النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: تفسير انجيل لوقا

  1. #1

    تفسير انجيل لوقا

    المقدمة وفيها ستة فصول

    الفصل الأول: في الكاتب


    كاتب هذه البشارة لوقا واسمه هذا مختصر لوقانوس أو لوسليوس. ذُكر في الرسائل ثلاث مرات (كولوسي ٤: ١٤ و٢تيموثاوس ٤: ١١ وفليمون ٢٤). وهو كاتب سفر أعمال الرسل. قال بعضهم أنه لم يكن يهودياً أصيلاً بل ممن هادوا من الأمم وسُموا دخلاء لأن بولس عندما ذكر أصحابه في رومية الذين من الختان أصلاً والذين ليسوا من الختان كذلك لم يذكر لوقا مع الأولين بل ذكره مع الآخرين (قابل كولوسي ٤: ١١ مع كولوسي ٤: ١٤). ولنا عدة أدلة على أنه كان دخيلاً. منها أنه كان عالماً بكل عوائد اليهود وطقوسهم. ومنها أن اليهود عندما هيّجوا الشعب على بولس في أورشليم إنما أتوا ذلك لأنه أدخل معه واحداً من الأمم وهو تروفيموس الأفسسي (أعمال ٢١: ٢٧). ولكن لوقا كان معه ولم يعترض أحد عليه بشيء من شأنه ولو لم يكن دخيلاً مختتناً لم يسكتوا عنه.
    وكان طبيباً كما ظهر من قول بولس لأهل كولوسي (كولوسي ٤: ١٤) ولم يكن شاهد عين بما ذكره في إنجيله ولا خادماً للإنجيل من أول انتشاره بدليل ما جاء في كلامه (لوقا ١: ٢) وإلا كان قد بنى ما ذكره على مشاهدته.
    ولم يُعلم متى تنصّر ولا على يد من تنصّر. وأول ذكره في الكتاب كان عند اجتماعه ببولس في ترواس (أعمال ١٦: ١٠). ومن ثم رافقه إلى مكدونية. ولم يُصرّح هنالك باسمه بل بضمير المتكلم خلافاً لما في إنبائه قبلاً كقوله «طلبنا أن نخرج إلى مكدونية». وظن بعضهم أن بولس أرسله قبلاً إلى ترواس للتبشير لأنه لم يذكر نبأ تنصره هنالك ولأنه كان يعتمده كسائر رفقائه المؤمنين. بقي لوقا مع بولس كل مدة إقامته بفيلبي ولم يزل باقياً في فيلبي مدة سفر بولس عنها بدليل أنه عدل في كلامه على ذلك السفر عن صيغة التكلم إلى صيغة الغيبة خلافاً لما سبق من كلامه في ترواس إلى بلوغه فيلبي (أعمال ١٧: ١).
    ثم رافق بولس عند خروجه من فيلبي بعد رجوع بولس إليها في سفره الثالث (أعمال ٢٠: ٥). فالظاهر أن لوقا بقي مبشراً في فيلبي من سفر بولس الثاني إلى سفره الثالث وذلك نحو سبع سنين أي من ٥١ - ٥٨ م.
    ورافق بولس إلى ميليتس وصور وقيصرية وأورشليم (أعمال ٢٠: ٥ و٢١: ١٧ و١٨).
    قال بولس في ما كتبه إلى أهل كورنثوس «أَرْسَلْنَا مَعَهُ ٱلأَخَ ٱلَّذِي مَدْحُهُ فِي ٱلإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ. وَلَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ، بَلْ هُوَ مُنْتَخَبٌ أَيْضاً مِنَ ٱلْكَنَائِسِ رَفِيقاً لَنَا فِي ٱلسَّفَرِ» (٢كورنثوس ٨: ١٦ - ١٩). وفي ملحق هذه الرسالة في اليونانية ما ترجمته «أرسلت من فيلبي على يد تيطس ولوقا» فيكون لوقا هو الأخ المشار إليه. وكان مع بولس مدة سجنه في قيصرية وهي نحو سنتين (أعمال ٢٤: ٢٣). ورافق بولس وهو منطلق أسيراً إلى رومية (أعمال ٢٧: ١ و٢٨: ١٦). وبقي معه كل مدة سجنه الأول (كولوسي ٤: ١٤ وفليمون ٢٤). وإذا حسبنا أن بولس كتب رسالته الثانية إلى تيموثاوس في مدة سجنه الثاني في رومية كما هو المرجح نتج أن لوقا بقي مع بولس إلى نهاية جهاده (٢تيموثاوس ٤: ١١). وليس لنا اليقين من خبره بعد موت بولس.
    وخلاصة معرفتنا من جهته أنه هو «الطبيب الحبيب» (كولوسي ٤: ١١). وأنه الصديق المخلص لبولس وشريكه في أتعابه وآلامه. وكاتب البشارة الثالثة وسفر أعمال الرسل. وأما قول بعضهم أنه وُلد في أنطاكية وأنه أحد السبعين الذين أرسلهم المسيح للتبشير وأنه كان أحد التلميذين اللذين رافقهما يسوع بعد قيامته إلى عمواس وأنه كان مصوراً علاوة على ما ذُكر وأنه مات شهيداً في بلاد اليونان فلا دليل عليه.

    الفصل الثاني: في زمن كتابتها


    كُتبت هذه البشارة قبل خراب أورشليم لأن الأصحاح الحادي والعشرين منها كُتب نبوءة بخراب أورشليم لا تاريخ أمر مضى. وكُتبت قبل سفر أعمال الرسل (أعمال ١: ١). والأرجح أن سفر الأعمال كُتب مدة سجن بولس في رومية لأن تاريخ بولس ينتهي بذكر نهاية ذلك السجن (أعمال ٢٨: ٣٠ و٣١) وكان ذلك سنة ٦٣ م. والنتجية أن هذه البشارة كُتبت بين سنة ٥٨ و٦٠ م.

    الفصل الثالث: في موضع كتابتها


    لنا مما قيل في زمن كتابتها أن موضع تلك الكتابة هو قيصرية حيث سجن بولس. ويتضح من كلام البشير أنه كان له عند كتابته كل الوسائط للبحث عن كل ما يتعلق بحياة المسيح الأرضية ولمواجهة الناس الذين شاهدوا واختبروا.

    الفصل الرابع: في مصادر علم لوقا بما كتبه في بشارته


    قال لوقا في مقدمة بشارته ما خلاصته أنه كان مؤلفات كثيرة في سيرة المسيح ويظهر من كلامه أن تلك المؤلفات كانت ناقصة غير موثوق بها وأنه استفرغ المجهود في الوقوف على حقيقة الأمر وكمال الحوادث. وهذا يدلنا على أنه لم يقف على بشارتي متّى ومرقس وإلا كان أدخل في بشارته الحوادث التي ذكراها لأن ذلك وفق قصده الذي أعلنه. ولا يمكنه أن يكون قد أخذ عما كتبه يوحنا لأن يوحنا كتب بعده. ولم يدّع أنه شاهد عين بما أنبأ به من الحوادث لكنه صرّح بأنه بحث عن ذلك ممن كانوا شهود عين ووقفوا على اليقين.
    واتفق المؤرخون المسيحيون الأولون أن لوقا كتب بإرشاد بولس الرسول وتعليمه ولا ريب في أنه استفاد كثيراً من تعاليم بولس لأنه كان رفيقاً له وأن في بشارته خلاصة تعاليم ذلك الرسول فإذاً هي مبنيّة على أساس رسولي. ولكن لا سبيل إلى الحكم بأن معرفته كانت مقصورة على ما أخذه عن بولس وحده. ومقدمة بشارته تحقق لنا أنه أخذ عن شهود كثيرين. ولا عجب من أنه أخذ ما أنبأ به في الأصحاحات الثلاثة الأولى عن مريم أم يسوع نفسها أو عن الذين سمعوه منها والأرجح أنه كتب هذه البشارة في قيصرية كما ذكرناه. والمسافة بين هذه المدينة وأورشليم قريبة فلم تكن مما يمنعه من أنه يذهب إلى أورشليم ويخاطب مريم في أثناء السنتين اللتين كان يقيم فيهما بقيصرية.
    وأكثر ما تظهر المشابهة بين تعليم لوقا وتعليم بولس في الكلام على العشاء الرباني (قابل لوقا ٢٢: ١٩ و٢٠ مع ١كورنثوس ١١: ٢٣ - ٢٥ وقابل أيضاً لوقا ٢٤: ٢٦ و٢٧ مع ١كورنثوس ١٥: ٣).
    وكل ما ذكرناه من مصادر بشارته لا يقدح في أنه كان ملهماً بالروح القدس ولا يغنيه عن الإلهام.

    الفصل الخامس: في غاية لوقا من هذه البشارة


    يظهر من مقدمة هذه البشارة أنها كُتبت لإفادة رجل اسمه ثاوفيلس. وظن بعضهم أن ثاوفيلس اسم عام لكل مسيحي لأن معناه في اليونانية محب الله ولكن ينافي هذا الظن نعته بالعزيز فإن هذا النعت كان يختص بأرباب الرتب السياسية كما يظهر من سفر الأعمال (أعمال ٢٤: ٣). فإذاً ثاوفيلس شخص بعينه ويتبين أنه لم يكن من أهل اليهودية لما فسره له لوقا من الأماكن المذكورة في بشارته ولو كان من أهل تلك الأرض ما احتاج إلى ذلك. وأمثال ما ذُكر ما أبانه له من أمر الناصرة (ص ١: ٢٦) وكفرناحوم (ص ٤: ٣١) والرامة (ص ٢٣: ٥١) وكورة الجدريين (ص ٨: ٢٦) والمسافة بين عمواس وأورشليم وبين جبل الزيتون وأورشليم (ص ٢٤: ١٣ وأعمال ١: ١٢).
    واسم ثاوفيلس يوناني وهو من الأمم لا من اليهود. وذكر لوقا بعض الأماكن في إيطاليا كأنها معلومة حمل البعض على الظن أنه من سكان تلك البلاد. والمرجح أنه كان ممن آمنوا بالمسيح من الأمم وأن لوقا كتب إنجيله أولاً لمنفعة غيره من أمثاله لا له وحده. وهذه البشارة موافقة جداً للأمم وهي تتضمن تعليم بولس الذي هو رسول الأمم وتعاليم غيره ممن بشروهم. ومما يبين أنها كُتبت للأمم خاصة أن لوقا لم يبتدئ نسب المسيح بذكر إبراهيم أبي العبرانيين كما فعل متّى بل ابتدأ بآدم ليظهر أن يسوع مخلص لكل البشر لا لليهود وحدهم. وعبّر في كل بشارته عن ملكوت المسيح أنه يعم كل أولاد آدم. ومما يقوي الظن أنه كتب لليونانيين تعبيره عن صفات المسيح وتعليمه بالأسلوب الذي يرغب اليونانيون فيه. وهو قد بين كمال ناسوت المسيح بأنه بلغ كل ما هو سام وعزيز عند اليونانيين مما دلوا عليه بتماثيلهم وصورهم وفلسفتهم من جودة العقل وقوة الاستدلال وصفات القلب من البرّ والحق والرحمة.
    ومع أن لوقا لم يهمل بيان لاهوت المسيح كان أكثر كلامه على ناسوته إذ ذكر كل ما يتعلق به من الحبل به وطفولته وصبوته وشبيبته. فكانت غاية متّى أن يظهر لليهود كون يسوع هو المسيح الموعود به لآبائهم وغاية مرقس أن يظهر للرومانيين أن يسوع ابن الله وأنه ملك مقتدر ومنتصر وغاية لوقا أن يبين لليونانيين أن يسوع ابن الإنسان وأنه كامل الصفات ومخلص لكل البشر.

    الفصل السادس: في خواص بشارة لوقا


    ذكرنا أن متّى امتاز بذكر مواعظ المسيح ومرقس امتاز بذكر أعمال المسيح وامتاز لوقا بذكر مخاطبات المسيح لأفراد الناس وأجوبته لهم. ومما امتاز به عن سائر البشيرين ذكره صلوات يسوع ومنها ما ذكره وقت معموديته (ص ٣: ٢١) وفي وقت تجليه (ص ٩: ٢٩). ولما سأله تلاميذه أن يعلّمهم الصلاة (ص ١١: ١) وما ذكره من أنه صلّى من أجل بطرس لكي لا يتلاشى إيمانه (ص ٢٢: ٣٢). ومما يمتاز به عن سائرهم فصاحته وبلاغته في اللغة اليونانية وهذا دليل على أنه كان من العلماء.
    ومن الحوادث التي لم يذكرها غير لوقا من البشيرين رؤيا زكريا. وبشارة مريم العذراء. وولادة يسوع وتقديمه في الهيكل. وصيد السمك الكثير. وإقامة ابن الأرملة في نايين من الموت. وإرسال السبعين مبشرين. والمغفرة للمرأة الخاطئة. ودعوة زكا العشار. والعشاء في بيت عنيا الذي خدمت فيه مرثا وكانت مريم جالسة عند قدمي يسوع تصغي إلى كلماته. ومسير التلميذين إلى عمواس. والكلام على الصعود. ومما يستحق الذكر خاصة أنه وحده ذكر خدمة المسيح في بيرية بالتفصيل. وبيرية بلاد سكانها من الوثنيين واليهود أقام بها المسيح نحو ستة أشهر. ومن الأمثال التي لم يذكرها غير لوقا مثل التينة العقيم. ومثل الأرملة الملحة. ومثل الفريسي والعشار في الهيكل. ومثل الغني الجاهل ولعازر. ومثل الخروف الضال. ومثل الدرهم المفقود. ومثل الابن الشاطر. ومثل الوكيل الظالم. ومثل السامري المتحنن. ومثل العشرة الأمناء. ومثل عرس ابن الملك.

    الأصحاح الأول


    مقدمة لوقا ع ١ إلى ٤


    ١ «إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا».
    الآيات الأربع الأولى من هذا الأصحاح مقدمة للبشارة كلها وفيها بيان الغاية من كتابتها.
    كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ الكثيرون هنا لم يكونوا شهود عين بل نقله عن غيرهم وعلى هذا لم يشر بهم إلى سائر البشيرين لأن متّى ويوحنا كانا شاهدي عين. ولم يشر إلى مرقس لأنه لم يقف على ما كتبه ولو وقف عليه ما خلت بشارته من بعض الحوادث التي ذكرها مرقس لكي يكتب بالتدقيق على التوالي كل الأشياء المتعلقة بيسوع. فالأرجح أن أولئك الكثيرين هم معلمو الإنجيل والمبشرون به الذين كتبوا أخباراً مختصرة مما سمعوه من الرسل وغيرهم من وقت إلى وقت. ولعلّ منهم بعض المؤمنين الذين كانوا يكتبون ما يبقى في حافظتهم من مواعظ الرسل.
    ولم يصل إلينا شيء مما كتبه أولئك الكثيرون وعلّة ذلك أن الروح القدس اعتنى بحفظ البشائر الأربع دون غيرها مما كُتب في وقتها لأنها تشمل على كل الأمور الجوهرية ولأنها كُتبت بإلهامه.
    ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ هذا تعريف حسن لما في الإنجيل أي حوادث حياة المسيح فهي ليست من المظنونات بل من الواقعات المحقة التي اتفق كل المسيحيين على صحتها. وقد رتبت على طريق يسهل فيه إدراكها وذكرها والتعبير عنها. ويتبين من هذا أنه استفاد مما كتبه الكثيرون ومما سمعه من غيرهم وهذا هو المصدر الأول لما كتبه في إنجيله.
    عِنْدَنَا نحن المسيحيين.
    ٢ «كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ».
    عبرانيين ٢: ٣ و١بطرس ٥: ١ و٢بطرس ١: ١٦ و١يوحنا ١: ١، مرقس ١: ١ ويوحنا ١٥: ٢٧
    سَلَّمَهَا إِلَيْنَا أي أنبأنا بها شفاهاً لأنه كانت أكثر التعاليم في عصور الكنيسة الأولى باللسان لا بالقلم.
    كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ أي من أول خدمة المسيح.
    مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ شهادة هؤلاء هي المصدر الثاني الذي أخذ لوقا إنجيله منه وهم الرسل وغيرهم ممن شاهدوا يسوع وأعماله وسمعوا أقواله وبشروا بكلمته وبذلوا الجهد في خدمته.
    ٣ «رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى ٱلتَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ».
    أعمال ١: ١
    أَنَا أَيْضاً حسب نفسه واحداً من الكثيرين الذين أخذوا في التأليف. وهذا دليل على أنه لم يتهمهم بالغلط ولم يستخف بما كتبوه بل أظهر قصده أن يكتب أكثر مما كتبوه ليكون النبأ كاملاً.
    ويظهر مما كتب لوقا في هذه المقدمة أن وحي الروح القدس أو إلهامه بكتابة سفر من الأسفار الإلهية لا يجعل شهادة الناس غير نافعة وبلا قيمة ولا يرفع عن الكاتب المسؤولية باجتهاده في جمع الشهادات البشرية والتدقيق في التمييز بين صحيحها وفاسدها.
    تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ يتبين من هذا أن لوقا استفرغ المجهود في الحصول على كمال المعرفة بكل الحوادث المتعلقة بحياة المسيح الأرضية. وقوله «من الأول» يدل على أن ما كتبه الكثيرون كان ناقصاً لا يشتمل على سوى أجزاء صغيرة من سيرة المسيح وقصد هو أن يكتب الحوادث من أول حياته الأرضية إلى آخرها.
    عَلَى ٱلتَّوَالِي لا يلزم من ذلك أن كل ما كُتب في إنجيل لوقا رُتب حسب وقت حدوثه فمعناه أنه قصد أن يكون تاريخه على الترتيب الذي عينه قبل أن يبتدئ الكتابة. فجمعه أحياناً الحوادث المتشابهة بقطع النظر عن أوقات حدوثها لا يخرجها من أن تكون على التوالي.
    أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ لم يعرف شيء من أمره على اليقين. واسمه يوناني لا يهودي والأرجح أنه من اليونان. ووصف لوقا ما يذكره من المواضع في اليهودية والجليل يدل على أن ثاوفيلس ليس من سكان فلسطين. وعدم وصفه ما يذكره من الأماكن الإيطالية يحمل على الظن أن ثاوفيلس من سكان إيطاليا. ويقوي القول بأنه ليس بيهودي تبيين لوقا له اعتقاد الصدوقيين (أعمال ٢٣: ٨). وتلقيبه إياه بالعزيز يدل على أنه من أرباب الرتب السياسية لأن ذلك مما كان يُلقب به الحكام كما لُقب به فيلكس الوالي (أعمال ٢٤: ٣). وكما لُقب به فستس الوالي (أعمال ٢٦: ٢٥) وهذا يدفع القول بأنه صورة خيالية أُريد بها كل مسيحي لأن معنى اسمه محب الله. والأرجح أنه ممن آمنوا بالمسيح من الأمم.
    ٤ «لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ».
    يوحنا ٢٠: ٣١
    لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلاَمِ أي لتكون على ثقة مما كتبته إليك لعهدك أني صادق بحثت عن الأمور بالتدقيق.
    ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ هذا دليل على أن ثاوفيلس قد تعلّم قبل ذلك بعض ما علمه الناس من أمر المسيح. فأراد لوقا أن يحصل صاحبه هذا على كمال الخبر مما جمعه هو من مصادر مختلفة.
    ولنا مما ذُكر في مقدمة هذه البشارة معرفة كيف أن الله يتخذ خدمة البشر لإعلان كلامه وهذا الكلام يشتمل على ما وعظ به الرسل شفاهاً وما أخبر به غيرهم من شهود العين وعلى ما كتبه البشيرون نقلاً عن المشاهدين ورتبوه على أسلوب حسن. وكل ذلك لا ينفي كون ما كتب موحى به من الروح القدس لأن الروح ألهم الرسل بما تكملوا وحفظ البشيرين من الغلط في كتابة ما سمعوه وشاهدوه. وذلك من جملة ما يقوي ثقتنا بالإنجيل وأنه لا ريب في اشتماله على جوهر سيرة المسيح وتعاليمه.

    الأنباء بميلاد يوحنا سابق المسيح ع ٥ إلى ٢٥


    ٥ «كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ ٱلْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ ٱسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ وَٱسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ».
    متّى ٢: ١، ١أيام ٢٤: ١٠ و١٩ ونحميا ١٢: ٤ و١٧
    فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ابتدأ لوقا بذكر ولادة يوحنا سابق المسيح إتماماً لوعده أنه يذكر كل شيء من الأول. وهيرودس المذكور هنا هو هيرودس الكبير (انظر الشرح متّى ٢: ١). والأيام المذكورة هنا نحو ستة أشهر قبلما حُبل بيسوع.
    زَكَرِيَّا اسم شائع بين اليهود (٢أيام ٢٤: ٢٠) ومعناه الرب يذكر.
    فِرْقَةِ أَبِيَّا قسم داود الكهنة فجعلهم أربع وعشرين فرقة يخدم كل منها أسبوعاً وله صباح يوم السبت وكانوا يلقون القرعة لترتيب الخدمة. وكانت فرقة أبيّا الثامنة من أولئك الفرق (١أيام ٢٤: ٧ - ١٨ و٢أيام ٨: ١٤) وسُمي رؤساؤها «رؤساء الكهنة».
    ٱمْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ أي من السبط الكهنوتي. فجعل سابق المسيح من السلالة الكهنوتية ليكون لكلامه تأثير عظيم في الشعب. ولم يكن من الضروري أن يتزوج الكاهن من سبط لاوي. وشروط زواج الكهنة في سفر اللاويين (لاويين ٢١: ٧).
    أَلِيصَابَاتُ هي أليشابع في العبرانية كاسم امرأة هارون (خروج ٦: ٢٣) ومعناه في تلك اللغة «قسم إلهي».
    وهي نسيبة مريم (ع ٣٦) ولعلّ أمها من سبط يهوذا. ولم يُذكر اسمها في الإنجيل إلا في هذا الأصحاح.
    ٦ «وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ ٱللّٰهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا ٱلرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ».
    تكوين ٧: ١ و١٧: ١ و١ملوك ٩: ٤ و٢ملوك ٢٠: ٣ وأيام ١: ١ وأعمال ٢٣: ١ و٢٤: ١٦ وفيلبي ٣: ٦
    كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أي صالحين غيورين في طاعة الله وبيان برهما في سائر هذه الآية.
    وَصَايَا ٱلرَّبِّ يراد غالباً بالوصايا في الإنجيل الواجبات الأدبية.
    وَأَحْكَامِهِ يراد غالباً بالأحكام الواجبات الطقسية وهي في الأصل مثل الكلمة المترجمة في رسالة العبرانيين بالفرائض (عبرانيين ٩: ١ و١٠) فوصايا الرب وأحكامه يشتملان على كل الواجبات الدينية.
    بِلاَ لَوْمٍ أي في عيون الناس لا في عيني الله وهذا شهادة صريحة بتقوى والدي يوحنا. وليس المعنى أنهما بلا خطية لأن زكريا وقع تحت لوم الملاك (ع ٢٠) فهو مثل قول بولس في نفسه «مِنْ جِهَةِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي فِي ٱلنَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ» (فيلبي ٣: ٦). وينتج من ذلك أن زكريا أفضل من أكثر كهنة زمانه لأن أكثرهم كانوا فاسدين.
    ٧ «وَلَمْ يَكُنْ لَـهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِراً. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا».
    وَلَمْ يَكُنْ لَـهُمَا وَلَدٌ كان ذلك يُحسب مصاباً عظيماً في تلك الأيام بناء على رجاء كل عائلة يهودية أن يولد المسيح منها (١صموئيل ١: ١).
    ٨ «فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ ٱللّٰهِ».
    ١أيام ٢٤: ١٩ و٢أيام ٨: ١٤ و٣١: ٢
    يَكْهَنُ أي يأتي خدمة الكهنوت من ذبح حيوانات التقدمة ورش دمائها وإحراق الذبائح والتبخير وغيره.
    أَمَامَ ٱللّٰهِ أي في هيكله لأن الهيكل كان يُحسب بيت الله لأنه تعالى كان يظهر مجده في قدس الأقداس في الهيكل الأول.
    ٩ «حَسَبَ عَادَةِ ٱلْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ ٱلْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ وَيُبَخِّرَ».
    خروج ٣٠: ٧ و٨ و١صموئيل ٢: ٢٨ و١أيام ٢٣: ١٣ و٢أيام ٢٩: ١١
    أَصَابَتْهُ ٱلْقُرْعَةُ كان رؤساء الكهنة يلقون القرعة لتعيين الفرقة التي تخدم وأصابت القرعة حينئذ فرقة أبيّا. ثم أنه كانت الفرقة التي تصيبها القرعة تقترع لتعيّن نوع الخدمة الذي لكل منها. وأصابت القرعة يومئذ زكريا فعينته للتبخير مدة الأسبوع.
    هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ أي القدس حيث لا يدخل أحد غير الكهنة.
    يُبَخِّرَ الأرجح أن مذبح البخور كان في ذلك الهيكل كما كان في هيكل سليمان وكان من خشب الأرز مغشى بالذهب وكان طوله ذراعاً وعرضه ذراعاً وعلوه ذراعين (١ملوك ٦: ٢٠ و١أيام ٢٨: ١٨). وكان موضعه في القدس قدام الحجاب الفاصل بين القدس وقدس الأقداس. وكان البخور مزيجاً من أجزاء عُينت في سفر الخروج (خروج ٣٠: ٣٤ إلى ٣٨). وكانوا يوقدونه مرتين في النهار في الساعة الثالثة والساعة التاسعة منه (خروج ٣٠: ٧ و٨) في مجامر من المعدن كهيئة صحون عميقة صاغها سليمان من الذهب الخالص (١ملوك ٧: ٥٠).
    وكانت نار الإيقاد تؤخذ من مذبح المحرقات وجوباً (قابل لاويين ٦: ٩ - ١٢ مع لاويين ١٠: ١ و٢).
    وكانت تقدمة البخور رمزاً إلى الصلاة (مزمور ١٤١: ٢ ورؤيا ٥: ٨ و٨: ٣ و٤).
    ١٠ «وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجاً وَقْتَ ٱلْبَخُورِ».
    لاويين ١٦: ١٧ ورؤيا ٨: ٣ و٤
    جُمْهُورِ ٱلشَّعْبِ لا بد من أنه كان بين هؤلاء عُباد مخلصون كسمعان الشيخ وحنة النبية طلبوا في ذلك الوقت إعلان ملكوت الله الموعود به.
    يُصَلُّونَ بدون صوت.
    خَارِجاً أي في غير دار الكهنة من ديار الهيكل.
    ١١ «فَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ ٱلْبَخُورِ».
    خروج ٣٠: ١
    فَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكُ هذا أول ملاك ظهر لخدمة المسيح وظهر بعد ذلك الملاك لمريم مبشراً لها بأن يولد المسيح منها (ع ٢٠). وظهر ليوسف لكي يأخذها امرأته (متّى ١: ٢٠) وللرعاة (ص ٢: ٩) وليوسف لكي يذهب إلى مصر (متّى ٢: ١٣). ثم ظهر له ليخبره بموت هيرودس (متّى ٢: ١٩).
    ١٢ «فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا ٱضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ».
    قضاة ٦: ٢٢ و١٣: ٢٢ ودانيال ١٠: ٨ وع ٢٩ وص ٢: ٩ وأعمال ١٠: ٤ ورؤيا ١: ١٧
    كان كل من الاضطراب والخوف نتيجة غرابة منظر الملاك وظهوره على غير انتظار وما في هيئته من دواعي الوقار والهيبة والعظمة والطهارة ومن توهم الإنسان أن الملاك لم يظهر لإنسان إلا لتبكيته وعقابه. كذا خاف دانيال عند ظهور الملاك له (دانيال ٨: ١٧). وكذلك خافت النساء عند قبر المسيح (متّى ٢٨: ٥). وكذلك رهب يوحنا الرسول في بطمس (رؤيا ١: ١٧). ولعلّ الملاك ظهر لزكريا بهيئة شاب كما ظهر عند قبر المسيح (مرقس ١٦: ١٥). ولا عجب من أن رهب زكريا من مشاهدة الملاك لأنه لم يشاهد ملاكاً قبل ذلك في كل مدته الكهنوتية.
    ١٣ «فَقَالَ لَـهُ ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَٱمْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ٱبْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا».
    ع ٦٠ و٦٣
    لاَ تَخَفْ اعتاد الملائكة أن يقولوا ذلك للناس تسكيناً لخوفهم (ع ٣٠ وص ٢: ١٠ ومرقس ١٦: ٦).
    طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ أي قبلها الله واستجابها. ومن استجابة الصلاة نعرف ما طُلبت فيها وهي أن يكون له ابن. فلم يقتصر زكريا أن يسأل الله البركة العامة على شعب إسرائيل كما أوجبت عليه وظيفته لكنه سأله ايضاً بركة مخصوصة. ونستنتج من وعد الملاك أنه كان يطلب مجيء المسيح في أيامه وأن يكون له ابن سابق له. ولعلّ تلك طلبته منذ زمان طويل فالله لا ينسى الصلاة مهما مرّ عليها من الزمان.
    يُوحَنَّا هو في العبرانية يوحنان (١أيام ٣: ٢٤ و٢أيام ٢٨: ١٢) ومعناه الله حنّان. فكما عيّن اسم يسوع قبل ولادته (متّى ١: ٢١) كذلك عيّن اسم سابقه قبل ولادته.
    ١٤ «وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَٱبْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ».
    ع ٥٨
    لَكَ فَرَحٌ وَٱبْتِهَاجٌ ولادة ابن أمر سار للوالد ولا سيما إذا كان بلا ولد ولا يرجو أن يولد له وكان المولود جواباً لصلاته وعلامة مسرة الله به. والذي زاد فرح زكريا أن ذلك الولد كان سابقاً لمن هو أعظم منه وهو المسيح المنتظر. وليس كل ولد فرحاً لوالديه لأن «اَلابْنُ ٱلْحَكِيمُ يَسُرُّ أَبَاهُ، وَٱلابْنُ ٱلْجَاهِلُ حُزْنُ أُمِّهِ» (أمثال ١٠: ١). لكن زكريا وُعد بأن يكون ابنه مملوءاً من الروح القدس من بدء حياته وهذا حقق له أن يكون من الصالحين.
    كَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ لا الوالدون والأصدقاء وحدهم بل الألوف الذين سمعوا وعظه وانتفعوا به (متّى ٣: ٥) فالفرح لا يكون مقصوراً على وقت ولادته بل يبقى ما بقي حياً.
    ١٥ «لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
    عدد ٦: ٣ وقضاة ١٣: ٤ وص ٧: ٢٣، إرميا ١: ٥ وغلاطية ١: ١٥
    لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً هذا علّة فرح الكثيرين به على ما ذُكر. والعظمة المنبإ بها هنا روحية لا تقوم بالغنى والحكمة العالمية.
    وخلاصة عظمة يوحنا في الأمور الآتية:

    • كونه نذيراً كما سيُذكر فغلب بذلك الشهوات البشرية.
    • تقواه وصلاحه وأمانته لله.
    • كونه ممتلئاً من الروح القدس.
    • كونه مهيئاً الطريق أمام المسيح. ونسبة هذا العمل إلى عمل المسيح من أجل أسباب عظمته.


