتخذ تلك الفرصة لإصلاح أغلاطهم، وتذكيرهم بما قاله لهم مراراً من أنباء موته. وقد اتخذ مجيء أولئك الناس الأمميين إليه إمارة على قرب موته الذي هو سبب خلاص الأمم، وتمهيد السبيل إلى مجيئهم إليه.
    قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لتمجيدي، لكن بغير الطريق التي تظنونها. نعم إني عازم على الصعود إلى السماء والجلوس على يمين الآب في المجد، ولكن موتي استعداد لذلك. فأتت تلك الساعة التي عينها الله بقضائه. وعلامة إتيانها مجيء اليونانيين الأمم كما أعلنت النبوات، فإن الأمم هم الخراف الأخرى التي لأجل جمعها قبل الراعي أن يبذل حياته (يوحنا ١٠: ١٦ - ١٩). واليونانيون باكورة الحصاد العظيم لنفوس الأمم الذين يأتون إلى المسيح طلباً للخلاص.
    لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ يتمجد برجوعه إلى مجده الأول في السماء، ثم بامتداد ملكوته بين جميع قبائل الأرض، وقبولهم خلاصه (مزمور ٢: ٨ وإشعياء ٥٣: ١١). والتواضع هو وسيلة ذلك التمجيد، أولاً بالموت على الصليب والنزول إلى القبر، لا بجلوسه على كرسي داود الأرضي كما ظنوا. فأصابوا برأيهم أن يسوع يتمجد، وأخطأوا في كيفية ذلك (انظر شرح يوحنا ٧: ٣٩).
    ٢٤ «ٱلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ».
    ١كورنثوس ١٥: ٣٦
    ٱلحَقَّ الحَقَّ هذا تمهيد وتنبيه لكلام ذي شأن كما ذُكر مراراً.
    لَكُمْ التفت من مخاطبة التلميذين إلى مخاطبة الجميع من التلاميذ واليونانيين وغيرهم.
    إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ أي تُزرع في التربة وتُدفن لتأخذ منها الرطوبة الضرورية للنمو.
    وَتَمُتْ عن صورتها وصفاتها الأصلية. ويُعبَّر بالموت عن التغيير العظيم الذي يحدث في الحبوب عندما تتحول من بزور إلى نبات.
    تَبْقَى وَحْدَهَا أشار بذلك إلى أمر معلوم، وهو أن الحبة إن لم تُزرع بل حُفظت فوق الأرض حيث لا تصيبها رطوبة تبقى سالمة صحيحة، ولكن بلا منفعة ولا زيادة. أما إن زُرعت في الأرض ودُفنت في التربة ماتت من جهة صورتها الأولى وصفاتها الأصلية، وتنشأ حياة جديدة من موتها، تظهر في النبات ثم في السنبل ثم في القمح.
    وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ اتخذ المسيح مبدأ من عالم النبات إيضاحاً لمبدإ من عالم الروح، وهو أن الموت استعدادٌ لحياة أسمى من الأولى وأنفع منها. وقصد المسيح من ذلك أن موته وسيلة إلى حياة العالم. وكان التلاميذ يحزنون كلما أنبأهم بموته، ولم يريدوا التسليم بأن ذلك ممكن. أما هو فأكد لهم أنه إن لم يحدث ذلك بقي هو كحبة الحنطة غير المزروعة. وإن مات كقمحة مزروعة تعطي حصاد نفوس مفديَّة لا تُحصى. ويكون موت المسيح سبب تمجيده بخلاص شعبه المذكور هنا، وبإثابة الله إياه على موته كما وعده (أفسس ١: ٢٠ - ٢٣ وفيلبي ٢: ٨ ، ٩ وعبرانيين ٢: ٩ و١٢: ٢).
    وتؤكد لنا هذه الآية أن موته كفارة عن الخطايا ينفع العالم، أكثر من سيرته الطاهرة ومعجزاته الباهرة وتعاليمه الصحيحة.
    ٢٥ «مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا العَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».
    متّى ١٠: ٣٩ و١٦: ٢٥ ومرقس ٨: ٣٥ ولوقا ٩: ٢٤ و١٧: ٣٣
    جاءت هذه الآية في متّى ١٠: ٣٩ فانظر شرحها هناك و١٦: ٢٥ ومرقس ٨: ٣٥ ولوقا ٩: ٢٤ و١٧: ٣٣.
    نَفْسَهُ أي حياته، لأنه لما خلق الله الإنسان «وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً» (تكوين ٢: ٧).
    ما قاله يسوع في هذه الآية قاله أولاً لنفع تلاميذه السامعين، فإنهم توقعوا الخير الأعظم من الإثابة الزمنية والشرف والغنى الأرضيين في المملكة الدنيوية التي انتظروا كسائر اليهود أن المسيح ينشئها هنا. وقاله لنفع كل المسيحيين في كل عصر، ليعلّمهم أن الغاية العظمى هي نوال الحياة الأبدية، وأنه يجب عليهم أن يستعدوا لخسران كل شيء لأجلها، حتى حياتهم الجسدية إذا اقتضى الأمر، متمثّلين بسيدهم الإلهي الذي بذل حياته ليعد لهم حياة الأبد.
    يُبْغِضُ نَفْسَهُ أي لا يعتبر حياته الجسدية شيئاً بالنسبة إلى فرط محبته للحياة الروحية، أو أنه يفعل ما يظهر أنه يبغض الحياة الجسدية إن خُيّر بينهما، أو أنه يبغضها حقيقة حين يكون شرط حفظها إنكار المسيح وفقدان الحياة الأبدية. وقليلون من الناس يبغضون أنفسهم، وأكثرهم يحبونها ولا يهتمون إلا بها، ولا يبالون بالحياة السماوية.
    ٢٦ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَليَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ».
    يوحنا ١٤: ٣ و١٧: ٢٤ و١تسالونيكي ٤: ١٧
    قال المسيح هذا لنفع اليونانيين أولاً ثم لكل من يريدون أن يكونوا له تلاميذ. لقد أتى أولئك اليونانيون ليروا يسوع ويسألوه عن شروط التتلمذ له، فأعلن لهم الشروط التي سبق وأعلنها لرسله حين دعاهم، وهي إنكار النفس، واتخاذ يسوع معلّماً ومخلّصاً، والاقتداء به. وهذا هو قانون خلاص اليهود والأمم.
    إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي أي إن أراد أن يكون مسيحياً حقيقياً وتلميذاً أميناً.
    فَليَتْبَعْنِي في طريق إنكار الذات، وعدم الالتفات إلى شرف هذا العالم وغناه ومجده، متمثلاً بي. وهذا كقول الرسول «إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه» (انظر شرح متّى ١٦: ٢٤).
    وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي أول شيء وعد المسيح به تلميذه الذي يتبعه بأمانة على الأرض أنه يكون معه في ملكوت مجده، يشاركه في كل ما يناله من السعادة والإكرام (يوحنا ١٤: ٣ و١٧: ٢٤ و١تسالونيكي ٤: ١٧ ورؤيا ٣: ٢١). وفي هذا العدد تعزية وتنشيط للمسيحيين في أوقات الضيق والاضطهاد.
    وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ إكراماً لابنه وإنجازاً لوعده. وهذا الأمر الثاني الذي وعد به المسيح تلميذه الأمين، وهذا مما لا يستطيع اللسان أن يعبر عنه، وهو لمن لم ينالوا الإكرام من الناس. ويوافق هؤلاء أن يخسروا الإكرام العالمي الوقتي القليل القدر لينالوا الإكرام السماوي غير المحدود قدراً وزماناً. فكان المسيح كلما قطع رجاء تلاميذه في الخير الأرضي من خدمتهم له قوَّى أملهم في المجد السماوي إثابة على كل ما يخسرونه في تلك الخدمة.
    ٢٧ «ٱلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَة».
    متّى ٢٦: ٣٨، ٣٩ ولوقا ١٢: ٥٠ ويوحنا ١٣: ٢١ لوقا ٢٢: ٥٢ ويوحنا ١٨: ٣٧
    ٱلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ معنى النفس هنا مركز الانفعالات. لم يستطع المسيح أن يفتكر في تمجيده دون أن يفتكر في الموصِّل إليه، وهو احتمال عقاب عالم الإثم بموته على الصليب. واضطراب نفسه هنا كاضطرابها في بستان جثسيماني في الليلة التي أُسلم فيها، والصلاة التي قدمها هنا كالصلاة التي قدمها وقتئذ، والنتيجة واحدة هي التسليم إلى مشيئة الآب (لوقا ٢٢: ٣٩ - ٤٤ فانظر الشرح هناك). وأشار الرسول إلى ذلك الاضطراب في عبرانيين ٢: ١٨ و٤: ١٥ و٥: ٧، لأن المسيح إنسان حقيقي كما أنه إله حقيقي، نفرت طبيعته البشرية من ألم نفسه المقدسة لحلوله محل الخطاة واحتماله الموت وعقاب الإثم عنهم. وكما بيّن هذا الاضطراب ناسوت المسيح، برهن أيضاً عظمة ثقل الحمل الذي حمله للكفارة.
    وَمَاذَا أَقُولُ؟ خاطب يسوع نفسه بذلك ودلّ به على شدة اضطرابه، فكأنه قال: بماذا أعبر عن خوفي من الألم الروحي ورغبتي في طاعة إرادة أبي؟ فتنازعه أمران: غرائزه الطبيعية، ورغبته الروحية.
    أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ أي ساعة الألم (مرقس ١٤: ٣٥). هذه الكلمات تابعة للسؤال السابق غير مستقلة عنه. فكأن المسيح قال: ماذا أقول؟ هل أقول أيها الآب الخ؟ فلو طلب ذلك لاستجاب الله له ونجّاه من الموت، وكانت عاقبة نجاته من الموت هلاك البشر إلى الأبد (متّى ٢٦: ٥٣، ٥٤).
    وَلَكِنْ لأجْلِ هَذَا أي لتمجيد أبي بخلاص البشر الذي لا يكون إلا بآلامي وموتي. ولم يرد يسوع أن يطلب إلى الآب النجاة من تلك الساعة، لأن تلك النجاة تنافي غاية مجيئه إلى العالم، فإنه قدم نفسه باختياره ليحتمل لعنة الإثم عن الأثمة، لأن خلاص العالم متوقف على موته (لوقا ٢٤: ٢٦). فهنيئاً لنا بأن المسيح لم يسأل أباه النجاة من تلك الساعة.
    أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ من السماء إلى الأرض، ومن المذود في بيت لحم إلى الصليب على تل الجلجثة. ويضارع هذا قول لوقا في سَفَر يسوع الأخير من الجليل إلى أورشليم منذ ستة أشهر حين تمت الأيام لارتفاعه «ثبَّت وجهه لينطلق إلى أورشليم» (لوقا ٩: ٥١).
    ٢٨ «أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضاً».
    متّى ٣: ١٧ و١٦: ١٦، ١٧
    مَجِّدِ اسْمَكَ بموتي وكل الآلام المحتومة عليّ بإرادتك لأني أريد أن يتمجد اسمك مهما لحقني من ألم (متّى ٢٦: ٣٩). فهذه الصلاة تدل على تسليم يسوع كل شيء إلى مشيئة الآب في وقت كان ينتظر فيه أشد الضيق. لقد كان تمجيد الآب غاية المسيح العظمى، ويجب أن تكون هذه غايتنا.
    فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ وهو قولٌ فهم بعضهم معناه وبعضهم لم يفهمه. قيل في الإنجيل إن الله تكلم من السماء بصوت مسموع على الأرض ثلاث مرات: (١) في معمودية يسوع (متّى ٣: ١٧) و(٢) حين التجلي (متّى ١٧: ٥) و(٣) هنا، وهي قرب زمان صلبه.
    مَجَّدْتُ بما مضى من خدمتك قولاً وفعلاً. هذه شهادة الآب بمسرته بعمل ابنه وهي ختم له. ويمكننا أن نقصر هذه الشهادة على عمل المسيح في الأرض من تجسده واحتماله التجربة وصنعه المعجزات وتعليمه، كما يمكننا أن نطلقها على كل عمل الفداء منذ سقوط آدم. فمجَّد الله اسمه بإعلاناته للآباء القدماء، ولأنبياء العهد القديم، وبكل ذبائح الشريعة الموسوية ورسومها وشعائرها في خيمة الاجتماع والهيكل. نعم أن اسم الله تمجد قبل إتيان المسيح بالجسد في كل حوادث الكنيسة الإسرائيلية، لكنه تمجد أكثر بعد مجيئه.
    وَأُمَجِّدُ أَيْضاً ذلك بموت المسيح، وقيامته، وسكب الروح القدس بناءً على ذلك، وبتأسيس الكنيسة المسيحية ودخول الأمم إليها.
    ٢٩ «فَالجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ، قَالَ: قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ. وَآخَرُونَ قَالُوا: قَدْ كَلَّمَهُ ملاكٌ».
    اتفق كل السامعين على أنهم سمعوا صوتاً غريباً عالياً من السماء، بدليل ظن بعضهم أنه رعد. واختلفوا في حقيقته لاختلافهم في القرب والبعد من المكان الذي فيه يسوع وتلاميذه، ولاختلاف انتباههم له واهتمامهم بأمور متنوعة، وباختلاف استعدادهم لقبول التأثيرات السماوية. ومثل ذلك أن بعض الناس الذين سمعوا الرسل يتكلمون بألسنة يوم الخمسين حسبوهم سكارى، وأن آخرين قالوا إنهم يتكلمون بعظائم الله. ولعل اليونانيين ظنوا ذلك الصوت رعداً لأنهم لم يفهموا اللغة العبرانية الذي كان الكلام بها.
    ٣٠ «أَجَابَ يَسُوعُ: لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ، بَل مِنْ أَجْلِكُمْ».
    يوحنا ١١: ٤٢
    لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ لم يكن ذلك الصوت لتعزية المسيح وإزالة شكوكه في مسرة الله به، لأنه متيقن من ذلك (يوحنا ١١: ٤١، ٤٢).
    بَل مِنْ أَجْلِكُمْ إن الله علم أفكارهم وكلامهم، فكان ذلك الصوت لتعليمهم وإزالة شكوكهم ليقنعهم أن يسوع رسول الله، والله سُرّ به. فإن كانوا لم يستفيدوا كل الاستفادة من ذلك الصوت وقتئذٍ فلهم أن يستفيدوا كذلك بعدئذ عندما يذكرونه
    ٣١ «ٱلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا العَالَمِ. ٱلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا العَالَمِ خَارِجاً».
    متّى ١٢: ٢٩ ولوقا ١٠: ١٨ ويوحنا ١٤: ٣٠ و١٦: ١١ وأعمال ٢٦: ١٨ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٢: ٢ و٦: ١٢
    ٱلآنَ أي زمن حدوث ثلاثة أمور هي: مجيء اليونانيين، والصوت من السماء، وموته. ولذلك ثلاث نتائج ذكرها على الأثر، وهي: دينونة العالم، وطرح رئيسه، وجذب المسيح للجميع.
    دَيْنُونَةُ هَذَا العَالَمِ (يوحنا ٣: ١٧ - ١٩). العالم هنا عموم الناس على الأرض، وقد دِين العالم لأنه ملكوت الشيطان فإن «العالم كله قد وُضع في الشرير» (١يوحنا ٥: ٩)، ولأنه صلب رب المجد. والدينونة هنا ليست حساب اليوم الأخير، بل إعلان الله أن العالم أثيم، وأنه أخذ في إزالة كل ما يغيظه فيه، ولا سيما عبادة الأوثان، وما طرأ على الدين اليهودي من الفساد والرياء، واستيلاء الشيطان على قلوب الناس. وأعظم مغضبات الله رفض العالم لابنه. وأظهر الله هذا الحكم في العالم بعد موت ابنه أكثر مما أظهره قبلاً بما فعله من دعوة الأمم من الأوثان إلى الخلاص بابنه.
    ٱلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا العَالَمِ أي الشيطان، وسُمي رئيس هذا العالم لخضوع أكثر العالم له وطاعته إياه. وحيث تسود الخطية يملك الشيطان (يوحنا ١٤: ٣٠ و١٦: ١١ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٦: ١٢). فطُرح رئيس العالم على أثر دينونة العالم. وتقييد طرحه «الآن» لأن موت المسيح هو علة خراب مملكته «إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسّلاطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ» (كولوسي ٢: ١٥). وفي ذلك إتمام للنبوة الأولى بالمسيح ونصها «هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تكوين ٣: ١٥ انظر شرح لوقا ١٠: ١٨ وأعمال ٢٦: ١٨ ورومية ١٦: ٢٠ و١بطرس ٥: ٨ ورؤيا ١٢: ٧ - ١٢ و٢٠: ٢). وهذه النتيجة لا تحصل دفعة بل تدريجياً.
    ٣٢ «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الجَمِيعَ».
    يوحنا ٣: ١٤ و٨: ٢٨ رومية ٥: ١٨ وعبرانيين ٢: ٩
    وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ على الصليب لأموت كفارة عن خطايا العالم، وقد فُسر ذلك في الآية التالية. وبمثل ذلك عبّر عن موته لنيقوديموس (يوحنا ٣: ١٥) ولليهود (يوحنا ٨: ٢٥). ونتيجة ارتفاع يسوع على الصليب ارتفاعه إلى عرش المجد، واستيلاؤه على كل سلطان في السماء وعلى الأرض، وارتقاؤه إلى يمين الله شفيعاً لنا. ومن نتائجه أيضاً إتيان الأمم إليه بالإيمان، وهدم ملكوت الشيطان.
    أَجْذِبُ إِلَيَّ الجَمِيعَ أي الذين يطيعون جذبي ويرضون بالخلاص على يديَّ، لا كل إنسان مطلقاً، بل بشرط الإيمان. ويتضمن قوله «الجميع» كل صنوف البشر من يهود وأمم في كل عصر وبلاد. وهؤلاء اليونانيون هم باكورة حصاد الأمم. وقوله «أجذب» يفيد أنه لا يجبرهم على المجيء بجيوش من الملائكة أو من الناس، بل إنه يقنعهم بالبراهين المقنعة لأذهانهم وضمائرهم، ويضع أمامهم أفراح السماء تشويقاً لهم إليها وأهوال جهنم ترهيباً لهم منها. والجاذب الأعظم لهم تأثير روحه القدوس فيهم.
    فالجاذب هو يسوع المسيح، مرتفعاً على الصليب، لا لكونه معلماً ومثالاً لنا. وجذب موته أشد من كل ما سواه من المؤثرات الروحية لما فيه من إظهار المحبة والحنو الإلهي، وهو أن المحب مات من أجل أحبائه، وإظهار جسامة جرم الخطية التي لا يمكن رفعها إلا بموت ابن الله. وهذا ينشئ في قلوبنا الشكر للمسيح. وموت المسيح كان سبب إرساله الروح القدس إلينا.
    وبرهان أن ذلك الجاذب هو المسيح بعد صلبه تأثير التبشير به يوم الخمسين، وذلك بعد صلبه. فإن الذين آمنوا في ذلك اليوم وحده زادوا على كل من آمنوا بالمسيح بتعليمه ومشاهدة معجزاته كل مدة حياته على الأرض.
    وأشار بقوله «إليَّ» إلى أنه قصد جذب قلوب الناس إليه في كل الزمن المستقبل، لا في الساعات القليلة التي كان معلقاً فيها على الصليب. وذلك يستلزم أن المسيح يكون حياً بعد الموت، وحاضراً بروحه بين شعبه رئيساً له. وفيه تصريح أنه يجذب الجميع إلى نفسه، لا إلى دينه، ولا إلى كنيسته، ولا إلى رسله أو إلى أي مخلوق آخر.
    ٣٣ «قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ».
    يوحنا ١٨: ٣٢
    هذا تفسير يوحنا لقول المسيح «ارتفعتُ» بياناً لنوع موت المسيح، وهو الصلب (يوحنا ١٨: ٣٢). وهذا لا يمنع من أن المقصود ارتفاعه إلى السماء بعد موته، وارتفاعه باحترام الناس له بإيمانهم به وعبادتهم له.
    ٣٤ «فَأَجَابَهُ الجَمْعُ: نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ المَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟».
    مزمور ٨٩: ٣٦ و١١٠: ٤ وإشعياء ٩: ٧ و٥٣: ٨ وحزقيال ٣٧: ٢٥ ودانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤، ٢٧ وميخا ٤: ٧ ويوحنا ٣: ١٤
    مضمون هذا الاعتراض أن يسوع ادعى أنه المسيح، وما قاله على نفسه هنا منافٍ لقول النبوات في المسيح الموعود به.
    نَحْنُ سَمِعْنَا أي نحن الذين نعرف الناموس ونفسره لغيرنا.
    النَّامُوسِ أي العهد القديم كما في (يوحنا ١٠: ٣٤).
    أَنَّ المَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ هذا حق باعتبار ملكه الروحي، وسند قولهم ما جاء في مزمور ٨٩: ٢٩، ٣٦، ٣٧ و١١٠: ٤ وإشعياء ٩: ٧ وحزقيال ٢٧: ٢٥ ودانيال ٧: ١٣، ١٤ وميخا ٤: ٧. ولكنهم أخطأوا من وجهين: الأول أنهم حسبوا ملكه زمنياً، وأنه يملك على الأرض إلى الأبد ملكاً منظوراً مجيداً يحرر بني إسرائيل من عبودية الرومان، وينشئ فردوساً أرضياً لا نهاية له. والثاني أنه يملك ولا يموت، والحق أنه يتواضع أولاً بالموت ثم يرتفع بالملك الروحي.
    كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ يظهر من هذا أنهم فهموا بالارتفاع الآلام والموت، وأنه قصد نفسه بقوله «ابن الإنسان» بناءً على قوله قبلاً (ع ٢٣ وكثير من المواضع) وفهموا أن كلامه منافٍ للنبوات كقول دانيال «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى القَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلسِنَةِ. سُلطَانُهُ سُلطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لا يَنْقَرِضُ» (دانيال ٧: ١٣، ١٤) وأنهم لم يعتبروا ولم يفهموا النبوات الأخرى التي بيّنت أن المسيح يكون مرذولاً ومتألماً مثل قول إشعياء «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ» (إشعياء ٥٣: ٧ ومثله دانيال ٩: ٢٦). ولم يدركوا ما تشير إليه ذبائح العهد القديم. وخلاصة ذلك أنهم سمعوا بأبدية المسيح وهو يقول بموته.
    مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ أي من هو هذا الذي يموت؟ إنه ليس مسيح النبوات، فهذا نعرفه وهو مجيد يحيا إلى الأبد، وهذا هو الذي نعتقده ونحتاج إليه. وأما الذي ذكرته فلا نعرفه ولا نريده. وفي كلامهم استغراب وإنكار. فالذين قالوا يوم الأحد «أوصنا! مبارك الآتي باسم الرب» قالوا يوم الثلاثاء «من هو هذا ابن الإنسان؟» وقالوا يوم الجمعة «اصلبه! اصلبه!». وقالوا القول الأول حين افتكروا في معجزاته. وقالوا الثاني حين ظهر لهم ما في قوله من المنافاة لأقوال الأنبياء. وقالوا الثالث حين سمعوا اتهام الفريسيين له.
    ٣٥ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: النُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئلا يُدْرِكَكُمُ الظّلامُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلامِ لا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ».
    يوحنا ١: ٩ و٨: ١٢ و٩: ٥، ٤٦ إرميا ١٣: ١٦ وأفسس ٥: ٨ ويوحنا ١١: ١٠ و١يوحنا ٢: ١١
    لم يجب يسوع على سؤالهم بالتصريح، إنما أنذرهم من فوات الفرصة لنوال الخلاص، وفي هذا إجابة ضمنية لسؤالهم، وهو أنهم إذا استناروا بنور الحق أدركوا معنى النبوات المتعلقة بالمسيح حق الإدراك، وخلصوا من خطاياهم. وكلامه هنا جار مجرى المثل، وقد بُني على أمر معلوم، وهو أن الذي يقصد السفر يجب أن يسير في النهار. والمعنى أن الوقت الحاضر أهم الأوقات لنجاتهم ونجاة سائر أمتهم من أشد المصائب، ونوال أعظم البركات.
    النُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ قصد بالنور هنا نفسه لأنه نور العالم (يوحنا ١: ٤ و٨: ١٢ و٩: ٤). وأشار بقوله «معكم زماناً قليلاً» إلى قرب موته (يوحنا ٩: ٤). وإذ كان نور العالم على وشك الغروب كان يوم خلاص اليهود على وشك الانتهاء.
    فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُمعنى هذا كمعنى قوله في يوحنا ٨: ١٢ وهو وجوب اغتنام الفرصة لمعرفة الحق ونوال الخلاص ما دام هو بينهم يرشدهم إلى طريق الحياة.
    لِئلا يُدْرِكَكُمُ الظّلامُ أي لئلا ينزع الله نعمته منكم ووسائط معرفة الحق ويترككم إلى جهالتكم وعماكم وشقائكم (يوحنا ٨: ١٢ ورومية ١: ٢١ و١يوحنا ٢: ١١). وتم ذلك على أكثر اليهود، إذ هُدمت مدينتهم وتبدد شملهم وبقيت قلوبهم قاسية مظلمة. ويصيب ما أصابهم كل الخطاة الذين يرفضون الإنجيل. وهذا الظلام يدرك بعض رافضي الحق في هذا العالم، ويدرك البعض الآخر في العالم الآتي، وهم الأكثر.
    لا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ ظن اليهود أنهم ذاهبون إلى السماء، وجهلوا أنهم برفضهم المسيح عرضوا أنفسهم لخطر السقوط في جهنّم التي لا يعرف أحد شدة ما فيها من الظلام واليأس والشقاء. وما قاله المسيح هنا نبوة إلى ما صار إليه اليهود من ذلك الوقت إلى الآن، فإنهم تائهون في الظلام بلا مرشد ولا غاية.
    ٣٦ «مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ. تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ».
    لوقا ١٦: ٨ وأفسس ٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٥ و١يوحنا ٢: ٩ الخ لوقا ٢١: ٣٧ ويوحنا ٨: ٥٩ و١١: ٥٤
    هذه الدعوة المملوءة رقة وشفقة ومحبة، كقوله «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم». وهي نصيحة من أفضل الأصدقاء المخلصين لكل إنسان: أن يستفيد من الوسائط التي وهبها الله له لينال منه أعظم منها. وتلك الوسائط هي نور الضمير، وكلام الله، وإنارة الروح القدس. وكلها من مصدر واحد هو المسيح.
    مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ هذا يتضمن أمرين: (١) أن يسوع هو النور. (٢) أنه على وشك تركهم. ومعناه بالنظر إلى اليهود يومئذ أن وقت وجود المسيح بينهم وقت النعمة لهم. ومعناه بالنظر إلينا أن زمن حياتنا على الأرض هو وقت نعمتنا. وفي هذه الآية جواب لليهود على قولهم «من هو هذا ابن الإنسان؟» (ع ٣٤) وهو أنه نور العالم.
    آمِنُوا بِالنُّورِ هذا كقوله آنفاً: سيروا في النور، أي اتكلوا عليّ مرشداً ومخلّصاً، فذلك الإيمان يجعلكم أبناء النور. وهو ليس النظر إليَّ مرة بل دائماً، إذ لم يقل: انظروا النور، بل قال: سيروا فيه، وذلك كما سار أخنوخ ونوح مع الله.
    أَبْنَاءَ النُّورِ (انظر شرح لوقا ١٦: ٨). قصد المسيح بذلك أن يكونوا مثله، لأنه هو النور، وأن يتعلموا منه لأن النور هو كل علم حق، وأن يكونوا مخلصين لا مرائين لأن النور لا غش فيه، وأطهاراً لأن النور طاهر، ومنيرين لغيرهم لأن النور مضيء وهو صفة مملكة النور وورثتها (أفسس ٥: ٨).
    مَضَى وَاخْتَفَى سبب ذلك معرفته أنهم يبغضونه ويقصدون به الشر، وأن وقته لم يأت بعد إذ هو في عيد الفصح، وكان اختفاؤه في يوحنا ٨: ٥٩. والأرجح أنه ذهب إلى بيرية (انظر شرح لوقا ٢١: ٣٧). ثم أتى أيضاً وعلّم في أورشليم ما سيأتي. وظن بعضهم أنه اعتزل الجمع الذي كان حوله وذهب إلى موضع آخر من المدينة وخاطب آخرين.

    كفر اليهود وسببه (ع ٣٧ - ٤٣)


    ٣٧ «وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ».
    الآيات ٣٧ - ٤٣ كلام يوحنا على قساوة قلوب اليهود، ورفضهم أوضح البراهين على لاهوت يسوع وأنه المسيح.
    أَمَامَهُمْ أي أمام جمهور اليهود.
    آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا أي كثيرة، ويحتمل الأصل اليوناني أنها عظيمة أيضا،ً ويدل هذا على أن يسوع صنع معجزات كثيرة لم يذكر يوحنا سوى سبع منها (وهي تحويل الماء خمراً، وشفاء ابن خادم الملك، وإبراء المقعد، وإشباع خمسة آلاف بخمسة أرغفة، والمشي على الماء، وتفتيح عيني الأكمه، وإقامة لعازر) لكنه أشار إلى كثير منها (يوحنا ٢: ٢٣ و٧: ٣ و٩: ١٦ و١١: ٤٧ و١٦: ٢٤). وفي هذا العدد إشارة إلى أن تلك المعجزات كانت برهاناً كافياً لإثبات دعوى يسوع، وصُنعت أمام عيونهم، فكان يجب على اليهود أن يقتنعوا به.
    لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي اليهود إجمالاً. ذكر يسوع كفرهم في معرض الاستغراب لقوة البراهين من كثرة المعجزات وعظمتها. وجمع في هذا العدد نتائج كل خدمة يسوع مدة ثلاث سنين ونصف سنة من أولها إلى آخرها فكانت وفق قوله «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَله» (يوحنا ١: ١١).
    ٣٨ «لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: يَا رَبُّ، مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟».
    إشعياء ٥٣: ١ ورومية ١٠: ١٦
    لِيَتِمَّ أي كان كفرهم على وفق نبوة إشعياء، فليست النبوة سببه، لكنها سبب عدول البشير عن الاستغراب، فإن الله أنبأ بذلك منذ القديم. وتمت تلك النبوة على اليهود في أيام إشعياء كما تمت عليهم في أيام المسيح.
    يَا رَبُّ، مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا تكلم إشعياء عن نفسه وعن غيره من المنادين بكلمة الله في أيامه وفي الأيام الآتية. وهذا الكلام بدء أصحاح ٥٣ من نبوته. ومعناه: لم يصدِّق خبرنا أحد. والمقصود بالخبر هنا شهادته بآلام المسيح فداءً لشعبه.
    اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ ذراع الرب كناية عن قوته بإقامة فادٍ لشعبه، وإعداد خلاصهم على يده. وظهرت ذراع الرب في أعمال يسوع ومعجزاته وتعليمه وقيامته وصعوده، ولم يرها أحد (إشعياء ٥١: ٩ و٥٢: ١٠).
    ٣٩ «لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً».
    إشعياء ٦: ٩، ١٠ ومتّى ١٣: ١٤
    لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا أي لعلة ستُذكر في الآية التالية، وهي عمى بصيرتهم وغلاظة قلوبهم، فإن من هذا حاله يتعذَّر عليه الإيمان. فمعنى عدم القدرة هنا كمعناه في قوله «ولم يقدر (أي يسوع) أن يصنع هناك (في الناصرة) ولا قوة واحدة لعدم إيمانهم» (مرقس ٦: ٥). وعلة كفرهم ليست قضاء الله، ولا نبوة إشعياء، بل إرادتهم واختيارهم، فلم يقدروا أن يؤمنوا لأنهم لم يريدوا. وبهذا المعنى قوله «لَمْ يَسْتَطِيعُوا (أي إخوة يوسف) أَنْ يُكَلِّمُوهُ (أي يوسف) بِسلامٍ» (تكوين ٣٧: ٤) وقوله «لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ» (يوحنا ٧: ٧). وقوله «لَنْ يَقْدِرَ (أي الله) أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ» (٢تيموثاوس ٢: ١٣).
    ٤٠ «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ، وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ، لِئلا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ».
    هذا من نبوة إشعياء ٦: ١٠ ونُقلت هذه العبارة في العهد الجديد ست مرات بياناً لرفض اليهود أن يسوع هو المسيح (متّى ١٣: ١٤ و١٥ ومرقس ٤: ١٢ ولوقا ٨: ١٠ وأعمال ٢٨: ٢٦، ٢٧، ٢٨ ورومية ١١: ٨). فراجِع تفسيرها في بشارتي متّى ومرقس. واقتُبست بشيء من التصرف مع حفظ المعنى. فجاء في بعض المقتبسات نسبة الأغلاط إلى الناس أنفسهم كما في بشارة متّى، وفي بعضها إلى الله كما في هذه الآية، وهو في الأصل منسوب إلى إشعياء نفسه. والحقيقة أنه فِعل الناس أنفسهم لأنهم أغمضوا عيونهم عن الحق وقسوا قلوبهم عن قبوله بإرادتهم واختيارهم، وأن الله قضى أن يتركهم في الحالة التي اختاروها اتباعاً لشهواتهم، كعقاب على ما فعلوه، ولم يمنعهم بروحه القدوس من إغماض عيونهم، ولم يليّن قلوبهم ليحملهم على الإيمان والتوبة. ونُسب ذلك إلى النبي لأن الله بيّن قضاءه بفمه بناء على قساوتهم.
    قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ، وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لكي لا تدرك عقولهم الحق ولا تشعر قلوبهم بقوته. وهذا نتيجة مناداة إشعياء ووعظ المسيح لا غايتهما (رومية ٧: ٨ - ١١ و٢كورنثوس ٢: ١٥، ١٦).
    ٤١ «قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ».
    إشعياء ٦: ١
    قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا أي ما ذُكر من شهادة ونبوة.
    حِينَ رَأَى مَجْدَهُ أشار بذلك إلى ما جاء في إشعياء ٦، الذي هو علة النبوة، وهو أنه رأى السرافيم يعبدون الله هاتفين «قدوس قدوس قدوس رب الجنود» والضمير في «مجده» يعود إلى المسيح. وهذا من أوضح البراهين على أن يسوع هو الله، لأن يوحنا الرسول وهو يتكلم بالوحي صرح أن «السيد» الإلهي الذي رأى إشعياء مجده وقال فيه «لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود» هو يسوع المسيح. وهذا على وفق قول بولس أن الذي قاد إسرائيل بالسحاب في البرية هو يسوع ( ١كورنثوس ١٠: ٤). ومن الضرورة أن الذي رآه إشعياء هو الأقنوم الثاني، لأن «الله الآب لم يره أحد قط» (يوحنا ١: ١٨) و «لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ولا يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ» (١تيموثاوس ٦: ١٦). فإشعياء رأى منذ ٧٠٠ سنة قبل إتيان المسيح الذي لم يره اليهود مع كونه متجسداً بينهم.
    ٤٢ «وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً، غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ، لِئلا يَصِيرُوا خَارِجَ المَجْمَعِ».
    يوحنا ٧: ١٣ و٩: ٢٢
    أراد يوحنا أن يبيّن لقراء إنجيله أن ما قاله، وإن صدق على اليهود إجمالاً، لا يصدق على كل فرد منهم.
    آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ أي اقتنعوا اقتناعاً عقلياً بأن يسوع هو المسيح، ولم يكونوا عمياناً غلاظ القلوب كسائر اليهود. ولا يلزم من ذلك أن إيمانهم كان قلبياً حقيقياً خالصاً، وإلا لظهر بإقرارهم، لكنه كان استعداداً للإيمان الصحيح، كما كان من أمر نيقوديموس ويوسف الرامي، فإنهما أظهراً بعدئذ علامات صحة إيمانهما بأعمالهما (يوحنا ١٩: ٣٨، ٣٩ ومرقس ١٥: ٤٣ ولوقا ٢٣: ٥٠، ٥١).
    لِسَبَبِ الفَرِّيسِيِّينَ أقوى أعداء يسوع وأشدهم بغضاً، الذين خافهم الرؤساء أنفسهم.
    لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ خوفاً من الاضطهاد. إن الإيمان المجرد عن الاعتراف غير كافٍ للخلاص بدليل ما جاء في رومية ١٠: ١٠.
    لِئلا يَصِيرُوا خَارِجَ المَجْمَعِ وهذا الحرمان عندهم مصيبة كالموت، فكان الذي يخرجونه من المجمع يُحرم من كل الحقوق الدينية والشخصية وأكثر الحقوق المدنية (راجع شرح يوحنا ٩: ٢٢).
    ٤٣ «لأنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ».
    يوحنا ٥: ٤٤
    هذا وصف حال أكثر اليهود، وهو سبب جبنهم عن الاعتراف بالإيمان (يوحنا ٥: ٤٤). ومعنى مجد الناس هنا مدحهم ورضاهم. فأولئك الرؤساء طلبوا مدح الناس أكثر مما يجب ومدح الله أقل مما يستحق، وخالفوا أحكام عقولهم، وشهادات ضمائرهم، وأغاظوا الله، وأهلكوا نفوسهم إن كانوا قد بقوا على تلك الحال، وفعلوا كل ذلك إرضاءً للبشر أمثالهم. ولم يزل حب مجد الناس سبب هلاك كثيرين. وينجو الإنسان من هذا إن تأمل الإنسان في من هو الله، وفي عظمة البركات الناتجة من رضاه، وشدة الهول من غضبه (١يوحنا ٥: ٤).

    إثم اليهود لعدم إيمانهم (ع ٤٤ - ٥٠)


    ٤٤ «فَنَادَى يَسُوعُ: الَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَل بِالَّذِي أَرْسَلَنِي».
    مرقس ٩: ٣٧ و١بطرس ١: ٢١
    فَنَادَى يَسُوعُ أشار البشير إلى أن يسوع رفع صوته لينبه كل الحاضرين ليسمعوا ما يقول، ولم يذكر يوحنا أين ولا متى كان ذلك. ولعله ألقى أول خطابه (ع ٣٠ - ٣٦) في مكان، وبقيته في مكان آخر (ع ٤٤ - ٥٠). وما قيل في هذا الفصل يكرر باختصار ما قاله يسوع سابقاً.
    الَّذِي يُؤْمِنُ بِي جاء مثل هذا في يوحنا ٥: ٣٦ و٧: ١٦، ٢٩ و٨: ١٩ و١٠: ٣٥.
    لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي أي وحدي. ذلك كقول الله لصموئيل «اسْمَعْ لِصَوْتِ الشَّعْبِ.. لأنَّهُمْ لَمْ يَرْفُضُوكَ أَنْتَ» (١صموئيل ٨: ٧). ومعناه أنهم لم يرفضوه وحده (قارن بما في متّى ١٠: ٢٠ ومرقس ٩: ٣٧).
    بَل بِالَّذِي أَرْسَلَنِي هذا تصريح بأن الإيمان بالمسيح يتضمن الإيمان بالله الآب، وذلك دليل على الاتحاد التام بين المسيح وأبيه حتى لا يمكن لأحد أن يؤمن بأحدهما دون الآخر. ويجب أن يؤمن بهما معاً لأنهما يعملان عملاً واحداً (يوحنا ٥: ١٦، ٢٠، ٣٦ و١٠: ٢٥، ٣٧) ويعلّمان تعليماً واحداً (يوحنا ٨: ٣٨ و١بطرس ١: ٢١).
    ٤٥ «وَالَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي».
    يوحنا ١٤: ٩
    هذا دليل واضح على مساواة الابن للآب. ولو كان بينهما فرق في الجوهر لما ساغ القول به لأنه يستحيل أن يصدق على ملاك أو إنسان. فلو قاله موسى أو إشعياء على نفسه كان تجديفاً فظيعاً، ولكن يسوع كان يقوله مراراً كثيرة (يوحنا ٥: ١٧). وليس المعنى أن الذي يرى المسيح بعين الجسد يرى الآب كذلك، فهذا مُحال (١تيموثاوس ٦: ١٦) بل المراد أن الذي يرى يسوع يرى كل ما يمكن من معلنات الآب، لأنه «بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ» (عبرانيين ١: ٣). وغاية هذه الآية وما قبلها تقوية إيمان تلاميذه به وتقرير تعليمه اتحاده بالآب.
    ٤٦ «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى العَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لا يَمْكُثُ فِي الظُّلمَةِ».
    يوحنا ٣: ١٩ و٨: ١٢ و٩: ٥، ٣٩ وع ٣٥، ٣٦
    انظر شرح يوحنا ٨: ١٢ وانظر أيضاً يوحنا ١: ٩ و٣: ١٩.
    ولنا في هذا العدد: (١) بيان غاية تجسد المسيح وموته لإنقاذ الناس من سلطة الظلمة ونقلهم إلى ملكوته (كولوسي ١: ١٣). (٢) أن يسوع لنفوس الناس بمنزلة الشمس لأجسادهم، فهو أصل التنوير والبركة والسعادة، وطريق الوقاية من الخطر. (٣) عظمة المسيح وسمو مقامه. (٤) عموم بركة الإنجيل.
    لا يَمْكُثُ فِي الظُّلمَةِ أي الجهالة والضلالات المهلكة والشقاء الناتج عن ذلك. والذي لا يمكث في الظلمة يقوده المسيح إلى الله والحق والسماء (يوحنا ٣: ١٩ وإشعياء ٨: ٢٢ و٥٩: ٩ ويوحنا ٢: ٢٢ و١يوحنا ١: ٥).
    وفي هذه الآية خمس حقائق ذات شأن: (١) أن العالم في الظلمة. (٢) أن المسيح نور العالم الوحيد. (٣) أن الإيمان هو الوسيلة الوحيدة إلى الاستفادة من المسيح. (٤) أن للمؤمن نوراً روحياً. (٥) أن غير المؤمن يبقى في ظلمة الضلال التي هي مقدمة لظلمة جهنم.
    ٤٧ «وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلامِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لا أَدِينُهُ، لأنِّي لَمْ آتِ لأدِينَ العَالَمَ بَل لأُخَلِّصَ العَالَمَ».
    يوحنا ٥: ٤٥ و٨: ١٥، ٢٦ ويوحنا ٣: ١٧
    انظر شرح يوحنا ٨: ١٥. تكلم يسوع سابقاً عن امتيازات المؤمنين، وتكلم هنا على خطر الكفرة.
    فَأَنَا لا أَدِينُهُ أي الآن، لأن الدينونة ليست من غرضي في مجيئي الأول، إنما هي من أغراضي في المجيء الثاني. قال ذلك إصلاحاً لأخطاء اليهود، كقولهم إن المسيح يأتي ليدين أعداءه وأعداء شعبه وينتقم منهم ويسحقهم.
    بَل لأُخَلِّصَ العَالَمَ أي لأجهز الخلاص للجميع، وأدعوهم لقبوله. ولكن لا يستفيد منه سوى المؤمنين «لأنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى العَالَمِ لِيَدِينَ العَالَمَ، بَل لِيَخْلُصَ بِهِ العَالَمُ» (يوحنا ٣: ١٧).
    ٤٨ «مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَل كلامِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. ٱلكلامُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
    لوقا ١٠: ١٦ تثنية ١٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٦
    مَنْ رَذَلَنِي انظر شرح لوقا ١٠: ١٦. ومعنى «رذلني» أهانني برفضه أني المسيح والمخلص والفادي، بعد كل ما أوردته من البراهين.
    فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ انظر شرح يوحنا ٣: ١٨ و٥: ٤٥ و٨: ٣٠. هذا يفيد أن غير المؤمن يُدان، وإن لم يدنه المسيح وقتئذ، والشاهد عليه حاضر ليشهد ويدين أيضاً لكنهم جهلوه.
    ٱلكلامُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ هذا لا ينفي أن المسيح يدينه كما قيل في (يوحنا ٥: ٢٥ - ٢٧). إنما يبين أن الدينونة تكون بمقتضى الكلام الذي تكلم به المسيح سابقاً، واعتراف المحكوم عليه بأنه سمعه، فيقارن سلوكه به ويدين نفسه، ويشهد بعدل الله الديّان.
    فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ يذكر الخاطئ في اليوم الأخير وهو أمام عرش الدينونة كلمات الحكمة والحق والرحمة والإنذار. ويكون الحكم الإلهي وضمير الخاطئ على وفاق في الحكم على الخاطئ لرفضه المسيح، فيصمت ولا ينطق بكلمة.
    ٤٩ «لأنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ».
    يوحنا ٨: ٣٨ و١٤: ١٠ تثنية ١٨: ١٨
    لأنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي أي وحدي. انظر شرح يوحنا ٥: ٣٠ و٧: ١٦ - ١٨، ٢٨، ٢٩ و٨: ٢٦ ، ٢٨ ، ٣٨. هذا علة قوله في الآية السابقة إن كلامه هو الذي يدين، لأن كلامه كلام الله نفسه.
    لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً انظر شرح يوحنا ١٠: ٨. إن الذين رفضوا كلام المسيح كأنهم رفضوا كلام الله لا كلام إنسان أو نبي. وليس في ذلك ما يشين لاهوت المسيح أو يدل على عدم مساواته للآب، لأن المسيح تكلم هنا بمنزلة فادٍ ووسيط رضي بمقتضى عهد الفداء أن يكون «رسولاً يأخذ وصية من الآب».
    مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ أي المعنى وكيفية التعبير عنه.
    ٥٠ «وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ».
    وَأَنَا أَعْلَمُ علماً ذاتياً وعلماً اختبارياً من مشاهدة نتائج تأثير وصية الآب.
    أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وصية الله في كتابه المقدس وهي جوهر الدين المسيحي، وعُبر عنها «بالحياة الأبدية» لأنها مصدر تلك الحياة لكل من يقبلها ويطيعها، وأن غايتها إرشاد الناس إليها بإعلان حقيقتها ووسائط تحصيلها. فكما أن الكتب العلمية تبين شرائع عالم المادة يبين كتاب الله شرائع عالم الروح. وهذا كقول بطرس «إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلامُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ» (يوحنا ٦: ٦٨). وقول المسيح نفسه «ٱلكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا ٦: ٦٣ و١يوحنا ٣: ٢٢). وما قيل يبين اجتهاد المسيح في حثّ الناس على فهم كلامه وطاعته، لأن حياتهم الأبدية متوقفة عليه. ولذلك نادى به حتى وهو معرَّض للهزء والاضطهاد وخطر الموت. فيجب على المبشرين الآن أن يكونوا أمناء في تعليم الناس بكل مشورة الله، وعلى كل مسيحي أن يكون كذلك لرفاقه وجيرانه.
    فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ سبق تفسير هذا في يوحنا ٧: ١٦ - ١٩ وخلاصة معنى هذه الآية مثل ما في يوحنا ١: ١ وهو أن المسيح كلمة الله. فاليهود الذين رفضوا كلام المسيح إنما رفضوا كلام إله آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
    هذا نهاية ما ذكره يوحنا من تعليم المسيح للناس عموماً، وكان ذلك يوم الثلاثاء الثاني عشر من أبريل نيسان. ثم رجع إلى بيت عنيا وقضى هناك ليلتين ويوم الأربعاء كله، وأتى إلى أورشليم يوم الخميس بعد الظهر ليأكل الفصح مع تلاميذه.
    وما سيأتي من التعليم هو ما خاطبهم به يسوع وهو متكئ معهم للعشاء.


    الأصحاح الثالث عشر


    غسل المسيح أرجل الرسل (ع ١ - ١٧)


    ١ «أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا العَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي العَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى المُنْتَهَى».
    متّى ٢٦: ٢ ويوحنا ١٢: ٢٣ و١٧: ١، ١١
    لم يذكر يوحنا رسم العشاء الرباني الذي ذكره سائر الإنجيليين، ولعل سببه أنه كان معروفاً وقد مارسته الكنيسة نحو أربعين سنة أو خمسين سنة قبل أن يكتب يوحنا بشارته. ولكنه هو وحده ذكر كلمات يسوع الأخيرة للرسل (يوحنا ١٣ - ١٦) وصلاته الشفاعية (يوحنا ١٧).
    قَبْلَ عِيدِ الفِصْحِ في مساء يوم الخميس في أول يوم الجمعة الخامس عشر من أبريل نيسان. وقصد بقوله «قبل» الوقت ما بين استعدادهم وأكلهم الفصح وهم على وشك أن يبدأوا في أكله كما يظهر من ع ٢. وقد مرَّ الكلام على الفصح (في شرح متّى ٢٦: ٢، ١٧). وذكر كل البشيرين أن موت المسيح كان في أيام الفصح. وعيّن الله أن يكون ذلك لأمرين: (١) أن خروف الفصح كان يرمز للمسيح. (٢) اشتهار صلبه بذلك، فقد شاهدته جموع كثيرة وأشاعوا أمره في كل الأرض. وحدث موته حينئذ على خلاف قصد رؤساء اليهود، بدليل قولهم «ليس في العيد» (مرقس ١٤: ٢).
    وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ أي الساعة التي عيّنها الله لموته (يوحنا ١٢: ٢٧)، وكان قد قال مراراً إن ساعته لم تأتِ بعد (يوحنا ٢: ٤ و٧: ٦ و١١: ٩) وحقق الآن أنها قد أتت. ولا يعلن الله للناس وقت موتهم شفقة عليهم، ولكن يسوع عرف وقت موته ونوعه، فزادت معرفته ذلك الموت مرارة.
    لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا العَالَمِ إِلَى الآبِ عبّر المسيح عن الموت هنا بالانتقال، كأنه سفر من مكان إلى مكان آخر، لأن موته كان رجوعاً إلى بيت أبيه بعد إكماله العمل الذي لأجله أتى إلى هذه الأرض. والموت للمؤمن بالمسيح ذهاب إلى وطنه الأبدي في بيت أبيه السماوي، فهو مدخل الحياة الأبدية.
    إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ قدَّم المسيح براهين كثيرة على حبه لتلاميذه في ثلاث سنين ونصف سنة قضاها معهم، ودعاهم ورثة الحياة الأبدية، و «خاصته» إعلاناً لمحبته الخاصة لهم، وأن الآب أعطاهم له، وقد تبعوه تاركين كل شيء لأجله (يوحنا ١: ١١، ١٢).
    أَحَبَّهُمْ إِلَى المُنْتَهَى المنتهى هنا: إما نهاية الوقت، أو غاية المقدار. فيكون المعنى الأول أنه لا يزال يُظهر حبه لهم إلى آخر ساعة من حياته على الأرض، وبرهان ذلك أنه قبل موته بأقل من ٢٤ ساعة غسل أرجلهم. وهذا دليل على أن حبه لم يفتر ولو في انتظاره الموت السريع وأنهم جميعاً سيتركونه ويهربون.. ويكون المعنى على الثاني أنه أحبهم الحب الكامل، وبرهان ذلك ما ذُكر هنا. وما قيل هنا في محبته لرسله «إلى المنتهى» يُقال أيضاً في محبته للمؤمنين به الآن، لأنه «هُوَ هُوَ أَمْساً وَاليَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عبرانيين ١٣: ٨).
    ٢ «فَحِينَ كَانَ العَشَاءُ، وَقَدْ أَلقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ».
    لوقا ٢٢: ٣ وع ٢٧
    فَحِينَ كَانَ العَشَاءُ أي عشاء الفصح (لا العشاء الرباني) وقت ما أُعد وقد اتكأوا للأكل، لكنهم لم يكلموه (ع ١٢). ومن قوله «واتكأ أيضاً» ومن ع ٢٦ أيضاً، حيث ذكر أن المسيح أعطى يهوذا اللقمة.
    أَلقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلبِ يَهُوذَا أي حركه ليتمم قصده وهو تسليم سيده يسوع حسبما وعد الرؤساء (متّى ٢٦: ١٤). ولا يلزم مما قيل هنا أن هذه أول مرة دخل الشيطان قلب يهوذا، لأن المسيح قال قبل ذلك بمدة ليست بقصيرة «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!» (يوحنا ٦: ٧٠ ،٧١). لا يستطيع الشيطان أن يخدع الإنسان بفعل الشر إلا إن كان في القلب شهوة رديئة. والأرجح أن الشر في قلب يهوذا سهل على الشيطان تحريكه ليرتكب أفظع الشرور وهو الطمع أو حب المال. ومعنى قوله «ألقى الشيطان» أن الشيطان يطرح في قلوب الناس بزور الشرور، ويسمح لها الأشرار أن تتأصل فيهم وتنمو وتأتي بأثمارها التي هي أفعالهم الشريرة.
    سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ (انظر شرح متّى ١٠: ٤). ونُسب هنا إلى سمعان تمييزاً له عن يهوذا بن حلفي.
    أَنْ يُسَلِّمَهُ (انظر شرح متّى ٢٦: ١٤ - ١٦). ذكر هذا بياناً لفرط المحبة التي أظهرها المسيح لتلاميذه بغسله أرجلهم، مع أن واحداً منهم خائن. ذُكر في الآيتين ٢، ٣ ثلاثة أمور هي كمقدمة لسائر الأصحاح: (١) أن يسوع وتلاميذه كانوا وقتئذ متكئين يتعشون. (٢) قصد يهوذا الشرير تسليم يسوع. (٣) معرفة يسوع الكاملة بما سيحدث.
    ٣ «يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي».
    متّى ١١: ٢٧ و٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ و١٧: ٢ وأعمال ٢: ٢٦ و ١كورنثوس ١٥: ٢٧ وعبرانيين ٢: ٨ ويوحنا ٨: ٤٢ و١٦: ٢٨
    يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ من العلاقة لذكر علم المسيح بذكر غسله أرجل التلاميذ بيان ما في علمه من التنازل العجيب والتواضع الغريب ووفرة محبته لتلاميذه، فإنه خدمهم خدمة لا يتنازل إليها إلا أدنى العبيد، مع كل علمه وشعوره بأصله الإلهي ومجد نفسه ووقارها وسمو وظيفته الملكية التي هو على وشك تحقيقها. ومن تلك العلاقة أن المسيح وهو عالم بانتقاله أراد أن يترك لتلاميذه علامة خاصة لحبه لهم قبل أن يفارقهم.
    دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ انظر شرح متّى ٢٨: ١٨.
    مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ انظر شرح يوحنا ٨: ٤٢.
    وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي أي يرجع إلى السماء (يوحنا ٦: ٦١، ٦٢). أتي المسيح من عند الله الذي لم يتركه، ومضى إلى الله ولكنه لم يتركنا.
    ٤ «قَامَ عَنِ العَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا».
    لوقا ٢٢: ٢٧ وفيلبي ٢: ٧، ٨
    مرَّ الكلام على ماهية الاتكاء على المائدة في شرح متّى ٢٣: ٦.
    وَخَلَعَ ثِيَابَهُ أي الخارجية من رداء ونحوه.
    وَاتَّزَرَ بِهَا أي تمنطق بجانب منها وأرسل الباقي إلى رجليه. كل ما ذُكر هنا من الأعمال هو مما اعتاده الخدم في خدمتهم.
    ٥ «ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلامِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا».
    ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ كان الماء والمغسل موجودين حسب سُنة اليهود في التطهير. وكانوا يغتسلون بصب الماء.
    وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلامِيذِ هذا عمل مختص بالعبيد (١صموئيل ٢٥: ٤١). وكان نوع الاتكاء على المائدة مما سهل على يسوع غسل أقدام التلاميذ.
    ٦ «فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!».
    متّى ٣: ١٤
    لا شك أن كل التلاميذ خجلوا وتعجبوا مما فعله سيدهم من خدمته لهم، ولكن لم يجسر أحد أن يعترضه سوى بطرس عندما دنا منه ليغسل رجليه، لأنه كان صريحاً لا يكتم شيئاً من أفكاره.
    أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ قال ذلك إظهاراً لتعجبه وعدم استحسانه ذلك الغسل. ومعناه: هل يليق أنك أنت ابن الله تغسل رجليَّ أنا الإنسان الخاطئ؟ ومثل هذه الهيبة حمله على أن يقول للمسيح حين صنع معجزة صيد السمك: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ» (لوقا ٥: ٨). ومثلها جعل يوحنا المعمدان يمتنع من تعميد المسيح قائلاً «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ» (متّى ٣: ١٤). وفي قول بطرس تلميح إلى أن يسوع لا يعلم أن عمله مما لا يليق به، وأنه لا يليق أن اليدين اللتين فتحتا عيون العمي وشفتا المرضى وأقامتا الموتى تتنازلان إلى غسل رجليّ خاطئ.
    وفي اعتراض بطرس هذا بعض ما يستحق المدح، من الإحساس بالتواضع وإكرام المسيح والمحبة له. وفيه بعض ما يستحق الذم، وهو أنه يقدم النصح للمسيح!
    ٧ «أَجَابَ يَسُوعُ: لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ».
    ع ١٢
    لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ كأنه قال: يا بطرس ظننتني جاهلاً بما فعلته، وأنت الجاهل لا أنا. وفي هذا توبيخ لبطرس إذ نظر إلى العمل دون المقصود منه.
    وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ أشار بذلك إلى بيان بعض قصده من الغسل (ع ١٣ - ١٧) وهو تقديم مثل للتواضع والمحبة في الخدمة التي يجب أن يُظهرها تلاميذه لبعضهم. وأشار به أيضاً إلى معنى الغسل الرمزي، وهو تطهير نفس بطرس بدم المسيح (ع ٩، ١٠). وكل ما فعله المسيح من الأعمال حينئذ رمز إلى ما فعله حباً للبشر، إذ خلع عنه مجده السماوي، وترك عرشه هناك، وصار في صورة عبد ليطهرهم من كل خطية. وأسلوب الكلام هنا كأسلوب الكلام في قول الرسول «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ، لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ» (١كورنثوس ١٣: ١٢).
    وكثيراً ما تظهر لنا معاملات الله في هذا العالم ألغازاً فيخيِّب رجاءنا ويسمح لنا بالضيقات ويأخذ منا الصحة والمال والأقربين والأصدقاء، ولا نعلم علّة ذلك، ولكننا سنفهم فيما بعد في السماء، فيجب أن نسلم بأحكام الله بلا شك ولا تذمر.
    ٨ «قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً! أَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ لا أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ».
    يوحنا ٣: ٥ و١كورنثوس ٦: ١١ وأفسس ٥: ٢٦ وتيطس ٣: ٥ وعبرانيين ١٠: ٢٢
    لم يُرد بطرس أن يصبر على المسيح حتى يبيّن له الدافع على عمله، فأبى أن يسمح له بغسل رجليه ما لم يعلم قصده من ذلك. نعم إنه قصد إظهار الاحترام للمسيح بما فعل، لكنه أخطأ لأنه كان يجب أن يطيع.
    إِنْ كُنْتُ لا أَغْسِلُكَ كأن المسيح قال لبطرس: إن لم تخضع لي في هذا الأمر فلست من تلاميذي، لأن التلميذ الحقيقي يخضع لمشيئة سيده حتى لو لم يعرف قصده. فما فعلته ليس تواضعاً صحيحاً بل شبه تواضع.
    وقد اعتاد يسوع أن يشير إلى الروحيات بالجسديات، ولذلك أشار بالغسل المذكور إلى التطهير الروحي، وأراد أن يعلّم بطرس أنه يجب أن يغسله ويطهره ليكون له معه نصيب. واستُعير الغسل لهذا المعنى في ١كورنثوس ٦: ١١ وتيطس ٣: ٥، ٦. والمعمودية إشارة إلى ذلك التطهير.
    فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ أي شركة في محبتي وملكوتي ومجدي. وعظمة ذلك النصيب تظهر مما قيل في يوحنا ١٧: ٢٢ - ٢٦ ورؤيا ٢٠: ٦. ولنا في هذه الآية ثلاث فوائد: (١) أنه لا خلاص لأحد ما لم يتطهَّر من خطاياه بدم المسيح. فالذي يريد أن يستحق الخلاص بأعماله الصالحة يفشل، لأن شرط الخلاص هو التطهير بدم المسيح مجاناً. (٢) إنّ التطهير بالماء ولو بيد المسيح نفسه غير كافٍ، فقد غسل المسيح يهوذا ومع ذلك هلك. (٣) الذي خلَّصنا هو تنازل يسوع إلى مقام العبد لا رياسته الملكية، فعلينا أن نقبل الخلاص بأنه وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب.
    ٩ «قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَل أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي».
    لم يدرك بطرس قصد المسيح تمام الإدراك، لكنه فهم منه أن مشاركته للمسيح تتوقف على قبوله لأن يغسله، فرضي بل رغب فيه، ليس إلى الحد الذي عرضه عليه المسيح بل إلى ما هو أكثر! وأظهر بهذا محبة وغيرة وافرة ومعرفة قليلة. ولعله أدرك بعض المعنى الروحي من كلمات المسيح، وأحب أن يطهّره المسيح تطهيراً كاملاً. وكل مسيحي حقيقي يود أن يقدس المسيح عقله ومشيئته وعواطفه وذاكرته، وأن تكون كل قوات جسده وروحه مقدسة لله (٢كورنثوس ١٠: ٥ و١تسالونيكي ٥: ٢٣).
    ١٠ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إلا إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَل هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ».
    يوحنا ١٥: ٣
    الذي يغتسل في الحمام العام بعد أن يرجع إلى بيته لا يحتاج إلا لأن يغسل رجليه بسبب غبار الطريق. وما قاله بطرس في ع ٩ يتضمن أنه لم يحصل على شيء من التطهير، فيحتاج إلى التجديد من أصله. وما قاله المسيح هنا أن الأمر ليس كما قال بطرس، بل إنه وسائر الرسل قد تطهروا بقوته وبتعليمه، حسب قوله «أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الكلامِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ» (يوحنا ١٥: ٣). فالله غفر لهم خطاياهم، وبررهم أمامه، وذلك لا يغنيهم عن وجوب طلب المغفرة اليومية والتطهير على الدوام من الخطايا التي يرتكبونها يوماً فيوماً، كما صلى داود «اغْسِلنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي» (مزمور ٥١: ٢). (راجع أعمال ١٥: ٨، ٩ و٢كورنثوس ٧: ١ ويعقوب ١: ٢١ و١يوحنا ١: ٨، ٩).
    الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ أي تحرر من الخطية باعتبارها سائدة، وتطهَّر من دنسها ونال المغفرة. ويكون ذلك عند تجديد القلب.
    إلا إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ المراد بذلك التطهير من خطايا خاصة يرتكبها الإنسان بعد التوبة والتجديد. والغسل الأول هو التبرير، ويكون دفعة واحدة، والغسل الثاني هو التقديس ويكون تدريجياً إلى أن يكمل في السماء. وأشار المسيح إلى كل منهما (يوحنا ١٥: ٢، ٣) بقوله في الغسل الأول «أنتم الآن أنقياء» وبقوله في الثاني «كل ما يأتي بثمر ينقيه».
    رأى بعض المفسرين أن التطهير المشار إليه هنا يكون بالتعليم، وأن ما سبق منه كان كافياً إلا قليلاً، فاحتاج التلاميذ إلى مثال واحد أيضاً، وهو ما فعله من غسل أرجلهم ليعلمهم التواضع ووجوب القيام بالخدمة.
    وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ أي متبررون ومغفورة لكم خطاياكم. والطهارة هنا طهارة قلب التلاميذ ومقاصدهم وغاياتهم، فصاروا بها ذبيحة مرضية لله كالذبائح الطاهرة في العهد القديم.
    وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ الذي استثناه من ذلك واحد ممن علَّمهم، ولكنه لم يستفد شيئاً من التعليم ولا تطهر قلبه بكلام الرب ونعمته، ولم يتحرر من الخطية بل ظل متدنِّساً بها. وفي قول المسيح هنا تنبيه ليهوذا، وبيان أنه مستعد لغسل قلبه كغسل رجليه.
    ١١ «لأنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذَلِكَ قَالَ: لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ».
    يوحنا ٦: ٦٤
    هذا تفسير يوحنا أبان به أن المسيح قصد بكلامه يهوذا مسلمه (انظر شرح متّى ٢٦: ٤٨ ويوحنا ١٨: ٢)
    ١٢ «فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضاً، قَالَ لَهُمْ: أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟».
    فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ الظاهر أنه أكمل الغسل ولم يعترضه أحد ثانية.
    وَاتَّكَأَ أَيْضاً على المائدة. وهذا يدل على أنهم لم يكونوا قد تعشوا.
    أَتَفْهَمُونَ الخ الأرجح أنهم سكتوا وعجبوا ولم يفهموا.
    ١٣ «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسَناً تَقُولُونَ، لأنِّي أَنَا كَذَلِكَ».
    متّى ٢٣: ٨ ، ١٠ ولوقا ٦: ٤٦ و ١كورنثوس ٨: ٦ و١٢: ٣ وفيلبي ٢: ١١
    تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً هذه علاقته بهم، فيجب أن يسلكوا على مثاله ويطيعوا وصيته.
    أَنَا كَذَلِك (متّى ٢٣: ٨، ١٠). ذكر المسيح ذلك بياناً للتلاميذ أنه لم ينس بغسله أرجلهم سموه عليهم في طبيعته ووظيفته، ولم يتخل عن ذلك.
    ١٤ «فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ».
    لوقا ٢٢: ٢٧ رومية ١٢: ١٠ وغلاطية ٦: ١، ٢ و١بطرس ٥: ٥
    فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا أراد بذلك أنه إذا تنازل رب المجد إلى خدمة الناس بهذا الأسلوب، وجب على الناس أن يخدموا بعضهم بعضاً ليظهروا محبتهم.
    يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ يجب إظهار التواضع وإنكار الذات في سبيل نفع الغير، فلا يجوز أن يتكبروا ويطلبوا السبق والشرف والسلطة، بل يجب أن يكونوا مستعدين لخدمة بعضهم بعضاً. وذلك مما يجب على المسيحيين عامة، ولا سيما خدام الإنجيل في كل عصر لأنهم قدوة لجميع الناس. وهذا لا يستلزم أن غسل الأرجل فرض دائم في الكنيسة كالعشاء الرباني، لأن الإنجيل لم يأمر بممارسته، كما أن الكنيسة في العصور الأولى لم تمارسه. ولو كان المسيح قد أمر به ما أهملته الكنيسة. ولكن غسل الأرجل كان شائعاً بين اليهود من واجبات الضيافة، وذُكر على هذا السبيل في ١تيموثاوس ٥: ١٠.
    ١٥ «لأنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالا، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً».
    متّى ١١: ٢٩ وفيلبي ٢: ٥ و١بطرس ٢: ٢١ و١يوحنا ٢: ٦
    أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالا أي علمهم بما فعله وجوب التواضع والخدمة، وذلك أن رب السماوات والأرض اتخذ منزلة خادم الخدام. وفي ما أتاه توبيخ للراغبين في الرئاسة والمتخاصمين عليها. فيجب أن نتواضع قلبياً، لأنه يمكننا أن نغسل أرجل غيرنا ونحن في كبرياء.
    كانت خدمة المسيح للناس غاية كل حياته على الأرض، فيجب أن تكون خدمة إخوتنا البشر غاية كل حياتنا أيضاً. وكما أن المسيح لم يحسب تلك الخدمة عاراً بل مجداً، كذلك يجب أن نحسبها نحن.
    ١٦ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، ولا رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ».
    متّى ١٠: ٢٤ ولوقا ٦: ٤٠ ويوحنا ١٥: ٢٠
    هذا قانون عام يصدق عليهم، فهم ليسوا أعظم من المسيح. فلا يأنف التلميذ مما رضيه المعلم، ولا يتوقع أن يعامله الناس بأحسن مما عاملوا معلمه به.
    اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ انظر شرح متّى ١٠: ٢٤، ٢٥. هذا بيان لأهمية الكلام بعده، ودليل على معرفة المسيح أن التلاميذ في خطر الوقوع في الكبرياء الروحية، ولذلك قاله هنا وكرره في يوحنا ١٥: ٢٠. لقد عرف التلاميذ أن يسوع على وشك أن ينشئ ملكوتاً، فاشتهوا أعظم المناصب فيه، فعلمهم بغسله أرجلهم أن العظمة الحقيقية في ملكوته لمن هو أكثر تواضعاً ونفعاً.
    ١٧ «إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلتُمُوهُ».
    يعقوب ١: ٢٥
    لعل التلاميذ قالوا في أنفسهم: سمعنا هذا قبلاً وعرفناه، فقال يسوع ما معناه إن العلم وحده لا يكفي، إنما يجب أن يمارس الإنسان ما يعرفه، ومن لا يعمل يخطئ ويُدان. والغبطة لمن يعلّم ويعمل. وقوله إن «علمتم هذا» يدل على أن في إدراكه شيئاً من الصعوبة، وذلك يستلزم أن المسيح لم يقصد بما فعله مجرد الغسل الظاهر، لأن إدراكه سهل جداً. فبقي أنه قصد به الخدمة بالتواضع. فطوبى لمن شغلوا زمن حياتهم بأعمال تشبه أعمال «الذي أتى ليس ليُخدم بل ليَخدم» (متّى ٢٠: ٢٨).

    إنباؤه بخيانة يهوذا (ع ١٨ - ٣٠)


    ١٨ «لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ. أَنَا أَعْلَمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ. لَكِنْ لِيَتِمَّ الكِتَابُ: اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ».
    مزمور ٤١: ٩ ومتّى ٢٦: ٢٣، ٣١
    لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ أي لستم كلكم مغسولين قلباً ومطوّبين.
    الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ تلاميذ لي ليكونوا أنقياء القلب وورثة الحياة الأبدية. ويترتب على ذلك أن واحداً منهم (هو يهوذا) يختلف عن الأحد عشر الباقين. وهذا لا يناقض قوله «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ عَشَرَ؟» (يوحنا ٦: ٧٠) لأن الاختيار هنا للتلمذة الحقيقية الأبدية، وهناك للوظيفة الرسولية الوقتية.
    لَكِنْ لِيَتِمَّ الكِتَابُ أي النبوة في مزمور ٤١: ٩. ولم تكن علة هلاك يهوذا هذه النبوة، بل خيانته. وعلة خيانته حبه المال. وكانت الخيانة على وفق تلك النبوة.
    اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ قيل هذا أولاً على معاملة أخيتوفل لداود (٢صموئيل ١٥: ٣١ و١٦: ٢٣). وصحَّ على معاملة من هو أشر من أخيتوفل لمن هو أعظم وأقدس من داود. فكانت خيانة أخيتوفل رمزاً لخيانة يهوذا. ويُحسب أكل الناس الخبز معاً علامة صداقة وعهد (تكوين ٤٣: ٣٢ و٢صموئيل ٩: ١١ ومتّى ٩: ١١). ورفع العقب استعارة للشروع في الإضرار المباغت ممن يُنتظر منه النفع، تشبيهاً له برفس البغل أو الفرس لصاحبه وهو يطعمه.
    ١٩ «أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ».
    يوحنا ١٤: ٢٩ و١٦: ٤
    قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ما أنبأت به من خيانة يهوذا.
    حَتَّى مَتَى كَانَ تسليمه إيّاي.
    تُؤْمِنُونَ هذا لا يعني أنهم لم يؤمنوا به، بل لدفع الشك الذي يطرأ على قلوبهم من تسليم يهوذا إيّاه كأنه مجرد إنسان ضعيف يمكن أن يُخدع.
    أَنِّي أَنَا هُوَ أني المسيح كما أعلنت لكم، فأنا نبي أعرف ما يكون في المستقبل، وأن تسليم يهوذا إيّاي لم يقع لعدم معرفتي به، أو لعجزي عن منعه. فهو يشجع الرسل الأحد عشر ويقوي إيمانهم، وهذا لا يمنع من أن تكون غايته أيضاً تنبيه ضمير يهوذا ليعدل عما قصده من الشر. وقد مر الكلام على قوله «أنا هو» في شرح يوحنا ٨: ٥٨.
    ٢٠ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي، وَالَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
    متّى ١٠: ٤٠ و٢٥: ٤٠ ولوقا ١٠: ١٦
    هذا كقوله للتلاميذ حين عينهم رسلاً (انظر شرح متّى ١٠: ٢٠). ولعله كرره الآن بياناً لشدة الاتحاد بين الآب والمسيح والرسل وكل الذين قبلوه. وأن الرسل كنواب عن الله، وأن الله يحسب كل تعد عليهم تعدياً عليه. وفي ذلك عزاء لهم زمن الاضطهاد. وكذلك حسبوه بعد إذ قيل «وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ المَجْمَعِ، لأنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ» (أعمال ٥: ٤١) وفيه أيضاً بيان فظاعة ما ارتكبه يهوذا بتسليمه يسوع، فإنه تعدى بذلك على الله نفسه وعلى كل جماعة المؤمنين.
    ٢١ «لَمَّا قَالَ يَسُوعُ هَذَا اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ، وَشَهِدَ وَقَالَ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي».
    متّى ٢٦: ٢١ ومرقس ١٤: ١٨ ولوقا ٢٢: ٢١ ويوحنا ١٢: ٢٧ وأعمال ١: ١٧ و١يوحنا ٢: ١٩
    هَذَا أي ما سبق من إنبائه بتسليم أحد التلاميذ إيّاه. وورد ذكر النبوة بخيانة يهوذا في كل البشائر (متّى ٢٦: ٢١ - ٢٥ ومرقس ١٤: ١٨ - ٢١ ولوقا ٢٢: ٢١ - ٢٣). راجع شرح بشارة متّى. ولم يذكر يوحنا ما ذكره متّى من أن يهوذا سأل المسيح «هل أنا هو؟» وأن المسيح أجابه «أنت قلت». وذكر ما لم يذكره غيره من الإنجيليين، وهو أن يهوذا خرج من بينهم بعدما أخذ اللقمة ولم يعلم أحد منهم ذلك.
    اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ (يوحنا ١١: ٣٣ و٢: ٢٧). علة هذا الاضطراب تأمله في خيانة يهوذا التي شرع في الكلام عليها وما فيها من الكفر بالنعمة وسماع التعليم باطلاً، وإضرار للخائن نفسه، وفظاعة خطيته التي جعلت طبيعة المسيح المقدسة تقشعر من التأمل فيها وقرب الخائن منه.
    علم المسيح أن كل التلاميذ سيتركونه في تلك الليلة ويهربون، وأن أحدهم ينكره بحلف وأقسام. لكنه لم يضطرب من التأمل في ذلك كما اضطرب من التأمل في خيانة يهوذا، لأن إثمه أعظم، وهو الوحيد بين تلاميذه الذي لم يسأل المغفرة فهلك في خطيته.
    الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ هذا بيان لصدق الكلام مع ظهوره للتلاميذ بعيداً عن الاحتمال.
    إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي ذكر قبلاً أنه يُسلَّم (متّى ١٧: ٢٢ و٢٠: ١٨ و٢٦: ٢). وأخبرهم هنا أول مرة بأن المسلِّم واحد منهم.
    ٢٢ «فَكَانَ التّلامِيذُ يَنْظُرُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَهُمْ مُحْتَارُونَ فِي مَنْ قَالَ عَنْهُ».
    يَنْظُرُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كان أول تأثير لكلام المسيح سكوت التلاميذ من الدهشة، ونظر بعضهم إلى بعض علامة الحيرة، وتوقعهم أن الجاني لا بد أن تظهر على وجهه إمارات الخزي والخجل لظهور شره.
    وَهُمْ مُحْتَارُونَ الخ لم يشكوا في أن واحداً منهم سيسلمه، إنما احتاروا في أي منهم يقدم على هذه الجناية الفظيعة. وبعد أن سكتوا وقتاً ونظر كل إلى غيره «ابْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ المُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا؟» (لوقا ٢٢: ٢٣). وبعد هذا سأل كل واحد منهم يسوع «هل أنا هو يا رب؟» (متّى ٢٦: ٢٢ ومرقس ١٤: ١٩). ولم يتهم أحد منهم غيره إنما نفسه في الحال. ويهوذا نفسه فعل ذلك دفعاً للظن فيه، وسمع الجواب من المسيح سراً. ومن العجب أن يهوذا استطاع أن يكتم شره عن سائر التلاميذ في كل تلك المدة حتى لم يظن أحد منهم أنه مراءٍ.
    ٢٣ «وَكَانَ مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تلامِيذِهِ، كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ».
    يوحنا ١٩: ٢٦ و٢٠: ٢ و٢١: ٧، ٢٠، ٢٤
    أمر موسى بني إسرائيل أن يأكلوا الفصح بعجلة وأحقاؤهم مشدودة وأحذيتهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم (خروج ١٢: ١١). وعدل رؤساء اليهود عن ذلك لرأيهم أن ذلك كان موافقاً لحال بني إسرائيل وهم يرحلون في البرية، وأنهم بعد ما استراحوا في أرض الميعاد لم تبقَ حاجة لهذا. وقد أخذوا الاتكاء عند الأكل عن البابليين وقت كانوا مسبيين في بابل، وكان ذلك من عادات اليونانيين والرومان. وسبق الكلام على كيفية ذلك الاتكاء في شرح متّى ٢٣: ٦ و٢٦: ٢٠. وفيه يكون الواحد متكئاً أمام الآخر مستنداً على يده اليسرى، وهو يأكل باليمنى، ورجلاه ممدودتان إلى الوراء. ويُستدل من القرينة أن يوحنا كان على يمين يسوع أمامه، أي تجاه حضنه. ولعل يهوذا كان على يساره، بدليل أنه كلمه سراً وهو على المائدة، وأنه ناوله اللقمة فتناولها.
    كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لا ريب أن هذا المحبوب هو يوحنا الإنجيلي ولم يذكر اسمه تواضعاً، ولكنه أشار إلى نفسه بهذه العبارة خمس مرات في بشارته (يوحنا ١٣: ٢٣ و١٩: ٢٦ و٢٠: ٢ و٢١: ٧، ٢٠ - ٢٣). ولم يدّع بذلك الفضل على سائر التلاميذ بل أشار إلى تنازل يسوع إلى محبته وهو يشعر بعدم استحقاقه لتلك المحبة. ومما يثبت محبة المسيح الخاصة لهذا التلميذ أنه كان أحد الثلاثة الذين أدخلهم معه إلى مخدع ابنة يايرس يوم إقامتها من الموت، والذين شاهدوا تجليه على الجبل، والذين انفرد بهم في بستان جثسيماني، وأنه اتكأ على حضن المسيح في العشاء الأخير، وأن المسيح وكل إليه أمّه وهو على الصليب (متّى ١٧: ١ و٢٦: ٣٧ ويوحنا ١٣: ٢٣ و١٩: ٢٦، ٢٧). ولعل سبب ذلك أنه كان يشبه المسيح في الصفات أكثر من سواه من التلاميذ. وأعظم إكرام يمكن الإنسان نواله أن يحبه المسيح. واشتهر إبراهيم بمثل ذلك بأن سُمي «خليل الله» (٢أيام ٢٠: ٨ وإشعياء ٤١: ٨).
    ٢٤ «فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ».
    نستنتج من ذلك أن بطرس كان بعيداً عن المسيح حتى لم يستطع أن يسأله سراً، فأشار إلى يوحنا بوجهه أو بيده دون أن يراه أحد غيره إلى أن يسأل المسيح عمَّن يكون الخائن.
    ٢٥ «فَاتَّكَأَ ذَاكَ عَلَى صَدْرِ يَسُوعَ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدُ، مَنْ هُوَ؟».
    الاتكاء هنا في الأصل غير الاتكاء الذي ذُكر في ع ٢٣ فإن ذلك عام يشغل مدة العشاء، وهذا خاص وقتي، وهو ميل رأس يوحنا إلى أن يقرب من رأس يسوع ليستطيع أن يحادثه سراً.
    ٢٦ «أَجَابَ يَسُوعُ: هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ. فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ».
    أبان المسيح ليوحنا المسؤول عنه بعلامة بدلاً من التصريح باسمه، ولم يفهم المقصود من تلك العلامة حينئذ سوى يوحنا.
    الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ من عادة أهل الشرق قديماً وحديثاً أن رب البيت يكرم الضيف وهو على المائدة بأن يناوله بيده بعض اللقم. ويغلب ذلك في عيد الفصح، فإن رئيس المتكإ يأخذ لقمة خبزٍ أو لحم ويغمسها بخليط من تمر وزبيب ولوز في خل أو خمر ويعطيها لأحد المتكئين معه (انظر الكلام على الفصح في شرح متّى ٢٦: ٢). والأرجح أن المسيح أعطى مثل ذلك لغير يهوذا قبلاً، وكان على وشك أن يعطي يهوذا عندما سأله يوحنا فجعله له علامة معينة للمسؤول عنه.
    لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الخ انظر شرح يوحنا ٦: ٧١. إعطاء يسوع اللقمة ليهوذا كان آخر علامات محبة المسيح وصداقته ورحمته له، وهي كدعوة له للتوبة، فأخذ اللقمة بدون انسحاق قلب ولا تغيير، فأغلق دونه باب الرجاء إلى الأبد، وفتح قلبه للشيطان ليمكث فيه إلى النهاية.
    ٢٧ «فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ».
    لوقا ٢٢: ٣ ويوحنا ٦: ٧٠
    دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ هذا علاوة على ما قيل في ع ٢ من أنه «قد ألقى الشيطان في قلب يهوذا». والمعنى أنه سلم نفسه للشيطان طوعاً واختياراً ليستخدمها كما شاء. وذكر لوقا أن الشيطان دخل يهوذا قبل ذلك (لوقا ٢٢: ٣). ولنا من هذا أن لدخول الشيطان وتسلطه على نفس الإنسان درجات متنوعة.
    فَاعْمَلهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ علم يسوع قصد يهوذا أنه أسلم نفسه إلى الشر، ورغب في الذهاب لأقل حجة. والمسيح أحب أن يتكلم بكل وضوح مع أصدقائه المخلصين، ولم يشأ أن يفعل ذلك أمام الخائن فأذن له في الذهاب. فكأنه قال: لا تكن مرائياً بعد. نفِّذ قصدك بتسليمي متى شئت فإني مستعد. فهذا الإذن يشبه إذن الله لبلعام في الذهاب مع رسل بالاق (عدد ٢٢: ٢٠) ويشبه قول المسيح للفريسيين (متّى ٢٣: ٣٢).
    ٢٨ «وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ المُتَّكِئِينَ لِمَاذَا كَلَّمَهُ بِهِ».
    لم يعلم أحد من التلاميذ يومئذ ما قصد يسوع بهذا الكلام. نعم إن يوحنا علم أن الخائن هو يهوذا، لكنه لم يعرف أن ما قاله يسوع متعلق بالخيانة.
    ٢٩ «لأنَّ قَوْماً، إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا، ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلعِيدِ، أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلفُقَرَاءِ».
    يوحنا ١٢: ٦
    الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا كان يهوذا أمين الصندوق في لجنة الرسل (انظر شرح يوحنا ١٢: ٦).
    اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلعِيدِ كانت مدة العيد أسبوعاً، وكان لكل يوم من ذلك الأسبوع حاجات. ولعله كان يصعب قضاء الحاجات في تلك الأيام لازدحام الناس في أورشليم. ولا يستلزم هذا أنه لم يكن قد حضر الخامس عشر من نسيان، ولا يوم أكل خروف الفصح. والذي يقوي الظن أن ذلك كان ليلة الجمعة تفسير الرسل لكلام المسيح، فإنه يدل على أنهم فهموا من قول المسيح أنه أراد أن يشتري يهوذا ما يحتاجون إليه للعيد في يوم الجمعة بسرعة قبل أن يحضر السبت الذي لا يجوز فيه الشراء.
    أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلفُقَرَاءِ يتضح من ذلك أن المسيح وتلاميذه اعتادوا التوزيع على الفقراء، مع فقرهم. وكان من عادات اليهود في الأعياد أن يكثروا الصدقات على المساكين.
    ٣٠ «فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً».
    لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلوَقْتِ نستنتج من ذلك أن يهوذا لم يحضر العشاء الرباني، لأن تلك اللقمة كانت من عشاء الفصح، ورُسم العشاء الرباني بعده ( ١كورنثوس ١١: ٢٥). وخرج يهوذا فوراً ليتخلص من مشاهدة المسيح الذي كشف قصده الشرير، وفي أن يخبر الرؤساء ويأخذ أجرته.
    وَكَانَ لَيْلاً أي كان خروجه في الليل. ذكر يوحنا ذلك بعد ما كان قد مرّ عليه نحو خمسين سنة دليل قاطع على أنه كان شاهد عيان. ولعله عندما كتب ذلك خطر على باله أن الليل مناسب للخيانة لأنها من أعمال الظلمة. وكانت الظلمة في قلب الخائن، وكانت خيانته من انتصارات الظلمة، فلاق أن يفعل ذلك في ظلمة الليل. وهذا وفق قول يسوع للذين قبضوا عليه «هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلطَانُ الظُّلمَةِ» (لوقا ٢٢: ٥٣).

    خطاب يسوع للتلاميذ بعد خروج يهوذا وإنباؤه بإنكار بطرس (ع ٣١ –٣٨)


    ٣١ «فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوعُ: الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ».
    يوحنا ١٢: ٢٣ و١٤: ١٣ و١بطرس ٤: ١١
    فَلَمَّا خَرَجَ الأرجح أنّ المسيح رسم العشاء الرباني على أثر هذا الخروج. قيل في ع ٢١ إن المسيح «اضطرب بالروح» عندما تأمل في خيانة يهوذا والخائن أمامه. ولكن كلمات المسيح بعد خروج الخائن المرائي دلّت على تخلصه من ذلك الاضطراب، وعلى انشراح صدره، وبأنه استطاع أن يُعلن لأصدقائه المخلصين كل ما في قلبه.
    الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ هذا اللقب مأخوذ من نبوة دانيال ٧: ١٣، وهو فيها محمول على المسيح واعتاد اليهود تلقيبه بذلك (انظر شرح متّى ١٠: ٢٣). واستحسن المسيح إيراده هنا بياناً أنه لم يتمجد التمجيد المقصود هنا إلا بتواضعه باعتباره إنساناً خادماً للبشر. وأراد بقوله «الآن» أن وقت خدمته على الأرض على وشك الانتهاء بموته، لأن يهوذا قد ذهب ليأتي بالعسكر ليقبضوا عليه ويسلموه إلى قاتليه. وكان خروج يهوذا مقدمة أمور كثيرة، هي تسليمه وموته وقيامته وصعوده وجلوسه على يمين الله وسكبه الروح القدس. ونظر المسيح إلى تلك الحوادث المترابطة كأنها واحدة تمجّد هو بها. وقصد بقوله «تمجّد» ابتدأ يتمجّد لا كما ظن التلاميذ بتتويجه ملكاً زمنياً على أمة اليهود، بل بتواضعه إلى الغاية استعداداً لارتفاعه الأعظم، وبلبسه إكليلاً من الشوك استعداداً للبس إكليل المجد والعظمة ليكون ملك الملوك ورب الأرباب، وبتعليقه على الصليب استعداداً لجلوسه على عرش السلطة السماوي (انظر شرح يوحنا ١٢: ٢٨ ،٣٢). وقال ذلك لتلاميذه ليدفع عنهم اليأس الذي سينشأ من خيانة يهوذا له ومن موته، فيحسبون ذلك كسوفاً وقتياً لمجد شمس البر، واستعداداً للمعانه الكامل دائماً.
    وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ هذا يدل على أنه كلما تمجّد الابن تمجّد الآب، وهو وفق تعليمه على الدوام أنه والآب واحد في القصد والعمل. وقد تمجّد الآب بموت الابن، لأن الابن خضع به لإرادة الآب كل الخضوع، وأعلن به قداسة الله وعدله وصدقه وبغضه للخطية ورحمته للخاطئ. وتمجّد أيضاً بنتائج هذا الموت لخلاص البشر لما يتضمن ذلك من طاعة المخلّصين له وإكرامهم وتسبيحهم إيّاه في الأرض والسماء.
    كان تمجيد الله غاية المسيح العظمى من كل ما قال وعمل واحتمل، فيجب أن يكون ذلك غايتنا العظمى فيعطينا السعادة العظمى.
    ٣٢ «إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ، وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً».
    يوحنا ١٧: ١ - ٦ ويوحنا ١٢: ٢٣
    إِنْ كَانَ ليست «إن» هنا للشك بل للقطع والتأكيد، فالشرط مؤكد والجواب كذلك. ولا بد من أن يسوع بتواضعه وسيلة إلى تمجيد الله. ولا شك أنّ الله يمجّده أيضاً برفعه إيّاه في نهاية ذلك التواضع وشرائه الخلاص للبشر.
    اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ لأنّه «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (فيلبي ٢: ٧، ٨).
    اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ الحد بين تمجيد الابن للآب بتواضعه وتمجيد الآب للابن برفعه إيّاه هو موت الابن. فكانت نهاية اتضاع الابن بدء تمجيده. ومعظم تمجيده يكون أمام عرش أبيه في السماء. لكنه يتضمن قوله هنا «الله سيمجده» أن الله يكرمه بآيات عظيمة يظهرها عند موته بإقامته وبإصعاده إيّاه إلى السماء، وبقبوله شفاعته في شعبه، وبسكبه الروح القدس ويهبه القوة لرسله وبمنحه النجاح لإنجيله.
    وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً لأن كل وسائل التمجيد كانت متعلقة بموته وكان ذلك على وشك الحدوث.
    ٣٣ «يَا أَوْلادِي، أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي، وَكَمَا قُلتُ لِليَهُودِ: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا، أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآنَ».
    غلاطية ٤: ١٩ ويوحنا ٧: ٣٤ و٨: ٢١
    يَا أَوْلادِي هذا لقب يدل على محبة المسيح للتلاميذ وحنوه عليهم وعنايته بهم كالوالد بولده. وفي ذلك إشارة إلى ضعفهم وافتقارهم إلى إرشاده واهتمامه. وناداهم به لتعزيتهم على مفارقته إيّاهم، لأن رجوعه إلى مجده يستلزم تركه إيّاهم كاليتامى.
    زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ لم يُخفِ عنهم قرب مفارقته إيّاهم فودعهم بما في هذا أصحاحات ١٣ - ١٦ من كلام التعزية والنصح والإرشاد.
    كَمَا قُلتُ لِليَهُودِ (يوحنا ٧: ٣٣، ٣٤ و٨: ١٢).
    لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا منع لليهود من الإتيان إلى حيث ذهب المسيح عدم إيمانهم به، وهذا يمنع كل إنسان من أن يكون مع المسيح. والمانع للتلاميذ منه أنه كان عليهم أن يخدموا المسيح على الأرض وهو مانع وقتيّ متى انقضى وقته تبعوا المسيح (ع ٣٦ ويوحنا ١٤: ٣).
    ٣٤ «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً».
    لاويين ١٩: ١٨ ويوحنا ١٥: ١٢، ١٧ وأفسس ٥: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٩ ويعقوب ٢: ٨ و١بطرس ١: ٢٢ و١يوحنا ٢: ٧ ، ٨ و٣: ١١، ٢٣ و٤: ٢١
    جعل المسيح حب التلاميذ بعضهم لبعض علامة يتميزون بها عن غيرهم.
    وَصِيَّةً جَدِيدَةً لم يقصد بكونها جديدة أن الله لم يوصِ بها شعبه قبلاً لأنها في سفر اللاويين ١٩: ١٨ بل حسبها جديدة لأربعة أسباب: (١) أن المسيح جعلها حينئذ علامة لتلاميذه يعرفهم الناس بها وعلامة تلمذتهم الحقيقية بالنظر إلى الله. امتاز اليهود شعب الله القديم برسوم الختان وتمييز الأطعمة والملبوسات، فأراد يسوع أن يمتاز تلاميذه بالمحبة، كقول الرسول «وَهَذِهِ هِيَ وَصِيَّتُهُ: أَنْ نُؤْمِنَ بِاسْمِ ابْنِهِ يَسُوعَ المَسِيحِ، وَنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً كَمَا أَعْطَانَا وَصِيَّةً» (١يوحنا ٣: ٢٣ انظر أيضاً غلاطية ٦: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٩ و٢تسالونيكي ١: ٣ و١بطرس ١: ٢٢ و٢بطرس ١: ٧). ويتكلَّف كل المسيحيين بهذه الوصية لأنهم مفديون مجاناً من عبودية واحدة للشيطان والخطية، بواسطة واحدة وهي دم يسوع الكريم، وكلهم أولاد أب واحد سماوي وإخوة أخٍ واحد هو يسوع الأخ الأكبر، وأهل إيمان واحد ومعمودية واحدة، ومسافرون إلى سماء واحدة. (٢) إن الدواعي إلى طاعتها جديدة. فالداعي إلى محبة الناس بعضهم لبعض أنهم خلق الله وأولاد أبٍ واحد هو آدم. كان الداعي إلى محبة اليهود بعضهم لبعض أنهم أمة واحدة من أب واحد هو إبراهيم. وأما الدواعي إلى محبة المسيحيين بعضهم لبعض فمنها علاقتهم بفادٍ واحد هو المسيح. وهم عشيرة واحدة بالإيمان به. ومنها أن المسيح كلفهم بها قبل موته وكانت آخر وصاياه لهم فالتزموا بها حباً وشكراً له. (٣) أن نموذجها جديد وهو محبة المسيح لنا. (٤) أن المسيح وسع نطاق المحبة. فإن المحبة كانت عند اليهود مقيدة بحب اليهودي لليهودي. أما المسيح فأوجبها على المؤمن لكل مؤمن من كل أمة في كل عصر ومكان.
    كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أي يجب أن تكون محبتكم بعضكم لبعض مثل محبتي لكم، مخصوصة شديدة مجانية، تقود إلى أعمال مثل أعمالي الناتجة عن محبتي. ومن أمثلة تلك الأعمال ما بُني عليه هذا الخطاب وهو غسله أرجلهم. وكانوا قبل ذلك قد أظهروا أن ليس لهم تلك المحبة فقد تخاصموا في من هو الأعظم منهم، وطلب بعضهم المقام الأسمى في ملكوته.
    ٣٥ «بِهَذَا يَعْرِفُ الجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلامِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ».
    ١يوحنا ٢: ٥ و٤: ٢٠
    الجَمِيعُ أي كل الناس من أصحاب وأعداء.
    أَنَّكُمْ تلامِيذِي تفرد المسيح بحبه العجيب فأراد أن يتصف تلاميذه بمثل حبه ليميزهم الناس عن غيرهم ويعرفوا أنهم مشابهون ليسوع، فيحكموا بأنهم تلاميذه، وأنه هو مصدر ذلك الحب، ويميلوا إلى اتخاذه معلماً لهم ويقبلوه مخلّصاً. وهذا ما فعله المسيحيون الأولون كما يتضح مما ذُكر في سفر أعمال الرسل وميزهم الناس بهذه الصفة. قال أحد الرومان الوثنيين: «انظر كيف يحب المسيحيون بعضهم بعضاً، فإن كلاً منهم مستعد أن يبذل حياته لأجل الآخر». وقال وثني آخر: «إنهم يحب أحدهم الآخر قبل أن يتعرف به». وشهد غيرهما من الوثنيين بأن معلم المسيحيين جعلهم يعتقدون أنهم كلهم إخوة. فإذاً تلك المحبة علامة واضحة لأولاد الله، فهي علامة للمحب يعرف بها نفسه (١يوحنا ٣: ١٤). وعلامة للناس يعرفونه بها (١يوحنا ٢: ١٠ و٤: ٧) وهي العلامة التي يميز بها الله أولاده (١يوحنا ٤: ٢٠).
    ٣٦ «قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: يَا سَيِّدُ، إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ أَجَابَهُ يَسُوعُ: حَيْثُ أَذْهَبُ لا تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي، وَلَكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً».
    يوحنا ٣١: ١٨ و٢بطرس ١: ١٤
    إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ هذا السؤال مبني على قول المسيح «أنا معكم زماناً قليلاً بعد» (ع ٣٣) والمقصود منه منع مفارقة يسوع للتلاميذ إن أمكن. ولا بد من أن بطرس قال ذلك بالأصالة عن نفسه والنيابة عن سائر الرسل، وسبقهم في ذلك لأنه أكثرهم جسارة. وهذا السؤال يدل على أن التلاميذ لم يفهموا أن يسوع أشار بذهابه عنهم إلى صلبه وموته، لكنهم فهموا أنه عزم على الذهاب إلى موضع ما من الأرض.
    لا تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي أبان يسوع بعض معناه بقوله إن بطرس لا يقدر أن يتبعه حقيقة في الحال، لكنه سيفعل هذا في المستقبل. وقد تبع بطرس المسيح اتّباعاً روحياً، وجاهد في سبيل البشارة وإنكار الذات وبالاستشهاد. كما تبع المسيح بأن صُلب كما صُلب هو، وأشار إلى ذلك في (يوحنا ٢١: ١٨، ١٩). وتبعه إلى القبر ثم الارتفاع إلى السماء. وإنما لم يستطع بطرس أن يتبع المسيح في الحال لأربعة أسباب: (١) لم يشأ الله أن يموت أحد من الرسل مع سيده. (٢) لم يكن بطرس مستعداً للذهاب إلى السماء تمام الاستعداد (لوقا ٢٢: ٣٢). (٣) كان على بطرس أن يخدم المسيح على الأرض بتأسيس الكنيسة. (٤) لم يكن المسيح قد أعدّ له مكاناً (يوحنا ١٤: ٢).
    سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً إلى السماء والمجد.
    ٣٧ «قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: يَا سَيِّدُ، لِمَاذَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ».
    متّى ٢٦: ٣٣ الخ ومرقس ١٤: ٢٩ الخ ولوقا ٢٢: ١٣، ١٤
    لم يزل بطرس غير فاهم أن المسيح أشار بما سبق إلى قرب موته، إنما ظن أنه أشار إلى سيره في طريق الشدائد والأخطار المؤدية إلى الموت، وحسب أن المسيح ظن أن ليس له هو شجاعة كافية ليتبعه في تلك الطريق، فصرّح له أنه شجاع لا يهاب الموت من أجله بدليل قوله «إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى المَوْتِ» (لوقا ٢٢: ٣٣). ولا شك أنه صدق بذلك لمطابقته لما في وجدانه، لكنه لم يعرف ضعف قلبه ولا قوة التجربة.
    ٣٨ «أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لا يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاثَ مَرَّاتٍ».
    ذُكرت هذه النبوة في لوقا ٢٢: ٣٣، قالها يسوع على العشاء مع التلاميذ، وقالها ثانية وهم سائرون إلى بستان جثسيماني (متّى ٢٦: ٣٤ ومرقس ١٤: ٢٩) وسبق تفسير ذلك في شرح بشارة متّى.
    أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ ذكر كلام بطرس بنفسه بطريق الاستفهام ليبيّن الفرق بين وعده وما سيقع منه، فبدل أن يضع نفسه عن المسيح لم يعترف به، بل أنكر معرفته به، ولم يفعل ذلك مرة أو مرتين فقط بل ثلاث مرات، وهذا لم يكن بعد زمن طويل من وعده بل قبل طلوع شمس الغد. والظاهر أن هذه النبوة أثرت في بطرس حتى صمت. ولم يجاوب المسيح على سؤال بطرس: «لماذا لا أقدر؟».
    لا يَصِيحُ الدِّيكُ أراد المسيح بصياح الديك هنا هزيعاً من الليل (كما جاء في متّى ٢٦: ٣٤ ومرقس ١٣: ٣٥) بقطع النظر عن مرات صياح الديك. أما مرقس فنظر إلى ذلك (مرقس ١٤: ٧٢) فإن اليهود اصطلحوا على تسمية نصف الليل بصياح الديك الأول، والوقت الذي بعده بثلاث ساعات بصياح الديك الثاني، والصبح بصياح الديك الثالث. ووقت الإنكار كان الثاني على ما أفاده مرقس. وليس في معرفة المسيح سقوط بطرس قبل أن يكون ما نعجب منه، كعجبنا من حلمه وصبره على بطرس مع تلك المعرفة.
    كلام المسيح في هذا الفصل تابع كلامه على ذهابه في ص ١٣ وقوله لبطرس: «ستتبعني أخيراً» (يوحنا ١٣: ٣٦) موجَّه إلى جميع الرسل الحاضرين، أكد لهم به اجتماعهم في المستقبل لأنه كان ذاهباً ليعد لهم مكاناً، وسوف يأتي ويأخذهم إليه (يوحنا ١٤: ٢، ٣).


    الأصحاح الرابع عشر


    الخطاب الوداعي. تعزية يسوع تلاميذه على مفارقته إيّاهم (ع ١ - ١٤)