    أَمَامَ ٱلرَّبِّ أي في عيني من «لا ينظر إلى العينين لكنه ينظر إلى القلب» (١صموئيل ١٦: ٧). فملوك الأرض وأرباب الفتوحات والفلاسفة والأغنياء عظماء أمام الناس ولكنهم أمام الله بخلاف ما كان يوحنا صغار.
    خَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ المراد بذلك الانباء بأنه يكون نذيراً (عدد ٦: ٣ و٤) أي مفرزاً لخدمة الله طول حياته. ومثله كان شمشون (قضاة ١٣: ٢ - ٥ و١٢ - ٢٣). والأرجح أن صموئيل أيضاً كان كذلك (١صموئيل ١: ١١). والمقصود بالخمر هنا ما يسكر من عصير العنب وبالمسكر الخمر وغيرها من المشروبات المختمرة المغيبة العقل سواء كانت من الحبوب كالمِزر والجعة أم من الفواكه والعسل وغير ذلك. وكانت المسكرات كلها محرمة على الكهنة في وقت ممارسة الخدمة (لاويين ١٠: ٩) وعلى النذر أي المنذورين دائماً (عدد ٦: ٣).
    يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي أن الروح القدس يمنحه من أول نشأته كل المواهب العقلية والروحية التي تؤهله للقيام بواجبات وظيفته كما ينبغي. ويجب على كل مسيحي أن يرغب في مثل صفات يوحنا وفق قول الرسول «وَلاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ، بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ» (أفسس ٥: ١٨).
    ونفهم مما ذكر أن قلب يوحنا كان متجدداً منذ الطفولية. وليس من الضرورة أن ينفرد يوحنا بذلك ولعلّ كثيرين من الأطفال جُددت قلوبهم قبل يوحنا وبعده. فيجب على الوالدين أنهم يرجون ذلك ويسألون الله إياه. فمن الخطإ الظن أن الأولاد الصغار لا يقبلون التأثيرات الروحية ولا يستفيدون من التعاليم الدينية. قال الله لإرميا النبي «قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ» (إرميا ١: ٥).
    ويفيدنا أن نعرف الأحوال المقترنة بتجديد يوحنا منذ الطفولية وهي ثلاث الأولى أن والديه كانا تقيين مؤمنين والثانية أنه مُنح لهما إجابة لصلاتهما. والثالثة أنه كُرس لخدمة الله تعالى.
    ١٦ «وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ إِلٰهِهِمْ».
    ملاخي ٤: ٥ و٦
    وَيَرُدُّ من نسيان الله والضلال والبرّ الذاتي والعالم والشهوات والشيطان. وثبت هذا النبأ بنجاح يوحنا في خدمته كما يتبين من الآيات الآتية (متّى ٣: ٥ و٦ ومرقس ١: ٥ ولوقا ٣: ٧ و١٠). وثبت أيضاً بشهادة يسوع له (متّى ١١: ٧ - ١٤) وخوف الفريسيين من الاستخفاف به قدام الشعب (متّى ٢١: ٢٥ و٢٦). ونال يوحنا المعمدان بما أتاه العظمة التي في قول دانيال «ٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال ١٢: ٣).
    ١٧ «وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ، وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً».
    ملاخي ٤: ٥ ومتّى ١١: ١٤ ومرقس ٩: ١٢
    يَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ أي أمام الرب إلههم (ع ١٦) وهو المسيح الذي هو «ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦). و «يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي ٢: ٩). وهو «اَللّٰهُ مَعَنَا» (متّى ١: ٢٨). وقوله «يتقدّم أمامه» مجاز مبني على عادة الملوك قديماً وهي أنهم كانوا يرسلون أمامهم في أسفارهم من يهيء لهم الطريق وينبئ الناس بقدومه ليستعدوا لاستبقاله. والأصل مقتبس معنى من نبؤة ملاخي ٤: ٥ و٦.
    بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ (انظر الشرح متّى ١١: ١٤). هذا إنباء بأن يوحنا يتم غاية نبوءة ملاخي وتفسير أن المراد بإيليا فيها رجل يشبهه وهو يوحنا المعمدان. وكذا فسر المسيح تلك النبوءة. ووجه الشبه بين إيليا ويوحنا الغيرة والشجاعة وتوبيخ الخطأة من الشرفاء والأدنياء وهداية الضالين إلى سبل الحق.
    لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ مضمون هذه الآية كلها إصلاح عظيم في السيرة والسريرة. وأول أثمار هذا الإصلاح تحسين الألفة العائلية لأنه من أول ظواهر فساد الدين انقطاع رُبط الالتئام العائلي. وثانيها رد الوالدين إلى الاعتناء بنفوس الأولاد وهدايتهم إلى عبادة الله لأنه من علامات ذلك الفساد أن يهمل الوالدون الاعتناء بنفوس أولادهم ولا يعلّموهم مخافة الرب. ونتيجة ذلك رد قلوب الجميع والدين وأولاداً إلى الله سبحانه وتعالى.
    وظن البعض أن الآباء المذكورين هنا هم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأن النبي شخّصهم كأنهم أحياء آسفون من ضلال أولادهم الإسرائيليين ولذلك أعرضوا عنهم وأنه للتغير العظيم الذي يحدث في قلوب الأولاد بتبشير يوحنا ترجع قلوب أولئك الآباء إليهم بالمحبة والرضى.
    وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ معنى ذلك أن الذين تمردوا على الله وزاغوا عن الدين الحق يرجعون بمناداة يوحنا إلى الطاعة والقداسة والإيمان وذلك الرجوع هو الحكمة الحقيقية المشار إليها بقوله فكر الأبرار لأن «بَدْءُ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ» (أمثال ٩: ١٠). ولأن مسالك القداسة هي مسالك الحكمة الحقيقية وقول ملاخي أن يرد «قلب الأبناء على آبائهم» (ملاخي ٤: ٦). وذكر الملاك معنى هذه الجملة لا لفظها لأن رجوع الأبناء الضالين إلى إيمان آبائهم الأتقياء هو الحكمة الحقيقية (أي فكر الأبرار). والعصاة المشار إليهم هنا هم يهود عصر يوحنا المعمدان والمسيح. والمراد بالآباء هنا في إما الأتقياء ذلك العصر وإما الآباء الأولون الذين ذكرناهم آنفاً.
    لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً هذه العبارة مبنية على ما قيل في إشعياء ٤٣: ٢١. ومعناها بيان وظيفة يوحنا وهي أن يعد الناس لقبول المسيح في قلوبهم وذلك بإظهاره لهم خطاياهم واحتياجهم إلى مخلص. فنسبة خدمة يوحنا إلى خدمة المسيح كنسبة الناموس إلى الإنجيل فإنه دعا الناس إلى التوبة لكي يقبلوا المخلص الذي ينقذهم من خطاياهم. وأكمل يوحنا ما كان عليه مع أن النجاح لم يبلغ الكمال وقتئذ وإلى الآن لم يكمل في اليهود لكنه لا بد من أن يكمل بعد.
    وما ذكره الملاك من صفات يوحنا يجب أن يكون لكل مبشر بالإنجيل وهو أن «يتقدّم أمام الرب» أي أن يبتهج بكونه رسولاً للمسيح ومبشراً بخلاصه وأن يرد قلوب الناس عن الخطيئة إلى الله. وأن يهيء شعباً من المؤمنين الحقيقيين المستعدين لأن يخدموا الرب على الأرض ثم أن يسبحوه في السماء.
    ١٨ «فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هٰذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَٱمْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟».
    تكوين ١٧: ١٧
    كَيْفَ أَعْلَمُ هٰذَا أي ما العلامة التي تبين لي صدق وعدك. ويظهر من هذا أن زكريا كان في ريب من قول الملاك. ويوضح ذلك جواب الملاك له والقصاص الذي وقع عليه فإنه نظر بعين الجسد إلى الموانع من إتمام ذلك الوعد ولم ينظر بعين الإيمان إلى قوة الله. وكان يجب عليه أن يتيقن وعد الله على يد الملاك بلا طلب علامة ظاهرة. نعم إنّ إبراهيم سأل الله علامة ولكنه سأله بالإيمان ولذلك لم يلمه (تكوين ١٥: ٦ و٨ ورومية ٤: ١٩). وكذلك طلب جدعون وحزقيا (قضاة ٦: ١٧ و٣٦ و٣٧ و٣٩ و٢ملوك ٢٠: ٨) والله لم يلمهما. وأعطى الله موسى علامات لصدق قوله من دون طلبه (خروج ٤: ٢ - ٤ و٦ و٧). فالذي جعل طلب زكريا خطيئة ما عراه من الشك.
    لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ الخ هذا يدل على أنه شك في كلام الله عينه لا في كون المُرسل ملاك الله.
    عيّنت الشريعة الموسوية أن لا يخدم اللاويون بعد سن الخسمين (عدد ٤: ٣ و٨: ٢٤). ولكنها لم تقع على الكهنة مثل زكريا. فمهما طعن في السن فما كان يقتضي أن يشك في صدق وعد الله بأن يكون له ولد إذ كان يستطيع أن يذكر أن إبراهيم وُلد له إسحاق وهو شيخ وامرأته عقيم ومثل ذلك كان والدا شمشون.
    سأل الله زكريا ولداً (ع ١٣) ثم سأله بركة لم يصدق أنها ممكنة النوال لما وُعد بها.
    ١٩ «فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: أَنَا جِبْرَائِيلُ ٱلْوَاقِفُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهٰذَا».
    دانيال ٨: ١٦ و٩: ٢١ و٢٢ و٢٣ ومتّى ١٨: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤
    أَنَا جِبْرَائِيلُ أي جبار الله. كان زكريا متعلماً العهد القديم فعرف حالاً من اسمه أنه هو الملاك الذي ظهر لدانيال من ٤٩٠ سنة قبل ذلك وأنبأه بالسبعين أسبوعاً وبمجيء المسيح وبأنه «يُقطَع» (دانيال ٨: ١٦ و٩: ٢١ و٢٤ - ٢٦). ولم يذكر في الكتاب المقدس من أسماء الملائكة سوى جبرائيل وميخائيل (دانيال ١٠: ٢١ و١٢: ١) وذكر جبرائيل غالباً بشيراً أي منبئاً بالأخبار السارة (دانيال ٨: ١٥ - ١٨ و٩: ٢١ - ٢٣ ولوقا ١: ٢٦ - ٢٩). وذكر ميخائيل غالباً يجري الأحكام الإلهية (دانيال ١٢: ١ ويهوذا ٩ ورؤيا ١٢: ٧).
    ٱلْوَاقِفُ قُدَّامَ ٱللّٰه هذا مجاز مبني على عوائد دار الملك وذلك أن بعض خدمه يقفون أمامه وهم أعلى شرفاً ورتبة عند الملك من سائر خدمه (متّى ١٨: ١٠ وإشعياء ٦٣: ٩). وظن البعض أن ملائكة الحضرة سبعة بناء على قول صاحب الرؤيا «وَرَأَيْتُ ٱلسَّبْعَةَ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ يَقِفُونَ أَمَامَ ٱللّٰهِ» (رؤيا ٨: ٢).
    أُرْسِلْتُ هذا موافق لمعنى الملاك وهو رسول أو مرسل. وقال ذلك بياناً أنه لم يأت من تلقاء نفسه بل بأمر الله وإظهاراً لأهمية أنبائه وصدقه. وهو الملاك الذي ظهر لمريم بعد ذلك (ع ٢٦). وكون هذا الملاك مرسلاً من الله من أشرف الملائكة عظّم خطية زكريا بشكه في كلامه.
    وَأُبَشِّرَكَ كان الإنباء بميلاد يوحنا جزءاً من الإنجيل كما أن الفجر جزء من النهار.
    ٢٠ «وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتاً وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَكُونُ فِيهِ هٰذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي ٱلَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ».
    حزقيال ٣: ٢٦ و٢٤: ٢٧
    صَامِتاً أي أخرس والأرجح أنه طرش أيضاً لأنه غلب أن يصحب الطرش الخرس. ويؤكد ذلك ما ذُكر في ع ٦٢ من أن الناس حين أرادوا أن يسألوه بماذا يريد أن يسمي ابنه أومأوا إليه ولم يكلموه لفظاً كما كان لو بقي يسمع. وكان ذلك من تأديب الله له لإهانته إياه تعالى بعدم إيمانه بصدق رسوله. فعوقب على خطاء شفتيه بأن خُتم عليهما مدة. وكان أيضاً علامة له إجابة لقوله «كيف أعلم هذا» واختار الله له هذه العلامة التي هي من صنوف القصاص تأديباً له على عدم إيمانه بنوال ما طلبه.
    فلو عاقب الله الناس الذين شكوا في قدرته على الوفاء بمواعيده وإرادته ذلك وأعلنوا شكوكهم بأفواههم بما عاقب به زكريا فما كان أكثر البكم في هذه الأرض. وعدم إجراء الله هذا القصاص اليوم ليس بدليل على أنه لا يغتاظ من كل فكر وكلمة من أفكار الشك وكلماته (عبرانيين ٣: ١٢ و١٩).
    إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَكُونُ فِيهِ هٰذَا اليوم هنا الوقت التقريبي لا يوم ميلاد يوحنا عينه لأنه بقي أخرس إلى اليوم الثامن بعد ذلك الميلاد.
    لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ بيّن الملاك جلياً أن خطية زكريا ليست طلبه العلامة بل شكه الذي حمله على ذلك الطلب.
    كَلاَمِي ٱلَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ أي كل ما قاله الملاك يجري في حينه على الترتيب من ولادة يوحنا وتسميته وتربيته ونذره ووظيفته ونجاح عمله.
    ٢١ «وَكَانَ ٱلشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي ٱلْهَيْكَلِ».
    يظهر من هذه الآية أن الكاهن الذي يبخر في القدس لم يكن يبقى هناك إلا وقتاً قصيراً للقيام بخدمته وأن الشعب يتوقع رجوعه قبل الانصراف وأن زكريا أبطأ أكثر من مقتضى العادة في ذلك المكان فتعجب الناس لجهلهم علّة إبطائه.
    ٢٢ «فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي ٱلْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتاً».
    رُؤْيَا تمتاز الرؤيا عن الحلم غير المعتاد بأنها إعلان إلهي للمستيقظ وهو إعلان للنائم. وفهم الشعب أنه رأى رؤيا من إمارات الخوف والرهبة على وجهه ومن سكوته الذي ظهر لهم أنه اضطراري ومن إشارات يديه ولا ريب في أن بعضهم سأله عن علّة إبطائه إما بإشارات إو بكتابة أو بصوت إن كان لم يطرش.
    ٢٣ «وَلَمَّا كَمَلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ.
    ٢ملوك ١١: ٥ و١أيام ٩: ٢٥
    كَمَلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ أي الأيام السبعة المعيّنة للكاهن للتبخير في الهيكل (٢ملوك ١١: ٥). لم يتخذ زكريا مصابه عذراً لترك عمله مع أنه كان عرضة للوقوع في تلك التجربة لرغبته في أن يبشر امرأته وغيرها من أقربائه وأصحابه بما قاله الملاك له.
    ولنا من ذلك أنه خير لنا أن نستمر على القيام بواجباتنا ولو وقعت علينا المصائب لأنّ هذا من أحسن الوسائل التي تجعل الله يرفع المصائب عنا أو يجعلها بركة لنا.
    إِلَى بَيْتِهِ كان هذا البيت بين الجبال المختصة بسبط يهوذا (ع ٣٩ و٤٠). ولم يذكر موضعه والأرجح أنه قرب حبرون التي هي الجليل. والذي حمله على الإسراع إلى بيته على أثر تكميل خدمته مصابه ورغبته في إنباء أهل بيته بما كان.
    ٢٤ «وَبَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ ٱمْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً».
    أَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أي بقيت منفردة عن الناس كل تلك المدة وعلّة ذلك لم تُذكر. ولعلها أتت ذلك تواضعاً دفعاً لإظهار افتخارها بما أنعم الله عليها به. ولعلها لم ترد أن تعرض نفسها للعار لكونهم كانوا يدعونها عاقراً (ع ٣٦) فبقيت في البيت حتى يتضح أنها ليست كذلك. والأرجح أن الأخير هو السبب الصحيح لأنها لم تخفِ نفسها سوى خمسة أشهر.
    ٢٥ «هٰكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ ٱلرَّبُّ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي فِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ، لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ ٱلنَّاسِ».
    تكوين ٣٠: ٢٣ وإشعياء ٤: ١ و٥٤: ١ و٤
    هٰكَذَا قَدْ فَعَلَ أي رحمني بأن وعدني بابنٍ يزيل عاري.
    نَظَرَ إِلَيَّ أي نظر المحبة والشفقة.
    لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ ٱلنَّاسِ أي عار العقم لأنهم كانوا يحسبون العقم علامة غضب الله فيعيرون العقيم (تكوين ٣٠: ٢ و٢٣ و١صموئيل ١: ٦ و٧). وحسبوا الولادة علامة رضى الله (لاويين ٢٦: ٩ ومزمور ١١٣: ٩ و١٢٧: ٣ و١٢٨: ٣ وإشعياء ٤٤: ٣ و٤). وتظهر شدة تأثر أليصابات من ذلك من موضوع فرحها ليس أن يكون لها ابن تحبه ولا أن يكون ذلك الولد ذائع الصيت بل كان موضوع ذلك الفرح مجرد نزع العار. وبما أن الله أراد نزع ذلك العار عنها لم يبقَ من الاضطرار أن تتعرض له من جيرانها ولذلك أخفت نفسها تخلصاً منه إلى وقت ظهور حبلها.
    وكانت ولادة يوحنا مثل ولادة إسحاق بقوة إلهية خاصة وليس في ذلك ما هو خارق الطبيعة. وهو خلاف ولادة يسوع فإنها معجزة وتشبه إنشاء آدم من تراب الأرض أكثر مما تشبه ولادة يوحنا أو ولادة إسحاق لكي يكون هو بداءة خليقة جديدة. وجعل الله يسوع مولوداً من امرأة ليقترن بها الجنس البشري ويكون ابن إنسان وجعله يولد من عذارء ليكون طاهراً بلا دنس.

    تبشير الملاك لمريم بأنها تلد المسيح ع ٢٦ إلى ٣٨


    ٢٦ «وَفِي ٱلشَّهْرِ ٱلسَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ ٱلْمَلاَكُ مِنَ ٱللّٰهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ ٱسْمُهَا نَاصِرَةُ».
    فِي ٱلشَّهْرِ ٱلسَّادِسِ أي من وقت حبلت إليصابات (كالخمسة الأشهر المذكورة آنفاً) وذلك شهر بعد إظهارها نفسها للناس. وبما أن لوقا صرّح أنه كتب ما رواه عن شهود العين يرجح أنه نقل ما كتبه هنا من شفتي مريم أم يسوع نفسها.
    جِبْرَائِيلُ أي الملاك الذي ظهر لزكريا (ع ١٩).
    مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ هذا يدل على أن لوقا لم يكتب بشارته إلى اليهود لأنهم ما كانوا في حاجة إلى هذا البيان بل كتبها للقراء من الأمم.
    نَاصِرَةُ هي المعروفة بالناصرة اليوم (متّى ٢: ٢٢ و٢٣ ومرقس ١: ٩). وكانت مسكن يوسف ومريم قبل ميلاد يسوع (متّى ٢: ٢٣). وهي واقعة بين الجبال شمالي مرج ابن عامر وترتفع نحو ٥٠٠ قدم فوق سطح البحر وعلى مسافة نحو ثلاثة أيام من أورشليم ونحو ساعة ونصف ساعة من جبل تابور.
    ٢٧ «إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ ٱسْمُهُ يُوسُفُ. وَٱسْمُ ٱلْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ».
    متّى ١: ١٨ وص ٢: ٤ و٥
    عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ انظر الشرح متّى ١: ١٨ و١٩. وإذا اعتبرنا جدول نسب المسيح في الأصحاح الثالث من هذه البشارة جدول نسب مريم كان أبوها هالي وهي نسيبة إليصابات بالزيجة (ع ٣٦).
    ووُلد المسيح من امرأة لكي يشترك في الطبيعة البشرية (غلاطية ٤: ٤). ووُلد من عذراء لكي يكون ممتازاً على غيره من الناس بولادته كما يليق بمقامه. ولكي لا يكون شريكاً في طبيعة آدم الخاطئة كما وجب أن يكون لو وُلد ولادة طبيعية. ووُلد من مخطوبة دفعاً للأوهام وحفظاً لشرفها ولكي يكون لها من يعتني بها بعد.
    مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ أي رجل من نسل داود. وكان يوسف الذي حُسب أبا يسوع كذلك كما ثبت مما ذكره متّى في الأصحاح الأول من بشارته. وكانت مريم نفسها من نسل داود كما يتضح من ع ٣٢ و٦٩. ومن قول النبي «أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ لِدَاوُدَ بِٱلْحَقِّ، لاَ يَرْجِعُ عَنْهُ: مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ» (مزمور ١٣٢: ١١). ولا تصح هذه النبوءة إلا بأن تكون مريم من نسل داود (وانظر أيضاً ص ٣: ٢٣ - ٣٨ والشرح هناك وأعمال ٢: ٣٠ ورومية ١: ٣ و١١ وعبرانيين ٧: ١٤).
    ٢٨ «فَدَخَلَ إِلَيْهَا ٱلْمَلاَكُ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ».
    دانيال ٩: ٢١ و١٠: ١٩، قضاة ٦: ١٢ وراعوث ٢: ٤
    فَدَخَلَ إِلَيْهَا أي إلى البيت الذي كانت مريم فيه وهذا من الحوادث الحقيقية لا من الرؤى. ونستنتج مما قيل هنا أن الملاك ظهر في هيئة إنسان. ودخل البيت كأحد الناس وخاطب مريم كمخاطبة سائر الناس ويحقق لنا ذلك أنها لم تخف من مشاهدته بل من كلامه وأنبائه. وظهر الملائكة كالناس لجدعون ومنوح وقضاة (ص ٦ و١٣).
    وَقَالَ سَلاَمٌ كان هذا تحية عاديّة للمحبين والمكرمين وحيّا الملاك دانيال بمثلها (دانيال ١٠: ١٨ و١٩).
    أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا لم يعنِ بالإنعام عليها هنا ما كان لها من الصفات الحسنة بل النعمة التي وهبها الله لها باختياره إياها أمّاً للمسيح المخلص. ووصف الرسول غيرها من المؤمنين بمثل ما وصفها الملاك به (أفسس ١: ٦).
    اَلرَّبُّ مَعَكِ هذا إما خبرٌ بما حدث وإما دعاء وهو مثل خطاب الملاك لجدعون (قضاة ٦: ١٢). ومثل خطاب بوعز للحصادين في حقله (راعوث ٢: ٤). وهذا يتضمن كل البركات لأن كون الرب مع أحد من الناس يحقق له الحماية والنجاح والسعادة والقداسة كما كان لإبراهيم ويوسف ودانيال.
    إذا كـان عـــون الله للـمـرء مســـعفاً تأتى لـه من كــل أمر مراده
    وإن لم يكن عونٌ من الله للتقى فأول ما يجني عليه اجتهاده



    مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ اختارها الله أُماً للمسيح فباركها بذلك أكثر مما بارك غيرها من النساء. وكانت من المباركات في النساء أم إبراهيم وأم داود أبوي المسيح بالجسد فبالحري أن تكون أم المسيح عينهِ مباركة كذلك. ولا دليل من هذه التهنئة على أن مريم كانت ممتازة بالطبيعة على غيرها من النساء التقيات ولا على أنها وُلدت بلا خطيئة والملاك لم يقدّم لها شيئاً من العبادة بل أكرمها إكرام الناس الأتقياء العادي.
    ٢٩ «فَلَمَّا رَأَتْهُ ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ!».
    ع ١٢
    ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ نشأ اضطرابها من ريبها في معنى الملاك ومن امتزاج خوفها برجائها ولم يظهر أنها اضطربت من منظره وهذا يدل على أن جبرائيل ظهر لها مبشراً لكن كلامه أنشأ اضطراب أفكارها لأنه كان مبهماً عندها وغريباً عن سمعها.
    مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ قالت ذلك لأن الملاك هنأها ببركة عظيمة ولم يبيّن لها موضوع التهنئة وهي لم تكن تعهد شيئاً في ماضيها يوجب ذلك ولم تتوقع شيئاً عظيماً في مستقبلها.
    ٣٠ «فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ».
    كلمها الملاك بذلك بياناً أنه أُرسل إليها بشيراً لا نذيراً فأزال به خوفها وسكّن اضطرابها.
    ٣١ «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ».
    إشعياء ٧: ١٤ ومتّى ١: ٢١ ص ٢: ٢١
    وعد الملاك لمريم بابنٍ كوعده لزكريا بابنه لكنّ وعده لمريم امتاز عنه كل الامتياز لأن ما كان لزكريا إنما تم بواسطة طبيعية. وأما ما كان لمريم فتم بوسائط خارقة الطبيعة وكان ابن زكريا إنساناً كسائر الناس. وأما ابن مريم فكان ابن الإنسان وابن الله.
    وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ أي مخلصاً كما وعد الملاك يوسف بعد ذلك (متّى ١: ٢٠). وتقدّم معنى هذا الاسم في الشرح هناك (ع ٣٢ و٣٣).
    ٣٢، ٣٣ «٣٢ هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، ٣٣ وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».
    مرقس ٥: ٧، ٢صموئيل ٧: ١١ و١٢ ومزمور ١٣٢: ١١ وإشعياء ٩: ٦ و٧ و١٦: ٥ وإرميا ٢٣: ٥ ورومية ٣: ٧، دانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤ و٢٧ وعوبديا ٢١ وميخا ٤: ٧ ويوحنا ١٢: ٣٤ وعبرانيين ١: ٨
    هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً هذا وفق الأنباء به في إشعياء ٥: ٦ و٧. وأنبأ الملاك بمثل ذلك في شأن يوحنا (ع ١٥) ولكن عظمة يسوع فاقت عظمة يوحنا كما تفوق عظمة الملك عظمة سابقه وعظمة السيد عظمة عبده. وعظمة يوحنا كانت هبة من الله وعظمة المسيح كانت ذاتية.
    وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ أي ابن الله (عدد ٢٤: ١٦ و٢صموئيل ٢٢: ١٤ ومزمور ٧: ١٧ و٥٧: ٢). ومما تقوم به عظمة المسيح أربعة أمور:

    • الأول: طبيعته الإلهية كما تدل عليه تسميته «ابن العلي».
    • الثاني: تسلسل طبيعته البشرية من أعظم الملوك كما يظهر من قوله «داود أبيه» لأنه نسله بحسب الجسد (٢صموئيل ٧: ١٣ ومزمور ٨٩: ٣ و٤ وإشعياء ٩: ٧ وإرميا ٣٣: ١٥ ومتّى ١: ١ ولوقا ٣: ٣١). فاتضح من قول الملاك «داود أبيه» أن مريم من بيت داود. ومريم لم تتعجب من قوله هذا مع أنه ظهر من سؤالها للملاك على أثر ذلك أنها لم تتوقع أن يكون الولد الذي بُشرت به نتيجة اقترانها بيوسف.
    • الثالث: اتساع مملكته ودوامها كما دل عليه قول الملاك يَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. وليس المراد بيت يعقوب نسل إسرائيل الجسدي بل كل نسل إسرائيل الروحي وهو كل أولاد إبراهيم بالإيمان وهذا يشتمل على اليهود والأمم أيضاً وهو عبارة عن شعب الله في كل مكان وزمان. ويملك يسوع عليهم بإعطائه إياهم شريعته وجذبه إياهم إلى طاعتها وبحمايته لهم وإرشاده إياهم في هذا العالم الزائل إلى عالم السعادة الابدي.
    • الرابع: صفاته الشخصية كالحكمة والجودة والرحمة والحلم والقداسة وغيرها. ووظائفه الثلاث وهي كونه كاهناً ونبياً وملكاً. وسمو البركات التي حصّلها لشعبه.


    لاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ وعد الله داود بتثبيت كرسي مملكته إلى الأبد (٢صموئيل ٧: ١٣ و١٦). وتم هذا الوعد بيسوع المسيح إذ «رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ بِيَمِينِهِ رَئِيساً وَمُخَلِّصاً» (أعمال ٥: ٣١) فهو يملك إلى الأبد سائداً على قلوب شعبه. ومملكته هي المملكة الوحيدة التي لا تنقرض لأن المسيح لا يضطر إلى ترك مملكته بالموت كملوك البشر.
    ولا مناقضة بين قول الملاك هنا وقول بولس الرسول في ١كورنثوس ١٥: ٢٤ - ٢٨. لأن كلام بولس يشير إلى نهاية بعض أعراض ملكوت المسيح لا جوهره، ومن ذلك محاربته للممالك المقاومة له. فإن هذه المحاربة تنتهي بغلبة المسيح حيئنذ على أعدائه. ومنه ممارسة المسيح وظيفته باعتبار كونه وسيطاً لشعبه وهم على الأرض ليحفظهم ويرشدهم ويؤدبهم ويشفع فيهم عند الآب فهذه تنتهي لأن كل شعبه يكون معه حيئنذ في السماء في الأمن والطهارة والسعادة. فيكون الذي ينتهي ما كان موقوتاً من متعلقات ذلك الملكوت ويُكمل بالاتحاد بملكوت الله العام فالنهاية في كلام بولس كالفجر في النهار الكامل.
    وحاصل ما في كلام الملاك أربعة أمور تسكين اضطراب مريم ووعدها بابن وتسميته والإنباء بعظمته.
    والأرجح أن مريم لم تفهم كل معنى كلام الملاك. والذي فهمته أن ابنها يكون المسيح المنتظر. ولا ريب في أنها توقعت أن يكون ملكاً زمنياً كما كان اليهود يتوقعون أن يكون المسيح. ولو عرفت مريم وعرف يوسف كل ما يختص بجلال طبيعة يسوع لاستحال عليهما أن يخدماه الخدمة التي يقتضيها جلاله طفلاً وولداً.
    ٣٤ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟».
    لم يكن سؤال مريم كسؤال زكريا نتيجة الريب (ع ١٨) فإنها لم تسأل علامة كما سأل لتكون برهاناً على صحة الوعد لكنها فهمت أنها تلد ولداً بلا زواج فسألت بكل احترام كيف يجب أن تتوقع إتمام هذا الوعد. ولعلّ غايتها من ذلك معرفة ما يجب أن تفعله لئلا تقصر بجهلها عن القيام بواجباتها. وهذا السؤال لا بد منه طبعاً من عذراء عفيفة لم تسمع بأنه وُلد ولدٌ بلا زواج منذ خلق الله آدم وحواء بقوته الإلهية بلا واسطة.
    ٣٥ «فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ».
    متّى ١: ٢٠ و٤: ٣٣ و٢٦: ٦٣ و٦٤ ومرقس ١: ١ ويوحنا ١: ٣٤ و٢٠: ٣١ وأعمال ٨: ٣٧ ورومية ١: ٤
    انظر الشرح متّى ١: ١٨ و٢٠.
    اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كثيراً ما عبّر الكتاب المقدس عن قدرة الله على الخلق بالروح (تكوين ١: ٢ ومزمور ١٠٤: ٣٠). فمعنى الملاك أن الولد يُخلق بقدرة الله رأساً وأن حبلها به معجزة.
    قُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ هذا شرح للقول السابق أنه ليس المراد بالروح القدس مجرد الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس.
    يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ لأن له الحق بهذا الاسم فليست ولادته الخارقة الطبيعة علّة تسميته بابن الله لأنه كان ابن الله قبل أن يتجسد لكونه أزلياً (يوحنا ١: ١ و٨: ٥٨ و١٧: ٥). ولأنه ابن كذلك منذ الأزل. وابن الله الأزلي حلّ في جسد بشري وولادته الخارقة دليل للناس على أنه ليس إنساناً مجرداً بل هو ابن الله العلي أيضاً.
    ٣٦ «وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُوَّةِ عَاقِراً».
    لم تطلب مريم علامة لكن الملاك أعطاها علامة من تلقاء نفسه وهي أن أليصابات حبلى. فأراد الملاك انها تتحقق صحة كلامه مما تقف عليه من أمر أليصابات.
    نَسِيبَتُكِ لم يظهر لنا ما هذه النسبة. وكون أليصابات من سبط لاوي لا ينفي كون مريم من سبط يهوذا لأن الكهنة لم يكونوا ممنوعين من أن يتزوجوا نساء من غير سبطهم بدليل أن امرأة هارون كانت من سبط يهوذا (خروج ٦: ٢٣). أو لعلّ هالي أبا مريم الذي هو من سبط يهوذا أخذ امرأة من سبط لاوي. وعلى الاحتمالين يصح أن تكون أليصابات نسيبة لمريم.
    ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ وهذه المدة هي الفرق بين عمر يوحنا المعمدان وعمر يسوع.
    ٣٧ «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى ٱللّٰهِ».
    تكوين ١٨: ١٤ وإرميا ٣٢: ١٧ وزكريا ٨: ٦ ومتّى ١٩: ٢٦ ومرقس ١٠: ٢٧ وص ١٨: ٢٧ ورومية ٤: ٢١
    قول جبرائيل ذلك كان جواباً كافياً لسؤال مريم وأزال كل اضطرابها. وهو كاف لنفي كل ريب من أفكار الناس في شأن سر التجسد وكل شك في أمر إتمام الله مواعيده لأن الله غير المحدود في قدرته يجري كل ما يشاء. وما نسميها بالنواميس الطبيعية ليست بقيود ربط الله بها نفسه فمنعته عن اختياره المطلق إنما هي أمثال الحبال في يده تعالى يطوّلها أو يقصّرها كما يقتضيه إجراء مقاصده.
    ٣٨ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ ٱلرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا ٱلْمَلاَكُ».
    أعلنت مريم بهذا الكلام تسليمها إلى إرادة الله وإيمانها بما وُعدت به و بعناية الله بها وتواضعها بتسمية نفسها أَمة الرب. وقد تركت أمر صيتها في يدي الله بلا سؤال.

    زيارة مريم لأليصابات ع ٣٩ إلى ٥٦


    ٣٩، ٤٠ «٣٩ فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى ٱلْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، ٤٠ وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ».
    يشوع ٢١: ١١ و١٣
    فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي في أثر وقت البشارة حالما استطاعت التأهب للسفر مسافة أربعة أيام.
    وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ هذا يدل على أنها لم تمكث في الناصرة بعد البشارة إلا قليلاً. وأنه ألجأتها إلى الإسراع إلى السفر رغبتها في تهنئة أليصابات بما أعلمها الملاك وفي أن تجد بمشاهدتها ما يحقق بشارة الملاك لها. ولم تكن تلك الرغبة دلالة على ريبها في كلام الملاك لكنه لتبرعه بتلك العلامة لاق بها أن تستفيد منها. ولعله لم يكن في الناصرة من يليق أن تنبئها بوعد الملاك لها.
    إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا هي مدينة في الأرض الجبلية المختصة بقسم يهوذا. والمظنون أنها كانت قرب مدينة حبرون (التي هي مدينة الخليل) لأن تلك الأرض وُهبت لهرون (يشوع ٢١: ١١). وهي مسكن زكريا وأليصابات.
    وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ الأرجح أنها سلمت عليها السلام المعتاد وهنأتها بما رفع العار عنها.
    ٤١ «فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَٱمْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
    ٱرْتَكَضَ أي تحرك. والارتكاض خاص بحركة الجنين. والحركة المذكورة هنا إما أول حركة للجنين وإما حركة غير عادية حتى نسبتها أليصابات إلى مجيء مريم وعدّتها علّة لها. ولو لم تكن تلك الحركة غير عادية لم تُذكر في هذا المقام.
    ٱمْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ تم لأليصابات مثلما وُعد به لابنها (ع ١٥) ومعنى ذلك أنه حل عليها روح النبوءة أو ارتفاع النفس غير المعتاد إلى التسبيح لله كما كان للأنبياء القدماء ولمريم أخت موسى (خروج ١٥: ٢٠) ولشيوخ إسرائيل (عدد ١١: ٢٧). ولشاول الملك (١صموئيل ١٠: ٦). ولرسله (١صموئيل ١٩: ٢٠ و٢١). وبواسطة حلول الروح القدس عليها فهمت المراد من ارتكاض الجنين وأن التي أتت إليها هي التي تلد المسيح. ولا دليل على أنه كان بين أليصابات ومريم أدنى مراسلة أو مكالمة قبل أن رأت مريم وابتدأت تتنبأ بالكلام المذكور هنا.
    ٤٢ «وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ».
    قضاة ٥: ٢٤ وع ٢٨
    مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ كان مثل هذه البركة لياعيل امرأة حابر القيني (قضاة ٥: ٢٤). ونرى كثيراً أن الذين تعلّموا أقوال الأسفار الإلهية متى حل عليهم الروح القدس وتنبأوا اقتبسوا في نبوءاتهم بعض الآيات الشعرية من تلك الأسفار وأليصابات أتت مثل ذلك.
    وقول أليصابات لمريم «مباركة أنت في النساء» إما خبر بإنعام الله عليها بالبركة التي لم يهبها لغيرها من النساء أو دعاء لها بأن تحسبها النساء كلها مباركة وتدعوها كذلك.
    مُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ هذه العبارة تعليل لقولها مباركة أنت في النساء. لأن أليصابات عرفت بروح النبوءة أن مريم ستلد المسيح الذي هو المراد بثمرة بطنها. وليس في كلام أليصابات شيء من الحسد لحصول مريم على بركة أعظم من بركتها بل كلامها كله دالٌّ على التواضع والشكر لله والفرح والإيمان والرجاء.
    ٤٣ «فَمِنْ أَيْنَ لِي هٰذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟».
    فَمِنْ أَيْنَ لِي هٰذَا هذا إقرار من أليصابات بأن زيارة مريم لها تنازل عظيم وتعجب من غرابته. ومثل هذا قول ابنها يوحنا ليسوع عندما أتى ليعتمد منه «وأنت تأتي إليّ» (متّى ٣: ١٤). ولعلّ في ذلك السؤال إقرار بنعمة إلهية لها وأن جوابه كان مضمراً في قلبها وهو أن تلك الزيارة ليست من بشر بل من عنايته تعالى.
    أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ ألهمها الروح القدس أن تعلم ان الذي سيولد من مريم هو ابن العلي. نعم إنها علمت أن ابنها يكون عظيماً (ع ١٥) لكنها علمت أن ابن مريم يكون أعظم منه.
    ٤٤ «فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ بِٱبْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي».
    ذكرت ذلك علامة من الروح القدس حققت لها ما علمته في العدد السابق (أي أنّ مريم أم ربها). فروح النبوءة هو الذي قدرها على إدراك الغرض من تلك العلامة. ولا بد من أن في كلام أليصابات ما قوّى إيمان مريم وزادها ابتهاجاً.
    ٤٥ «فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَـهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ».
    فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أي لمريم لأن علامات إيمانها وابتهاجها ظهرت على وجهها حتى تحققت أليصابات أنها واثقة بوعد الله وأنّها شريكة للمؤمنين في فوائد مواعيده تعالى.
    ولعلّ في قولها هذا تلميحاً إلى الفرق بين إيمان مريم بوعد الله وعدم إيمان زوجها زكريا بما وعده تعالى حتى أُدّبَ. وكان إيمان مريم من أمثلة الإيمان الذي ذكره بولس «أَمَّا ٱلإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عبرانيين ١١: ١) وهي لم تلتفت إلى الموانع من إكمال الوعد بل نظرت إلى قوة الواعد. ولنا من ذلك أن الإيمان مصدر كل سعادة حقيقية. وهذا مثل قول المسيح لتوما «طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا ٢٠: ٢٩).
    مَا قِيلَ لَـهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ عرفت إليصابات من زوجها زكريا ما قاله الملاك له من أمر المسيح ولكن ما قيل لمريم لم تعرفه إلا بوحي الروح القدس.
    ٤٦ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ».
    ١صموئيل ٢: ١ ومزمور ٣٤: ٢ و٣ و٣٥: ٩
    تسبيحة مريم من ع ٤٦ إلى ٥٦ شعر مقدس من أعلى مراتب الأشعار ويذكرنا بعض عباراتها كلام حنة في سفر صموئيل الأول ٢: ١ - ١١ وكلام داود في سفر صموئيل الثاني ٧: ١٨ - ٢١ وبعض جمل المزمور ٣١ والمزمور ١١٢ والمزمور ١٢٦. ولم يقل البشير أن روح الله حل على مريم حين سبّحت كما قيل أنه حل على أليصابات (ع ٤١) وعلى زكريا (ع ٦٧) ولكن لا ريب في أنه حل عليها ولكنه حل عليها طويلاً وحل عل أليصابات وقتاً قصيراً (ع ٣٥). ولا عجب من أن اقتبست مريم في تسبيحها كثيراً من آيات العهد القديم لأن أولاد اليهود الصبيان والصبايا كانوا يحفظون كثيراً من تلك الآيات على ظهور قلوبهم كقصيدة دبورة وقصيدة حنة ومزامير داود واعتادوا أن يترنموا بها في العبادة لله كل يوم عند تقديم ذبيحة الصباح وفي ذبيحة المساء وفي الاحتفالات السنوية أيضاً. وبداءة تسبيحة مريم التعظيم للرب لأنه هو علّة سرورها باختياره إياها واسطة مكرمة لإجراء مقاصده العظمى. ولم تقتصر على التسبيح لله بشفتيها بل اشتركت في ذلك نفسها أي قواها الباطنة. وقولها هنا مثل قول داود «أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ لأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي» (مزمور ٣١: ٧).
    ٤٧ «وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي».
    رُوحِي أي كل قواي الباطنة. والروح هي التي تدرك ما لا يدرك بالحواس الظاهرة وهي التي تؤمن وترجو وتحب.
    بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي الله مخلص لأنه يفدي شعبه من الخطيئة والموت ويعطيهم نصيباً في الحياة الأبدية. وفي قول مريم هنا إقرار بأنها محتاجة إلى مخلص وأنها نالت من الله الخلاص الذي هو أتى به لشعبه. فإذاً في قول مريم نفسها رد كاف على دعوة بعضهم أن مريم ليست كسائر البشر في الطبيعة. فإنها كانت كسائر المؤمنات في إسرائيل تتوقع الخلاص من الله وقد كُرر الوعد لها بذلك باسم المولود منها الذي هو يسوع أي مخلص (ع ٣١). فابتهجت بأن الله مخلص لها أكثر مما ابتهجت بأن يسوع مولود منها.
    ٤٨ «لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ ٱلآنَ جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي».
    ١صموئيل ١: ١ و١١ ومزمور ١٣٨: ٦، ملاخي ٣: ١٢ وص ١١: ٢٧
    نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ نظر الحنو بغية أن يرفعها من ذلها وأكرمها على حقارتها بين الناس بما أنعم به عليها فتيقنت أن ذلك تنازل ولطف من الله فأظهرت تواضعها بإقرارها أنها ليست مستحقة ذلك الإكرام.
    جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي أي أن أهل كل عصر تقتدي بأليصابات في غبطتها لي. ومعنى قوله «تطوبني» تحسبني سعيدة. فمعنى مريم أنه كما أن النساء كلها في العصور الماضية قبلها كانت ترغب في أن يولد المسيح منها ستكون النساء بعدها في كل عصر حاسبة إياها سعيدة على ولادته منها. نعم إنّها حصلت على ما تنبأت لكن بقي غبطة أكثر من غبطتها بتلك الولادة وهي ما أبانها المسيح عندما قال له بعضهم «طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما» بقوله «بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه».
    وعلمت مريم بروح النبوءة عظمة يسوع وأن تلك العظمة تدوم إلى الأبد وتيقنت أن اسمها يُذكر بين الناس باعتبار أنها مختارة أُماً للمسيح في الجسد.
    نعم إنّ مريم كانت مغبوطة حقاً ولا تزال كذلك إلى الأبد لكنّ هذه الغبطة لا تجيز أن تكون مريم معبودة، فغبط إيراهيم بكونه أبا المؤمنين ويوحنا الرسول بأن كان التلميذ المحبوب وبطرس بكونه رسول اليهود وبولس بكونه رسول الأمم ولكنه لم يلزم مما ذكر أن يُعبدوا.
    ٤٩ «لأَنَّ ٱلْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَٱسْمُهُ قُدُّوسٌ».
    مزمور ٧١: ١٩ و١٢٦: ٢، مزمور ١١١: ٩
    ٱلْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ هذه العلامة الثانية لنظر الله بحنوه إلى ذلها. ومرادها بالقدير هنا هو الله سبحانه وتعالى وأشارت بذلك القول إلى ما ذكره الملاك لها بقوله «قوة العلي تظللك» الخ (ع ٣٥). وعبّرت عن البركة التي وهبها الله بالعظائم لأنها رأتها عظيمة وعجيبة جداً.
    وَٱسْمُهُ قُدُّوسٌ مجّدت مريم الباري تعالى بكونه قديراً ومجّدته هنا بكونه قدوساً أي ذا قداسة أي طهارة أسمى من كل قداسة وأنه منزّه عن كل خطيئة وظلم. والمراد باسمه هنا ذاته العلية. وهذا وفق قول الكتاب «لَيْسَ قُدُّوسٌ مِثْلَ ٱلرَّبِّ» (١صموئيل ٢: ٢).
    وأظهر الله قدرته بأنه أنشأ جسد المسيح بأسلوب خارق الطبيعة وأظهر قداسته بالفداء الذي أكمله بيسوع المسيح لأنه أعلن بغضه الشديد للخطيئة ببذله ابنه كفارة عن الخطاة.
    ٥٠ «وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ ٱلأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ».
    تكوين ١٧: ٧ وخروج ٢٠: ٦ ومزمور ١٠٣: ١٧
    وَرَحْمَتُهُ مجدت مريم الله قبلاً بقدرته وقداسته ومجدته هنا برحمته. وتجلت رحمة الله للعالمين بالمسيح لأن غاية الفداء به خلاص الهالكين.
    إِلَى جِيلِ ٱلأَجْيَالِ سبّحت مريم الله ومجدته في ما سبق لإنعامه عليها بولادة يسوع منها وأخذت هنا تسبّحه وتمجده لإنعامه على غيرها من الناس بميلاد يسوع وملكه. ومرادها «بجيل الأجيال» آخر صنف من الناس. ولعلّ مرادها أن رحمة الله تدوم للأتقياء ميراثاً من الوالدين إلى أولادهم وأولاد أولادهم إلى نهاية العالم كما جاء في سفر الخروج ٢٠: ٦.
    لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ أي الذين هم أهل لتلك الرحمة لا المتكبرين والعصاة. ولعلها قصدت «بالذين يتقونه» أمثال زكريا وأليصابات وغيرهما ممن كانوا ينتظرون خلاص إسرائيل.
    ٥١ «صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ».
    مزمور ٩٨: ١ و١١٨: ١٥ وإشعياء ٤٠: ١٠، مزمور ٣٣: ١٠ و١بطرس ٥: ٥
    صَنَعَ قُوَّةً مجّدت هنا مريم قدرة الله وبأنه أذل العصاة المتمردين.
    بِذِرَاعِهِ الذراع هنا مجاز حقيقته القدرة عند العمل.
    ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ نعتت مريم الأثمة بالكبرياء لأنه يتميزون عن غيرهم بهذه الصفة كما أن الصالحين يمتازون بالتواضع. والكبرياء من أعظم المهيجات لغضب الله ومما يقود الناس إلى عصيانه تعالى.
    بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ أشارت بهذا إلى علّة الكبرياء ومصدرها. فالناس يحسبون أنهم عظماء مقتدرون وبذلك يتجاسرون على الله. والذين قصدتهم مريم بهذا الكلام هم أناس كفرعون وسيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان وسنحاريب ملك الأشوريين وأنطيوخوس ملك سورية وغيرهم من الملوك القساة الذين قاوموا الله والله نزع قوتهم منهم. وقولها هنا مثل قول حنة «لاَ تُكَثِّرُوا ٱلْكَلاَمَ ٱلْعَالِيَ ٱلْمُسْتَعْلِيَ، وَلْتَبْرَحْ وَقَاحَةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ» (١صموئيل ٢: ٣).
    ٥٢ «أَنْزَلَ ٱلأَعِزَّاءَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِينَ».
    ١صموئيل ٢: ٦ الخ وأيوب ٥: ١١ ومزمور١١٣: ٦
    ٱلأَعِزَّاءَ أشارت بهؤلاء إلى ملوك الأرض وعظمائها عند أنفسهم وأمثالهم كقيصر وهيرودس ووزرائهما والفريسيين والصدوقيين في أيامهما.
    أَنْزَلَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ أي عن مناصبهم ومراتبهم حيث يجرون أعمال قوتهم وسلطتهم ويظهرون ثروتهم وعظمتهم. فإن الله بواسطة مجيء المسيح وقيام ملكوته في العالم يقلب كل كراسي الإثم والكبرياء. ومعنى هذه الآية كمعنى الآية التي قبلها والفرق بينهما لفظي. فإنها ذُكرت في تلك أفكار قلوبهم الكبريّة وفي هذه أحوال عظمتهم.
    وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِينَ هذا مقابل لقولها «أنزل الأعزاء». إن الله يُجري التقلبات في ممالك الأرض يُجلس الأدنياء على عروش العظماء كما فعل بشاول الملك فإنه رفضه واختار داود راعي الغنم رئيساً على شعبه (٢صموئيل ٧: ٨). وذلك مثل قوله «ٱنْزِعِ ٱلْعِمَامَةَ. ٱرْفَعِ ٱلتَّاجَ. هٰذِهِ لاَ تِلْكَ. ٱرْفَعِ ٱلْوَضِيعَ، وَضَعِ ٱلرَّفِيعَ» (حزقيال ٢١: ٢٦ و٢٧).
    ولعلّ مريم نظرت في رفض الله لهيرودس ملك شعبه يومئذ واختياره بدلاً منه طفلاً وُلد من عذراء الناصرة البائسة. ولا ريب في أنها كانت كسائر اليهود تتوقع أن المسيح يملك على الأرض ملكاً زمنياً لينقذ إسرائيل من نير الرومانيين الظالمين ونير بيت هيرودس الآدومي ويرد الملك إلى الوارث الحقيقي من بيت داود.
    ٥٣ «أَشْبَعَ ٱلْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ ٱلأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ».
    ١صموئيل ٢: ٥
    هذا بيان لعمل الله احياناً حقيقة. ولكن أكثر ما يراد هنا إشباع جياع النفوس خيرات روحية. وهؤلاء هم الذين يتقونه (ع ٥٠). ولا ريب في أن مريم أدخلت نفسها وأليصابات وزكريا بين أولئك الجياع. والمقصود بالأغنياء الذين اكتفوا بخيراتهم الزمنية ولم يشعروا باحتياجهم إلى البركات الروحية. ومثل الفريقين العشار والفريسي لأن العشار نزل إلى بيته مبرراً دون الفريسي (ص ١٨: ٩ - ١٤ وانظر أيضاً ١صموئيل ٢: ٤ - ٧ ومزمور ١٠٧: ٣٣ - ٤١ و١١٣: ٧ - ٩).
    ٥٤، ٥٥ «٥٤ عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، ٥٥ كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى ٱلأَبَدِ».
    مزمور ٩٨: ٣ وإرميا ٣١: ٣، تكوين ١٧: ١٩ ومزمور ١٣٢: ١١ ورومية ١: ٢٨ وغلاطية ٣: ١٦
    في هذين العددين مجّدت مريم الله واثقةً لأمانته في وفاء مواعيده. وأشارت بذلك إلى ما فعله تعالى سابقاً برحمته لشعبه المختار بمقتضى مواعيده لآبائهم ولما أزمع أن يفعله من مثل ذلك في إعطائه ذلك الشعب ملكاً ومخلصاً. ففرحها بالعظائم التي وُعدت بها (ع ٤٩) لم يكن لنفعها الذاتي إلا أقل مما كان لنفع شعبها.
    فَتَاهُ أي عبده (إشعياء ٤١: ٨).
    لِيَذْكُرَ رَحْمَةً أي مواعيد سببها رحمته (ع ٧٢) ولا سيما المواعيد المتعلقة بالمسيح (تكوين ١٢: ٣ و١٥: ١٨ و٢٢: ١٨). وعضد الله شعبه هنا إما نتيجة ذكره عهد الرحمة وإما برهان على ذلك.
    كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا أي أن الرحمة التي أظهرها الله في أيام مريم هي عين الرحمة التي وعد بها إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فمواعيد الفريقين أنهار من ينبوع واحد. وجوهر تلك الرحمة المسيح (تكوين ١٧: ١٩ وإشيعاء ٥٤: ١٠ و٥٥: ٣ ورومية ١١: ٢٩).
    إِلَى ٱلأَبَدِ هذا متعلق «بيذكر» في قوله «ليذكر رحمة» لأن الله يذكر عهده إلى الأبد.
    ٥٦ «فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا».
    نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ أي أقامت مريم في بيت زكريا إلى قرب ولادة أليصابات.
    إِلَى بَيْتِهَا أي مسكنها في الناصرة (ع ٢٦). والأرجح أنه حدث بعد رجوعها ما ذُكر في (متّى ١: ١٨ - ٢٤).

    ميلاد يوحنا المعمدان ع ٥٧ إلى ٦٦


    ٥٧، ٥٨ «٥٧ وَأَمَّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ٱبْناً. ٥٨ وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ ٱلرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا».
    ع ١٤
    عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَـهَا ذلك بإعطائه إياها ابناً.
    فَفَرِحُوا مَعَهَا ذُكر فرحهم هنا لأن المولود كان علّة فرح بنفسه ولأن ولادته كانت غير عادية لأنه يندر أن يُولد للشيوخ كزكريا وأليصابات ولأنهم سمعوا (كما هو الأرجح) بالرؤيا التي كانت لزكريا في الهيكل والوعد بعظمة المولود له. وهذا الفرح بداءة إنجاز الوعد في الآية ١٤ وهو قوله «وكثيرون سيفرحون بولادته».
    ٥٩ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِٱسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا».
    تكوين ١٧: ١٢ ولاويين ١٢: ٣
    فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ أي اليوم المعيّن للختان في الشريعة الموسوية (خروج ٢١: ٤ ولاويين ١٢: ٣ وص ٢: ٢١ وفيلبي ٣: ٥).
    جَاءُوا أي الأقرباء.
    وَسَمَّوْهُ هذا يدلنا على أن المولود كان يسمى عند اختتانه ولعلّ سبب ذلك تسمية أبرام بإبراهيم عند ختانه (تكوين ١٧: ٥) ثم ان الولد بواسطة الختان يدخل تحت العهد الذي عاهد الله إبراهيم (عدد ١٧: ٩ - ١٣).
    ِبِٱسْمِ أَبِيه أي أرادوا تسميته زكريا وكانوا على وشك أن يسموه بذلك. ولعلّ سبب ذلك اعتبارهم لزكريا ولحفظ اسمه بين الناس.
    ٦٠ «فَقَالَتْ أُمُّهُ: لاَ بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا».
    ع ١٣
    لا ريب أن أليصابات عرفت ذلك من زكريا بواسطة كتابته الاسم الذي عيّنه الملاك فلذلك قالت بأن يُسمى بيوحنا (ع ١٣) ومعنى يوحنا الرب حنّان.
    ٦١ «فَقَالُوا لَـهَا: لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهٰذَا ٱلاسْمِ».
    اجتهد اليهود في حفظ جداول الأنساب لكل سبط ولكل بيت على حدته لبيان حقوق الوراثة ولذلك حفظوا أسماء أفراد كل بيت اتقاء من الغلط والريب ولذلك اعترض الأقرباء على ذلك الاسم الذي لم يسم به أحد من عشيرتهم في تلك الأيام منذ زمن طويل. ولكن اسم يوحنا استعمل كثيراً في أسباط مختلفة قبل يوحنا المعمدان حتى بين الذين من سبط لاوي (نحميا ١٢: ٢٢ و٢٣). وكثيراً ما سموا الأولاد قديماً بأسماء بعض أسلافهم الذين اشتهروا بالفضائل رغبة في أن يكون المولود مثل المسمى باسمه في فضائله. وكانت تسمية الولد باسم لم يسم به أحد من أقربائه عرضة للظن أنه لم يكن منهم من يستحق أن يتمثل به.
    ٦٢ «ثُمَّ أَوْمَأُوا إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُسَمَّى».
    يُستنتج من إيمائهم له أنه صمّ فوق بكمه وإلا لم يحتاجوا إلى الإيماء للاستفهام منه بل كانوا استغنوا عنه بالكلام.
    ٦٣ «فَطَلَبَ لَوْحاً وَكَتَبَ: ٱسْمُهُ يُوحَنَّا. فَتَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ».
    ع ١٣
    لَوْحاً غلب في تلك الأيام أن يتخذوا للكتابة لوحاً رقيقاً من الخشب مائل الحواشي قليلاً مغشى الوجه بشمع. وكان القلم لذلك من حديد أحد طرفيه محدد للكتابة وطرفه الآخر مسطح للمحو (أيوب ١٩: ٢٤ وإرميا ١٧: ١).
    ٱسْمُهُ يُوحَنَّا أي أن الأمر مقضى من رب الأمر فلا محل للاختيار (ع ١٣). ولا ريب في أن زكريا رضي ما كان قد قاله ملاك الرب. ومعنى «يوحنا» الرب حنان (انظر ع ١٣).
    تَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ علّة تعجبهم تسميته باسم لم يعهد في تلك العائلة واتفاق الوالدين عليه والقضاء به سابقاً. ويحتمل أن علّة تعجبهم أيضاً تكلُم زكريا بعد سكوته عدة أشهر بعد ظنهم أنه مصاب بشلل دائم.
    ٦٤ «وَفِي ٱلْحَالِ ٱنْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ».
    ع ٢٠
    ٱنْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ أي وانطلق لسانه وذلك نتيجة انفتاح فمه. والقوة الإلهية التي أغلقت فاه هي التي فتحته. والوقت الذي حُكم عليه بالصمت فيه كان قد انتهى (انظر ع ١٣ و٢٠ معاً).
    وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ الأرجح أن الذي تكلم به حينئذ هو ما في العدد الثامن والستين وما بعده إلى التاسع والسبعين.
    وابتداء زكريا في التكلم بعد ربط لسانه تلك المدة الطويلة لم يكن في مخاطبة امرأته أو أحد أقربائه أو في الكلمات المعربة عن ابتهاجه بانطلاق لسانه أو ألفاظ التذمر على الله لإنزاله ذلك المصاب بل كان تسبيحاً له تعالى. فعلى كل مسيحي برئ من مرض ونجا من مصيبة أن يشغل لسانه بتسبيح الله (مزمور ٦٦: ١٠ و١١ مع ١٦).
    ٦٥ «فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ ٱلْيَهُودِيَّةِ».
    ع ٣٩
    وَقَعَ خَوْفٌ سبب هذا الخوف جميع الحوادث التي اقترنت بميلاد يوحنا وتسميته وهي ظهور الملاك وإنباؤه وقصاص زكريا المشاهد وولادة يوحنا من والدين طاعنين في السن وانطلاق لسان زكريا عند اختتان ولده.
    وقد اعتاد لوقا عند ذكره بعض المعلنات السماوية الغريبة تبيين أن أول تأثير تلك المعلنات هو خوف الذين شاهدوها (ع ١٢ و٢٩ و٣٠ وص ٢: ٩ و٢٤: ٢٥) وكان ذلك الخوف خشوعاً دينياً ناتجاً عن الشعور بالقرب من الله جل وعلا.
    جِبَالِ ٱلْيَهُودِيَّةِ هي البلاد من جنوبي أورشليم إلى حبرون (التي هي الخليل). وكلام البشير هنا يدل على أن خبر الحوادث في ولادة يوحنا انتشر شيئاً فشيئاً من بيت ميلاده إلى كل تلك الكورة.
    ٦٦ «فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ ٱلسَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ: أتُرَى مَاذَا يَكُونُ هٰذَا ٱلصَّبِيُّ؟ وَكَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُ».
    ص ٢: ١٩ و٥١، تكوين ٣٩: ٢ ومزمور ٨٠: ١٧ و٨٩: ٢١ وأعمال ١١: ٢١
    فَأَوْدَعَهَا... فِي قُلُوبِهِمْ أي تأملوا فيها وبحثوا عن غايتها وانتظروا نتائجها.
    مَاذَا يَكُونُ هٰذَا ٱلصَّبِيُّ أي متى كبر. وعنوا بذلك الأمور التي قصد الله إجراءها بعد حين على يد الصبي لأنه إذا كانت هذه الغرائب مقترنة بميلاده فماذا يكون منه عند بلوغه.
    يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُ استعار «يد الرب» لقوة الرب (قضاة ٢: ١٥ و١٣: ٢٥ و٢أيام ٣٠: ١٢ وعزرا ٧: ٩). وهي هنا تتضمن عناية الله به ومنحه إياه كل بركة ضرورية لجسده وعقله وروحه. وهذا وفق النبوءة التي في الآية الخامسة عشرة. وهذا مختصر تاريخ صبوة يوحنا.

    تسبيحة زكريا ع ٦٧ إلى ٨٠


    ٦٧ «وَٱمْتَلأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلاً».
    يوئيل ٢: ٢٨
    هذه الآية متعلقة بالآية الرابعة والستين ولعلّ زكريا تأمل مدة أشهر صمته في الحقائق التي تكلم الآن عليها بوحي الروح القدس.
    تَنَبَّأَ أي سبّح الله بإلهام الروح كما في سفر صموئيل الأول (١صموئيل ١٩: ٢٠). ويطلق التنبوء على كل تكلم في مواضيع دينية بالوحي (١كورنثوس ١٤: ٢٤ و٢٥) ونستدل من إحساسات زكريا التي ظهرت في هذا الخطاب على ماهية تعليمه لابنه يوحنا فيما بعد.
    ٦٨ «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ».
    ١ملوك ١: ٤٨ ومزمور ٤١: ١٣ و٧٢: ١٨ و١٠٦: ٤٨، خروج ٣: ١٦ و٤: ٣١ ومزمور ١١١: ٩ وص ٧: ١٦
    مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ أي الآب الذي أرسل ابنه لكي يكون «قرن خلاص» و «المشرق من العلى». فزكريا بارك الله من ع ٦٨ إلى ع ٧٠ على إرساله المسيح. وذكر من ع ٧١ إلى ع ٧٥ النجاة العظيمة الناتجة من مجيئه المبارك.
    لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ أي افتقد شعبه لأجل المساعدة كما في بشارة متّى (متّى ٢٥: ٣٦). وسفر الأعمال (أعمال ٧: ٢٣) ورسالة يعقوب (يعقوب ١: ٢٧). واعتبر زكريا إلغاء النبوءة منذ أربع مئة سنة ابتعاداً بين الله وبني إسرائيل وحسب علامات نعمته عليهم يومئذ كرجوعه إليهم ثانية.
    ِوَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِه أنزل زكريا هنا إعداد مجيء الفادي منزلة المجيء عينه. وعبّر بالفداء عن كل عمل المسيح وهو يتضمن التحرير من كل عبودية الخطية (يوحنا ٨: ٣٤ - ٣٦) أما اليهود فحصروا معنى الفداء بالمسيح في التحرير من عبوديتهم للرومانيين. ولعلّ زكريا لم يدرك كل معنى ما تفوه به هنا.
    ٦٩ «وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ».
    مزمور ٣٢: ١٧
    في هذه الآية تفصيل ما سبق.
    قَرْنَ خَلاَصٍ أراد «بقرن الخلاص» المسيح. وبنى كلامه في ذلك على قول النبي «هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْناً لِدَاوُدَ» (مزمور ١٣٢: ١٧). ويستعار قرن الحيوان لقوته كما تستعار يد الإنسان لقوته (تثنية ٣٣: ١٧ ومزمور ٧٥: ١٠ وإرميا ٤٨: ٢٥ وحزقيال ٢٩: ٣١ ودانيال ٧: ٧ و٨ و٨: ٣ - ١٢) معناه هنا أن المسيح يكون مخلصاً قديراً وأن له قوة الله (رومية ١: ١٦ ورؤيا ٥: ١٢).
    فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ هذا دليل على أن زكريا اعتقد أن مريم هي من نسل داود.
    ٧٠ «كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلَّذِينَ هُمْ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ».
    إرميا ٢٣: ٥ و٦ و٣٠: ١٠ ودانيال ٩: ٢٤ وأعمال ٣: ٢١ ورومية ١: ٢
    أَنْبِيَائِهِ أشار زكريا بهذا إلى أنّه يتم بالمسيح كل ما تعلق به من النبوات منذ سقوط آدم إلى نهاية عمله الفداء. وذلك يشتمل على ولادته وحوادث حياته وآلامه وموته وانتصاره وتكليله رباً على الجميع. وأخص أولئك الأنبياء يعقوب (تكوين ٤٩: ١٠) وموسى (تثنية ١٨: ١٥) وإشعياء (إشعياء ٩: ٦ و٧ وص ٥٣). ومن النبوءات ما أعلنه الله لإبراهيم (تكوين ١٢: ٣ و٢٢: ١٨) ولإسحاق (تكوين ٢٦: ٤) وليعقوب (تكوين ٢٨: ١٤).
    ومما يستحق الملاحظة هنا أن زكريا لم يقل كما تكلم الأنبياء بل «كما تكلم الله بفم الأنبياء» فإذاً كلما قرأنا النبوءات نكون قد قرأنا كلمات الله.
    مُنْذُ ٱلدَّهْرِ أي منذ ما تكلم أول الأنبياء. وهنا ذكر زكريا أربعة أمور بارك الله من أجلها:

    • عود الله إلى إسرائيل بالرحمة.
    • إرساله مخلصاً قديراً.
    • أن ذلك المخلص يكون من نسل داود ووارث مجده.
    • أن كل النبوءات المجيدة تتم به.


    ٧١ «خَلاَصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا».
    في هذا العدد وما بعده إلى العدد الخامس والسبعين ذكر الفوائد الناتجة من مجيء المسيح. وأول تلك الفوائد «الخلاص من أعدائنا» وهم:

    • ظالموهم الأجنبيون أي الرومانيون.
    • ظالموهم الوطنيون وهم هيرودس وجماعته الآدومّيون الذين وإن كانوا دخلاء ليسوا بإسرائيليين.
    • أعداؤهم الروحية أي الشيطان وشهواتهم (تكوين ٣: ١٥ ومتّى ١: ١٢). وهذا الخلاص بيان للخلاص المذكور في الآية ٦٩ وغلط اليهود العظيم أنهم توقعوا من المسيح الخلاص الزمني فقط.


    ٧٢ «لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ ٱلْمُقَدَّسَ».
    لاويين ٢٦: ٤٢ ومزمور ٩٨: ٣ و١٠٥: ٨ و٩ و١٠٦: ٤٥ وحزقيال ١٦: ٦ وع ٥٤
    رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا لم يحسب زكريا مجيء المسيح رحمة للأحياء فقط بل للموتى أيضاً لأن آباء اليهود كانوا يتوقعون منذ قرون كثيرة إتيان المخلص فجعلهم زكريا شركاء أولادهم في تلك الرحمة. «والموتى عند الناس أحياء عند الله».
    وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ أي وعده بإرسال المسيح. والمراد بقوله «يذكر» ينجز كمن نسي وعده ثم ذكره ووفى به. وهذا هنا من باب الكتابة لأنه سبحانه تعالى لا ينسى بل يجري كل مقاصده في أوقاتها المعينة.
    ٧٣ «ٱلْقَسَمَ ٱلَّذِي حَلَفَ لإبْرَاهِيمَ أَبِينَا».
    تكوين ١٢: ٣ و١٧: ٤ و٢٢: ١٦ و١٧ وعبرانيين ٦: ١٣ و١٧
    ٱلْقَسَمَ هنا بدل من العهد في الآية السابقة وتوكيد له. وهذا القسم ذُكر في سفر التكوين (تكوين ٢٢: ١٦ و١٧ و٢٤: ١٦ - ١٨) وهو موافق لقول بولس في الرسالة إلى (غلاطية ٣: ١٣ - ١٧) ولما قيل في رسالة العبرانيين (عبرانيين ٦: ١٣ و١٤). فكل شيء في عهد الله به وأثبته بقسمٍ تمّ بالمسيح.
    ٧٤ «أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ».
    رومية ٦: ١٨ و٢٢ وعبرانيين ٩: ١٤
    هذا نتيجة إنجاز الوعد.
    بِلاَ خَوْفٍ أي من الأعداء. والذي يعطيه هو الأمن التام لأجل العبادة بالسكينة والاطمئنان أي هبة الراحة الجسدية وسيلة إلى الخير الروحي لا لمجد الأمة أو انتصارها على غيرها من الأمم أو الانتقام منهم.
    تبيّن مما ذُكر أن الحرّية الدينية من البركات التي وهبها المسيح.
    ٧٥ «بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا».
    إرميا ٣٢: ٣٩ و٤٠ وأفسس ٤: ٢٤ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ و٢تيموثاوس ١: ٩ وتيطس ٢: ١٢ و١بطرس ١: ١٥ و٢بطرس ١: ٤
    بِقَدَاسَةٍ لأفراد الأمة ولجميعها.
    وَبِرٍّ الفرق بين القداسة والبرّ أن القداسة هي الطهارة الداخلية والبرّ ظهور تلك الطهارة في الخارج.
    قُدَّامَهُ أي قدام الله وذلك يستلزم كمال البرّ والقداسة.
    جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا أي ما دامت الأمة الإسرائيلية على الأرض. ولكن الإسرائيليين لم يحصلوا على ذلك لعدم إيمانهم على أنهم لا بد من أن يحصلوا عليه أخيراً والفوائد من مجيء المسيح على ما ذُكرت هنا خمس:

    • الأولى: التحرير من العبودية.
    • الثانية: إنجاز عهد الله الذي أثبته بالقَسم.
    • الثالثة: الأمن.
    • الرابعة: العبادة بلا معارض.
    • الخامسة: القداسة.


    ٧٦ «وَأَنْتَ أَيُّهَا ٱلصَّبِيُّ نَبِيَّ ٱلْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ ٱلرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ».
    إشعياء ٤٠: ٣ وملاخي ٣: ١ و٤: ٥ ومتّى ١١: ١٠ وع ١٧
    وَأَنْتَ أَيُّهَا ٱلصَّبِيُّ التفت زكريا في هذه الآية والتي تليها إلى الطفل يوحنا الذي كان أمامه وذكر العمل الذي سيجريه يوحنا في سبيل الفداء الإلهي. ولم يذكر أن ذاك الصبي سيكون علّة تعزية له في شيخوخته إنما افتكر في خدمته للمسيح.
    نَبِيَّ ٱلْعَلِيِّ أنزل زكريا ابنه منزلة واحد من أنبياء العهد القديم الذين ذكرهم في الآية السبعين لكن المسيح قال بعد ذلك أنه أعظم من جميع الأنبياء السالفين (ص ٧: ٢٨).
    والمراد «بالعلي» هنا هو الله والمسيح «ابن العلي» (ع ٣٢). وأما يوحنا فهو «نبي العلي».
    تَتَقَدَّمُ الخ الكلام هنا مبنيٌّ على ما قيل في نبوءة إشعياء (إشعياء ٤٠: ٣ و٤) وسبق تفسيره في شرح بشارة متّى (متّى ٣: ٣).
    ٧٧ «لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ ٱلْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ».
    مرقس ١: ٤ وص ٣: ٣
    مَعْرِفَةَ ٱلْخَلاَصِ هذه العبارة مظهرة علّة حاجة المسيح إلى سابق لأن بني إسرائيل جهلوا حقيقة الخلاص الذي يحتاجون إليه فظنوه النجاة من نير الرومانيين. والحق أنهم كانوا في شديد الحاجة إلى الخلاص من نير الخطية والدينونة عليها. وخلاصة جهلهم أنهم بدلوا النجاة الروحية بالنجاة السياسية.
    والفرق بين المسيح وسابقه أن المسيح يعطي الخلاص (متّى ١: ٢١) وأن سابقه يعطي معرفة الخلاص.
    بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ وهي أعظم ما يفتقر إليه الإسرائيليون لكنهم جهلوا هذا الافتقار وظنوا أنه لا يفتقر إلى تلك المغفرة إلا الأمم. وقد أتى المسيح ليمنح تلك البركة للجميع. وأتى يوحنا ليخبرهم بها دفعاً للوهم والغلط ولذلك نادى «بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا» (مرقس ١: ٤).
    أما المغفرة فهي أعظم حاجات الإنسان وأعظم مواهب الله في المسيح. وفي هذا الخبر مختصر الإنجيل لأنه ذُكر فيه أربع حقائق عظيمة.

    • الأولى: الخلاص الذي هو موضوع الإنجيل.
    • الثانية: أن الخلاص بمغفرة الخطايا.
    • الثالثة: أن علّة منح الخلاص رحمة الله (يوحنا ٣: ١٦ وأفسس ٢: ٤ - ٨).
    • الرابعة: نتائج الخلاص. وخلاصتها نور الضالين وسلام للمضطربين. فما أعظم البركات الثلاث المذكورة هنا وهي المغفرة والنور والسلام. فيجب على كل منا أن يسأل نفسه هل حصلت على تلك البركات العظمى.


    ٧٨، ٧٩ «٧٨ بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلٰهِنَا ٱلَّتِي بِهَا ٱفْتَقَدَنَا ٱلْمُشْرَقُ مِنَ ٱلْعَلاَءِ. ٧٩ لِيُضِيءَ عَلَى ٱلْجَالِسِينَ فِي ٱلظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ ٱلسَّلاَمِ».
    عدد ٢٤: ١٧ وإشعياء ١١: ١ وزكريا ٣: ٨ و٦: ١٢ وملاخي ٤: ٢، إشعياء ٩: ٢ و٤٢: ٧ و٤٩: ٩ ومتّى ٤: ١٦ وأعمال ٢٦: ١٨
    ذكر زكريا في العددين السابقين ما يتعلق بيوحنا على وجه الاختصار ثم عاد إلى موضوعه الأول وهو مجد إتيان المسيح وخلاصه.
    بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلٰهِنَا ذكر أولاً مصدر كل البركات المتوقعة على مجيء المخلص «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ» الخ (يوحنا ٣: ١٦).
    ٱلْمُشْرَقُ المراد بهذا المشرق المسيح على سبيل المجاز. وقد تنبأ ملاخي عنه بقوله «تُشْرِقُ شَمْسُ ٱلْبِرِّ» (ملاخي ٤: ٢) واستعار له بطرس ويوحنا «كَوْكَبُ ٱلصُّبْحِ ٱلْمُنِيرُ» (٢بطرس ١: ١٩ ورؤيا ٢٢: ١٦). وأشار إليه زكريا بالشمس في أول طلوعها. فالمسيح لقلوب الناس بمنزلة الشمس للعالم الطبيعي. وغاية كل ذلك أن يسوع هو «نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢).
    ِمِنَ ٱلْعَلاَء أي من السماء التي منها يأتي المسيح لا كالشمس الطبيعية التي تظهر عند طلوعها كأنها تصعد من تحت الأفق.
    ِلِيُضِيءَ عَلَى ٱلْجَالِسِينَ فِي ٱلظُّلْمَة (انظر شرح بشارة متّى ٤: ١٦).
    لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا هذا مجاز بيانه أنه كما أن الجالسين في الظلمة لا يستطيعون أن ينقلوا أقدامهم في طريق مجهولة ما لم يطلع الصباح كذلك الخطأة الجاهلون لا يقدرون أن يسيروا إلى السماء ما لم يضيء لهم المشرق من العلاء أي المسيح. فبهِ يذهبون بأمان إلى موطن السعادة الأبدي.
    فِي طَرِيقِ ٱلسَّلاَمِ عبّر بلفظة السلام عن كل بركة وسعادة.
    ٨٠ «أَمَّا ٱلصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإسْرَائِيلَ».
    ص ٢: ٤٠، متّى ٣: ١ و١١: ٧
    يَنْمُو أي نمواً جسدياً.
    يَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ أي يزيد معرفة وشجاعة وسائر الأخلاق الحسنة. واقتصر لوقا في هذا العدد والعدد السادس والستين على خلاصة ما يتعلق بصبوة يوحنا وحداثته.
    وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي أي كان هنالك وقتاً معيناً. وغاية البشير بهذا أن يبيّن انفراد يوحنا عن الناس مدة. ولا ريب أن يوحنا صرف زمن صبوته في بيت والديه في جبال اليهودية قرب حبرون (التي هي مدينة الخليل). وأنه تعلّم منهما ما استطاع أن يعلمه أتقياء اليهود يومئذ من العهد القديم ونبوءاته عن نفسه وعن المسيح. وأنهما ماتا وهو صغير لأنهما كانا قد طعنا في السن عند ولادته. وأن يوحنا انتقل حينئذ إلى براري اليهودية غربي الأردن (متّى ٢: ١) حيث انفرد عن الناس لكي يدرس الأسفار الإلهية ويعاهد الله على الصلاة ويستعد لعمله المعيّن من الله. وكذا فعل موسى فإنه صرف مدة في البرية قبل أن بلغ درجة النبوة وتبليغ شريعة الله وإرشاد الإسرائيليين. وقرن يوحنا انفراده بالقشف والزهد كما يليق بالنذير وبخليفة إيليا في وظيفته. وأن يوحنا مع كونه لاوياً لم يظهر انه تعلّم من الكتبة أو أنه مارس شيئاً من خدمة اللاويين في الهيكل وذلك لأن يوحنا حسب وظيفة النبي أعظم من وظيفة اللاويين وهو الحق.
    إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإسْرَائِيلَ أي إلى حين ابتدائه الخدمة العلنية. وبداءة تلك الخدمة حسب شريعة موسى تكون عند بلوغ الخادم سن الثلاثين (عدد ٤: ٣ ولوقا ٣: ٢ و٢٣). وما ذُكر هنا يدل على أنه لم تقع المعرفة الشخصية بين يوحنا والمسيح إلى هذا الوقت لئلا يظن أحد أن شهادة يوحنا للمسيح نتيجة اتفاق سابق بينهما أو صداقة.


    الأصحاح الثاني


    ميلاد المسيح في بيت لحم ع ١ إلى ٧


    ١ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ ٱلْمَسْكُونَةِ».
    فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي في قرب الزمان الذي وُلد فيه يوحنا المعمدان.
    صَدَرَ أَمْرٌ أي أمر ملكي من رومية عاصة مملكة الرومانيين. وكان ميلاد يسوع المسيح على أثر إنفاذ ذلك الأمر في سورية.
    أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ وهو أكتافيوس أمبراطور المملكة الرومانية ملك أربعين سنة ومات في سن السادسة والسبعين. وكان يجمع في كل عشر سنين من ملكه بيان أحوال مملكته في قائمة تشتمل على عدد سكان المملكة وثروتهم. ومن مقاصده في ذلك ضرب الجزية عليهم ومعرفة قوة المملكة واقتدارها.
    وسبقه عمه الأمبراطور يوليوس قيصر إلى مثل ذلك الاكتتاب والظاهر أنه كان مجرد إحصاء النفوس. وكان هيرودس قد عيّنه أوغسطس ملكاً على سورية فلا بد من أنه بذل الجهد في إرضائه بإنفاذ ذلك الأمر.
    كُلُّ ٱلْمَسْكُونَةِ أي كل المملكة الرومانية. وهذا من مصطلح الكتّاب في ذلك العصر لأن أكثر المسكونة المعروفة يومئذ كانت تحت سلطة الرومانيين. واستيلاء الرومانيين على اليهودية حتى عدهم إياهم للجزية برهان على أنه قد حان الوقت المعين لميلاد المسيح حسب نبوءة يعقوب وهي قوله «لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ» (تكوين ٤٩: ١٠).
    ٢ «وَهٰذَا ٱلاكْتِتَابُ ٱلأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ».
    أعمال ٥: ٣٧
    كِيرِينِيُوسُ ذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن كيرينوس كان والياً على اليهودية من السنة السادسة للميلاد إلى السنة الحادية عشرة وأنه حصل سجس في الشعب من الاكتتاب الذي أجراه. وأشار لوقا إلى هذا السجس في سفر الأعمال (أعمال ٥: ٣٧). فظن البعض أن لوقا أخطأ بما قيل في كيرينيوس هنا إذ ذكر ممارسة أعماله في سورية قبل أن استولى بست سنين. لكن يظهر جلياً من شهادة مؤرخي ذلك العصر أن كيرينيوس تولى سورية مرتين. تولى الأولى منذ ثلاث سنين قبل الميلاد إلى سنة بعده. ولو لم يكن كيرينيوس تولى سورية مرتين كما ذكر وأجرى الاكتتاب كذلك لم يكن هنا للوقا من حاجة إلى أن يقول «الاكتتاب الأول».
    سُورِيَّة كانت تخوم سورية تتغير من وقت إلى وقت والأرجح أنها كانت يومئذ من جبل طورس والفرات شمالاً إلى مصر جنوباً ومن بادية العرب شرقاً إلى بحر الروم غرباً.
    ٣ «فَذَهَبَ ٱلْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ».
    لو كانت سورية ولاية رومانية أصلية لاكتتب كل في مسكنه بلا التفات إلى مكان ميلاده ولكن لكونها كانت خاضعة للدولة الرومانية في بعض الأمور ومستقلة في البعض جرى الاكتتاب حسب عوائد اليهود بالنظر إلى أسباطهم وقبائلهم. فلزم من ذلك رجوع كل واحد إلى وطن أصله للاكتتاب.
    ِإِلَى مَدِينَتِه أي وطن عائلته الأصلي.
    ٤ «فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ ٱلنَّاصِرَةِ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ ٱلَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ».
    ١صموئيل ١٦: ١ و٤ ويوحنا ٧: ٤٢، متّى ١: ١٦ وص ١: ٢٧
    فَصَعِدَ بيت لحم أعلى من الجليل فالذهاب إليها صعود حقيقة. وغلب أن يسمّوا الذهاب إلى عاصمة البلاد صعوداً.
    ٱلْجَلِيلِ... ٱلنَّاصِرَةِ (انظر الشرح ص ١: ٢٦ ومتّى ٢: ٢٢ و٢٣).
    مَدِينَةِ دَاوُدَ (١صموئيل ١٦: ١ - ٤).
    بَيْتَ لَحْمٍ اسم عبراني معناه بيت الخبز وسُمّيت كذلك لخصب أرضها واسمها الأقدم أفراتة وأفراثة (تكوين ٣٥: ١٩ وراعوث ١: ٢ وميخا ٥: ٢).
    وكانت في سهم سبط يهوذا (قضاة ١٧: ٧). ولم يُذكر اسمها بين الأماكن التي عينت لسبط يهوذا في سفر يشوع ولعلّ سبب ذلك حقارتها. وهي واقعة على أمد نحو ستة أميال جنوبي أورشليم.
    ٥ «لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتِهِ ٱلْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى».
    متّى ١: ١٨
    ٱلْمَخْطُوبَةِ ص ١: ٢٧ ومتّى ١: ١٨ و١٩ و٢٤. وكان من عوائد الرومانيين أن تُكتتب النساء كالرجال إجباراً وإلا فما اضطرت مريم أن تذهب إلى بيت لحم مسافة أربعة أيام وهي على تلك الحال. وقضى الله ذلك لإتمام مقاصده ولكي لا يولد المسيح في الناصرة حيث سكنت مريم بل ليولد في بيت لحم حسب النبوءة (ميخا ٥: ٢) وذهاب مريم مع يوسف إلى بيت لحم للاكتتاب أحد الأدلة على أنها من نسل داود.
    ولنا من هذا أنه اتفق أوغسطس وهيرودس وكيرينيوس على إتمام مقاصد الله ونبوات العهد القديم المتعلقة بالمسيح وذلك بدون أن يقصد أحد منهم سوى إجراء إرادته. ولم يخطر على بالهم أن يكونوا آلات لتأسيس مملكة تدوم بعد اضمحلال المملكة الرومانية وملاشاة عبادتها الوثنية.
    ٦ «وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ».
    لا شيء في كلام لوقا من الأدلة القاطعة على تعيين الشهر الذي وُلد فيه المسيح إلا أنه كان فصل من السنة يمكّن الرعاة فيه أن يحرسوا غنمهم في البرية ليلاً. ولما ذهب المسيح إلى يوحنا ليعتمد منه كان ذلك اليوم أول السنة الثلاثين من ميلاد المسيح وهو وفق اليوم الذي وُلد فيه. وكان الوقت موافقاً لاجتماع جموع كثيرة من أهل اليهودية في البرية ليسمعوا كرازة يوحنا المعمدان. ولو كانت معرفة يوم ميلاد المسيح جوهرية لألهم الروح القدس لوقا البشير أن يعينه جلياً.
    ٧ «فَوَلَدَتِ ٱبْنَهَا ٱلْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي ٱلْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَوْضِعٌ فِي ٱلْمَنْزِلِ».
    متّى ١: ٢٥
    قَمَّطَتْهُ اي ربطته بالأقمطة حسب عوائد الشرقيين يومئذ وفي هذا اليوم.
    فِي ٱلْمِذْوَدِ معلف الدوابّ.
    لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَوْضِعٌ فِي ٱلْمَنْزِلِ ذكر ذلك علّة لولادة مريم ابنها في محل الدواب. اضطر كثيرون ممن أصلهم من بيت لحم إلى المجيء إليها وليس لهم مسكن فيها إجابة لأمر القيصر بالاكتتاب حتى امتلأ المنزل بالمسافرين. ولعلّ يوسف ومريم وصلاه بعد غيرهم فوجدوا منزل المسافرين غاصاً بالناس فاضطرا إلى أن ينزلا حيث يجدان مأوى. والظاهر أنه لم يفتح أحد من سكان بيت لحم باب بيته لقبول يوسف النجار وخطيبته. فكانت حقارة مولد يسوع موافقة لكل تاريخ حياته الأرضية لأنه لم يكن له فيها أين يضع رأسه في مساكن الناس. ولما مات دُفن في قبر ليس له مع أنه خالق العالمين. وهذا كان جزءاً من اتضاعه لفداء البشر وهو مما يحقق لأشد الناس فقراً أن لهم مخلصاً يمكنه أن يشترك معهم في شعورهم إذ لم يولد في قصر بل في اصطبل ولم يُربّ بين الأمراء بل في بيت نجار من الجليل. والحق أن المسيح بعد أن ترك مجد السماء وسكن على الأرض لم يبقَ من فرق عظيم عنده بين قصر وكوخ.
    أما سنة ولادة يسوع فنعرف من بشارة متّى أنها كانت من سني حياة هيرودس وقبل موته بزمن قصير والأرجح أنه جزء من تلك السنة عينها (متّى ٢: ١ - ٦ و١٩). قال يوسيفوس أن هيرودس مات سنة ٧٥٠ لتأسيس رومية. وعيّن التاريخ المسيحي الشائع ديونيسيوس أغزغيوس في القرن السادس للميلاد وحسب سنة الميلاد سنة ٧٥٤ لتأسيس رومية فأخطأ بأربع سنين.