    ١ «لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي».
    ع ٢٧ ويوحنا ١٦: ٢٢، ٢٣
    لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ لا عجب من اضطراب قلوب التلاميذ حينئذ، لعدة أسباب توجبه، ولعل علاماته ظهرت على وجوههم وفي بعض أقوالهم. ومن تلك الأسباب كلامه عن ذهابه عنهم وهو أولها وأعظمها، بدليل قوله «لأنِّي قُلتُ لَكُمْ هَذَا قَدْ مَلأ الحُزْنُ قُلُوبَكُمْ» (يوحنا ١٦: ٥، ٦). ومن تلك الأسباب تركه إياهم كخراف بين ذئاب، وتعريفهم بأنه لا بد من وقوع الاضطهاد عليهم، وأخذ أملهم الملك الزمني في الضعف والزوال، وما ذكره في خطابه من أمر تسليم يهوذا الإسخريوطي إيّاه وإنكار بطرس له.
    أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي الوسيلة الأولى التي ذكرها يسوع لإزالة الاضطراب هي الإيمان بالله وبه. وكان للتلاميذ باعتبارهم يهوداً أتقياء ثقة بالله الآب بحضوره معهم ومحبته لهم، فأراد أن يكون لهم باعتبارهم تلاميذه مثل تلك الثقة عينها به، أي أن يؤمنوا بحضوره معهم وهو غير منظور كما يؤمنون بالآب كذلك. وهذا لا يستلزم أن إيمانهم بالله كان كاملاً لا يحتاجون معه إلى زيادة، بل وجوب أن يكون إيمانهم به كإيمانهم بالآب. ويلزم من قوله هنا أنه أمرهم باعتقاد مساواته للآب واتحاده به في القصد والعمل، وأن قدرته غير محدودة، وأن حضوره معهم واعتناءه بهم ليسا مقيدين بحضوره جسدياً كما اعتادوا أن يعتبروهما. وأنه لا يزال يعتني بهم ويهب لهم كل ما يحتاجون إليه في الحياة الحاضرة والمستقبلة. فكأنه قال: آمنوا بأني المسيح وإن رأيتموني على الصليب، وآمنوا أني حاضر بينكم وإن لم تروني، وليكن إيمانكم بي دائماً باعتبار أني مخلّص حي ورأس الكنيسة.
    وهذا أول ما فعله المسيح ليعزيهم، وهو دواء لكل اضطرابات النفس لا مثيل له.
    ٢ «فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَالا فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً».
    مزمور ٣٣: ١٣، ١٤ وإشعياء ٦٣: ١٥ ويوحنا ١٣: ٣٣، ٣٦
    فِي بَيْتِ أَبِي عبّر عن السماء بمسكن الله حيث يظهر مجده بأكثر البهاء والجلال. (راجع تثنية ٢٦: ١٥ و٢أيام ١٨: ١٨ ومزمور ٢: ٤ و٣٣: ١٣، ١٤ و٩١: ١٣ وإشعياء ٦٣: ١٥ وأعمال ٧: ٤٩ و٢كورنثوس ٥: ١). وفي الصلاة الربانية: «أبانا الذي في السماوات». فصرّح المسيح بذلك أنه ذاهب إلى السماء، وعزّاهم بوعده في ما يأتي أنهم يجتمعون به هناك. وهذا تعزية لنا جميعاً إذ نعلم منه أن السماء بيت أبينا، فإذاً هي وطننا.
    مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ هذا مجاز مبني على ما في قصور ملوك هذه الأرض من أماكن كثيرة لهم ولأولادهم ولأهل بلاطهم. وقصد المسيح بذلك بيان سعة السماء، وتأكيده لهم اجتماعهم به هناك لفرط سعتها، فإنها تسعهم هم وسائر المفديين مع كل جنود الملائكة. والسكن في قصر الملك يستلزم القرب منه والمشاركة له في الإكرام والسعادة والمحبة التي هي وافرة فيه.
    وَإلا أي ولو كان انفصالنا أبدياً ولا يمكن أننا نجتمع في السماء ونسكن معاً في منازلها.
    فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلتُ لَكُمْ ولم أترككم جاهلين ذلك، تتوقعون ما لا يوجد. والخلاصة أنه ليس في ما قاله أدنى شك.
    أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً هذا مثل قول الرسول إن المسيح دخل السماء كسابق لأجلنا (عبرانيين ٦: ٢٠). قد أعدّ ذلك بموته على الصليب، وشفاعته لنا في السماء (عبرانيين ٩: ١٢). وقد حقق إيمان التلاميذ بالله أن لهم سماءً واسعة كثيرة المنازل، ويحقق إيمانهم بالمسيح أن لهم سبيلاً لدخول تلك المنازل (عبرانيين ٤: ١٤، ١٦ و٧: ٢٥ - ٢٧ و١٠: ١٢، ١٣، ١٩ - ٢٢).
    ٣ «وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً».
    ع ١٨، ٢٨ وأعمال ١: ١١ ويوحنا ١٢: ٢٦ و١٧: ٢٤ و١تسالونيكي ٤: ١٧
    آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ قال ذلك ليعزّي تلاميذه على ذهابه عنهم، فإنه وإن فارقهم سيرجع إليهم رجوعاً روحياً لا جسدياً عند موتهم ليجمعهم إليه. وقصد أيضاً إتيانه إليهم بالروح كل حين ليعزيهم ويعينهم ويعلمهم ويُعدهم للذهاب إليه. وقد «أتى أيضاً» لما قام من الموت رئيساً للحياة، ولما أرسل الروح القدس. وهو مع كنيسته بالروح كل حين ويأتي إلى كل مؤمن عند موته (فيلبي ١: ٢٣). وسوف يأتي بالمجد يوم مجيئه الثاني العظيم (١تسالونيكي ٤: ١٧).
    حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً أكد بذلك لتلاميذه أنهم يكونون بعد موته حيث هو، فبالضرورة يكونون في الراحة والقداسة والسعادة الأبدية (فيلبي ١: ٢٣ و١تسالونيكي ٤: ١٧ وعبرانيين ٩: ٢٨).
    أعظم مسرات المؤمنين أن يكونوا «كل حين مع الرب» فإذا ذكرنا ذهابنا من هذا العالم لا نتصور أن الموت سيلاشينا، بل نؤمن أن المسيح آت لإتمام خلاصنا، وأن نهاية حياتنا هنا بداية حياتنا فوق، وأن خسارتنا هنا ربحنا هناك، وأن مفارقة أصدقائنا على الأرض اجتماع بالأصدقاء في السماء. نعم إن الموت هائل لمن لا يعلم إلى أيّ مكان من عالم الظلام يذهب، لكنه ليس كذلك لمن يتحقق أنه يذهب إلى بيت أبيه السماوي ليكون مع يسوع أخيه الأكبر.
    ٤ «وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ».
    عرف يسوع ما في قلوب تلاميذه من الشكوك وما في أذهانهم من التساؤلات، فأراد أن يبدد الشكوك، وكأنه قال لهم: ألا تعلمون حيث أنا أذهب؟
    حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ أي السماء بيت أبي.
    وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ لأني أخبرتكم بما فيه الكفاية إن كنتم قد انتبهتم لكلامي، وأنتم قادرون على معرفة الطريق إذا تذكرتم كلامي، فإني أنا ذلك الطريق. وأما التلاميذ فلم يعلموا ذلك حق العلم، لأن أذهانهم كانت مملوءة بالأفكار والآمال المتعلقة بالملك الأرضي لابن داود، فلم يدركوا قصد المسيح حين كان يكلمهم عن مملكته الروحية، بدليل أنهم سألوه بعد قيامته: «يَا رَبُّ، هَل فِي هَذَا الوَقْتِ تَرُدُّ المُلكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» (أعمال ١: ٦). ولم يدركوا حقيقة الأمر حتى أنار أذهانهم بروحه.
    ٥ «قَالَ لَهُ تُومَا: يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟».
    تُومَا انظر شرح متّى ١٠: ٣ وانظر أيضاً يوحنا ١١: ١٦ و٢٠: ٢٤ - ٢٩. كان هذا الرسول يحب المسيح، لكنه كان يميل إلى الشك واليأس.
    لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ أقرّ أنه لم يفهم قول المسيح تمام الفهم، لأنه كيهودي كان يرفض فكرة موت المسيح.
    فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟ هذا السؤال لم ينتج عن شك في نفس توما كسؤال بيلاطس للمسيح: «ما هو الحق؟» بل عن رغبة في المعرفة.
    ٦ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إلا بِي».
    عبرانيين ٩: ٨ ويوحنا ١: ٤، ١٧ و٨: ٣٢ و١٠: ٩ و١١: ٢٥
    كان يسوع قد قال: «أنا هو خبز الحياة» و «أنا نور العالم» و «أنا باب الخراف» و «أنا الراعي الصالح» وزاد قوله هذا ليوضح علاقته بطريق الخاطئ للسماء. وأهم كلمة في هذه الآية هي «أنا» فكأنه قال: أنا الطريق إلى الآب لأني أفتحه بموتي. كان الناس ضالين يجهلون الطريق فأنا «الحق» نور العالم لأُري الناس الطريق الذي فتحته لهم. وهم موتى بالخطية وأنا «الحياة» لأُحيي نفوسهم وأُقدرهم على أن يروا الطريق ويسيروا فيه.
    الطَّرِيقُ التي فيها يسير الخاطئ من الأرض إلى السماء، ومن حال الخطية إلى حال القداسة، ومن العداوة لله إلى المصالحة معه. وفتح المسيح تلك الطريق بسفك دمه (عبرانيين ١٠: ٢٠). فالفاصل بين الإنسان والله ليس البُعد بين السماء والأرض بل إثم الأثيم. وأزال يسوع ذلك الفاصل حين عُلق على الصليب (إشعياء ٣٥: ٨ - ١٠). ولأن المسيح هو الطريق نجتاز به من الخطية والشقاء والموت إلى القداسة والسلام والسعادة والرجاء والراحة والحياة في السماء. والمسيح هو الدليل في تلك الطريق إلى الله، ينادينا دائماً: «اتبعوني».
    الحَقُّ قال المسيح إنه الحق لأنه يعلن لنا بروحه وكلامه كل ما نحتاج إلى معرفته من أمر أنفسنا، وما لله، وما يجب علينا، والطريق إلى السماء. ولأنه يعلم كل الحقائق تمام العلم، ويعلن ما يعلنه منها أكمل إعلان، ولأنه المرموز إليه بذبائح العهد القديم وسائر رموزه التي هي ظل الحقيقة. كانت أقوال الفلاسفة بالله وبالسماء وبآخرة الأخيار والأشرار ظنوناً، وأما أقوال يسوع بذلك فكانت يقينيات. وما أتى به الأنبياء والرسل من التعليم الحق لم يكن إلا منه (متّى ١١: ٢٧ ويوحنا ١: ١ و٢: ١٤، ١٧ و١٠: ٣٠ و١٧: ٣ وفيلبي ٢: ١٦ وكولوسي ٢: ٩ وعبرانيين ١: ٢). ولم يقصد المسيح بقوله إنه الحق تعليم الناس كل العلوم، وإنما أن يعلمهم ما يوصلهم إلى السماء.
    الحَيَاةُ انظر شرح يوحنا ١١: ٢٥، فالمسيح مصدر كل حياة روحية. وهو الذي يعلمنا حقيقة تلك الحياة واحتياجنا إليها، وهو الذي اشتراها لنا بموته، ويهبها لنا بروحه (يوحنا ٦: ٥٧ و١٠: ١٠) ولا يزال يهبها لنا وسيظل إلى أبد الآبدين، وهو يهب فوق ذلك الحياة للجسد يوم القيامة.
    إِلَى الآبِ الذي يجد الآب يجد السماء التي هي بيته.
    إلا بِي أي بموتي وشفاعتي لا غير ذلك، لأني أنا وحدي الطريق والحق والحياة. فالله أبٌ للذين يأتون إليه بابنه يسوع. ولا نقدر أن نأتي إلى الآب بالصلاة التي يستجيبها إلا بالمسيح. ولا نستطيع دخول السماء إلا به (١تيموثاوس ٢: ٥) لأن الله جعل ابنه الوسيلة الوحيدة لينال الخطاة المغفرة والمصالحة والخلاص. فالذين يدخلون السماء إنما يدخلونها بكفارته. فلنأتِ إلى الآب عندما نتكل على المسيح وحده لأجل الخلاص، وعندما نطيع أوامره ووصاياه. وفي ذلك جواب لسؤال توما: «أين تذهب؟» وهو أنه ذاهب إلى الآب، وسؤاله عن الطريق وهو قوله «بي».
    ٧ «لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ».
    يوحنا ٨: ١٩
    قال في آية ٦ إنه هو واسطة إتيان الناس إلى الآب، وفي هذه الآية إنه هو واسطة معرفتهم إياه لأنه كلمة الله أي الذي يعلنه (يوحنا ١: ١) ولأنه هو والآب واحد (يوحنا ١٠: ٣٠ انظر شرح يوحنا ٨: ١٩).
    لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لم يقصد أن ينكر عليهم كل معرفة الآب، بل قصد أن معرفتهم إياه قاصرة بسبب سوء آرائهم اليهودية في شأن المسيح.
    لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً على قدر ما يستطيع الإنسان أن يعرف من صفاته الحسنة ومقاصده، ولا سيما ما قصده بموت المسيح وقيامته وفتح طريق السماء به.
    وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ أي من الوقت الذي أخذ يتمجد فيه (يوحنا ١٣: ٣١) وهو وقت حديثه هذا، وعرفوه بما قاله لهم في ع ٦، ٩ وزادت معرفتهم بالآب عند موت المسيح وقيامته وحلول الروح القدس. ومعنى قوله «تعرفونه» أخذتم تقتربون من كمال معرفته.
    وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ لأنهم رأوا المسيح وهو صورة الله (فيلبي ٢: ٦) وبهاء مجده ورسم جوهره (عبرانيين ١: ٣). وهذه الرؤية روحية فاق بها الرسل البسطاء علماء اليهود الذين لم يعرفوا الابن ولا الآب (يوحنا ٨: ١٩).
    ٨ «قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا».
    فِيلُبُّسُ (انظر شرح متّى ١٠: ٣٠) وتُعرف صفاته من يوحنا ١: ٤٤، ٤٥ و٦: ٥ - ٧ و١٢: ١٢، ٢٢. مرّ أن توما لم يفهم قصد المسيح بالذهاب والطريق، وهنا يُظهر فيلبس أنه لم يفهم معنى قوله: «قد رأيتموه» فظنه يعني رؤية صورة حسية، أي هيئة تراها عيون الجسد كالتي رآها موسى في جبل سيناء وإشعياء في رؤياه. والظاهر من كلامه أنه حسب رؤية الله أعظم الخيرات كما حسبها موسى (خروج ٣٣: ١٨)، وأنه لم يعرف ظهور الله له بالمسيح وبمعجزاته وسيرته وتعليمه، وأنه لو حصل على رؤية الله بالعين الجسدية لأزال ذلك كل شكوكه وأشبع كل أشواقه. فأصاب بالاشتياق، وأخطأ بعدم إدراكه أن الله قد استجاب طلبه في طريق أفضل مما أرادها. ولو ظهر الله له كما أراد لأعلن له مجرد قوته، ولكنه بالمسيح أبان كل صفاته.
    ٩ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟».
    يوحنا ١٢: ٤٥ وكولوسي ١: ١٥ وعبرانيين ١: ٣
    في هذا ما يدل على حزن المتكلم وعتابه للمخاطب، لأن غاية مجيئه إلى العالم إعلان الآب. وكان ذلك الإعلان غرضه من كل خدمته، وقد بلغ حينئذ نهايتها، فإذا به يرى أن معظم تعبه كان عبثاً، لأن تلميذه فيلبس لم يستفد شيئاً من الإعلان المذكور.
    زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ كانت تلك المدة نحو ثلاث سنين ونصف سنة، والمسيح لم يفتر في تلك المدة عن التعليم، وكان فيلبس من أول التلاميذ.
    اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ على قدر ما يستطيعه الإنسان المحدود من إدراك الله غير المحدود. (انظر شرح يوحنا ١: ١٨، ١٢، ٤٤، ٤٥ وانظر كولوسي ١: ١٥ و١تيموثاوس ٦: ١٦ وعبرانيين ١: ٣). والتلاميذ لم يروا جوهر الآب لأنه ليس من المرئيات فإن «الله لم يره أحد قط» لكن المسيح قد أظهر صفاته وإرادته ومقاصده. فهم رأوا المعجزات الدالة على قدرته ورحمته، وشاهدوا تواضعه وقداسة سيرته وحنوه على المصابين ورغبته في خلاص الهالكين، وتحققوا بذلك شفقة الآب على الخطاة ومحبته للتائبين والمؤمنين وطول أناته وقداسته وحفظه للعهود، لأن المسيح قال إنه مُرسَل من الله ليعلن الله للناس، ولأن الابن متحد بالآب اتحاداً كاملاً حتى أن الذي يعرف أحدهما يعرف الآخر (يوحنا ٥: ١٧، ١٩، ٣٦ و١٠: ٣٠) وموت المسيح كفارة عن خطايا العالم وطوعاً لإرادة الله أظهر صفاته أحسن إظهار. والذي رأى يسوع معلقاً على الصليب وفهم القصد من ذلك رأى ما لم يُعلن لمخلوق قبلاً من كل ملء اللاهوت. ونحن مديونون ديْناً أبدياً للمسيح، لأنه أعلن الله لنا أباً فوق معرفتنا إياه خالقاً، وعرفنا به مُحباً لنا علاوة على كونه ديّاناً.
    فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ؟ في هذا توبيخ لفيلبس الذي جهل الآب بسبب غفلته عن البيّنات التي أوردها المسيح له، وتأكيده أنه لو ذكر تلك البينات وتأمل فيها لآمن بأنه قد رأى الآب.
    ١٠ «أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّ الآبَ الحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ».
    يوحنا ١٠: ٣٨ وع ٢٠ ويوحنا ١٧: ٢١، ٢٣ ويوحنا ٥: ١٩ و٧: ١٦ و٨: ٢٨ و١٢: ٤٩
    أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ هذا يدل على أن رؤية الله الآب بالمسيح ممكنة فقط لعين الإيمان، وأن الآب والابن أقنومان متميزان لأنه قال «أنا في الآب» لا «أنا الآب». وأن الاتحاد بين الأقنومين تام في القصد والعمل، وأن الفصل بينهما محال، وأنهما متساويان في الجوهر. وقول المسيح لفيلبس: «ألست تؤمن؟» يفيد أنه كان يجب أن يؤمن ويتيقن ذلك.
    الكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ ذكر المسيح أمرين أعلنهما الآب كان على فيلبس أن يعرف بهما أن يسوع في الآب والآب فيه، وهما: كلامه، وأعماله. وأراد بالكلام هنا كل ما علَّمه لتلاميذه. وأنه لم يقُل شيئاً مستقلاً عن الآب، بل بالنظر إلى أنه أتى به من عند الله، وأن الآب تكلم به، وأن غاية كل تعليمه إعلان ذلك الآب الذي طلب فيلبس أن يراه.
    الحَالَّ فِيَّ أي المتحد بي دائماً. فلو كان المسيح نبياً فقط لقال: الآب الذي أرسلني. فقوله ذلك دليل على أنه الله لا نبي كسائر الأنبياء (يوحنا ٥: ١٧، ١٩، ٣٦ و١٠: ٣٠).
    هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ هذا هو الأمر الثاني الذي كان على فيلبس أن يعرف به الآب، والمقصود بالأعمال هنا المعجزات التي صنعها المسيح، وقد بينت محبة يسوع وقوته، كما بينت محبة الآب وقوته لأنه حال في الابن ويعمل به (انظر شرح يوحنا ٨: ٢٨). وخلاصة هذه الآية أن الذي سمع صوت الابن سمع صوت الآب أيضاً، والذي رأى أعمال الابن رأى أعمال الآب كذلك.
    ١١ «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإلا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا».
    يوحنا ٥: ٣٦ و١٠: ٣٨
    صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ خاطب المسيح بهذا كل التلاميذ لا فيلبس فقط، وهو دعوة للجميع إلى الانتباه لما عاتب المسيح فيلبس على غفلته عنه، فكأنه قال: اسمعوا كلكم، وأنا أكرر لكم ما قلته في شأن كمال الاتحاد بيني وبين الآب.
    وَإلا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ أي إن لم تقتنعوا بمجرد كلامي على الاتحاد بيني وبين الآب فاقتنعوا بشهادة ما صنعتُه من المعجزات، فلا أحد يقدر أن يفعل مثل هذه الأفعال ما لم يكن الله معه. وقال المسيح قبلاً مثل هذا القول لليهود (يوحنا ٥: ١٩، ٢٠ و١٠: ٣٧، ٣٨).
    ١٢ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي».
    متّى ٢١: ٢١ ومرقس ١٦: ١٧ ولوقا ١٠: ١٧
    هذا وعد ثان للتلاميذ وعدهم المسيح به ليعزيهم على مفارقته لهم. وكان الوعد الأول أن يجتمعوا به في السماء. والوعد الثاني مضمونه أن قوة فعل المعجزات لا تنتهي عند ذهابه، وأن الله يقدّرهم على صنعها برهاناً لحضوره معهم وإثباتاً لصحة تعاليمهم.
    اَلحَقَّ الحَقَّ هذا توكيد للوعد.
    مَنْ يُؤْمِنُ الإيمان شرط نوال ما وعدهم به لأنهم يتحدون به مع الآب والابن، ويكونون وسيلة توصيل نعمة الله إلى سائر الناس.
    فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ كشفاء المرضى وإقامة الموتى (أعمال ٥: ١٥، ١٦ و١٣: ١١ و١٩: ١٢).
    وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا عملوا أعظم منها من وجهين: (١) أن تأثير معجزاتهم في عالم المادة كان أشد من تأثير معجزات المسيح، فإن مشاهدي معجزاتهم كانوا أكثر عدداً من مشاهدي معجزاته، واقتنع الناس بواسطة معجزاتهم أكثر مما اقتنعوا بواسطة معجزاته فآمنوا بأعداد أكثر. (٢) أن أكثر المعجزات التي صنعها الرسل كانت في عالم الروح، وذلك أسمى من المعجزات في عالم المادة، فقد فتحوا القلوب العمياء وأخضعوا إرادة المعاندين لله، وأحيوا النفوس الميتة. فقد آمن ثلاثة آلاف في يوم الخمسين بتبشيرهم، وآمن الملايين في البلاد المختلفة نتيجة تبشيرهم. على أن الرسل لم يستطيعوا ذلك من قِبل أنفسهم، إنما فعلوه بقوة المسيح العامل بهم.
    ويصح قول المسيح نوعاً ما على نجاح الكنيسة في كل قرن، وانتصار المسيحية على الأديان الفاسدة. وهو يصح كلما ذهب المرسلون وبشروا بالإنجيل في البلاد الوثنية. وانتشار الإنجيل بعد صعود المسيح فاق كثيراً انتشاره قبل صعوده، فهو زرع والآخرون حصدوا.
    لأنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي كان ذهابه خيراً لهم لثلاثة أمور: (١) استيلاؤه على كل سلطان في السماء وعلى الأرض (متّى ٢٨: ١٨) وذلك لأجل الكنيسة (أفسس ١: ٢٢ وفيلبي ٢: ٩ - ١١). (٢) شفاعته في تلاميذه وفائدة ذلك زيادة إيمانهم وغيرتهم في التبشير وتأثيرهم في غيرهم. (٣) إرساله الروح القدس ليمكث معهم ويجعل تبشيرهم مؤثراً في قلوب الناس (ع ٢٦، ٣٨ ويوحنا ١٦: ٧ - ١٤ وأفسس ٤: ٨).
    ١٣ «وَمَهْمَا سَأَلتُمْ بِاسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابْنِ».
    متّى ٧: ٧ و٢١: ٢٢ ويوحنا ١٥: ٧، ١٦ و١٦: ٢٣، ٢٤ ويعقوب ١: ٥ و١يوحنا ٣: ٢٢ و٥: ١٤
    هذا وعد ثالث وعده المسيح تعزيةً لتلاميذه.
    مَهْمَا سَأَلتُمْ وعد تلاميذه بذلك باعتبارهم نوابه على الأرض، وخدامه الذين يُجرون أعماله فيها، وروحه ماكث معهم. وقصد بقوله «مهما» كل ما هو ضروري لهم في التبشير بإنجيله من إرشاد ومعونة وهبة القوة على صنع المعجزات، وذلك كله لا ينالونه إلا بالصلاة. فهذا الوعد وإن كان للرسل خاصة يصح لكل المسيحيين إذا طلبوا بإيمان ما يوافق مشيئة الله (يعقوب ١: ٦ و١يوحنا ٥: ١٤) وهذا دليل على قوة الصلاة.
    بِاسْمِي أي بكرامتي على الله، وباتكالكم على استحقاقي وموتي وشفاعتي ومواعيدي. فالآب مسرور بالابن دائماً، ومستعد لأجله أن يستجيبنا لأننا له (متّى ٣: ١٧). فإننا لا نستحق خيراً، ولكن المسيح يستحق كل خير فيحبنا الله ويستجيبنا من أجل ابنه. وشرط كون الصلاة باسم المسيح يُثبت قول المسيح «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (ع ٦).
    فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ هو قادر على ذلك لأن له كل سلطان (متّى ٢٨: ١٨) ونعلم أنه يريد ذلك لوعده به. وهذا وفق قوله في ع ١ «فآمنوا بي».
    لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابْنِ انظر شرح يوحنا ١٢: ٢٨ و١٣: ٣١. لم يقِم المسيح مملكته لمجرد تمجيد نفسه، ومجد الابن في كل انتصارات تلك المملكة هو مجد الآب أيضاً.
    ١٤ «إِنْ سَأَلتُمْ شَيْئاً بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ».
    هذا تكرار للوعد في الآية السابقة، وكرره لأربعة أمور: (١) التأكيد. كأنه صعب عليهم تصديق ذلك الوعد لعظمته. (٢) اتساع الوعد. فإن قوله «مهما» لا حد له. (٣) النوال لا يكون إلا بشرط السؤال باسمه، والصلاة هي الصلة الكاملة بين المؤمن على الأرض والمسيح في السماء. (٤) المجيب هو المسيح.
    وقد جاء مثل هذا الوعد في يوحنا ١٥: ١٦ و١٦: ٢٣، لكن المجيب فيه الآب، وهما متفقان لأن الآب والابن واحد في الجوهر والقصد والعمل.
    ١٥ «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ».
    ع ٢١، ٢٣ ويوحنا ١٥: ١٠، ١٤ و١يوحنا ٥: ٣
    أراد المسيح أن يُظهر تلاميذه محبتهم له بعد أن يفارقهم، بطاعتهم له، لا بمجرد أقوالهم. فالإقرار بالدين ليس دليلاً على المحبة، بل الطاعة القلبية. فمحبتنا له تقودنا إلى طاعة كل أوامره، فنحب بعضنا بعضاً، وننكر ذواتنا ونحمل صليبنا ونتبعه «في مجد وهوان، بصيت رديء وصيت حسن». فطاعة الأولاد لوالديهم برهان محبتهم لهم، وقد طلب المسيح مثل هذا البرهان من تلاميذه (١يوحنا ٥: ٣).
    ١٦ «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ».
    يوحنا ١٥: ٢٦ و١٦: ٧ ورومية ٨: ١٥، ٢٦
    هذا وعد رابع لتعزية التلاميذ وتشجيعهم، وهو مقترن بحفظ وصاياه كشرط ضروري لنواله.
    وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ بعد موتي وصعودي وممارستي وظيفة الشفاعة عند الآب (رومية ٨: ٣٤ وعبرانيين ٣: ١٤، ١٥ و٧: ٢٥). فرئيس الكهنة في العهد القديم كان بعد أن يقدم الذبيحة يدخل بدمها إلى قدس الأقداس ليشفع في بني إسرائيل، وكان ذلك رمزاً إلى ما يفعله يسوع في السماء وهو رئيس كهنة لنا، فبشفاعته تُغفر خطايانا وتستجاب صلواتنا وننال كل بركاتنا.
    فَيُعْطِيكُمْ أي الآب كما عُيّن في عهد الفداء منذ الأزل. ولأن مجيء الروح القدس توقف على موت المسيح وشفاعته حقّ للمسيح أن يقول إنه هو يرسله أيضاً (يوحنا ١٥: ٢٦). ويصحّ أن يُنسب إلى كل من الآب والابن لأنهما واحد.
    مُعَزِّياً آخَرَ قال «آخر» لأنه هو المعزي الأول مدة وجوده معهم بالجسد (لوقا ٢: ٢٥). والمعزي هنا ترجمة «فارقليط» في اليونانية، ولا توجد في العربية كلمة تنقل المعنى اليوناني تماماً، فإن معناها معزٍّ، ومعين، وشفيع معاً. وجاءت في الإنجيل خمس مرات، نُسبت في أربع منها إلى الروح القدس (يوحنا ١٤: ١٦ و٢٦: ١٥: ٢٦ و١٦: ٧) وفي واحدة للمسيح (١يوحنا ٢: ١). والمراد «بالمعزي» هنا الروح القدس الأقنوم الثالث في اللاهوت، المعيّن لينوب عن المسيح بعد صعوده إلى السماء في تقديم النصح والإرشاد والصداقة والعون في الضيق. قال المسيح إن هذا الروح يقدِّر التلاميذ على معرفة كل الحق (ع ٢٦، ٢٧ ويوحنا ١٥: ٢٦) «وأنه يبكت العالم على الخطية» (يوحنا ١٦: ٨ - ١٠). وأنه يعين الرسل في التبشير وهداية الناس إلى التوبة والإيمان. ولا يستلزم هذا أن الروح القدس لم يكن في العالم سابقاً، لأنه كان حاضراً في قلوب كل أتقياء الله يقدرهم على تقديم العبادة المقبولة. وكان يوحنا المعمدان مملوءاً من الروح القدس (لوقا ١: ١٥). فالمعنى أن الروح القدس يُطهر قبلاً ويُظهر ذلك بطريق جديدة.
    لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ لا مدة قصيرة كإقامتي معكم بالجسد، فهو يبقى مع كل واحد منكم إلى نهاية حياته، ومع الكنيسة دائماً. وفي هذه الآية دليل على الثالوث، إذ ذُكر فيها الثلاثة الأقانيم: الابن الطالب، والآب المجيب، والروح القدس المُرسَل والمعزّي.
    ١٧ «رُوحُ الحَقِّ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ العَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأنَّهُ لا يَرَاهُ ولا يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ».
    يوحنا ١٦: ١٣ و١كورنثوس ٢: ١٤ و١يوحنا ٢: ٢٧
    رُوحُ الحَقِّ سُمي بذلك لأنه هو الحق (١يوحنا ٥: ٦) ولأنه علّم تلاميذ المسيح الحق وحفظهم من الباطل (يوحنا ١٦: ١٣). ولأنه يقود الناس إلى المسيح الذي هو الطريق والحق ويشهد له (١يوحنا ٥: ٦). ولأن الحق آلته في تجديد الإنسان وتقديسه.
    الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ العَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ المقصود «بالعالم» هنا الناس الدنيويون الذين اتخذوا هذا العالم نصيباً لهم، والمتكبرون الطماعون. فهؤلاء لا يستطيعون قبول الروح القدس معزيّاً لهم ومنيراً ومقدساً، لأنهم غير مستعدين لقبول ما هو لله، كقول الرسول «وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ لأنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، ولا يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً» ( ١كورنثوس ٢: ١٤ انظر أيضاً يوحنا ١٢: ٣١ و ١كورنثوس ١: ٢١ و٢كورنثوس ٤: ٤).
    لأنَّهُ لا يَرَاهُ الدنيوي لا يرى سوى المحسوس فلا يسر بالروحيات ولا يشعر بحقيقتها، ويحسب الروحيين من أهل الأوهام لأنهم يتكلمون عن أمور لا تراها إلا عين الإيمان.
    ولا يَعْرِفُهُ أي لا يدركه لكي يُسرّ به. «فالمعرفة» هنا تشتمل على الإدراك والسرور، وقد جاءت بهذا المعنى في مزمور ١: ٦ و٢٨: ٦ و٣٧: ١٨ وناحوم ١: ٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٩. وعدم مسرة الدنيويين بالروح القدس علّة عدم استطاعتهم قبوله.
    وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأن تعليمي إيّاكم وقبولكم إيّاه وسيلة رؤيته ومعرفته، لأن الروح القدس يجعل كلامه يؤثر في قلوبهم وهم لا يشعرون بحضوره فيهم، فأزال عماهم الطبيعي وليّن قلوبهم ومال بها إلى قبول تعليم يسوع.
    لأنَّهُ مَاكِثٌ فِيكُمْ ليهب لهم مؤثرات النعمة على الدوام فيُغيّر قلوبهم ويُقدسها، ويُقدرهم على الإتيان بأثمار الروح، ويملأ قلوبهم سروراً لأنه يمكث معهم (يوحنا ٥: ١٠ و١يوحنا ٣: ٢٤).
    وما قيل هنا في شأن الروح القدس أربع حقائق: (١) أنه أقنوم. (٢) أنه روح الحق لأنه يرشد الناس إلى معرفة الحق. (٣) أن العالم لا يعرفه ليحصل به على التوبة والإيمان والرجاء والمحبة. (٤) أنه يسكن في المؤمنين ويعرفونه باختبارهم.
    ١٨ «لا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ».
    متّى ٢٨: ٢٠ وع ٣
    لا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى لو لم يرسل المسيح المعزي إليهم لكانوا بعد موته كيتامى لا أب لهم، يحتاجون إلى المعونة والتعزية، لا يعتني أحد بهم أو يحميهم.
    إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ بالروح القدس الذي أرسله نائباً عني، لأن تأثيره فيكم كتأثير حضوري معكم (ع ٢٦)، وبروحي عند موتكم لآخذكم إليّ، وبمجيئي نفساً وجسداً في نهاية العالم.
    ١٩ «بَعْدَ قَلِيلٍ لا يَرَانِي العَالَمُ أَيْضاً، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ».
    يوحنا ١٦: ١٦ و ١كورنثوس ١٥: ٢٠
    بَعْدَ قَلِيلٍ أقل من يوم لأنه قال ذلك ليلة النهار الذي مات فيه.
    لا يَرَانِي العَالَمُ أَيْضاً لا بعيني الجسد، ولا بعيني الإيمان، حتى آتي ثانية للدينونة. والمقصود «بالعالم» هنا ما قُصد به في ع ١٧.
    وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي شاهده التلاميذ على الأرض أربعين يوماً بعد قيامته (أعمال ١٠: ٤١). وهذا بعض ما قصده المسيح هنا، لأنه قصد أن المؤمنين يرونه بعين الإيمان، وبإعلان الروح إيّاه في قلوبهم، فإننا «نَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ» (٢كورنثوس ٣: ١٨) وأنهم سوف يرونه ممجداً في السماء. ورؤية المسيح بالإيمان مصدر كل قوتنا في محاربتنا للعالم وللشهوة وللشيطان.
    إِنِّي أَنَا حَيٌّ أي لا يزال حياً باعتبار لاهوته لأنه منذ الأزل وإلى الأبد هو الله الحي. فالموت الذي اعترى جسده وقتياً لم يؤثر شيئاً في لاهوته، وقام حالاً من ذلك الموت وسيطاً لنا لا يذوق الموت ثانية، و «قد ابتُلع الموت (بقيامته) إلى غلبة» وكونه حياً مكنهم من رؤيتهم إياه دائماً.
    فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ في الروح هنا وإلى الأبد في السماء. وهذا يحقق لنا أمرين: (١) أن حياة المسيحي تتوقف على حياة المسيح وعلى الاتحاد به، وأنه لا حياة روحية هنا ولا حياة أبدية هناك للمنفصل عن المسيح. (٢) إن حياة المسيح عربون حياة شعبه وتأكيد لها، كما أن حياة الكرمة تأكيد لحياة أغصانها الثابتة فيها، وحياة الرأس تأكيد لحياة الأعضاء.
    ٢٠ «فِي ذَلِكَ اليَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ».
    يوحنا ١٠: ٣٨ وع ١٠ ويوحنا ١٧: ٢١ ،٢٣ ،٢٦
    فِي ذَلِكَ اليَوْمِ هو إما يوم قيامته لما ظهر لتلاميذه حياً مراراً في أماكن مختلفة، وإما يوم الخمسين حين أرسل الروح القدس وأظهر حياته بمنحه الحياة لألوف، وإما يوم مجيئه الثاني حين يعلن تمام الإعلان ما أشار إليه هنا.
    تَعْلَمُونَ تختبرون بسكنى قلوبكم، وبإنارة الروح القدس إيّاكم التي تقدِّركم على تمييز الحقائق الروحية.
    أَنِّي أَنَا فِي أَبِي أي متّحد معه تمام الاتحاد (انظر شرح يوحنا ١٠: ٣٨) وتحقيق ذلك يؤكد صحة دعوى يسوع أنه رسول الله والمسيح المنتظر.
    وَأَنْتُمْ فِيَّ متحدون بي حتى لا يمكن انفصالكم عني (يوحنا ١٥: ١ - ٧ ورومية ٨: ٣٨، ٣٩). واتحادهم به يحقق لهم الأمن، وقبول الآب إيّاهم، وقداستهم، وسعادتهم، وحياتهم الأبدية.
    وَأَنَا فِيكُمْ حالٌّ فيكم بروحي لأهب لكم النعمة والقوة والشجاعة لتشهدوا لي أمام العالم الذي يضطهدكم، ولأجعل كلامكم مؤثراً في قلوب الناس، ولأصنع على يدكم معجزات تثبت شهادتكم لي. حين أدرك الرسل هذا لم يعودوا يحتاجون إلى طلبهم رؤية الآب كما طلبوا في ع ٨.
    والحقائق الثلاث المذكورة هنا: وهي أن المسيح في الآب، وأنهم في المسيح، وأن المسيح فيهم، أسرار لا ندركها حق الإدراك، إنما ندرك منها ما هو ثمين للمؤمنين، وهي من «عظائم الله» التي تكلم الرسل بها في يوم الخمسين (أعمال ٢: ١١).
    ٢١ «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي».
    ع ١٥: ٢٣ و١يوحنا ٢: ٥ و٥: ٣
    في هذه الآية بيان الوسائل التي يتوصل بها التلاميذ إلى المعرفة التي وُعدوا بها في آية ٢٠، وهي أربع يتعلق بعضها ببعض كحلقات سلسلة: (١) أن محبتهم للمسيح تنشئ فيهم طاعته. (٢) أن تلك الطاعة تجعلهم أحباء الآب. (٣) أنها تزيد حب المسيح لهم. (٤) أن نتيجة ما ذُكر إعلان المسيح نفسه لهم وحصولهم على العلم الذي وُعدوا به في ع ٢٠.
    اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا هذا مثل قوله في ع ١٥ إلا أن هذا موجَّه لكل المؤمنين، وذاك وُجه إلى الأحد عشر. وقصد المسيح بالذي عنده وصاياه الذي يعترف جهراً بأنه تلميذه. وصرّح بأن طاعة أوامره هي علامة أن المعترف مسيحي حقاً، لا مجرد اعترافه ولا دموعه ولا نذوره (لوقا ١١: ٢٨).
    الَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي هذه المجازاة العظيمة للتلميذ المحب المطيع، ومحبة الآب له محبة مخصوصة تُنتج بركات مخصوصة، منها إرسال الروح القدس.
    وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي هذه مجازاة أخرى للتلميذ المطيع. والإظهار هنا ليس للحواس الطبيعية بل للقوى الباطنية، وهذا ينشئ راحة الضمير والمسرّة ويقين الرجاء، وذلك يعزيهم على مفارقته إياهم، وهو أحسن وعد للإنسان على هذه الأرض.
    ٢٢ «قَالَ لَهُ يَهُوذَا لَيْسَ الإِسْخَرْيُوطِيَّ: يَا سَيِّدُ، مَاذَا حَدَثَ حَتَّى إِنَّكَ مُزْمِعٌ أَنْ تُظْهِرَ ذَاتَكَ لَنَا وَلَيْسَ لِلعَالَمِ؟».
    لوقا ٦: ١٦
    يَهُوذَا انظر شرح متّى ١٠: ٣. وسمّى هنالك لباوس وتداوس، وهو أخو يعقوب بن حلفى (لوقا ٦: ١٦) وكاتب الرسالة المنسوبة إليه، ولم يُذكر في البشائر باسمه سوى ثلاث مرات إحداها هنا والأخريان في جدولي أسماء الرسل. وكلامه يدل على أنه شارك سائر الرسل في أفكارهم اليهودية الدنيوية المتعلقة بالمسيح وملكوته.
    لَيْسَ الإِسْخَرْيُوطِيَّ قال ذلك تمييزاً له عن الخائن الذي كان قد خرج (يوحنا ١٣: ٣٠).
    مَاذَا حَدَثَ ظن يهوذا أن المسيح عازم على إنشاء مملكة ظاهرة زمنية مجيدة على هذه الأرض على وفق ما قيل في ملاخي ٣: ١، وقول إشعياء «فَتَسِيرُ الأُمَمُ فِي نُورِكِ، وَالمُلُوكُ فِي ضِيَاءِ إِشْرَاقِكِ» (إشعياء ٦٠: ٣). فلم يستطع يهوذا التوفيق بين تلك النبوة وقول المسيح إنه يعلن ذاته للتلاميذ دون غيرهم، واحتار في كيف يكون ظاهراً للبعض وغير ظاهر للآخر. ولعله قصد أن ينصح يسوع أن لا يكتفي بإعلان ذاته للرسل قليلي العدد، بل الأجدر به أن يعلنها لكل أهل العالم بأوضح طريق ملكاً منتصراً ليقتنع الجميع بدعواه ويسجدون له.
    ٢٣ «أَجَابَ يَسُوعُ: إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلامِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً».
    ع ١٥ رومية ٨: ١٥ و١يوحنا ٢: ٢٤ ورؤيا ٣: ٢٠
    جواب المسيح ليهوذا في هذه الآية والآية التي بعدها، وخلاصته أن العالم ليس مستعداً لرؤية الآب والابن، لأن الشرط الضروري لذلك هو المحبة التي تنشئ الطاعة.
    إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلامِي هذا كقوله في ع ١٥، ٢١، وفيه الشرط الضروري لإظهار ذاته، فالمؤمنون يقومون بالشرط ويرونه، أما العالم فلا يحبه ويرفض كلامه فلا يراه. وقصد المسيح «بكلامه» هنا كل تعاليمه أو وصاياه (ع ١٥). والمراد بحفظ كلامه هنا تخبئته في صميم القلب لا في الذاكرة فقط، لكي يتأصل ويأتي بأثمار السيرة الطاهرة النافعة للعالم التي تمجد الله. وليس المقصود من حفظ كلامه استظهار كل كلمة منه، بل العزم على ذلك والاجتهاد فيه.
    إِلَيْهِ نَأْتِي أنا والآب.
    وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً هذا كناية عن الحضور الإلهي في قلب المؤمن دائماً لا وقتياً، ولا يشعر به إلا من يختبره في نفسه. سكن الله قديماً بين بني إسرائيل في الخيمة والهيكل (خروج ٢٥: ٨ و٢٩: ٤٥ ولاويين ٢٦: ١١ ،١٢ وحزقيال ٣٧: ٢٦). ولكنه يسكن الآن في قلب المؤمن جاعلاً إيّاها هيكلاً له (لوقا ١٧: ٢٠ و ١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩ ورؤيا ٣: ٢٠). وهذا الوعد لأدنى الناس وأبسطهم كما أنه لأسماهم وأعلمهم، وهو ثواب المحبة والطاعة. فيجب أن لا يظن أحد أنه متروك بعد تنازل الآب والابن لضيافته لأنه يحصل بذلك على أعز الأصدقاء وأشرفهم. فمن اتخاذ الآب والابن قلبه منزلاً لهما نال النعمة والتعزية، وتيقن المغفرة وراحة الضمير ومعرفة الأمور الروحية والسرور بها والإرشاد والحماية. فالله سكن مع المؤمن على الأرض والمؤمن يسكن مع الله في السماء.
    ٢٤ «اَلَّذِي لا يُحِبُّنِي لا يَحْفَظُ كلامِي. وَالكلامُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَل لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
    يوحنا ٥: ١٩، ٣٨ و٧: ١٦ و٨: ٢٨ و١٢: ٤٩ وع ١٠
    هذا الآية بمعنى التي قبلها إلا أنها في صورة السلب، لأنه لا طاعة حيث لا محبة، ولا مجازاة حيث لا طاعة. والمجازاة هنا محبة الآب وسكنه مع الابن في القلب، وإظهار المسيح ذاته. فالإقرار بالإيمان ومعرفة الحق وفصاحة المنطق وتقديم النذور وذرف الدموع إن كانت بلا طاعة فهي باطلة.
    في ع ٢٣ رأينا جواب المسيح على سؤال يهوذا «كيف تظهر ذاتك لنا؟» وفي هذا العدد جوابه لسؤال «كيف لا تظهر ذاتك للعالم؟» لأن العالم الذي يرفض المسيح يوصد أبواب الاتصال بين الآب والقلوب.
    لَيْسَ لِي قال ذلك ليبيّن للتلاميذ سلطان كلامه وأهميته. ولم ينكر المسيح بقوله «ليس لي» أنه كلامه، بل صرّح بأنه كلامه وكلام الآب معاً. فالذي يرفض كلام المسيح يهين الآب لأنه كلامه أيضاً. والذي يقبله يكرم الآب.
    ٢٥ «بِهَذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ».
    قال هذا استعداداً لذهابه وتسليمه إيّاهم إلى معلم آخر، فإن كل ما كانوا قد حصلوا عليه من التعليم منذ أول أمره معهم إلى الآن كان من شفتيه، وهم نسوا بعض ما سمعوه، ووجدوا بعضه عسر الإدراك. ولعلهم كانوا مضطربين من كل ذلك، فقصد تعزيتهم بمن يقوم بكل حاجاتهم الروحية من التذكير والإيضاح والتعليم.
    ٢٦ «وَأَمَّا المُعَزِّي، الرُّوحُ القُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلتُهُ لَكُمْ».
    لوقا ٢٤: ٤٩ وع ١٦ ويوحنا ٢: ٢٢ و١٢: ١٦ و١٦: ١٣ ١٥: ٢٦ و١٧: ٧ و١يوحنا ٢: ٢٧
    المُعَزِّي انظر شرح ع ١٦.
    الرُّوحُ القُدُسُ هذا تفسير للمعزي وهو الأقنوم الثالث من اللاهوت، ووُصف بالقداسة لأن وظيفته تقديس قلوب الناس (فيلبي ٢: ١٢، ١٣ عبرانيين ١٣: ٢٠، ٢١) ووُصف في ع ١٧ بالحق لأن الحق آلته التي يقدس بها.
    الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ في مواضع أخرى أن الابن يرسله، ونتيجة ذلك أنه رسول كليهما.
    بِاسْمِي لأن عمل المسيح إعلان الآب، ويأتي الروح لإتمام ذلك. فمعنى قوله «اسمي» بسلطاني كما أني أتيت باسم الآب (يوحنا ٥: ٤٣). وأتى الروح باسم المسيح لأنه كان نائباً عنه (ع ١٣) ولأنه أتى إجابة لصلواته (ع ١٦) ولصلوات تلاميذه الطالبين اسمه.
    فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ يتعلق بطريق الخلاص مما تحتاجون إلى معرفته وتستطيعون إدراكه، فليس المقصود أنه يعلمهم كل أنواع العلوم كالفلسفة وغيرها، فإن تعليم يسوع جهزهم لقبول أسمى تعاليم الروح القدس (يوحنا ١٦: ١٣).
    وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلتُهُ لَكُمْ الذي يسمعه الإنسان ولا يدركه ينساه سريعاً. والتلاميذ سمعوا من يسوع أشياء كثيرة منعتهم آراؤهم اليهودية من إدراك معناها الروحي، ولم يستطيعوا ذلك إلا بعد إنارة الروح لهم. على أنهم نسوا كثيراً منها، فوعدهم يسوع بأن الروح سيذكرهم متى قدروا أن يدركوا معناه. ومن أمثلة ذلك ما في يوحنا ٢: ٢٢ و٧: ٣٨، ٣٩ و١٢: ١٦، فبشارة يوحنا كلها من تذكير الروح القدس لكاتبها لأنه كتب حوادثها ومحاوراتها وسائر تعاليمها بعد موت المسيح بنحو خمسين سنة. وفي هذه الآية وعدٌ بأمرين: (١) أهمية تعليم الروح. (٢) تذكيره إيّاهم قبلاً. وإنجاز الوعد بالأول في سفر أعمال الرسل، وإنجاز الوعد بالثاني في بشارة يوحنا التي كُتبت بعد خمسين سنة من صلب المسيح على ما فيها من التدقيق في ذكر الحوادث والمحاورات والتعاليم.. ومع أن الوعد بتعليم الروح القدس قد وُجِّه إلى التلاميذ خاصة، إلا أنه لا يقتصر عليهم، فهو لكل المؤمنين في كل مكان وزمان.. والوعد لتلاميذ المسيح يومئذ بتعليم الروح إيّاهم كل شيء برهان قاطع على كمال أسفار العهد الجديد التي هي تعليم الروح القدس بواسطة مؤلفيها، فلا محل لتعاليم جديدة في الدين في العصور التي بعد عصرهم.

    ترك المسيح سلامه لتلاميذه (ع ٢٧ - ٣١)


    ٢٧ «سلاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلامِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي العَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ ولا تَرْهَبْ».
    فيلبي ٤: ٧ وكولوسي ٣: ١٥ إرميا ٦: ١٤ وع ١
    في هذه الآية تعزية خامسة للتلاميذ على مفارقة المسيح إيّاهم: (١) اجتماعه به في السماء (ع ٢، ٣). (٢) صنعهم أعمالاً أعظم من أعماله (ع ١٢). (٣) إجابة صلواتهم (ع ١٣، ١٤). (٤) مجيء المعزي (ع ١٦، ٢٦). وكلام المسيح هنا كلام وداع وبركة وتوصية.
    سَلاماً شاع مثل هذا الكلام قديماً وحديثاً بين الأصحاب عند اللقاء وعند المفارقة (١صموئيل ١: ١٧ ومتّى ١٠: ١٣ ولوقا ٧: ٥٠ وأعمال ١٦: ٣٦ و١بطرس ٥: ١٤ و٣يوحنا ١٥). لما فارق يسوع هذا العالم ترك نفسه للآب، وجسده ليوسف الرامي، وثيابه للعسكر الذي صلبه، وأمّه ليوحنا. وأما تلاميذه فترك لهم السلام، لا المناصب ولا الغنى ولا الشرف. وعند ولادة المسيح ترنّم الملائكة قائلين «على الأرض السلام» وعند موته قال لتلاميذه «سلاماً أترك لكم».
    سلامِي قال ذلك تمييزاً له عن تحيات الناس التي كثيراً ما تكون مجرد ألفاظ. ويمتاز سلام المسيح عن سلام البشر بستة أمور: (١) أنه لا يقدر أن يعطي هذا السلام أحدٌ غيره. (٢) أنه يشبه السلام الذي حصل عليه من تأكد من محبة الآب. (٣) أنه اشتراه لهم بدمه لأنه نتيجة المصالحة مع الله. (٤) أنه سلام الضمير، لأنه من نتائج تلك المصالحة. (٥) أنه مبني على تأكيد حماية المسيح لهم في وقت الاضطهاد. (٦) أنه دائم لا يضعفه المرض ولا يسلبه الفقر ولا يفنيه الموت (رومية ١: ٧ و٥: ١ و٨: ٦ و١٤: ٧ وغلاطية ٥: ٢٢ وأفسس ٢: ١٤ و١٧ و٦: ١٥ وفيلبي ٤: ٧ وكولوسي ٣: ١٥). وتأثير كل ما سبق من التعزيات هو هذا السلام بعينه، وبه سكَّن المسيح اضطراب قلوبهم على مفارقته إيّاهم.
    لَيْسَ كَمَا يُعْطِي العَالَمُ لأن السلام عطية روحية وعطايا العالم ليست كذلك. وهو يمتاز عن سلام العالم بأربعة أمور: (١) مصدره: فإن مصدر سلام العالم اللذة والصيت والغنى والفلسفة، ومصدر سلام المسيح صليبه. (٢) كماله: فإن سلام العالم ناقص لما يخالطه من هموم وخوف ويأس، أما سلام المسيح فيسدد كل حاجات النفس. (٣) صدقه دائماً: لأن سلام العالم كثيراً ما يكون كاذباً ولا سيما سلام الذين يرجون الخلاص من أعمالهم أو أعمال غيرهم من البشر (إرميا ٦: ١٤). (٤) بقاؤه: فإن سلام العالم زائل ينتهي عند الموت.
    لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ هذا مثل ما في ع ١، وكرره بناءً على التعزيات التي ذكرها لهم.
    ولا تَرْهَبْ بانتظاركم الضيق والاضطهاد والموت، فصدِّقوا حضوري معكم، وأن سلامي لا يفارقكم.
    أَنِّي قُلتُ لَكُمْ في يوحنا ١٣: ٣٣ - ٣٦ و١٤: ٢، ٣، ١٢، ١٩، ٢٠.
    لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ ظاهر العبارة يدل على عدم محبتهم له، وهو ليس المراد لأنه عرف أنهم يحبونه. إنما أراد أنهم أظهروا بشدة حزنهم على فراقه أن محبتهم غير كاملة، لأنهم نظروا إلى خسارتهم ولم يلتفتوا إلى ربحه. فكأنه قال لهم: على قدر إخلاص محبتكم لي تفرحون بذهابي عنكم.
    لأنِّي قُلتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ أي إلى السماء حيث يُظهر الآب حضوره ومجده ليتمجد بعد تواضعه بعمل الفداء، وليكمل ذلك العمل بشفاعته في تلاميذه، وليرسل إليهم الروح القدس، وتمجيد المسيح يستلزم تمجيدهم متى صاروا إليه.
    لأنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي لا في الطبيعة لأنهما متساويان، لكن في الحال التي تكلم فيها بهذا الكلام، وهي حال تواضعه وألمه باعتباره فادي الخطاة، وفق قول يوحنا «الكلمة صار جسداً» (يوحنا ١: ١٤) وقول بولس «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد» (فيلبي ٢: ٧). فبمقتضى عهد الفداء أرسل الآب ابنه والروح القدس وكل فوائد الخلاص، فكان أعظم من الابن في الوظيفة. وأعظمية الآب لم تكن دائمة بل وقتية (فيلبي ٢: ٩ - ١١). فكان على التلاميذ أن يفرحوا بذهابه عنهم، لأنه بذلك يرجع بعد تواضعه كعبد نحو ٣٣ سنة إلى حال السعادة والمجد التي كانت حاله مع الآب، لكي يُكلل ملكاً للملوك ورباً للأرباب، ولأن الروح القدس يحل عليهم بعد ذلك الذهاب فينجح التبشير بالإنجيل نجاحاً عظيماً (يوحنا ١٦: ٧ - ١٠).
    ٢٨ «سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأنِّي قُلتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لأنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي».
    ع ٣، ١٢، ١٨ ويوحنا ١٦: ١٦ و٢٠: ١٧ ويوحنا ٥: ١٨ و١٠: ٣٠ وفيلبي ٢: ٦ - ١١
    سبق الكلام على معنى هذه الآية في شرح (ع ٢٧) فراجعه هناك.
    ٢٩ «وَقُلتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ».
    يوحنا ١٣: ١٩ و١٦: ٤
    قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أي قبل موتي على الصليب ودفني.
    تُؤْمِنُونَ أي تزيدون إيماناً بأني أنا المسيح حقاً رسول الآب لتيقنكم معرفتي بما في المستقبل. وهذا مثل ما قيل في يوحنا ١٣: ١٩. ولولا هذه النبوة لزادت شكوكهم كثيراً يوم رأوه مقبوضاً عليه ومصلوباً.
    ٣٠ «لا أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً، لأنَّ رَئِيسَ هَذَا العَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ».
    يوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١
    لا أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً لم يكن قد بقي من حياته على الأرض إلا بضع ساعات من النهار.
    رَئِيسَ هَذَا العَالَمِ أي الشيطان. انظر شرح يوحنا ١٢: ٣١. يأتي ليجربه في وقت آلامه وبواسطة تلك الآلام. ولعل كثيراً من ألمه في بستان جثسيماني كان من محاربته لعدو الله والناس بدليل قوله «هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلطَانُ الظُّلمَةِ» (لوقا ٢٢: ٥٣) قارن هذا بالقول «وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ (أي في البرية) فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ» (لوقا ٤: ١٣). وليهيج الناس عليه أيضاً بدخوله في يهوذا ليأتي بعد قليل ويسلمه، ويحرك العسكر ليقبضوا عليه، والفريسيين ورؤساء الكهنة ليشتكوا عليه، والرومان ليحكموا عليه ويصلبوه. واكتفى بذكر فعل الشيطان لأنه سبب كل الشر.
    وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ أي لا سبيل له إلى الانتصار عليه، فليس فيه شهوات جسدية ليثيرها، ولا أنانية ليرضيها. فكل مبتغاه أن يُرضي أباه، فلم يكن للشيطان ما يقوده به إلى الخطية. وهذه حجة قاطعة على كمال قداسة المسيح. وما قيل عليه لا يصح أن يقال على أطهر البشر.
    ٣١ «وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ العَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ، وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا».
    يوحنا ١٠: ١٨ وفيلبي ٢: ٨ وعبرانيين ٥: ٨
    لِيَفْهَمَ العَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ أظهر المسيح محبته للآب باحتماله تجربة إبليس، وبانتصاره عليه إذ كان «مُجَرَّباً فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلا خَطِيَّةٍ» (عبرانيين ٤: ١٥). وكانت تجربته برهاناً على محبته للآب. ولا شك أن الشيطان بذل كل وقته ليجعل آدم الثاني يخطئ كما أخطأ آدم الأول، فكان كل اجتهاده عبثاً. ولعل كلامه غير مقصور على التجربة، بل يشتمل على كل ما فعله لفداء الخطاة طوعاً لإرادة أبيه، فهو البار الذي مات بدل الأثمة ليخلصهم.
    كَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ من أول الحياة إلى آخرها، وهذا يتضمن تجسده، ووضع نفسه تحت الناموس، وتكميله كل بر، واحتماله تجربة إبليس وعار الناس وبغضهم، وموته أخيراً كفارة عن العالم.
    قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا الأرجح أن المسيح وتلاميذه قاموا عن المائدة لما قال ذلك، وأنه تكلم بما بقي من خطابه في يوحنا ١٥، ١٦، وبصلاته في يوحنا ١٧. وهم لم يزالوا واقفين في البيت إذ لا انقطاع في الكلام، ولأنه قيل في يوحنا ١٨: ١ «قَالَ يَسُوعُ هَذَا وَخَرَجَ مَعَ تلامِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ» ولكن ظن بعضهم أنه تكلم بذلك وهم سائرون في الطريق من البيت إلى بستان جثسيماني.


    الأصحاح الخامس عشر


    الخطاب الوداعي: مثَل الكرمة والأغصان (ع ١ - ١٧)


    ١ «أَنَا الكَرْمَةُ الحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الكَرَّامُ».
    كانت غاية المسيح في أصحاح ١٤ تعزية تلاميذه، وغايته في هذا الأصحاح أن يعلمهم، فضرب لهم مثل الكرمة والأغصان ليبيّن أن العلاقة بينه وبينهم تبقى ثابتة بعد ذهابه عنهم لأنها روحية لا مادية، وأنه هو المصدر الوحيد لحياتهم وقوتهم ونفعهم لغيرهم، بشرط أن يتمسكوا به دائماً.
    أَنَا الكَرْمَةُ الحَقِيقِيَّةُ هذا كقوله إنه النور الحقيقي (يوحنا ١: ٩) والخبز الحقيقي (يوحنا ٦: ٣٢) فارجع إلى الشرح هناك. والمعنى أن الكرمة رمز والمسيح هو المرموز إليه الحقيقي. فلم يتكلم على نفسه كإنسان على وشك أن يموت، بل باعتباره المسيح الحي إلى الأبد، الذي يحضر مع تلاميذه دائماً بروحه. وشبَّه نفسه بالكرمة ليبيّن كمال الاتحاد بينه وبين تلاميذه الاتحاد الضروري لحياتهم الروحية ونموهم وتقواهم. وقد شُبِّه هذا الاتحاد أيضاً بمثل الرأس والأعضاء ( ١كورنثوس ١٢: ١٢ وأفسس ٥: ٢٣، ٣٠ وكولوسي ٢: ١٩). فكما أن العُصارة تجري من الكرمة إلى الأغصان لتغذيها وتجعلها نامية ناضرة، كذلك المسيح مصدر حياة التلاميذ والقوة والنعمة والخصب الروحي. وكثيراً ما شبهت في العهد القديم العلاقة بين الله والناس بالعلاقة بين الكرم والكرّام (مزمور ٨٠: ٨ - ١٩ وإشعياء ٥: ١ - ٧ وإرميا ٢: ٢١ وحزقيال ١٩: ١٠ - ١٤ وهوشع ١٠: ١ ويوئيل ١: ٧). وربما قال المسيح إنه هو الكرمة الحقيقية للتمييز بينه وبين بني إسرائيل الذين سماهم الله كرمته قديماً، وكان على جميع الناس أن يكونوا أغصاناً في تلك الكرمة ليُحسبوا من شعبه، ولكن الله رفض أن يكونوا كرمته لعدم استحقاقهم، وعيّن يسوع الكرمة الحقيقية وأوجب على الكل الاتحاد به بالإيمان.
    وَأَبِي الكَرَّامُ هذا يشير إلى أن الكرمة ملكه، وأنه مهتمٌّ بنموها وصيانتها وخصبها. فإن الله اختار يسوع أصل البركة للناس، وأن تجري النعمة منه إلى قلوب المؤمنين، ويسأل الله عن خيرهم ونفعهم لغيرهم وتمجيده بهم. وقد شُبّه الله بالكرام في متّى ٢١: ٣٣ ومرقس ١٢: ١ ولوقا ٢٠: ٩).
    ٢ «كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لا يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ».
    متّى ١٥: ١٣
    كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ أي كل من يعترف بأنه مسيحي.
    لا يَأْتِي بِثَمَرٍ أي لا يظهر بأعماله حقيقة إيمانه.
    يَنْزِعُهُ للكرّام الأرضي عملان: قطع العقيم من الأغصان، والتهذيب. ولله في كنيسته عملان يشبهانهما، الأول النزع: وهو أن يفصل عن شعبه الذين لا يفعلون ما يبرهن أنهم متحدون بالمسيح، ومثال هؤلاء يهوذا الإسخريوطي، وحنانيا وسفيرة، وديماس، وسيمون الساحر. وذكر العُقم أو عدم الإثمار علة للقطع، لأنه يبرهن عدل الله في ذلك القطع. نعم إن الله يعرف القلوب بغير حاجة إلى شهادة الأعمال، لكن ذكر ذلك يبين لنا أن عقابه عادل. ولم يذكر هنا كيف يفصل الله العقيم عن كرمته الروحية، لكنه يفعل ذلك بأحد خمس طُرق: (١) أن تُصدر الكنيسة حُكم القطع بإرشاد الروح القدس ( ١كورنثوس ٥: ٤، ٥، ١٢). (٢) أن يمتحن الله الإنسان بتركه للشهوات الجسدية وغرور هذا العالم. (٣) أن يمتحنه بالاضطهادات والضيقات. (٤) أن يعاقبه بضربات خاصة كما عاقب حنانيا سفيرة. (٥) أن يميته، وهو أعظم طرق النزع، ولو أن موت المؤمن ليس انفصالاً عن كرمة الله.
    وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ كما يفعل الكرام الأرضي بالكرمة المثمرة ليزيدها إثماراً. وهذه التنقية هي العمل الثاني. وينقي الله شعبه غالباً بالمصائب والأمراض لتقوية نموهم الروحي وزيادة تقواهم ونفعهم لغيرهم (١كورنثوس ١١: ٣٠ - ٣٢). فإذا رأى الله أن المال يمنع المؤمن من الرغبة في الغنى الحقيقي حرمه ماله، وإن رأى أنه يحب أولاده أو غيرهم من الأقرباء والأصدقاء أكثر منه أخذهم منه، وإذا رآه متكلاً على نفسه لقوته سمح بمرضه. وفي هذا السبيل ينقي شعبه من الضلال والكبرياء ومحبة العالم وسرعة الغضب وشدة التعصب وأمثال ذلك مما يمنعهم من الإتيان بالثمار الروحية. وعلاوة على ما ذُكر ينقي عبيده بتأثيرات روحه القدوس في قلوبهم، وبإنذارات كتابه المقدس.
    لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ وتُعرف ماهية هذا الثمر من شرح متّى ٧: ١٦ - ٢٠ ومما في غلاطية ٥: ٢٢، ٢٣. وذلك الثمر هو الأعمال الصالحة، ولا سيما الأعمال التي يقود بها الناس إلى الإيمان بالمسيح وإلى القداسة والسعادة. ولنا من هذه الآية ست فوائد: (١) إمكان أن يظهر الإنسان مؤمناً أمام الناس وهو ليس كذلك عند الله. (٢) لا بد أن الله يقطع مثل هذا الإنسان ويدفعه إلى الهلاك الأبدي. (٣) استحالة أن يكون الإنسان مؤمناً حقيقياً ولا يُظهر ذلك بأعمال تمجِّد الله وتنفع الناس. (٤) ليست بلايا الصديقين دليلاً على أنهم أشرّ من غيرهم وأن الله قد غضب عليهم، بل هي علامة محبته لهم إذ أصابهم بها لينقيهم. (٥) لا يمكن أن ينفصل المؤمن الحقيقي عن الله إلى الأبد ولو حرمه كل البشر. (٦) يراقب الله كنيسته دوماً لينزع المرائين وينقّي الصالحين.
    ٣ «أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الكلامِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ».
    يوحنا ١٣: ١٩ و١٧: ١٧ وأفسس ٥: ٢٦ و١بطرس ١: ٢
    أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ أبان المسيح بذلك أن تلاميذه هم من الذين أخذ الله ينقيهم، لا من الذين قصد أن ينزعهم. وقوله إنهم أنقياء لا يعني أنهم بلغوا الكمال، بل يعني أنهم يتقدمون في الطهارة يوماً فيوماً تحت إرشاده (انظر شرح يوحنا ١٣: ١٠).
    لِسَبَبِ الكلامِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ كانت تعاليم يسوع لهم واسطة تنقية فيها أصلح كثيراً من آرائهم الفاسدة في شأن المسيح الموعود به وفي أمر ملكوته. وبيّن لهم سوء الخصام على المراتب العالية. ورغَّبهم في ترك كل شيء لأجل اسمه. وأمرهم أن يأتـوا بعد موته بثمر لتمجيد اسمه بتبشيرهم اليهود والأمم باسمه. وهو لا يزال ينقي تلاميذه بكلامه حتى يكونوا كاملين في السماء (يوحنا ٥: ٢٤ و٨: ٣١، ٣٢ و١٢: ٤٨ و١٧: ١٠، ١٧ وأفسس ٥: ٢٦ ويعقوب ١: ١٨ و١بطرس ١: ٢٣). وقال لهم: أنتم أنقياء لسبب الكلام، فهو آلة الروح القدس لتنقية من يسمعه ويؤمن به. ولعل المسيح أشار إلى أن يهوذا الإسخريوطي نُزع منهم فتنقّوا بذلك.
    ٤ «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ الغُصْنَ لا يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الكَرْمَةِ، كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ».
    كولوسي ١: ٢٣ و١يوحنا ٢: ٦
    اُثْبُتُوا فِيَّ شرط حياة الغصن ثبوته في كرمته، وكذلك شرط حياة المسيحي ثبوته في المسيح. وفي هذا ثلاثة أمور: (١) ترك الإنسان الاتكال على نفسه أو على قوة أحد المخلوقات من الملائكة أو البشر لأجل الحكمة والقوة والفضيلة والخلاص. (٢) اختياره المسيح نصيباً وتمسكه به بالإيمان للحياة الروحية. (٣) المواظبة على ذلك التمسك لأن احتياجه إلى المسيح دائم.
    ذُكر في ما مرّ من هذا الأصحاح ثلاثة أعمال تتعلَّق بالكرمة: وهي نزع العقيم، وتنقية المثمر، وثبوت الغصن في كرمته. فالأول والثاني من أعمال الكرّام، والثالث من أعمال الغصن. لكن ليس للغصن في الكرمة الطبيعية قوة اختيارية للثبوت في الكرمة أو لعدمه. أما الإنسان المرموز إليه بالغصن فله تلك القوة، ولذلك قال المسيح لتلاميذه: اثبتوا أنتم، فجعل بذلك على المؤمن مسؤولية إن لم يقم بها لم ينفعه المسيح شيئاً. وسبق الكلام على الثبوت في شرح يوحنا ٦: ٥٦، وهو الاتحاد بالمسيح في الشعور والقصد والعمل (١يوحنا ٢: ٦ و٢٤ - ٢٨). والأمر الجوهري في الثبوت هو الإيمان الذي به نصير أغصاناً في الكرمة، وبه نثبت فيها، وبه نأتي بالأثمار.
    وَأَنَا فِيكُمْ علاقة هذا الكلام بما قبله كعلاقة السبب بالنتيجة، لأنه إن لم يكن المسيح فيهم لا يثبتون فيه. على أن ثبوت المسيح فيهم يتوقف على إرادتهم، ولذلك جعل ثبوتهم فيه شرطاً لكونه فيهم. وهذا مثل قوله «إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ البَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا ٣: ٢٠). وكون المسيح في التلاميذ يؤكد لهم تأثيرات الروح القدس لإنارتهم وتقديسهم وتعزيتهم، وحفظهم من السقوط، ووفرة نعمته (رومية ٨: ٩ و١يوحنا ٣: ٢٤ و٤: ١٣).
    كَمَا أَنَّ الغُصْنَ لا يَقْدِرُ هذا تعليل وإيضاح لما ذُكر. فما قيل هنا في شأن الغصن الطبيعي بديهي، فالغصن لا يستقل بحياته، وهو يحيا وينمو ويثمر ما دام متصلاً بكرمته، وإن قُطع يذبل ويموت. والمسيح أكد لهم أن حياتهم الروحية كذلك بالنسبة إليه، فإن بدءها منه ونهايتها بالانفصال عنه. وجاء بهذا المعنى في صورة النفي، أي بقوله «إن لم تثبتوا» إنذاراً لهم من خطر الانفصال بالاتكال على النفس. وخلاصة ما في هذه الآية وجوب الاتصال التام الدائم بين المسيح وتلاميذه.
    ٥ «أَنَا الكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأنَّكُمْ بِدُونِي لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً».
    هوشع ١٤: ٨ وفيلبي ١: ١١ و٤: ١٣ أعمال ٤: ١٢
    أَنَا الكَرْمَةُ هذا مثل قوله في العدد الأول كرره للتوكيد والتأثير.
    وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ الكلمة المهمة في هذه الجملة «أنتم» فما قاله المسيح سابقاً في الأغصان عموماً خصصه هنا بالتلاميذ، ومعناه أنه يجب عليكم أن تبقوا بعد مفارقتي إيّاكم بالجسد متصلين بي اتصال الأغصان بالكرمة.
    الَّذِي يَثْبُتُ.. يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ هذا كقوله في الآية السابقة، إلا أن ذلك في صورة النفي وهذا في صورة الإيجاب، وفيه زيادة قوله «كثير». ونستنتج من هذه الزيادة أنه لا يجوز للمسيحي أن يكتفي بالإتيان بأثمار قليلة، وأنه يجب عليه الاجتهاد ليأتي بثمر وافر، تعبيراً عن شكره للمسيح على خلاصه العظيم، وتمجيداً للإله العظيم، ورغبة في إنقاذ الناس من الخطر العظيم. ويتوقف مقدار الإثمار على مقدار الاتحاد بالمسيح بالإيمان والمحبة، والتقرب منه بالصلاة، وطلب الإرشاد من كتابه كل يوم.
    بِدُونِي لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً يحسبه الله ثمراً أي خدمة مقبولة. ولا حجة بذلك للمسيحي على الكسل، كأن يقول: أنا عاجز، والمسيح هو الذي يفعل كل ما يجب. لكن فيه داعياً إلى الاجتهاد بالاتكال على يسوع. وفي هذا خمسة أمور هامة: (١) التحذير من الاتكال على الذات، لأن المسيح لم يقل «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا إلا قليلاً»، بل: «لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (٢كورنثوس ٣: ٥). (٢) توضيح احتياج المسيحي إلى المسيح مصدر الحياة (يوحنا ١: ٤) فيهبها لنا باعتباره خبز الحياة وماء الحياة. (٣) إظهار السبب في أن مسيحيين كثيرين لا يفيدون غيرهم لأنهم لم يطلبوا النعمة والقوة من المسيح. (٤) وجوب أن يعطي المسيحيون كل مجد للمسيح على ما لهم من صلاح، لأن أفكارهم الروحية وعواطفهم الحسنة وكلماتهم المفيدة وأعمالهم النافعة نتيجة لثبوته فيهم. (٥) المسيحي يستطيع كل شيء بالمسيح فيقول «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي المَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (فيلبي ٤: ١٣).
    ٦ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لا يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ، فَيَحْتَرِقُ».
    متّى ٣: ١٠ و٧: ١٩
    تكلم المسيح في ع ٥ عن الأغصان المثمرة، وشرع يتكلم هنا عن غير المثمرة، فذكر ما يفعله الناس بالأغصان اليابسة مثالاً للعقاب الهائل المعد لكل تلميذ عقيم لم يثبت في المسيح. ويشتمل ذلك على خمسة أمور: العزل، والجفاف، والجمع، والطرح في النار، والاحتراق. وأمثلتها في الروحيات (١) إخراج العبد البطال بأمر الله من شعبه (متّى ٨: ١٢ و٢٢: ١٣). (٢) حال المسيحي حين يفارقه الروح القدس (١تسالونيكي ٥: ١٩). (٣) عمل الملائكة في اليوم الأخير، كما ذُكر في تفسير مثل الزوان والحنطة متّى ١٣: ٤١ ولوقا ١٢: ٢٠. (٤، ٥) دينونة اليوم الأخير والعقاب الذي يليها (متّى ١٣: ٤٣).
    وهذا العقاب ليس مقصوراً على الفجار الذين يعصون الله ويكفرون به، بل يعم الذين يعترفون بأنهم مسيحيون ولا يثبتون في المسيح ولا يأتون بأثمار. فإذاً مجرد عدم الثبوت في المسيح يؤكد هلاك الإنسان، لأن الله عيّن لكل غصن في الكرمة إما الإثمار أو الإحراق (حزقيال ١٥: ٥). وقد قصد المسيح بهذه الآية التلميذ العقيم، ولكنّ كلامه صدق على الكنيسة اليهودية جملة، لأنه قطعها لعدم إثمارها.
    ٧ «إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلامِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ».
    يوحنا ١٤: ١٣، ١٤ وع ١٦ ويوحنا ١٦: ٢٣
    إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلامِي فِيكُمْ ربط ثبوته فيهم بثبوت كلامه كذلك، فالثبوت لا يكون بدون الكلام الذي هو تعاليمه التي أعلنها لهم. ولم يُرد بثبوت كلامه فيهم مجرد بقائه في ذاكرتهم، بل تأثيره في قلوبهم وسلوكهم، وأنه موضوع تأملاتهم وأشواقهم الروحية، فينشئ فيهم غايات سماوية ويشجعهم على الصلاة.
    تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ مما هو ضروري لإثمارهم. هذا الوعد مثل الوعد الذي سبق في يوحنا ١٤: ١٣ ومتّى ٢١: ٢١، وهو للرسل خاصة، لكنه يصح لغيرهم من المسيحيين إن كانت أحوالهم وغاياتهم كأحوال الرسل وغاياتهم. وهذا موافق لقول الرسول «طِلبَةُ البَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا» (يعقوب ٥: ١٦). ويتضح من هذه الآية أنه لا حقَّ لأحد أن يتوقع إجابة طلباته إن لم يحي في طاعة المسيح، وإن لم يتحد به بالإيمان (مزمور ٦٦: ١٨). ولا تُستجاب طلبات كثيرة بسبب عدم ثبوت المصلّين في المسيح، وعدم ثبوت كلامه فيهم.
    ٨ «بِهَذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ فَتَكُونُونَ تلامِيذِي».
    متّى ٥: ١٦ وفيلبي ١: ١١ ويوحنا ٨: ٣١ و١٣: ٣٥
    في هذه الآية بيان غايتين من ثبوت الرسل في المسيح وإتيانهم بأثمار البرّ.
    يَتَمَجَّدُ أَبِي أولاهما تمجيد الآب، فكما أن وفرة ثمر الكرم الأرضي دليل على اجتهاد الكرام واعتنائه، كذلك تقوى المسيحيين وأمانتهم يمجِّدان الكرام السماوي. ويلزم عن ذلك ثلاثة أمور: (١) صلاح شريعة الله، لأنها سبب تلك التقوى والأمانة. (٢) قوة نعمته، لأنها جعلتهم يغلبون فساد طبيعتهم ويقدرون أن يفعلوا الصلاح. (٣) أن المسيحي التقي الأمين قد تجدد، فصار في صورة الله، وأظهر للناس بحُسن سيرته صفات الله الحسنة وفضله العظيم (متّى ٧: ٢٠ وفيلبي ٤: ٨).
    أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ أي أن تمارسوا الأعمال الصالحة بالأمانة والتواضع والاجتهاد «مكثرين في عمل الرب» (١كورنثوس ١٥: ٥٨).
    فَتَكُونُونَ تلامِيذِي هذه هي الغاية الثانية، أي تُعرفون أنكم تلاميذي، فإتيان التلاميذ بالأثمار الوافرة يبرهن أنهم تلاميذ المسيح، فالثمر هو العلامة الوحيدة للتلميذ الحقيقي، ولا يكفي مجرد الاعتراف باللسان. ولا يلزم من قوله «فتكونون تلاميذي» أنهم لم يكونوا تلاميذه حينئذ، إنما أراد أنهم تلاميذه في الساعة نفسها، وأنهم سيبقون كذلك، وأنهم كلما زادوا أعمالاً صالحة زادت محبته ومجازاته لهم، فكأنه قال: إن كنتم كذلك فأنا أعترف بأنكم خاصتي، وأنتم تتحققون أنكم لي، والعالم يعرف أنكم كذلك لمشابهتكم لي.
    قبل الرسل هذا الشرط على أنفسهم، وأتوا بثمر كثير بعد ذلك، إذ جالوا في كل العالم يبشرون بالإنجيل، واحتملوا الاضطهادات الشديدة، ومات أكثرهم شهداء في سبيله طاعةً لأمره، وتمجيداً له، ورغبة في خلاص النفوس.
    ٩ «كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي».
    كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ محبة الآب للابن أعظم صنوف المحبة، وهي مبنية على كمال الاتحاد بينهما في القصد والعمل (متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥ ويوحنا ١٧: ٢٤).
    كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا اتخذ الابن محبة الآب له مثالاً لمحبته تلاميذه، فكلتاهما غير محدودتين. ومحبة المسيح لتلاميذه كمحبة الآب له في النوع لا في المقدار. ووجه الشبه: الرّقة، والدوام، وتقديم ما يقوم بالحاجات، والوقاية من الخطر.
    اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي أي محبتي لكم. وهذا الثبوت لا يكون إلا بطاعة كلامه (ع ٨). ويتضمن هذا الثبوت أمرين: (١) أن المسيحي يشتاق إلى محبة المسيح له ويقبلها ويُسر بها ويجتهد في أن يكون مستحقاً لها. (٢) أنه يعتزل كل مانع من دوام محبة المسيح له كعدم الأمانة والطاعة.
    ١٠ «إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي، كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ».
    يوحنا ١٤: ٩، ٢١، ٢٣
    انظر شرح يوحنا ١٤: ٢٣، ٢٤. جعل المسيح طاعته للآب وثبوته بها في محبته قاعدة لتلاميذه يسلكون بموجبها في طاعتهم له وثبوتهم في محبته.
    إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ جعل المسيح السيرة المقدسة شرطاً لحبه لهم وتيقنهم من ذلك الحب، ولنوال ما يتضمن ذلك من السعادة (١يوحنا ٢: ٣).
    كَمَا أَنِّي أَنَا لم يطلب المسيح من تلاميذه شرطاً لثبوتهم في محبته لهم سوى الشرط الذي قبله على نفسه لثبوته في محبة الآب له (يوحنا ٨: ٢٩ و١٠: ١٧).
    ١١ «كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ».
    يوحنا ١٦: ٢٤ و١٧: ١٣ و١يوحنا ١: ٤
    بِهَذَا أي ما ذُكر من أمر الطاعة في الآية السابقة، وربما أشار إلى كل ما ذكره في هذا الخطاب. وقصد من هذه الآية أن يبين أن طريق الطاعة هو طريق المسرة الكاملة الدائمة، لا طريق المشقة والعبودية، وأنه سُرّ بها وسيُسرون هم كذلك.
    يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ يحتمل قوله «فرحي» ثلاثة معانٍ: (١) فرح المسيح بتلاميذه حين يشاهد إيمانهم ومحبتهم وطاعتهم وثبوتهم. (٢) فرح التلاميذ فرحاً كفرح المسيح، لصدور الفرحين من مصدر واحد هو الطاعة للآب والثبوت في محبته (ع ٩، ١٠) وتيقن ذلك (يوحنا ١٧: ١٣ وعبرانيين ١٢: ٢). (٣) فرح التلاميذ الذي يهبه هو لهم، فقد أعطاهم سلامه (يوحنا ١٤: ٢٧) وزاد على ذلك فرحه، وهو أحد أثمار الروح القدس (رومية ١٤: ١٧ وغلاطية ٥: ٢٢).
    وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ يكون كمال فرحهم من تيقنهم أنهم يحبون الله، وأنه يحبهم. وهذا التأكيد يشفي غليل النفس، ويقيهم من الحزن على مفارقته إياهم. وينتج كمال الفرح عن كمال الطاعة كما اختبره الرسل بعد صعود المسيح (أعمال ٥: ٤١ و١٣: ٥٢ ورومية ١٤: ١٧ و٢كورنثوس ٢: ٢، ٣ و٧: ٤ وغلاطية ٥: ٢٢ وفيلبي ٢: ١٧، ١٨ و٤: ٤ و١تسالونيكي ١: ٦ و٢: ١٩، ٢٠ و٣: ٩ و١بطرس ١: ٨).
    ١٢ «هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ».
    يوحنا ١٣: ٣٤ و١تسالونيكي ٤: ٩ و١بطرس ٤: ٨ و١يوحنا ٣: ١١ و٤: ٢١
    ذكر المسيح في هذه الآية إحدى الوصايا التي ذكرها في ع ١٠، وجعل حفظها شرطاً للثبوت في محبته. ونبَّر على هذه الوصية لأنه فضلها على سائر الوصايا.
    وَصِيَّتِي سماها وصية جديدة (يوحنا ١٣: ٣٤) لأسباب ذكرناها في شرح تلك الآية، وسمّاها وصيته لنفس تلك الأسباب. ويدل تكراره على أهميتها عنده.
    كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ هذا بيان لدرجة المحبة المطلوبة، وترغيب لهم في الاقتداء به في تلك المحبة. فيجب أن تكون محبة بعضهم لبعض مثل محبته في الشدة والرأفة والحمل على نفع الغير في كل طريق ممكن، حتى إنكار الذات والموت إذا اقتضى الحال (١كورنثوس ١٣: ١ و١يوحنا ٣: ١٦).
    ١٣ «لَيْسَ لأحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأجْلِ أَحِبَّائِهِ».
    يوحنا ١٠: ١١، ١٥ ورومية ٥: ٧، ٨ وأفسس ٥: ٢ و١يوحنا ٣: ١٦
    لا شك أن ذلك أعظم أنواع المحبة، وقد جعله مقياساً لحب بعض التلاميذ لبعض بناءً على مثاله.
    أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأجْلِ أَحِبَّائِهِ أغلى ما يبذله الإنسان في سبيل الوطن والقريب هو حياته. وقد أظهر المسيح محبته لتلاميذه ببذل حياته (يوحنا ١٠: ١١، ١٧)، وليس لأجل أحبائه فقط بل لأجل أعدائه أيضاً (رومية ٥: ٦، ١٠ و١يوحنا ٤: ١٠). وأراد أن يكون تلاميذه مستعدين للتمثل به في ذلك إذا اقتضى الحال (١يوحنا ٣: ١٦).
    ١٤ «أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ».
    متّى ١٢: ٥٠ ويوحنا ١٤: ١٥، ٢٣
    معنى هذه الآية كمعنى ع ١٠ فارجع إلى شرحها. وذكرها هنا بياناً أنهم هم الأحباء الذين عزم على أن يقيم لهم ذلك البرهان القاطع على محبته لهم. وإيضاحاً أن شرط دوام الصداقة هو الطاعة. فالذي لا يطيع المسيح لا يحبه، وليس له أن يدَّعي صداقته.
    ١٥ «لا أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً، لأنَّ العَبْدَ لا يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لَكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي».
    تكوين ١٨: ١٧ ويوحنا ١٧: ٢٦ وأعمال ٢٠: ٢٧
    لا أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً أي لا أتخذكم مجرد عبيدٍ. وقد سماهم كذلك في يوحنا ١٢: ٢٦ و١٣: ١٨. وكان يحق له ذلك لأنه معلمهم، ولأنه الله. وهم ما زالوا بعد ذلك يسمون أنفسهم عبيداً (رومية ١: ١ ويعقوب ١: ١ و٢بطرس ١: ١ ورؤيا ١: ١) ويطيعون المسيح كما يطيع العبيد سادتهم، ولكن العبيد يطيعون إما خوفاً من العقاب أو طمعاً في الثواب، لكن تلاميذ المسيح يطيعونه من محبتهم له.
    لأنَّ العَبْدَ لا يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ يعرف أوامره، لا الأسباب الموجبة لها.
    سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ هذا يشير إلى محبته لهم، وتقريبه لهم، ونقلهم من منزلة العبيد إلى منزلة الأصدقاء. وسمى الله إبراهيم خليله مجازاة له على إيمانه وأمانته. وقد سمى المسيح تلاميذه بذلك الاسم (لوقا ١٢: ٤) ولقّب لعازر بالحبيب (يوحنا ١١: ١١). ولكنه حقق لهم هنا تلك العلاقة وبقاءها، وأشار بذلك إلى أنهم يكونون من ذلك الحين فصاعداً شركاءه في الأفراح والأحزان، وفي الأتعاب ونتائجها.
    أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا عاملهم معاملة الأحباء بإظهاره لهم أفكاره ومقاصده وكل ما يتعلق بعمل الفداء الذي هم قادرون على قبوله. وهذا لا ينافي ما قاله المسيح في يوحنا ١٦: ١٢، لأن المانع الوحيد من تعليمه إيّاهم كل شيء هو عدم استطاعتهم أن يدركوا منه أكثر مما علَّمهم.
    سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي قصده أن يرسله إلى العالم، ومن جهة حقيقة الملكوت الذي سيقيمه على الأرض، وأن إقامة ذلك بموته وقيامته وشفاعته ومُلكه في السماء.
    ١٦ «لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَل أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ، لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي».
    يوحنا ٦: ٧٠ و١يوحنا ٤: ١٠، ١٩ ومتّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١٦: ٥ وكولوسي ١: ٦ ويوحنا ١٤: ١٣ وع ٧
    لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي هذا من الأدلة على حبه إيّاهم (١يوحنا ٤: ١٠، ١٩ قارن بما في لوقا ٦: ١٣ - ١٦ ويوحنا ٦: ٧٠ و١٣: ١٨ وأفسس ٢: ٤، ٥). وذكر ذلك برهاناً على محبته لهم وجعله سبباً لحب بعضهم بعضاً (ع ١٧). واختارهم المسيح من الخطاة الهالكين ليكونوا ورثة الحياة الأبدية، ومن صيادي السمك ليكونوا رسلاً له، ومن العبيد ليكونوا أحباءه. وكل هذا لمجرد اختياره لهم، لا لاستحقاقهم.
    أَقَمْتُكُمْ بواسطة الصلاة (لوقا ١٢: ١١)، والتعيين (لوقا ١٢: ١٣)، وتعليمه لهم نحو ثلاث سنين، وبهذا الخطاب الوداعي.
    لِتَذْهَبُوا للتبشير بإنجيلي، وللشهادة بصحة دعواي. وكثيراً ما قُرن الذهاب بسرعة العمل والاجتهاد فيه كالقول «اذهبوا وافحصوا» (متّى ٢: ٨). والقول «اذهبوا وتعلموا» (متّى ٩: ١٣ و١٢: ٤٥ و٢٢: ٩، ١٥ و٢٥: ٩، ١٦).
    وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ قصد بالثمر هنا قداسة السيرة، والرغبة في بث بشرى الخلاص لينجو الهالكون من الخطية والشيطان والموت، فيكونوا شركاء الحياة الأبدية. فكل من يختاره المسيح تلميذاً إنما يختاره ليأتي بثمر القداسة. فليس لأحد أن يقول: إن اختارني الله خلصتُ مهما فعلت، لأن الاختيار مشروط بإتيان الشخص المختار بالثمر.
    وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ أي نتيجة أعمالكم الروحية التي صُنعت بأمر المسيح ومساعدة الروح القدس، بخلاف الأعمال الأرضية التي غايتها نفع الأجساد. ومن ذلك الثمر تأسيس الكنيسة، وما كتبوه في الإنجيل لإرشاد الكنيسة إلى نهاية الزمان (يوحنا ٤: ٣٦ ورومية ١٤: ١٣) وما قيل في شأن الرسل يقال في شأن سائر المسيحيين، فالذين اختارهم الله للخلاص اختارهم لخدمة المسيح وكنيسته ليأتوا بثمر لمجده، ولنفع العالم، ولتدوم نتائج أعمالهم إلى الأبد.
    لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي اختارهم المسيح لثلاثة أمور: (١) إتيانهم بثمر. (٢) نوال ما يسألونه في الصلاة وهو متوقف على الأول. فالمقتدر في الصلاة مقتدر في العمل (راجع شرح ع ٧، ٨). ويُستنتج من هذه الآية أن فوائد الاختيار لا تكون إلا بالصلاة، كما أنها لا تكون إلا بالعمل. (٣) سيأتي في الآية ١٩.
    ١٧ «بِهَذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً».
    ع ١٢ ورومية ١٣: ٩، ١٠
    هذه الآية نتيجة ما سبق. فقد أكد محبة الآب لهم، ومحبته هو لهم، وبتسميتهم أحباءه، وباختيارهم رُسلاً. وبنى على كل ذلك وجوب حب بعضهم بعضاً. وهذا تكرار ثالث لوصية المحبة في هذا الخطاب (رومية ١٣: ٨ - ١٠ وغلاطية ٥: ١٤ و١تيموثاوس ١: ٥).

    سبب بغض العالم ليسوع وتلاميذه وشهادة الروح القدس (ع ١٨ - ٢٧)


    ١٨ «إِنْ كَانَ العَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ».
    ١بطرس ٤: ١٢، ١٣ و١يوحنا ٣: ١، ١٣
    غاية المسيح من هذه الآية وما يليها تعزية تلاميذه وتشجيعهم على احتمال الاضطهاد الذي كان لا بد أن يأتي عليهم، فسبق وأعلمهم بحدوثه لكي لا يتعجبوا من وقوعه، وييأسوا به، ولا يتخذوه دليلاً على أنه أصابهم لأنهم يستحقونه، وعلى أن الله تركهم، وأن المسيح نسيهم.
    إِنْ كَانَ العَالَمُ يُبْغِضُكُمْ أي متى أبغضكم العالم.
    قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ هذه التعزية الأولى من تعزيات المسيح لهم في وقت الضيق، وخلاصتها أنه هو قد أصابه قبلهم ما سيصيبهم بعده. والشركة في الآلام توجب الشركة في المسرات (١بطرس ٤: ١٢، ١٣). واختبار المسيح للضيقات يؤكد لهم أنه يشعر معهم في آلامهم، وينقذهم منها، فيشتركون مع المسيح في الشدائد، بسبب علاقتهم الجديدة به. وقد كان المسيح مقدساً فكراً وقولاً وعملاً، وكان يجول يصنع خيراً، وأبغضه العالم أشد البغض. فمن المحال أن العالم يحب أتباعه.
    ١٩ «لَوْ كُنْتُمْ مِنَ العَالَمِ لَكَانَ العَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلَكِنْ لأنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ العَالَمِ، بَل أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ العَالَمِ، لِذَلِكَ يُبْغِضُكُمُ العَالَمُ».
    يوحنا ١٧: ١٤ و١يوحنا ٤: ٥
    في هذه الآية تعزية ثانية لهم في احتمالهم بغض العالم، لأن هذا البغض برهان على أن الله أحبهم واختارهم من العالم وفصلهم عنه. والقول هنا كالقول في متّى ٥: ١٢.
    لَوْ كُنْتُمْ مِنَ العَالَمِ أي دنيويين يحبون لذّات العالم ومجده ويطلبون رضاه، ويشابهونه في مبادئه.
    لَكَانَ العَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ أي المشابهين له في الصفات والأعمال. وعلة حبه لهم أن أقوالهم وأعمالهم لا تبكته على أقواله وأعماله، إنما تمدحه على ذلك وتريح ضميره.
    لأنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ العَالَمِ أي لا تستحسنون مبادئه وغاياته، وتبغضون ما يحبه وتحبون ما يبغضه، ولا شركة لكم معه في لذّاته ومقاصده، ولذلك يعتبركم أجنبيين وأعداء.
    اخْتَرْتُكُمْ مِنَ العَالَمِ لكي تكونوا خراف رعيتي، تتبعون خطواتي وتطلبون تعليمي، وتكونون رعية مملكتي، وحَمَلة صليبي واسمي، مبشرين بإنجيلي (١يوحنا ٣: ١٣). وهنا ثالث الأمور التي اختارهم لأجلها (ع ١٦) وهو فصلهم عن العالم.
    لِذَلِكَ يُبْغِضُكُمُ العَالَمُ لأن أقوالكم وأفعالكم تبكته على أقواله وأفعاله، ولأن الشيطان يحمله على أن يبغضكم.
    ٢٠ «اُذْكُرُوا الكلامَ الَّذِي قُلتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كلامِي فَسَيَحْفَظُونَ كلامَكُمْ».
    متّى ١٠: ٢٤ و لوقا ٦: ٤٠ ويوحنا ١٣: ١٦ حزقيال ٣: ٧
    اُذْكُرُوا الكلامَ الَّذِي قُلتُهُ (يوحنا ١٣: ١٦ ومتّى ١٠: ٢٤ ولوقا ٦: ٤٠). وذكَّرهم المسيح بمعاداة العالم لهم لأنه رآهم يميلون إلى توقع مصادقته، وأنهم عُرضة للعثرة واليأس عند وقوع خلاف ما توقعوا.
    وَإِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كلامِي فَسَيَحْفَظُونَ كلامَكُمْ لكنهم لم يحفظوه. وصدق هذا على أمة اليهود إجمالاً لأنها رفضت تعليم المسيح ورسله. أما الأفراد الذين حفظوا كلام المسيح فكثيرون، متحدون بالمسيح ويشابهونه في الصفات والتعليم، وينتسبون إليه كمسيحيين.
    ٢١ «لَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِكُمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِي، لأنَّهُمْ لا يَعْرِفُونَ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
    متّى ١٠: ٢٢ و٢٤: ٩ ويوحنا ١٦: ٣
    هذا تعزية ثالثة للرسل في مقاساتهم الشدائد.
    هَذَا كُلَّهُ أي من بغض العالم واضطهاده لكم، ورفضه كلامكم.
    مِنْ أَجْلِ اسْمِي أي بسببي، ولأنكم تعترفون باسمي وتشهدون بحقي وصحة دعواي. وقد تعزّى التلاميذ بذلك في أزمنة الاضطهاد (انظر أعمال ٥: ٤١ و٢كورنثوس ١٢: ١٠ وغلاطية ٦: ١٧ وكولوسي ١: ٢٤ وعبرانيين ١١: ٢٦).
    لأنَّهُمْ لا يَعْرِفُونَ الَّذِي أَرْسَلَنِي جهل اليهود أن الله أرسل يسوع، وأنه هو المسيح الموعود به، ولهذا كفروا به وقاوموه هو ورسله بعد ذلك. فكما أنهم لم يعلموا أن الله أرسل يسوع، لم يعرفوا أن المسيح أرسل التلاميذ. وجهل اليهود أمر المسيح ورسله كان إثماً عظيماً لأنهم لم يريدوا أن يعرفوا الحق، وأغمضوا عيونهم عن الأدلة على صحة دعوى المسيح (أعمال ٣: ١٧ و١٣: ٢٧ و٢٨: ٢٠ و٢٥ - ٢٧ و ١كورنثوس ٢: ٨ و٢كورنثوس ٣: ١٤)
    ٢٢ «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ».
    يوحنا ٩: ٤١ رومية ١: ٢٠ ويعقوب ٤: ١٧
    هذا يبيّن أن جهل اليهود كان خطية عليهم لا عذراً لهم.
    لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ أشار بذلك إلى تصريحه بأنه «مرسَلٌ من الله» وأنه «ابن الله» فهو المسيح. وثبت هذا بمعجزاته الكثيرة الواضحة، وبصلاح تعليمه وقداسة سيرته.
    لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ أي لم يرتكبوا تلك الخطية وهي رفض أن يسوع هو المسيح. وهذه الخطية كانت أعظم كل خطايا اليهود، وحسبها الله عصياناً له، وكانت سبب رفض الله أن يكونوا له شعباً وانتقامه منهم بإخراب مدينتهم وهيكلهم وتشتيتهم في العالم، علاوة على عقابهم في العالم الآتي (يوحنا ٩: ٤١ ومتّى ٢٣: ٣٤ - ٣٩ و٢٧: ٢٥). ولم يقصد المسيح أنه لو لم يأت لكان اليهود إبراراً، بل قصد أنهم كانوا أقل إثماً، لأن إثم الإنسان يزيد جرماً بزيادة معرفته (متّى ١١: ٢٠ - ٢٤ ولوقا ١٢: ٤٧، ٤٨).
    فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ هذا مثل قوله سابقاً «هَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى العَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ.. لأنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ، ولا يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئلا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ» (يوحنا ٣: ١٩، ٢٠).
    ٢٣ «اَلَّذِي يُبْغِضُنِي يُبْغِضُ أَبِي أَيْضاً».
    مزمور ٦٩: ٩ ورومية ١٥: ٣ و١يوحنا ٢: ٢٣
    (انظر شرح يوحنا ٥: ١٩ - ٢٦ و١٤: ٧، ٨). أظهر رفض اليهود للمسيح بغضهم إيّاه لا جهلهم فقط، وأظهر أيضاً بغضهم لأبيه الذي أرسله وتكلم بفمه. ومن المحال نظراً للاتحاد الكلي بين الآب والابن أن نحب الواحد ونكرمه دون الآخر، وأن نبغض الواحد ونستهين به دون الآخر.
    ٢٤ «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي».
    يوحنا ٣: ٢ و٧: ٣١ و٩: ٣٢
    لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً كان على اليهود أن يقتنعوا بكلام المسيح فلم يقتنعوا (ع ٢٢). وقد أجرى المسيح المعجزات بينهم ليقنعهم بصحة دعواه فلم يقتنعوا، فارتكبوا إثماً فوق إثم. وقد قال المسيح إن معجزاته تشهد له (يوحنا ٥: ٣٦ و٩: ٣، ٤، ٢٤ و١٠: ٢١، ٣٧ و١٤: ١٠) لكنهم رفضوها بدعوى أنه صنعها بقوة رئيس الشياطين (متّى ١٢: ٢٥) وأنه «خاطئ» (يوحنا ٩: ٢٤).
    لَمْ يَعْمَلهَا أَحَدٌ غَيْرِي أي لم يأت نبي أو رسول بمثلها في الكثرة، وبالقوة الذاتية، وتوقفها على مجرد أمره بها، وفي أنها أحياناً على البُعد كما فعل المسيح. فليس معناه أن كل معجزة صنعها أعظم من كل معجزة صنعها موسى أو إيليا أو غيرهما من الأنبياء، فالفرق العظيم، وهو أن أولئك صنعوا المعجزات بقوة الله بينما صنعها المسيح بقوة نفسه.
    رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي في ع ٢٢، ٢٣ أظهر اليهود بغضهم للمسيح وللآب برفضهم كلامه. وأبان المسيح أنهم أظهروا مثل ذلك برفضهم شهادة أعماله.
    ٢٥ «لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الكَلِمَةُ المَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلا سَبَبٍ».
    مزمور ٣٥: ١٩ و٦٩: ٤
    قصد المسيح في هذه الآية أن لا عجب من رفض اليهود إيّاه لسبق الإنباء بذلك في الكتاب.
    لِكَيْ تَتِمَّ الكَلِمَةُ ما قيل في المزامير عن داود الذي هو رمز إلى المسيح، تمَّ بالمسيح المرموز إليه. ولم يتضح المراد من هذا الاقتباس. فهل أراد به مضمون كل أقوال المزامير على داود والمسيح؟ أو هل أراد بذلك آيات بعينها مثل ما في مزمور ٣٥: ١٩ و٦٩: ٤؟
    المَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ أي العهد القديم. ونسب المسيح الناموس إلى اليهود لأنهم افتخروا به، وهو يشهد عليهم ويدينهم.
    أَبْغَضُونِي بِلا سَبَبٍ لأنه لم يخالف الناموس قط، ولم يعتدِ على أحد من الناس، ولم يعصَ الحكومة، لكنه جال يفعل خيراً، وعلَّم الناس الأمور السماوية، واجتهد في أن ينفع الكل ويخلّص الكل، وفعل ما لا يُحصى مما يجعل الناس يحبونه ويكرمونه، ولم يفعل ما يبرر بغضته وإهانته. فالذين لا يكترثون اليوم بالمسيح الذي مات من أجلهم ويهملون دعواه ودعوته يشبهون اليهود الذين أبغضوه بلا سبب.
    ٢٦ «وَمَتَى جَاءَ المُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي».
    لوقا ٢٤: ٤٩ ويوحنا ١٤: ١٧، ٢٦ و١٦: ٧، ١٣ وأعمال ٢: ٣٣ ١يوحنا ٥: ٦
    ما سبق من كلام المسيح عن عمى اليهود برفضهم شهادة كلامه وأعماله، جعل التلاميذ يحزنون وييأسون، فعزّاهم وأحيا رجاءهم بتبشيره بمجيء شاهد آخر يُبكم بعض المقاومين، ويقنع البعض (انظر شرح يوحنا ١٤: ١٦).
    الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا لا أحد ينال موهبة الروح القدس إلا بواسطة المسيح (يوحنا ١٤: ١٦).
    رُوحُ الحَقِّ (انظر شرح يوحنا ١٤: ١٧).
    الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ أي يخرج، لأن الآب هو الأصل في عمل الفداء. وليس هذا بياناً لجوهر الروح القدس، بل بيان لوظيفته، وهي أنه خرج من الآب ليشهد للابن. فإذاً شهادته كشهادة الآب تستحق كل الثقة.
    فَهُوَ يَشْهَدُ لِي هذا كما في ١يوحنا ٥: ٦. جرى ذلك أولاً في يوم الخمسين إذ شهد بصحة دعوى المسيح حتى آمن به ألوف. وكانت كل انتصارات الإنجيل بواسطة هذا الروح، منذ ذلك الوقت إلى الآن، وسيكون كذلك إلى أن تجثو باسم يسوع كل ركبة، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب. ويشهد الروح القدس للمسيح في قلب الإنسان ليجهزه لقبول شهادة المسيح (أعمال ٢: ٣٧) وكانت شهادته أيضاً بالمعجزات التي صنعها الرسل، وبالمواهب التي أعطاها لهم (أعمال ٢: ٤، ٤٣ و٤: ٣١ و٥: ١٢).
    ٢٧ «وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً لأنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ».
    لوقا ٢٤: ٤٨ وأعمال ١: ٨، ٢١، ٢٢ و٢: ٣٢ و٣: ١٥ و٤: ٢٠، ٣٣ و٥: ٣٢ و١٠: ٣٩ و١٣: ٣١ و١بطرس ٥: ١ و٢بطرس ١: ١٦ لوقا ١: ٢ و١يوحنا ١: ١، ٢
    وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بأني أنا المسيح (لوقا ٢٤: ٤٨ ، ٤٩ وأعمال ١: ٨). وشهادتهم ليست غير شهادة الروح القدس، فالشهادتان واحدة، والاختلاف باعتبار الشاهد فقط. فالروح شاهد إلهي والرسل شهود بشريون. وبعض شهادتهم في أعمال ١ - ٧، ومنها القول «وَلَمَّا صَلَّوْا تَزَعْزَعَ المَكَانُ الَّذِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهِ، وَامْتلأ الجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِكلامِ اللَّهِ بِمُجَاهَرَةٍ. وَبِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ كَانَ الرُّسُلُ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ بِقِيَامَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ» (أعمال ٤: ٣١، ٣٣). وقول الرسل «وَنَحْنُ شُهُودٌ لَهُ (أي للمسيح) بِهَذِهِ الأُمُورِ، وَالرُّوحُ القُدُسُ أَيْضاً» (أعمال ٥: ٣٢). وبعضها في سائر مواعظهم وكتاباتهم في البشائر والرسائل.
    لأنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ أي من بدء خدمته (متّى ٤: ١٧ - ٢٢ وأعمال ١: ٢١، ٢٢). فإنه قضى معهم ما يزيد على ثلاث سنين يشاهدون سيرته الطاهرة ومعجزاته، ويسمعون تعليمه، ويستعدون للشهادة له بعد حلول الروح القدس عليهم. لكن رغم كل ما سمعوه من أحاديثه النفيسة وشاهدوه من أعماله العجيبة سكتوا وقت محاكمته، وكان يجب عليهم وقتئذ أن يشهدوا له. بل إن واحداً منهم أنكره. ولكن لما حل الروح القدس عليهم في يوم الخمسين وما بعده شهدوا له بأمانة وشجاعة.
    وفي هذا الأصحاح بيان علاقة التلاميذ بالمسيح، وهي اتحادهم به كاتحاد الأغصان بالكرمة، وأنهم أحباؤه وشهود له. وفيه علاقة بعضهم ببعض، وهي أنهم يحبون بعضهم بعضاً. وعلاقتهم بالعالم وهي أنه يبغضهم.


    الأصحاح السادس عشر


    الخطاب الوداعي: إنباء يسوع تلاميذه بالاضطهاد وبإرساله الروح القدس وبقيامته وصعوده وإجابة طلباتهم


    ١ «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ لا تَعْثُرُوا».
    يوحنا ١٥: ١٨ - ٢٨ متّى ١١: ٦ و٢٤: ١٠ و٢٦: ٣١
    بِهَذَا أي بُغض العالم لكم، ومجيء المعزي. وكرر ذلك هنا للتقرير والإيضاح.
    لِكَيْ لا تَعْثُرُوا أي لئلا يضعف إيمانكم وتجزعوا عند حلول المصائب بكم. ويتبين من لوقا ٢٤: ٢١ أن النوازل تعرضهم للعثرات، فأنبأهم بوقوعها لكي لا تقع عليهم بغتة فتغلبهم. وتعريفه لهم بها يمنعهم من الشك فيه، ويؤكد لهم أنه إله يعرف الغيب. وأنبأهم بحلول الروح القدس لأنه أعظم واسطة لوقايتهم من السقوط.
    ٢ «سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ المَجَامِعِ، بَل تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلَّهِ».
    يوحنا ٩: ٢٢، ٣٤ و١٢: ٤٢ أعمال ٨: ١ و٩: ١ و٢٦: ٩
    سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ المَجَامِعِ خص ذلك بالذكر لأنه أعظم المصائب وقتئذ، وقد ذكرنا تلك الأهوال والنوازل في شرح يوحنا ٩: ٢٢. وذكر وقوعه في أعمال ٦: ١٣، ١٤ و٩: ٢٣، ٢٤ و١٧: ٥ و٢١: ٢٧ - ٣١. ومما زاد ذلك هولاً وشدة أنه لا يأتي عليهم من الوثنيين أو الكفرة، بل من رؤساء ديانتهم، وقد جرى هذا لمعلمهم، فلا عجب إن جرى معهم.
    سَاعَةٌ أي وقت. ويعبّر في الكتاب بالساعة عن وقت قصير عينه الله أو أنبأ به.
    يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ لا بُغض كالبغض المبين على اختلاف الدين، ولا اضطهاد كالاضطهاد الذي يأتيه المضطهِد ظناً أنه من فروض الدين فيقسو قلبه حتى لا يشفق على المضطهَد، ويحسب نفسه نائب الله في الانتقام والمحاماة عن الحق. وعلى هذا اضطهد شاول الطرسوسي كنيسة المسيح بدليل قوله «فَأَنَا ارْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَصْنَعَ أُمُوراً كَثِيرَةً مُضَادَّةً لِاسْمِ يَسُوعَ النَّاصِرِيّ» (أعمال ٢٦: ٩ - ١١). وعليه اضطهد اليهود المسيحيين إذ حسبوا قولهم إن المسيح ابن الله تجديفاً وتعليمه منافياً لتعليم موسى ومهيناً للهيكل والعبادة فيه (أعمال ٦: ١٣، ١٤ و٢١: ٢٨ - ٣١). وما جاء في يوحنا ١٥ في هذا الشأن بيّن شدة بُغض المضطهِدين، وأظهر شدة آلام المضطهَدين.
    ٣ «وَسَيَفْعَلُونَ هَذَا بِكُمْ لأنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الآبَ ولا عَرَفُونِي».
    لوقا ٢٣: ٣٤ ويوحنا ١٥: ٢١ وأعمال ٣: ١٧ ورومية ١٠: ٢ و١كورنثوس ٢: ٨ و١تيموثاوس ١: ١٣
    ذلك علة ما ارتكبوه من الاضطهاد، وقد سبق مثل ذلك في يوحنا ١٥: ٢١، فراجع الشرح هناك وانظر أيضاً لوقا ٢٣: ٣٤ وأعمال ٣: ١٧. وقال بولس عن نفسه إنه اضطهد المسيحيين لجهالته (١تيموثاوس ١: ١٣).
    لأنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الآبَ ولا عَرَفُونِي فلو عرفوا الآب حق المعرفة لعرفوا الابن أيضاً. وأن يسوع مرسَل منه، وأن تعليمه حق. ولو عرفوهما لعرفوا أن ما ارتكبوه من الاضطهاد كان مقاومة لكليهما، وأنه لا يُرضي الآب ولا الابن، وأنه مضاد لإرادتهما (لوقا ٩: ٥٤ - ٥٦).
    ٤ «لَكِنِّي قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلتُهُ لَكُمْ. وَلَمْ أَقُل لَكُمْ مِنَ البِدَايَةِ لأنِّي كُنْتُ مَعَكُمْ».
    يوحنا ١٣: ١٩ و١٤: ٢٩ متّى ٩: ١٥ ويوحنا ١٨: ٨
    غاية هذه الآية كغاية الآية الأولى، وهي وقاية التلاميذ من العثرات.
    بِهَذَا أي وقوع الاضطهاد ومجيء المعزي.
    تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلتُهُ لَكُمْ لأنهم لو خرجوا للتبشير بالمسيحية وانتظروا أن العالم يرحب بهم ويكرمهم لشكوا في صدق دعوى المسيح عند وقوع الاضطهاد. ولكن بذكرهم أن المسيح سبق وأنبأهم بذلك الاضطهاد يتقوى إيمانهم لأنه يعرف الغيب، ويذكرون بذلك مواعيد التعزية لهم (يوحنا ١٣: ١٩ و١٤: ٢٩).
    وَلَمْ أَقُل لَكُمْ مِنَ البِدَايَةِ أي من بدء خدمته. نعم إنّه أخبرهم بشيء من تلك الاضطهادات في متّى ٥: ١٠ و٩: ١٥ و١٠: ١٦. ولكن لم يوضحه كما أوضحه هنا، ولم ينبئهم بها مع إنبائه بذهابه عنهم. وهذا مما زاد الاضطهاد هولاً. ولم يخبرهم من البدء بمجيء الروح القدس ليقويهم ويعزيهم.
    لأنِّي كُنْتُ مَعَكُمْ المعنى أن المسيح لم يشغل وقته قبلاً بأن ينبئ الرسل بالاضطهادات وذهابه عنهم ومجيء الروح القدس، لأنهم كانوا محتاجين إلى ما هو أهم منه حينئذٍ، ولم يكونوا مستعدين لهذا، ولم تكن أحوالهم تقتضيه. فما دام معلمهم معهم يكونون غير محتاجين إلى أن يسمعوا نبأ مجيء معلم آخر، فهو معهم يعزيهم ويقويهم فلا يحتاجون إلى معزٍّ آخر.
    ٥ «وَأَمَّا الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي أَيْنَ تَمْضِي».
    يوحنا ٧: ٣٣ و١٣: ٣ و١٤: ٢٨ وع ١٠، ١٦
    قال له بطرس في أول الخطاب «يَا سَيِّدُ، إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» (يوحنا ١٣: ٣٦). لكن المسيح لم يهتم بالإجابة، لأن بطرس أراد بسؤاله أن يقنعه بالعدول عن المضي، أو أن يأذن له في الذهاب معه. فلم يقصد معرفة المكان الذي قصد الذهاب إليه ليشارك المسيح في فرحه برجوعه إلى مجده. أو أنه قصد أنه لم يسأله أحد ذلك في الوقت الذي تكلم فيه بهذا.
    ٦ «لَكِنْ لأنِّي قُلتُ لَكُمْ هَذَا قَدْ ملَأ الحُزْنُ قُلُوبَكُمْ».
    يوحنا ١٤: ١، ٢٢
    انتبهوا لإنبائه بالذهاب عنهم وما يصيبهم من الخسارة بذلك، فاشتد عليهم الحزن ولم يلتفتوا إلى التعزية التي يستطيعون نوالها من معرفة المكان الذي هو ذاهب إليه، ومعرفة غايته من ذلك الذهاب. ولم يظنوا أنه ذاهب إلى حضرة أبيه في السماء ليتمجد بمجده الأصلي، وليرسل إليهم الروح القدس.
    ٧ «لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الحَقَّ، إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لا يَأْتِيكُمُ المُعَزِّي، وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ».
    يوحنا ٧: ٣٩ و١٤: ١٦، ٢٦ و١٥: ٢٦ أعمال ٢: ٣٣ وأفسس ٤: ٨
    لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الحَقَّ هذا كقوله «الحق الحق أقول لكم» ليزيل الشكوك من قلوبهم ويجعل كلامه مؤثراً فيهم، وذلك ليبدِّل حزنهم على مفارقته إيّاهم بالفرح. وذكر وسيلة ذلك أمرين: (١) في آية ٧، و(٢) في آيات ٨ - ١١. وقد رأينا تأثيرهما بما نالوه بعد صعود المسيح إلى السماء، في القول أنهم «رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ» (لوقا ٢٤: ٥٢).
    خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ وذلك لأمرين: (١) أن ذهابه ضروري لإتيان الروح القدس. (٢) أنه بواسطة ذهابه أي موته وتعليم الروح القدس في شأن ذلك يفهم التلاميذ ما لم يفهموه قبلاً من المقصود من مجيء المسيح وغاية ملكوته. والانطلاق المذكور هنا هو ذهابه إلى أبيه بموته وصعوده ليتمجد هناك (يوحنا ١٤: ٢، ٣، ١٢، ٢٨ ويوحنا ١٦: ٢٨).
    لأنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لا يَأْتِيكُمُ المُعَزِّي فما قاله هنا في علاقة تمجيده بمجيء الروح القدس مثل ما ذُكر في يوحنا ٧: ٣٩. فلا يلزم منه أن الروح القدس لم يأت الكنيسة قبلاً، فمراده أن ذلك الروح لم يكن قد وُهب بمقدار ما وُهب بعد موت المسيح وصعوده. فحلول الروح القدس بعد ذلك جعل للكنيسة عصراً جديداً. ووقت ذلك الحلول بدء «الأيام الأخيرة» التي أنبأ بها يوئيل النبي (يوئيل ٢: ٢٨ - ٣٠).
    لم يبين المسيح أن ذهابه ضروري لإتيان المعزي، ولعلها مجرد إرادة الله الآب، أو لعلها أن العالم لا يكون مستعداً لقبول المعزي إلا بعد إتمام المسيح لعمل الفداء من تجسده وتعليمه وموته وصعوده. وأنه كان صعباً أن يرجع اليهود عن توقعهم أن المسيح يكون ملكاً أرضياً ما لم يمُت فييأسوا من ذلك. وكان حلول الروح القدس جزءاً عظيماً من تمجيد المسيح، وهذا لا يتم إلا بعد نهاية تواضعه وموته. وكان خيراً للتلاميذ أن يذهب المسيح عنهم، لأنه لو بقي معهم لظلوا متكلين على حضوره الظاهر وناسوته، فلا يتقدَّمون في سبيل الإيمان.
    وخيرٌ لكل المسيحيين أن ينطلق المسيح لأنه لو لم ينطلق لم يكن حبرهم العظيم في السماء يشفع فيهم كما يشفع الآن.
    وخيرٌ للكنيسة، لأنه لو بقي على الأرض إلى أن تتسع الكنيسة وتمتد إلى أقاصي الأرض لاحتاجت إلى حضوره بالجسد في كل من تلك الأقاصي في وقت واحد، وذلك محال. وأما الروح القدس فيمكنه ذلك لأنه ليس بمادة. والخلاصة أنه خير للكنيسة أن تنال حضور الروح القدس الذي هو في كل مكان غير منظور من أن يدوم المسيح معها متجسداً منظوراً، وأنه لا بد من إكمال عمل المسيح قبل أن يبدأ الروح القدس عمله المبني على ذلك.
    ٨ «وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ العَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ».
    في هذا العدد شرح لعمل الروح، وأن ذهاب المسيح خير من بقائه لأنه وسيلة لمجيء الروح.
    مَتَى جَاءَ ذَاكَ لا يلزم من ذلك أنه لم يكن في العالم قبلاً، لأنه لا يتوب خاطئ ويؤمن إلا بواسطة تأثيره. لكنه حل بعد صعود المسيح بقوة أعظم من ذي قبل، وبعلامات ظاهرة كما كان في يوم الخمسين.
    يُبَكِّتُ العَالَمَ أي أهل العالم المقاومين للمسيح (يوحنا ١: ١٠ و١٢: ٣١). وأشار بالعالم هنا إلى اليهود خاصة، لكنه صدق بعد ذلك على أكثر الأمم. ولم يُشر المسيح هنا إلى فعل الروح القدس في أفراد الناس، لأن ذلك فعله على الدوام. إنما أشار إلى تأثيره العظيم في الجماعات التي رفضت المسيح وقاومته. وهذا التأثير حجز مقاومة الأعداء والتخويف من عاقبة تلك المقاومة وتغيير آرائهم في أمر دعواه. وكان هذا التأثير علة نجاح الإنجيل بين اليهود أولاً، ثم بين الأمم، ويسجل لنا سفر أعمال الرسل تاريخ ذلك. ومعنى «يبكت» يوبخ أو يلوم، والمقصود منه أنه ينبه ضمائر الناس ويقنعهم بخطئهم في حكمهم على يسوع، ويحثهم على تغيير ذلك الحكم. وتكون نتيجة ذلك إيمان بعض الناس وخلاصهم، وقسوة قلوب بعضهم وكفرهم وهلاكهم (٢كورنثوس ٢: ١٥، ١٦).
    عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ هذه ثلاثة أمور يبكت الروح القدس الناس عليها. ولا يستطيع أحد أن يحكم في هذه الأمور بالصواب إلا بواسطة فعل الروح القدس فيه. وأساس تبكيت الروح الناس عليها ما جرى في عمل الفداء.
    ٩ «أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بِي».
    أعمال ٢: ٢٢ - ٢٧ و١كورنثوس ١٢: ٣ و١يوحنا ٥: ١٠
    أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بِي أي أن الروح القدس يقنع الناس بأنهم ارتكبوا أعظم الخطايا برفضهم أن يسوع هو ابن الله. وهذه الخطية تتضمن سائر الخطايا لأنها رفض الآب الذي أرسله، ولأنها بيَّنت شر قلوبهم فإن رفضهم ليسوع رفضٌ لنور العالم وتفضيلٌ للظلمة على النور (مرقس ١٦: ١٦ ويوحنا ٣: ١٩، ٣٦ و١٢: ٤٤ و١يوحنا ٥: ١٠ - ١٢). وهذه الخطية أدت بهم إلى قتلهم مسيحهم، ووضعهم دم ابن الله على نفوسهم. وجعل الرسل هذه الخطية موضوع تعليمهم وتوبيخهم اليهود. واتخذها الروح القدس منخساً ينخس به قلوبهم، ووسيلة إلى توبة كثيرين منهم وفق القول «فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَأَلُوا بُطْرُسَ وَسَائِرَ الرُّسُلِ: «مَاذَا نَصْنَعُ» (أعمال ٢: ٣٧ انظر أيضاً أعمال ٣: ١٣ - ١٥ و٤: ١٠، ٢٦ - ٢٨). وفي ذلك تحقيق النبوة في قوله «وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ النِّعْمَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، الَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ» (زكريا ١٢: ١٠).
    ولم يزل رفض المسيح أعظم الآثام على كل إنسان لأنه يمنعه من نوال مغفرة خطاياه، فالإيمان بالمسيح شرطُ كل مغفرة. ورفض المسيح كفر بالنعمة، يبطل كل ما فعله الآب والابن والروح القدس لأجل خلاص من يرفض.
    وتبكيت الروح القدس للناس ضروري لإقناعهم بأن عدم إيمانهم بالمسيح خطية عظيمة لأنهم يحسبون تعدي إحدى الوصايا العشر إثماً فظيعاً يوجب الدينونة، وأما ذلك فيعدونه خطأ زهيداً لا يُعبأ به.
    ١٠ «وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ فَلأنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي ولا تَرَوْنَنِي أَيْضاً».
    يوحنا ٣: ١٤ و٥: ٣٢ وأعمال ٢: ٣٢ ورومية ٣: ٢٥، ٢٦
    وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ أي سبب برّ يسوع المسيح. فإن اليهود اتهموه بأنه مخادع (يوحنا ٩: ٢٤). وحكموا عليه بأنه مجدف (مرقس ١٤: ٦٤). وشكوه إلى بيلاطس مدعين أنه مستوجب الموت (يوحنا ١٨: ٣٠، ٣١) فالروح القدس بكّتهم بعد صعود المسيح على برّه، كما بكتهم على خطيتهم. ولا شك أن الروح القدس كان يقنع اليهود أن البرّ الذي اتكلوا عليه (أي بر الناموس) غير كافٍ للخلاص، وهو يقنع جميع الناس أن تبريرهم بالأعمال الصالحة محال، وأن الجميع يهوداً وأُمماً يحتاجون إلى الإيمان ببرّ المسيح. ولكن هذا غير المقصود في هذه الآية. وقد أوضحه بولس الرسول في رومية ٣: ٢٠ - ٢٦ و٤: ١ - ٢٥.
    فَلأنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي قال المسيح إن الروح القدس يقنع اليهود ببره بعد ذهابه إلى أبيه في السماء. ونجد ذلك في المعجزات التي حدثت عند موته فجعلت القائد الروماني يقول «بِالحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!» (لوقا ٢٣: ٤٧). كما نجده في قيامته التي هي أعظم المعجزات، ونجده في المعجزات التي صنعها رسله إثباتاً لبره. ونجده في تأثيره في قلوب الذين سمعوا وعظ الرسل وهم يتكلمون عن بره وخطيتهم (أعمال ٢: ٢٢ - ٢٤ و٣: ١٤ و٧: ٥٢ و١٧: ٣١ ورومية ١: ٤ و١بطرس ٣: ١٨).
    ولا تَرَوْنَنِي أَيْضاً لا يرونه ثانية على الأرض إلا يوم الدين عند مجيئه ثانيةً. وأما حضور الروح القدس فيقنع الناس بخطيتهم وبره أكثر مما يقنعهم المسيح بحضوره في الجسد وبتعليمه اللفظي.
    ١١ «وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأنَّ رَئِيسَ هَذَا العَالَمِ قَدْ دِينَ».
    لوقا ١٠: ١٨ ويوحنا ١٢: ٣١ وأعمال ٢٦: ١٨ وأفسس ٢: ٢ وكولوسي ٢: ١٥ وعبرانيين ٢: ١٤.
    الذي يوضح معنى هذا الكلام قول المسيح سابقاً «اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا العَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا العَالَمِ خَارِجاً» (يوحنا ١٢: ٣١ انظر شرحها). كان الشيطان هو الذي يحث العالم على رفض المسيح وقتله (يوحنا ٨: ٤٠، ٤١) فتبرير المسيح دينونة الشيطان.
    كان موت المسيح على الصليب واسطة فداء العالم وانقلاب مملكة الشيطان وإقامة ملكوت المسيح الروحي، لأن الروح القدس جعل التبشير بذلك الموت وسيلة إلى تلك الأعمال العظيمة. ونجاح الإنجيل منذ يوم الخمسين إلى الآن كان دينونة للشيطان وإبطالاً لقوته، وهو دينونة لكل من يشاركه في مقاومته للمسيح، وهو مقدمة الدينونة الأخيرة حين يُغلب الغلبة التامة.
    وكل خاطئ يتوب ويؤمن بالمسيح يدين الشيطان بتركه خدمته. وكل صنم مكسور وكل هيكل وثني مهدوم شاهد بأن رئيس العالم قد دين.
    ١٢ «إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأقُولَ لَكُمْ، وَلَكِنْ لا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ».
    مرقس ٤: ٣٣ و١كورنثوس ٣: ٢ وعبرانيين ٥: ١٢
    أُمُوراً كَثِيرَةً هي ما أشار إليه في الآية بقوله «جميع الحق». وكُتبت في أعمال الرسل وفي رسائلهم لأنها نتيجة تعليم الروح القدس إيّاهم المبني على أقوال المسيح نفسه، ولا سيما موعظته على الجبل. وأمثلة تلك الأمور التي لم يستطع الرسل أن يحتملوها في وقتها بإيقاف الذبائح الموسوية والكهنوت اللاوي، وإبدال السبت بالأحد، ورفض الله أمة اليهود أن تكون شعبه الخاص، وإدخال الأمم إلى المشاركة في حقوق الإنجيل. والأرجح أن المسيح جعل تلك الأمور وأمثالها موضوع تعليمه لرسله في الأربعين يوماً التي صرفها معهم بين صعوده وقيامته وهو «يتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله».
    لا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ معظم علة ذلك آراؤهم اليهودية في شأن المسيح وملكوته التي لا يمكن استئصالها إلا بموته وصعوده عنهم، وسكبه الروح القدس عليهم. ويتضمن قوله «لا تستطيعون الآن» وعداً بأنهم يستطيعون ذلك بعد حلول الروح القدس الذي سيعلمهم كل ما هو ضروري للكنيسة في كل حين، فلا تبقى حاجة إلى تعليم جديد في عصورها الآتية ولا يُنتظر.
    ١٣ «وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الحَقِّ، لأنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَل كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ».
    يوحنا ١٤: ١٧ و١٥: ٢٦ ويوحنا ١٤: ٢٦ و١يوحنا ٢: ٢٠، ٢٧ رؤيا ١: ١ - ١٠ و٢٢: ١٦، ١٧
    رُوحُ الحَقِّ (انظر شرح يوحنا ١٤: ١٧). المسيح هو «الحق» (يوحنا ١٤: ٦) فالروح القدس يأخذ مما للمسيح ويخبر الناس به (ع ١٤).
    يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الحَقِّ المختص بدين المسيح مما يجب أن تقبلوه وتعلّموه لغيركم. وفي ذلك وعد لهم بأن يكونوا مُلهَمين ليؤسسوا كنيسته ويضعوا لها القوانين الضرورية لعقيدتها وأعمالها مما علمهم هو، فالروح القدس يقدرهم على أن يذكروها ويفهموها ويعلّموها. فإذاً لا حقَّ للكنيسة أن تتوقع تعليماً جديداً بعد الرسل لأنهم وُعدوا «بجميع الحق».
    لأنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ أي لا يأتي بتعليم ليس من تعليم الآب والابن، فإنه موافق لهما في الرأي والكلام. وكلام المسيح عن الروح ككلامه عن نفسه، أي لم يعلّم إلا ما علّمه الآب (يوحنا ٧: ١٦ و١٢: ٤٩ و١٤: ٢٤).
    كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ السمع هنا كناية عن نقل الحديث، فالمعنى أن الروح يأخذ تعليمه من الآب والابن في ما يختص بعمل الفداء (انظر شرح يوحنا ٥: ٣٠).
    وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ أي بما يحدث في الكنيسة بعد تعليمه لهم. ومن أمثلة ذلك أن الروح يبيِّن لهم الغاية من موت المسيح، وسبب التغييرات في الكنيسة اليهودية من إلغاء الذبائح وغيرها من الطقوس، ومن دعوة الأمم، وتشتّت اليهود (انظر أفسس ٤: ٧ - ١٦). وألهم الروح القدس الرسل علاوة على ذلك أن يتنبأوا بأمور مستقبليَّة تتعلق بالكنيسة والعالم (أعمال ١١: ٢٨ و٢٠: ٢٩ و٢١: ١١ و١تيموثاوس ٤: ١ - ٣ و٢تيموثاوس ٣: ١ - ١٣ وسفر الرؤيا كله).
    ١٤ «ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ».
    ٢كورنثوس ٣: ١٧، ١٨
    ذَاكَ يُمَجِّدُنِي هذا وعد بعمل ثالث من أعمال الروح (الأول والثاني في ع ١٣). والتمجيد المقصود هنا هو تمجيد المسيح أمام عيون الناس على الأرض، لأن مجده في السماء ظاهر لا يحتاج إلى إظهار الروح إيّاه. والمعنى أن الروح القدس يبرئ اسم المسيح مما وقع عليه من العار والتهم الباطلة، ويرفع شأنه وصيته، وشأن تعليمه وعمله. فكل تعليم ديني لا يعظم يسوع بأنه مخلّص إلهي ووسيط وحيد ورئيس أحبار ليس من الروح القدس.
    يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ هذا وعد بعمل رابع من أعمال الروح القدس. ومعنى قوله «مما لي» كلامي وعملي لفداء العالم. فكما أن الرسول يأخذ التعليم عن مرسِله، كذلك يأخذ الروح عن المسيح لإجراء مقاصد المسيح في سبيل الخلاص. وينتج من ذلك أن موضوع تعليم الروح القدس الخاص هو يسوع المسيح. فيجب على الواعظين أن يكون هو موضوع تعليمهم.
    وَيُخْبِرُكُمْ أي يفهمكم معنى ما يأخذه عني ويجعله يؤثر فيكم، إذ يأخذ الروح القدس ما في إنجيل المسيح من مواعيد وإنذارات وتعاليم ويجعلها مؤثرة في قلوب الناس، تأتي بهم إلى الإيمان والتوبة والقداسة ( ١كورنثوس ١٢: ٣). وكان هذا الوعد للرسل وتحقق في يوم الخمسين، إذ اتسعت معرفتهم الروحية كثيراً. وهذا الوعد هو للمسيحيين في كل عصر، لأن الروح ينير عقولهم، ويقيهم من الضلال، ويقدِّرهم على معرفة الحق والتبشير به.
    ١٥ «كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهَذَا قُلتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ».
    متّى ١١: ٢٧ ويوحنا ٣: ٣٥ و١٣: ٣ و١٧: ١٠
    قال هذا تفسيراً لقوله «مما لي» في الآية السابقة وبياناً لاتفاقهما في التعليم، وأن كل ما للواحد هو للآخر، فكلاهما يأخذ من كنز الحق الواحد. ويصح أن يعني أن مجد الابن هو مجد الآب ومجد الآب هو مجد الابن، بحسب القول «لِمَعْرِفَةِ سِرِّ اللَّهِ الآبِ وَالمَسِيحِ، المُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الحِكْمَةِ وَالعِلمِ» (كولوسي ٢: ٢، ٣ وأيضاً كولوسي ١: ١٢ ومتّى ١١: ٢٧). ولنا في هذه الآية ما يُثبت سر التثليث، وفيها أن الآب معلَنٌ بالابن، وأن الروح القدس يقدِّر الناس أن يفهموا ويقبلوا هذا الإعلان.
    ١٦ «بَعْدَ قَلِيلٍ لا تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي، لأنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ».
    يوحنا ٧: ٣٣ و١٣: ٣٣ و١٤: ١٩ وع ١٠، ٢٨ ويوحنا ١٣: ٣
    بَعْدَ قَلِيلٍ أي بعد ساعات من يومٍ واحدٍ قبل موته (يوحنا ١٤: ١٩).
    لا تُبْصِرُونَنِي لا بالعيون الجسدية ولا بعين الإيمان، لأني أُحجب عنكم في القبر ثلاثة أيام. وهذه المدة أشد ظلاماً من كل مدة في تاريخ العالم. وسبب عدم رؤيته بعين الإيمان وقتئذ أن إيمانهم ضعف حتى كان يفنى.
    بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي بدأت تلك الرؤية يوم قيامته وتدوم إلى الأبد، لأنه قام وظهر لعيونهم الجسدية أربعين يوماً. وبعد إتيان المعزي رأوه بعين الإيمان إذ كان حاضراً بالروح مع كنيسته، وسوف يرونه في مجيئه الثاني، ثم يرونه إلى الأبد في السماء (يوحنا ١٤: ١٩).
    لأنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ لكي أرسل إليكم المعزي كما قلت في الآية السابقة. وهذا يوضح كل الكلام عن ذهابه ورجوعه ونظرهم إيّاه واحتجابه عنهم. والأمر ذو الشأن هو ليس مطلق الذهاب، بل الذهاب إلى الآب.
    ١٧، ١٨ «١٧ فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ تلامِيذِهِ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هُوَ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ لَنَا: بَعْدَ قَلِيلٍ لا تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي، وَلأنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ؟. ١٨ فَتَسَاءَلُوا: مَا هُوَ هَذَا القَلِيلُ الَّذِي يَقُولُ عَنْهُ؟ لَسْنَا نَعْلَمُ بِمَاذَا يَتَكَلَّمُ».
    كان صعباً على الرسل أن يفهموا ما قصده يسوع بسبب آرائهم اليهودية في أن المسيح يحيا إلى الأبد ويملك على الأرض. فمنعتهم هذه الآراء من فهم كلام المسيح، فظنوه لغزاً، وصعُب عليهم التوفيق بين قوله في ع ١٠ وع ١٦.
    ١٩ «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَعَنْ هَذَا تَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، لأنِّي قُلتُ: بَعْدَ قَلِيلٍ لا تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي».
    عَلِمَ يَسُوعُ باعتباره الله، وأفكار الناس مكشوفة لديه (يوحنا ٢: ٢٥ و٦: ٦).
    ٢٠ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ، وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ».
    الكلام من هذه الآية إلى آية ٢٧ تفسير لقوله «بعد قليل تبصرونني» وقوله «ثم بعد قليل ترونني». وفي آية ٢٢ فسَّر قوله «إني ذاهب إلى الآب».
    سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ حزنوا قبلاً حين أنبأهم بخيانة بعضهم وإنكار الآخرين إيّاه وبآلامه وموته والخطر الذي ينتظرهم، فقال إن ذلك الحزن سيزيد حين يرون ويختبرون ما أنبأهم به (يوحنا ١٠: ١١ ولوقا ٢٣: ٣٧). حزن عالي الكاهن ووقع ميتاً حين سمع أن الفلسطينيين أخذوا تابوت الرب، وأما الحزن الذي أصاب الرسل فأعظم من حزنه، لأن التابوت كان رمزاً للمسيح حين أهانه أعداؤه (وقد كللوه بالشوك وصلبوه بين لصيّن) إهانة أشد من إهانة الفلسطينيين للتابوت. وناحوا لأنهم لم ينتظروا أن يروه أيضاً بعد الموت.
    وَالعَالَمُ يَفْرَحُ أي أهل العالم أعداؤه ولا سيما اليهود الذين طلبوا قتله وأظهروا فرحهم بالهزء به والتهكم عليه وهو على الصليب.
    حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ حين ترونني قائماً ممجداً. بل أنكم تفرحون بموتي أيضاً حين تتحققون نتائجه، وهي تمهيد السبيل لخلاص العالم ونوال النفوس الميتة الحياة الأبدية، وأن المسيح سبى سبياً واستولى على مفاتيح الموت والجحيم.
    ٢١، ٢٢ «٢١ اَلمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلَكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لا تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الفَرَحِ، لأنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي العَالَمِ. ٢٢ فَأَنْتُمْ كَذَلِكَ، عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ. وَلَكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، ولا يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ».
    إشعياء ٢٦: ١٧ وع ٦ لوقا ٢٤: ٤١، ٥٢ ويوحنا ١٤: ١، ٢٧ و٢٠: ٢٠ وأعمال ٢: ٤٦ و١٣: ٥٢ و١بطرس ١: ٨
    كثيراً ما استعمل أنبياء العهد القديم هذا المثل (إشعياء ٢١: ٣ و٢٦: ١٧، ١٨ و٦٦: ٧، ٨ وإرميا ٤: ٣١ و٢٢: ٢٣ و٣٠: ٦ وهوشع ١٢: ١٣، ١٤ وميخا ٤: ٩، ١٠). ووجه الشبه بين فرح المرأة بعد حزنها وفرح التلاميذ بعد حزنهم أن حزن كل منهما وقتي، يليه فرح دائم، وأن عظمة الفرح تنسيهم شدة الحزن الماضي. وفي ذلك تلميح إلى أنه كما أن حزن التلاميذ يتحول إلى فرح كذلك فرح أعداء المسيح يتحول إلى حزن.
    عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ لتوقعكم ذهابي.
    سَأَرَاكُمْ أَيْضاً وهذا يستلزم أنهم سيرونه (ع ١٩). والمعنى أنهم سيجتمعون أيضاً حتى يراهم ويروه. وكان ذلك يوم قيامته جسدياً، وبعد صعوده إلى الأبد روحياً.
    فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ على قدر حزنكم قبل ذلك، فيتجدد رجاؤكم، وتنالون قوة جديدة وشجاعة، وتدركون حقيقة طبيعتي وخدمتي وتحقيق النبوات فيّ.
    ولا يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ فرح الرسل بحضور المسيح معهم، ونزع موته ذلك الفرح منهم. ولكن فرحهم الجديد لم يكن ليُنزع منهم، لتحققهم أن يسوع هو المسيح، وأنه حي إلى الأبد وباق معهم إلى انقضاء الدهر، وكل سلطان في يده حتى أن لا يسمح أن تسلب الشكوك فرحهم الداخلي، ولا التهديدات والاضطهادات الخارجية من الأعداء.
    يمكن الناس أن يأخذوا منا المال الأرضي والصحة والحرية والأصحاب الأرضيين، لكنهم لا يستطيعون أن يأخذوا منا المسيح، ولا يقدرون أن ينزعوا فرحنا.
    ٢٣ «وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ لا تَسْأَلُونَنِي شَيْئاً. اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ».
    متّى ٧: ٧ ويوحنا ١٤: ١٣ و١٥: ١٦
    فِي ذَلِكَ اليَوْمِ أي حين إتيان الروح القدس وتعليمه إيّاهم كل شيء.
    لا تَسْأَلُونَنِي شَيْئاً أي لا تحتاجون إلى أن تطلبوا مني تفسير كلامي كما احتجتم إلى ذلك سابقاً، وأن تطلبوا تكراره لنسيانكم إيّاه، لأن الروح القدس يوضح لكم كل ما غمض عليكم من كلامي، ويذكركم كل ما نسيتموه. وقول المسيح هنا مبني على قول البشير في ع ١٩ «كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَعَنْ هَذَا تَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ؟» وهو توطئة لقوله في ع ٢٥ وهما بمعنى واحد، إذ فيهما وعد بالإدراك التام لكل الحقائق التي كانت سابقاً كأمثال وألغاز. ونرى كيف تحقق هذا الوعد في خطاب بطرس وسائر الرسل يوم الخمسين بعد حلول الروح القدس، إذ أوضحوا الأمور المختصة بالمسيح وموته أحسن إيضاح.
    كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ هذا الوعد كالوعد في يوحنا ١٤: ١٣ و١٥: ١٦، فراجع شرحهما. وظاهر هذا الوعد أنه بلا قيد، والحق أنه مقيّد بأنه لا يتحقق إلا بعد حلول الروح القدس عليهم، ولا يطلبون بعد ذلك إلا ما يحتاجون إليه لنموهم الروحي ونفعهم لغيرهم، وبأن سؤالهم الشيء يكون باسم المسيح، وبالإيمان المستند على المواعيد التي تكلم هو بها.
    ٢٤ «إِلَى الآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئاً بِاسْمِي. اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً».
    يوحنا ١٥: ١١ وأفسس ٢: ١٨
    إِلَى الآنَ أي مدة خدمتي وأنا معكم.
    لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئاً بِاسْمِي اعتبر التلاميذ يسوع نبياً وسيداً ومعلماً وصديقاً، فسألوه الإرشاد والمعونة. لكنهم لم يكونوا قد تعودوا أن يصلّوا لله الآب باسمه، ولم يعتبروه الوسيط الوحيد بين الله والناس الذي به وحده يصلي الناس صلاة مقبولة، فينال الخطاة رحمة والصديقون نعمة (أفسس ٢: ١٨). نعم إن الله وهب كل مراحمه للناس إكراماً للمسيح، ولكن الرسل لم يعرفوا إلى ذلك الحين أنهم مديونون للمسيح بكل ما نالوه بالصلاة.
    اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا أي اطلبوا باسمي تُجابوا. فكأنه اعتبر الرسل شركاءه في كل حقوقه عند الآب. قال المسيح لتلاميذه في بدء خدمته «اطلبوا تجدوا» (متّى ٧: ٧). وهنا زاد على ذلك أن يكون الطلب باسمه. ولم يقل ذلك من أول الأمر لأن شرط الإجابة باسمه أن يموت عن العالم، وكانوا لا يستطيعون إدراك ذلك. وقوله «اطلبوا تأخذوا» أمر إلزامي علاوة على كونه شرطاً ووعداً، وهو عام لكل المسيحيين. وبناءً على ذلك أخذ المسيحيون جميعاً يختمون صلاتهم بقولهم «نسأل، أو هبْ لنا اللهم ذلك إكراماً للمسيح».
    لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً المقصود بالفرح هنا الفرح الروحي. وشرط نوال هذا الفرح كاملاً أن نسأل الآب ما نريده باسم يسوع.
    ٢٥ «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا بِأَمْثَالٍ، وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ حِينَ لا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ، بَل أُخْبِرُكُمْ عَنِ الآبِ علانِيَةً».
    بِأَمْثَالٍ ذكر المسيح كثيراً من تعاليمه بطريق المجاز، فغمض على التلاميذ وعسر عليهم فهم بعض تعاليمه بسبب آرائهم اليهودية. وكان بعضها إنباء بالمستقبل، ومثل هذا صعب الفهم قبل تحقيقه. وكل تعليم لا يُدرك معناه يصلح أن يُسمى مثلاً، فالذبائح الموسوية والطقوس اليهودية والنبوات كانت كألغاز إلى ما بعد موت المسيح.
    وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ بعد إرسالي الروح القدس.
    لا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ، بَل أُخْبِرُكُمْ اعتبر المسيح تعليم الروح القدس تعليمه لأنه هو أرسله ع ٧. فأنار هذا التعليم عقول الناس ليفهموا أقوال المسيح، وعمل على تجديد قلوبهم ليحبوا الأمور الروحية.
    عَنِ الآبِ أي عن صفاته ومقاصده في إجراء عمل الفداء، ولا سيما تنظيم الكنيسة المسيحية، وانتشارها بين قبائل الأرض. أتى المسيح ليعلن الآب للعالم، لكن العالم لم يدرك إلا قليلاً من إعلانه، حتى رُفع يسوع على الصليب وحل عليهم الروح القدس. فأظهر المسيح بصلبه، مع إظهار الروح عدل الله وقداسته وحقه ورحمته ومحبته.
    ٢٦ «فِي ذَلِكَ اليَوْمِ تَطْلُبُونَ بِاسْمِي. وَلَسْتُ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا أَسْأَلُ الآبَ مِنْ أَجْلِكُمْ».
    ع ٢٣
    لَسْتُ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا أَسْأَلُ الآبَ مِنْ أَجْلِكُمْ أي لا داعي لأن أقول لكم ذلك إذ قلته سابقاً، وقد عرفتموه (يوحنا ١٤: ١٦). ولئلا تتوهموا أن ما قلته سابقاً أن الآب غير مكترث بهم، أو أنه لا يريد أن يستجيبهم، وهو ليس صحيحاً. وهذا لا يعني أن المسيح لا يسأل الآب من أجلهم، فأصحاح ١٧ كله صلاة للآب من أجلهم، ومضمون كل الإنجيل أن المسيح يشفع فينا في السماء، وننال بشفاعته المغفرة والسلام والقوة والمعونة والخلاص. وقد أوضح الرسول ذلك بقوله «هو حي في كل حين ليشفع» (عبرانيين ٧: ٢٥).
    ٢٧ «لأنَّ الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ، لأنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي، وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجْتُ».
    يوحنا ١٤: ٢١، ٢٣ ويوحنا ٣: ١٣ وع ٣٠ ويوحنا ١٧: ٨
    لأنَّ الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ ذكر المسيح في هذه الآية سبباً آخر لقوله «لستُ أقول لكم إني أسأل الآب من أجلكم» وهذا يؤكد لهم أن طريق اقترابهم إلى الآب ممهدة مفتوحة.
    لأنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي، وَآمَنْتُمْ هذا مثل قوله قبلاً «الذي يحبني يحبه أبي» (يوحنا ١٤: ٢١، ٢٣) يعتبر الآب أصدقاء ابنه أصدقاءه، ويميل إلى إجابة طلباتهم. وذلك بفضل المسيح لأنهم أحبوه وآمنوا به، فالذين لا يحبون المسيح ولا يؤمنون به لا يحبهم الآب. وقرن المسيح المحبة بالإيمان لأنها تمهيد له، فإن الثقة بالمحبة سهلة.
    ٢٨ «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى العَالَمِ، وَأَيْضاً أَتْرُكُ العَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ».
    يوحنا ١٣: ٣
    هذا تصديق لما في ع ٢٧ مما آمنوا به، فكأنه قال إن ما آمنتم به حق.
    خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ أي أرسلني الآب لأفدي العالم (يوحنا ٥: ٣٦ و٧: ٢٩). ولم يقصد بهذا بيان أنه ابن الله، بل بيان ما عمل لخلاص البشر. وقيل مثل هذا في الروح القدس (يوحنا ١٥: ٢٦). آمن التلاميذ أن ذلك الرجل الفقير المهان من الناس هو ابن الله الذي نزل من السماء ليخلّص العالم. وقوله «خرجت» يشير إلى أن المسيح تنازل من تلقاء إرادته من المجد الأسنى فهو «إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللَّهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ» (فيلبي ٢: ٦، ٧).
    وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى العَالَمِ أي أتيت إلى الأرض متجسداً (يوحنا ١: ١٤ و٣: ١٩ و٦: ١٤، ٦٢ و٩: ٣٩). وهذا لا يمنع أنه كان على هذه الأرض بالروح قبل ذلك (يوحنا ١: ١٠).
    أَتْرُكُ العَالَمَ بالموت والصعود.
    وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ راجعاً إلى مجدي الأصلي بالطبيعة البشرية التي أخذتها هنا. في هذه الآية أربع جمل تلخص ما عمله المسيح للفداء. الأولى: تبيّن تنازله من المجد الأسنى. والثانية: تبين تجسده. والثالثة: تبين موته. والرابعة: تبين رجوعه إلى مجده.
    ٢٩ «قَالَ لَهُ تلامِيذُهُ: هُوَذَا الآنَ تَتَكَلَّمُ علانِيَةً وَلَسْتَ تَقُولُ مَثَلاً وَاحِداً!».
    أشاروا بذلك إلى حيرتهم السابقة بقوله في ع ١٦ «بعد قليل لا تبصرونني، ثم بعد قليل ترونني» وإرادتهم أن يسألوه عن معنى ذلك (ع ١٩) ولكنهم فهموا ذلك لتفسيره إياه في ع ٢٨ بقوله «أترك العالم واذهب إلى الآب». وفيه إشارة أيضاً إلى إيمانهم القوي بالمسيح وأنه ثابت لا يتزعزع. ولا شك أنهم قالوا ذلك عن إخلاص ولم ينتبهوا لضعف قلوبهم.
    ٣٠ «اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ. لِهَذَا نُؤْمِنُ أَنَّكَ مِنَ اللَّهِ خَرَجْتَ».
    يوحنا ٢١: ١٧ ع ٩، ١٧ ويوحنا ١٧: ٨
    اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تحققوا أن علمه فائق الطبيعة لأنه عرف أفكارهم ومحاوراتهم الانفرادية، واقتنعوا من ذلك بصحة كل دعاويه، فكانت علة إيمانهم كعلة إيمان نثنائيل (يوحنا ١: ٤٨، ٤٩).
    وَلَسْتَ تَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ لأنك تعرف أفكار الجميع وما وقعوا فيه من المشاكل، وأنت مستعد أن تحل المشاكل بدون سؤال.
    أَنَّكَ مِنَ اللَّهِ خَرَجْتَ جمعوا كل عقائد إيمانهم به بهذه الجملة، لأنه إذا كان خرج من الله فهو ابنه، وهو المسيح مخلّص العالم. وهذا أصرح إقرار بالإيمان أجمع عليه الرسل.
    ٣١ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَلآنَ تُؤْمِنُونَ؟»
    هذا استفهام لا يلزم منه شك المسيح في إيمانهم، لكن فيه تلميحاً إلى أنه غير ثابت كما ظنوا، وهو دعوة لهم إلى امتحان قلوبهم ليعرفوا هل إيمانهم وطيد حتى لا يعثروا من الاضطهاد والضيق.
    ٣٢ «هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ، وَقَدْ أَتَتِ الآنَ، تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأنَّ الآبَ مَعِي».
    متّى ٢٦: ٣١ ومرقس ١٤: ٢٧ ويوحنا ٢٠: ١٠ ويوحنا ٨: ٢٩ و١٤: ١٠، ١١
    هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ هي قبل شروق شمس الغد.
    وَقَدْ أَتَتِ الآنَ أي اقتربت كثيراً.
    تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كغنم بدّدتها الذئاب. تحقق هذا في متّى ٢٦: ٣١، ٥٦.
    كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ أي مبيته وأصحابه، أو إلى حيث يلجأ.
    وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي في هذا إشارة إلى الأسف والعتاب لتركهم إيّاه حين يؤخذ أسيراً إلى رؤساء الكهنة وبيلاطس، ولا يقف أحد منهم معه ليعضده. ترك التلاميذ من لم يتركه الآب، ومن ترك مجده في السماء رغبة في خلاصهم، وهو أعز أصدقائهم. فالذي في يمينه كل القدرة والحكمة والجودة والسعادة، الذي تجثو أمامه الملائكة ويترنمون بتمجيده تركوه خوفاً وخجلاً. وهذا الترك زاده حزناً في وقت ضيقته، لأنه احتاج باعتباره إنساناً أن يشعر معه الأصدقاء بأحزانه (متّى ٢٦: ٣٨) وتألم من حرمانه من ذلك (متّى ٢٦: ٤٠).
    وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي تركه الناس لكن الله لم يتركه، وكان متيقناً من أن الآب معه ومن محبته له، وأنه زاد الحب له لبذله نفسه عن الخطاة، وأنه يسمع صلواته (متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥ ويوحنا ٣: ٥٣ و٥: ٢٠ و٨: ٢٩ و١٠: ١٧ و١١: ٤٢).
    نعم إن الله حجب وجهه عنه قليلاً وهو يكفر عن الإثم حتى صرخ «لماذا تركتني؟» (متّى ٢٧: ٤٦) لكنه ظل يناديه «إلهي إلهي» وسلم نفسه إليه بكل ثقة قائلاً «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لوقا ٢٣: ٤٦). ولكل مسيحي مثل تلك التعزية في وقت الاضطهاد والموت، لأنه وإن تركه الناس لا يتركه الله. ومعونة الله أفضل من كل معونة المخلوقات.
    ٣٣ «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلامٌ. فِي العَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ العَالَمَ».
    إشعياء ٩: ٦ ويوحنا ١٤: ٢٧ ورومية ٥: ١ وأفسس ٢: ١٤ وكولوسي ١: ٢٠ ويوحنا ١٥: ١٩ و٢تيموثاوس ٣: ١٢ ويوحنا ١٤: ١ رومية ٨: ٣٧ و١يوحنا ٤: ٤ و٥: ٤
    قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا أي بما مر من خطابه في يوحنا ١٣ - ١٦، ولا سيما في ما قاله في مجيء الروح القدس المعزي (يوحنا ١٦: ٧) وفي إجابة صلواتهم.
    فِيَّ سلامٌ كما وعدهم في يوحنا ١٤: ٢٧. والذي يهب لهم هذا السلام إيمانهم في المسيح، وثقتهم بحضوره معهم، ومعونته لهم بواسطة الروح القدس. وهذا يتضمن أنهم يتشجعون زمان مقاومة الأعداء لهم، لتيقنهم من عنايته ومحبته. وهذا الوعد لم يتحقق إلا بعد اجتماعهم بعد تشتتهم.
    فِي العَالَمِ أي بين أهل العالم.
    سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ أي اضطهاد واضطراب وبلايا، فكان عليهم أن يتوقعوا ذلك من أهل العالم ما داموا في العالم. وذلك ليس نصيب الرسل فقط، بل نصيب كل المسيحيين في كل زمان ومكان على هذه الأرض.
    وَلَكِنْ ثِقُوا لو نظروا إلى الضيق وحده ما أمكنهم الثقة، ولكنهم وثقوا لما نظروا إلى المسيح بالإيمان. شعب الله احتمل الضيق في كل عصر ووثق بالمسيح، ففرح في أشدّ الضيقات، ومات كثيرون منه شهداء واستشهدوا بسرور.
    أَنَا قَدْ غَلَبْتُ العَالَمَ أي أهل العالم لأن أكثرهم خضع للشيطان رئيس هذا العالم وقاوم يسوع. وغلب المسيح العالم بموته (يوحنا ١٢: ٣١). وبانتصاره عليه انتصر كل المؤمنين به حتى لم يستطع العالم أن يغلبهم بشيء من التملّقات والاضطهادات. وغلبه بانتصاره على الشيطان الذي هو أعظم أعداء شعب المسيح (متّى ٤: ١ - ١١). وتعاليم المسيح من مواعيده وإنذاراته ومؤازرات روحه القدوس تقدِّر المؤمنين على هزيمة التجارب الداخلية من الشهوات والانفعالات الرديئة والميل إلى الشك. وقد عرَّف المسيح تلاميذه بعظمة أفراح السماء حتى تبدو أفراح العالم بالنسبة لها لا شيء، وأوضح لهم شدة أهوال جهنم حتى تبدو أهوال العالم بالنسبة لها لا شيء.
    ومعظم انتصار المسيح على العالم كان بموته، فقد قال «غلبت العالم» قبل أن يموت فحسب أنه مات لفرط قرب موته وقتئذ (يوحنا ١٤: ١٩) ويوافق قوله هنا ما جاء في رومية ٨: ٣٤ - ٣٧ و ١كورنثوس ١٥: ٥٧ و٢كورنثوس ٢: ١٤ و١يوحنا ٤: ٤ و٥: ٤، ٥.