    الملائكة والرعاة ع ٨ إلى ٢٠


    ٨ «وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ ٱللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ».
    فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ أي في الأرض المجاورة لبيت لحم.
    رُعَاةٌ الأرجح أن هؤلاء الرعاة كانوا رجالاً أتقياء انتظروا كسمعان الشيخ «تعزية إسرائيل» وأنهم كانوا وهم يحرسون الغنم ليلاً يتذاكرون بنبوءات العهد القديم المتعلقة بالمسيح وكانوا يصلّون ويشتاقون إلى إتمامها كسمعان نفسه (ع ٣٥). فلم يكن إعلان ولادة المسيح لملوك أو أمراء أو فلاسفة أو كهنة أو كتبه أو فريسيين بل لرعاة بسطاء. وهذا وفق قول الرسول «ٱسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ، أَمَا ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ فُقَرَاءَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي ٱلإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ ٱلْمَلَكُوتِ ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يعقوب ٢: ٥).
    مُتَبَدِّينَ أي كائنين في البادية أي البرية كأهل البدو.
    ٩ «وَإِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَـهُمْ، فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً».
    ص ١: ١٢
    إِذَا هي إذاً المفاجأة.
    مَلاَكُ ٱلرَّبِّ الأرجح أنه كان في هيئة إنسان كما في بشارة مرقس (مرقس ١٦: ٥). وظهر الملائكة لرؤساء الآباء والأنبياء وقواد الجنود وظهروا هنا لرعاة ودعاء وفقاً لقوله «وَٱلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ» (متّى ١١: ٥).
    وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أي نور غريب وهو علامة الإعلان الإلهي في خيمة الاجتماع والهيكل (١ملوك ٨: ١٠ و١١ وإشعياء ٦: ١ - ٣ وأعمال ٩: ٣ و٢٢: ١١) (انظر الشرح متّى ١٧: ٥).
    فَخَافُوا غلب أن يكون ظهور الملائكة للناس علّة خوف لهم لأنه أول ما يخطر على البال أنهم أتوا للدينونة (متّى ٢٢: ٥ - ٩ ولوقا ١: ١٣ و٣٠).
    ١٠ «فَقَالَ لَـهُمُ ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ».
    تكوين ١٢: ٣ ومتّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١: ١٥ وع ٣١ و٣٢ وص ٢٤: ٤٧ وكولوسي ١: ٢٣
    أَنَا أُبَشِّرُكُمْ كان هذا الملاك أول مبشر بالمسيح واشتملت بشارته على أنه رُفعت عن العالم الظلمة الروحية التي غطته نحو أربعة آلاف سنة. وأنه قد تم وعد الله بتمهيد الطريق إلى نوال الخاطئ مغفرة الخطايا والمصالحة لله. وإلى سحق رأس الشيطان. والمناداة بالعتق لأسرى الخطيئة وإلى إظهار أنه كيف يكون الله باراً ويبرر الأثمة.
    بِفَرَحٍ... لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ أي لجميع الذين يقبلون البشارة والمسيح المبشَّر به. فيمكن كل خاطئ أن يشترك في ذلك الفرح إن أراد. وعرض على اليهود أولاً ثم على جميع الأمم على اختلاف صنوفهم وألسنتهم (ع ٣٢ وص ١: ٧٩).
    ١١ «أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ».
    إشعياء ٩: ٦، متّى ١: ٢١، متّى ١: ١٦ و١٦: ١٦ وص ١: ٤٣ وأعمال ٢: ٣٦ و١٠: ٣٦ وفيلبي ٢: ١١
    وُلِدَ لَكُمُ أي لكم أيها الرعاة باعتبار أنكم أفراد تتوقعون مجيء المسيح وباعتبار أنكم بشر أي من جنس محتاج إلى مخلص أُرسل إليه. وغاية ولادة المسيح ليس لمجده بل لمنفعة الناس بإنقاذهم من الهلاك الأبدي وبمنحهم الحياة الأبدية. فولادة المسيح هي علّة الفرح الذي ذُكر في العدد العاشر وهي موضوع تبشير الملائكة هنا.
    فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ أي في بيت لحم.
    مُخَلِّصٌ لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم (متّى ١: ٢١)
    ٱلْمَسِيحُ أي الممسوح من الله الآب نبياً وكاهناً وملكاً (انظر الشرح متّى ١: ١).
    ٱلرَّبُّ هذا اللقب استعمله لوقا دائماً بمعنى يهوه في العهد القديم (ص ١: ٦ و٩ و١١ و١٥ و١٦ وص ٢٣: ٢ وأعمال ٢: ٣٦) والمسيح هو الرب لأنه خالق وملك (كولوسي ١: ١٦ - ١٨). وبهذا الكلام علّم الملاك الرعاة أن ذلك الطفل هو إله متجسد وأنه هو المسيح المنتظر. فكان إعلان الملاك للرعاة أعظم من الإعلان لمريم وليوسف إذ لم يعلن لهما إلا أن يكون اسمه يسوع وأنه يكون عظيماً وأنه ابن العلي ووارث كرسي داود.
    ١٢ «وَهٰذِهِ لَكُمُ ٱلْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ».
    عَلاَمَة هي غرابة أن يوضع الولد عند ولادته في مذود أي معلف دوابّ. وعدم الموافقة بين سمو أصله وعظمة وظيفته ودناءة حاله لأنه لا يتوقع أن يكون سرير الملك معلف دواب. وأُعطيت هذه العلامة للرعاة من دون أن يطلبوها كما أنه أعطيت العلامة لمريم من دون طلبها (ص ١: ٣٦). فاحتاج الرعاة إلى علامة لكي يميزوا الطفل من سائر أطفال بيت لحم. وليس من المرجّح أنه وُلد في تلك الليلة أطفال كثيرون في بيت لحم ويقرب من المحال أن يولد آخر ويوضع في المذود أيضاً.
    ١٣ «وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ ٱلْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ ٱللّٰهَ وَقَائِلِينَ».
    تكوين ٢٨: ١٢ و٣٢: ١ و٢ ومزمور ١٠٣: ٢٠ و٢١ و١٤٨: ٢ ودانيال ٧: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤ ورؤيا ٥: ١١
    ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ هم الملائكة ويعبّر عنهم الكتاب غالباً بجيش يحيط عرش الله (١ملوك ٢٢: ١٩ و٢أيام ١٨: ١٨ ومزمور ١٠٣: ٢١ ودانيال ٧: ١٠ ومتّى ٢٦: ٥٣ ورؤيا ١٩: ١٤) فظهر مع الملاك الذي خاطب الرعاة أولاً كثيرون من الملائكة.
    مُسَبِّحِينَ الأرجح أنه لم يسمع هذا التسبيح أحد على الأرض سوى الرعاة.
    ١٤ «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ».
    ص ١٩: ٣٨ وأفسس ١: ٦ و٣: ١٠ و٢١ ورؤيا ٥: ١٣، إشعياء ٥٧: ١٩ وص ١: ٧٩ ورومية ٥: ١ وأفسس ٢: ١٧ وكولوسي ١: ٢٠، يوحنا ٣: ١٦ و٢كورنثوس ٥: ١٩ وأفسس ٢: ٤ و٧ و٢تسالونيكي ٢: ١٦ و١يوحنا ٤: ٩ و١٠
    كان موضوع ترنم الملائكة ميلاد المسيح ويصح أن تحسبه تسبيحاً ودعاء. وكان لهم في ميلاد المسيح ثلاثة أسباب للفرح:

    • الأول: أنه في السماء يمجد الله.
    • الثاني: أنه على الأرض تأسس ملكوت السلام لكي يبطل الخصام بين الناس.
    • الثالث: أنه كان بين السماء والأرض مصالحة فيرضى الله عن الناس والناس يكرمونه ويحبونه.


    ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ إن مجد الله غير محدود فهو لا يقبل الزيادة بشيء من الوسائط لكنه يزيد ظهوراً لمخلوقاته بمعلنات جديدة. وهذا المجد هو ما أظهر بالمسيح للخلائق من صفات الآب كالحكمة والعدل والحق والرحمة والمحبة التي لا يمكن ظهورها بغير المسيح.
    والمسيح نفسه مجد الله بقداسته وطاعته وصلواته وما أتاه من أعمال الرحمة وتعاليمه وموته إكراماً لشريعته وإنقاذاً للإنسان الساقط. نعم إن عمل الخليقة أظهر مجد الله وترنم به الملائكة وقتئذ (أيوب ٣٨: ٧) لكن ميلاد المسيح كان أكثر إظهاراً لذلك المجد. والجموع الذين احتفلوا بدخول يسوع إلى أورشليم ترنموا كما ترنم الملائكة بقولهم «مجد في الأعالي» (ص ١٩: ٣٨).
    فِي ٱلأَعَالِي أي في أعلى السماوات.
    وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ أن المسيح هو رئيس السلام (إشعياء ٩: ٥) وذلك لأربعة أمور:

    • إنّه رسول السلام من السماء إلى الأرض لا رسول النقمة والدينونة.
    • إنّه منشئ السلام بين إنسان وإنسان (أفسس ٢: ١٤).
    • إنّه مانح الضمير سلاماً بتحقيق مغفرة الخطايا.
    • إنّه وسيط السلام بين السماء والأرض أي بين الله والناس. ويشتمل السلام هنا على كل فوائد الفداء.


    وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ أي رضى الله عن الناس وهو إظهار محبته لهم بميلاد ابنه (يوحنا ٣: ١٦ وأفسس ١: ٥ و٩ و١٠ وتيطس ٣: ٤). وكانت غاية المسيح من كل أقواله وأفعاله على الأرض إعلان محبة أبيه الفائقة للناس. وأما موته فهو أجلى برهان على تلك المحبة (على أن كل خير في الدنيا نتيجة مسرته تعالى). والمسرة في الجملة الثالثة جزء عظيم من موضحات «السلام» في الجملة السابقة. وكلٌ من السلام والمسرة لا يشين مجد الله بل يوافقه ويؤول إليه.
    وترجم بعضهم الجملتين الأخيرتين بجملة واحدة فصارتا و «على الأرض السلام لذوي المسرة» أي مختاري الله.
    ١٥ «وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، قَالَ ٱلرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لِنَذْهَبِ ٱلآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هٰذَا ٱلأَمْرَ ٱلْوَاقِعَ ٱلَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ ٱلرَّبُّ».
    مَضَتْ... إِلَى ٱلسَّمَاءِ لأن السماء مسكنهم وإنما يأتون إلى الأرض رُسلاً.
    إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ أي مدينة داود التي قال الملاك أن المسيح يولد فيها.
    وَنَنْظُرْ هٰذَا ٱلأَمْرَ لم تكن غايتهم من ذلك تحقيق خبر الملاك لأنهم صدقوه لكنهم أرادوا اغتنام الفرصة لمشاهدة ذلك الأمر العظيم الذي بشرهم الملاك به. وفي قول الملاك تلميح بأمره لهم بالذهاب (ع ١٢). والقرينة تدل على أنهم عزموا على الذهاب حالما ارتفعت الملائكة عنهم مع أنه كان منتصف الليل وذلك يحملهم على أن يتركوا رعيتهم بلا حارس.
    أَعْلَمَنَا بِهِ ٱلرَّبُّ أي بلّغنا إياه بواسطة الملاك.
    ١٦ «فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَٱلطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي ٱلْمِذْوَدِ».
    مجيئهم مسرعين يدل على شدة رغبتهم لمشاهدة المسيح. فنستنتج من ذلك أنهم كانوا متوقعين إتيانه ومسرورين بالتبشير به وأقوياء الإيمان ومستعدين للطاعة حالاً فشاهدوا كما قيل لهم في الآية الثانية العشرة. وكانت بيت لحم قرية صغيرة فلم يصعب عليهم أن يجدوا المنزل واصطبله.
    ١٧ «فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي قِيلَ لَـهُمْ عَنْ هٰذَا ٱلصَّبِيِّ».
    أَخْبَرُوا أي يوسف ومريم. والأرجح أنهم لم يقتصروا على إخبارهما بل بشروا بذلك في الصباح غيرهم ممن كانوا يتوقعون المسيح توقُعهم. ولا بد أن مريم ويوسف قد فرحا بما أخبروهما وتقوى إيمانهما.
    بِٱلْكَلاَمِ الخ أي خبر الملاك لهم وترنم الجند السماوي. ولعلهم أضافوا إلى ذلك في إنبائهم أهل القرية ما سمعوا من مريم ويوسف من رُؤى الملائكة في شأنه قبل ولادته. فكان الملاك أول المبشرين بذلك من أهل السماء وكان الرعاة أول المبشرين به من أهل الأرض ونقلوا إلى أهل بيت لحم وإلينا نبأ ذلك المشهد العظيم وتلك الترنيمة السماوية.
    ١٨ «وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَـهُمْ مِنَ ٱلرُّعَاةِ».
    كان يجب أن يكون تأثير شهادة الرعاة في سكان بيت لحم عظيماً حتى أنهم يصدقون أن الطفل المولود هو المسيح المنتظر وأن يقبلوه كذلك ولكن لم يكن من تأثير سوى تعجبهم. ولعلّ سبب ذلك دناءة حال هذا المولود بخلاف ما كانوا يتوقعون ولكن إذا جمعنا كل التأثيرات من ولادة المسيح رأيناها خمسة:

    • تسبيح الملائكة.
    • شهادة الرعاة بالتمجيد والتسبيح.
    • حفظ مريم تلك الأمور وتفكرها فيه.
    • تعجب الملائكة.
    • اضطراب هيرودس وعزمه على قتل الصبي (متّى ٢: ١٦).


    ١٩ «وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذَا ٱلْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا».
    تكوين ٣٧: ١١ وص ١: ٦٦ وع ٥١
    في هذه الآية مقابلة بين مريم وغيرها ممن ذُكروا في الآية التالية فإن الأولين تعجبوا مما كان ونسوه حالاً وأن الآخرين مجّدوا وسبّحوا جهراً. وأما مريم فكانت تحفظ كل ذلك متفكرة فيه أي أنها كانت تذكر ما قاله الرعاة وما سمعته من زكريا وأليصابات باللفظ الواحد. وربما كانت نتيجة تذكرها هذا وصول هذا الخبر المدقق إلينا مما نقله لوقا عن لسانها بعد ذلك (ص ١: ٢ و٣).
    وقوله «في قلبها» متعلق بقوله «تحفظ».
    مُتَفَكِّرَةً بِهِ أي متأملة فيه لكي تعلم حقيقة ذلك المولود حق العلم وما يجب عليها له. وتجسد الله في شخص يسوع سر عظيم لم يمكن مريم أن تدركه دفعة بل عرفته بعض المعرفة شيئاً فشيئاً بكل معجزة وشهادة جديدة. والتفكر في الحقائق العظيمة هو أفضل وسيلة إلى حفظها في الذاكرة.
    ٢٠ «ثُمَّ رَجَعَ ٱلرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَـهُمْ».
    رَجَعَ ٱلرُّعَاةُ أي عادوا إلى حيث كانوا.
    ُيُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ وَيُسَبِّحُونَه هؤلاء الرعاة مثال لنا في الإيمان والطاعة والشكر لله والتسبيح له والرغبة في أن يسمع غيرهم ما سمعوه من البشارة.
    مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ أي ما سمعوا من الملائكة ويوسف ومريم ومما رأوه بأعينهم.

    ختان يسوع وتقديمه في الهيكل ع ٢١ إلى ٣٩


    ٢١ «وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ ٱلْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي ٱلْبَطْنِ».
    تكوين ١٧: ١٢ ولاويين ١٢: ٣ وص ١: ٥٩ وفيلبي ٣: ٥ وعبرانيين ٢: ١٧، متّى ١: ٢١ و٢٥ وص ١: ٣١
    لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ إطاعة لشريعة موسى وهي أنه «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ يُخْتَنُ لَحْمُ غُرْلَتِهِ» (لاويين ١٢: ٣). والختان كماء المعمودية علامة التطهير وختم أهل الله. وكان ختان المسيح كمعموديته في الغاية أي تكميل كل برّ (متّى ٣: ١٥) ولولا ختانه لم يقبله اليهود كواحد من شعب الله ولم يسمحوا له بالدخول إلى الهيكل ولم يسمعوا له كمعلم فاختتن المسيح لأنه كان «مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية ٤: ٤ و٥).
    واختتن لكي «يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين ٢: ١٧) مع أنه كان بلا خطية فلا يحتاج بذاته إلى التطهير ولا إلى علامته (عبرانيين ٤: ١٥ و١يوحنا ٣: ٥).
    فالمسيح أكرم بذلك طقوس الديانة الخارجية وكان مثالاً لنا فيه. ومن هنا نستنتج وجوب وقف الأولاد جهاراً لله بالمعمودية ودخولهم كذلك في أول الحياة في التعهد لله وكنيسته. وختان الجسد رمز إلى ختان القلب أي نزع الشهوات الجسدية وهو ضروري لنا بخلاف المسيح لأنه لم يكن في حاجة إليه.
    سُمِّيَ يَسُوعَ مرّ تفسير هذا في متّى ١: ٢١ وأظهر يوسف ومريم بتسميته كذلك إيمانهما وطاعتهما (متّى ١: ٢١ و٢٥ ولوقا ١: ٣١).
    وليسوع ألقاب كثيرة بالنسبة إلى وظائفه المتنوعة كملك ونبي وكاهن وديّان الخ. وفضل المسيح استعمال يسوع (أي المخلص) منها لأنه يشير إلى عمله على الأرض أكثر مما سواه. والذين سمّوا في الكتاب قبل أن يولدوا ستة إسماعيل (تكوين ١٦: ١١). وإسحاق (تكوين ١٧: ١٩). ويوشيا (١ملوك ١٣: ٢). وكورش (إشعياء ٤٤: ٢٨). ويوحنا المعمدان (لوقا ١: ١٣). ويسوع (ص ١: ٣١).
    ٢٢، ٢٣ «٢٢ وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ،٢٣ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوساً لِلرَّبِّ».
    لاويين ١٢: ٢ إلى ٦، خروج ١٣: ٢ و٢٢: ٢٩ و٣٤: ١٩ وعدد ٣: ١٣ و٨: ١٧ و١٨: ١٥
    أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا لاويين ١٢: ١ - ٨.
    كانت المدة بين الولادة ويوم التطهير أربعين يوماً أو ثلاثة وثلاثين يوماً بعد الختان (لاويين ١٢: ٤). وكانت الأم تُحسب قبل نهاية تلك المدة نجسة أي غير جائز لها أن تدخل الهيكل. والأرجح أن مريم بقيت في هذه المدة كلها في بيت لحم.
    صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ ذهبوا به إلى أورشليم لأن الهيكل هنالك. وكان ذلك قبل مجيء المجوس لا محالة لأنه لو لم يكن كذلك لكان على الصبي خطر عظيم من هيرودس لحسده وقصده قتل يسوع بعد مجيء المجوس ولأن يوسف ذهب بالصبي حالما انصرف المجوس من بيت لحم.
    لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ كان ذلك مفروضاً على أبكار الذكور. لأن الله بعد أن ضرب كل أبكار المصريين وجاز عن أبكار الإسرائيليين صرّح بأن كل الأبكار الذكور له أي بوجوب أن يخدموه كهنة (خروج ١٣: ٢ و١٢ وعدد ٣: ١٣). ثم أخذ كل سبط لاوي بدل الأبكار كلهم لكي يكونوا كهنة له (عدد ٣: ١٢). ولأن ذكور اللاويين كانوا دون أبكار إسرائيل عدداً أمر أن يُفدى كل بكر بالدراهم (عدد ٣: ٢٦ و٢٧ و٨: ١٣ و١٨ و١٨: ١٦ و١٧). وكان مبلغ الفداء عن كل بكر خسمة شواقل أي نحو ثمانين غرشاً تجارياً. ووفقاً لذلك الأمر أتوا بيسوع إلى الهيكل في ذلك الوقت. والأرجح أنهم أدوا عنه ذلك المبلغ مع أنه كان رئيس الأحبار والهيكل الحقيقي. وهذا من جملة أمور تنازله. ولم تطالب أبكار المسيحيين بذلك لأنهم بواسطة المسيح صاروا كهنة لله (١بطرس ٢: ٩ ورؤيا ٥: ١٠).
    فَاتِحَ رَحِمٍ أي بكراً.
    قُدُّوساً لِلرَّبِّ أي مفروزاً لخدمته تعالى (خروج ١٣: ٢).
    ٢٤ «وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ، زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ».
    لاويين ١٢: ٢ و٦ و٨
    هذا العدد متعلق بالعدد الثاني والعشرين وما بينهما معترض.
    ذَبِيحَةً كانت ذبيحة التطهير للمرأة خروفاً حولياً أي ابن سنة يحرق وفرخ حمامة أو يمامة يذبح عن الخطيئة (لاويين ١٢: ٦). وإذا كان الوالدان فقيرين رُضي منهما بدل ذلك بيمامتين أو فرخي حمام أحدهما محرقة والآخر ذبيحة خطية. وتقدمة مريم تدل على أنها كانت فقيرة لأنها قدّمت ما كان على الفقير. وهذا أيضاً من تنازل المسيح لأجلنا (٢كورنثوس ٨: ٩). فمريم وإن عجزت عن أن تقدّم للرب خروفاً قدّمت في الهيكل أفضل من ذلك أي حمل الله.
    ٢٥ «وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ ٱسْمُهُ سِمْعَانُ، كَانَ بَارّاً تَقِيّاً يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ».
    إشعياء ٤٠: ١ ومرقس ١٥: ٤٣ وع ٣٨
    سِمْعَانُ ظن بعضهم أن سمعان هذا ابن هليل الرباني المشهور وأبو غمالائيل معلم بولس (أعمال ٥: ٣٤). ولكن لا دليل على ذلك سوى التسمية والوقت لأنه ذكر في كتاب اليهود أن سمعان بن هليل كان في ذلك الوقت.
    بَارّاً تَقِيّاً أي حافظاً شريعة موسى حفظاً تاماً ومجتهداً في القيام بكل واجباته لله وللناس (أعمال ٢: ٥ و٨: ٢).
    تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ أي المسيح لأن اليهود انتظروا أنه يعزيهم متى جاء على كل بلاياهم. وهذا وفق تسمية بولس للمسيح بأنه «رجاء إسرائيل» (أعمال ٢٨: ٢٠). وقوله ينتظر تعزية إسرائيل وفق قوله «المنتظرين فداء في أورشليم» (ع ٣٨). ولا ريب في أن المسيح أعظم تعزية لكل الذين يعرفونه ويقبلونه وهو دعا نفسه كذلك ووعدهم بإرساله معزياً آخر هو الروح القدس (يوحنا ١٤: ١٦).
    وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ تفسير هذا العدد التالي أي أنه كان ملهماً من الروح القدوس.
    ٢٦ «وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ ٱلرَّبِّ».
    مزمور ٨٩: ٤٨ وعبرانيين ١١: ٥
    أُوحِيَ إِلَيْهِ لم يخبر لوقا بأي طريق أوحى إليه الروح أحلماً كان ذلك أم رؤيا أم صوتاً مسموعاً.
    لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ أي لا يموت (مزمور ٨٩: ٤٨ ويوحنا ٨: ٥١) ويلزم من هذا أنه كان طاعناً في السن وزاد عمره على الوقت المعين للبشر وأنه يموت على أثر ما يرى المسيح. ولعلّ وعد الله إياه بذلك كان جواباً لصلواته.
    مَسِيحَ ٱلرَّبِّ أي الذي وعد الرب به وأرسله ومسحه بروحه.
    ٢٧ «فَأَتَى بِٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِٱلصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَـهُ حَسَبَ عَادَةِ ٱلنَّامُوسِ».
    متّى ٤: ١
    فَأَتَى بِٱلرُّوحِ أي أن الروح القدس حمله حينئذ على إتيان الهيكل. وربما أوحى إليه أن إنجاز ما وُعد به يكون في ذلك الوقت.
    إِلَى ٱلْهَيْكَلِ أي إلى دار الهيكل التي يقدّم الأولاد فيها وهي دار النساء.
    أَبَوَاهُ أي يوسف ومريم وعبّر لوقا عنهما بالأبوين جرياً على ما شاع بين عامة الناس يومئذ بقطع النظر عن الحقيقة.
    لِيَصْنَعَا لَـهُ الخ أي أن يقدّماه للرب ويؤديا الفداء عنه.
    ٢٨ «أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ وَقَالَ».
    أَخَذَهُ لم يخبر أحد من الناس سمعان بميلاد ذلك الصبي وما كان من غرائب ذلك الميلاد إنما أنبأه بذلك الروح القدس. ولم يكتف بأن يراه حسب وعد الله بل مسكه بيده وحمله زيادة ليقينه ومحبة له وسروراً به.
    وَبَارَكَ ٱللّٰهَ أي سبح الله وشكره.
    ٢٩ «ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ».
    تكوين ٤٦: ٣٠ وفيلبي ١: ٢٣
    كان الذين نطقوا بكلمات الوحي الشعرية في أمر ميلاد المسيح خمسة وهم زكريا وأليصابات ومريم وسمعان وحنة.
    ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ أشار سمعان بهذا الكلام إلى أن حياته كانت مشقة وعبودية وأن موته راحة وعتق من خدمة عجز عن إتمامها لهرمه. وإلى أنه طال عمره لمجرد مشاهدة المسيح وأجيبت صلاته بتلك المشاهدة وأنجز له وعد الله ونال ما توقعه ولم يبق له شيء من المشتهيات في هذه الحياة ليرغب فيها. فرغب في الرحيل من هذا العالم إلى العالم الأبدي إذا أذن له الرب.
    حَسَبَ قَوْلِكَ أي الوحي الذي ذُكر في العدد السادس والعشرين.
    بِسَلاَمٍ أي مسرتهِ بمشاهدة المسيح ونوال مشتهاه واتخاذه ذلك علامة رضى الله به والاطمئنان في المستقبل.
    ولنا من ذلك أن الله لا يخيّب رجاء من يتكل على وعده. وأنه لا شيء يزيل رعب الموت ويهيء الإنسان للانطلاق من هذه الحياة مثل مشاهدة المسيح بعين الإيمان فادياً ومخلصاً.
    ٣٠ «لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ».
    إشعياء ٥٢: ١٠ وص ٣: ٦
    خَلاَصَكَ أي المخلص الذي وعدت به وأرسلته ليمنح الخلاص.
    ٣١ «ٱلَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ».
    جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ أي القسمين المذكورين في العدد الآتي. فعلم سمعان أن خلاص المسيح للبشر عموماً لا لليهود وحدهم.
    ٣٢ «نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ».
    إشعياء ٩: ٢ و٤٢: ٦ و٤٩: ٦ و٦٠: ١ و٢ و٣ ومتّى ٤: ١٦ وأعمال ١٣: ٤٧ و٢٨: ٢٨
    إن ما في هذا العدد شرح للخلاص في العدد الثلاثين.
    نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ أي أن المسيح يعلن للأمم ما لله وطريق الحياة الأبدية بدم نفسه. ويعبّر الكتاب عن الأمم بالجالسين في ظلمة الجهالة والخطية وأن المسيح هو شمس المعرفة والبرّ لهم (إشعياء ٩: ٢ و٦٠: ١ - ٦ وملاخي ٤: ٢).
    وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ كان المجد لإسرائيل لأنهم أعطوا المواعيد بمجيء المسيح أولاً. وأن المسيح وُلد منهم وأنه علّم وعمل بينهم معجزاته وبشرهم أولاً بخلاصه (ص ٢٤: ٤٧ ويوحنا ٤: ٢٢). وحُجب عنهم هذا المجد وقتياً لأنهم رفضوا مسيحهم لكنهم سوف يقبلون المسيح فتكون آخرتهم ممجدة.
    ٣٣ «وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ».
    يُوسُفُ وَأُمُّهُ أظهر لوقا صريحاً أن يوسف ليس بأبيه حقيقة. وهو قرينة جلية على المجاز في قوله «أبوه» في العدد السابع والعشرين.
    يَتَعَجَّبَانِ الخ علّة تعجبهما ما قاله سمعان في عظمة ذلك الطفل مع ما هو ظاهر من ضعفه. ويتبين من هذا أن يوسف ومريم لم يدركا كل معنى ما سمعاه من الملاك والرعاة. نعم فهما من ذلك أن الطفل سيكون عظيماً ولكنهما لم يفهما أنّ عظمته تبلغ المبلغ الذي أبانه سمعان. ويحتمل أنهما تعجبا أيضاً من معرفة سمعان الشيخ كل تلك الحقائق المتعلقة بيسوع عند أول مشاهدته إياه مع أنه غريب عنهما. ولعلهما تعجبا أيضاً من قول سمعان أن الأمم يشاركون اليهود في فوائد مجيء المسيح.
    ٣٤ «وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: هَا إِنَّ هٰذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ».
    إشعياء ٨: ١٤ وهوشع ١٤: ٩ ومتّى ٢١: ٤٤ ورومية ٩: ٣٢ و٣٣ و١كورنثوس ١: ٢٣ و٢٤ و٢كورنثوس ٢: ١٦ و١بطرس ٢: ٧ و٨، أعمال ٢٨: ٢٢
    وَبَارَكَهُمَا أي طلب بركة الله عليهما.
    وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ يظهر من هذا ان سمعان علم بالوحي حقيقة نسبة مريم إلى يسوع وهي أنها أمٌ عذراء له.
    وُضِعَ أي عُيّن يعني عيّنه الله.
    لِسُقُوطِ أي لأن يكون صخرة عثرة للبعض. وهم الذين لا يؤمنون به فيهلكون لأن آمالهم الدنيوية لا تُبلغ بواسطته. وذلك أن اليهود توقعوا منقذاً دنيوياً فخابوا. ووبخهم يسوع على كبريائهم وريائهم فأبغضوه ورفضوه ولذلك وقع الويل على مدينتهم وأمتهم.
    وَقِيَامِ أي لأن يكون على إنهاض للساقطين الذين يتضعون بالتوبة ويؤمنون به. وتبين من هذا ان المسيح «رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولٰئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ» (٢كورنثوس ٢: ١٦). (قابل هذا بما يأتي إشعياء ٨: ١٤ و١٥ ورومية ٩: ٣٣ و١كورنثوس ١: ٢٣ و١بطرس ٢: ٧ و٨).
    وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ هذا نبوءة باضطهاد اليهود للمسيح. أُنجزت بما جرى عليه مدة حياته كلها ولا سيما وقت صلبه. ومقاومتهم له اشتملت على شهادات الزور عليه واستهزائهم به وبغضهم له وقتلهم إياه.
    وكلما قاله الشيخ سمعان في المسيح تم أولاً في يهود عصره ثم تم في الأرض كلها من ذلك الوقت إلى اليوم أي انه أتى مخلصاً لكل الناس فرفضه بعضهم فهلك وقبله البعض مخلصاً. ولا يزال يقاوم اليوم بمقاومة تلاميذه ودينه.
    ٣٥ «وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ».
    مزمور ٤٢: ١٠ ويوحنا ١٩: ٢٥، يوحنا ٩: ٣٩
    يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ هذا مجاز حقيقته أنه يصيب مريم أشد الأحزان. هذا بعد أن سمعت قول الملاك أن مجيء المسيح يكون على فرح عظيم لجميع الشعب (ع ١٠) فلعلها انتظرت بذلك أن نسبتها إلى المسيح لا تكون إلا علّة فرح لها وما سمعته من سمعان هنا خلاف ما انتظرت. أما علّة حزنها الشديد فخيبة أملها أن يقبل اليهود ابنها ورفضهم أنه مسيحهم. وجاز ذلك السيف في نفسها عندما اجتهد رجال الناصرة أن يطرحوه من الجبل (لوقا ٤: ٢٩). وعندما جدف عليه الفريسيون بقولهم أنه يخرج الشياطين ببعلزبول (متّى ١١: ٤٦). وحين قبضوا عليه كمهيج فتنة وكمجدف. ولما حُكم عليه بالموت وعندما وقفت قرب الصليب وسمعت اليهود يهزأون به (يوحنا ١٩: ٢٥). وعندما أسلم الروح ودُفن في القبر.
    لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ الخ اللام هنا متعلقة بقوله وُضع في العدد الرابع والثلاثين.
    ادعى اليهود أنهم أولاد الله وتظاهروا بالخضوع له تعالى ولكن لما أتى المسيح الذي هو مُعلن صفات الله كُشف بإساءتهم إليه رياءهم وظهرت كبرياؤهم وطمعهم وبغضهم للآب (متّى ٢٣: ٢٥ - ٢٨).
    ويوافق هذا قول يسوع في اليهود بعد ذلك «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَـهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا ٱلآنَ فَلَيْسَ لَـهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ» (يوحنا ١٥: ٢٢).
    وتمتحن قلوب الناس وتعلن أفكارهم أصالحة هي أم شريرة بهذا السؤال وهو «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي ٱلْمَسِيحِ» (متّى ٢٢: ٤٢). وامتحنت أفكار اليهود بواسطة تعليم المسيح بينهم. فأعلن ما كان من الخير في قلوب العشارين والزناة تحت حجاب سيرتهم الرديئة. وما كان من الشر في قلوب الفريسيين الذين هم كالقبور المكلسة تحت حجاب الرياء وبشارة الصليب اليوم امتحان لكل إنسان تعلن به أفكاره الحقيقية أمتكلٌ على بره الذاتي أم شاعر بأنه خاطئ ومحتاج إلى برّ المسيح «لٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١: ٢٣ و٢٤).
    وما يستحق الالتفات إليه عدة الأسماء التي عبّر بها سمعان عن المسيح وهي تعزية إسرائيل (ع ٢٥) ومسيح الرب (ع ٢٦) وخلاص الله (ع ٣٠) ونور ومجد (ع ٣٢) وعلامة تقاوم (ع ٣٤).
    ٣٦، ٣٧ «٣٦ وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. ٣٧ وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لاَ تُفَارِقُ ٱلْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَاراً».
    أعمال ٢٦: ٧ و١تيموثاوس ٥: ٥
    ذُكرت حنة هنا لبيان حسن شهادتها إكراماً للمسيح وإثباتاً لدعواه. واسمها كاسم أم صموئيل النبي (١صموئيل ١: ٢).
    نَبِيَّةٌ دُعيت كذلك لأنه اتضح أنها كانت ملهمة من الروح القدس.
    بِنْتُ فَنُوئِيلَ ذُكر اسم أبيها ولم يذكر اسم زوجها.
    مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ هو أحد أسباط إسرائيل العشرة التي أسرها شلمناسر ملك أشور (٢ملوك ١٧: ٣ و٦). وينتج من هذا أن بعض هذا السبط حفظ جدول نسبته منذ السبي.
    مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ كما ذكر فيما بعده بالتفصيل وهو أنها عاشت مع زوج سبع سنين وبقيت أرملة أربعاً وثمانين سنة. فإذا أضفنا إلى ذلك ست عشرة سنة قبل زواجها وهو أقل ما يصح فرضه هنا كان عمرها مئة سنة وسبع سنين. وعلى هذا تكون قد ترملت في سن الثالثة والعشرين. فإذن تكون قد شاهدت أخذ بمبيوس القائد الروماني مدينة أورشليم وذلك قبل الميلاد بنحو ثلاث وستين سنة وبداءة حكم بيت هيرودس في اليهودية سنة تسع وثلاثين قبل الميلاد.
    لاَ تُفَارِقُ ٱلْهَيْكَلَ إن هذا القول لا يفيد أنها كانت تأكل وتنام في الهيكل بل أنها لم تغب عنه في وقت من أوقات الخدمة الدينية فكانت تحضر تقديم الذبائح صباحاً ومساءً وما فُرض خصوصاً من فروض الديانة في السبوت والأعياد. ويظهر من ذلك أنها لم تكن تبالي بغير أمور الديانة وأنها كانت تفضلها على كل ما سواها.
    بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ فُرض كلا هذين الأمرين في شريعة موسى على كل اليهود وقامت بها حنة أحسن قيام. ولا ريب في أنها كانت معروفة ومكرمة من جميع الناس لكبر سنها وتقواها.
    ٣٨ «فَهِيَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ».
    مرقس ١٥: ٤٣ وع ٢٥ وص ٢٤: ٢١
    كما شهد ليسوع سمعان من الرجال شهدت له حنة من النساء إذا اعترفت بأنه هو المسيح وسبّحت الله على إرساله إياه وبشرت به غيرها.
    ٱلرَّبَّ أي الله الآب.
    عَنْهُ أي عن يسوع أنه المسيح.
    ٱلْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ هذا يدل على أنه كان في أورشليم أناس أتقياء درسوا النبؤات وفهموا منها أنه قد اقترب وقت إتمامها بإتيان الفادي إلى أورشليم. والأرجح أن هؤلاء كانوا يأتون الهيكل في أوقات الصلاة فكان بذلك لحنة فرصة أن تكلمهم وتبشرهم بالمسيح.
    ٣٩ «وَلَمَّا أَكْمَلُوا كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ نَامُوسِ ٱلرَّبِّ، رَجَعُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ إِلَى مَدِينَتِهِمُ ٱلنَّاصِرَةِ».
    كُلَّ شَيْءٍ أي كل ما تطلبه شريعة موسى في مثل هذا الأمر وهي ثلاثة:

    • الأول: ختان الولد.
    • الثاني: تطهير الأم مع تقديمها التقدمة المعينة.
    • الثالث: تقديم الصبي في الهيكل مع فداء البكر وهو الشواقل المعينة كما ذكرنا آنفاً.


    رَجَعُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ هذا لا ينفي مضي مدة بين إتيانهم إلى الهيكل وذهابهم إلى الجليل. والأرجح أن ذلك لم يقع إلا بعد رجوعهم إلى بيت لحم وزيارة المجوس لهم وهربهم إلى مصر (متّى ٢: ١ - ١٢). وكل تلك الحوادث لم ير لوقا أن ذكرها من ضروريات قصده. وما ذكره يوافق ما قاله متّى (متّى ٢: ٢٢ و٢٣). ومثل ذلك ما جاء في خبر بولس في موضع من أنه أتى من دمشق إلى أورشليم (أعمال ٩: ٢٦) وجاء في موضع آخر أنه مرّ عليه ثلاث سنين منذ فارق دمشق إلى أن بلغ أورشليم (غلاطية ١: ١٧ و١٨). فلم يلهم لوقا الروح القدس أن يذكر حوادث مجيء المجوس وظهور النجم وقتل الأطفال والهرب إلى مصر.
    إِلَى مَدِينَتِهِمُ أي محل سكناهم قبل ميلاد المسيح (ص ٢٦: ٢٦ و٢٧). وأبان لوقا بقوله أن الناصرة مدينتهم علّة رجوعهم إليها. وهذا لم يظهر من قول متّى ولعلّ يوسف قصد أن يرجع إلى بيت لحم من مصر لكن منعه من ذلك خوفه من أرخيلاوس.
    ٱلنَّاصِرَةِ (انظر الشرح متّى ٢: ٢٣ ومرقس ١: ٩). وبقيت الناصرة وطن المسيح إلى أن بلغ سن الثلاثين وكانت نسبة المسيح إليها في عنوان صليبه (يوحنا ١٩: ١٩) ونسب يسوع نفسه إليها يوم كلم شاول المضطهد (أعمال ٢٢: ٨).

    حداثة يسوع ع ٤٠ إلى ٥٢


    ٤٠ «وَكَانَ ٱلصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ عَلَيْهِ».
    ص ١: ٨٠ وع ٥٢
    يتضح من هذه الآية أن ليسوع نفساً بشرية كما أن له جسداً بشرياً. وهذا خلاف ما ذهب إليه أبوليانوس من أنه لم يكن للمسيح نفس بشرية بل أن روحه الكلمة الأزلي أخذ محل النفس في جسده.
    يَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ أي أن عقله كان يتسع في المعرفة والعلم مع نمو جسده.
    واتساع عقله تدرجاً لا ينفي لاهوته كما أنه لا ينفيه نموه في القامة والقوة. فاختبر يسوع في حياته كل أحوال الإنسان إذ كان طفلاً ثم صبياً ثم شاباً ثم رجلاً كامل السن لكي يشعر مع جميع الناس صغاراً وكباراً. ولم يكن بين يسوع وأترابه فرق إلا بأنه كان كامل القداسة.
    نِعْمَةُ ٱللّٰهِ عَلَيْهِ أي رضى الآب به وبركته عليه.
    ٤١ «وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ».
    خروج ٢٣: ١٥ و١٧ و٣٤: ٢٣ وتثنية ١٦: ١ و١٦
    كان على ذكور اليهود شرعاً أن يأتوا أورشليم ثلاث مرات كل سنة في عيد الفصح وعيد الخمسين وعيد المظال (خروج ٢٣: ١٤ - ١٧ وتثنية ١٦: ١٦). ولم يكن ذلك مشروعاً على النساء ولا ممنوعاً والأرجح أن النساء التقيات كثيراً ما رافقن أزواجهن إلى هنالك (١صموئيل ١: ٧ و٢٢ و٢٤). وقال هليل الرباني المشهور بوجوب أن تحضر النساء في أورشليم عيد الفصح كل سنة. والأرجح أن مريم قصدت أورشليم حباً لله ولبيته لا طوعاً لأمر ذلك المعلم اليهودي. فإن كان يسوع قد تربى تربية أولاد عصره من اليهود كما يُتوقع فلا بد من أنه لبس عندما بلغ سن الثلاث ثوباً على هدب ذيله عصابة من أسمانجوني حسبما أمر الله (عدد ١٥: ٣٨ - ٤١ وتثنية ٢٢: ١٢) وتعلّم أولاً من أمه.
    ولما بلغ سن الخمس استظهر بعض أجزاء الناموس «كالشمعة» (تثنية ٢: ٤) و «الهليل» (مزمور ١١٤ - ١١٨ ومزمور ١٣٦).
    ولما بلغ سن الثانية عشرة مارس كل طقوس الشريعة الموسوية كإتيان أورشليم في الأعياد وما شاكل ذلك وأخذ يتعلّم صناعة كسائر أولاد اليهود من أغنياء وفقراء وحُسب من ذلك الوقت «ابن الناموس».
    أما كيفية حفظ عيد الفصح فقد سبق الكلام عليها في شرح بشارة متّى (متّى ٢٦: ٢).
    ٤٢ «وَلَمَّا كَانَتْ لَـهُ ٱثْنَتَا عَشَرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ ٱلْعِيدِ».
    صَعِدُوا أي يوسف ومريم ويسوع. ويستنتج من هذا أن يسوع لم يصعد إلى أورشليم منذ ختانه وتقديمه للفداء. وكان في ذلك الوقت قد بلغ السن الذي اعتاد اليهود أن يأخذوا من بلغه من أولادهم إلى العيد في أورشليم ليشاركوهم في إتمام الفروض.
    وكانت المسافة بين الناصرة وأورشليم نحو ثمانين ميلاً وكان يقطعها الفارس في ثلاثة أيام أو أربعة. وكان المسافرون في مثل ذلك الوقت ألوفاً. والحادثة الآتية هي الحادثة الوحيدة التي ذُكرت منذ إتيانهم من مصر إلى الناصرة إلى أن بلغ سن الثلاثين وابتدأ يبشر.
    ٤٣ «وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا ٱلأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا ٱلصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا».
    كَعَادَةِ ٱلْعِيدِ أي ممارسة العيد في أورشليم.
    أَكْمَلُوا ٱلأَيَّامَ هي سبعة دون يوم الاستعداد وبه ثمانية كما كانت تُحسب أحياناً. وكانوا يأكلون خروف الفصح في اليوم الأول وخبز الفطير في الأيام السبعة ولذلك سُمي عيد الفصح أحياناً بعيد الفطير (خروج ١٢: ١٥ و١٧ ولاويين ٢٣: ٥ و٦ وتثنية ١٦: ٢).
    بَقِيَ... ٱلصَّبِيُّ يَسُوعُ لم يذكر لوقا كيف كان ذلك. ولا يلزم من هذا أن يوسف ومريم لم يعتنيا به الاعتناء الواجب. والأرجح أنه كان معهم جماعة من أقربائهم وأصحابهم الذين أتوا معهم من الناصرة هم وأولادهم فكان يوسف ومريم يتركان يسوع بينهم. ولا ريب في أن يسوع كان أكثر إدراكاً ونباهة من سائر أترابه حتى لم يكن محتاجاً إلى من يعتني به كغيره.
    ٤٤، ٤٥ «٤٤ وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ ٱلرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ ٱلأَقْرِبَاءِ وَٱلْمَعَارِفِ. ٤٥ وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ».
    لا بد من أنه كان الراجعون من أورشليم إلى الناصرة قافلة كبيرة ولذلك لم يستطيعا في أول يوم وهما مسافران في الطريق أن يتحققا أن يسوع ليس معهم ولكن عند نزول القافلة مساء واجتماع كل عائلة على حدتها اتضح لهما أنه ليس في القافلة. فرجعا في الغد يسألان عنه كل من رأياه في الطريق وفحصا عنه في أورشليم يوم وصولهما ولم يجداه إلا صباح غده وهو اليوم الثالث فيتضح من ذلك أنه ليس لواحد منهما قوة إدراك غير عادي وإلا لم يتعبا هكذا.
    ٤٦ «وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي ٱلْهَيْكَلِ، جَالِساً فِي وَسْطِ ٱلْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ».
    فِي ٱلْهَيْكَلِ أي في أحد أروقة دار النساء حيث اعتاد علماء اليهود أن يعلّموا الناس مجاناً ويفسروا الشريعة ويتباحثوا في المسائل الدينية.
    ٱلْمُعَلِّمِينَ وهم الربانيون من كتبة وفريسيين مثل غمالائيل «معلم الناموس» (أعمال ٥: ٣٤). وكانوا «يجلسون على كرسي موسى» كأنهم خلفاؤه (متّى ٢٣: ٢) ويجلس التلاميذ عند أقدامهم (أعمال ٢٢: ٣).
    وأظهر يسوع بذهابه إلى الهيكل عندما تُرك لنفسه وحضوره مكان التعاليم الدينية أي المواضيع التي تلذ له أعظم اللذة.
    يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ كان طريق السؤال والجواب مما اختاره المعلمون للتعليم في تلك الأيام فكان التلميذ يسأل عما يجهل والمعلم يسأل ليعرف قدر ما عند التلميذ ويبني كلامه على الجواب فيزيل الخطأ ويجبر النقصان. ولا بد من أنه كان يعرض في مثل تلك المباحثة مسئلة المسيح المنتظر وماهية مملكته وتفسير النبوّات المتلعقة به. ولا ريب في أن يسوع أظهر حينئذ كل ما يليق من التواضع والإكرام لمن هم أكبر منه سناً وعلماً.
    ٤٧ «وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ».
    متّى ٧: ٢٨ ومرقس ١: ٢٢ وص ٤: ٢٢ و٣٢ ويوحنا ٧: ١٥ و٤٦
    لا ريب في أن المسيح أظهر بأسئلته وأجوبته قوة عقل وصحة علم لم يشاهد الناس نظيرها من أولاد مثل سنه. وكان ذلك شعة من النور العظيم الذي بدأ به في تعليمه الشعب فيما بعد (متّى ١٣: ٥٤ ويوحنا ٧: ٤٦).
    ٤٨ «فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ ٱنْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَـهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!».
    ٱنْدَهَشَا لعلّ سبب ذلك أنهما لم يتوقعا أن يجداه مطمئناً بل انتظروا أن يجداه قلقاً خائفاً من بقائه منفرداً عن أهله لكنهما رأياه هادئاً مسروراً بمعاشرة من هم أكبر منه خلافاً لما يتوقع من ابن اثنتي عشرة سنة. ويحتمل أنهما أصغيا إلى كلماته في خطاب المعلمين وتعجبا من حكمته التي لم يعهدا مثلها منه وإن كانا قد اختبرا قبل ذلك أنه حكيم.
    لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا أي لماذا بقيت ونحن قد ذهبنا. ولم يكن من عجب بأن تسأل مريم ابنها هذا لو كان كسائر الأولاد لكنها غفلت عن كل ما اوحي إليها به في شأن يسوع. ولا بد من أنه كان في سؤالها إياه شيء من التوبيخ بناء على ظنها أنه كان يجب عليه أن يلازمهما ولا يفتكر إلا فيهما.
    أَبُوكَ هذا يدل على أن مريم اعتادت في مخاطتبها يسوع أن تسمي يوسف أباه. وأتت ذلك جرياً على عادة الناس لأنهم لم يعلموا حينئذ أن الله أبوه.
    مُعَذَّبَيْنِ كانا معذبين لأنهما جهلا أين هو وخافا من أن يعرض له سوء أو أنه في حاجة أو ضيق.
    ٤٩ «فَقَالَ لَـهُمَا: لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟».
    يوحنا ٢: ١٦
    لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي هذا السؤال رد على ما في سؤال مريم من التوبيخ. ولم يرد الاستفهام عن مطلق طلبهما إياه بل عن طلبه معذبين وأنها لو تأملت عرفت أن لا داعي لذلك أي أنها لو ذكرت كل حوادث ميلاده لفطنت أنه لا بد من أن الله أباه يعتني به وأنه يكون في بيت أبيه.
    أَلَمْ تَعْلَمَا هذه العبارة أول كلام نقله الكتاب عن لسان يسوع. ومن الغريب أن أبويه لم يفهما معناها (ع ٥٠). وكان ما سمعاه من كلام الإعلان الإلهي كافياً ليمكنهما من فهمه وفي هذا السؤال أربعة مقاصد:

    • الأول: أنه كان يجب على أمه ان تعرف أين يوجد لأنه كان لها وسائط كافية لذلك بما عهدته من الوحي.
    • الثاني: التصريح بنسبته إلى الله أي بيان أنه أبوه مقابلة لقول مريم «أبوك». فعلم أن يوسف ليس بأبيه وأن أباه هو الله وأنه أتى من السماء وأراد أن تذكر أمه هذا الأمر.
    • الثالث: أنه أظهر وقتئذ علمه العمل الذي أتى العالم ليتممه وأنه يجب عليه أن يهتم به ويستعد له مع أنه بقي بعد ذلك ثماني عشرة سنة قبل أن يبتدئه جهاراً.
    • الرابع: أنه حسب بيت الله بيت أبيه (يوحنا ٢: ١٦) ومباحثته هناك في كلام الله عمل «ما هو لأبيه».


    ومعنى قوله «في ما لأبي» العمل الذي أرسله الآب ليتممه. وهذا وفق قوله بعد ذلك «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَـهُ» (يوحنا ٤: ٣٤).
    ٥٠ «فَلَمْ يَفْهَمَا ٱلْكَلاَمَ ٱلَّذِي قَالَـهُ لَـهُمَا».
    ص ٩: ٤٥ و١٨: ٣٤
    نستغرب عدم فهم يوسف ومريم معنى يسوع بعد ما عرفاه من الإعلان الإلهي (انظر ص ١: ٣٢ و٣٥ ومتّى ١: ٢). وإذا كان أبواه مع ذلك لم يفهما مراده فلا عجب من أن تلاميذه لم يدركوا معاني تعاليمه.
    ٥١ «ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعاً لَـهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ فِي قَلْبِهَا».
    دانيال ٧: ٢٨ وع ١٩
    ثُمَّ نَزَلَ... وَكَانَ خَاضِعاً لَـهُمَا هذا مثال لكل الأولاد في وجوب الطاعة لوالديهم. وذُكر خضوعه لأبويه الأرضيين دفعاً لما يتوهم من بيانه أن الله أبوه الوحيد أنه أنكر نسبته إلى أنسبائه في الجسد لأن اعتباره لتلك النسبة جزء من «تكميل كل بر». قال بولس «لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْوَاحِدِ جُعِلَ ٱلْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هٰكَذَا أَيْضاً بِإِطَاعَةِ ٱلْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ ٱلْكَثِيرُونَ أَبْرَاراً» (رومية ٥: ١٩). فالمسيح بإطاعته للآب السماوي وإطاعته لأبويه الأرضيين مدة ثلاث وثلاثين سنة قام بالطاعة التي ذكرها بولس. وأتى كل ذلك لأجلنا.
    وهذا آخر ذكر ليوسف في بشارة لوقا ونعرف من بشارتي متّى ومرقس أنه كان نجاراً وأن يسوع عمل معه (متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣). والمظنون أنه مات قبل أن ابتدأ يسوع يبشر لأنه بعد ذلك لم يُذكر من عائلته سوى أمه وإخوته (يوحنا ٢: ١٢).
    تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذِهِ الخ وهذا كقوله في الآية التاسعة عشرة أي أنها كانت تذكرها جميعاً وتقابلها بما سبق لها من الإعلانات والأنباء بيسوع من الملاك وأليصابات وزكريا والرعاة والمجوس والشيخ سمعان وحنة النبية وتتأمل فيها كلها. وهذا مما يقوي ثقتنا بأن لوقا نقل هذا الخبر عن لسان مريم نفسها.
    ٥٢ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ».
    هذه الآية تابعة للآية الأربعين التي تشتمل على أنباء اثنتي عشرة سنة من حياة يسوع على الأرض. والآية التي هنا تشتمل على أنباء ثماني عشرة سنة منها.
    فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ أي أن ابن الله يسوع المسيح كان باعتبار أنه إنسان يتقدم جسداً وعقلاً كسائر الناس.
    وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ أي أنه كان يظهر من الأخلاق الجميلة والصفات الحسنة والأعمال الصالحة ما جعل الله يسر به ويمنح له علامات المسرة بما وهبه له من المواهب الجسدية والعقلية والروحية كما شهد له عند معموديته (ص ٣: ٢٢). وما ذُكر جعله محبوباً إلى الناس لأنه لم يبتدئ حينئذ يوبخ الناس على خطاياهم ليهيج غضبهم عليه كما وقع بعد ذلك (يوحنا ٧: ٧). وانتظار يسوع وصبره ثلاثين سنة قبل ان ابتدأ التبشير مثال لنا في التوقع والصبر. وكان في تلك المدة يعمل مشيئة الله لأجلنا بإطاعته شريعة الله (غلاطية ٤: ٤) وتنازله (فيلبي ٢: ٧) وافتقاره (٢كورنثوس ٨: ٩ ومتّى ٨: ٢٠) وطاعته لأبويه (ع ٥١) وطهارته (١بطرس ٢: ٢٢).


    الأصحاح الثالث


    خدمة يوحنا المعمدان ع ١ إلى ١٤


    ١ «وَفِي ٱلسَّنَةِ ٱلْخَامِسَةِ عَشَرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ، إِذْ كَانَ بِيلاَطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ وَالِياً عَلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى ٱلْجَلِيلِ، وَفِيلُبُّسُ أَخُوهُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى إِيطُورِيَّةَ وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ، وَلِيسَانِيُوسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى ٱلأَبِلِيَّة».
    طِيبَارِيُوسَ قَيْصَر هو أمبرطور الرومانيين كان شريكاً لعمه أوغسطس قيصر في الملك سنتين قبل موت أوغسطس أي ابتدأ يملك سنة ٧٦٥ من تأسيس رومية وابتدأ يملك وحده سنة ٧٦٧. والأرجح أن لوقا يذكره في الوقت الذي كان فيه شريكاً لأغسطس الذي كان ملكاً يوم ميلاد المسيح (ص ٢: ١). ومات هيرودس سنة ٧٥٠ لتأسيس رومية والأرجح أن ذلك كان في آخر السنة التي ولد فيها المسيح. وكان يسوع في سن الخامسة عشرة حين ابتدأ طيباريوس يملك. وكان سن المسيح في المدة التي أشار إليها لوقا في هذا الأصحاح نحو ثلاثين سنة (ع ٢٣). وكانت مدة ملك طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة وكان خبيثاً ظالماً وسُميت مدينة طبرية من اسمه. إكراماً له.
    بِيلاَطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ هو والي سورية تولاها منذ بداءة سنة ٢٧ ب. م إلى نهاية سنة ٣٦ ب . م. وعُزل أرخيلاوس بعد أن ملك عشر سنين على اليهودية (متّى ٢: ٢٢). فأرسل أوغسطس والياً رومانياً على اليهودية بدلاً من أرخيلاوس. وكان بيلاطس الوالي السادس على سورية (انظر الشرح متّى ٢٧: ٢).
    وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ وهو هيرودس أنتيباس بن هيرودس الكبير وملثاسي (متّى ١٤: ١). وهو قاتل يوحنا المعمدان. وهو الذي سخر هو وعسكره بالمسيح عندما أرسله إليه بيلاطس وقت محاكمته (لوقا ٢٣: ٦ - ١١). وكان رئيساً على الجليل اثنتين وأربعين سنة.
    فِيلُبُّسُ أَخُوهُ هو فيلبس الثاني ابن هيرودس الكبير وامرأته كليوبترا (وهي يهودية من أورشليم). تزوج سالومي بنت فيلبس الأول وهيروديا. وسالومي هي التي رقصت وأخذت رأس يوحنا المعمدان أجرة رقصها. وتولى الرئاسة ستاً وثلاثين سنة. وحُسب أفضل أولاد هيرودس وهو الذي بنى قيصرية فيلبس التي اسمها اليوم بانياس وجدد بناء بيت صيدا وسماها يولياس.
    إِيطُورِيَّةَ هي البلاد المحيطة بجبل حرمون أي جبل الشيخ وسمّيت أيطورية نسبة إلى يطور بن إسماعيل بن إبراهيم (تكوين ٢٥: ١٥).
    وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ هي البلاد التي على الجنوب الشرقي من جبل الشيخ وأيطورية وكانت تسمى قبلاً أرجوب (تثنية ٣: ١٣ و١٤) واسمها اليوم اللجا وهي جزء من حوران.
    وَلِيسَانِيُوسُ الأرجح أنه كان ابن ليسانيوس ملك خلخيس أو حفيده. وهذا الملك ملك ستين سنة قبل الوقت المشار إليه هنا وقتله أنطونيوس منذ أربع وثلاثين سنة ق.م وكان أوغسطس قيصر يحب أن يأخذ أولاد الذين عزلهم خصماه أنطونيوس وكراسوس وقتلاهم ويوليهم ولايات والديهم.
    ٱلأَبِلِيَّةِ هي كورة صغيرة شمالي دمشق على جانبي نهر بردى وعلى أمد سبع ساعات منها فهي بين تلك المدينة وبعلبك. والمرجح أنها كانت جزءاً من خلخيس.
    ٢ «فِي أَيَّامِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا، كَانَتْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ».
    يوحنا ١١: ٤٩ و٥١ و١٨: ١٣ وأعمال ٤: ٦
    رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا (انظر الشرح متّى ٢٦: ٢).
    لم تكن شريعة موسى تسمح بسوى رئيس كهنة واحد في وقت واحد. وكان حنان حما قيافا وتولى رئاسة الكهنة قبله فعزله الرومانيون بعد أن ولوا غيره وعزلوه مراراً ثم ولوا قيافا (يوحنا ١٨: ١٣). وكان حنان أعظم من قيافا سناً وحكمة وتأثيراً فلذلك اعتبره اليهود رئيس كهنة حقاً واعتبر الرومانيون قيافا كذلك شرعاً. وبقيت القوة لحنان وكان له أحياناً الاسم (كما هنا وفي أعمال ٤: ٦) ولم يكن لقيافا سوى الاسم وبعض القوة.
    كَانَتْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ عَلَى كان ذلك في العهد القديم إشارة إلى إلهام الروح القدس (١ملوك ١٢: ٢٢ و١أيام ١٧: ٣ وإرميا ١: ١ وحزقيال ٦: ١ وهوشع ١: ٢ ويونان ١: ١). وغاية كون كلمة الله على يوحنا أخباره بأن يبتدئ في خدمته جهاراً.
    يُوحَنَّا (انظر الشرح متّى ٣: ١).
    زَكَرِيَّا (ص ١: ٥).
    فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أي برية اليهودية (ص ١: ٨٠).
    ٣ «فَجَاءَ إِلَى جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنِّ يَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا».
    متّى ٣: ١ ومرقس ١: ٤، ص ١: ٧٧
    فَجَاءَ أي من منفرده في البرية.
    ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنِّ على جانبي نهر الأردن قرب مصبه في بحيرة لوط. والكلام هنا يدل على أن يوحنا كان يجول للكرازة في تلك الكورة غير مقيم بمكان واحد.
    بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ أي المعمودية التي هي علامة التوبة ورمز الطهارة. والمراد بها الإشارة إلى أن الذين اعتمدوا تطهروا من الخطايا والضلالات السالفة وأخذوا يحيون حياة جديدة (متّى ٣: ١ - ١١ ومرقس ١: ٤ - ٦). ولم تكن المعمودية الخارجية ذات قيمة إلا بما سبقها واقترن بها من التوبة الحقيقية القلبية. وكانت مقترنة بالاعتراف كما أبان متّى ومرقس.
    لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا أي أن المعمودية كانت علامة المغفرة بالنظر إلى الله كما أنها كانت علامة التوبة بالنظر إلى الإنسان.
    ٤ - ٦ «٤ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ إِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، ٱصْنَعُوا سُبُلَـهُ مُسْتَقِيمَةً. ٥ كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ، وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَتَصِيرُ ٱلْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً، وَٱلشِّعَابُ طُرُقاً سَهْلَةً، ٦ وَيُبْصِرُ كُلُّ بَشَرٍ خَلاَصَ ٱللّٰهِ».
    إشعياء ٤٠: ٣ ومتّى ٣: ٣ ومرقس ١: ٣ ويوحنا ١: ٢٣، مزمور ٩٨: ٢ وإشعياء ٥٢: ١٠ وص ٢: ١٠
    سبق شرح مثل ذلك في بشارة متّى (متّى ٣: ٣). وبيان التشبيه في هذه الآيات هو أن يوحنا يهيء الطريق لإتيان المسيح بمناداته لليهود ان ينزعوا من قلوبهم المعاصي والكبرياء والعناد والكفر كما أن رُسل الملوك يسيرون أمامهم ليأمروا الشعب بتمهيد الطرق بإزالة ما فيها من موانع المرور. والكلام هنا مقتبس من نبوءة إشعياء (إشعياء ٤٠: ٣ - ٥). والعدد مقتبس معنىً لا لفظاً وهو أكثر موافقة للآية ١٠ من ص ٥٢ من تلك النبوءة. وقوله «خلاص الله» في العدد السادس وفق قوله «خلاصك» في ع ٣٠ من ص ٢ من هذه البشارة.
    ٧ - ٩ «٧ وَكَانَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ خَرَجُوا لِيَعْتَمِدُوا مِنْهُ: يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟ ٨ فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ. وَلاَ تَبْتَدِئُوا تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإبْرَاهِيمَ. ٩ وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ».
    متّى ٣: ٧، متّى ٧: ١٩
    (انظر الشرح متّى ٣: ٧ - ١٠). ولا فرق بين كلام البشيرين إلا أن الذين أشار إليهم لوقا بقوله «للجموع» أشار إليهم متّى بقوله «للفريسيين والصدوقيين». ولم يحتج لوقا إلى ذلك التفصيل لأنه كتب إلى الأمم. وخص يوحنا خطابه بالفريسيين والصدوقيين لأنهم كانوا أكثر ميلاً إلى قبول الطقس الجديد أي المعمودية دون السيرة الجديدة المطلوبة. وأشار بقوله «اصنعوا أثماراً تليق بالتوبة» إلى أن إصلاح السيرة هو البرهان الوحيد على التوبة الحقيقية وذلك وفق قول إشعياء (إشعياء ١: ١٠ - ٢٠).
    ١٠ «وَسَأَلَـهُ ٱلْجُمُوعُ: فَمَاذَا نَفْعَلُ؟».
    أعمال ٢: ٣٧
    أي ماذا يجب أن نفعل لكي نهرب من غضب الله الآتي. وهذه مثل ما جاء في سفر الأعمال (أعمال ٢: ٣٧). أو ما هي الأثمار التي ينبغي أن نصنعها (ع ٨).
    ١١ «فَأَجَابَ: مَنْ لَـهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَـهُ، وَمَنْ لَـهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هٰكَذَا».
    ص ١١: ٤١ و٢كورنثوس ٨: ١٤ ويعقوب ٢: ١٥ و١٦ و١يوحنا ٣: ١٧ و٤: ٢٠
    ذكر يوحنا هنا من علامات التوبة الحقيقية إنكار الذات وعمل الخير للغير. ولعله ذكر ذلك دون غيره لأن محبة الذات والطمع خطيئتان مال إليها اليهود أكثر من ميلهم إلى سواهما. وعبّر بالثياب والطعام عن كل احتياجات الإنسان الجسدية (انظر متّى ٥: ٤٢). ويظهر من هذا الكلام أن يوحنا لم يكتف بممارسة طقس المعمودية واستماع اعتراف الشعب جهاراً فأوصاهم بالأعمال الضرورية للبرهان على صحة توبتهم.
    ١٢ «وَجَاءَ عَشَّارُونَ أَيْضاً لِيَعْتَمِدُوا وَسَأَلُوهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا نَفْعَلُ؟».
    متّى ٢١: ٣٢ وص ٧: ٢٩
    العشارون هم جباة الجزية للرومانيين (متّى ٥: ٤٦). ولم يقبل وظيفتهم أحد من اليهود إلا أدناهم فكانوا محتقرين مبغضين وكانت أسماؤهم تُذكر غالباً مع الخطأة لكراهة وظيفتهم وظلم أعمالهم.
    ١٣ «فَأَجَابَ: لاَ تَسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ».
    ص ١٩: ٨
    لم يأمرهم يوحنا أو ينصحهم أن يتركوا تلك الوظيفة مع أنها مما كرهه الشعب لأنه حيثما تكن حكومة فلا بدّ من وجود جباة الجزية اللازم لنفقاتها. فنهاهم أن يطلبوا من الناس شيئاً فوق ما عينه الحاكم. وفي هذا ما يدل على أنهم كانوا قد اعتادوا ما نهاهم عنه.
    ١٤ «وَسَأَلَـهُ جُنْدِيُّونَ أَيْضاً: وَمَاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟ فَأجَابَ: لاَ تَظْلِمُوا أَحَداً، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَٱكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ».
    خروج ٢٣: ١ ولاويين ١٩: ١١
    جُنْدِيُّونَ هم ليسوا من الرومانيين لأن الرومانيين لا يأتون ليسمعوا كرازة المعمدان ولا يرغبون في معموديته. فإذاً كانوا إما من جند هيرودس أنتيباس رئيس الجليل أو شرطاً من اليهود يحافظون على الكورة التي كان يوحنا فيها. ونعرف مما نهاهم يوحنا عنه الخطايا التي كانوا يرتكبونها. ولم يقل ما يستدل منه على أن وظيفة العسكر محرمة.
    لاَ تَظْلِمُوا أَحَداً نهاهم عن الظلم لأنهم كانوا بسبب وظيفتهم عرضة لأن يأخذوا من الرعية أكثر مما فُرض عليها أو أن يسلبوا شيئاً من أموالها فيثقلوا بذلك عليها وقت السلم.
    وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ أي لا تنمّوا على أحد وتسعوا به أو تشتكوا عليه للحاكم بما لم يرتكبه. وكانوا عرضة لذلك بغية أن يأخذوا من المتهمين رشوة لإطلاقهم أو ثواباً من الحاكم كأنهم جواسيس له.
    ٱكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ أي اقتنعوا بأجركم. وكانت أجرة الجندي وقتئذ نحو دينار في اليوم أي نحو ٤ غروش. وكان عليهم أن ينفقوا منها على طعامهم. وكثيراً ما كان الجنود يعصون حينئذ على رؤسائهم من قلة أجرهم وعدم تأديتها لهم في أوقاتها.
    وأمر يوحنا كل صنف من الناس بإصلاح سيرته بياناً لخلوص توبته.