    الأصحاح السابع عشر


    صلاة المسيح الشفاعية طلبه تمجيده بالمجد الأصلي (ع ١ - ٥)


    ١ «تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً».
    يوحنا ١٢: ٢٣ و١٣: ٣٢
    هذه صلاة الأقنوم الثاني من اللاهوت للأقنوم الأول، وتفيدنا كيف كان المسيح يصلي وهو على الأرض، وكيف يصلي الآن في السماء بشفاعته فينا، والبركات التي يمكننا أن نسألها في الصلاة، والتي نتوقعها إجابة لصلاته وشفاعته. «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان» ولم يصلِّ إنسان مثلما صلى. وصلى هذه الصلاة على مسمع من الأحد عشر رسولاً، والأرجح أنه قدمها واقفاً في البيت حيث تعشوا، بدلالة قول البشير بعد نهاية الصلاة «قال يسوع هذا وخرج» (يوحنا ١٨: ١).
    وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ كعادة الناس في الصلاة لارتفاع النفس إلى الله حينئذ، وقد سبق الكلام على مثل ذلك في شرح يوحنا ١٤: ٣١ (قارن بهذا لوقا ١٨: ١٣).
    أَيُّهَا الآبُ دعا الله «الآب» ست مرات في هذه الصلاة، وزاد على ذلك القدوس مرة (ع ١١) والبار مرة (ع ٢٥).
    قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ أي الوقت الذي عيّنه الآب لموت ابنه عن الخطاة ثم لتمجيده (يوحنا ١٢: ٢٣، ٢٧ و١٣: ١، ٣١). وهذه الساعة التي وعد بها الله، وانتظرها الناس. قيل هذا القول منذ سقوط آدم إلى ذلك الوقت. وأشار الله إلى تلك الساعة في جنة عدن. ورآها إبراهيم بالإيمان حين منعه الله من ذبح إسحاق. وأُشير إليها برفع الحية النحاسية في البرية، وبذبيحة الحَمَل اليومية وسائر الذبائح في خيمة الاجتماع وفي الهيكل. وهي التي تكلم فيها موسى وإيليا وهما مع يسوع على جبل التجلي. وهي الساعة التي ظهرت فيها أمجاد اللاهوت ظهوراً لم يسبق له نظير، وتوقف عليها خلاص المفديين. ولأن هذه الساعة لم تأت قبلاً لم يستطع أعداؤه أن يضروه (يوحنا ٧: ٣٠ و٨: ٢٠) ولكنها إذ أتت سلم ذاته إليهم ليفعلوا ما أرادوا.
    مَجِّدِ ابْنَكَ ابتدأ المسيح صلاته لأجل رسله وكنيسته بطلب تمجيد نفسه، لأنه أساس الكنيسة، وهي تحصل على كل بركة روحية وسماوية باستحقاقه. وغاية طلبه التمجيد لنفسه تمجيد كنيسته. وفسر معنى هذا في ع ٥. وهذا التمجيد لا يحصل عليه ما لم يجتز في طريق الألم والهوان والموت. وعرف المسيح ذلك وقدم نفسه للموت طوعاً، رغبة في أن يصعد بواسطة الموت إلى المجد. وطلب المسيح أن يشترك ناسوته في مجد لاهوته أيضاً.
    لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً أي ليُظهر للكون، بموته على الصليب كفارة عن إثم البشر، قداسة الله وحكمته وعدله وحقه ورحمته، تمجيداً له، وليظهر ذلك بخلاص الخطاة الذين يشاركون المسيح في تمجيد الله بأقوالهم وأفعالهم، لأن كل خاطئ يؤمن يمجد الله. ويظهر ذلك المجد بإرسال الروح القدس ليجعل إنجيله ناجحاً في العالم. وقد تمجد الله بنجاح الإنجيل أكثر مما تمجد بغيره من طرق تمجيده في هذا العالم، وأبان المسيح (بما قاله من ع ٢ - ٤) أن الله تمجد بما ذُكر. فقول المسيح «مجدني لأمجدك» دليل على مساواته للآب، لأنه لا يمكن أن مخلوقاً يقول ذلك لخالقه، ودليل على أن تمجيد الله كان غاية يسوع العظمى، وأن الله لم يتمجد بشيء من أعمال المسيح كما تمجد بموته وقيامته وصعوده.
    ٢ «إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ».
    تكوين ٦: ٧، ١٣، ١٧ ودانيال ٧: ١٤ ومتّى ١١: ٢٧ و٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ و٥: ٢٧ و ١كورنثوس ١٥: ٢٥، ٢٦ وفيلبي ٢: ١٠ وعبرانيين ٢: ٨ ويوحنا ٦: ٣٧ وع ٦، ٩، ٢٤
    إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلطَاناً دفع الآب في عهد الفداء كل سلطانه للمسيح في السماء وعلى الأرض، أي على الملائكة والبشر وسائر المخلوقات، وعلاوة على ذلك أرسل الروح القدس لأن مجيئه كان ضرورياً لعمل الفداء. والمسيح وإن كان وقتئذ على وشك أن يموت موت الضعف والعار قبض على كل القوة الإلهية.
    ذُكرت في هذه الآية عطيتان: الأولى السلطان المطلق، والثانية الحياة الأبدية. والأولى وسيلة إلى الثانية. وبناءً على أخذ المسيح ذلك السلطان أمر تلاميذه بعد قيامته أن يذهبوا إلى العالم أجمع ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (متّى ٢٨: ١٨، ١٩ ومرقس ١٦: ١٥).
    والعطاء هنا ليس من عالٍ لدون أو من كبير لصغير، بل من مساوٍ لمساوٍ بحسب ما اقتضى تقسيم عمل الفداء بين أقانيم اللاهوت. فالآب هو المرسِل، والابن رسوله، والروح القدس رسولهما.
    كُلِّ جَسَدٍ أي جنس البشر (متّى ٢٥: ٢٢ ومرقس ١٣: ٢٠ ولوقا ٣: ٦ وأعمال ٢: ١٧ ورومية ٣: ٢٠). ولا يلزم من ذلك أن كل البشر يخلصون، بل أن للمسيح سلطاناً أن يهب الكل الحياة الأبدية، لأنه مات لأجل الجميع، ودعا الجميع إليه، وهو يخلّص كل من آمن به.
    لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً (انظر شرح يوحنا ٦: ٤٠). ولهذا أخذ السلطان المطلق، ولم يعتبر ذلك السلطان شيئاً إلا لخلاص نفوس الناس. والحياة الأبدية المذكورة هنا تشتمل على كل نتائج الفداء من تبرير وتقديس وتمجيد في السماء. وهو وهب تلك الحياة للناس ببذله نفسه كفارة عن خطايا العالم، ومنحها لكل الذين يؤمنون.
    لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ (يوحنا ٦: ٣٧ - ٤٠) ويسمى هؤلاء الآخِذون أحياناً «مختارين» ولا يعرفون باختيارهم إلا بإتيانهم إلى المسيح بالتوبة والإيمان.
    ٣ «وَهَذِهِ هِيَ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ المَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلتَهُ».
    إشعياء ٥٣: ١١ وإرميا ٩: ٢٤ ١كورنثوس ٨: ٤ و١تسالونيكي ١: ٩ ويوحنا ٣: ٣٤ و٥: ٣٦ و٣٧ و٦: ٢٩، ٥٧ و٧: ٢٩ و١٠: ٣٦ و١١: ٤٢
    وَهَذِهِ هِيَ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ تتضمن هذه الحياة النجاة من كل شر وتحصيل كل خير الآن وإلى الأبد. ويُعبَّر عن فوائد الفداء بالحياة الأبدية (يوحنا ٣: ١٥، ١٦، ٣٦ و٥: ٢٤، ٣٩ و٦: ٢٧، ٤٠، ٤٧، ٥٤، ٦٨ و١٠: ٢٨ و١٢: ٢٥، ٥٠).
    أَنْ يَعْرِفُوكَ الطريق الوحيدة إلى نوال الناس الحياة الأبدية هي معرفة الإله الحقيقي بواسطة ابنه، وكل من لهم هذه المعرفة يتبررون ويتقدسون على الأرض ويتمجدون في السماء. والمعرفة المقصودة هنا ليست مجرد المعرفة العقلية، لأن للشيطان مثل تلك المعرفة. إنما المقصود المعرفة التي تغير القلب والسيرة، وتقترن بمحبة الله والمسرة به.
    لما دخلت الخطية إلى العالم فقد الناس معرفة الله الحقيقية، فأتى المسيح ليرشدهم إليها، وعلَّمهم توحيد الله وصفاته ومقاصده، ومن ذلك قداسته وعدله ورحمته ورأفته وأبوّته.
    أَنْتَ الإِلَهَ الحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ الذي أنا أخاطبه أباً في هذه الصلاة، والذي قلت إنه أرسلني إلى العالم لأعلنه. ووصفه المسيح بأنه الإله الحقيقي الوحيد ليميز بينه وبين الآلهة الكثيرة الكاذبة، لا ليميز بينه وبين الابن، كأن الآب هو الإله الحق والابن ليس كذلك. لأن التمييز بين الآب والابن لا ينفي وحدانية الله، لأن من أهم تعاليم الإنجيل إثبات التوحيد والتثليث. ومما يثبت لنا أن المسيح لم يقصد التمييز بينه وبين الآب هنا كأنه دون الآب أنه من المحال القول بتعلق الحياة الأبدية بمعرفة خالق ومخلوق.
    وَيَسُوعَ المَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلتَهُ قيل إن المسيح يعطي الحياة الأبدية (ع ٢)، ويعطيها بإعطاء معرفة الله التي فيها تلك الحياة إعطاءً لا يستطيعه غيره. وأبان هنا أن ذلك يكون أيضاً بمعرفة أن يسوع هو المسيح، وأنه رسول الله وكلمته ليعلنه للناس، وأنه ممسوح منه نبياً وكاهناً وملكاً، وليظهر جلياً أن الله لفرط حبه للناس بذل ابنه الوحيد فداءً عنهم لينالوا الحياة الأبدية. فالمسيح اشترى تلك الحياة بموته ووهبها للناس بروحه.
    عرف الناس بدون إرشاد المسيح وجوده وبعض صفاته ككونه خالقاً وملكاً ودياناً، لكن معرفتهم هذه أنشأت فيهم الخوف من الله ومنعتهم من الاقتراب إليه. ولكنهم عرفوا بالمسيح (الذي هو الكلمة متجسداً) المعرفة التامة التي ينالون بها الحياة الأبدية، لأنه علَّمهم أن الله إله الرحمة والمحبة والمغفرة، وأنه يصالح العالم لنفسه. وأعلن ذلك بأقواله وأفعاله ولا سيما بموته.
    وهذه الآية هي الآية الوحيدة التي بها سمى ابن الله نفسه بيسوع المسيح.
    ٤ «أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. العَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأعْمَلَ قَدْ أَكْمَلتُهُ».
    يوحنا ١٣: ٣١ ويوحنا ٤: ٣٤ و٥: ٣٦ و٩: ٣ و١٤: ٣١ و١٥: ١٠ و١٩: ٣٠
    تكلم يسوع عن نفسه في ع ١ - ٣ بضمير الغائب، واستخدم هنا ضمير المتكلم.
    مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ مجَّد المسيح الآب على الأرض في كل حياته، لا في السنين التي بشر فيها فقط. ومجده بإعلانه للناس، وبحفظه الناموس حفظاً كاملاً، فقام بذلك بالطاعة الكاملة عن الخاطئ، وتسليم التعليم الذي أخذه من الآب إلى الناس بالأمانة، وشهادته للحق بأقواله وأعماله وتواضعه وقداسته. ومجد الله أكثر من كل ذلك بالموت الذي كان على وشك أن يموته. والجملة الآتية تبيّن أن المسيح مجد الله بإكماله عمل الفداء.
    العَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي.. أَكْمَلتُهُ أي عمل الخلاص الذي أعطاه الآب له ليعمله في عهد الفداء. وعبر عن موته وقيامته بالماضي لقربهما، وليقينه وقصده أن ذلك سيحدث.
    مجد المسيح الآب منذ تجسده حتى وقت صعوده، بقداسته وطاعته لإرادة أبيه، وإنكاره نفسه، واحتماله الآلام لأجل الناس. فما قصَّر فيه آدم نائباً عن البشر من تمجيد الله أكمله يسوع إذ حفظ الناموس كله، وأوفى ما على الناس من الدَّين لشريعة الله، وصار سبب خلاص أبدي لكل المؤمنين (عبرانيين ٥: ٩). ولعله أشار إلى ما أنبأ به دانيال بقوله «سَبْعُونَ أُسْبُوعاً قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ المُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ المَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالبِرِّ الأَبَدِيِّ» (دانيال ٩: ٢٤).
    ٥ «وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ العَالَمِ».
    يوحنا ١: ١، ٢ و١٠: ٣٠ و١٤: ٩ وفيلبي ٢: ٦ وكولوسي ١: ١٥ وعبرانيين ١: ٣، ١٠
    وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ كرر المسيح الطلبة التي ابتدأ بها الصلاة بعد أن أعطى حساب خدمته الأرضية فجعل إتمام ما عليه سبب طلبه أن الله يمجده.
    عِنْدَ ذَاتِكَ قارن هذا بما في يوحنا ١٣: ٣١، ٣٢. وخلاصة ذلك أن المسيح مجد الآب على الأرض (ع ٤) فسأله مجازاة لذلك أن يمجده عند ذاته في السماء.
    بِالمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي صرّح المسيح هنا أنه كان له مجد إلهي قبل تجسده، وسأل الآب أن يسمح له بترك حال التواضع الذي تنازل إليه اختياراً لفداء الخطاة، وأن يرجع إلى المقام الأسنى الذي كان له منذ الأزل، لأنه واحد من الأقانيم الثلاثة المتساوين في المجد والقدرة. ولم يسأل بذلك مجداً جديداً أعظم مما كان له، بل سأل رفع حجاب ناسوته الذي أخفى مجده لكي تنتشر أشعته. وسأل أن يشترك ناسوته على قدر الإمكان في مجد لاهوته.
    تثبت هذه الآية أمرين: (١) وجود المسيح قبل تجسده (يوحنا ١: ١٨). (٢) أن الآب والابن ليسا أقنوماً واحداً بل هما أقنومان متساويان في المجد. وهذا الإثبات يستحق كل الاعتبار لأنه قول المسيح نفسه في صلاته للآب.

    صلاة المسيح الشفاعية - طلبه من أجل رسله (ع ٦ - ١٩)


    ٦ «أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ العَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ حَفِظُوا كلامَكَ».
    مزمور ٢٢: ٢٢ ويوحنا ٦: ٣٧، ٣٩ و١٠: ٢٩ و١٥: ١٩ وع ٢، ٩، ١١، ٢٦
    أكمل المسيح عمله على الأرض أما تلاميذه فكانوا على وشك أن يبدأوا عملهم، فاحتاجوا إلى نعمة وقوة، فصلى المسيح من أجلهم.
    أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ بتعليمي أنك أنت الإله الحق، وبتمجيدي إيّاك على الأرض ( ع ٢، ٤). والمقصود باسم الله هنا صفاته (مزمور ٢٢: ٢٢ و٥٣: ٩ و١١٩: ٥٥ وإشعياء ٢٦: ٨ وأعمال ٩: ١٤). وقد سبق الكلام على ذلك في شرح متّى ٦: ٩. والاسم الذي أظهره المسيح للناس أعظم إظهار بتعليمه وعمله هو الآب، أي أنه أبونا. وكان إظهار أفكار الله وإرادته وصفاته غاية المسيح الأولى من تعليمه إيّاهم وهو على الأرض، ولا يزال يعلمهم ذلك عينه الآن بكلامه الذي في الإنجيل. فعلينا أن نبذل كل جهد في أن نتعلمه منه.
    لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ العَالَمِ وصف تلاميذه بذلك لأن الآب أعطاهم له (يوحنا ٦: ٣٧)، وأفرزهم من العالم (يوحنا ١٥: ١٩)، وهم مختاروه ورعيته التي وكلها الله إلى عنايته باعتباره الراعي الصالح. وكانوا من العالم كغيرهم من الناس أعطاهم الله له، لا لأنهم أفضل من سائر أهل العالم فيفتخرون، بل لحكمة عنده.
    كَانُوا لَكَ أي بخلقك إيّاهم. فإذا كان له حق أن يعطيهم للمسيح لأنهم كانوا خدام الله قبل أن يصيروا تلاميذ المسيح، وبذلك كانوا مستعدين لقبول تعليم يسوع، فقبلوا تعليم الله الذي أرسله من موسى والأنبياء، واستعدوا لقبول التعليم الذي أعطاه لابنه (انظر شرح يوحنا ٥: ٤٦ و٦: ٣٧ و٨: ٤٧).
    أَعْطَيْتَهُمْ لِي فإذاً هم معيّنون من الله ليكونوا للمسيح رسلاً لينادوا بإنجيله.
    وَقَدْ حَفِظُوا كلامَكَ هذا وصف آخر للتلاميذ يميزهم عن سواهم، فيعرفهم به الناس. أما كونهم عطية الله للمسيح فصفة تجعلهم أهلاً لممارسة العمل الذي يكلفهم المسيح به. وقصد بكلام الآب تعليم إنجيله، ونسبه إلى الآب لأنه أرسله ليعلنه للناس. وكلام المسيح هو كلام الآب (يوحنا ٧: ١٦ و١٢: ٤٨، ٤٩). وقصد بالحفظ هنا الإصغاء إلى كلامه، وقبوله بالرضى والطاعة له اختياراً. فلنا من ذلك أن الطاعة للمسيح هي البرهان الأول والأعظم على أن الإنسان تلميذ المسيح. فطوبى لمن يشهد المسيح لهم أنهم حفظوا كلام الآب.
    ٧ «وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ».
    وَالآنَ عَلِمُوا هذا العلم نتيجة تعليم المسيح إيّاهم، وهو أساس زيادة علمهم حين يحل الروح القدس عليهم بعد هذا بقليل (يوحنا ١٦: ٣٠).
    أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ علموا أن معلمهم ليس ابن نجار من الناصرة، ولا نبياً من الجليل، بل ابن الله من السماء، المسيح الموعود به، وأن كل ما تكلم به وفعله من أول خدمته إلى آخرها كان حسب إرادة الآب وتعليمه، وإعلان الآب للعالم لتسميته «كلمة الله». وذكر المسيح علمهم بذلك لا لمجرد مدحهم على أنهم تلاميذ نجباء، بل لبيان أنهم أهلٌ لأن يكونوا معلمين نافعين بالنيابة عن معلمهم يسوع.
    ٨ «لأنَّ الكلامَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ، وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلتَنِي».
    يوحنا ٨: ٢٨ و١٢: ٤٩ و١٤: ١٠ ويوحنا ١٦: ٢٧، ٣٠ وع ٢٥
    في هذه الآية بيان الطريق التي توصلوا بها إلى العلم المذكور في الآية السابقة، وهي أنه هو علمهم ما أخذه من الآب (يوحنا ١٢: ٤٩)، وتمم بذلك ما أنبأ به الله بفم موسى قائلاً «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كلامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» (تثنية ١٨: ١٨).
    الكلامَ أي الحقائق المتعلقة بالله وبخلاص البشر، وأعطاها الآب للابن في عهد الفداء ليعلنها للعالم، فذلك الكلام هو كلام الحكمة والتعزية والقوة والحياة، وكنز العلم الذي لا يزول ولو زالت السموات والأرض (متّى ٢٤: ٤٥). وما قاله المسيح هنا يثبت صحة ما كتبه الرسل في رسائلهم، ويبيّن أنه ليس كلامهم، بل إن الله الآب أعطاه للابن، وأعطاه الابن للرسل وألهمهم أن يعطوه للكنيسة.
    وَهُمْ قَبِلُوا هذا القبول يعني قيام الرسل بالمسؤولية، أما غيرهم فسمع التعليم ولم يقبله. والفرق بين الفريقين لا يتوقف على التعليم ولا على العلم، بل على استعداد السامع للقبول (قارن يوحنا ١: ١ بيوحنا ١: ١٢).
    ذكر المسيح هنا ثلاثة أمور في شأن تلاميذه: (١) أنهم قبلوا تعليمه باختيار وسرور. (٢) أنهم علموا واعترفوا أنه خرج من عند الآب. (٣) أنهم آمنوا بما سمعوا وتأكدوا منه. وأكثر اليهود أبوا قبوله وتصديقه. نعم إن معرفة التلاميذ كانت ناقصة، وكان إيمانهم ضعيفاً، لكن المسيح عرف أن الذي عرفوه كان كافياً لخلاصهم، وأن إيمانهم كان قلبياً خالصاً، فمدحهم للآب.
    أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ انظر شرح يوحنا ٣: ٢ و١٦: ٣٠.
    وَأَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلتَنِي يزيد هذا على معنى الجملة التي قبله، أنه هو المسيح المنتظر (ع ٣) ومعنى تلك الجملة أنه أتى من السماء.
    ٩ «مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ العَالَمِ، بَل مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأنَّهُمْ لَكَ».
    ١يوحنا ٥: ١٩
    مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ بعد ما وصف المسيح رسله للآب أخذ يصلي من أجلهم. وكل ما صنعه المسيح على الأرض إنما صنعه من أجل تلاميذه المؤمنين به، فإنه أتى ومات وقام وصعد لأجلهم، ولم يزل يصلي من أجلهم. وطلب لهم في هذه الصلاة ست بركات: (١) أن يحفظهم الله أمناء. (٢) أن ينصرهم على الشيطان. (٣) أن يقدسهم. (٤) أن يملأهم سروراً. (٥) أن يقدِّرهم على تمجيده وتمجيد الآب. (٦) أن يكونوا معه في المجد.
    لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ العَالَمِ أي في هذه الطلبة إذ هي صلاة من أجل التلاميذ خاصة. فلا يلزم من ذلك أنه لا يصلي من أجل العالم، بدليل أنه صلى من أجله (ع ٢١) وصلى من أجل قاتليه (لوقا ٢٣: ٣٤). وصلاته من أجل شعبه تتضمن الصلاة من أجل العالم، لأن كل ما ناله المؤمنون من البركات والمواهب الروحية كان لهم وسيلة إلى إفادة العالم، بدليل قوله «مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يوحنا ٧: ٣٨) وقوله «أنتم نور العالم» (متّى ٥: ١٤). فالمسيح وإن كان يصلي من أجل العالم لا بد أن يصلي من أجل شعبه باعتباره وسيطهم ورئيس كهنتهم (عبرانيين ٧: ٢٥).
    بَل مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي بنى طلبه إلى الآب أن يعتني بتلاميذه على أنهم كانوا للآب قبل أن كانوا للمسيح (انظر شرح ع ٦).
    لأنَّهُمْ لَكَ أي لم يزالوا لك بعد أن أعطيتهم لي، لأنه «كُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي» (ع ١٠). فهم للآب بالتبني لكونهم إخوة المسيح فصاروا بذلك أعز إلى الآب.
    ١٠ «وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ».
    يوحنا ١٦: ١٥
    هذا يعم كل المخلوقات من عقلاء وغيرهم (راجع شرح يوحنا ١٦: ١٥). وهذا دليل على لاهوت المسيح وإلا لاستحال أن يكون كذلك. وبناء على هذه الآية نُسب المؤمنون أحياناً إلى الآب وأحياناً إلى الابن.
    وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ هذه علة أخرى لصلاته من أجلهم خاصة، فهم مجدوه بحفظ كلامه ومحبتهم له وإيمانهم به حين رفضه سائر العالم وأبغضه (ع ٦ - ٨). ولكنهم سيمجدونه أكثر بعد ما يحل عليهم الروح القدس ويكونون شهوداً بأنه المسيح. ويتمجد المسيح بالمؤمنين كلما غلبوا شهواتهم الرديئة وعاشوا بالتقوى أمام العالم، وحملوا نير المسيح عليهم وتعلموا منه، وتمكنوا بواسطة الروح القدس من أن يعملوا أعمالاً أعظم من أعمال المسيح لإرشاد الخطاة إلى التوبة والإيمان.
    ١١ «وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي العَالَمِ، وَأَمَّا هَؤُلاءِ فَهُمْ فِي العَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ القُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ».
    يوحنا ١٣: ١ و١٦: ٢٨ و١بطرس ١: ٥ ويهوذا ١ ويوحنا ١٠: ٣ وع ٢١
    وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي العَالَمِ أكمل المسيح العمل الذي كان عليه (ع ٤) وحسب أنه ذاق الموت لفرط قربه منه.
    وَأَمَّا هَؤُلاءِ فَهُمْ فِي العَالَمِ هذا ما حمله على الصلاة للآب من أجلهم، أي أنه تركهم فيه وهم ضعفاء مبغَضون ومضطهَدون، وعرضة للضيق والمصائب، ومحتاجون كاليتامى إلى الحماية والمساعدة، ومكلفون بأمر خطير هو أن يقوموا بالخدمة التي كان المسيح يقوم بها وينادوا للهالكين بالخلاص.
    وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ قارن حاله بحال التلاميذ، فهو أكمل أتعابه أما هم فبدأوا في أتعابهم. فلما كانوا معه كان يعزّيهم ويحميهم، ولكنه لقرب مفارقته لهم أخذ يهتم بهم ويستودعهم للآب.
    أَيُّهَا الآبُ القُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ كان تلاميذ المسيح على وشك أن يُتركوا في العالم الشرير وهم ليسوا منه (يوحنا ١٥: ١٩). وهم مدعوون ليكونوا قديسين كما أن الله قدوس. فاحتاجوا إلى نعمة من الله ليُحفظوا من شر العالم لكي لا يرتدوا عن الإيمان، ولا يكونوا فريسة لأعدائهم. فكأنه قال: يا إله القداسة، احفظ أولادك هؤلاء في قداستهم.
    فِي اسْمِكَ انظر شرح ع ٦. اسم الله كناية عن قوته وحكمته ومحبته، فيكون المعنى أن يعينهم الآب على إظهار تلك الصفات للعالم بتعليمهم وعبادتهم، أي بأقوالهم وأعمالهم.
    لِيَكُونُوا وَاحِداً أي متحداً بعضهم ببعض في القلب والعقل والغاية، بلا خصومة ولا انتقام، ورباط ذلك الاتحاد المحبة. ويتضح لنا سبب صلاة المسيح من أجل وحدة تلاميذه ما اختبرناه من شدة الأضرار التي حاقت بالكنيسة بما حدث فيها من انقسام.
    كَمَا نَحْنُ انظر ع ٢١ - ٢٣. أراد المسيح أن يكون اتحاد بعض تلاميذه ببعض كاتحاده بالآب، لكن ذلك لا يمكن أن يكون كاملاً مثل هذا، إلا أن سكن الروح القدس في قلوب المؤمنين يحقق هذا الاتحاد.
    ١٢ «حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي العَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلا ابْنُ الهلاكِ لِيَتِمَّ الكِتَابُ».
    يوحنا ٦: ٣٩، ٧٠ و١٠: ٢٨ و١٣: ٨ و١٨: ٩ وعبرانيين ٢: ١٣ و١يوحنا ٢: ١٩ وأعمال ١: ٢٠
    حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي العَالَمِ كان نحو ثلاث سنين ونصف سنة مرافقاً ومعلماً إياهم.
    كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ بتعليمي ونصائحي وسيرتي ومعجزاتي كراع يحفظ رعيته، فسأل الآب أن يحفظهم بعد أن يفارقهم كما حفظهم قبل ذلك. وأبان بذلك أنه مساوٍ لله لأن حفظ كلٍ منهما مساوٍ لحفظ الآخر.
    فِي اسْمِكَ أي معرفتك وطاعتك بواسطة نعمتك وقوتك.
    الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي كما جاء في ع ١١ ويوحنا ١٠: ٢٧ - ٢٩ حيث تكلم على خرافه الخاصة وتكررت هذه العبارة في يوحنا ١٨: ٩ بالمعنى نفسه.
    حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ كلامه هنا عن الأحد عشر رسولاً الذين أعطاهم الآب له، وحفظهم هو بنعمته وقوته. ويصح هذا على كل الذين أعطاهم الآب له بدون استثناء.
    إلا ابْنُ الهلاكِ أي يهوذا الإسخريوطي، وسماه ابن الهلاك لأنه سلم نفسه إلى الهلاك واستحقه. واصطلح الكتاب المقدس على مثل ذلك كثيراً كقوله «أبناء بليعال» و «أبناء النور» و «أبناء الظلمة» و «أبناء المعصية» و «أبناء السلام» مبالغة في الوصف (٢صموئيل ٢٦: ٥ ومزمور ٧٩: ١١ ومتّى ١١: ١٩ و١٣: ٣٨ و٢٣: ١٥ ولوقا ١٦: ٨) وغير ذلك. والاستثناء في هذه العبارة منقطع لأن يهوذا ليس من الذين أعطاهم الآب له، فكأنه قال: هلك واحد وهو يهوذا ابن الهلاك لأنك لم تعطه لي، فلم أحفظه، وقد قلت منذ زمان إنه شيطان (يوحنا ٦: ٧٠).
    وقال بعض المفسرين إن معنى «الذين أعطيتني» الذين عيّنتهم رسلاً لي، فيصير المعنى أنه لم يهلك من الاثني عشر رسولاً الذين عيّنتهم لي سوى يهوذا.
    لِيَتِمَّ الكِتَابُ اللام الداخلة على كلمة «يتم» هي لام العاقبة، لا لام التعليل. فيكون المعنى أن ذلك حدث بحسب ما قيل في الكتاب (مزمور ٤١: ٩ و١٠٩: ٨) وقد مرّ الكلام على مثل ذلك في يوحنا ١٣: ١٨ (انظر أيضاً أعمال ١: ٢٠). فقد هلك يهوذا بسبب فساد قلبه وآثامه التي جعلته ابن الهلاك وعدم توبته عنها. وليس في الكتاب المقدس علة أخرى لهلاك الإنسان. فمن المحال أن يكون تمام الكتاب علة هلاك يهوذا.
    ١٣ «أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهَذَا فِي العَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ».
    يوحنا ١٥: ١١ و١٦: ٢٤ و١يوحنا ١: ٤
    أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ ذكر ذلك بياناً لعلة أنه استودع تلاميذه للآب، وأنه يترك حفظهم له.
    أَتَكَلَّمُ بِهَذَا أي بهذه الصلاة وباستيداعي تلاميذي لك.
    فِي العَالَمِ أي أتكلم بذلك على مسمع تلاميذي وأنا على الأرض قبل صلبي.
    لِيَكُونَ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ عرف يسوع أنه يموت بعد قليل بألم شديد جداً، ومع ذلك أخذ يفتكر في فرح تلاميذه وتعزية المؤمنين في كل العصور المستقبلة، إذ عرف أن الذي سمعه تلاميذه سيقرأه غيرهم في إنجيله.
    لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ بسمعهم أني صليت هذه الصلاة من أجلهم واستودعتهم للآب. وينتج من قول المسيح هنا أن كنز الفرح كُنِز للمؤمنين. وقد سبق الكلام على فرح المسيح (يوحنا ١٥: ١١). وهذا الفرح نتيجة موته وقيامته وصعوده وشفاعته في السماء وإرساله الروح القدس. ومصدر هذا الفرح حضن الآب في السماء، فطلب المسيح من أجل تلاميذه في ضيقاتهم عين الفرح الذي كان له في ضيقاته، وهو الفرح الناتج من تحققه محبة الآب وعنايته.
    ١٤ «أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلامَكَ، وَالعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ العَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ العَالَم».
    ع ٨ ويوحنا ١٥: ١٨، ١٩ و١يوحنا ٣: ١٣ ويوحنا ٨: ٢٣ وع ١٦
    أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلامَكَ هذا تكرار ما قاله في آية ٨ ذكره هنا بياناً لما فعله لأجل حفظه إيّاهم. لقد وهب النظر للعميان والنطق للخرس والطعام للجياع والصحة للمرضى، أما تلاميذه فأعطاهم كلامه والنعمة لقبوله، حاسباً ذلك أعظم من سائر المواهب. وكل من يقبل كلام المسيح يقبل المسيح نفسه. ومنحهم المسيح كلامه لمنفعتهم ولينفعوا به غيرهم.
    وَالعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ ع ٦ ويوحنا ١٥: ١٨ - ٢١. وذكره هنا بياناً لاحتياجهم إلى حفظ الآب. إن أهل العالم أبغضوا كلام المسيح ورسل المسيح لتبشيرهم بذلك الكلام.
    لأنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ العَالَمِ مرّ الكلام على هذا في شرح يوحنا ١٥: ١٩. وهو ليس طلبة بل يخبرنا أن الذين من العالم ليسوا للمسيح. ولا يقتضي أن يترك المسيحيون معاشرة الناس ويعيشوا منفردين، لأن المسيح عاشر كل صنوف البشر، ولكنه لم يفعل شيئاً أو يتكلم بشيء يجيز الخطأ في العوائد والمبادئ والغايات وطرق العبادة، ولم يتوقف عن التوبيخ على الضلال والشر ليشهد للحق. فعلى المسيحيين أيضاً أن يقتدوا به في ذلك ويكونوا أنواراً في العالم طاعة للقول «لِكَيْ تَكُونُوا بِلا لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاداً لِلَّهِ بِلا عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي العَالَمِ. مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ الحَيَاةِ» (فيلبي ٢: ١٥، ١٦).
    ١٥ «لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ العَالَمِ بَل أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ».
    متّى ٦: ١٣ وغلاطية ١: ٤ و٢تسالونيكي ٣: ٣ ويوحنا ٢: ١٣ و٥: ١٨
    لعل الرسل ظنوا أن الطريق الفضلى لنجاتهم من شرور هذا العالم أن يأخذهم المسيح معه إلى السماء حين صعوده إليها، أما هو فلم يستحسن ذلك مع كثرة ما في العالم من التجارب للمسيحيين وشدة بغضه لهم. ولم يسأل المسيح الآب أن ينقل المؤمنين إلى السماء عند إيمانهم، بل اختار بقاءهم هنا مدة لفائدتهم لينموا في القداسة والاستعداد للسماء، ولفائدة غيرهم بتعليمهم وعملهم، وليمجدوا الله بذلك. وكان على الرسل أعمال لا بد من أن يعملوها، أما هو فقد عمل ما عليه ومجَّد الآب (ع ٤) فبقي عليهم أن يفعلوا مثل ذلك (ع ١٠).
    لا يجوز للمسيحي أن يسأل الله أن يعفيه من التعب، بل أن يسأله قوة على عمل ما عليه. ولا أن يسأله الخلو من التجارب، بل النعمة ليقوى عليها. ولا أن يسأله عدم حلول المصائب، بل التعزية والفرح في ذلك بيقين محبة الآب له. ولا أن يسأله أن يرفعه من العالم، بل يقدِّره أن يفيد العالم مدة بقائه فيه.
    بَل أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ انظر شرح متّى ٦: ١٣. يطلق الشرير على ثلاثة من أعداء الإنسان، وهي العالم والشهوة والشيطان. وقد يُراد به الإثم كما في قوله «وَالعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ» (١يوحنا ٥: ١٩). ويراد به الشيطان كثيراً لأنه أصل كل الشرور (متّى ١٣: ١٩، ٣٩ و١يوحنا ٢: ١٣، ١٤ و٣: ١٢ و٥: ١٨).
    ١٦ «لَيْسُوا مِنَ العَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ العَالَمِ».
    ع ١٤
    هذا كما قيل في ع ١٤. ذُكر هناك بياناً لسبب بغض العالم لهم، وطلبه حفظ الله وتقديسه لهم، وتجهيزهم للعمل الذي عليهم.
    ١٧ «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كلامُكَ هُوَ حَقٌّ».
    يوحنا ٨: ٤٠ و١٥: ٣ وأعمال ١٥: ٩ وأفسس ٥: ٢٦ و١بطرس ١: ٢٣ و٢صموئيل ٧: ٢٨ ومزمور ١١٩: ١٤٢، ١٥١
    قَدِّسْهُمْ طلب حفظهم أولاً، ثم طلب تقديسهم. والمعنى: اجعلهم قديسين كما أنت قدوس (ع ١١) وعيّنهم لخدمتك كما عُينتُ أنا (ع ١٩) وقدِّرهم على مشابهتي في طهارة القلب والسيرة ( ١كورنثوس ٦: ١١ و١تسالونيكي ٥: ٢٣). قد نال الرسل بنعمة الله بعض القداسة، فطلب المسيح زيادتها. ولم يضع حداً لذلك إذ أراد أن يكونوا كاملين في القداسة، فاستعدوا بذلك لخدمة الله على الأرض، والتمتع بالحضور أمامه في السماء.
    فِي حَقِّكَ أي بتأثير الحق في القلب والضمير. فالحق هو الآلة التي يقدس بها الروح القدس قلوب الناس. إن الخليقة تعلّم الإنسان حق الخالق وعنايته في تدبير العالم وإرسال المراحم والمصائب التي تعلمه الحقائق الآيلة لتقديسه. وأفضل وسائط التقديس ما يأتي:
    كلامُكَ هُوَ حَقٌّ أي كلام الله في كتابه لما فيه من وصايا ومواعيد وإعلانات صفاته، وبيان طبيعة الإنسان، وما يتعلق بالموت والقيامة والدينونة وسعادة المفديين الأبدية من شقاء الهالكين ولا سيما نبأُ شهادته «بحَمَل الله الذي يرفع خطية العالم».
    كلام الله لا يقدس القلب من تلقاء نفسه، ولا يستطيع إنسان أن يقدس قلباً بواسطته. إنما الله الذي يفعل ذلك بواسطة روحه القدوس.
    والكلمة الهامة في هذه العبارة هي «كاف ضمير المخاطب» أضاف إليها الكلام تمييزاً له عن كلام الناس.
    ١٨ «كَمَا أَرْسَلتَنِي إِلَى العَالَمِ أَرْسَلتُهُمْ أَنَا إِلَى العَالَمِ».
    يوحنا ٢٠: ٢١
    كَمَا أَرْسَلتَنِي إِلَى العَالَمِ أشار إلى ذلك الإرسال في يوحنا ١٠: ٣٦.
    أَرْسَلتُهُمْ أَنَا إِلَى العَالَمِ انظر شرح متّى ١٠: ٥ ولوقا ٦: ١٣. وتم إرسالهم في يوحنا ٢٠: ٢١. وأظهر المسيح أن إرساليتهم مثل إرساليته، فهُم يحتاجون إلى مثل تقديسه. ووجه الشبه بين المسيح ورسله باعتبار الإرسالية متعدد، وهو أن المسيح ليس من العالم بل هو مرسل إليه، والتلاميذ ليسوا من العالم بل هم مرسلون ليكونوا شهوداً للمسيح (يوحنا ١٥: ١٦). وأن الآب مسح المسيح لعمله، وأن الروح القدس مسح التلاميذ لعملهم (وتم هذا يوم الخمسين بقوة). وأن المسيح أرسله الله ليعلنه هو للعالم وليشهد للحق وليخلّص الهالكين، وأن الرسل أرسلهم المسيح ليفعلوا كذلك. وأن الله الآب أجاب صلاة المسيح واستجاب طلبات الرسل. وأن المسيح دخل السماء بالآلام، وأن الرسل دخلوها بضيقات كثيرة. وأن المسيح كان قدوساً بلا عيب منفصلاً عن الخطاة، وأن الرسل كانوا قديسين.
    ١٩ «وَلأجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي الحَقِّ».
    ١كورنثوس ١: ٢ و٣٠ و١تسالونيكي ٤: ٧ وعبرانيين ٢: ١٠ و١٠: ١٠
    وَلأجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي التقديس هنا بمعنى الوقف أو التخصيص (خروج ٤٠: ١٣ ولاويين ٢٢: ٢، ٣). والمعنى أن المسيح قدم نفسه لله ذبيحة إثم حسب القول «لَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَل بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً» وقوله «فَكَمْ بِالحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ المَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلا عَيْبٍ» (عبرانيين ٩: ١٢ و١٤). ويقدس الله المؤمنين بالمسيح بواسطة الحق (ع ١٧) وأما المسيح فيقدس نفسه بلا واسطة. فيتضح من ذلك أن بين التقديسين فرقاً عظيماً، فمعنى تقديس المؤمنين تطهيرهم (أفسس ٥: ٢٦) ومعنى تقديس المسيح وقفه لخدمة معينة كقوله «الَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى العَالَمِ» (يوحنا ١٠: ٣٦) وهو لا يحتاج إلى تطهير لأنه بلا خطية بدليل قول الرسول «الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر» وقوله «الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأجْلِنَا» (٢كورنثوس ٥: ٢١ وعبرانيين ٤: ١٥).
    وكون تقديس المسيح نفسه من أجل الرسل كما ذُكر لا ينفي أنه قدسها ذبيحة من أجل كل العالم. وقال المسيح «أقدس أنا ذاتي» لأنه قدّمها فدية وطوعاً واختياراً.
    لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي الحَقِّ أي ليتعلموا بواسطة الحق أن «يُقَدِّمُوا أَجْسَادَهُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللَّهِ» (رومية ١٢: ١) كما فعل المسيح اختياراً متخذين إيّاه مثالاً، وليتقدسوا بذلك الدم الذي يطهر من كل خطيّة. فأمكنهم ذلك بواسطة تقديس المسيح نفسه ذبيحة إثم. ومعنى قوله «ليكونوا مقدسين في الحق» إما أن يكونوا مقدسين حقيقة، أو أن يكونوا كذلك بواسطة الحق. والمعنيان مفيدان.

    صلاة المسيح لأجل كل المؤمنين (ع ٢ إلى ٢٦)


    ٢٠ «وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاءِ فَقَطْ، بَل أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكلامِهِمْ».
    وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاءِ فَقَطْ أي الأحد عشر.
    بَل أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي أي كل الذين تتجدد قلوبهم بواسطة تبشير الإنجيل في كل زمان ومكان إلى نهاية الدهر، لأن للكل ضيقات وتجارب، وهُم في عالم شرير يضطهد أتباع المسيح ويبغضهم، وعليهم أن يشهدوا للحق، وهو عمل ذو شأن خطير، فيحتاجون دائماً إلى المعونة والتعزية. فإن كنا مؤمنين بالمسيح نتيقن أنه صلى من أجلنا حينئذ، ولا يزال يصلي كذلك.
    بِكلامِهِمْ أي بشهادتهم للمسيح وخلاصه (يوحنا ١٥: ٢٧ ورومية ١٠: ١٤). ونتعلم من ذلك أن نشر كلام الله بواسطة الناس هو الوسيلة الضرورية إلى امتداد ديانة المسيح في العالم وإلى الإيمان به، وذلك مثل قول الرسول «إِذاً الإِيمَانُ بِالخَبَرِ، وَالخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» (رومية ١٠: ١٧).
    ٢١ «لِيَكُونَ الجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا، لِيُؤْمِنَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي».
    يوحنا ١٠: ١٦ وع ١١، ٢٢، ٢٣ ورومية ١٢: ٥ وغلاطية ٣: ٢٨ ويوحنا ١٠: ٣٨ و١٤: ١١
    لِيَكُونَ الجَمِيعُ وَاحِداً أي أن يكون المؤمنون جميعاً متحدين كإخوة، لأنهم مفديون بدم واحد، ومتساوون في الحاجات والأحزان والأفراح، وهُم عرضة لخطر واحد من الأعداء، ولأنهم مسافرون إلى سماء واحدة.
    أراد المسيح أن تكون كنيسته على الأرض بمنزلة أهل بيت واحد مرتبطة بالمحبة للمسيح رئيسها وفاديها (أعمال ٤: ٣٢ - ٣٥ و١كورنثوس ٤: ١٢ - ٣١ وأفسس ٢: ٢٠ - ٢٢). واتحاد الناس بالله وبعضهم ببعض غاية تجسد المسيح وموته وإرساله الروح القدس.
    كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ انظر شرح يوحنا ١٠: ٣٠ و١٤: ١٠. لم ينتظر المسيح أن الاتحاد بين المؤمنين يماثل الاتحاد بين الآب والابن تمام المماثلة، بل أن يقرب من ذلك على قدر الإمكان، فيشترك المسيحيون في المقاصد والغايات والعواطف والشعور.
    لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا أي متحدين بالآب والابن، وبعضهم ببعض. رغب المسيح أن تكون كنيسته متحدة، ورأى أن وسيلة ذلك أن يتحد كل عضو في الكنيسة به وبأبيه (أفسس ٤: ٤ - ٦).
    لِيُؤْمِنَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي إذا رأى العالم علامات اتحاد الكنيسة يقتنع أن مصدرها من السماء، وأن المسيحية حق، وأن يسوع هو المسيح رسول الله. وينتج من ذلك أنه يتحول من كونه عدواً للحق إلى محب له مؤمن به.
    قال المسيح في ع ٩ إنه لم يسأل وقتئذ من أجل العالم لأنه صلى لأجل المرسَلين إلى العالم، لكنه لم ينس العالم ولا غفل عن احتياجه، لأنه أتى ليخلصه. فالمسيح وإن كان العالم قد صلبه ورفضه توقع أن يرجع إليه بالتوبة ويخضع له.
    ٢٢ «وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ المَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ».
    رومية ٨: ٣٠ وأفسس ١: ١٨ و٢: ٦ ويوحنا ١٤: ٢٠ و١يوحنا ١: ٣ و٣: ٢٤
    وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ المَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي تكلم المسيح في مجده المستقبل كأنه حاضر، وكذلك تكلم في مجد تلاميذه لأنهم لم يكونوا قد حصلوا إلا على الوعد به. والمجد المذكور هنا يسبقه التواضع في المعلم وفي التلاميذ، وهو قائم بأربعة أشياء: (١) إعلان مجد الله للناس. (٢) موهبة الروح القدس. (٣) مشاركتهم للمسيح في نشر بشرى الخلاص بعد إكماله عمل الفداء. (٤) مشاركتهم له في أفراح السماء حين يجلس على يمين الله، وصيرورتهم ورثة الله وارثين معه، ممجَّدين معه بعد ما تألموا معه (رومية ٨: ١٧، ٣٠ وأفسس ١: ١٨ و٢: ٦). متغيرين إلى صورته عينها من مجد إلى مجد (٢كورنثوس ٤: ١٨).
    فمجد المسيحيين ليس مجد الرتب السامية، ولا إكرام الملوك والغنى، لكنه قائم بنوال النعمة ليحبوا إخوتهم من البشر، وينكروا أنفسهم من أجل الله، وهكذا يشتركون في مجد المسيح إن ساروا في الطريق التي سار فيها هو، وهي طريق التواضع وإنكار النفس.
    لِيَكُونُوا وَاحِداً هذا غاية إعطائهم المجد الذي أعطاه له الآب.
    ٢٣ «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي».
    كولوسي ٣: ١٤
    هذه الآية تفسير للجملة الأخيرة من الآية السابقة، ذكرها ليصف الاتحاد بين الآب والابن والمؤمنين.
    أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ يظهر من هذا أن اتحاد المسيحيين الذي رغب فيه المسيح قلبيٌ مبنيٌ على المحبة، ينتج عنه وحدة الإيمان، والسيرة المقدسة. وليست الغاية في المساواة في الطقوس وسياسة الكنيسة.
    مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ هذا دليل إن حال الانقسام في الكنيسة حال النقصان، وحال الاتحاد حال الكمال. فكلما نقص اتحاد الكنيسة قصرت عن الكمال الذي طلبه المسيح (١يوحنا ٢: ٥ و٤: ١٢، ١٧، ١٨).
    وَلِيَعْلَمَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي كما قيل في ع ٢١ إلا أنه قيل هنالك «ليؤمن» وهنا «ليعلم». فالعلم مقترن بالإيمان والمحبة. قال المسيح إن العالم يقتنع باتحاد المسيحيين أن ديانتهم من الله، وأن معلمهم المسيح رسول الله والوسيط الوحيد والطريق والحق والحياة ورئيس السلام ورب المجد، وأنه يقبل بشارة الخلاص المرسَل إليهم من الآب. ولا يقتنع العالم بذلك إلا عندما يكون المؤمنون جيشاً واحداً تحت رئاسة رئيس واحد سماوي، متفقين في الرأي والعمل.
    ٢٤ «أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ».
    يوحنا ١٢: ٢٦ و١٤: ٣ و١تسالونيكي ٤: ١٧ رومية ٨: ١٧ و٢كورنثوس ٣: ١٨ و١يوحنا ٣: ٢ ع ٥
    طلب المسيح قبلاً تقديس تلاميذه، واتحادهم به، واتحاد بعضهم ببعض. وسأل هنا سعادتهم الأبدية في السماء، وهي غاية ما طلبه قبلاً.
    الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي هذه مرة سابعة وصف تلاميذه بذلك في هذه الصلاة، وهذا دليل على محبته أن ينظر إليهم عطية من الآب له.
    يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَنَا أي في السماء (انظر شرح يوحنا ١٤: ٣). تتوقف أعظم سعادة القديسين في السماء على قبول هذه الطلبة، فلذلك لم يرد المسيح أن يرجع إلى الآب بدون تقديمها، وتركها مكتوبة لنقرأها ونعرف ما الذي يرغب فيه لشعبه، وهو أن يجلسوا معه في عرشه كما غلب هو وجلس مع أبيه في عرشه (رؤيا ٣: ٢١). وتتضمن هذه الطلبة أن الله يمنح للتلاميذ أيضاً كل الوسائط لنوال هذا المجد (لوقا ٢٣: ٤٣ وفيلبي ١: ٢٣ و١تسالونيكي ٤: ١٧).
    لِيَنْظُرُوا مَجْدِي أي ليشتركوا فيه ويتمتعوا به لا مجرد مشاهدة العين (يوحنا ٣: ٣ ومتّى ٥: ٨ و٢كورنثوس ٣: ١٨ و١يوحنا ٣: ٢ ورؤيا ١٨: ٧).
    لأنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ انظر شرح ع ٥. هذا من الأدلة القاطعة على أن المسيح كان قبل كل مخلوق. وذكره بياناً لعظمة مجده بأنه نتج عن محبة الآب منذ الأزل، بخلاف مجد القديسين الذي هو نتيجة أمانتهم مدة حياتهم على الأرض.
    ٢٥ «أَيُّهَا الآبُ البَارُّ، إِنَّ العَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ، وَهَؤُلاءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلتَنِي».
    يوحنا ٧: ٢٩ و٨: ٥٥ و١٠: ١٥ و١٥: ٢١ و١٦: ٣، ٢٧ وع ٨
    أَيُّهَا الآبُ البَارُّ وصف المسيح الآب بالبار لأنه يلتمس منه أن يهب تلاميذه أن يكونوا معه وينظروا مجده، وهذا ليس من الحق والعدل أن يُعطاه الأشرار الذين لم يعرفوا الآب، لكنه يليق بالذين أعدهم الآب لمشاهدة ذلك المجد مجازاة لهم على معرفتهم بالله وإيمانهم به ومحبتهم له.
    أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ كانت معرفة المسيح لأبيه كاملة بدليل قوله «كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ» (يوحنا ١٠: ١٥). وهو قادر أن يعلن الآب للناس بدليل قول الرسول «الابْنُ الوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨) وقوله «لا أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إلا الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (متّى ١١: ٢٧).
    وَهَؤُلاءِ عَرَفُوا بما علّمتهم (يوحنا ١٤: ٩، ١١). والوسيلة إلى معرفة الله هي الجلوس عند أقدام المسيح، وقبول تعاليمه بالإيمان.
    ٢٦ «وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ».
    يوحنا ١٥: ٩، ١٥ وع ٦، ٢٣
    وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ اسم الله كناية عن صفاته، وأخص أسمائه المحبة. وكل تعليم المسيح وعمله إعلان تلك الصفات الحسنى.
    سَأُعَرِّفُهُمْ بروحي القدوس الذي سأرسله. وعمل الروح هو الإرشاد إلى جميع الحق، وإعلان محبة الله «الفائقة المعرفة». ولا يزال المسيح يعرِّف الناس باسم أبيه بواسطة كتابه ومبشريه وروحه القدوس العامل فيهم وبهم.
    لِيَكُونَ فِيهِمُ الحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ انظر شرح يوحنا ١٥: ٩. هذا نتيجة تلك المعرفة السماوية. ويشتمل الحب المذكور هنا على كل بركة. وهذه الطلبة كصلاة بولس من أجل كنيسة أفسس (أفسس ٣: ١٦ - ١٩). وهي تتضمن العناية والحماية من الأعداء على الأرض كما كان المسيح وكمال السعادة في السماء.
    أتى المسيح إلى هذا العالم وعلَّم وتألم ومات من أجلنا لنصعد معه إلى المجد، ولتحل علينا محبة الآب وتملأ قلوبنا كما ملأت قلبه.
    وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ صرّح لهم بأنه ذاهب عنهم، وأنه مع ذلك باقٍ معهم بناسوته حاضراً بلاهوته. وهذا آخر صلاته الوداعية التي بدأت بكلمات تشير إلى المفارقة، وخُتمت بكلمات تشير إلى المجاورة والقربى، لأنه كان سابقاً ساكناً بينهم، وأما بعد صعوده فسكن في قلوبهم. والأساس الوحيد الذي يبني عليه المؤمنون رجاءهم هو محبة الآب لهم، وإجابته صلواتهم، لأن المسيح فيهم. وليس لفضلهم ولا لفضائلهم. ويدخل المسيح قلوبنا بالإيمان، ويمكث فينا بالإيمان، وهو «فينا رجاء المجد» وغاية القداسة والسعادة.


    الأصحاح الثامن عشر


    تسليم يسوع والقبض عليه (ع ١ - ١٢)


    ١ «قَالَ يَسُوعُ هَذَا وَخَرَجَ مَعَ تلامِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ، حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ دَخَلَهُ هُوَ وَتلامِيذُهُ».
    ٢صموئيل ١٥: ٢٣ ومتّى ٢٦: ٣٦ ومرقس ١٤: ٣٢ ولوقا ٢٢: ٢٩
    هَذَا أي الخطاب في يوحنا ١٤ - ١٦ والصلاة في يوحنا ١٧.
    خَرَجَ مَعَ تلامِيذِهِ نستنتج أنه بقي إلى هذا الوقت مع تلاميذه في المدينة حيث أكل الفصح، والأرجح أنهم رتلوا قبل خروجهم (متّى ٢٦: ٣٠).
    عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ كان هذا الوادي شرق أورشليم، بينها وبين جبل الزيتون (٢صموئيل ١٥: ١٣ و٢ملوك ٢٣: ١٢ و٢أيام ١٥: ١٦).
    حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ كان هذا البستان في سفح جبل الزيتون غرباً وسمّي «جثسيماني» (متّى ٢٦: ٣٦) والأرجح أن صاحب البستان كان من أصدقاء يسوع. ولم يذكر يوحنا صلاة المسيح وآلامه هناك. ولعل سبب ذلك أن الكنيسة كانت عارفة به عندما كتب يوحنا.
    ٢ «وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ المَوْضِعَ، لأنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيراً مَعَ تلامِيذِهِ».
    لوقا ٢١: ٣٧ و٢٢: ٣٩ ويوحنا ٨: ١
    وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ المَوْضِعَ لتردده إليه مع المسيح وغيره من التلاميذ. وذكره يوحنا لتأكد يهوذا أنه يجد المسيح هناك كما تحقق أعداء دانيال أنهم يجدونه يصلي وقت الصلاة في موضعه المعتاد (دانيال ٦: ١٠، ١١).
    لأنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيراً مَعَ تلامِيذِهِ (لوقا ٢١: ٣٧ ومتّى ٢١: ١٧ ويوحنا ٨: ١). وقصد المسيح ذلك المكان على سفح جبل الزيتون للانفراد عن الجموع للصلاة، ولتعليم تلاميذه. واعتاد يهوذا أن يسمع هناك الصلاة والتعليم، ولكن ذلك لم يمنعه عن تسليم معلمه هناك.
    ٣ «فَأَخَذَ يَهُوذَا الجُنْدَ وَخُدَّاماً مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ، وَجَاءَ إِلَى هُنَاكَ بِمَشَاعِلَ وَمَصَابِيحَ وَسِلاحٍ».
    أعمال ٤: ١ متّى ٢٦: ٤٧ ومرقس ١٤: ٤٣ ولوقا ٢٢: ٤٧ وأعمال ١: ١٦
    انظر شرح متّى ٢٦: ٤٧ ومرقس ١٤: ٤٣. لم يذكر يوحنا اتفاق يهوذا مع اليهود على أن يسلم يسوع إليهم بثلاثين قطعة فضة، لأن الذين جاءوا مع يهوذا كان بعضهم من جند الرومان والبعض من اللاويين حراس الهيكل وخدام الرؤساء، وكان منهم بعض رؤساء الكهنة للمراقبة. وكان الجمع كثيراً خوفاً من أن يقاومهم تلاميذ المسيح وأصحابه الجليليين. وأتوا بمشاعل ومصابيح والقمر بدر (لأنه كان الفصح) إما لأن السماء غامت، أو لظنهم أن المسيح يختبئ بين أشجار البستان أو في مكان مظلم.
    ٤ «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ تَطْلُبُونَ؟».
    فَخَرَجَ يَسُوعُ كان أولاً داخل البستان يصلي مع ثلاثة من تلاميذه. ولما جاء الجنود لم يصبر إلى أن يطلبوه بل ذهب لملاقاتهم إما إلى مدخل البستان أو إلى خارجه.
    وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ عرف يسوع بسابق علمه كل ما سيحدث، فزادته معرفته بذلك ألماً. وكان يمكنه لو أراد بتلك المعرفة أن ينجو منهم بأن يترك البستان قبل وصولهم.
    وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ تَطْلُبُونَ؟ أظهر يسوع بذلك كل الهدوء والاطمئنان. وعرّض نفسه باختياره للقبض والتقييد والموت على خلاف ما فعل يوم أراد الناس أن يخطفوه ويقيموه ملكاً (يوحنا ٦: ١٥). وقصده بسؤاله إيّاهم ظاهر في ع ٦، ٧ وهو أن يجعل جوابه على سؤاله سبباً ليتركوا تلاميذه.
    ٥ «أَجَابُوهُ: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. قَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ. وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ».
    أَجَابُوهُ: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ أن الذين أجابوه هم رؤساء العسكر الرومان، ولم يعرفوا أن الذي يكلمهم هو الذي يطلبونه. والظاهر أن يهوذا لم يكن قد أظهر لهم العلامة المتفق عليها، وهي القُبلة لأن المسيح تقدم إليهم بغتة. وتبيّن مما في متّى ٢٦: ٥٥ أن بعض القوم قد عرفه.
    قَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ لا بدّ من أنهم تعجبوا بهذا الإقرار لوضوحه وشجاعة قائله.
    وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ لم تتضح غاية البشير من ذكره هذا، ولعلها بيان شر يهوذا وقساوة قلبه ووقاحته، فإن الذي وقف أكثر من ثلاث سنين مع تلاميذ المسيح لم يستحِ أن يقف حينئذ مع أعدائه. أو لعلها تبيّن أنه كان ليهوذا برهان آخر على عظمة المعلم الذي جاء ليسلمه، وهو ما ذكره في الآية الآتية.
    ٦ «فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَنَا هُوَ رَجَعُوا إِلَى الوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ».
    هذا نتيجة تأثير منظر المسيح وكلامه فيهم. وهذا مثل التأثير الذي منع باعة الهيكل من مقاومته لما طردهم منه (يوحنا ٢: ١٣ - ١٦) ومثل ما حدث مع جند الهيكل يوم أرسلهم الرؤساء ليقبضوا عليه (يوحنا ٧: ٤٥، ٤٦). ولو انتبه العسكر لذلك الأمر لاستنتجوا أنه لا قوة لهم على القبض عليه لو أراد هو أن يستعمل قوته لمنعهم.
    ٧ «فَسَأَلَهُمْ أَيْضاً: مَنْ تَطْلُبُونَ؟ فَقَالُوا: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ».
    كرر يسوع السؤال وهم كرروا الجواب، والأرجح أن سقوط الناس حينئذ كان وقتياً، وأنهم قاموا خجلين من ارتعابهم بغتة، ولم يزالوا عازمين على تنفيذ قصدهم.
    ٨ «أَجَابَ: قَدْ قُلتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوْا هَؤُلاءِ يَذْهَبُونَ».
    أظهر يسوع في ساعة الخطر الشديد حبه لتلاميذه وعنايته بهم. والأرجح أن العسكر كان وقتئذٍ محيطاً بتلاميذه ليمسكهم، ولم يُبقِ لهم يسوع حجة للقبض على تلاميذه، فقد سلم نفسه اختياراً، وسألهم: من تطلبون؟ فأجابوا أنهم لا يطلبون سواه، وطلب منهم أن يتركوا التلاميذ. وفي ذلك سمح المسيح للتلاميذ أن يمضوا إذا شاءوا.
    ٩ «لِيَتِمَّ القَوْلُ الَّذِي قَالَهُ: إِنَّ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَداً».
    يوحنا ١٧: ١٢
    رأى البشير في عمل المسيح المذكور مثالاً لما قاله في يوحنا ١٧: ١٢، على أن المسيح لم يقصد مجرد الحفظ الجسدي بل أراد الحفظ الروحي أيضاً. فلو سمح أن يمسكهم العسكر ويأتي بهم إلى حضرة قيافا وبيلاطس لكان ذلك علة لملاشاة إيمانهم، فمنع عنهم بذلك تجربة لا يستطيعون حملها لكي لا تهلك نفوسهم. والأرجح أنه في هذا الوقت أظهر لهم يهوذا العلامة المتفق عليها فقبّله بياناً أن الذي سلم نفسه هو الذي أتوا ليقبضوا عليه (متّى ٢٦: ٤٩).
    ١٠ «ثُمَّ إِنَّ سِمْعَانَ بُطْرُسَ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ، فَاسْتَلَّهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، فَقَطَعَ أُذُنَهُ اليُمْنَى. وَكَانَ اسْمُ العَبْدِ مَلخُسَ».
    متّى ٢٦: ٥١ ومرقس ١٤: ٤٧ ولوقا ٢٢: ٤٩، ٥٠
    راجع تفسير متّى ٢٦: ٥١. وذكر يوحنا وحده اسم الضارب والمضروب. ولا شك أن كليهما كان قد مات قبل أن يكتب يوحنا بشارته بزمن طويل. وما فعله بطرس هنا وفق ما عُهد من أخلاقه وأعماله، لأنه كان سريعاً في الكلام والعمل بدون التأمل في العواقب، وسريع الانتقال من الشجاعة إلى الجبن. ولم يذكر شفاء ملخس إلا لوقا (لوقا ٢٢: ٥١).
    ١١ «فَقَالَ يَسُوعُ لِبُطْرُسَ: اجْعَل سَيْفَكَ فِي الغِمْدِ. الكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألا أَشْرَبُهَا؟».
    متّى ٢٠: ٢٢ و٢٦: ٣٩، ٤٢
    انظر شرح متّى ٢٦: ٥٢.
    الكَأْسُ انظر شرح متّى ٢٠: ٢٢. أظهر المسيح بذلك استعداده لحمل الألم الذي يقتضيه خلاص البشر، واستعار له كأساً مرة، وكان قد صلى قائلاً «يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس». ثم قال مسلماً بقضائه «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الكَأْسُ إلا أَنْ أَشْرَبَهَا فَلتَكُنْ مَشِيئَتُكَ» (متّى ٢٦: ٤٢). وأظهر هنا تمام رضاه أن يشربها. والكلام هنا متعلق بما سبق من صلاته في البستان، ولم يذكره يوحنا بناءً على أنه كان معلوماً عند قرّاء بشارته. وما في هذه الآية توبيخ لبطرس على مقاومته للعسكر، ومنع له عن الاستمرار في المقاومة.
    ١٢ «ثُمَّ إِنَّ الجُنْدَ وَالقَائِدَ وَخُدَّامَ اليَهُودِ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ وَأَوْثَقُوهُ».
    ع ٣ أعمال ٤: ١
    انظر شرح متّى ٢٦: ٥٠. يظهر من هذا أن كل فرقة من فرق ذلك اللفيف اشتركت في تقييد يسوع، كأنهما حسبا إفلاته خطراً عظيماً يجب كل الحذر منه. ولم يظهر أدنى تأثير من معجزة شفاء ملخس فيهم.

    محاكمة المسيح أمام حنان وإنكار بطرس (ع ١٣ - ٢٧)


    ١٣ «وَمَضَوْا بِهِ إِلَى حَنَّانَ أَوَّلا، لأنَّهُ كَانَ حَمَا قَيَافَا الَّذِي كَانَ رَئِيساً لِلكَهَنَةِ فِي تِلكَ السَّنَةِ».
    متّى ٢٦: ٥٧ لوقا ٣: ٢ ع ٢٤
    لم يذكر هذه المحاكمة أحد من كتبة البشائر سوى يوحنا.
    حَنَّانَ انظر شرح يوحنا ١١: ٤٩ ومتّى ٢٦: ٣ ولوقا ٣: ٢.
    أَوَّلاً قال ذلك تمييزاً لوقوفه ثانية أمام قيافا. وقد ذُكر في ع ٢٤ وفي سائر البشائر. قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي إن سلطان رئيس الكهنة كان يبقى له بعد عزله. ولذلك كان يُسمى أحياناً برئيس الكهنة (أعمال ٤: ٦ ولوقا ٣: ٢). وكان حنّان شريكاً لصهره وسائر رؤساء الكهنة في مؤامراتهم على المسيح، وكان متقدماً في الشرف والسلطة حتى حق له أن يحاكم المسيح أولاً في الوقت الذي كان فيه قيافا يرسل رسله إلى سائر أعضاء المجلس يدعوهم للاجتماع إن لم يكونوا قد اجتمعوا. والأرجح أن حنّان كان ساكناً في جزء من قصر رئاسة الكهنة الذي كان يسكنه قيافا، وأن ساحة القصر كانت مشتركة.
    ١٤ «وَكَانَ قَيَافَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى اليَهُودِ أَنَّهُ خَيْرٌ أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ».
    يوحنا ١١: ٥
    انظر شرح يوحنا ١١: ٤٩، ٥٠. أشار يوحنا إلى ما قاله قيافا سابقاً بعد إقامة يسوع لعازر ليبيّن أن لا رجاء لحكم مثل ذلك القاضي بالعدل، إذ رأى قبلاً وجوب أن يموت المسيح لخدمة الأمة سواء كان بريئاً أو مذنباً.
    ١٥ - ١٨ «١٥ وَكَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَالتِّلمِيذُ الآخَرُ يَتْبَعَانِ يَسُوعَ، وَكَانَ ذَلِكَ التِّلمِيذُ مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، فَدَخَلَ مَعَ يَسُوعَ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الكَهَنَةِ. ١٦ وَأَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ وَاقِفاً عِنْدَ البَابِ خَارِجاً. فَخَرَجَ التِّلمِيذُ الآخَرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، وَكَلَّمَ البَوَّابَةَ فَأَدْخَلَ بُطْرُسَ. ١٧ فَقَالَتِ الجَارِيَةُ البَوَّابَةُ لِبُطْرُسَ: أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً مِنْ تلامِيذِ هَذَا الإِنْسَانِ؟ قَالَ ذَاكَ: لَسْتُ أَنَا. ١٨ وَكَانَ العَبِيدُ وَالخُدَّامُ وَاقِفِينَ، وَهُمْ قَدْ أَضْرَمُوا جَمْراً لأنَّهُ كَانَ بَرْدٌ، وَكَانُوا يَصْطَلُونَ، وَكَانَ بُطْرُسُ وَاقِفاً مَعَهُمْ يَصْطَلِي».
    متّى ٢٦: ٥٨، ٦٩ ومرقس ١٤: ٥٤، ٦٦ ولوقا ٢٢: ٥٤، ٥٥ ويوحنا ٢١: ٧ و٢٤
    انظر شرح متّى ٢٦: ٥٧، ٥٨. ولم يذكر يوحنا أن الرسل هربوا جميعاً بعد القبض على يسوع، واقتصر على ذكر أنه هو وبطرس تبعاه ليعرفا ما سيجري له.
    وَالتِّلمِيذُ الآخَرُ (ع ١٥) هذا التلميذ كان يوحنا وأشار إلى نفسه بمثل ذلك (يوحنا ٢٠: ٢، ٣، ٤، ٨).
    مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ لا نعرف سبب تلك المعرفة. وذكر يوحنا ذلك ليبين سبب الإذن له في الدخول، وأن بطرس سُئل عن علاقته بيسوع، ولم يُسأل يوحنا عن ذلك.
    عُرف يوحنا أنه تلميذ المسيح ولم يضره الخدام بشيء، فلو اعترف بطرس أنه من تلاميذه ربما ما كان يصيبه أدنى أذىً، لأن من سألوه ليسوا من أرباب السلطان.
    أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً؟ أشارت بقولها أيضاً إلى أن يوحنا كان هناك، وأنها عرفت أنه من تلاميذ المسيح.
    ١٩ «فَسَأَلَ رَئِيسُ الكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تلامِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ».
    فَسَأَلَ رَئِيسُ الكَهَنَةِ هو حنان (انظر شرح ع ١٣). وكان هذا الفحص مقدمة للفحص أمام قيافا وأعضاء المجلس الذي ذكره متّى ومرقس. وكان القصد منه الوقوف على ما يشتكون به يسوع. ولعل حنان كان يأمل أن يستجوب يسوع قبل التئام المجلس بمحاورة بسيطة يحمله أثناءها على الإقرار بما يكون سبباً للشكوى عليه.
    عَنْ تلامِيذِهِ أي عن عددهم ومقامهم وأسمائهم. ولعل بطرس سمع هذا السؤال فحمله على إنكار أنه من تلاميذ يسوع. وغاية حنان من هذا السؤال شكوى يسوع لبيلاطس، إذا أقر بكثرة تلاميذه بأنه يسعى للثورة على القيصر.
    وَعَنْ تَعْلِيمِهِ ليعرف هل له تعاليم سرية تنافي شريعة موسى أو قوانين الدولة الرومانية، ليشكوه بالتجديف أو بالخيانة.
    ٢٠ «أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَنَا كَلَّمْتُ العَالَمَ علانِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي المَجْمَعِ وَفِي الهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ اليَهُودُ دَائِماً. وَفِي الخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ».
    متّى ٢٦: ٥٥ ولوقا ٤: ١٥ ويوحنا ٧: ١٤، ٢٦، ٢٧، ٢٨ و٨: ٢ إشعياء ٤٥: ١٩ و٤٨: ١٦
    خلاصة جواب المسيح أنه كان يعلّم دائماً جهاراً لا خفية، فلو كان في تعليمه منافاة للدين أو السياسة لعلّمه سراً. ولكن كل تعليمه وغاياته كانت معلنة للجميع.
    ٢١ «لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هَؤُلاءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلتُ أَنَا».
    أشار بذلك إلى أنه ليس من العدل أن يسأل القاضي المتهم عما يحمله به على الشكوى على نفسه، وأبان له أن لا حاجة له إلى أن يسأله عن تعليمه، لأن الذين سمعوه كثيرون ويشهدون عليه إن كان قد تكلم بما لا يليق.
    ٢٢ «وَلَمَّا قَالَ هَذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الخُدَّامِ كَانَ وَاقِفاً، قَائِلاً: أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الكَهَنَةِ؟».
    إرميا ٢٠: ٢ وأعمال ٢٣: ٢
    وَاحِدٌ مِنَ الخُدَّامِ أي من خدام حنّان أو خدام الهيكل الذين أتوا لمراقبة يسوع. وكانت هذه الضربة أول لطمة لوجه ذلك البار من أيدي الأثمة.
    أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الكَهَنَةِ؟ اتهمه بالوقاحة لأنه بريء طلب حقه بجسارة.
    ٢٣ «أَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟».
    متّى ٥: ٣٩
    إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً أي بغير الاحترام الواجب لرئيس الكهنة أو لمنزلته.
    فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ لأعاقَب بمقتضى شريعة موسى (خروج ٢٢: ٢٨).
    وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟ وبَّخ المسيح ضاربه بهذا لأنه ضرب إنساناً لم يثبت عليه ذنب. وفي هذا بيان أن أمر المسيح في متّى ٥: ٣٩ لا يمنع من اعتراض المظلوم بلطف وحلم على الظالم.
    ٢٤ «وَكَانَ حَنَّانُ قَدْ أَرْسَلَهُ مُوثَقاً إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الكَهَنَةِ».
    متّى ٢٦: ٥٧ وع ١٣
    قارن هذه الآية بالآية الثالثة وبما في متّى ٢٦: ٥٧. علة ذكر يوحنا هذه الآية دفع توهّم القارئ أن يسوع لم يُحاكم عند اليهود إلا أمام حنّان. وأشار إلى المحاكمة الثانية بلا تفصيل، وقد فُصلت في متّى ٢٦: ٥٩ - ٦٦ ومرقس ١٤: ٥٥ - ٦٤.
    مُوثَقاً أوثقه الذين قبضوا عليه (ع ١٢) فأرسله حنّان في وثاقه، أو أنه أوثقه بعد أن فكه. ولما بلغ حيث قيافا وسائر أعضاء المجلس فكوه، ثم أوثقوه حين أرسلوه إلى بيلاطس (متّى ٢٧: ٢ ومرقس ١٥: ١).
    ٢٥ - ٢٧ «٢٥ وَسِمْعَانُ بُطْرُسُ كَانَ وَاقِفاً يَصْطَلِي. فَقَالُوا لَهُ: أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً مِنْ تلامِيذِهِ؟ فَأَنْكَرَ ذَاكَ وَقَالَ: لَسْتُ أَنَا. ٢٦ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، وَهُوَ نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذُنَهُ: أَمَا رَأَيْتُكَ أَنَا مَعَهُ فِي البُسْتَانِ؟ ٢٧ فَأَنْكَرَ بُطْرُسُ أَيْضاً. وَلِلوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ».
    متّى ٢٦: ٦٩، ٧١ ومرقس ١٤: ٦٩ ولوقا ٢٢: ٥٨ متّى ٢٦: ٧٤ ومرقس ١٤: ٧٢ ولوقا ٢٢: ٦٠ ويوحنا ١٣: ٣٨
    انظر شرح متّى ٢٦: ٧٢ - ٧٤. الظاهر من أنباء البشائر أن إنكار بطرس ليسوع ثلاثاً كان في أثناء محاكمة يسوع أمام حنّان وأمام قيافا كما فصّل يوحنا. وأما متّى ومرقس فذكراه بعد نهاية المحاكمتين ليظل الكلام في المحاكمة متصلاً.
    فَقَالُوا (ع ٢٥) لنا من خبر مرقس أن البوّابة أخبرت إحدى رفيقاتها بأمر بطرس. ولنا من خبر متّى أن تلك أخبرت سائر الخدام المجتمعين، فعيروا بطرس أنه من تلاميذ يسوع.
    نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذُنَهُ (ع ٢٦) كلام هذا الإنسان علة إنكار بطرس لثالث مرة. ولنا من خبر متّى أن كلامه حمل غيره من القيام هناك على تعيير بطرس قائلاً «إن لغته تشهد عليه أنه جليلي» (متّى ٢٦: ٧٣). ولم يذكر يوحنا أقسام بطرس لينفي أنه تلميذ ليسوع، ولا نظر يسوع إليه، ولا خروجه من الدار وتوبته.

    وقوف المسيح أمام بيلاطس (ع ٣٨ –٤٠)


    ٢٨ «ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الوِلايَةِ، وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الوِلايَةِ لِكَيْ لا يَتَنَجَّسُوا، فَيَأْكُلُونَ الفِصْحَ».
    متّى ٢٧: ٢ ومرقس ١٥: ١ ولوقا ٢٣: ١ أعمال ١٠: ٢٨ و١١: ٣
    انظر شرح متّى ٢٧: ١، ٢، ١١ - ٢٦ ومرقس ١٥: ٢ - ١٥ ولوقا ٢٣: ٢ - ٢٥. ترك يوحنا تفاصيل محاكمة يسوع ليلاً أمام قيافا ومجلس السبعين، ونبأ محاكمته صباحاً أمام مجلس اليهود، وقد ذُكر في متّى ٢٨: ١ ومرقس ٥: ١ ولوقا ٢٢: ٦٦ - ٧١. وترك تصريح يسوع مرتين أمام ذلك المجلس بأنه المسيح ابن الله الذي به حكموا عليه بالتجديف واستحقاقه الموت، لأنها كانت حينئذ من الأمور المشهورة، ولكنه أطال الكلام على ما جرى أمام بيلاطس.
    دَارِ الوِلايَةِ بنى هذه الدار هيرودس الكبير، وكانت منزلاً لولاة الرومان في أيام الأعياد، إذ كانوا يأتون إلى أورشليم من قيصرية مركز الولاية. وكانت تلك الدار مجاورة للهيكل.
    حكم مجلس اليهود على يسوع بالموت (متّى ٢٦: ٦٦) ولكنهم أتوا به إلى بيلاطس لينفذ حكمهم، إذ لم يكن لهم سلطان أن ينفذوا الحكم.
    وَكَانَ صُبْحٌ الأرجح أنه لم يكن قد مرّ أكثر من ساعة من شروق الشمس.
    وَلَمْ يَدْخُلُوا.. لِكَيْ لا يَتَنَجَّسُوا حسب اليهود دخولهم بيوت الأمم تنجيساً لهم (أعمال ٩: ٢٨) واعتبروه كلمس جثة الميت (لاويين ٢٢: ٤ - ٦ وعدد ٥: ٢) وكانت دار الولاية من بيوت الأمم.
    فَيَأْكُلُونَ الفِصْحَ ليس خروف الفصح المخصوص، لأن المسيح أكله مع تلاميذه في الليلة السابقة، وهي مساء ١٤ من نيسان، وهي الوقت المعيّن في شريعة موسى (خروج ١٢: ٦ ولاويين ٢٣: ٥). ولكن المقصود «بالفصح» في هذه الآية ما يأكله اليهود من الفطير وذبائح السلامة المفروضة في سبعة أيام العيد. كما أن «الفصح» يُطلق على مجموع تلك الأيام السبعة (عدد ٢٨: ١٦ - ٢٤ وتثنية ١٦: ٢، ٣ و٢أيام ٣٠: ٢٢ و٣٥: ٧ - ٩).
    ومما ذُكر هنا يتبيّن أن رؤساء اليهود كانوا يفضلون الطهارة الجسدية على الطهارة الروحية، فلم يخافوا من تدنيس نفوسهم بقتل يسوع البار، وخافوا من تنجيس أجسادهم! احترسوا من أن يتدنسوا بدخولهم بيت غريب، ولم يلتفتوا إلى نجاسة قلوبهم بما فيها من إثم!
    ٢٩ «فَخَرَجَ بِيلاطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟».
    فَخَرَجَ بِيلاطُسُ سبق الكلام على هذا الوالي الروماني في شرح متّى ٢٧: ٢. ذهب من الدار إلى ساحة أمامه حيث وقف اليهود احتراماً لعقائدهم، وتسليماً لإرادتهم.
    أَيَّةَ شِكَايَةٍ؟ سألهم ذلك لعلمه أمورهم، أو لمشاهدته يسوع موثقاً بين يديه. وهذا السؤال مما اعتاد الحكام أن يسألوه لمن يأتون بمشكوٍّ عليه.
    ٣٠ «أَجَابُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ!».
    رفض رؤساء الكهنة أن يرفعوا الدعوى عليه، آملين أن بيلاطس يحكم عليه بالقتل لمجرد طلبة الرؤساء، فكأنهم قالوا: فحصناه فوجدناه مذنباً فحكمنا عليه بأنه مستوجب الموت، وأتينا به إليك لتجري حكمنا لا لتحاكمه. ولم يجيبوا بيلاطس بقولهم إن يسوع «مجدّف» خوفاً من أن يرفض كل دعاويهم كما فعل غاليون الوالي الروماني في كورنثوس (أعمال ١٨: ١٥، ١٦) لأن التجديف عند الرومان ليس جناية.
    ٣١ «فَقَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ. فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ: لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدا».
    رفض بيلاطس طلبهم أن يحكم على يسوع بدون فحص، لأن ذلك ينافي الشريعة الرومانية، فإنه إن كان قد ارتكب ذلك أكثر من مرة إرضاءً لليهود، لم يرد أن يفعل ذلك في هذه الدعوى. ويبين جوابه أنه لم يرد أن يدخل فيها، إذ علم أنها اضطهاد ديني، وأن شكواهم زور، إذ لم يتوقع من مجلس اليهود أن يسلموا إنساناً للموت لمجرد طلبه تحرير أمة اليهود من نير الرومان.
    خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ أي بما أنكم حكمتم حسب شريعتكم. فكان لليهود سلطان أن يُخرجوا البعض من المجمع وإجراء بعض القصاص، دون الموت.
    لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَداً انظر شرح متّى ٢٧: ٢. قتل اليهود بعض الناس في ثورة عامة على خلاف الشريعة كما فعلوا باستفانوس (أعمال ٧: ٥٩، ٦٠). والأرجح أن الذي منعهم من قتل يسوع الخوف من أن يحدث شغب في الشعب (متّى ٢٦: ٥). ومعنى قولهم «لا يجوز لنا»: لا نرضى عقاباً له سوى الموت، وهذا في سلطانك لا في سلطاننا، فلا نستطيع أن نفعل كما قلت. فاعترفوا بذلك أنهم تحت عبودية الرومان خلافاً لقولهم في يوحنا ٨: ٣٣، وشهدوا أنه أتى الوقت المعيّن في النبوات لمجيء المسيح، فقد قيل «لا يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (تكوين ٤٩: ١٠).
    ٣٢ «لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ».
    متّى ٢٠: ١٩ ويوحنا ١٢: ٣٢، ٣٣
    انظر متّى ٢٠: ١٩ ويوحنا ٣: ١٤ و١٢: ٣٢، ٣٣. لو قتل اليهود المسيح بغير واسطة الرومان لقتلوه رجماً (تثنية ١٣: ٩، ١٠ و١٧: ٥ - ٧). وأما الصلب فهو عقاب روماني، فنفَّذ اليهود مقاصد الله وما تكلم به يسوع في أمر موته، بإتيانهم بالمسيح إلى بيلاطس.
    ٣٣ «ثُمَّ دَخَلَ بِيلاطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الوِلايَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ: أَأَنْتَ مَلِكُ اليَهُودِ؟».
    متّى ٢٧: ١١
    وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ على انفراد.
    ثُمَّ دَخَلَ بِيلاطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الوِلايَةِ كان قد خرج منها لاستقبال اليهود (ع ٢٨).
    أَأَنْتَ مَلِكُ اليَهُودِ؟ هذا السؤال ناتج عن تهمة اليهود المذكورة في (لوقا ٢٣: ٢) وهي قولهم «وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ» وجاءوا بهذه التهمة حين رفض بيلاطس طلبتهم الأولى أن يحكم عليه بدون فحص. والكلمة الهامة في هذه الجملة هي «أنت» ومعنى قوله «أنت»: هل يمكن أن تكون ملكاً وأنت ضعيف وديع مهان مشكو عليك؟
    ٣٤ «أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا، أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟».
    لم يسأله يسوع عن ذلك لجهله إيّاه بل لينبّه ضميره، ويثبت بجواب بيلاطس نفسه براءته. ومعنى سؤاله: هل رأيت منّي في كل مدة حكمك شيئاً يحملك على أن تظنني أريد خيانة الدولة الرومانية أو عصيان قيصر؟ أو هل أخبرك بذلك آخرون؟ وحذره بهذا من أن يُخدَع ويصدّق دعوى الأعداء الكاذبة. وذكَّره به أنه لو كانت دعواهم صحيحة لعرف بها قبل ذلك.
    أو لعل المسيح قصد بذلك السؤال أن يبيّن لبيلاطس مراده بلفظة «ملك» قبل أن يجاوبه على سؤاله، فكأن المسيح قال له «إن أردت بالمُلك ما يعنيه الرومان به، أي هل أنا ملك أرضي كقيصر؟ قلتُ لا! ولكن إن أردت به ما يقصده اليهود على ما في نبواتهم، فالجواب: نعم. واليهود عرفوا أن المسيح ادَّعى أنه ملك روحي، وأرادوا أن يفهم بيلاطس أنه ادّعى أنه ملك أرضي. ولم يكن بيلاطس محتاجاً لإبطال هذه الدعوى لأنه أرد معرفة مصدر الشكوى. فلو كان مصدرها قائداً رومانياً أو أحد جواسيسه لاستحقَّت أن ينظر فيها. لكنه كان يعلم أنه يستحيل أن يرفعها إليه اليهود بإخلاص لأن أعظم ما يرضيهم أن يقوم بينهم رجل يرفع عنهم نير الرومان!
    ٣٥ «أَجَابَهُ بِيلاطُسُ: أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلتَ؟».
    أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أظهر بيلاطس شيئاً من الحدة والكبرياء في هذا الجواب، وأنكر أنه استعمل لفظة «ملك» بمعنى يهودي، وموضحاً أنه استعملها بمعنى روماني، أي أراد بها ملكاً أرضياً.
    أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ هذا جواب بيلاطس للمسيح على قوله ما معناه: أنت المشتكي أم غيرك؟ فمعنى جواب بيلاطس أنه ليس المشتكي، وأنه لم يرَ شيئاً من علامات العصيان في ما فعله، وأن مصدر الدعوى يهودي.
    مَاذَا فَعَلتَ؟ أي لماذا يتهمك شعبك بادعائك أنك ملك بلا سبب؟ دافع عن نفسك.
    ٣٦ «أَجَابَ يَسُوعُ: مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا العَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا العَالَمِ لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لا أُسَلَّمَ إِلَى اليَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا».
    ١تيموثاوس ٦: ١٣ دانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤ ولوقا ١٢: ١٤ ويوحنا ٦: ١٤ و٨: ١٥
    مَمْلَكَتِي هذه الكلمة جواب لقول بيلاطس «أنت ملك اليهود» ومعناها: نعم، إني رئيس مملكة.
    لَيْسَتْ مِنْ هَذَا العَالَمِ أي ليست كما ادعى اليهود، وليست أرضية مستندة على جيوش وأسلحة ماديّة، وليست لغاية دنيوية، ولا مستندة على وسائط عالمية، ولا قائمة بقوة إجبارية، ولا مقاومة فيها لمملكة قيصر ولا غيرها من ممالك الأرض. هذا مراده سلباً. أما مراده إيجاباً فهو أن أصل مملكتي روحي من السماء، وهي تسود على ضمائر الناس وقلوبهم طوعاً واختياراً، وسلطته روحية، ويقوم انتصارها بانتشار الحق. ويظهر أعظم مجدها في السماء.
    هذه المملكة أُسست على موت المسيح، ويسوسها روح المسيح، وشريعتها إرادة الله، وغايتها مجد الله وخلاص الناس وسعادتهم الأبدية.
    لَوْ كَانَتْ.. لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ ذكر المسيح أمراً واحداً إثباتاً لأن مملكته ليست من هذا العالم. ومن المعلوم أن أتباع المملكة الأرضية يحاربون عنها. أما المسيح فلم يأذن لأحد من الكثيرين الذين تبعوه أن يحامي عنه، وسلم نفسه بلا معارضة إلى من قبضوا عليه، كما أمكن بيلاطس أن يستعلم من جنود الرومان التي جاءت به.
    الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا أي قد وضح الأمر أن مملكتي لا تختص بهذا العالم، فلذلك يجب أن لا تخاف منها. والبرهان على ذلك أني واقف أمامك موثقاً، فإنما سلّمت نفسي ومنعت خدامي عن المحاربة.
    ٣٧ «فَقَالَ لَهُ بِيلاطُسُ: أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى العَالَمِ لأشْهَدَ لِلحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي».
    يوحنا ١٧: ١٧، ١٩ ويوحنا ٨: ٤٧ و١يوحنا ٣: ١٩ و٤: ٦
    أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟ هذا هو سؤاله في ع ٣٣ بترك لفظة اليهود. لا يخلو سؤاله من شيء من التعجب، كأنه كان يتوقع أن يسوع ينكر أنه ملك. فكأن بيلاطس قال ليسوع: لقد اعترفت أنك ملك، وقلت إن مملكتك ليست من هذا العالم، فكيف يمكن ذلك؟
    أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ أي نعم كما قلت. انظر شرح متّى ٢٧: ١١ و لوقا ٢٣: ٣.
    لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى العَالَمِ لأشْهَدَ لِلحَقِّ هذا شرح لقوله إنه ملك وبيان الهدف من تجسده ومجيئه من السماء إلى الأرض، وهي إقامة مملكة الحق، وإعلان حق الله الأزلي للناس (يوحنا ١: ١٨). وكان شاهداً للحق بكلامه وعمله ولا سيما موته. وكانت شهادة المسيح للحق سلاحه الوحيد لتشييد مملكته. إذاً ليس هو مقاوماً لأحد من ملوك الأرض. وهو جواب مناسب يُجاوب به روماني، لأن فلاسفة الرومان ادّعوا أنهم أهل الحق الخالص العاري عن أوهام الناس وضلالاتهم. ولأن المسيح أتى إلى هذا العالم ليشهد للحق، وجب أن يكون الحق من أثمن الكنوز، وأن يجتهد في اقتنائه. والحق الخاص الذي أتى المسيح ليعلنه هو أن الإنسان خاطئ هالك، وأن الله رحيم أعدّ الخلاص مجاناً بواسطة ابنه لكل الذين يتوبون ويؤمنون.
    كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي أي الذي يحب الحق ويقبله ويطيعه هو من رعيتي أهل مملكتي. فإذاً عرشي الملكي في قلوب الناس (يوحنا ٣: ٢١ و٦: ٤٥ و٧: ١٧ و٨: ٤٧ و١٠: ١٦).. فيجب أن نتخذ المسيح معلماً وملكاً، ونطيع أوامره طاعة كاملة.
    ٣٨ «قَالَ لَهُ بِيلاطُسُ: مَا هُوَ الحَقُّ؟. وَلَمَّا قَالَ هَذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى اليَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً».
    متّى ٢٧: ٢٤ ولوقا ٢٣: ٤ ويوحنا ١٩: ٤، ٦
    مَا هُوَ الحَقُّ؟ هذا ليس سؤال محب للحق يطلب الإرشاد من رب الحق، بدليل أنه انصرف قبل أن يسمع الجواب، فكأنه قال: لا أحد يعرف حقيقة الحق أو يستطيع أن يوضحه، فكم بالحري أنت! ولا فائدة لك ولا لي من معرفة ذلك أو جهله. فإن أكثر علماء الرومان كانوا حينئذ قد فقدوا كل ثقة بديانتهم الوثنية، ولم يكونوا قد عرفوا الدين المسيحي، فتسلط عليهم الكفر بالدين.
    خَرَجَ أَيْضاً إِلَى اليَهُودِ إلى الساحة حيث ترك رؤساء الكهنة وأخبرهم بنتيجة استجوابه ليسوع وهي أنه ملك مثل هذا ليس عدواً لقيصر، فهو بريءٌ.
    أتى يسوع ليكون ذبيحة إثم، فاقتضى الأمر أن يكون «حملاً بلا عيب» وبرهان أنه كذلك شهادة بيلاطس الذي أسلمه إلى الموت، وهي قوله: «أنا لست أجد فيه علة واحدة». فكان يجب على بيلاطس أن يطلق يسوع في الحال، ولكنه لم يفعل ذلك خوفاً من اليهود لئلا يشتكوه لطيباريوس قيصر على ذنوب كثيرة كان قد ارتكبها في محاكمات سابقة. لكنه حاول أن يرفع عن نفسه مسؤولية الحكم على يسوع. واتخذ لذلك عدة وسائل: الأولى، ذكرها لوقا ولم يذكرها يوحنا، وهي أنه أرسله إلى هيرودس حاكم الجليل الذي كان قد أتى وقتئذ إلى أورشليم لأجل العيد، فلم يستفد من ذلك شيئاً، لأن هيرودس أبى أن يحمل المسؤولية، فردَّه بدون أن يحكم بأنه مذنب (لوقا ٢٣: ٦ - ١٢). والثانية ذكرها يوحنا بالاختصار في الآيتين الآتيتين.
    ٣٩، ٤٠ «٣٩ وَلَكُمْ عَادَةٌ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ وَاحِداً فِي الفِصْحِ. أَفَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ اليَهُودِ؟. ٤٠ فَصَرَخُوا أَيْضاً جَمِيعُهُمْ: لَيْسَ هَذَا بَل بَارَابَاسَ. وَكَانَ بَارَابَاسُ لِصّاً».
    متّى ٢٧: ١٥ ومرقس ١٥: ٦ ولوقا ٢٣: ١٧ أعمال ٣: ١٤ لوقا ٢٣: ١٩
    انظر شرح مرقس ١٥: ٨ ولوقا ٢٣: ٦ - ١٢. أطال لوقا الكلام على ذلك أكثر من يوحنا. ونستنتج مما قيل في بشارة مرقس أن الشعب صرخ عندما خرج بيلاطس طالباً أن يُطلق لهم أسيراً كعادته في العيد. والظاهر أن بيلاطس ظن الشعب يطلبون إطلاق يسوع إذا خيّرهم بينه وبين باراباس، وترك لهم أن يحكموا بصلب أحدهما وإطلاق الآخر. وقصد بذلك أن ينجو من تلويم الرؤساء إذا أطلق يسوع بقوله إن الشعب أجبره على ذلك. ولعله سمع نبأ سرور الشعب بيسوع في أول ذلك الأسبوع يوم احتفلوا بدخوله إلى أورشليم، وكان قد عرف أن الرؤساء طلبوا قتل يسوع حسداً (متّى ٢٧: ١٨) وأن الشعب أحبه وأكرمه. ولعله رأى أن تنزيل يسوع منزلة المذنب كباراباس يشفي غليل رؤساء اليهود من جهته.
    لَيْسَ هَذَا بَل بَارَابَاسَ مرّ الكلام على باراباس في شرح متّى ٢٦: ١٥ - ١٨. كان قاتلاً، فضلاً عن أنه لص (لوقا ٢٣: ١٩). ولا شك أن بيلاطس تعجب من هذا الصراخ والكلام، إذ كان يتوقع خلافه (راجع مرقس ١٥: ١١). والظاهر أن أصحاب المسيح كلهم سكتوا، وبذلك صدق على الشعب قول بطرس يوم الخمسين «يَسُوعَ، الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاطُسَ، وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاقِهِ. وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ القُدُّوسَ البَارَّ، وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ» (أعمال ٣: ١٣، ١٤). فأظهروا أنهم أحبوا لصاً قاتلاً أكثر من يسوع المسيح البار. وفشلت هذه الوسيلة الثانية التي حاول بها بيلاطس أن يطلق يسوع. وزادت الأمر صعوبة، لأنه أظهر للرؤساء ضعفه، وأنه يخاف مقاومتهم لأنه لم يستطع أن يطلق يسوع باعتباره باراً، وسمح بأن يحسبه مذنباً، راجياً أن يطلب الشعب إطلاقه.