    إنباء يوحنا بمجيء المسيح ع ١٥ إلى ١٨


    ١٥ «وَإِذْ كَانَ ٱلشَّعْبُ يَنْتَظِرُ، وَٱلْجَمِيعُ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ ٱلْمَسِيحُ».
    كان الناس يومئذ متوقعين مجيء المسيح فجراءة يوحنا وسلطانه على قلوب الناس حملا كثيرين منهم على أن يقولوا أليس هو المسيح المنتظر أي أليس أعماله وفق النبوءات المتعلقة بالمسيح. وما قيل هنا يوافق ما قيل في بشارة يوحنا عن مجيء لجنة من أورشليم لتسأل يوحنا «من أنت» (يوحنا ١: ١٩).
    ١٦ - ١٨ «١٦ قَالَ يُوحَنَّا لِلْجَمِيعِ: أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ، وَلٰكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ. ١٧ ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ ٱلْقَمْحَ إِلَى مَخْزَنِهِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ. ١٨ وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَانَ يَعِظُ ٱلشَّعْبَ وَيُبَشِّرُهُمْ».
    متّى ٣: ١١، ميخا ٤: ١٢ ومتّى ١٣: ٣٠
    سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ٣: ١١ و١٢). وخلاصة جواب يوحنا ثلاثة أشياء:

    • الأول: أنه ليس هو المسيح.
    • الثاني: قرب مجيء المسيح وظهوره.
    • الثالث: شرح عمل المسيح. ومن ذلك فصل الأخيار عن الأشرار وخلاص الأولين وهلاك الآخرين.


    والفرق بين عمل المسيح وعمل يوحنا هو أن عمل الأول عمل السيد وعمل الثاني عمل العبد وأن معمودية الأول التي هي معمودية الروح أعظم من معمودية الثاني التي هي معمودية الجسد كما أن قوة النار على التطهير أعظم من قوة الماء عليه.

    سجن يوحنا المعمدان ع ١٩ و٢٠


    ١٩، ٢٠ «١٩ أَمَّا هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ فَإِذْ تَوَبَّخَ مِنْهُ لِسَبَبِ هِيرُودِيَّا ٱمْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، وَلِسَبَبِ جَمِيعِ ٱلشُّرُورِ ٱلَّتِي كَانَ هِيرُودُسُ يَفْعَلُهَا، ٢٠ زَادَ هٰذَا أَيْضاً عَلَى ٱلْجَمِيعِ أَنَّهُ حَبَسَ يُوحَنَّا فِي ٱلسِّجْنِ».
    متّى ١٤: ٣ ومرقس ٦: ١٧
    هِيرُودُسُ هو أنتيباس رئيس الجليل (ع ١).
    كان سجن يوحنا بعد تعميد يسوع ولكن استحسن لوقا ذكره قبل ذلك ليقرن نبأ السجن بنبإ علته التي هي توبيخ يوحنا لهيرودس.
    زَادَ هٰذَا أَيْضاً عَلَى ٱلْجَمِيعِ أشار بقوله الجميع إلى عدة حوادث لم يذكرها مثل استماع هيرودس ليوحنا في أول أمره بالسرور وفعله أموراً كثيرة بمقتضى نصح يوحنا وأن هيروديا هيجت قساوته على يوحنا إلى غير ذلك مما ذُكر في بشارة مرقس (مرقس ٦: ١٧ - ٢٠).
    وأما قتل يوحنا فذكره لوقا في ص ٩: ٩.

    معمودية يسوع ع ٢١ و٢٢


    ٢١، ٢٢ «٢١ وَلَمَّا ٱعْتَمَدَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضاً. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي ٱنْفَتَحَتِ ٱلسَّمَاءُ، ٢٢ وَنَزَلَ عَلَيْهِ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَائِلاً: أَنْتَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ!».
    متّى ٣: ١٧ ويوحنا ١: ٣٢
    (انظر الشرح متّى ٣: ١٣ - ١٧ ومرقس ١: ٩ - ١١)
    جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ أي الجماعات التي كانت تأتي على التوالي كل يوم.
    إِذْ كَانَ يُصَلِّي لم يذكر أحد من البشيرين سوى لوقا أن يسوع صلّى قبل أن اعتمد وحل الروح القدس عليه. ومما اختص به لوقا محبته أن يذكر في بشارته صلوات يسوع كثيراً (ص ٦: ١٢ و٩: ١٨ و١٩ و٢٢: ٣٢ و٤١ و٢٣: ٢٦)،
    بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ أي بصورة حمامة منظورة. والأرجح أنه شاهدها كل من كان هنالك. وكانت الحمامة إشارة إلى الطهارة ولذلك اتخذ الروح هيئتها علامة لحضوره إشارة إلى أن الطهارة من صفات المسيح الخاصة وأنها تظهر في أعماله (انظر الشرح في ذلك متّى ٣: ١٦).

    نسب يسوع ع ٢٣ إلى ٣٨


    ٢٣ «وَلَمَّا ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَـهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ بْنِ هَالِي».
    عدد ٤: ٣ و٣٥ و٣٩ و٤٣ و٤٧، متّى ١٣: ٥٥ ويوحنا ٦: ٤٢
    نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً في مثل هذا السن ابتدأ اللاويون يمارسون وظيفتهم لأنه حُسب سن الكمال جسداً وعقلاً (عدد ٤: ٣ و٢٣ و٣٠ و٣٥).
    عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ الخ (انظر الشرح متّى ١: ١ - ١٣ وكتاب اتفاق البشيرين فصل ١٣). وكُتب في علّة الفرق بين نسب يسوع في بشارة متّى ونسبه في بشارة لوقا مجلدات كثيرة. ولا حاجة لنا هنا إلى سوى القول بأن الأرجح أن نسبه في بشارة متّى من جهة يوسف الذي حسبه اليهود أباً ليسوع. وأن نسبه في بشارة لوقا من جهة أمه. وعلّة ذلك أن متّى كتب إنجيله لإفادة اليهود فأراد أن يثبت لهم حق يسوع شرعاً في أن يدعى ابن داود وأن لوقا كتب للأمم فأراد أن يبرهن لهم أن يسوع من نسل داود بواسطة أمه وأنه إنسان تام لاتصال نسبه بآدم. والذي يؤيد ذلك ثلاثة أمور:

    • الأول: قول لوقا «عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ» وهذا دليل على أن يسوع ليس ابن يوسف حقيقة. فلا يتوقع أن يبين لوقا بعد ذلك نسب يوسف ويتتبعه إلى اثنين وسبعين سلفاً من الناس وينتهي بالنسبة إلى الله وذلك بعد أن بيّن في أول كلامه أن لا صحة لكون يسوع ابن يوسف وأن ذلك ليس إلا ظناً. فإن قيل لماذا لم يقل لوقا أن يسوع ابن مريم بنت هالي الخ. قلنا لم تجر العادة في جداول أنساب اليهود ولا في جداول أنساب اليونان أن يُنسب الإنسان إلى أمه ولكنها جرت بين العرب.
    • الثاني: أنه مما نتوقع طبعاً أن نجد في كتاب الله (علاوة على ما يقنع اليهود أن ليسوع الحق الشرعي في أن يُدعى ابن داود) دليلاً قاطعاً أن يسوع حسب الجسد من نسل داود ومن نسل إبراهيم حقيقة كما وعد الله. فمجرد نسبته إلى يوسف لا تثبت ذلك لأن يسوع ليس ابن يوسف حقيقة. فنحتاج لإثبات ذلك إلى نسب مريم. على أن لنا برهاناً آخر على أن يسوع من نسل داود وهو قول الملاك (ص ١: ٣٢ و٣٥).
    • الثالث: إن غاية لوقا في جدوله خلاف غاية متّى فإن لوقا انتهى في نسب يسوع بآدم من الناس ليظهر أن المسيح هو آدم الثاني وأن آدم الأول رمز له وأن المسيح يشترك باعتبار ناسوته في كل نسل آدم خلافاً لغرض متّى فإنه بيان كون يسوع من نسل إبراهيم. وهاتان الغايتان تقتضيان جدولين أحدهما ليوسف والآخر لمريم حقيقة.


    بْنِ هَالِي الابن هنا بمعنى صهر كما جاء في سفر صموئيل الأول (١صموئيل ٢٤: ١٦ و٢٦: ٢١ و٢٥) ولا مانع من أن يكون يوسف ابن هالي بالتبني. وعلى ذلك يكون بمنزلة ابنه في الشريعة. ولو كان معنى لوقا أن يوسف ابن هالي حقيقة لوقع التناقض بين قوله وقول متّى لأن متّى قال أن يوسف ابن يعقوب.
    فإن قيل لماذا ذكر لوقا نسب المسيح بين ذكر معموديته وبداءة مناداته. قلنا أن يسوع عاش قبل سن الثلاثين دون المناداة بدعواه أنه المسيح ورضي أن يُحسب في كل تلك المدة ابن يوسف. ولكن لما حان وقت إظهار تلك الدعوى اقتضى أن يُرفع الحجاب عن نسبه الحقيقي ويبين بالقول والفعل أنه ليس ابن يوسف بل ابن الله.
    ٢٤ - ٢٧ «٢٤ بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاَوِي بْنِ مَلْكِي بْنِ يَنَّا بْنِ يُوسُفَ، ٢٥ بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ عَامُوصَ بْنِ نَاحُومَ بْنِ حَسْلِي بْنِ نَجَّايِ، ٢٦ بْنِ مَآثَ بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ شَمْعِي بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَهُوذَا، ٢٧ بْنِ يُوحَنَّا بْنِ رِيسَا بْنِ زَرُبَّابِلَ بْنِ شَأَلْتِئِيلَ بْنِ نِيرِي».
    هذا جدول أسماء آباء هالي إلى وقت سبي بابل وفيه أربعة وعشرون اسماً وفي جدول متّى من يوسف إلى ذلك السبي أربعة عشر وترك متّى من جدوله سبعة يبقى الثلث الأول من الأسماء أربعة عشر ككل من الثلثين الآخيرين. فأربعة من السبعة ملوك معروفون ولعلّ الثلاثة الباقين كانوا كذلك في ذلك الوقت فاستغنى عن ذكرهم.
    شَأَلْتِئِيلَ بْنِ نِيرِي ظن بعضهم في هذا مناقضة لقول متّى «يكنيا ولد شألتئيل» (متّى ١: ١٢). ولكن لا شيء من الدليل على أن شألتئيل الذي ذكره متّى هو شألتئيل الذي ذكره لوقا.
    ٢٨ - ٣١ «٢٨ بْنِ مَلْكِي بْنِ أَدِّي بْنِ قُصَمَ بْنِ أَلْمُودَامَ بْنِ عِيرِ، ٢٩ بْنِ يُوسِي بْنِ أَلِيعَازَرَ بْنِ يُورِيمَ بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاَوِي، ٣٠ بْنِ شَمْعُونَ بْنِ يَهُوذَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يُونَانَ بْنِ أَلِيَاقِيمَ، ٣١ بْنِ مَلَيَا بْنِ مَيْنَانَ بْنِ مَتَّاثَا بْنِ نَاثَانَ بْنِ دَاوُدَ».
    زكريا ١٢: ١٢، ٢صموئيل ٥: ١٤ و١أيام ٣: ٥
    هنا عشرون اسماً لمن كانوا بين داود والسبي. والذين ذكرهم متّى بين الاثنين أربعة عشر وممن تركهم متّى أربعة مشهورون وهم أحزيا ويوآش وأمصيا ويهوياقيم.
    نَاثَانَ بْنِ دَاوُدَ (انظر ٢صموئيل ٥: ١٤ و١أيام ٣: ٥).
    ٣٢ - ٣٤ «٣٢ بْنِ يَسَّى بْنِ عُوبِيدَ بْنِ بُوعَزَ بْنِ سَلْمُونَ بْنِ نَحْشُونَ، ٣٣ بْنِ عَمِّينَادَابَ بْنِ آرَامَ بْنِ حَصْرُونَ بْنِ فَارَصَ بْنِ يَهُوذَا، ٣٤ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ».
    راعوت ٤: ١٨ الخ و١أيام ٢: ١٠ الخ، تكوين ١١: ٢٤ و٢٦
    الأسماء هنا وفق الأسماء في جدول متّى.
    ٣٥ - ٣٨ «٣٥ بْنِ سَرُوجَ بْنِ رَعُو بْنِ فَالَجَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالَحَ، ٣٦ بْنِ قِينَانَ بْنِ أَرْفَكْشَادَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لاَمَكَ، ٣٧ بْنِ مَتُوشَالَحَ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ يَارِدَ بْنِ مَهْلَلْئِيلَ بْنِ قِينَانَ، ٣٨ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ٱبْنِ ٱللّٰهِ».
    تكوين ١١: ١٢، تكوين ٥: ٦ الخ و١١: ١٠ الخ، تكوين ٥: ١ و٢
    الأسماء في هذه الأعداد مع اسمين في العدد الرابع والثلاثين لم يذكرها متّى. وأخذ لوقا هذه الأسماء من ترجمة السبعين المشهورة لا من التوراة العبرانية ولا فرق بينها في التوراتين سوى أنه ذُكر في العدد السابع والثلاثين اسم قينان وهو ليس في العبرانية والأرجح أن السبعين ترجمت عن نسخة عبرانية غير النسخة التي عندنا اليوم ولا أهمية لذلك الفرق البتة.
    بْنِ آدَمَ (ع ٣٨) المراد بذلك بيان كون المسيح من نسل آدم. وأن كل الناس إخوة كقول بولس لأهل أثينا «وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (أعمال ١٧: ٢٦). وأن آدم الأول مخلوق الله ورأس الخليقة الأولى هو رمز إلى آدم الثاني ابن الله الأزلي ورأس الخليقة الثانية الروحية.
    ٱبْنِ ٱللّٰهِ أي أن الله خلقه بدءا لا بالولادة كسائر البشر.


    الأصحاح الرابع


    تجربة يسوع ع ١ إلى ١٣


    ١، ٢ «١ أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ ٱلأُرْدُنِّ مُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِٱلرُّوحِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ ٢ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئاً فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيراً».
    متّى ٤: ١ الخ ومرقس ١: ١٢، ص ٢: ٢٧ وع ١٤، خروج ٣٤: ٢٨ و١ملوك ١٩: ٨
    مرّ الكلام على هذه التجربة في شرح بشارة متّى (متّى ٤: ١ - ١١) ونبأ لوقا هنا أكمل من نبأ متّى ومرقس.
    رَجَعَ مِنَ ٱلأُرْدُنِّ الظاهر من هنا أن التجربة وقعت على أثر المعمودية. وهذا وفق ما جاء في كل من بشارتي متّى ومرقس. وهذان العددان في التجربة إجمالاً. وما بعدهما إلى العدد الرابع عشر بيان ثلاث تجارب خاصة وقعت في نهاية الامتحان.
    والأرجح أن يسوع كان في الصبوة والشبيبة عرضة للتجارب كسائر الناس فقاومها وغلبها دائماً ولكن لما عزم على الدخول علانية في فداء البشر من الخطيئة التي وقعوا فيها بسقوط آدم الأول نائب البشر اقتضى أن يجرّب المسيح نائب البشر الثاني بتجربة عظيمة لتظهر غلبته عليها.
    مُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ حلّ عليه هذا الروح وقت المعمودية (ص ٣: ٢٢).
    يُقْتَادُ بِٱلرُّوحِ أي لم يذهب من تلقاء نفسه بل بفعل الروح القدس. واقتاده الروح الصالح ليحارب الروح الشرير.
    فِي ٱلْبَرِّيَّةِ (انظر الشرح متّى ٤: ١ ومرقس ١: ١٣). وزاد مرقس على ما هنا أن يسوع كان مع الوحوش.
    أَرْبَعِينَ يَوْماً يتضح من قول كل من مرقس ولوقا أن التجارب كانت تتوالى على المسيح كل تلك المدة.
    وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئاً هذا واضح من قول متّى أنه صام ومرقس لم يتعرض لذكر شيء من هذا. ولا ريب في أن جسد يسوع حُفظ من الموت جوعاً بقوة إلهية.
    ٣، ٤ «٣ وَقَالَ لَـهُ إِبْلِيسُ: إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ، فَقُلْ لِهٰذَا ٱلْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزاً. ٤ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: مَكْتُوبٌ أَنْ لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ».
    تثنية ٨: ٣
    هذه هي التجربة الأولى كما ذكر متّى (متّى ٤: ٣ و٤) لكن متّى قال «هذه الحجارة» بالجمع ولوقا قال «هذا الحجر» باسم الجنس.
    قبل المسيح على نفسه لإجراء عمل الفداء أن يكون إنساناً مفتقراً إلى الله كسائر أولاد آدم فجربه إبليس هنا لكي يرفض الاتكال على الله والخضوع له كالإنسان ويستقل بلاهوته.
    ٥ - ٨ «٥ ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ ٱلزَّمَانِ. ٦ وَقَالَ لَـهُ إِبْلِيسُ: لَكَ أُعْطِي هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ، لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ، وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ. ٧ فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ ٱلْجَمِيعُ. ٨ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! إِنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ».
    يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠ ورؤيا ١٣: ٢ و٧، تثنية ٦: ١٣ و١٠: ٢٠
    ما ذُكر من التجارب هنا ثانياً ذُكر في بشارة متّى ثالثاً (متّى ٤: ٨ - ١٠). فانظر الكلام على هذه التجربة في الشرح هنالك. ولا أهمية للتقديم والتأخير في هذا الأمر. وقصد الشيطان في هذه التجربة أن يثني يسوع عن الملكوت الروحي إلى الملك العالمي كما ابتغت اليهود ليكون بمنزلة داود قديماً وبمنزلة قيصر وقتئذ وذلك خلاف ما قصد الله.
    مَمَالِكِ ٱلْمَسْكُونَةِ (ع ٥) الشيطان لا يستطيع أن يُري المسيح حقيقة سوى جزء من مملكة اليهودية ولكنه أراه سائر الممالك تصوراً أو تخيلاً بمجرد وصفه إياها وكان كل ذلك في مثل طرفة عين بدليل قوله «في لحظة من الزمان» وهذا مما لم يذكره متّى.
    لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ الخ لم يذكر قول الشيطان هذا إلا لوقا وهو دعوى ذُكرت أيضاً في غير هذا الموضع (يوحنا ١٢: ٣١ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٢: ٢). وهذه دعوى كاذبة لأن الله لم يدفع إلى الشيطان مثل ذلك السلطان وهي مما ينتظر ممن هو «أبو الكذاب» (يوحنا ٨: ٤٤). وكذبه على آدم الثاني ككذبه على آدم الأول وزوجته بقوله «لن تموتا» (تكوين ٣: ٤).
    ٩ - ١٢ «٩ ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَقَامَهُ عَلَى جَنَاحِ ٱلْهَيْكَلِ وَقَالَ لَـهُ: إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱطْرَحْ نَفْسَكَ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلَ، ١٠ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ، ١١ وَأَنَّهُمْ عَلَى أَيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ. ١٢ فَأَجَابَ يَسُوعُ: إِنَّهُ قِيلَ: لاَ تُجَرِّبِ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ».
    متّى ٤: ٥، مزمور ٩١: ١١، تثنية ٦: ١٦
    (انظر الشرح متّى ٤: ٥ - ٧) ما جاء ثالثاً في لوقا جاء ثانياً في متّى. وخلاصة هذه التجربة حمل الشيطان ليسوع على الطمع في عناية الله ومحبته لأنه ابنه. وذلك بأن يعرض نفسه للخطر بلا داع. فلو فعل يسوع كما ابتغى الشيطان لأجبر الله على أنه إما أن ينكر ابنه ويسمح بقتله وإما يخالف قضاءه بأنه لا يفعل معجزة لغير موجب من نعمة أو نقمة فيخرج المسيح بتجربته لأبيه من دائرة الخضوع البنوي.
    وفحوى الكلام على التجارب الثلاث ما يأتي:

    • حمل المسيح على أن يعدل عن عمل الفداء باعتبار كونه إنساناً كما عيّن الله.
    • حمله على العدول عن أن يكون ملكاً روحياً على مملكة روحية.
    • حمله على العدول عن الثقة بمحبة الآب له كابنه وعلى أن يلزمه ليصرّح بأنه ابنه بمعجزة.
      فالتجربة الأولى وقعت عليه باعتبار كونه ابن الإنسان. والثانية باعتبار أنه المسيح أي الممسوح ملكاً روحياً. والثالثة باعتبار كونه ابن الله.


    وكانت سيرة المسيح في كل حياته الأرضية وفق مقاومته لتلك التجارب الثلاث فرضي أن تُقضى حاجاته الجسدية بصدقات الناس (ص ٨: ٣) وأبى أن يكون ملكاً أرضياً (يوحنا ٦: ١٥). ولم يفعل معجزة لنفع نفسه فكانت كل معجزاته لمجد الله ولإفادة الناس (ص ١١: ٢٩).
    ١٣ «وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ».
    يوحنا ١٤: ٣٠ وعبرانيين ٤: ١٥
    كُلَّ تَجْرِبَةٍ أي جميع ما وقع عليه مدة أيام التجريب الأربعين.
    فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ في هذا دليل على أن الشيطان رجع إلى تجربة يسوع بعد ذلك. والأرجح أنه جربه وهو في بستان جثسيماني المعروف عند العامة اليوم بالجسمانية (متّى ٢٦: ٣٨). وعلى الصليب. ويشير إلى ذلك قول المسيح قُبيل اكتئابه في البستان وآلامه على الصليب.
    «رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَأْتِي» (يوحنا ١٤: ٣٠). وهو مثل قوله لليهود «هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ» (ص ٢٢: ٥٣).
    ولم يذكر لوقا هنا ما ذكره متّى من خدمة الملائكة للمسيح بعد التجربة.

    ذهاب يسوع إلى الجليل ع ١٤ و١٥


    ١٤ «وَرَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، وَخَرَجَ خَبَرٌ عَنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ».
    متّى ٤: ١٢ وع ١ ويوحنا ٤: ٤٣ وأعمال ١٠: ٣٧
    وَرَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ هذا يظهر أن يسوع لم يعمل شيئاً ليرضي نفسه كإنسان بل عمل كل ما عمله إطاعة للروح القدس.
    إِلَى ٱلْجَلِيلِ ذكر لوقا رجوع يسوع إلى الجليل على أثر تجربته وذكره متّى ومرقس على أثر سجن يوحنا المعمدان (متّى ٤: ١٢ ومرقس ١: ١٤). وما ذكره يوحنا في بشارته بيّن علّة ظاهر الاختلاف المذكور وهو أن يسوع ذهب إلى الجليل مرتين الأولى على أثر معموديته وتجربته (يوحنا ١: ٤٤). والثانية بعد ذلك بوقت (يوحنا ٤: ١). فذكر لوقا الأولى وذكر متّى ومرقس الثانية. والأرجح أن المدة بين المرتين نحو سنة تقضّى أكثرها على يسوع وهو يبشر في اليهودية. وهذه الخدمة لم يفصّل حوادثها إلا يوحنا.
    وَخَرَجَ خَبَرٌ عَنْهُ المرجح أن الجليليين الذين حضروا تبشير يوحنا المعمدان سمعوا نبأ يسوع في البرية وشاهد بعضهم ما كان عند اعتماد يسوع وسمعوا شهادة يوحنا فأنبأوا بذلك بعد رجوعهم.
    وصنع المسيح بعض معجزاته في قانا الجليل (يوحنا ٢: ١ - ١١).
    ١٥ «وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ مُمَجَّداً مِنَ ٱلْجَمِيعِ».
    وَكَانَ يُعَلِّمُ ذاع خبر يسوع بما أظهره من الحكمة بتعليمه في المجامع لا بمجرد شهادة الناس له بما سمعوا وشاهدوا. وقد سبق الكلام على مجامع اليهود والتعليم فيها في شرح بشارة متّى (متّى ٤: ٢٣).
    مُمَجَّداً أي ممدوحاً ومعظماً لجودة تعليمه لأن نجاحه إلى ذلك الوقت لم يكن قد هيج حسد رؤساء الكهنة وتعليمه لم يكن قد أوقد بغضهم كما كان بعد ذلك.

    رفض أهل الناصرة يسوع ع ١٦ إلى ٣٠


    ١٦ «وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ».
    متّى ٢: ٢٣ و١٣: ٥٤ ومرقس ٦: ١، أعمال ١٣: ١٤ و١٧: ٢
    وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ هذا المجيء غير الذي ذُكر في متّى ١٣: ٥٤ - ٥٨ ومرقس ٦: ١ - ٦. فهذا قام به وحده وذاك مع تلاميذه. وفي هذا لم يصنع معجزة وفي ذاك صنع بعض المعجزات (مرقس ٦: ٥). وفي هذا جار اليهود عليه وأرادوا قتله وفي ذاك لم يكن منهم شيء من ذلك.
    حَسَبَ عَادَتِهِ أي اعتياده من صغره أن يحضر المجمع للعبادة وأن يحضر المجمع في كل مكان دخله للعبادة والتعليم. وفي هذا مثال لكل مسيحي في المواظبة على المجيء إلى أماكن العبادة الصحيحة. ولا ريب أنه كان بين معموديته ومجيئه إلى الناصرة وقت كاف لأن يبلغ خبر شهرته أهل وطنه الناصرة بدليل قولهم «كَمْ سَمِعْنَا أَنَّهُ جَرَى فِي كَفْرَنَاحُومَ» (ع ٢٣).
    وَقَامَ لِيَقْرَأَ كانت تلك القراءة اختيارية ولعلّ المسيح أظهر بوقوفه استعداده للقراءة.
    ١٧ «فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ ٱلسِّفْرَ وَجَدَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ».
    إشعياء ٦١: ١ و٢
    فَدُفِعَ إِلَيْهِ الذي دفع إما رئيس المجمع وإما صائن الكتب المقدسة.
    سِفْرُ أي كتاب. وكانت الكتب يومئذ رقوقاً أي جلوداً رقيقة في كل من طرفي الرق اسطوانة صغيرة من الخشب. ففي وقت القراءة ينشر من إحدى الاسطوانتين ويلف على الأخرى. واعتاد اليهود أن يقرأوا في المجمع على التوالي أيام السنة كل أسفار موسى وبعض نبوءات الأنبياء (أعمال ١٣: ١٥).
    وَجَدَ ٱلْمَوْضِعَ الأرجح أن ذلك لم يكن اتفاقاً بل قصداً ليكون موضوع خطابه.
    ١٨ «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ وَلِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ».
    إشعياء ٥٨: ٦
    هذا الكلام مقتبس من نبوءة إشعياء (إشعياء ٦١: ١ و٢) على ما في ترجمة السبعين مع جملة من إشعياء ٥٨: ٦. فاعتبر اليهود هذه النبوءة بياناً لعمل المسيح واختارها يسوع لأنها توضح روحانية الخدمة التي أتى للقيام بها.
    رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ نسب يسوع هذا القول إلى نفسه بياناً أنه لم يصنع شيئاً من تلقاء نفسه بل أن كل ما صنعه هو بأمر الله. والحق أن روح الله كان عليه دائماً لكنه أشار خاصة إلى حلول الروح القدس عليه علانية عند معموديته مقدمة لخدمته وإعلاناً لتكريسه (ص ٣: ٢٢ و٤: ١ و١٤). وتأهيلاً له في إنجاز المواعيد التي ذُكرت في تلك النبوءة.
    مَسَحَنِي كما مُسح الملوك والأنبياء والكهنة قديماً (١صموئيل ١٦: ٦ ومزمور ٨٤: ٩ وإشعياء ٤٥: ١). ولذلك سُمي يسوع بالمسيح أي الممسوح ليس لأنه مُسح بالزيت كالملوك والأنبياء والكهنة فعلاً بل لأنه مُسح بروح الله.
    لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ أي لأخبر الخبر المبهج بالخلاص الذي هم في حاجة إليه وقد شعروا بتلك الحاجة وهم المساكين بالروح (متّى ٥: ٣). والبركات الموعود بها هنا كالتي ذكرها المسيح في أول وعظه على الجبل (متّى ٥: ١ - ١٢).
    لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ في إنجيل يسوع تعزية للحزانى على كل أحزانهم ولا سيما الذين يحزنون على خطاياهم وبشارة للمؤمن التائب بالغفران والمصالحة (إشعياء ٦٦: ٢).
    لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ كان ذلك في أول الأمر نبوءة برجوع اليهود الأسرى من بابل إلى وطنهم اليهودية ورمزاً إلى إطلاق النفوس من عبودية الشيطان والخطيئة (يوحنا ٨: ٣٤ - ٣٦).
    وَلِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ وهب المسيح البصر للعمي حقيقة (متّى ١١: ٥ ويوحنا ٩: ١١ و٣٩ - ٤١). ولكن عمله لم ينحصر في ذلك فإنه وهب البصر لعمي البصيرة «الذين إله هذا الدهر قد أعمى أذهانهم» (٢كورنثوس ٤: ٤ ويوحنا ١٢: ٤٠ و١يوحنا ٢: ١١).
    وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ أي ينقذ من شر تأثير الخطية الذين هم من شدتها صاروا كأنهم تحت حمل ثقيل وقع عليهم. وقوله «في الحرية» متعلق بقوله «أرسل» واقتبس يسوع هذه الجملة من إشعياء ٥٨: ٦. ولعله أتى بها في قراءته إشعياء ٦١: ١ و٢ بياناً لمعنى قوله «للمأسورين بالإطلاق» (انظر غلاطية ٥: ١).
    ١٩ «وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ ٱلرَّبِّ ٱلْمَقْبُولَةِ».
    لاويين ٢٥: ٨ إلى ١٧
    شبه المسيح هنا بركات ملكوته بالبركات التي تمتع اليهود بها في سنة يوبيل وهي كل سنة تكمل الخمسين ينفخ فيها بالأبواق في كل البلاد اليهودية وينادي بأن كل يهودي استُعبد لدين أو غيره يحرر وكل قطعة أرض انتقلت من مُلك صاحبها الأصلي ترجع إلى ربها ليملك كل بيت من إسرائيل ما قسم الله له بيد موسى ويشوع (لاويين ٢٥: ٨ - ١٦ و٢٣ - ٥٥). وهذا يحسن أن يكون رمزاً إلى عمل المسيح الذي يهب للناس الحرية الروحية لينقذهم من جرم الخطية وعقابها ويرجع لهم ما فقدوا من ميراث البرّ ورضى الله والفردوس السماوي.
    ٢٠ «ثُمَّ طَوَى ٱلسِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى ٱلْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ».
    ٱلْخَادِمِ هو الذي عمله في المجمع اليهودي كالقندلفت في الكنيسة المسيحية وهو أن يعطي القارئ الكتاب ثم يأخذه منه بعد القراءة ويصونه.
    وَجَلَسَ اعتاد المعلمون أن يقرأوا وقوفاً ويعلّموا جلوساً.
    عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ يستنتج من ذلك أنه لم تسبق عادة أن يعلّم في مجمع الناصرة فتعجبوا ممن كان سابقاً تلميذاً جالساً مجلس المعلم. وتوقعوا أن يسمعوه يدعي أنه نبي كما بلغهم أنه أتى ذلك في أماكن أُخر. ويحتمل أنهم تعجبوا لتأثرهم من هيئته غير العادية ووقع كلامه في النفوس ووقاره.
    ٢١ «فَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لَـهُمْ: إِنَّهُ ٱلْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ».
    الكلام هنا بداءة خطاب لم يُذكر كله وعلمنا منه أن خلاصة ذلك الخطاب هي إظهار يسوع أن غاية مجيئه تكميل تلك النبوءة. ولا نستطيع أن نتصور مقدمة لتعليم المسيح أفضل من هذه المقدمة أنه أتى لكي يكمل مقاصد الله الخيرية المذكورة في هذه النبوءة. ويسوع صرّح هنا بكل وضوح أنه هو المسيح المنتظر وأن النبوءات عن المسيح تكمل به وحده.
    ٢٢ «وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَـهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ هٰذَا ٱبْنَ يُوسُفَ؟».
    مزمور ٤٥: ٢ ومتّى ١٣: ٥٤ ومرقس ٦: ٢ وص ٢: ٤٧، يوحنا ٦: ٤٢
    يَشْهَدُونَ لَـهُ اضطروا أن يسلموا بأن المسيح تكلم بقوة لم يتكلم بها أحد سواه وحكمت ضمائرهم بصحة ما قاله. وكانت طريق شهادتهم له إصغاءهم إليه وإيماء بعضهم إلى بعض وكلامهم كذلك. ومثل هذا كانت شهادة خدام الهيكل له بقولهم «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هٰكَذَا مِثْلَ هٰذَا ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا ٧: ٤٦).
    وَيَتَعَجَّبُونَ كان موضوع تعجبهم ما ظهر منه مع معرفتهم أنه ابن النجار.
    كَلِمَاتِ ٱلنِّعْمَةِ أُضيفت كلمات المسيح إلى النعمة لأن مواضيعها محبة الله للناس ورحمته ومقاصده الخيرية. واتضح مما كان من أهل الناصرة بعد ذلك أن التعجب من فصاحة كلام المسيح والشهادة بجودته شيء وقبول دعواه شيء آخر. وكثيرون اليوم مثل أهل الناصرة القدماء يمدحون الواعظ ويغفلون عن المقصود بوعظه.
    أَلَيْسَ هٰذَا ٱبْنَ يُوسُفَ يدل هذا السؤال على شيء من الحسد للمسيح والاستخفاف به وعدم الإيمان لأنهم اعتقدوا أنه ابن يوسف منذ خمس وعشرين سنة على الأقل وهي مدة سكنه بينهم وأنه فقير ابن نجار ورأوا ذلك سبباً كافياً لإنكارهم دعواه.
    ٢٣ «فَقَالَ لَـهُمْ: عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُونَ لِي هٰذَا ٱلْمَثَلَ: أَيُّهَا ٱلطَّبِيبُ ٱشْفِ نَفْسَكَ. كَمْ سَمِعْنَا أَنَّهُ جَرَى فِي كَفْرَنَاحُومَ، فَٱفْعَلْ ذٰلِكَ هُنَا أَيْضاً فِي وَطَنِكَ».
    متّى ٤: ١٣ و١١: ٢٣، متّى ١٣: ٥٤ ومرقس ٦: ١
    عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُونَ أبان يسوع أنه عارف أفكار الحاضرين وذلك بإجابته عنها قبل أن أظهروها بالكلام.
    أَيُّهَا ٱلطَّبِيبُ ٱشْفِ نَفْسَكَ أي عالج مرضك قبل أن تدعي شفاء غيرك. لأنه لا أحد يدعو طبيباً مريضاً لشفائه. لأن مثل هذا الطبيب يحمل إعلان بطلان دعواه على وجهه. فأنا مدع أني نبي وأنتم تشكون فيّ لاعتقادكم أني كسائر الناس بما سبق لكم من معرفتي. وشككم يمنعكم من قبولكم أياي نبياً كما أن مرض الطبيب يمنع الناس من قبولهم إياه طبيباً فلذلك تقولون يا نبي اصنع معجزات أي أزل بذلك شكوكنا في دعواك وأظهر بأعمالك أنك أعظم من أن تكون ابن يوسف النجار الفقير.
    جَرَى فِي كَفْرَنَاحُومَ يبين من ذلك أن يسوع كان قد ذهب إلى كفرناحوم وفعل عجائب هنالك وهذا الذهاب لم يذكره لوقا.
    ٢٤ «وَقَالَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ مَقْبُولاً فِي وَطَنِهِ».
    متّى ١٣: ٥٧ ومرقس ٦: ٤ ويوحنا ٤: ٤٤
    جاوب المسيح على مَثل بمثَل وتكلم بهذا المثل ثلاث مرات. وما جاء هنا هو المرة الأولى. والثانية في زيارته الثانية للناصرة (متّى ١٣: ٥٧ فانظر شرح المثل هنالك) والثالثة في الجليل على ما ذكر يوحنا (يوحنا ٤: ٤٤). ومعنى المسيح بإيراد هذا المثل هنا أنه قبل على نفسه ما وقع على سائر الأنبياء وهو أن لا إكرام له في وطنه وأنه لا يجتهد أن يقنعهم بالمعجزات لأنه لو صنعها وقتئذ لا يقتنعون كما كان الأمر في سائر الأنبياء.
    ٢٥، ٢٦ «٢٥ وَبِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ أَرَامِلَ كَثِيرَةً كُنَّ فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ إِيلِيَّا حِينَ أُغْلِقَتِ ٱلسَّمَاءُ مُدَّةَ ثَلاَثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمَّا كَانَ جُوعٌ عَظِيمٌ فِي ٱلأَرْضِ كُلِّهَا، ٢٦ وَلَمْ يُرْسَلْ إِيلِيَّا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا، إِلاَّ إِلَى أَرْمَلَةٍ، إِلَى صِرْفَةِ صَيْدَاءَ».
    ١ملوك ١٧: ٩ و١٨: ١ ويعقوب ٥: ١٧، دانيال ٧: ٢٥ و١٢: ٧ ورؤيا ١١: ٢ و٣ و١٢: ٦ و١٤
    أشار هنا إلى الحادثة في ١ملوك ١٧: ٨ - ٢٤
    ثَلاَثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ جاء مثل ذلك في رسالة يعقوب ٥: ١٧. ولكن الذي في ١ملوك ١٨: ١ أن الله ظهر لإيليا في السنة الثالثة وقال فأعطي مطراً على وجه الأرض. ولعلّ سبب ما يظهر من الاختلاف في المدة أن المراد في سفر الملوك كون المطر أمسك ثلاث سنين بعد وقته أي ثلاثة أشتاء فيكون القحط دام مدة الربيع والصيف أيضاً وجملة ذلك ثلاث سنين ونصف سنة أو لعلّ المعنى في ذلك السفر أن بداءة السنين الثلاث من وقت هرب إيليا فتكون بداءة القحط قبل ذلك.
    صِرْفَةِ صَيْدَاءَ (ع ٢٦) وهي اليوم قرية اسمها صرفند وكانت مدينة كنعانية واقعة بين صور وصيدا ونُسبت إلى صيدا دون صور إما لأنها أقرب إلى صيدا وإما لأنها كانت تابعة لحكومتها. بُنيت أولاً على شاطئ البحر لكن منذ القرن الحادي عشر نقلها أهلها إلى أكمة على أمد نحو نصف ساعة من البحر خيفة من لصوص البحر. ولم تزل آثار المدينة القديمة على الشاطئ.
    ٢٧ «وَبُرْصٌ كَثِيرُونَ كَانُوا فِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ أَلِيشَعَ ٱلنَّبِيِّ، وَلَمْ يُطَهَّرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ نُعْمَانُ ٱلسُّرْيَانِيُّ».
    ٢ملوك ٥: ١٤
    الحادثة هنا هي المذكورة في ٢ملوك ٥: ١ - ١٤
    نُعْمَانُ هو قائد عسكر وثني في دمشق. ومراد المسيح مما قيل في العدد الرابع والعشرين إلى هنا أنه يفعل مثل ما فعل كل من إيليا وأليشع في أنهما أهملا اليهود وصنعا معجزاتهما بين الأمم لأنهما وجدا الأمم أحق فيها من اليهود فهكذا فعل هو بإهماله أهل وطنه وعمل المعجزات بين الغرباء.
    ٢٨ «فَٱمْتَلأَ غَضَباً جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ حِينَ سَمِعُوا هٰذَا».
    علّة غضبهم مقابلته إياهم بالإسرائيليين غير المؤمنين الذين عبدوا البعل في أيام إيليا وإظهاره عدم إرادته صنع معجزة عندهم لأنهم لا يستحقون ذلك وأنه فضل إعلان نعمته للأمم على إعلانه إياها لهم.
    ٢٩ «فَقَامُوا وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، وَجَاءُوا بِهِ إِلَى حَافَّةَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي كَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَطْرَحُوهُ إِلَى أَسْفَلُ».
    الناصرة مبنية على سفح أكمة أقرب إلى حضيضها من قنتها يحيط بتلك الأكمة آكام أرفع منها. والذي يقصد الناصرة اليوم ويشاهد الأكمة التي بُنيت عليها يحكم بأن أهلها صعدوا بيسوع إلى قنة تلك الأكمة وهنالك شُفُر علو كل شفير منها نحو ثلاثين أو أربعين قدماً فقصدوا أن يطرحوه من أحدها إلى الحضيض فيميتوه. وكان مثل هذا من عوائد الرومانيين في إهلاك الناس. وكان اليهود يفعلون كذلك أحياناً فإن أمصيا قتل عشرة آلاف من الآدوميين في تلك الطريق (٢أيام ٢٥: ١٢). فمعاملة أهل الناصرة ليسوع مصداق لقول البشير «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا ١: ١١).
    ٣٠ «أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى».
    يوحنا ٨: ٥٩ و١٠: ٣٩
    لا يلزم من هذا الكلام أن المسيح صنع معجزة لنجاته منهم. فلعلهم هابوه لما شاهدوا من إمارات وجهه أو هدوءه وسكوته أو لعلهم اختلفوا في طريق طرحه فاجتاز بينهم ولم يعترضه أحد لأن ساعة موته لم تكن قد أتت. ومثل هذه الهيبة وقعت على الذين قبضوا عليه ليأتوا به إلى الصلب (يوحنا ١٨: ٦) وذكر مثل هذه النجاة في يوحنا ١٠: ١٨.

    معجزات يسوع في كفرناحوم ع ٣١ إلى ٤١


    ٣١ «وَٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ، مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي ٱلسُّبُوتِ».
    متّى ٤: ١٣ ومرقس ١: ٢١
    كَفْرَنَاحُومَ (انظر الشرح متّى ٤: ١٣). وهي أوطأ من الناصرة ولذلك يصح القول أنه انحدر إليها. اقتصر متّى ومرقس على ذكر ذهاب المسيح إليها لكن لوقا زاد على ذلك ذكر سبب انتقاله من الناصرة إليها.
    يُعَلِّمُهُمْ فِي ٱلسُّبُوتِ كان المسيح في أول تبشيره يعلّم الناس في المجامع أيام اجتماعهم فيها للعبادة (وهي السبوت) لأن الناس كانوا يجتمعون فيها جماعات كثيرة وكانت أذهانهم فارغة من الافتكار في الأعمال الدنيوية فكان له فيها أحسن الفرص للتعليم. ولكنه بعد أن ذاع صيته كانت الجموع تتبعه حيث ذهب فكانت له فرصة أن يخاطبهم كل يوم.
    ٣٢ «فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّ كَلاَمَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ».
    متّى ٧: ٢٨ و٢٩ وتيطس ٢: ١٥
    فَبُهِتُوا أي حاروا وتعجبوا. وعلّة ذلك جودة تعليمه وأسلوب بيانه (انظر الشرح متّى ٧: ٢٨ و٢٩).
    بِسُلْطَانٍ كملك أو نبي وكمن لكلامه تأثير في الضمير والقلب وذلك من غيرته ويقينه صحة ما يتكلم به والشعور بأهميته ولأن قوة الروح القدس رافقت كلامه.
    ٣٣ - ٣٦ «٣٣ وَكَانَ فِي ٱلْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: ٣٤ آهِ مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ ٱللّٰهِ. ٣٥ فَٱنْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: ٱخْرَسْ وَٱخْرُجْ مِنْهُ. فَصَرَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فِي ٱلْوَسَطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً. ٣٦ فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى ٱلْجَمِيعِ، وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: مَا هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةُ! لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ ٱلأَرْوَاحَ ٱلنَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ».
    مرقس ١: ٢٣، ع ٤١، مزمور ١٦: ١٠ ودانيال ٩: ٢٤ وص ١: ٣٥
    انظر الشرح مرقس ١: ٢٣ - ٢٦ فإن الخبر واحد في البشارتين.
    وَكَانَ فِي ٱلْمَجْمَعِ أي كان حاضراً فيه في أحد الأيام التي كان يتكلم فيها يسوع هنالك.
    فَصَرَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ (ع ٣٥) زاد لوقا هذه الجملة على ما قاله مرقس. كان للشيطان قوة على جسد ذلك الرجل حتى أنه طرحه في وسط المجمع يتشنج كالمصاب بالصرع.
    وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً لأن قوة يسوع منعت الشيطان من أذاه.
    فأول المعجزات التي ذكرها مرقس ولوقا من معجزات المسيح تسلط يسوع على الأرواح النجسة. وأول ما ذكره متّى سلطانه على أمراض الناس. وأول ما ذكره يوحنا قوته على عالم المادة بتحويل بعض العناصر إلى بعض.
    ٣٧ «وَخَرَجَ صِيتٌ عَنْهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ».
    انظر الشرح مرقس ١: ٢٨. انتشر صيته في أحكام التعليم وفي صنع المعجزات فكان موضوع حديث الجموع اينما ذهبوا هذين الأمرين.
    ٣٨، ٣٩ «٣٨ وَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ دَخَلَ بَيْتَ سِمْعَانَ. وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ قَدْ أَخَذَتْهَا حُمَّى شَدِيدَةٌ. فَسَأَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا. ٣٩ فَوَقَفَ فَوْقَهَا وَٱنْتَهَرَ ٱلْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا! وَفِي ٱلْحَالِ قَامَتْ وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ».
    متّى ٨: ١٤ ومرقس ١: ٢٦
    انظر الشرح متّى ٨: ١٤ - ١٥ ومرقس ١: ٢٩ - ٣١.
    قَامَ لأنه كان يعلّم الشعب جالساً.
    بَيْتَ سِمْعَانَ أي بيت بطرس. وقال مرقس أنه بيت سمعان وأندراوس وهما أخوان شريكان في الصيد (متّى ٤: ١٨).
    حُمَّى شَدِيدَةٌ أي عظيمة الالتهاب كثيرة الخطر. وذكر لوقا بعد وصفه حماها بالشدة أن يسوع انتهر تلك الحمى كأنها ذات إدراك. ومعنى ذلك أنه أزالها وأن المحمومة قامت حالاً وخدمت الحاضرين خلافاً للناقهين من الحمى فإنهم يكونون حينئذ ضعفاء.
    ٤٠، ٤١ «٤٠ وَعِنْدَ غُرُوبِ ٱلشَّمْسِ، جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ. ٤١ وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضاً تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ: أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! فَٱنْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ ٱلْمَسِيحُ».
    متّى ٨: ١٦ ومرقس ١: ٣٢، مرقس ١: ٣٤ و٣: ١١، مرقس ١: ٢٥ و٣٤ وع ٣٤ و٣٥
    انظر الشرح متّى ٨: ١٦ و١٧ ومرقس ١: ٣٢ - ٣٤. زاد لوقا على كلام متّى ومرقس قول الشياطين «أنت المسيح ابن الله الحي» «وأنهم عرفوه أنه المسيح».

    انفراد يسوع وتبشيره بعد ذلك ع ٤٢ إلى ٤٤


    ٤٢ - ٤٤ «٤٢ وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ خَرَجَ وَذَهَبَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ ٱلْجُمُوعُ يُفَتِّشُونَ عَلَيْهِ. فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ لِئَلاَّ يَذْهَبَ عَنْهُمْ. ٤٣ فَقَالَ لَـهُمْ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ ٱلْمُدُنَ ٱلأُخَرَ أَيْضاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، لأَنِّي لِهٰذَا قَدْ أُرْسِلْتُ. ٤٤ فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِ ٱلْجَلِيل».
    الخبر هنا كالخبر في إنجيل متّى ٤: ٢٣. وإنجيل مرقس ١: ٣٥ - ٣٩. فانظر الشرح في الموضعين. ومعنى قوله أمسكوه أنهم أرادوا أن يبقوه عندهم في كفرناحوم للتعليم والشفاء.


    الأصحاح الخامس


    معجزة صيد السمك ودعوة الصيادين ع ١ إلى ١١


    ١ «وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، كَانَ وَاقِفاً عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ».
    متّى ٤: ١٨ ومرقس ١: ١٦
    ٱلْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ هذا إحدى الحوادث التي وقعت بعدما طُرد المسيح من الناصرة وأتى إلى كفرناحوم وذاع صيته بما صنع من المعجزات.
    ٢ «فَرَأَى سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ ٱلْبُحَيْرَةِ، وَٱلصَّيَّادُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُمَا وَغَسَلُوا ٱلشِّبَاكَ».
    سبق الكلام على دعوة يسوع الرسل الأربعة في هذا الفصل في بشارة متّى ٤: ١٨ - ٢٢. وفي بشارة مرقس ١: ١٦ - ٢٠. ولا فرق بين الروايات إلا أن لوقا ذكر تلك الدعوة بعد شفاء يسوع المرضى في كفرناحوم وأما متّى ومرقس فذكراها قبل ذلك وخبر لوقا أطول من خبر كل منهما.
    كَلِمَةَ ٱللّٰهِ أي بيان معنى ما أعلنه الله سابقاً وما أضافه المسيح من التعاليم الجديدة باعتبار أنه نبي الله.
    عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ واسمها أيضاً بحر طبرية وبحر الجليل. وطلب المسيح الانفراد عن الجموع الذين زحموه في المدن بسيره على شاطئ البحيرة ولكنهم تبعوه بكثرة.
    سَفِينَتَيْنِ كانت إحداهما لبطرس وأندراوس والأخرى لابني زبدي.
    وَغَسَلُوا ٱلشِّبَاكَ أي نقوها مما تعلق بها من الأعشاب والطين والحصى وما شاكل ذلك من سحبها على قعر البحيرة في مدة الليلة البارحة. والظاهر مما قال متّى ومرقس أن بعض الشباك تمزق فأصلحوه.
    ٣ «فَدَخَلَ إِحْدَى ٱلسَّفِينَتَيْنِ ٱلَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَـهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلاً عَنِ ٱلْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ ٱلْجُمُوعَ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ».
    دخل يسوع سفينة سمعان بطرس لأنه عرفه سابقاً على شاطئ الأردن (يوحنا ١: ٤٢). ويحتمل أنه كان يرافقه أحياناً ليستفيد منه معرفة لكنه إلى ذلك الوقت لم يكن قد ترك كل شيء وتبعه. فكان يسوع ضيف سمعان في كفرناحوم (ص ٤: ٣٨).
    ٤ «وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ: ٱبْعُدْ إِلَى ٱلْعُمْقِ وَأَلْقَوْا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ».
    يوحنا ٢١: ٦
    هذه المعجزة لم يذكرها متّى ومرقس واكتفيا بذكر دخول يسوع إلى سفينة خاطب الشعب منها.
    إِلَى ٱلْعُمْقِ كانوا قرب الشاطئ حيث الماء رقيق فلا يجتمع السمك فيه بكثرة.
    ٥ «فَأَجَابَ سِمْعَانُ: يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلٰكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي ٱلشَّبَكَةَ».
    تَعِبْنَا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ أشار بذلك إلى أن أنسب أوقات الصيد المعتادة هو الليل (ونستنتج هذا أيضاً من بشارة يوحنا ٢١: ٣ و٤). وذكر بطرس أنهم تعبوا كثيراً وأن تعبهم كان عبثاً وأظهر أنه قلما يرجو نجاحاً من الصيد وقتئذ لما اختبروه من عوائد السمك لكنه مع ذلك مستعد لإطاعة أمر الرب وإن كان في ذلك تعب.
    ٦ «وَلَمَّا فَعَلُوا ذٰلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكاً كَثِيراً جِدّاً، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ».
    وَلَمَّا فَعَلُوا أي حالما أطاعوا كانت تلك النتيجة الغريبة.
    سَمَكاً كَثِيراً جِدّاً المعجزة هنا كثرة السمك المصيد وإتيان الأسماك جماعات كثيرة إلى الشبكة وكان ذلك على أثر بذل كل جهدهم في الصيد عبثاً. وهذا برهان على أنّ سمك البحر كان خاضعاً ليسوع المسيح فتم بالمسيح آدم الثاني قوله تعالى بلسان داود النبي «تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَطُيُورَ ٱلسَّمَاءِ، وَسَمَكَ ٱلْبَحْرِ ٱلسَّالِكَ فِي سُبُلِ ٱلْمِيَاهِ» (مزمور ٨: ٦ و٨).
    تَتَخَرَّقُ أي كادت تتمزق أو تتقطع بعض عيونها الدقيقة الخيوط لكن لا إلى حد يمكن السمك عنده أن يفلت منها.
    ٧ «فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّفِينَةِ ٱلأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا ٱلسَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي ٱلْغَرَقِ».
    إِلَى شُرَكَائِهِمِ أي ابني زبدي ومن معهما (ع ١٠). وهذان صارا بعد ذلك شريكي سمعان وأندراوس في عمل أعظم وهو صيد النفوس.
    فِي ٱلسَّفِينَةِ ٱلأُخْرَى يظهر من هذا أنهم فرغوا من غسل الشباك وإصلاحها ودخلوا السفينة. والظاهر أن مسافة ما بين السفينتين كانت قصيرة أمكن من في الواحدة أن يروا إشارات من في الأخرى.
    أَخَذَتَا فِي ٱلْغَرَقِ أي قربتا من الغرق حتى أنهم لو زادوا على كل منهما ثقلاً قليلاً لغرقت.
    ٨ «فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذٰلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً: ٱخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ».
    ٢صموئيل ٦: ٩ و١ملوك ١٧: ١٨
    كان أول تأثير المعجزة في بطرس أنه شعر بعدم استحقاقه أن يقترب ممن أظهر بفعله أنه ذو قوة إلهية. وكان مثل هذا شعور إشعياء النبي عندما رأى رؤيا في الهيكل فقال «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ ٱلشَّفَتَيْنِ... لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا ٱلْمَلِكَ رَبَّ ٱلْجُنُودِ» (إشعياء ٦: ٥). ومثله شعور أيوب الذي أبانه بقوله «ٱلآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذٰلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي ٱلتُّرَابِ وَٱلرَّمَادِ» (أيوب ٤٢: ٥ و٦) (انظر أيضاً خروج ٢٠: ١٨ و١٩ وقضاة ١٣: ٢٢ و١ملوك ١٧: ١٨ ودانيال ١٠: ١٧). فلا ريب أن بطرس كان قد تأثر قبلاً من