    الأصحاح التاسع عشر


    محاكمة يسوع أمام بيلاطس ع ١ - ١٦


    ١ - ٣ «١ فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ. ٢ وَضَفَرَ العَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَلبَسُوهُ ثَوْبَ أُرْجُوانٍ، ٣ وَكَانُوا يَقُولُونَ: السّلامُ يَا مَلِكَ اليَهُود. وَكَانُوا يَلطِمُونَهُ».
    متّى ٢٠: ١٩ و٢٧: ٢٦ ومرقس ١٥: ١٥ ولو ١٨: ٣٣
    هذه وسيلة ثالثة اتخذها بيلاطس لإطلاق يسوع، وهي أن يجلده بشدة ويسلمه إلى جنود الرومان ليهزأوا به، أملاً أن يشفي بذلك بغض الرؤساء، ويحرك شفقة الشعب ليطلبوا إطلاقه. ودليل ذلك قوله «فأنا أؤدبه وأطلقه» (لوقا ٢٣: ١٦). فواضح أنه جبان قاس وظالم محتال. وقد سبق الكلام على الجلد والاستهزاء في شرح متّى ٢٧: ٢٧ ومرقس ١٥: ١٦. وذكر متّى ومرقس الجلد والحكم بالصلب معاً لأنهما كانا مقترنين، وأحدهما يستلزم الآخر. ولنا من رواية يوحنا أن الجلد سبق الصلب، ويظن بعض المفسرين أن يسوع جُلد مرتين، ولكن الموافقة بين البشيرين لا تقتضي ذلك. وقد جاءت النبوة في العهد القديم بذلك الجلد (إشعياء ٥٣: ٣) وأنبأ يسوع به (لوقا ١٨: ٣٣) وذكره بطرس في رسالته الأولى (١بطرس ٢: ٢٤).
    ٤ «فَخَرَجَ بِيلاطُسُ أَيْضاً خَارِجاً وَقَالَ لَهُمْ: هَا أَنَا أُخْرِجُهُ إِلَيْكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً».
    يوحنا ١٨: ٣٨ وع ٦
    لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً ذكر يوحنا أن بيلاطس شهد بهذا ليسوع ثلاث مرات (يوحنا ١٨: ٣٨ و١٩: ٤، ٦) وفي هذه الشهادة تصريح بأن يسوع لم يهيّج فتنة، وليس ملكاً يقاوم قيصر.
    ٥ «فَخَرَجَ يَسُوعُ خَارِجاً وَهُوَ حَامِلٌ إِكْلِيلَ الشَّوْكِ وَثَوْبَ الأُرْجُوَانِ. فَقَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: هُوَذَا الإِنْسَانُ».
    فَخَرَجَ يَسُوعُ خَارِجاً كان داخل القصر وسبقه بيلاطس إلى الساحة حيث كان اليهود مجتمعين وكلمهم بما في ع ٤ ثم أخرج يسوع وأراه لهم.
    وَهُوَ حَامِلٌ إِكْلِيلَ الشَّوْكِ وَثَوْبَ الأُرْجُوَانِ هذا مثل قول الرسول «أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ» (٢كورنثوس ٨: ٩) لأن رب المجد كلمة الله المتجسد الذي كان معبود الملائكة وقف عُرضة لهزء الناس وتعييرهم، لابساً ثوباً بالياً بدلاً من ثوب المجد والجلال، مجروحاً دامي الجبين، وعلى رأسه إكليل من الشوك بدلاً من تيجان العرش الأسمى.
    هُوَذَا الإِنْسَانُ أي الرجل الذي تبغضونه واتهمتموه بالخيانة وسألتموني قتله، وقد علمت أنه بريءٌ وأخبرتكم بذلك، ولكني جلدته وأهنته إرضاءً لكم، فانظروه الآن واشفقوا عليه واكتفوا بما كان، وسلِّموا بإطلاقه. وجدير بالمسيح أن يُقال فيه «هوذا الإنسان» إذ لا نظير له في الكون كله، وهو ابن الإنسان، وابن الله، وسيطنا الوحيد، رافع خطايانا. وهو الرب برنا، ومخلصنا، وشفيعنا، وحبيبنا. طوبى لكل مؤمن يسجد له بالإيمان والطاعة والمحبة، وويل لمن يرفضه ويهمله.
    ٦ «فَلَمَّا رَآهُ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ وَالخُدَّامُ صَرَخُوا: اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ! قَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ، لأنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً».
    أعمال ٣: ١٣
    لم تنجح وسيلة بيلاطس الثالثة، كما لم تنجح الاثنتان السابقتان، فإن منظر يسوع لم يحرك شفقتهم بل كان وقيداً جديداً لنار غضب الرؤساء، وأوجب صراخهم على يسوع صراخ الجميع عليه.
    الخُدَّامُ أي أتباع الكهنة وحراس الهيكل.
    خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ هذا كلام يدل على غيظ وخيبة، فكأنه قال: اقتلوه أنتم إذا أردتم، ولا تسألوني أن أشارككم في إثم قتله. ولتكن عليكم المسؤولية والعاقبة، لأنه ليس من شريعة ولا حق ولا عدل في الحكم عليه.
    لأنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً هذه مرة ثالثة قال هذا القول عينه. وذهبت الوسائل الثلاث التي اتخذها لإطلاقه سدىً. (١) إرساله يسوع إلى هيرودس. (٢) تخيير الشعب بينه ويبن باراباس. (٣) جلده والهزء به.
    ٧ «أَجَابَهُ اليَهُودُ: لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لأنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ».
    لاويين ٢٤: ١٦ متّى ٢٦: ٦٥ ويوحنا ٥: ١٨ و١٠: ٣٣
    هذا هو الأمر الثالث مما اتفق اليهود عليه في طلبهم إلى بيلاطس قتل يسوع. وكان الأول الحكم عليه بالموت بلا فحص، فلم ينجحوا. والثاني أنه خائن للدولة الرومانية، ولم ينجحوا بهذا أيضاً، فأخذوا في الثالث، وهو أنه جدّف.
    وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ هذا جوابهم على قول بيلاطس «لستُ أجد فيه علة» عدلوا عن اتهامهم إيّاه بجناية سياسية لأن بيلاطس قال إنه بريءٌ، واتهموه بالتجديف الذي حكم مجلس السبعين على يسوع به. وخلاصة شكواهم أنه إن لم يستحق الموت بتعديه على الدولة فهو يستحقه بتعديه على الدين والشريعة. والناموس الذي أشاروا إليه هو قوله «وَمَنْ جَدَّفَ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ» (لاويين ٢٤: ١٦). فسألوا بيلاطس أن يُجري الحكم الذي يوجبه ناموسهم ودينهم.
    جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ أي صرح بأنه إله. وفهم اليهود من قوله أنه ابن الله معادلته لله (يوحنا ٥: ١٨ و١٠: ٣٣).
    ٨ «َلَمَّا سَمِعَ بِيلاطُسُ هَذَا القَوْلَ ازْدَادَ خَوْفاً».
    هَذَا القَوْلَ أي أن يسوع قال إنه ابن الله.
    ازْدَادَ خَوْفاً من أن يحكم على المسيح لئلا يكون أعظم من سائر الناس، أي أن يكون أحد الآلهة ظهر في هيئة إنسان وسكن بين الناس على وفق ما كان اليونانيون والرومانيون يعتقدون (أعمال ١٤: ١١ و٢٨: ٦). ويشير قوله «ازداد» إلى أن ضميره كان يوبخه قبل ذلك على ظلمه لإنسان بارّ. وذُكر أن امرأته قد أرسلت إليه تحذره من الإساءة إلى يسوع (متّى ٢٧: ١٩). ولعله سمع بأعمال يسوع الغريبة وأقواله العجيبة، فلما سمع أنه ادعى الألوهية رأى أن ذلك ربما كان حقاً، وخشي الانتقام الإلهي إن لم يطلق يسوع.
    ٩ «فَدَخَلَ أَيْضاً إِلَى دَارِ الوِلايَةِ وَقَالَ لِيَسُوعَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَاباً».
    إشعياء ٥٣: ٧ ومتّى ٧: ٦ و٢٧: ١٢، ١٤ ويوحنا ١٨: ٣٧
    فَدَخَلَ أَيْضاً إِلَى دَارِ الوِلايَةِ آخذاً يسوع معه ليخاطبه على انفراد.
    مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ أي: هل أنت من السماء؟ هل أنت أحد الآلهة؟ ولم يقصد بيلاطس معرفة وطن يسوع الأرضي أو عائلته، فقد كان يعلم أنه الجليل (لوقا ٢٣: ٦، ٧) وسؤاله هذا لا يفيده في شيء.
    وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَاباً لا نعلم علة سكوت المسيح عن ذلك، والأرجح أنه لم يجاوبه لأنه لا يستحق، فقد فسر له حقيقة مملكته، وأن غاية مجيئه ليشهد للحق. وعرف بيلاطس أنه بريء، وصرّح بذلك. ومع ذلك أمر بجلده والهزء به بدلاً من أن يطلقه، فدان يسوع بسكوته الرجل الذي دانه. على أن يسوع كان قد أجابه على هذا السؤال بقوله «أتيت إلى العالم» وهذا يلزم أنه ليس من العالم (يوحنا ١٨: ٣٧). قال المسيح «كل من هو من الحق يسمع صوتي» وواضح أن بيلاطس ليس من الذين يسمعون صوت المسيح، فليس من الحق أن يخاطبه المسيح بعد ذلك. وعلم يسوع أنه لا فائدة من الجواب، لأنه لم يسأل عن العدل ولا الحق، ولأنه لن يفهم ولن يؤمن لو صرّح له بأنه ابن الله.
    ١٠ «فَقَالَ لَهُ بِيلاطُسُ: أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟».
    غضب بيلاطس على يسوع لسكوته عن جوابه وحسب ذلك توبيخاً له، فرأى أن يخيفه ليجاوبه، فتباهى بسلطانه. نعم أنه كان قادراً أن يحكم على يسوع، لكن لم يكن له حق في ذلك الحكم. وكان بيلاطس عند افتخاره بسلطانه عبداً لليهود، لا يجسر ان يغيظهم بإطلاق يسوع. وكان سكوت يسوع تحقيقاً لنبوة إشعياء ٥٣: ٧.
    ١١ «أَجَابَ يَسُوعُ: لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلطَانٌ البَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ».
    لوقا ٢٢: ٥٣ ويوحنا ٧: ٣٠
    هذا جواب المسيح على قول بيلاطس مرتين «لي سلطان». فقال له يسوع: لا سلطان لك كما ادعيت، لأن كل سلطانك من الله، وهو عيّنك لهذه الوظيفة ووهب لك هذه السلطة (رومية ١٣: ١ ومزمور ٧٥: ٦ و٧ ودانيال ٢: ٢١).
    عَلَيَّ لم يكن لبيلاطس سلطان على المسيح لو لم يُسلمه الآب لأجل خطايانا، ولو لم يسلم هو نفسه للموت (رومية ٩: ٣٢ وإشعياء ٥٣: ١٢). فكأنه قال: إني واقف هنا موثقاً لا طوعاً لمشيئة وسلطان إنسان، بل طوعاً لقصد الله ومشيئته. فإذاً لا أخاف شيئاً من سلطانك، ولا أرجو منه شيئاً.
    لِذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لم يقصد بذلك يهوذا لأنه سلم يسوع إلى اليهود لا إلى بيلاطس، إنما قصد به أعضاء مجلس السبعين الذين رئيسهم قيافا، واليهود الذين تبعوهم.
    لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ تكلم عن الجميع كأنهم واحد لاتفاقهم على قتله. والمعنى أن خطية اليهود أعظم من خطية بيلاطس. فلم يبرر بيلاطس من الخطية، بل صرح بأن خطيته أصغر من خطية اليهود، لأنهم هيجوه ليستعمل السلطان الذي أعطاه الله له ليحكم بالحق باعتباره قاضياً ووالياً في عقاب البريء. فهم كانوا الجناة، وكان بيلاطس آلة في يدهم. وفضلاً عن ذلك كان بيلاطس وثنياً يجهل النبوات المتعلقة بالمسيح وتعاليم العهد القديم، وعرف قليلاً من أمر معجزات المسيح وتعليمه، ولم يُرد أن يسلم يسوع إلى الموت. إنما فعل ذلك إرضاءً لليهود. فكانت خطيته الجبن والضعف والجهل. وأما هم فكانوا يعرفون تلك النبوات وبراهين كثيرة على أنه أجرى المعجزات، ومع ذلك طلبوا قتله حسداً وبغضاً، فزاد إثمهم على قدر زيادة معرفتهم عن معرفة بيلاطس. والتماس المسيح العذر لبيلاطس يشبه صلاته من أجل قاتليه: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا ٢٣: ٣٤).
    ١٢ «مِنْ هَذَا الوَقْتِ كَانَ بِيلاطُسُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ، وَلَكِنَّ اليَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ: إِنْ أَطْلَقْتَ هَذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكاً يُقَاوِمُ قَيْصَرَ».
    لوقا ٢٣: ٢ أعمال ١٧: ٧
    يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ كان قد طلب ذلك من تلك الساعة باجتهاد زائد بسبب تأثره من هيئة المسيح وكلامه. ولم يتضح هنا ماذا فعل ليُظهر اجتهاده. ونستنتج من قول اليهود أنه ترك يسوع داخلاً وخرج إليهم وأخبرهم أنه لم يحكم عليه بالموت لاتهامهم إياه بالتجديف، وأنه عزم على إطلاقه.
    وَلَكِنَّ اليَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ ترك اليهود اتهامهم يسوع بالتجديف ورجعوا إلى اتهامهم له بالخيانة، وقالوا لبيلاطس ما مضمونه: إن أطلقته نشكوك إلى قيصر بأنك خائن لدولتك لأنك لم تعترض إنساناً صرّح بأنه ملك اليهود. وكان طيباريوس قيصر إمبراطور الرومان وقتئذ كثير الوساوس سريع الغضب ظالماً، كما يشهد المؤرخان الرومانيان تاسيتوس وسويتونيوس، فيصدِّق حالاً كل شكاوى كهذه تُرفع إليه. فخاف بيلاطس لمعرفته أن طيباريوس يصدقها.
    وما أظهره اليهود هنا من الرغبة في المحاماة عن حقوق قيصر غاية في الرياء والمكر والدجل.
    ١٣ «فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاطُسُ هَذَا القَوْلَ أَخْرَجَ يَسُوعَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الوِلايَةِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ «البلاطُ» وَبِالعِبْرَانِيَّةِ «جَبَّاثَا».
    هَذَا أي قول اليهود في ع ١٢ وهو أنهم يشكونه إلى قيصر. فانتُزع من قلبه كل شفقة وكل احترام للعدل وللمسيح، ففضَّل أن يسلم يسوع البار إلى الموت على أن يخاطر بنفسه بتعريضها لشكاوى اليهود.
    أَخْرَجَ يَسُوعَ لأنه كان داخل دار الولاية. والشريعة الرومانية تلزم الحاكم بأن لا يحكم على المتهم إلا وهو أمامه.
    جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الوِلايَةِ لعل هذا الكرسي كان كمنبر من المرمر قليل الارتفاع، يجلس عليه الحاكم عند المحاكمة في الساحة أمام دار الولاية.
    يُقَالُ لَهُ البلاطُ لعله سمي بذلك لأنه كان مبلطاً بمرمر مختلف الألوان.
    وَبِالعِبْرَانِيَّةِ «جَبَّاثَا»أي رابية أو مكاناً مرتفعاً. والمراد بالعبرانية هنا السريانية أي اللغة التي تكلم بها اليهود بعد رجوعهم من بابل، وكانت عبرانية ممزوجة بالكلدانية.
    ١٤ «وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الفِصْحِ وَنَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَقَالَ لِليَهُودِ: هُوَذَا مَلِكُكُمْ».
    متّى ٢٧: ٦٢ مرقس ١٥: ٢٥
    وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الفِصْحِ أي يوم الجمعة حسب اصطلاح اليهود لأنهم كانوا يطبخون فيه ما يحتاجون إليه من طعام يوم السبت (انظر شرح متّى ٢٧: ٦٢ وانظر أيضاً لوقا ٢٣: ٥٤) وقوله في مرقس ١٥: ٤١ «وَلَمَّا كَانَ المَسَاءُ، إِذْ كَانَ الاسْتِعْدَادُ - أَيْ مَا قَبْلَ السَّبْتِ» وكان ذلك اليوم استعداداً لأقدس سبوت السنة عندهم، لأنه السبت الذي في أسبوع الفصح.
    وَنَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ أي قرب الظهر (بعد الشروق بست ساعات) حسب اصطلاح اليهود وقتئذ (انظر شرح مرقس ١٥: ٢٥، وانظر متّى ٢٧: ٤٥ ولوقا ٢٣: ٤٤). وجاء في بعض النسخ «الثالثة» بدل السادسة. ومما يستحق الاعتبار فضلاً عما ذُكر أربعة أشياء: (١) أن متّى ومرقس ولوقا اتفقوا على أن الظلمة كانت من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة. وكان المسيح حينئذ على الصليب، وهذا موافق لقول يوحنا. (٢) أن يوحنا ميّز بين وقت جلد بيلاطس ليسوع ووقت صلبه بأن ذكر كليهما كحادثة معيّنة. أما متّى ومرقس فذكرا الحادثتين كأنهما واحدة، ولذلك حسبا وقت الجلد مع وقت الصلب. فإذا كان الجلد في الساعة الثالثة كما قال مرقس، فيحتمل أن يكون الصلب قد بقي إلى نحو الساعة التاسعة. (٣) أن يوحنا لم يعيّن وقت الصلب أنه كان الساعة السادسة بل قال إنه نحوها، ولم يكن يومئذ للناس وسائط لتعيين الساعة بالتدقيق كما في هذه الأيام، ولم يكونوا يبالون بذلك. (٤) أن اليهود قسموا اليوم إلى «هُزُع» كل هزيع ثلاث ساعات وندر أن يذكروا سوى الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة (متّى ٢٠: ٣، ٥) وحسبوا ما بين كل من تلك الساعات إما مع ما قبلها أو مع ما بعدها. والصلب حدث ما بين الساعة الثالثة والساعة السادسة، فنسبه متّى ومرقس إلى الوقت الأول منهما، ونسبه يوحنا إلى الثاني.
    هُوَذَا مَلِكُكُمْ قصد بيلاطس بهذا تعيير اليهود والتهكم عليهم، كما قصد ذلك بالعنوان (متّى ٢٧: ٣٧). وكان حينئذ مغتاظاً منهم، فكأنه قال: هذا الأسير الضعيف الجريح المهان هو الذي خفتم منه وطلبتم قتله بحجة أنه ملك يقاوم قيصر.
    ١٥ «فَصَرَخُوا: خُذْهُ! خُذْهُ اصْلِبْهُ! قَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟ أَجَابَ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ: لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ الا قَيْصَرُ».
    تكوين ٤٩: ١٠ و١صموئيل ١٢: ١٢
    خُذْهُ اصْلِبْهُ لم يكتفوا بشيء سوى قتله. وكانوا كلما رأوه أو سمعوا ذكره زادوا حنقاً ورغبة في إماتته، فتمت بذلك نبوتان هما إشعياء ٤٧: ٧ و٥٣: ٢.
    قَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟ أي: هل تريدون مني أنا الروماني أن أقتل ملككم أيها اليهود؟ وسبق مثل هذه القول من بيلاطس في ع ٥ وقصد وقتئذ تحريك شفقتهم عليه. وأما قصده هنا فتهييج غيرتهم الطائفية وكبرياءهم باعتبارهم أمة مستعبَدة.
    لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إلا قَيْصَرُ في هذا إنكار لمبادئ ديانتهم أن الله وحده هو ملكهم (١صموئيل ١٢: ١٢) وإنكار لاعتقاد آبائهم، وآمالهم بتصريحهم أن قيصر هو ملكهم الوحيد، وارتكبوا ذلك من شدة بغضهم ليسوع، ومن رغبتهم في أن يجعلوا بيلاطس يحكم حسب مرامهم، فشهد بذلك للعالم أنه قد تمت النبوة بمجيء المسيح القائلة «لا يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ» (تكوين ٤٩: ١٠). والأرجح أنه كان حينئذ ما ذكره متّى من نبإ غسل بيلاطس يديه أمام الشعب (متّى ٢٧: ٢٤).

    الصلب (ع ١٦ - ٣٧)


    ١٦، ١٧ «١٦ فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ. فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ. ١٧ فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ إِلَى المَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «مَوْضِعُ الجُمْجُمَةِ» وَيُقَالُ لَهُ بِالعِبْرَانِيَّةِ «جُلجُثَةُ».
    متّى ٢٧: ٢٦، ٣١، ٣٢ ومرقس ١٥: ١٥، ٢١، ٢٢ ولوقا ٢٣: ٢٤، ٢٦، ٣٣ وعدد ١٥: ٣٦ وعبرانيين ١٣: ١٢.
    (انظر شرح متّى ٢٧: ٣١ - ٣٤ ومرقس ١٥: ٢٠ - ٢٣ ولوقا ٢٣: ٢٦ - ٣٣).
    ظن البعض أن بيلاطس جلد يسوع ثانية حسب العادة الجارية في أمر الصلب (أي أنه يكون مقترناً بالجلد) للموافقة بين ما قاله يوحنا وما قاله متّى ومرقس، بناءً على أن جلده إيّاه أولاً كان لتحريك شفقة اليهود عليه ووسيلة إلى إطلاقه.
    أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ أي إلى رؤساء الكهنة، وأعطاهم أيضاً فرقة من جنود الرومان لتنفيذ الحكم (لوقا ٢٣: ٢٤، ٢٥). والمسيح أُسلم لأجل خطايانا بإرادته وإرادة أبيه، فضلاً عن أنه أُسلم بأمر بيلاطس ظلماً لأن الرب «لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَل بَذَلَهُ لأجْلِنَا أَجْمَعِينَ» (رومية ٤: ٢٥ و٨: ٣٢). فأُسلم ذلك للموت الوقتي لننجو من الموت الأبدي وننال الحياة الأبدية.
    ١٨ «حَيْثُ صَلَبُوهُ، وَصَلَبُوا اثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا، وَيَسُوعُ فِي الوَسَطِ».
    انظر شرح متّى ٢٧: ٣٨ ومرقس ١٥: ٢٧ ولوقا ٢٣: ٣٣، ٣٤. وكان ذلك تحقيقاً لنبوة إشعياء ٥٣: ١٢.
    ١٩ «وَكَتَبَ بِيلاطُسُ عُنْوَاناً وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ. وَكَانَ مَكْتُوباً: يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ اليَهُودِ».
    عُنْوَاناً انظر شرح متّى ٢٧: ٣٧ ومرقس ١٥: ٢٦ ولوقا ٢٣: ٣٨. قصد بيلاطس بذلك إهانة اليهود وتذكيرهم أنهم أجبروه على صلب ملكهم، كما قصد تبرئة نفسه من تهمتهم أنه ليس محباً لقيصر.
    ٢٠ «فَقَرَأَ هَذَا العُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ اليَهُودِ، لأنَّ المَكَانَ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ يَسُوعُ كَانَ قَرِيباً مِنَ المَدِينَةِ. وَكَانَ مَكْتُوباً بِالعِبْرَانِيَّةِ وَاليُونَانِيَّةِ وَاللاتِينِيَّةِ».
    كَانَ قَرِيباً مِنَ المَدِينَةِ ذكر يوحنا ذلك بياناً لكثرة المشاهدين، فلو صُلب بعيداً عن المدينة لما كان كذلك.
    بِالعِبْرَانِيَّةِ أي لغة اليهود وهي عبرانية ممزوجة بالكلدانية.
    وَاليُونَانِيَّةِ وكانت لغة الأمم الساكنة في الأرض المقدسة وما جاورها من البلاد وسكان بلاد اليونان ومصر ولغة علماء اليهود.
    وَاللاتِينِيَّةِ أي لغة الرومان وهي الدولة الحاكمة، وكانت اللغات الثلاث أشهر لغات الأرض في ذلك العصر. ولعل ما جاء من الفرق في لفظ العنوان في البشائر نتج عن أن الواحد ترجم ما كُتب في لغة، والآخر ترجم ما كُتب في لغة أخرى، أو لعل بعضهم نقل المعنى دون الحرف. وكان بيلاطس بما كتبه عنواناً شاهد حقٍ على غير قصد.
    ٢١ «فَقَالَ رُؤَسَاءُ كَهَنَةِ اليَهُودِ لِبِيلاطُسَ: لا تَكْتُبْ: مَلِكُ اليَهُودِ، بَل: إِنَّ ذَاكَ قَالَ أَنَا مَلِكُ اليَهُودِ».
    لا شك أن رؤساء اليهود شعروا بأن بيلاطس قصد بذلك العنوان الهزء بهم، فأرادوا تغييره لأنهم لم يرضوا أن يُدعى رجل مصلوب ملكهم.
    ٢٢ «أَجَابَ بِيلاطُسُ: مَا كَتَبْتُ قَدْ كَتَبْتُ».
    رفض بيلاطس طلب اليهود بهذا الجواب فلم يعد يخشى من أن يشكوه إلى قيصر. ورجع إلى عناده وكبريائه. ولم يخلُ جوابه من إظهار غيظه أنه خضع لهم في ما أرادوا.
    ٢٣، ٢٤ «٢٣ ثُمَّ إِنَّ العَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً. وَأَخَذُوا القَمِيصَ أَيْضاً. وَكَانَ القَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. ٢٤ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لا نَشُقُّهُ، بَل نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ. لِيَتِمَّ الكِتَابُ القَائِلُ: اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلقَوْا قُرْعَةً. هَذَا فَعَلَهُ العَسْكَرُ».
    متّى ٢٧: ٣٥ ومرقس ١٥: ٢٤ ولوقا ٢٣: ٣٤ مزمور ٢٢: ١٨
    انظر شرح قسمة ثياب يسوع في شرح متّى ٢٧: ٣٥. ونبأ يوحنا بذلك أوضح من غيره إذ ظهر منه أن الذين صلبوه كانوا أربعة، وأن الثياب كانت أربع قطع بالإضافة إلى القميص، فأخذ كل واحد قطعة، ولم يقسموا القميص بل اقترعوا عليه. وذلك تحقيقاً للنبوة «يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» (مزمور ٢٢: ١٨). وكانت ثياب المصلوب عند الرومان من نصيب الصالبين.
    ٢٥ - ٢٧ «٢٥ وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ. ٢٦ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً، قَالَ لأُمِّهِ: يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ. ٢٧ ثُمَّ قَالَ لِلتِّلمِيذِ: هُوَذَا أُمُّكَ. وَمِنْ تِلكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ».
    لوقا ٢٤: ١٨ متّى ٢٧: ٥٦ مرقس ١٥: ٤٠ ولوقا ٢٣: ٤٠ ويوحنا ١٣: ٢٣ و٢٠: ٢ و٢١: ٧، ٢٤ ويوحنا ٢: ٤ ويوحنا ١: ١١ و١٦: ٣٢
    لم يذكر أحد من كتبة البشائر ما قيل في هذا الفصل سوى يوحنا.
    أُمُّهُ أي مريم وكانت حينئذ في نحو الثامنة والأربعين.
    وَأُخْتُ أُمِّهِ الأرجح أنها سالومي أم يوحنا الإنجيلي، لكنه لم يذكر اسمها كما امتنع عن ذكر اسمه في بشارته. والذي يقوي أرجحية أنها سالومي ذكر متّى أنها أم ابني زبدي (متّى ٢٧: ٥٦).
    مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا ويسمى حلفى أيضاً (متّى ١٠: ٣) وهي أم يعقوب الصغير ويوسي. أظهرت النساء الأربع محبتهن ليسوع وأمانتهن وشجاعتهن، لأنهن عرضن أنفسهن بحضورهن لإهانة اليهود وقساوة الرومان. وأظهروا ما لم يظهره سوى واحد من التلاميذ وهو يوحنا.
    التِّلمِيذَ الَّذِي أي يوحنا (يوحنا ١٣: ٢٤).
    هُوَذَا ابْنُكِ الإشارة إلى يوحنا وقصد أنه بمنزلة ابنها يعتني بها ويقوم بكل ما تحتاج إليه بناء على محبة يوحنا له. ونستنتج من ذلك أن يوسف خطيبها كان قد تُوفي منذ سنين. وعمل المسيح هذا نموذجٌ لكل الأبناء، يعلّمهم القيام بما يجب عليهم لوالديهم، لأنه لم يغفل مستقبل أمه، في وقت يحتمل فيه أشد الآلام، ويكفر عن خطايا العالم.
    هُوَذَا أُمُّكَ أوصى أمه أن تعتبر يوحنا ابناً لها كما أوصى يوحنا أن يعتبرها أماً له، يعتني بها. وأظهر بذلك ثقته بيوحنا.
    مِنْ تِلكَ السَّاعَةِ أي من ذلك الوقت إلى يوم وفاتها.
    ٢٨ - ٣٠ «٢٨ بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ الكِتَابُ قَالَ: أَنَا عَطْشَانُ. ٢٩ وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلا، فَمَلأوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ. ٣٠ فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الخَلَّ قَالَ: قَدْ أُكْمِلَ. وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ».
    مزمور ١٩: ٢١ خروج ١٢: ٢٢ ولاويين ١٤: ٤ ومزمور ٥١: ٧ متّى ٢٧: ٤٨ ويوحنا ١٧: ٤ ويوحنا ١٠: ١٨
    انظر شرح متّى ٢٧: ٤٨.
    بَعْدَ هَذَا أي بعد ثلاث ساعات الظلمة وسكوت المسيح، إذ لم يتكلم إلا بقوله لأبيه «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟» (انظر متّى ٢٧: ٤٥ - ٥٠ ومرقس ١٥: ٣٣ - ٥١ ولوقا ٢٣: ٤٤ - ٥١). ثم نحو الساعة التاسعة زالت الظلمة وحدث ما ذكر في هذا الفصل.
    رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ أشار بهذا إلى كل حوادث حياته التي اقتضتها الكفارة عن خطايا العالم. وذكر البشير هذا مقدمةً لذكر موته. وكان موت المسيح باختياره وسلطانه حسب قوله «لي سلطان أن أضعها» (أي حياته) (يوحنا ١٠: ١٨) فلم يمت إلا بعد أن أكمل كل ما هو ضروري للفداء.
    لِكَيْ يَتِمَّ الكِتَابُ أي كان ذلك على وفق ما قاله الكتاب.
    قَالَ أَنَا عَطْشَانُ لم يقل ذلك على قصد أن يتم الكتاب، بل لأنه كان عطشان حقاً، لأن جسده كان كسائر أجساد البشر يتألم كغيره من المصلوبين. والمصلوب يعاني من حمى شديدة وعطش شديد. وبإظهاره عطشه وبشربه فعلاً تم الكتاب.
    إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاً (ع ٢٩) الأرجح أن ذلك الإناء كان للعسكر، فيه شيء مما اعتادوا شربه وهو خمر حامض، ولذلك كانوا يسمونه «خلاً». ويجب التمييز بين هذا الخل والخل الذي أعطوه إيّاه في أول الصلب ممزوجاً بمرارة لتسكين الألم، وأبى أن يشربه (متّى ٢٧: ٣٤).
    فَمَلأوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الخَلِّ هذه أسهل طريقة إلى سقيه في تلك الحال.
    قَالَ قَدْ أُكْمِلَ (ع ٣٠) انظر شرح متّى ٢٧: ٥٠. هذا قول المسيح السادس وهو معلق على الصليب. قارنه بقوله في (ع ٢٨) «رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ» وبقوله للآب في (يوحنا ١٧: ٤) «العَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأعْمَلَ قَدْ أَكْمَلتُهُ».
    والذي أُكمل سبعة أمور: (١) حياته الجسدية فإنه تجسد وقضى على الأرض نحو ٣٣ سنة، وكان حينئذ على وشك أن يترك العالم. (٢) عمل الفداء العظيم. وإلى هذا أشار النبي بقوله «سَبْعُونَ أُسْبُوعاً قُضِيَتْ.. لِتَكْمِيلِ المَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالبِرِّ الأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ القُدُّوسِينَ» (دانيال ٩: ٢٤). (٣) قصد الله الأزلي. (٤) إتمامه الشريعة نائباً عن الإنسان وطاعته إيّاها طاعة كاملة. وبذلك تم قول الكتاب أنه «يُعَظِّمُ الشَّرِيعَةَ وَيُكْرِمُهَا» (إشعياء ٤٢: ٢١) وبموته أمكن أن يظهر بر الآب، ويتبرر الخاطئ. (٥) كل رموز وشعائر النظام الموسوي. (٦) كل نبوات العهد القديم المتعلقة بالفداء من التكوين بخصوص نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تكوين ٣: ١٥)، ومجيء ملاك العهد القديم الذي تنبأ به ملاخي (ملاخي ٣: ١). (٧) كل آلام المسيح وعاره وتعبه.
    نَكَّسَ رَأْسَهُ (ع ٣٠) هذه شهادة شاهد عيان أثر فيه ما شاهده، وبقي في ذاكرته فشهد به. وتنكيس الرأس من نتائج الموت الطبيعية للمصلوب، لأن الرأس يُنصب بالاختيار. ولكن متّى انتهت سلطة الإرادة على عضلات الجسد تتنكس رأس المصلوب.
    أَسْلَمَ الرُّوحَ عبّر بهذا عن الموت لأنه انفصال الروح عن الجسد، ولأنه مات باختياره (يوحنا ١٠: ١٨). وأسلم روحه إلى يدي أبيه (لوقا ٢٣: ٤٦). وذكر لوقا حينئذ قول المسيح السابع والأخير على الصليب وهو «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي».
    فإن سُئل: إلى أين ذهبت نفس المسيح؟ قلنا: الفردوس (لوقا ٢٣: ٤٣). ولم يذكر يوحنا في بشارته الظلمة التي كانت من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، ولا الزلزلة، ولا انشقاق حجاب الهيكل، لأسباب لا نعلمها.

    طعن جنب المسيح (ع ٢١ - ٣٧)


    ٣١ «ثُمَّ إِذْ كَانَ اسْتِعْدَادٌ، فَلِكَيْ لا تَبْقَى الأَجْسَادُ عَلَى الصَّلِيبِ فِي السَّبْتِ، لأنَّ يَوْمَ ذَلِكَ السَّبْتِ كَانَ عَظِيماً، سَأَلَ اليَهُودُ بِيلاطُسَ أَنْ تُكْسَرَ سِيقَانُهُمْ وَيُرْفَعُوا».
    مرقس ١٥: ٤٢ وع ٤٢ تثنية ٢١: ٢٣
    اسْتِعْدَادٌ هو يوم الجمعة الذي كان اليهود يستعدون فيه للسبت.
    فَلِكَيْ لا تَبْقَى الأَجْسَادُ عَلَى الصَّلِيبِ فِي السَّبْتِ كان الرومان يتركون المصلوبين على الصلبان حتى يموتوا ويفسدوا مهما استغرق هذا من وقت. وأما اليهود فحسبوا بقاء أجساد المصلوبين على صلبانهم بعد غروب الشمس تنجيساً لأرضهم، بحسب ما جاء في تثنية ٢١: ٢٢، ٢٣. فمنعاً لذلك سألوا بيلاطس أن يتخذ وسيلة لإماتة المصلوبين سريعاً حتى يمكن تنزيل أجسادهم قبل غروب الشمس.
    لأنَّ يَوْمَ ذَلِكَ السَّبْتِ كَانَ عَظِيماً لأنه السبت الذي في أسبوع عيد الفصح وهو عندهم أقدس السبوت.
    تُكْسَرَ سِيقَانُهُمْ ليموتوا سريعاً. وكان الرومان قد اعتادوا مثل هذه الوسيلة لتلك الغاية. وكانت أداة ذلك الكسر غالباً عصا ثقيلة. وكان سؤال اليهود ذلك واسطة لما لم يقصدوه، وهو إنجاز النبوة القائلة إن المسيح لا يرى فساداً (مزمور ١٦: ١٠).
    ٣٢ «فَأَتَى العَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ الأَوَّلِ وَالآخَرِ المَصْلُوبَيْنِ مَعَهُ».
    فَأَتَى العَسْكَرُ أي المعيّنون لهذه الخدمة فهم غير الحراس.
    سَاقَيِ الأَوَّلِ وَالآخَرِ هذا يحتمل أن العسكر كانوا فرقتين أخذت إحداهما تكسر ساقي من على أحد جانبي المسيح وأخذت الأخرى تكسر ساقي من على الجانب الآخر حتى أتتا إلى يسوع أخيراً. وتم بذلك وعد المسيح لأحد اللصين بقوله «اليَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الفِرْدَوْسِ» (لوقا ٢٣: ٤٣).
    ٣٣ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ».
    عرفوا ذلك من اصفرار لونه، وتنكيس رأسه، ولعلهم لمسوه أيضاً. ووثقوا بشهادة قائد الحراس أنه مات (متّى ٢٧: ٥٤). ولنا مما قيل هنا البرهان الأول على أن المسيح مات يقيناً.
    ٣٤ «لَكِنَّ وَاحِداً مِنَ العَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ».
    يوحنا ٢٠: ٢٦ و١يوحنا ٥: ٦، ٨
    في هذه الآية البرهان الثاني على موت المسيح يقيناً. كانت غاية الجندي الذي طعن جنب المسيح أن يتأكد من موته، وأن ما شاهده ليس إغماءً ولا خداعاً، فكأنه قال في نفسه: إن لم يكن قد مات فطعن جنبه كافٍ أن يذهب بباقي حياته. ونستنتج مما قيل في يوحنا ٢٠: ٢٧ أن الجرح كان واسعاً وعميقاً. ونستدل من خروج الدم والماء من جنبه أن الحربة بلغت شغاف قلبه. وانحلال الدم إلى ما ذُكر دليل قاطع على وقوع الموت، وأن علته انهيار القوة الجسدية. وكان ما فعله العسكر دفعاً لكل شك في حقيقة موت المسيح، ثم في حقيقة قيامته.
    إن المؤمن بالله يرى للرب يداً في تحريك حربة ذلك الجندي الروماني، كما يرى له يداً في تحريك قلم يوحنا البشير في تسجيل خبر هذه الحادثة.
    ٣٥ «وَالَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ».
    عبّر يوحنا هنا عن نفسه بضمير الغائب، وقد اعتاد في هذه البشارة أن لا يذكر اسمه. وقال هنا ثلاثة أمور شاهدها بعينه. (١) إن ساقَي المسيح لم تُكسرا. (٢) إن أحد جنود الرومان طعن جنبه. (٣) إنه خرج من جنبه دمٌ وماءٌ. وغايته من تقديم هذه الشهادة إثبات أن المسيح مات يقيناً، لأن عمل الفداء متوقِّف على موته، فقد مات كفارة عن الخطاة، وعليه تتوقف حقيقة القيامة وأكثر عقائد المسيحية. وغايته أيضاً إثبات أن يسوع هو المسيح، لأن النبوات تمّت بحوادث موته، فهو الموعود به فيها كما أوضح في ع ٣٦، ٣٧.
    ٣٦، ٣٧ «٣٦ لأنَّ هَذَا كَانَ لِيَتِمَّ الكِتَابُ القَائِلُ: عَظْمٌ لا يُكْسَرُ مِنْهُ. ٣٧ وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ».
    خروج ١٢: ٤٦ وعدد ٩: ١٢ ومزمور ٢٢: ١٦، ١٧ و٣٤: ٢٠ و١كورنثوس ٥: ٧ وزكريا ١٢: ١٠ ورؤيا ١: ٧
    سجل يوحنا هنا الأمور الثلاثة التي حققت ما يتعلق بالمسيح من رمز ونبوة.
    عَظْمٌ لا يُكْسَرُ مِنْهُ هذا ما أمرت به الشريعة في شأن حمل الفصح (خروج ١٢: ٤٦ وعدد ٩: ١٢). وكان ذلك الحمل رمزاً ليسوع كما يظهر من قول يوحنا المعمدان (يوحنا ١: ٢٩) ومن قول بولس الرسول في (١كورنثوس ٥: ٧). وما صدق على الرمز صدق على المرموز إليه وتم ذلك بالعناية الإلهية.
    سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ هذا من نبوة زكريا (يوحنا ١٢: ١٠) والمقصود منه أن الذين ينظرونه ليسوا هم العسكر ويوحنا والذين كانوا وقوفاً حول الصليب فقط، بل اليهود كلهم الذين سيذكرون بعد ذلك أنهم كانوا العلة الحقيقية لطعنه (وإن كان الطاعن غيرهم) ويتوبون عن خطيتهم، أو ينوحون لذلك يأساً في يوم الدين (رؤيا ١: ٧).
    والمقصود أيضاً من تلك النبوة أن المؤمنين في كل عصر ينظرون بالإيمان إلى جنب المسيح المجروح لأجلهم، برهاناً على محبته لهم محبة تفوق الوصف، وعلى كمال الفداء الذي أتى به لأجلهم.

    الدفن (ع ٣٨ - ٤٢)


    ٣٨ «ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ، وَهُوَ تِلمِيذُ يَسُوعَ، وَلَكِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ الخَوْفِ مِنَ اليَهُودِ، سَأَلَ بِيلاطُسَ أَنْ يَأْخُذَ جَسَدَ يَسُوعَ، فَأَذِنَ بِيلاطُسُ. فَجَاءَ وَأَخَذَ جَسَدَ يَسُوعَ».
    متّى ٢٧: ٥٧ ومرقس ١٥: ٤٣ ولوقا ٢٣: ٥٠ ويوحنا ٩: ٢٢ و١٢: ٤٢
    سبق الكلام على دفن يسوع في شرح متّى ٢٧: ٥٧ - ٦١ ومرقس ١٥: ٤٢ - ٤٧.
    يُوسُفَ كان رجلاً غنياً وتلميذاً للمسيح (متّى ٢٧: ٥٧) ومشيراً شريفاً ينتظر ملكوت الله (مرقس ١٥: ٤٣) وصالحاً باراً لم يوافق اليهود في رأيهم وعملهم (لوقا ٢٣: ٥٠، ٥١). وزاد يوحنا على ما قاله سائر البشيرين أنه كان تلميذ يسوع خفية.
    سَأَلَ بِيلاطُسَ أظهر شجاعة ومحبة بهذا الفعل.
    فَأَذِنَ بِيلاطُسُ بعد أن تحقق موت يسوع من القائد (مرقس ١٥: ٤٤، ٤٥).
    ٣٩ «وَجَاءَ أَيْضاً نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي أَتَى أَوّلا إِلَى يَسُوعَ لَيْلا، وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً».
    يوحنا ٣: ١ و٢ و٧: ٥٠ خروج ٣٠: ٢٣ وأستير ٢: ١٢ وأمثال ٧: ١٧ ونشيد الأنشاد ٣: ٦
    نِيقُودِيمُوسُ انظر شرح يوحنا ٣: ١ و٧: ١٠. ولم يذكره ويذكر مشاركته ليوسف في دفن المسيح سوى يوحنا.
    الَّذِي أَتَى أَوَّلاً أي في بدء خدمة المسيح (يوحنا ٣: ١).
    مُرٍّ وَعُودٍ الأول راتينج والثاني خشب، وكلاهما طيّب الرائحة، غالي الثمن، يحنط بهما لمنع الفساد (مزمور ٤٥: ٨). وكانت طريقة استعمالهما في التحنيط أنهم يسحقونهما ويضعون مسحوقهما على جثة الميت ويلفونها بلفائف تحيط بالجسد كله (٢أيام ١٦: ١٤).
    مِئَةِ مَناً أي لتراً (يوحنا ١٢: ٣) وهو وزن يوناني روماني يعدل نحو ١١٥ درهماً، فمبلغ المئة نحو تسع وعشرين أقّة.
    ٤٠ «فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ، وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الأَطْيَابِ، كَمَا لِليَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا».
    أعمال ٥: ٦
    لَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ من كتّان اشتراه يوسف (مرقس ١٥: ٤٦ ولوقا ٢٣: ٥٣).
    كَمَا لِليَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا (يوحنا ١١: ٤٤). هذا من الأدلة على أن يوحنا كتب بشارته لكل أمة، وكثيرون منهم يجهلون عوائد اليهود.
    قدم المجوس الهدايا من الذهب والأطياب الثمينة للمسيح ليكرموه عند ميلاده. وقدم له غني ومشير الكتان والأطياب والخدمة والقبر ليكرماه عند دفنه.
    ٤١ «وَكَانَ فِي المَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ، وَفِي البُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ».
    انظر شرح متّى ٢٧: ٦٠. اقتضت الحال أن يكون القبر قريباً لينتهوا من دفنه قبل المغرب، واقتضت أن يكون القبر لأحد المهتمين بدفنه ليحق لهم أن يدفنوه فيه. وبيّنت لنا بشارة يوحنا قرب القبر، وبيّن غيره من كاتبي البشائر أن القبر كان ليوسف. وزاد بعضهم أن القبر كان منحوتاً في صخرة (متّى ٢٨: ٦٠). فلم يكن له إلا مدخل واحد هو الباب الذي كان في حراسة الحراس.
    قَبْرٌ جَدِيدٌ هذا يوافق قول لوقا «وَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ» (لوقا ٢٣: ٥٣). وهذا يمنع توهّم أن الذي قام غير يسوع. وهو يليق بمقام يسوع الملكي.
    ٤٢ «فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ لِسَبَبِ اسْتِعْدَادِ اليَهُودِ، لأنَّ القَبْرَ كَانَ قَرِيباً».
    إشعياء ٥٣: ٩ ع ٣١
    اسْتِعْدَادِ اليَهُودِ أي يوم الجمعة (انظر شرح ع ١٤، ٣١). ويلزم من هذا القول أن الدفن كان بسرعة، وأنه كان مقدمة لعمل آخر بعد مرور السبت (كما يتبيّن من مرقس ١٦: ١ ولوقا ٢٣: ٥٦). والدافع على تلك السرعة يتبيّن من اعتبارنا أن المسيح مات الساعة التاسعة، فاضطروا أن يكملوا دفنه قبل الساعة الثانية عشرة (السادسة مساءً بتوقيتنا) التي هي أول يوم السبت. فإذا عرفنا أن يوسف يحتاج أن يذهب إلى بيلاطس ويستأذنه في دفن يسوع، وأن يهيئ الكتان والأطياب مع نيقوديموس، ثم يُنزل الجسد ويلفه بالأكفان ويحمله إلى القبر، ويدحرج الحجر على بابه. وإذا رأينا أن الوقت كان قصيراً بالنظر إلى إتمام ذلك، فاقتضت الحال أن يسرعوا. كان دفن يسوع في القبر نهاية تواضعه الذي احتمله لأجلنا، وهذا تنازل عظيم ممن هو رب الحياة.
    نزع مكث يسوع في القبر ظلمة القبر وهوله، لأنه وإن دخله أسيراً للموت فقد قام منه منتصراً على الموت انتصاراً ليس لنفسه فقط، بل لكل شعبه أيضاً (١كورنثوس ١٥: ٥٦).


    الأصحاح العشرون


    مجيء مريم المجدلية وبطرس ويوحنا إلى القبر بعد القيامة (ع ١ - ١٠)


    ١ «وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ إِلَى القَبْرِ بَاكِراً، وَالظّلامُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ القَبْرِ».
    متّى ٢٨: ١ ومرقس ١٦: ١ ولوقا ٢٤: ١
    شغل يوحنا الأصحاحين الأخيرين من بشارته بظهور يسوع بعد قيامته، وذكر فيهما ما لم يذكره غيره من البشيرين. والقيامة من جوهريات المسيحية لأنها من أعظم البراهين على أن يسوع هو المسيح الموعود به في نبوات العهد القديم. وهي المعجزة التي أعطاها لليهود إثباتاً لصحة دعواه (متّى ١٢: ٣٩ ويوحنا ٢: ١٩ - ٢١) وهي تصديق الله على تلك الدعوى. وهي كمال عمل الفداء، والبرهان على أن كفارته للخطاة قُبلت، وعلى أنه أوفى الدَّين عنهم (رومية ٤: ٢٥ و١بطرس ١: ٣). وهي عربون قيامة المؤمنين. وسبق الكلام في البراهين على صحة قيامة المسيح وفي ظهوره عشر مرات لتلاميذه في شرح متّى ٢٨: ١٧.
    فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أي يوم الأحد الذي اتخذه المسيحيون من ذلك الوقت يوم العبادة، تذكاراً لقيامة المسيح، وسُمي «يوم الرب» (رؤيا ١: ١٠) والأرجح أنهم فعلوا ذلك طاعةً لأمر المسيح.
    مضى بين نهاية أصحاح ١٩ وبدء أصحاح ٢٠ ما حسبه الكتاب ثلاثة أيام، وهو يوم كامل وجزءان من يومين. وكان جسد المسيح في ذلك الوقت مضطجعاً في القبر والعسكر حارساً، والتلاميذ يائسين، واليهود مبتهجين إلى صباح اليوم الثالث. وترك يوحنا ذكر ختم القبر ووضع الحراس (متّى ٢٧: ٦٢ - ٦٦) والزلزلة وإتيان النساء ودحرجة الحجر وخوف الحراس (متّى ٢٨: ٢ - ٤).
    جَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ انظر شرح متّى ٢٨: ١. هي لم تأت وحدها بل أتت أيضاً مريم أم يوسي وسالومي ويونّا ونساء أُخر من الجليل، وكنّ واقفات قرب الصليب عند موته، والأرجح أنهنّ اتفقن على الاجتماع عند القبر بعد السبت لإكمال فرائض الدفن الذي لم يستطعنه يوم الجمعة. ولا يلزم افتراض أن أولئك النساء جئن معاً. وخص يوحنا مريم بالذكر لأنها معروفة أكثر من الباقيات، ولأن المسيح ظهر لها أولاً.
    بَاكِراً، وَالظّلامُ بَاقٍ قال مرقس «إذ طلعت الشمس» فالأرجح أن بعضهن سبق بعضاً، وذكر يوحنا من سبق منهن.
    فَنَظَرَتِ الحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ القَبْرِ ذكر البشيرون الأربعة أن النساء وجدن الحجر مرفوعاً. والظاهر أن مريم والنساء الباقيات لم يكنَّ يعرفن وضع حراس هناك. ولو عرفن ذلك ما عزمن على الاجتماع عند القبر قبل طلوع الشمس. والأرجح أن مريم لم تبلغ عند القبر بل نظرت بابه مفتوحاً، واستنتجت أن جسد يسوع أُخذ منه فعدلت عن الاقتراب منه.
    ٢ «فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ القَبْرِ وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ».
    يوحنا ١٣: ٢٣ و١٩: ٢٦ و٢١: ٢٠، ٢٤
    فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلمِيذِ الآخَرِ أي رجعت مسرعة إلى المدينة تاركة رفيقاتها اللواتي لم يرجعن إلا بعد حين. والمقصود «بالتلميذ الآخر» يوحنا (يوحنا ١٣: ٢٢) وعلة ذهابها إلى بطرس ويوحنا دون غيرهما أنهما متقدمان بين الرسل في الغيرة والإيمان والمحبة، وأنهما أكثر اهتماماً بأمر يسوع من غيرهما. ولعل السبب أيضاً أن أم يسوع في بيت يوحنا، فرغبت في إخبارها.
    أَخَذُوا السَّيِّدَ أي أناس مجهولون. وهي لم تستطع أن ترى علة لرفع الحجر سوى أخذ الجسد وإخفائه. واتضح من كلامها أنه لم يخطر على بالها أن المسيح قام، وأنها لم تنظر الملاك الذي ظهر لغيرها من أولئك النساء وقال «ليس هو ههنا لأنه قام» (متّى ٢٨: ٥، ٦).
    وَلَسْنَا نَعْلَمُ هذا يدل على أنها لم تأت وحدها إلى القبر.
    ٣ «فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى القَبْرِ».
    لوقا ٢٤: ١٢
    تأثر التلميذان من هذا الخبر فأسرعا يفحصان الأمر، لأنهما لا بد سألا مريم: هل نظرت ما بداخل القبر لتعلم هل أُخذ الجسد حقيقة؟ فقالت: لا، فجريا إلى القبر لإزالة كل شك.
    ٤ «وَكَانَ الاثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلا إِلَى القَبْرِ».
    فَسَبَقَ التِّلمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ الأرجح أن يوحنا كان أصغر سناً من بطرس ولذلك سبقه، فلا يلزم من سبقه أنه كان أكثر غيرة من بطرس، لأن بطرس خرج أولاً من البيت (ع ٣) وكان الأول في دخول القبر (ع ٦).
    ٥ «وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُل».
    يوحنا ١٩: ٤٠
    وَانْحَنَى لأن الباب كان قصيراً، وقد جرت العادة أن تكون أبواب القبور كذلك لتسهيل سده بالحجر.
    فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً فتحقق من ذلك أن الجسد ليس في القبر. ولا بد أنه تعجب من أن الذي أخذ الجسد لم يأخذ الأكفان معه اقتصاداً للوقت والتعب.
    لَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُل لخوفه أو احترامه أو شدة حزنه لفقدانه سيده، ولعله انتظر وصول رفيقه قبل أن يدخل.
    ٦، ٧ «٦ ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ القَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، ٧ وَالمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الأَكْفَانِ، بَل مَلفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ».
    يوحنا ١١: ٤٤
    وَدَخَلَ القَبْرَ عُرف بطرس بالسرعة والجسارة. فنظر ما لم يره يوحنا، وهو أن المنديل كان ملفوفاً موضوعاً على حدة، دلالة على أن الذي حدث في القبر كان بكل تأنٍ ونظام، وأنه لم يأخذه أصحابه، وإلا أخذوه بأكفانه، ولم يسرقه أعداؤه لأنهم لو سرقوه لأخذوا الأكفان أيضاً. أو لو تركوها ما طووها ووضعوها بالترتيب، كل كفن في مكان. فتحير بطرس من كل ما رأى.
    ٨ «فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلا إِلَى القَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ».
    شجع دخول بطرس القبر أولاً يوحنا ليفعل مثله، فعرف مما شاهده أن جسد الرب لم يُسرق.
    وَرَأَى فَآمَنَ بأن يسوع قد قام، وأنه حيّ لا محالة، وأنه هو المسيح ابن الله. وزالت كل الشكوك التي اعترته مما شاهده من القبض على المسيح وصلبه ودفنه. واتضح مما ذُكر أن يوحنا كان أول من آمن من الناس بقيامة المسيح.
    ٩ «لأنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ».
    مزمور ١٦: ١٠ وأعمال ٢: ٢٥ - ٣١ و١٣: ٣٤، ٣٥
    قال البشير ذلك بياناً لعلة جهله وجهل سائر التلاميذ بنبوات الكتاب المقدس المتعلقة بقيامة المسيح.
    لأنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ أي إلى وقت كونه في القبر قبل أن شاهد أحد المسيح بعد قيامته.
    يَعْرِفُونَ الكِتَابَ أي النبوات المتعلقة بموت المسيح وقيامته، ومنها ما في مزمور ١٦: ١٠ وإشعياء ٥٣: ١٠. (انظر شرح لوقا ٢٤: ٢٨، ٤٨). ومنعهم جهلهم بمعنى تلك النبوات من فهم كلام المسيح يوم أنبأهم أنه يقوم في اليوم الثالث، ومنعهم من أن يتوقعوا قيامته حتى أنهم لم ينتبهوا حالاً لذلك لما رأوا القبر مفتوحاً ولم يروا جسده فيه. ولم ينبئنا البشير هل آمن بطرس مما رأى أو لا. الأرجح أنه لم يكن قد آمن، وإلا لذكر ذلك كما ذكر إيمان نفسه على أنه آمن بذلك بعد بضع ساعات من النهار عينه حين ظهر المسيح له (لوقا ٢٤: ٣٤ و١كورنثوس ١٥: ٥).
    ١٠ «فَمَضَى التِّلمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا».
    رجعا معاً إلى مسكنهما في المدينة بعد ما تحققا بالمشاهدة ما أنبأتهما به مريم المجدلية من أن القبر مفتوح والجسد مأخوذ، ولم يريا من فائدة لبقائهما هناك. ولعلهما خافا من أن اليهود إذا وجدوهما عند القبر، وعرفوا أن جسد يسوع مأخوذ، يتهمونهما بسرقته. ولا بد أن الرسولين تحاورا على الطريق بما يمكن أن يكون قد حدث ليسوع، فقال يوحنا «إنه قام» وقال بطرس «لا بل أنه سُرق».

    ظهور يسوع لمريم المجدلية (ع ١١ - ١٨)


    ١١ «أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ القَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى القَبْرِ».
    مرقس ١٦: ٥
    أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ القَبْرِ فإذاً لا بد أنها رجعت إلى القبر بعدما أخبرتهما في البيت (ع ٢) لكنها لم تستطع أن تجري، ولم تقتنع كما اقتنع يوحنا من مشاهدة الأكفان مطويّة والمنديل ملفوفاً وموضوعاً وحده. وبقيت تتوقع معرفة شيء آخر مما يتعلق بجسد المسيح، مع أنها انحنت ونظرت ما نظراه.
    ١٢ «فَنَظَرَتْ ملاكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً».
    فَنَظَرَتْ ملاكَيْنِ هما ملاكان حقيقة، ولذلك دعاهما يوحنا كذلك. لكنهما ظهرا في صورة الناس ولذلك سماهما مرقس ولوقا «رجلين». ولا منافاة بين إنباء يوحنا بظهور ملاكين لمريم وإنباء متّى بظهور ملاك واحد لغيرها من النساء (متّى ٢٨: ٥) لأن ذلك حدث وهي غائبة لتنبئ الرسولين، وهذا بعد انصراف أولئك النساء. ومن العجيب أن مريم لم تستغرب رؤية الملاكين، ولم تخف منهما. وعلّة ذلك أن شدة حزنها ورغبتها في الفحص عن جسد المسيح شغلت كل أفكارها ومنعتها أن تنتبه لغرابة ذلك الأمر.
    ١٣ «فَقَالا لَهَا: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ قَالَتْ لَهُمَا: إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ».
    لِمَاذَا تَبْكِينَ لم يسألاها لجهلهما السبب بل لينبهاها على أن لا داعٍ للبكاء، وأنها يجب أن تفرح لمشاهدتها القبر مفتوحاً، لأنه دليل على قيامة من تبكيه. وكثيراً ما يحق للملائكة أن يسألونا: «لماذا تبكون؟» عندما يروننا ننوح على من نفقدهم من الأصدقاء وهم أحياء عند الله.
    أَخَذُوا سَيِّدِي جوابها للملاكين كإنبائها للرسولين (ع ٢). فكل ما خطر على بالها أن الجسد أُخذ، وهي تريد أن تراه. والعجيب أن القيامة لم تخطر لها على بال.
    ١٤ «وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا التَفَتَتْ إِلَى الوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ».
    متّى ٢٨: ٩ ومرقس ١٦: ٩ ولوقا ٢٤: ١٦، ٢١ ويوحنا ٢١: ٤
    التَفَتَتْ إِلَى الوَرَاءِ لم نعلم علة التفاتها وقطعها الحديث مع الملاكين، ولعلها يئست من الإفادة منهما، فاستدارت لتذهب.
    وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ علة جهلها أنه يسوع عدم توقعها رؤيته، وما حدث من التغيّر في هيئته (مرقس ١٦: ١٢) أو لعل عينيها أُمسكتا عن معرفته، كما أُمسكت عيون المسافرَيْن إلى عمواس في آخر ذلك النهار (لوقا ٢٤: ١٦).
    ١٥ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ فَظَنَّتْ تِلكَ أَنَّهُ البُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلتَهُ فَقُل لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ».
    لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ لا يخلو هذا الكلام من التنبيه على خطئها بالبكاء، فكأنه قال لها «قد أخطأت بطلبك الحي بين الموتى، ونسيانك نبوته أنه سيقوم بعد ثلاثة أيام».
    ظَنَّتْ تِلكَ أَنَّهُ البُسْتَانِيُّ علة ظنها ذلك اعتقادها أنه غريب عنها، وعدم تصورها علة وجود إنسان في البستان في مثل ذلك الوقت ما لم يكن هو البستاني. أو لعل الثياب التي اتخذها كانت تشبه ما يلبسه البستاني.
    فَقُل لِي تصورت أن البستاني نقل جسد يسوع من مكانه إلى مكان آخر لغرض من الأغراض، ووعدت على فرض ذلك بما لا تستطيعه وحدها، وهو أن تأخذ جسده. والأرجح أنها قصدت أن تأتي بأصدقاء لينقلوه إلى قبر آخر. ولم تذكر اسم يسوع وهي تخاطب من ظنته البستاني، لكنها أشارت إليه بضمير الغائب في قولها «حملتَه» و «وضعته» و «أخذته» كأنه ليس في العالم إنسان سوى يسوع المفقود.
    ١٦ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا مَرْيَمُ! فَالتَفَتَتْ تِلكَ وَقَالَتْ لَهُ: «رَبُّونِي» الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ».
    خاطبها يسوع بكلمة واحدة هي اسمها، ونطقه بلهجته المعهودة وهو يدعوها إلى تعليمه، فعرفت الصوت وعلمت في الحال أن المتكلم هو يسوع.
    فَالتَفَتَتْ تِلكَ كأنها كانت مُطرِقة وهي تخاطبه قبل ذلك.
    رَبُّونِي كلمة عبرانية معناها: يا معلم، أو يا سيدي (مرقس ١١: ٥١). أظهرت مريم بهذه الكلمة أنها عرفته وابتهجت به وأكرمته كل الإكرام.
    ١٧ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: لا تَلمِسِينِي لأنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ».
    مزمور ٢٢: ٢٢ ومتّى ٢٨: ١٠ ورومية ٨: ٢٩ وعبرانيين ٢: ١١ ويوحنا ١٦: ٢٨ أفسس ١: ١٧
    لا تَلمِسِينِي الأرجح أنها كانت عازمة على أن تمسك قدميه إظهاراً لابتهاجها وشكرها ورغبتها في أن تسجد له باعتباره مخلصها الذي قام من الموت، كما فعلت المرأتان المذكورتان في متّى ٢٨: ٩. ولا نعلم لماذا منعها يسوع من ذلك بينما سمح لتينك المرأتين. وأمر تلاميذه في تلك الليلة أن يلمسوه بقوله «جسوني» (لوقا ٢٤: ٣٨) وقوله لتوما بعد أسبوع «هَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي» (يوحنا ٢٠: ٢٧) ليزيل شكهم في قيامته، وليبرهن لهم أنه لحم وعظم لا روح، ولم يكن لمريم من حاجة إلى ذلك. ولعله قصد بقوله «لا تلمسيني»: لا تتعوقي بأن تمسكيني، بل اسرعي إلى تلاميذي ببشرى قيامتي. أو لا تمسكي بي متوهمة أن هذه الفرصة الوحيدة التي ترينني فيها قبل أن أرجع إلى أبي. وربما قصد أن يبيّن لها أنه بعد قيامته ليس كما كان قبلها، وأن الطريق لإكرام تلاميذه له تغيّرت، وأن مخالطته بعد ذلك لا تكون إلا روحية حسب قول الرسول «وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا المَسِيحَ حَسَبَ الجَسَدِ، لَكِنِ الآنَ لا نَعْرِفُهُ بَعْدُ» (٢كورنثوس ٥: ١٦).
    لأنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي أي لن أصعد الآن من هذا العالم إلى أبي، إتماماً لكم قبل موتي. وقال ذلك لأنه سيبقى معهم أربعين يوماً قبل صعوده، ولهذا كان لها ولغيرها من التلاميذ وقت كافٍ لمشاهدته وإكرامه.
    لَكِنِ اذْهَبِي بدلاً من أن تمسكيني.
    إِلَى إِخْوَتِي سمّاهم قبلاً عبيداً، ثم سمّاهم تلاميذ، ثم أحباء، وزاد ذلك هنا أن سماهم «إخوة» فأظهر بذلك أن محبته لهم لا تزال شديدة، مع أنهم منذ أقل من ثلاثة أيام تركوه وهربوا وشكوا فيه، وأنه لم يزل بعد قيامته مشتركاً في طبيعتنا البشرية أخاً لنا وواحداً منا.
    قُولِي لَهُمْ أول قصدٍ قصده بعد قيامته تعزية تلاميذه، وتجديد إيمانهم، وإحياء رجائهم. وأكرم يسوع مريم بأنه جعلها رسوله، فذهابها تبشر بقيامته خدمة للمسيح ولإخوته المؤمنين، وهما بركة أعظم من أن تقع على قدميه عبادة له، وأفضل طريق لإظهار محبتها له.
    إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي أي سأصعد (ولم يقل إني قمت) لئلا تظن أنه عازم على البقاء في هذه الأرض. وأشار بصعوده إلى السماء أنه يسبقهم إلى هناك، وأنه يشفع فيهم رئيس أحبار لهم.
    وَأَبِيكُمْ لأنكم إخوتي. أبوّة الله لهم ليست بمعنى أبوته للمسيح، وإلا لقال: أصعد إلى أبينا، لأن الله أبونا بالنعمة والتبني ولأننا إخوة للمسيح. والمسيح ليس كذلك، لأن الله أبوه لكونه ابن الله منذ الأزل. والله إلهه لأنه صار ابن الإنسان لخلاص البشر. وفي هذا تعزية عظيمة لتلاميذه لما فيه من بيان قوة الاتحاد بينه وبينهم، وهي أن أباه وأباهم واحد. فإذاً هم شركاء محبته وموعودون بالاجتماع في بيته السماوي.
    ١٨ «فَجَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التّلامِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هَذَا».
    متّى ٢٨: ١٠ ولوقا ٢٤: ١٠
    فَجَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ أطاعت مريم المسيح بدون اعتراض. ولا شك أن بشارتها ملأت قلوبهم عزاءً ورجاءً. والأرجح أن المسيح التقى بعد ذهابها بالمرأتين المذكورتين في متّى ٢٨: ٩.

    ظهور يسوع لتلاميذه أولاً (ع ١٩ – ٢٥)


    ١٩ «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلامِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الخَوْفِ مِنَ اليَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سلامٌ لَكُمْ».
    مرقس ١٦: ١٤ ولوقا ٢٤: ٣٦ و١كورنثوس ١٥: ٥
    ذَلِكَ اليَوْمِ أي يوم الأحد (انظر شرح مرقس ١٤: ١٦ ولوقا ٢٤: ٣٣ - ٤٣). وهذا ظهور المسيح الأول لكل التلاميذ، لكنه الخامس بالنظر إلى ظهوره لبعضهم، وأولهم مريم المجدلية (ع ١٦). والثاني لرفيقتين لها (متّى ٢٨: ٩). والثالث لبطرس ( ١كورنثوس ١٥: ٥). والرابع للتلميذين الذاهبين إلى عمواس (لوقا ٢٤: ١٣). والخامس ما ذُكر هنا. وبين حوادث ع ١٨، ١٩ أمور لم يذكرها يوحنا، وهي رشوة الحراس (متّى ٢٨: ١١ - ١٥) وظهور المسيح لبطرس وللتلميذين المسافرين إلى عمواس.
    وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً خاف التلاميذ أن يعاملهم اليهود كما عاملوا يسوع بغضاً، ولذلك اجتمعوا سراً. ولعلهم سمعوا أن اليهود قالوا «بسرقة تلاميذه ليلاً» فخافوا أن تطلبهم الحكومة وتعاقبهم. وقد أنبأهم يسوع بأنهم يُضطهَدون ويكونون كغنم تتبدد بعد ضرب الراعي، فلا عجب من أنهم خافوا. ولم يذكر البشير سبب اجتماعهم، ولكن لا شك أنه كان ليتحاوروا في حوادث النهار، وفيما أُنبئوا به من أن القبر خلا من الجسد، ومن مشاهدة الملائكة، ومشاهدة بعضهم للمسيح. ولعلهم اجتمعوا للعبادة وسؤال الله الحماية والإرشاد. ولم يذكر البشير موضع اجتماعهم، لكن نعلم أنه كان في أورشليم. والأرجح أنه كان في العلية التي أكلوا فيها الفصح مع سيدهم (مرقس ١٤: ١٣ - ١٥) وكان المجتمعون عشرة رسل مع بعض المؤمنين (لوقا ٢٤: ٣٣).
    جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الوَسَطِ انظر شرح لوقا ٢٤: ٣٦. لا يلزم من الكلام هنا أنه دخل بدون فتح الباب، فليس من عادته أن يفعل معجزة عظيمة جداً لغير ضرورة. وقصد أن يبرهن للتلاميذ أن له جسداً مادياً حقيقياً، لا مجرد روح، فدخوله دون أن يفتح الباب يخالف قصده. فيجب أن نفهم من هذا أنه دخل بغتة، إما بفتح الباب بسلطانه، أو بطلبه إليهم. والأرجح الأول. ولا نريد بذلك أنه لم يكن في ظهوره بغتة وباختفائه كذلك شيء من المعجزات.
    سلامٌ لَكُمْ انظر شرح لوقا ٢٤: ٣٦. غاية المسيح من هذا أن يبيّن لهم محبته وغفرانه وشفقته عليهم، فلم يوبخهم على تركهم إيّاه وجبنهم وشكوكهم، بل وهب لهم الاطمئنان بتحية اعتادوها، كما فعل بمناداته مريم باسمها. وهو موافق لقوله لهم في خطابه الوداعي ليلة الجمعة «سلاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلامِي أُعْطِيكُمْ» (يوحنا ١٤: ٢٧). لكن السلام الثاني أعظم من الأول، لأنه قاله بعد ما دخل القبر وغلب الموت لأجلهم، ورجع إليهم من عالم الأرواح حاملاً بشرى السلام لهم، فإنه صالح بموته العالم مع الله، ورجع إلى تلاميذه ببشارة المصالحة والسلام.
    ٢٠ «وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ التّلامِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ».
    يوحنا ١٦: ٢٢
    أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ ليبيّن لهم أنه هو يسوع الذي تألم ومات على الصليب، وأنه قام بجسده نفسه، وأنه ليس مجرد روح، وليس بجسد ممجد (انظر شرح لوقا ٢٤: ٣٩) وعدم ذكره الرِّجلين لا يعني أنهما لم يُسمرا، لأن لوقا ذكر أن يسوع أراهم رجليه.
    فَفَرِحَ التّلامِيذُ تحقوا من مشاهدتهم الجروح أنه هو يسوع عينه، وأنه ليس روحاً، ففرحوا، وكان هذا تحقيقاً لوعده «سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ» (يوحنا ١٦: ٢٢). فمشاهدته أنعشتهم وجددت آمالهم وعزت قلوبهم وبددت شكوكهم ومخاوفهم. وذكر يوحنا خطاب يسوع لتلاميذه وقتئذ ما يوافق غايته بإلهام الروح القدس. وذكر لوقا غير ما ذكره يوحنا من تلك المخاطبة (لوقا ٢٨: ٣٦ - ٤٣).
    فإذا كانت مشاهدة المسيح على الأرض علة فرح كهذا، فكم يكون فرح المؤمنين بمشاهدتهم إيّاه في السماء.
    ٢١ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سلامٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا».
    متّى ٢٨: ١٨ ويوحنا ١٧: ١٨، ١٩ و٢تيموثاوس ٢: ٢ وعبرانيين ٣: ١، ٢
    سلامٌ لَكُمْ كرر التحية لزيادة التأكيد. وهذا يشبه قول يوسف لفرعون «وَأَمَّا عَنْ تَكْرَارِ الحُلمِ عَلَى فِرْعَوْنَ مَرَّتَيْنِ، فَلأنَّ الأَمْرَ مُقَرَّرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ» (تكوين ٤١: ٣٢).
    كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا انظر شرح يوحنا ١٧: ١٨. يسوع هو رسول الله الوحيد لعمل الفداء (عبرانيين ٣: ١) وقد جعل تلاميذه سفراءه وشركاءه في المناداة ببشرى الخلاص (يوحنا ١٨: ٣٧ و٢كورنثوس ٥: ١٨). المسيح أخذ من الله كلمة المصالحة وأعطاها تلاميذه لينادوا بها (٢كورنثوس ٥: ٢٠) فصار عليهم أن يخبروا العالم بأن الله مستعد أن يقبلهم ويغفر لهم ويصالحهم. وكما أنه أرسلهم ليشهدوا كما شهد هو كان عليهم أن يحتملوا المشقات والاضطهاد كما احتملها هو. فإذاً لم يكن لهم أن يتوقعوا الراحة والأمن من رجوع سيدهم إليهم، لأنه عازم أن يتركهم ويرجع إلى أبيه، وهم ينوبون عنه في عمله على الأرض.
    ٢٢ «وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: اقْبَلُوا الرُّوحَ القُدُسَ».
    يليق بالذي يرسل رسلاً أن يعطيهم قوة لينشروا رسالته. والمسيح أعطى رسله القوة بهبته الروح القدس لهم.
    نَفَخَ قرن الهبة بالإشارة الموافِقة، وقد أشار الكتاب المقدس «بالريح» إلى الروح القدس (حزقيال ٣٧: ٩ ويوحنا ٣: ٨ وأعمال ٢: ٢). ولعل المشابهة هنا مبنيّة على ما جاء في سفر التكوين وهو قوله «جَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً» (تكوين ٢: ٧) فكما كان النفخ في خلق آدم إشارة إلى هبة الحياة الجسدية كان هنا إشارة إلى هبة الحياة الروحية.
    اقْبَلُوا الرُّوحَ القُدُسَ كأنه قال «أنا أعطيكم الروح القدس». فلا يلزم من ذلك أنهم لم ينالوا قبلاً شيئاً من تأثير ذلك الروح، وإلا ما أمكنهم أن يؤمنوا، إذ لا يقدر أحد أن يؤمن بدون روح الله.
    ويجب أن لا نحكم من قوله إنهم نالوا إتمام وعد المسيح لهم بذلك الروح (يوحنا ٧: ٣٨، ٣٩ و١٦: ٧) لأنهم لم ينالوا ذلك إلا يوم الخمسين حين امتلأوا من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بألسنة مختلفة (أعمال ٢: ٤). لكنهم نالوا عربوناً واستعداداً لذلك الامتلاء. والذي نالوه حينئذ قوة الإدراك للأمور المختصة بالمسيح وملكوته، أي فهم النبوات المتعلقة به وضرورة موته وقيامته لإتمام عمل الفداء، وهذا حسب القول «حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الكُتُبَ. وَقَالَ لَهُمْ: هَكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ المَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ» (لوقا ٢٤: ٤٥ و٤٦). ونالوا علاوة على ذلك حكمة وقوة من الروح القدس ليضعوا للناس شروط مغفرة الخطايا، ولتمييز الذين قبلوا تلك الشروط واستناروا بالروح القدس ونجوا (ع ٢٣).
    وهذه الآية من الآيات التي استند عليها القائلون بصدور الروح القدس من الابن كصدوره من الآب.
    ٢٣ «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ».
    متّى ١٦: ١٩ و١٨: ١٨ وأعمال ٥: ١ - ١١ و٨: ٢١ و١٣: ٩
    انظر شرح متّى ١٦: ١٩ و١٨: ١٨. تتضمن هذه الآية أمرين: (١) أن المسيح أوكل إلى تلاميذه بعد نوالهم الروح القدس أن يعيّنوا الشروط التي ينال بها الناس مغفرة خطاياهم، وأن يصرحوا لكل الذين قبلوا من قلوبهم تلك الشروط بالمغفرة التامة، وبرفض كل من يرفض تلك الشروط. (٢) أن يحكموا بإخلاص على من يعترفون بقبول الشروط المذكورة، ويصرحوا بمغفرة خطاياهم بالنيابة عن المسيح، وبناءً على اعتراف أولئك، ويقبلوهم أعضاء في كنيسة المسيح. كما يحكمون بدينونة الذين لا يتوبون. فسلطان الرسل في الروحيات كسلطان كهنة اليهود في مرض البَرَص، فكان لهم أن يحكموا بشفاء من شُفي وطهارته، وعدم شفاء من لم يُشفَ ونجاسته. ويشبه سلطان الرسل السلطان الذي أعطاه الله لإرميا النبي «اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلتُكَ هَذَا اليَوْمَ عَلَى الشُّعُوبِ وَعَلَى المَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِس» (إرميا ١: ١٠). وهذا السلطان متعلق بإعلان المغفرة لا بالمغفرة عينها. فالمسيح لا يغفر للناس بناء على مغفرة الرسل لهم، لكن الرسل يصرحون بإرشادٍ من المسيح بالمغفرة للناس بناء على أنها مغفرته.
    ولنا ثلاثة براهين على أن سلطان الرسل يقف عند إعلان المغفرة، لا منحها: (١) أن الكتاب المقدس قصر مغفرة الخطايا على الله وحده (إشعياء ٤٣: ٢٣). (٢) أنه لا دليل في سفر الأعمال أو الرسائل أن أحد الرسل ادّعى سلطان مغفرة الخطايا، أو أخذ على نفسه أن يغفر لأحد. لكنهم قالوا بسلطان إعلان ذلك (أعمال ١٠: ٤٣ و١٣: ٣٢، ٣٨ و١٦: ٣١). (٣) أن بولس الرسول بيّن في رسالتيه إلى تيموثاوس ورسالته إلى تيطس واجبات القسيس راعي الكنيسة وسلطانه، ولم يذكر قط أن له سلطاناً من نفسه على مغفرة الخطايا. وفسر لوقا معنى ذلك في كلامه على خطاب المسيح المذكور بقوله «وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ» (لوقا ٢٤: ٤٧). وكل ما أعطاه المسيح لرسله من السلطان في كنيسته أعطاه لهم بالمساواة، ولم يرفع واحداً منهم على بقيتهم. وكان ذلك كله مشروطاً بنوالهم الروح القدس أولاً. وأما السلطان الذي وهبه المسيح لرعاة كنيسته فينحصر في أربعة أمور: (١) التبشير بالإنجيل لكل الناس. (٢) تعيين الشروط للقبول في عضوية الكنيسة بناء على كلام الله. (٣) إدخال الطالبين إلى شركة الكنيسة بناء على إقرارهم بإيمانهم بالمسيح. (٤) سياسة الكنيسة إدارياً.
    ٢٤ «أَمَّا تُومَا، أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ».
    يوحنا ١١: ١٦
    تُومَا انظر شرح يوحنا ١١: ١٦.
    فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ لا نعرف لماذا لم يكن معهم، لكننا نعرف أن المسيح لم يلمه على ذلك بل على عدم إيمانه فقط. وكان هذا التلميذ يميل إلى الشك والخوف واليأس (يوحنا ١١: ١٦). وغاية البشير من ذكر شك توما بيان أن الرسل لم يتوقعوا قيامة المسيح، ولا كانوا مستعدين أن يقتنعوا بحقيقتها بأدلة ضعيفة. لكنهم آمنوا بها بعد شك شديد، وبعد أقوى البراهين. شك توما لكي لا نشك نحن.
    ٢٥ «فَقَالَ لَهُ التّلامِيذُ الآخَرُونَ قَدْ رَأَيْنَا الرَّبّ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ المَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ المَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لا أُومِنْ».
    قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ هذه شهادة عشرة بما شاهدوه بعيونهم، فكان يجب على توما أن يكتفي بها لمعرفته أنهم صادقون، ولا غاية لهم من أن يخدعوه.
    إِنْ لَمْ أُبْصِرْ.. لا أُومِنْ ادعى توما أنه يقدر أن يميِّز بين الحق والباطل أكثر من باقي التلاميذ، فوضع شروطاً لإيمانه تمنع إثبات شيء بشهادة الناس، فرفض تصديقهم وتعليمهم إلا إذا رأى بنفسه. وكلامه يدل على إعجابه بنفسه، وعناده، واستخفافه بإدراك إخوته التلاميذ وصدقهم. وليس لتوما عُذر في شكه، فقد سمع بأذنيه المسيح يقول «إنه يقوم بعد ثلاثة أيام» وكان قد شاهده منذ بضعة أسابيع يقيم لعازر من الموت. ولكنه رفض وسائل برهنة صحة القيامة، من قبر مفتوح، وأكفان ملفوفة، وظهوره لمريم المجدلية، وللمرأتين الأخريين، وللتلميذين على طريق عمواس، ولإخوته العشرة. ولا يستلزم قوله «أثر المسامير في يده» أن قدمي المسيح لم تُسمرا، فقصده أنه يكتفي بمشاهدة اليدين والجنب.

    ظهوره لتلاميذه ثانية (ع ٢٦ - ٢٩)


    ٢٦ «وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تلامِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي الوَسَطِ وَقَالَ: سلامٌ لَكُمْ».
    بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ أي بعد أسبوع كامل حسب اصطلاح اليهود، فكان ذلك اليوم الأحد. وهذا لا ينفي أن الرسل اجتمعوا في غيره من أيام الأسبوع الماضي، وإنما خصّه بالذكر لما حدث فيه. استعداداً لإبدال السبت بالأحد.
    دَاخِلاً أي في بيت، والأرجح أنه هو البيت الذي كانوا مجتمعين فيه في أورشليم يوم الأحد السابق.
    وَتُومَا مَعَهُمْ الظاهر من سياق الكلام أن المسيح أتى إليهم حينئذ ليظهر للتلاميذ وتوما معهم. وقبول التلاميذ توما معهم بعد تكذيبه إيّاهم وعناده وعدم إيمانه دليل على محبتهم له.
    وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ كما كانت في الأحد السابق ودون أن يشعروا به.
    وَقَفَ فِي الوَسَطِ دون أن يبنئهم بقدومه ودون أن يشعروا به.
    سلامٌ لَكُمْ حيا الجميع بذلك كما سبق دون أن يستثني توما.
    ٢٧ «ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَل مُؤْمِناً».
    ١يوحنا ١: ١
    هَاتِ إِصْبِعَكَ أظهر المسيح بهذا أنه عرف كل ما حدث بين توما وسائر التلاميذ (ع ٢٥) لأن قوله جواب مرتب على قول توما كلمةً بكلمة. وهذا برهان آخر على صحة دعوى المسيح أنه إله كما هو إنسان. ولا بد من أنه أخجل توما على عدم إيمانه وقساوة قلبه. وكما عرف المسيح يومئذ أفكار توما وكلامه يعرف الآن كل الأفكار والأقوال على هذه الأرض. ونستنتج مما قاله يسوع لتوما أن جروحه لم تكن قد شُفيت تماماً، وأن الجرح الذي في جنبه واسع حتى أنه يسع اليد.
    ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَل مُؤْمِناً هذا غير مقصور على أمر توما بالإيمان بقيامة المسيح، بل عام لكل ما يطالب به. فكأن المسيح قال له «كن مؤمناً بدلاً من ميلك إلى الشكوك. سلِّم نفسك إلى الإيمان مصلحاً عيوب طبيعتك، فاتحاً قلبك لقبول البراهين الكافية للحق». ولم يكن توما حينئذ كافراً بل كان في خطر عظيم من الكفر، فحذره المسيح من ذلك الخطأ لأن طلبه شهادة حواسه قبل التسليم بشيء من الحقائق يناقض مبادئ المسيح ومنها أن «نسلك بالإيمان لا بالعيان».
    ٢٨ «أَجَابَ تُومَا: رَبِّي وَإِلَهِي».
    أظهر توما بهاتين الكلمتين التعجب والسرور والتوبة واليقين والعبادة. ورأى أن الذي خاطبه هو الإنسان يسوع المسيح الذي مات وقام، وآمن أنه الله ظهر في الجسد.
    رَبِّي وَإِلَهِي هذا إقرار بسيادة المسيح ولاهوته، وهو يوافق القول «وكان الكلمة الله» وهو خلاصة كل مضمونها، فيجب أن نتخذه من جملة البراهين القاطعة على لاهوت المسيح، لأن توما خاطبه معتبراً إيّاه إلهه في حضرة جميع الرسل، ولم يعترضه المسيح ولا أحد من الرسل على ذلك، بل مدحه المسيح عليه. فيحق لنا أن نسمي المسيح ربنا وإلهنا.
    ٢٩ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا».
    ٢كورنثوس ٥: ٧ و١بطرس ١: ٨
    لأنَّكَ رَأَيْتَنِي أي أبصرت جسدي، ووقفت على البراهين أني أنا هو المصلوب. ويستنتج من هذا القول أنه لم يلمس المسيح. ولو كان ذلك لقال «لأنك رأيتني ولمستني».
    آمَنْتَ مدحه المسيح على اقتناعه بقيامته بشهادة حواسه، وعلى اعترافه بأنه ربه وإلهه. ولكن إيمان توما المبني على شهادة حواسه هو من أدنى مراتب الإيمان، لهذا وبخه المسيح على أنه لم يحصل على إيمان قوي كإيمان غيره. نعم إن المسيح لم يكلف أحداً أن يؤمن بلا برهان، وإنما لام توما على قسوته وعناده، لأنه رفض براهين كافية لإقناع كل ذي نية صالحة.
    طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا أي هؤلاء السعداء يستحقون المدح الإلهي. ويلزم من ذلك أن الله كان يرضى عن توما أكثر لو أنه قبل شهادة إخوته الرسل منذ سبعة أيام وآمن بقيامة المسيح. والأرجح أن التوبيخ المذكور في بشارة مرقس للرسل وُجه بالأكثر إلى توما، وهو قوله «وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ» (مرقس ١٦: ١٤). والذي قاله المسيح لتوما يومئذ يقوله لنا الآن إنه يجب أن نقبل كلامه ببساطة الإيمان كما يقبل الأولاد الصغار كلام والديهم. وذلك التطويب نصيب كل الذين صدقوا بشهادة الرسل الشفاهية والمكتوبة في الإنجيل. وهذا كقول الرسول في المسيح «ذَلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لا تَرَوْنَهُ الآنَ لَكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لا يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ، نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خلاصَ النُّفُوسِ» (١بطرس ١: ٨، ٩).

    هدف كتابة يوحنا (ع ٣٠، ٣١)


    ٣٠ «وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلامِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الكِتَابِ».
    يوحنا ٢١: ٢٥
    ع ٣٠، ٣١ خاتمة ما في هذا الأصحاح.
    آيَاتٍ أُخَرَ المقصود بعض ما صنعه من المعجزات قبل موته. فكأنه قال: لا تظنوا أن ما ذكرتُه من عجائب المسيح هو كل ما صنعه على الأرض بل هو قليل من كثير. ولا تظنوا أنه لم يظهر بعد قيامته سوى ثلاث مرات كما ذكرت، لأنه ظهر مراراً غيرها (أعمال ١: ٣). وذُكر بعض ذلك في سائر البشائر، وبعضه لم يذكره أحد من البشيرين.
    قُدَّامَ تلامِيذِهِ أي رسله وفي هذا إشارة إلى أن يسوع اختار اثني عشر رسولاً ليرافقوه في التبشير، وليروا أعماله، ويسمعوا تعليمه لنفع أنفسهم أولاً، ولنفع العالم ثانية بشهادتهم بما للمسيح.
    فِي هَذَا الكِتَابِ أي هذه البشارة.
    ٣١ «وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ».
    لوقا ١: ٤ ويوحنا ١: ٤ ، ١٢ و٣: ١٥، ١٦، ٣٦ و٥: ٢٤ و١بطرس ١: ٨، ٩ و١يوحنا ٥: ١١
    بيّن الرسول هنا أنه كتب ما في هذه البشارة كلها، أو ما في هذا الأصحاح من البراهين على صحة قيامة المسيح لغايتين: الأولى تثبيت إيمان المؤمنين، والثانية حصولهم على الحياة الأبدية. والأول شرط للثاني. وتفيدنا هذه الآية بأن يوحنا لم يقصد أن يكتب تاريخاً كاملاً لحياة المسيح على الأرض، بل اقتصر على ذكر بعض معجزاته ومحاوراته ومواعظه إظهاراً لمجد المسيح، وتقوية لإيمان المؤمنين به وتوطيد حياتهم الروحية. ولذلك ترك خبر ميلاد المسيح وتجربته وأكثر معجزاته وأمثاله وتجلّيه ورسمه العشاء الرباني وصعوده إلى السماء.
    لِتُؤْمِنُوا أي ليثبت إيمانكم ويقوى ويزيد بالحقيقة الجوهرية في المسيحية وهي «أن يسوع هو المسيح ابن الله». وغايتا بشارة يوحنا هما غايتا كل كتاب الله من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، لأن كل نبواته تُثبت مجد يسوع المسيح، وأنه مصدر الحياة الأبدية.
    حَيَاةٌ هي الحياة الروحية التي شرطها الإيمان بالمسيح.
    بِاسْمِهِ أي بصفات المسيح ووظائفه المعلنة بما سُمي به كيسوع أي مخلِّص، وعمانوئيل أي الله معنا، والملك والنبي والكاهن.


    الأصحاح الحادي والعشرون


    ظهور يسوع لتلاميذه على بحر طبرية (ع ١ - ١٤)


    ١ «بَعْدَ هَذَا أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتّلامِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ. ظَهَرَ هَكَذَا».
    بَعْدَ هَذَا أي بعد الحوادث التي ذُكرت في أصحاح ٢٠، والوقت ما بين اليوم الثامن من قيامته واليوم الأربعين.
    أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ قال «أظهر نفسه» ولم يقل أتى إليهم بسبب التغيير الذي حدث له بعد قيامته، فكان يظهر متى أراد ولمن أراد، ويختفي متى شاء. وقوله «أيضاً» يدل على أنه ظهر قبل ذلك للرسل. وهذا الظهور لم يذكره أحد من البشيرين غير يوحنا. إلا أنهم ذكروا وعد المسيح بالاجتماع في الجليل.
    عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ أي على الشاطئ (انظر شرح متّى ٤: ١٨). ويسمّى أيضاً بحر الجليل وبحر جنيسارت ولم يسمِّه أحد بحر طبرية غير يوحنا، نسبة إلى المدينة التي على شاطئه، والمدينة نفسها سميّت طبرية نسبة إلى طيباريوس قيصر الروماني.
    ٢ «كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ، وَتُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الجَلِيلِ، وَابْنَا زَبْدِي، وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تلامِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ».
    يوحنا ١: ٥٥ متّى ٤: ٢١
    تواجد هؤلاء السبعة في الجليل وطنهم، وقد عادوا إليه بعد عيد الفصح. ووعد المسيح أن يجتمع بهم هناك (متّى ٢٦: ٣٢ و٢٨: ١٠ ومرقس ١٤: ٢٨ و١٦: ٧) كما أمرهم الملاك بالذهاب إلى الجليل (متّى ٢٨: ٧). وكان المسيح قد قضى أكثر وقت خدمته الأرضية هناك، وكان أكثر تلاميذه من الجليل. فكان الاجتماع فيه أسهل عليهم من الاجتماع في أي مكان آخر، كما أنه أكثر أمناً لبعده عن تواجد رؤساء اليهود. وكان هذا الاجتماع استعداداً للاجتماع على الجبل الذي ذكره متّى (متّى ٢٨: ١٦) وحضره أكثر من خمس مئة أخ (١كورنثوس ١٥: ٦). وبعد هذا الاجتماع العظيم رجع الرسل إلى أورشليم بأمر المسيح، وشاهدوا صعوده. وكان قد أمرهم بأن لا يبرحوا بعد صعوده من أورشليم حتى يحل عليهم الروح القدس. وقد يثور سؤال: إن الملاك عند القبر أمرهم بالذهاب إلى الجليل، وبهذا أمرهم المسيح قبل موته، فلماذا بقوا ثمانية أيام في أورشليم؟ (يوحنا ٢٠: ٢٦) أجبنا: لم يكن من اللائق أن يتركوا أورشليم قبل نهاية أسبوع الفصح، ولعل من جملة ما عاقهم عن ذلك عدم إيمان توما.
    نَثَنَائِيلُ المرجح أنه هو برثولماوس أي ابن ثولماوس (انظر شرح متّى ١٠: ٣). وذُكر هنا فقط أنه من قانا الجليل.
    وَابْنَا زَبْدِي هما يعقوب ويوحنا، وذكر يوحنا هنا فقط اسم أبيه.
    وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تلامِيذِهِ لا نعرف من هما. وهل هما مِن الرسل، أو من غيرهم من المؤمنين.
    ٣ «قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنَا أَذْهَبُ لأتَصَيَّدَ. قَالُوا لَهُ: نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضاً مَعَكَ. فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلوَقْتِ. وَفِي تِلكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً».
    قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ كعادته في سبقه غيره في الكلام والعمل.
    أَنَا أَذْهَبُ لأتَصَيَّدَ هذا يتضمن قوله «هل تذهبون معي؟».
    نَذْهَبُ لا يدل رجوعهم إلى مهنتهم الأصلية على أنهم تركوا وظيفتهم الرسولية، كما أن اشتغال بولس أحياناً بصناعة الخيام لا يدل على أنه ترك التبشير. وإنما فعلوا ذلك وقتياً وهم يتوقعون مجيء المسيح إليهم ليشغلوا الوقت وليجهزّوا ما يحتاجون إليه.
    فِي تِلكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً رتب الله ذلك لتكون معجزة الصيد العظيم صباحاً أغرب وأعجب. ومثل هذا التعب الباطل حدث لبطرس وابني زبدي في تلك البحيرة قبل هذا بنحو ثلاث سنين (لوقا ٥: ٥).
    ٤ «وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ، وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلَكِنَّ التّلامِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ».
    يوحنا ٢٠: ١٤
    وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ الأرجح أن ظهوره كان بغتة كظهوره سابقاً في البيت (يوحنا ٢٠: ١٩، ٢٦).
    وَلَكِنَّ التّلامِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ وكذا لم تعلم مريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ٢)، والتلميذان الذاهبان إلى عمواس (لوقا ٢٤: ١٦). وسببه التغيير في هيئته. ومن العجب أنهم لم يعرفوه من صوته.
    ٥ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: يَا غِلمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟. أَجَابُوهُ: لا!».
    لوقا ٢٤: ٤١
    عرف المسيح كل أمورهم لكنه سألهم ذلك لفتح الحديث، وليجعله مقدمة لما سيقوله، كما فعل مع المرأة السامرية بقوله «أعطيني لأشرب» (يوحنا ٤: ٧). وكان سؤال المسيح مما يتوقعه الصيادون من المارّة، لأن سؤاله يدل على رغبته في نجاحهم، أو في شراء شيء من السمك.
    إِدَاماً هو ما يؤكل مع الخبز، والمراد به هنا السمك.
    لا! اقتصروا على ذلك لصعوبة الحوار بسبب المسافة بينهم وبينه (ع ٨).
    ٦ «فَقَالَ لَهُمْ: أَلقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الأَيْمَنِ فَتَجِدُوا. فَأَلقَوْا، وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَكِ».
    لوقا ٥: ٤، ٦، ٧
    الظاهر أنهم كانوا قد يئسوا ورفعوا الشبكة ووضعوها في السفينة وشرعوا يرجعون، لكنهم قبلوا نصحه في الحال مع أنهم كانوا قد تعبوا الليل كله عبثاً.
    ٧ «فَقَالَ ذَلِكَ التِّلمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: هُوَ الرَّبُّ. فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَّبُّ، اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً، وَأَلقَى نَفْسَهُ فِي البَحْرِ».
    يوحنا ١٣: ٢٣ و٢٠: ٢
    فَقَالَ ذَلِكَ التِّلمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ أي يوحنا كاتب هذه البشارة ولم يذكر اسمه كما تعوَّد.
    هُوَ الرَّبُّلم يقل كيف عرفه. فإن قيل إن الصيد الكثير ليس دليلاً كافياً على أن ذلك هو المسيح، قلنا إن المعجزة أن المسيح عرف مكان كثرة السمك من بعيد، وهو ما لم يعرفه تلاميذه وهم على البحيرة! وهذا ما عرَّف يوحنا أن ذلك هو المسيح. ولعله تذكّر يوم دعاه يسوع ليكون تلميذاً له. وكان قد تعب هو ورفقاؤه كل الليل عبثاً، ثم ألقى الشبكة بأمر المسيح فصاد كثيراً. ولعل النجاح الذي كان طاعةً لنصح ذلك الرجل جعل يوحنا يمعن النظر فيه، فعرفه من هيئته.
    فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ كان يوحنا أسرع من بطرس في الإدراك (يوحنا ٢٠: ٨)، وكان بطرس أسرع منه في العمل المبني عليه، كما يظهر من هذه الآية ومن مشيه على البحر لملاقاة المسيح (متّى ١٤: ٢٩) ومن سلّه السيف والضرب به (يوحنا ١٨: ١٠).
    اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ أي شد وسطه به. وكان قد نزعه عنه وهو يصيد، فلبسه احتراماً للمسيح.
    لأنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً أي من بعض الثياب كالكساء وما شابهه مما تقتضي سهولة الصيد خلعه.
    وَأَلقَى نَفْسَهُ فِي البَحْرِ ليصل إلى المسيح سريعاً. فمحبته لسيده ألجأته إلى ذلك، فلم يهتم بالسمك أو الشبكة أو السفينة أو الرفاق.
    ٨ «وَأَمَّا التّلامِيذُ الآخَرُونَ فَجَاءُوا بِالسَّفِينَةِ، لأنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ عَنِ الأَرْضِ إلا نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ، وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ».
    وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ منعهم ثقل الشبكة لكثرة ما فيها من السمك أن يرفعوها إلى السفينة كعادتهم أحياناً (لوقا ٥: ٧). وذكر البشير قرب السفينة من الشاطئ بياناً لإمكان جر الشبكة وراءهم إليه.
    ٩ «فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا جَمْراً مَوْضُوعاً وَسَمَكاً مَوْضُوعاً عَلَيْهِ وَخُبْزاً».
    لم يذكر يوحنا من أين أتى المسيح بالسمك والجمر والخبز. ولا نعجب من وجودها هناك بواسطة معجزية. فهذا يشبه إرسال الملاك بالطعام إلى إيليا في البرية (١ملوك ١٩: ٦). وغاية يسوع مما فعل أن يظهر لهم قوته على تهيئة حاجاتهم، واستعداده لذلك، ورغبته فيه.
    ١٠ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: قَدِّمُوا مِنَ السَّمَكِ الَّذِي أَمْسَكْتُمُ الآنَ».
    الأرجح أن المسيح قصد بذلك أن يأتوا ببعض ما صادوه هم من السمك ليأكلوه مع ما أعدّه هو. ولعله قصد أن يأتي بالسمك ويريه لهم ليقتنعوا بوفرة الصيد، ويذكروا معجزة السمك التي صنعها حين دعاهم ليكونوا «صيادي الناس».
    ١١ «فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلَى الأَرْضِ، مُمْتَلِئَةً سَمَكاً كَبِيراً، مِئَةً وَثلاثاً وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هَذِهِ الكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ الشَّبَكَةُ».
    الظاهر أن التلاميذ لما وقفوا على الشاطئ كانوا أمام المسيح يتوقعون أمره. ولما أمرهم بتقديم السمك أخذوا يجذبون الشبكة إلى الأرض. وقام بطرس بذلك وساعده الباقون لأنه هو الذي دعاهم إلى الصيد (ع ٣). ومن غرائب ذلك ثلاثة أشياء: كثرة السمك، وكبره، وعدم تخرق الشبكة، خلافاً لما كان في لوقا ٥: ٦. وذكر عدد السمك بياناً لعظمة المعجزة، كما ذكر أن الآكلين في معجزة بيت صيدا كانوا خمسة آلاف رجل، وأن الأرغفة خمسة والإدام سمكتان، وأن القفف اثنتا عشرة (يوحنا ٦: ٩، ١٠، ١٣).
    ١٢ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: هَلُمُّوا تَغَدَّوْا. وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ التّلامِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ».
    أعمال ١٠: ٤١
    هَلُمُّوا تَغَدَّوْا أعدّ المسيح الطعام ودعاهم إليه شفقة عليهم لأنه عرف أنهم قد تعبوا وجاعوا بعد ليلة طويلة من الجهد، وليبين أن مشاعره نحوهم لم تتغير. وإن كان قد مات وقام فقد ظل يحبهم ويعتني بهم كما كان في أول الأمر. ولا شك أنه أكل معهم كما قال بطرس (أعمال ١٠: ٤١) وحسبما أنبأ به (لوقا ٢٤: ٤٢، ٤٣) لأنه أراد أن يؤكد لهم صحة قيامته بالجسد، وأن يزيل خوفهم، ويجعلهم يعتبرونه حبيبهم وصديقهم.
    وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ لم يكن الرسل حينئذ محتاجين إلى شهادة المسيح بأنه هو، لأنهم تأكدوا من ذلك. لكنه كان يزيدهم تعزية لو سمعوه يقول «أنا هو» كما قال وهو آتٍ إليهم على البحر ليلاً (يوحنا ٦: ٢٠). لكنهم عدلوا عن السؤال خوفاً لما على هيئته من الهيبة والوقار، ومن أنه قد قام من الأموات، وأخذ يحضر ويغيب بطريق عجيبة، ومن المعجزتين اللتين صنعهما حينئذ.
    ١٣ «ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ الخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذَلِكَ السَّمَكَ».
    ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ الظاهر أنهم خافوا أن يتقدموا إليه حتى اقترب منهم ليشجعهم.
    وَأَخَذَ الخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ كما اعتاد أن يفعل معهم في السابق وهو رئيس المتكإ، ليذكروا الأوقات الكثيرة التي أكلوا فيها معه وحده، وليذكر المعجزتين اللتين أشبع فيهما الألوف من الخبز والسمك. فإن قيل: هل قصد المسيح بما فعله هنا أن يبرهن صحة قيامته ولاهوته وناسوته وصداقته للرسل وعنايته بهم؟ قلنا: لعله علَّمهم وقتئذ نفس ما علمهم يوم دعاهم ليكونوا رسلاً، وهو أنهم صاروا «صيادي الناس» وأن نجاحهم متوقف على حضوره بينهم بالروح وطاعتهم إرشاده. وقال بعضهم «إن في هذه الحادثة رمزاً إلى ما يحدث لكل تلاميذ الرب في نهاية أتعابهم، فيبلغون شاطئ السلام السماوي، ويجدون الرب هنالك يستقبلهم ويدعوهم إلى وليمة عظيمة أعدها لهم، فيتكئون معه ومع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوته». قلنا المشابهة ظاهرة حسنة، ولكن لا دليل على أن المسيح قصدها.
    ١٤ «هَذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتلامِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ».
    يوحنا ٢٠: ١٩، ٢٦
    ذكر يوحنا هنا المرات التي ظهر فيها لجماعة من الرسل لا لغيرهم من الأفراد، وعلى هذا لم يحسب معها ظهوره لمريم المجدلية الذي ذكره في يوحنا ٢٠: ١٦، ولا ظهوره لبطرس ولا للتلميذين المسافرين إلى عمواس. ولعله نظر إلى الظهور باعتبار أيامه دون عدده، وباعتبار المشاهدين، فيكون ظهوره ثلاث مرات يوم القيامة مرة، مع أنه شاهده فيه كثيرون على التوالي في أماكن مختلفة، وبعد أسبوع مرة، وهذا اليوم مرة وهي الثالثة.

    خطاب المسيح لبطرس (ع ١٥ - ٢٣)


    ١٥ «فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ خِرَافِي».
    فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا أي بعد ما أنسوا به وسكن اضطرابهم بأكله معهم كأحد الأصدقاء، أخذ يخاطبهم بأمور هامة تتعلق بأحوالهم وخدمتهم في المستقبل. ويجب أن لا نحسب أن ما ذُكر هنا من كلام المسيح هو كل ما خاطبهم به وقتئذ.
    يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا خصّ يسوع بطرس بالكلام وخاطبه دون الستة الباقين، لأنه ادَّعى أنه يحب المسيح أكثر من سائر التلاميذ، وأنه أكثر ثباتاً منهم في الإيمان، مع أنه كان أقل ثباتاً من الجميع. وخاطبه المسيح ثلاث مرات باسمه الأول وكنيته، لا بالاسم الذي سماه به وهو «بطرس» أي الصخر، لأنه بإنكاره يسوع أعلن أنه لا يستحق أن يسمى بذلك، وناداه بذلك ثلاثاً لأنه أنكره ثلاثاً.
    أَتُحِبُّنِي؟ في هذا شيء من اللوم لبطرس لأن إنكاره ليسوع شكَّك في محبته. وفيه تذكير له بذلك الإنكار، وفيه سؤال عن عواطف قلبه وقت السؤال. وسأله المسيح ذلك أمام الستة ليكونوا شهوداً بإقرار بطرس، وبمغفرة المسيح له، وقبوله رسولاً أيضاً. ولم يسأل المسيح بطرس عن إيمانه أو معرفته أو توبته أو مقاصده في المستقبل، إنما سأله عن محبته لأنها الشرط الضروري لقبول المسيح إيّاه ثانية، ولأنها تتضمن سائر الفضائل.
    أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاءِ أي أكثر مما يحبني هؤلاء التلاميذ. وغاية المسيح من هذه الزيادة امتحانه ليظهر إن كان قد تواضع بعد سقوطه، فلا يعود يفتخر كما افتخر قبلاً بأن إيمانه به ومحبته له أعظم من إيمان سائر إخوته الرسل ومحبتهم، بقوله «وَإِنْ شَكَّ الجَمِيعُ فَأَنَا لا أَشُكُّ» (مرقس ١٤: ٢٩).
    أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ أظهر بطرس بهذا الجواب المحبة والتواضع، لأنه صرّح بمحبته دون أن يدّعي زيادتها على محبة سائر إخوته له، واستشهد بعِلم المسيح بذلك. فكأنه قال: نعم، إن عملي يدل على أني لا أحبك، لكنك أنت تعلم ما في قلبي من المحبة لك. وأظهر تواضعه بأمرين: (١) عدم ادعائه زيادة محبته للمسيح على محبة غيره من الرسل له. (٢) نوع المحبة التي صرح بها، لأن سؤال المسيح «أتحبني؟» في اليونانية غير جواب بطرس «أحبك» فيها. فالكلمة الأولى تتضمن أعظم المحبة، كمحبة الملائكة والقديسين في السماء لله، فلم يدّع بطرس أن محبته تستحق أن تُحسب كتلك المحبة، وبيّن أنها كمحبة الصديق للصديق.
    ويحسن بكل مسيحي أن يحسب سؤال المسيح لبطرس سؤالاً له، ويتأمل في قلبه ليرى هل يستطيع أن يطلب شهادة علم المسيح بمحبته؟ ويتبيّن مما قيل هنا ثلاثة أشياء: (١) إن أول ما يطلبه المسيح من تلاميذه هو محبة قلوبهم. (٢) إنه يريد إقرارهم علناً بمحبتهم له، ولا يكتفي بمجرد الشعور القلبي. (٣) إن كل إنسان يقدر أن يتحقق: هل يحب المسيح أو لا.
    ارْعَ خِرَافِي أشار بذلك أنه أوكل إليه ثانية الخدمة الرسولية. وحين دعاه أولاً لأن يكون رسولاً شبَّه خدمته بالصيد إذ قال له «مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاس» (لوقا ٥: ١٠). وشبهها هنا بالرعاية. والتشبيه الأول يشير إلى إدخال الناس في الكنيسة، والثاني يشير إلى تعليمهم كلمة الله لتقويتهم ونموهم. وخراف المسيح التي أمر بطرس برعايتها هم تلاميذه أي المؤمنون به. ولا نعرف بالضبط ما أراده المسيح بتسميته بعض التلاميذ «خرافاً» وبعضهم «غنماً» (ع ١٦)، فقال البعض أنه قصد «بالخراف» الأحداث والضعفاء و «بالغنم» البالغين والأقوياء. وما أمره به هنا يوافق ما أمره به قبل سقوطه بقوله «وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا ٢٢: ٣٢).
    وعلينا أن نلاحظ هنا أن المسيح لم يسمِّ كنيسته الخراف، ولا خراف بطرس بل «خرافي» (خراف المسيح) لأنها له، وهو الراعي الحقيقي العظيم، وغيره من خدام الدين وكلاؤه. وأن في قوله «ارع» بيان لمسؤولية الرعاة، فهُم لا يترأسون على الكنيسة، ولا يقصدون الربح من رعايتها، بل أن يغذوها بكلمة الحياة. وأن المسيح لم يوكل إلى بطرس رعاية شعبه إلا بعد ما فحص عن محبته، كأن تلك الفضيلة صفة ضرورية للراعي. وأن المسيح يحب خرافه، ولا يكلف أحداً برعايتها إلا إن كان يحبه فيعتني بخراف المسيح بالأمانة. وأن المسيح جعل خدمة بطرس للخراف برهاناً على محبته له، ويتوقع منه تلك العلامة في المستقبل. فالمحبة بالكلام دون العمل لا تستحق أن تُسمى محبة. رغب بطرس في الماضي أن يُظهر محبته للمسيح بأعمال غريبة كمشيه على الماء ليلاقيه، وبما يشبه التواضع مثل رفضه أن يغسل يسوع رجليه، وبافتخاره بثبوته وقت الخطر، وبسلِّ سيفه للمحاماة عن المسيح. ولم يسأله المسيح عن ذلك، بل سأله أن يُظهر محبته له بخدمته لشعبه.
    ١٦ «قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ غَنَمِي».
    أعمال ٢٠: ٢٨ وعبرانيين ١٣: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢٥ و٥: ٢، ٤
    ثَانِيَةً كرر المسيح سؤاله الأول ليجعل بطرس يمتحن نفسه، وليوضح أهمية ذلك السؤال وما يُبنى على الجواب. فنوع المحبة الذي سأل عنه هنا كالنوع الذي سأل عنه أولاً. والفرق بين ما ذُكر في ع ١٥ وما ذُكر هنا ثلاثة أشياء: (١) ترك يسوع ما زاده على السؤال الأول من قوله «أكثر من هؤلاء» فقد اقتنع بجواب بطرس أنه تعلم التواضع بسقوطه. (٢) أن المسيح بقوله «ارع غنمي» عبَّر عن الرعاية ثانيةً بغير ما عبر عنه أولاً، فالكلمة الأولى في اليونانية «التغذية فقط» والثانية تفيد فوق ذلك العناية، والإرشاد، والحماية كالسهر على الخراف ووقايتها من الخطر، وطلب الضالة منها ورده إلى الحظيرة. وهذا غير واضح في الترجمة العربية لعدم وجود كلمتين فيها كالكلمتين في اليونانية. (٣) أنه قال في الأول «خرافي» وفي الثاني «غنمي» ولعل هذا التغيير جاء لتشمل هاتان الكلمتان كل صنوف المؤمنين من دونٍ وعالٍ، وضعفاء وأقوياء، وأحداث وبالغين. وكما أنه سأله ثانية عن محبته له، أمره ثانية بخدمة كنيسته، برهاناً على إخلاص تلك المحبة.
    ١٧ «قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ارْعَ غَنَمِي».
    يوحنا ٢: ٢٤، ٢٥ و١٦: ٣٠
    ثَالِثَةً لا شك أن علة سؤال المسيح لبطرس عن محبته إيّاه ثلاثاً تذكيره إيّاه أنه أنكره ثلاثاً، وإعطاؤه فرصة يصرح بمحبته ليسوع بعدد مرات نفيه العلاقة بينه وبين سيده. وإثباته ثالثةً أنه غفر له وردَّه إلى مقامه بين الرسل، وإرادته أنه بواسطة التكرار يتأكد بطرس أنه يجب عليه أن يكون مستيقظاً أميناً في القيام بما يجب عليه باعتبار أنه راعٍ. وما قيل في هذه الآية يوافق ما قيل لسائر الرسل (متّى ١٨: ١٨). ولا دليل على أن المسيح قصد هنا أن يفضل بطرس على سائر رسله في الرتبة والسلطان.
    أَتُحِبُّنِي استعمل المسيح هنا الكلمة التي استعملها بطرس، كما يدل عليه الأصل اليوناني، فكأنه سأل: هل حقاً تحبني كما قلت محبة الصديق لصديقه ومحبة الأخ لأخيه؟
    فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً فهم بطرس أن المسيح أشار بالسؤال ثلاثاً إلى إنكاره الثلاثي، فحزن جداً لأن سؤال المسيح ثالثةً يظهر شك المسيح في حقيقة محبته. ولكن مهما كان حزن بطرس وقتئذ شديداً فهو ليس شيئاً بالنسبة إلى الحزن الذي سبَّبه للمسيح بإنكاره في دار قيافا.
    أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ شهد بطرس بهذا أن يسوع هو الله، لأن معرفته كل شيء حتى أسرار القلب تثبت بالضرورة أنه الله (يوحنا ١٦: ٣٠ وأعمال ١: ٢٤).
    أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ أي إن لم يشهد لساني لصدق اعترافي فانظر داخل قلبي لتعلم إخلاص محبتي. ونتعلم من هذا أن مدح الناس أو لومهم لنا ليسا مهمَّين. أما إن شهد المسيح لنا بحقيقة محبتنا له فلا خوف علينا من حساب يوم الدين.
    ارْعَ رجع هنا إلى الكلمة التي استعملها في ع ١٥، أي أطعِم.
    غَنَمِي كما في ع ١٥. نسب المسيح غنمه إلى نفسه في كل المرات.
    أظهر بطرس بما كتبه في رسالته الأولى أنه أدرك قصد المسيح من هذه التوصية (١بطرس ٥: ١ - ٤) وبيّن في مدة حياته كلها إخلاص محبته بخدمته بأمانة.
    ١٨ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لا تَشَاءُ».
    يوحنا ١٣: ٣٦ وأعمال ٢: ٣، ٤
    أعلن يسوع في هذه الآية أنه يجب على بطرس أن يقتدي به في احتمال الآلام، كما يقتدي به في الخدمة. وفي هذا إنباء بكيفية موت بطرس. فلم يعده المسيح بالراحة والإكرام والرياسة، بل بالمصائب. وكذا أعلن الله لحزقيال أنه عُيّن لاحتمال المشقات (حزقيال ٣: ٢٥) وكذلك بولس (أعمال ٩: ١٦ و٢١: ١١). قال بطرس ليسوع «أنت تعلم كل شيء». فصدق يسوع قوله ببرهان علمه ما في المستقبل.
    اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكَ التكرار للتوكيد.
    لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً لا يلزم من هذا أن بطرس كان يومئذ شيخاً، لكن المسيح أشار إلى أيام حداثة بطرس حين كان صياد سمك قبل أن دعاه رسولاً. والمرجح أنه كان حينئذ بالغاً لأنه كان متزوجاً زمن دعوته (لوقا ٤: ٣٨).
    كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ يشير هذا إلى الحرية والاستقلال، فكأن المسيح قال له «كنت وقتئذ تلبس كما تريد وتذهب وتجيء كما تشاء».
    وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ لم يرد المسيح بذلك أن بطرس يعيش طويلاً إلى سن الهرم، بل أن يبقى سنين بعد وقت ذلك الخطاب.
    تَمُدُّ يَدَيْكَ قال أكثر المفسرين إن المسيح قصد بذلك أن بطرس سيُصلب، لأن مد اليدين من لوازم الصلب.
    وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ أي الصالب يربطك على خشبة الصليب، فإنهم كثيراً ما كانوا يربطون المصلوب من وسطه فوق تسميره لئلا تتمزق الأيدي بالمسامير ويسقط الجسد من ثقله.
    يَحْمِلُكَ حَيْثُ لا تَشَاءُ أي يجبرك على الذهاب إلى محل الصلب. ولا يلزم من قوله «لا تشاء» أن بطرس يقاوم صالبيه ويرفض أن يموت شهيداً، إذ المعنى أنه يقاسي ما لا يحتمله الجسد. وهذا ما حدث، فقد كتب القديس أوريجانس المؤرخ المسيحي أن بطرس صُلب منكوساً (أي ورأسه إلى أسفل). ولا نعلم إن كان المسيح قصد بذلك الكلام صلب بطرس، إنما نعلم أنه قصد أن بطرس سيموت شهيداً.
    ١٩ «قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُمَجِّدَ اللَّهَ بِهَا. وَلَمَّا قَالَ هَذَا قَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي».
    ٢بطرس ١: ١٤
    هذا تفسير يوحنا لنبوة المسيح لبطرس.
    أَيَّةِ مِيتَةٍ من الميتات الإجبارية والأرجح أنها ميتة الصلب. وأشار بطرس نفسه إلى ما قصده المسيح هنا بقوله «عَالِماً أَنَّ خَلعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ المَسِيحُ أَيْضاً» (٢بطرس ١: ١٤). ولا شك أن يوحنا علم ما قصده المسيح هنا علم اليقين، لأن بطرس كان قد مات قبل أن يكتب يوحنا بشارته بسنين.
    يُمَجِّدَ اللَّهَ بِهَا هذا دليل على أن المسيحي يمكنه أن يمجد الله بموته (يوحنا ١٣: ٣١ وفيلبي ١: ٢٠ و١بطرس ٤: ١٦). والذي يمجد الله بموته أكثر من غيره هو من يموت شهيداً للحق لأنه بذلك يقدم أحسن شهادة له. ويمكن المسيحي أن يمجد الله باستعداده للموت دائماً طاعةً لقوله «لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة» ويمجده أيضاً في وقت النزع إذا احتمله بصبر وشجاعة وإيمان ورجاء، لأنه بذلك يشهد بقوة ديانة المسيح للانتصار على أهوال الموت والقبر.
    اتْبَعْنِي استعمال هذه الكلمة بمعنى حرفي في الآية الآتية يجعلنا نفهمها هنا بحرفية معناها، ونفهم منها أن يسوع ذهب من المكان الذي كان فيه، وأمر بطرس بالذهاب وراءه. لكن ذلك لا يمنع أن المسيح قصد أن يتخذها بطرس بالمعنى الروحي أيضاً، أي أن يقتدي به ويطيعه، كما في قوله «هلمّ ورائي» (متّى ٤: ١٩) حين دعاه أولاً ليكون تلميذاً. وكما فسر ذلك بقوله «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَليُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِل صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤). وأنه قصد الإشارة إلى موته ميتة كميتته كما أشار إليه سابقاً بقوله «حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيراً». ولا يبعد عن الظن أن مشي المسيح وقتئذ كان رمزياً ليعلم بطرس أنه يجب عليه ما دام حياً أن يتبع سيده في طريق الطاعة والقداسة وخدمة الكنيسة والآلام، متمماً إرادة الآب كما تممها المسيح، وأن يتبعه بعد ذلك إلى السماء والمجد ببذل حياته لأجل اسمه مائتاً شهيداً على الصليب.
    ٢٠ «فَالتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ، وَهُوَ أَيْضاً الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ العَشَاءِ، وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، مَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُكَ؟».
    يوحنا ١٣: ٢٤، ٢٥ و٢٠: ٢
    فَالتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ هذا يدل على أن المسيح كان يمشي فعلاً، وبطرس يمشي وراءه.
    التِّلمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ أي يوحنا. (انظر شرح يوحنا ٢٠: ٢).
    الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ العَشَاءِ (يوحنا ١٣: ٢٤، ٢٥) وليست الغاية من وصف يوحنا نفسه بهذا وما قبله مجرد تمييز التلميذ الذي تبع المسيح عن سائر التلاميذ، بل إظهار سبب رغبته في أن يبقى قريباً من المسيح، وعلى جسارته أن يفعل ذلك بدون أمره. واتباع يوحنا للمسيح دليل على أن المسيح لم يرد بأمره لبطرس أن يأتي وراءه لينفرد به لأمر سري، ودليل أيضاً على أن يوحنا مستعد أن يتبع سيده حيث يشاء في سبيل الخدمة والألم.
    ٢١ «فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ هَذَا، قَالَ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ، وَهَذَا مَا لَهُ؟».
    هذا استفهام عن مستقبل يوحنا، فكأنه قال «ماذا يصيب يوحنا بعد، وأية ميتة يموت؟» ولا نعرف السبب الذي دعا بطرس ليسأل هذا السؤال. والأرجح أنه نتج عن محبته الخاصة ليوحنا، ومن اهتمامه بكل ما يأتي على يوحنا، وهو اهتمام الأخ الكبير بأخيه الصغير. فرغب في أن يعلم هل سيموت يوحنا مثله ميتة إجبار؟
    ٢٢ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ، فَمَاذَا لَكَ؟ اتْبَعْنِي أَنْتَ».
    متّى ١٦: ٢٧، ٢٨ و٢٥: ٣١ و١كورنثوس ٤: ٥ و١١: ٢٦ ورؤيا ٢: ٢٥ و٣: ١ و٢٢: ٧، ٢٠
    لا بد من أن المسيح قصد بقوله لبطرس «فماذا لك؟» توبيخاً لطيفاً له على أنه سأل عما لا حق له أن يسأل عنه، وأنه لم يقصد أن يجيبه صريحاً عن سؤاله.
    أَنَّهُ يَبْقَى أي يحيا (فيلبي ١: ٢٤، ٢٥ و١كورنثوس ١٥: ٦) وقصد المسيح أن بطرس «يتبعه» (أي في سبيل الموت إجباراً) وأن يوحنا «يبقى» (أي يموت ميتة طبيعية).
    حَتَّى أَجِيءَ معنى هذه العبارة غير واضح، ولم يفهمها التلاميذ، ولم يدَّع يوحنا فهمها. فقد ورد مجيء المسيح في الإنجيل بأربعة معانٍ: (٢) حلول الروح القدس يوم الخمسين (يوحنا ١٤: ١٨ و١٦: ١٦، ٢٢) وليس هذا هو المعنى المقصود هنا (٢) خراب أورشليم (يوحنا ١٠: ٢٣ ومتّى ١٠: ٢٣ و٢٦: ٦٤). وهذا كان بعد أربعين سنة من زمن هذه المخاطبة، والأرجح أن بطرس لم يعش إلى ذلك الوقت. أما يوحنا فقد كان حيّاً، وقال أكثر المفسرين إن المسيح قصد ذلك المجيء. (٣) إتيان المسيح ثانية للدينونة (١يوحنا ٢: ٢٨ و٣: ٢) وفهم التلاميذ هذا المعنى، أي أن يوحنا يبقى حياً إلى اليوم الأخير ويصعد إلى السماء بغير موت. (٤) حضور المسيح الروحي عند موت المؤمن (يوحنا ١٤: ٣).
    ولم يقُل المسيح إن يوحنا يبقى إلى أحد الأزمنة المشار إليها، إنما قال «إن شئت أن يبقى حتى أجيء».
    اتْبَعْنِي أَنْتَ هذا مكرر قوله في ع ١٩. فيكتفي الاهتمام بطاعة هذا الأمر دون الاهتمام بما يتعلق بصديقه.
    ٢٣ «فَذَاعَ هَذَا القَوْلُ بَيْنَ الإِخْوَةِ: إِنَّ ذَلِكَ التِّلمِيذَ لا يَمُوتُ. وَلَكِنْ لَمْ يَقُل لَهُ يَسُوعُ إِنَّهُ لا يَمُوتُ، بَل: إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ، فَمَاذَا لَكَ؟».
    ذَلِكَ التِّلمِيذَ لا يَمُوتُ هذا شرح المؤمنين في أيام يوحنا لإنباء المسيح بأن يوحنا يبقى إلى أن يجيء، لأنهم توقعوا مجيء يسوع للدينونة قريباً جداً، وأن يحدث ليوحنا ما يحدث لغيره من المؤمنين «لا نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ البُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ» (١كورنثوس ١٥: ٥١، ٥٢). ولا عجب من أن الإخوة لم يصيبوا بتفسير كلام المسيح، لأنهم لم يفهموا أن أحد معاني مجيئه هو خراب أورشليم. ونعلم من التواريخ القديمة أن يوحنا مات بعد أن مات كل الرسل، وأنه بقي حياً بعد خراب أورشليم، وتوفي وفاة طبيعية في أفسس في نهاية القرن الأول أو بدء القرن الثاني.
    لَمْ يَقُل لَهُ يَسُوعُ قال ذلك بياناً لحقيقة ما قاله المسيح، لئلا ينسب أحد إليه آراء الناس وأوهامهم.
    ٢٤ «هَذَا هُوَ التِّلمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ».
    يوحنا ٩: ٣٥ و٣يوحنا ١٢
    تكلم يوحنا على نفسه بضمير الغائب بياناً أنه هو كاتب هذه البشارة كشاهد عيان لأعمال المسيح وأنه هو المشار إليه في ع ٢٢، وأن ذلك تواضع منه (يوحنا ١٩: ٢٦).
    بِهَذَا أي البشارة كلها.
    نَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ أي أنا وإخوتي. وهذا بيان أن الإخوة يصادقون على ما كتبه يوحنا، حتى أنه استطاع أن يُشهدهم ويضمهم إليه في ما كتب (راجع ١يوحنا ٥: ١٨ - ٢٠).
    ٢٥ «وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ العَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الكُتُبَ المَكْتُوبَةَ. آمِينَ».
    يوحنا ٢٠: ٣٠ و٧: ١٠
    هذا تصريح بأن ما كتبه يوحنا في هذه البشارة عن المسيح وأعماله قليل من كثير. فاللسان لا يستطيع التعبير عن عظمة الرب يسوع، ولا القلم يسطر ما يتعلق بجلاله، وكلاهما قاصر عن بيان الحكمة والرحمة اللتين أظهرهما بأعماله وأقواله، فاختار يوحنا بعضها (يوحنا ٢٠: ٣٠، ٣١) ليؤمن الناس أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولتكون لمن يؤمنون حياة باسمه. وما كُتب في بشارة يوحنا وسائر البشائر ذو قيمة أعظم من كل كتب العالم، وهو سبب تأليف كتب كثيرة وأفكار عظيمة ثاقبة، وإجراء أعمال شريفة نافعة، وفيه إعلان حقائق أرضية وسماوية أساسية في الحياة الزمنية والحياة الأبدية.
    ولا يستلزم قوله هذا أنه لم يكتب سوى القليل مما يتعلق بيسوع فترك شيئاً من الحقائق الضرورية للإيمان والقداسة والخلاص، أو شيئاً من عقائد دين المسيح الجوهرية، لأنه كتب بإلهام الروح القدس الذي يرشد إلى كل الحق (يوحنا ١٦: ١٣).
    إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً ما في هذه الآية مبالغة اعتادها الكُتّاب في تلك الأيام. وكان يوحنا يكتب بشارته إلى أناس مثله بعبارات كعباراتهم. وليس في هذه المبالغة شيء من الكذب أو الخداع أو الغش، فالمقصود بيان الكثرة الكاملة، والتعجب من عظمة الموضوع، وإظهار العجز عن تدوينها كلها. ومن أمثلة هذه المبالغة قوله «هُوَذَا أَنْتُمُ اليَوْمَ كَنُجُومِ السَّمَاءِ فِي الكَثْرَةِ» (تثنية ١: ١٠). وقوله «وَكَانَ المِدْيَانِيُّونَ وَالعَمَالِقَةُ وَكُلُّ بَنِي المَشْرِقِ حَالِّينَ فِي الوَادِي كَالجَرَادِ فِي الكَثْرَةِ، وَجِمَالُهُمْ لا عَدَدَ لَهَا كَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ فِي الكَثْرَةِ» (قضاة ٧: ١٢). وقول المسيح «أَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ المُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ» (متّى ١١: ٢٣). وقول اليهود «هُوَذَا العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءه» (يوحنا ١٢: ١٩). ومما يقرب من قول يوحنا في هذه الآية قول الجامعة «لِعَمَلِ كُتُبٍ كَثِيرَةٍ لا نِهَايَةَ» (جامعة ١٢: ١٢).
    آمِينَ هذه الكلمة خاتمة كل البشائر، ومعناها «ليكن ذلك» ويصح أن نقولها أجمعين بمعنى: ليكن لنا إيمان بما كُتب هنا، وطاعة لما أُمر به، وتمتُّع بما وُعد به.

    Call of Hope
    P.O.Box 10 08 27
    D-70007
    Stuttgart
    Germany

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •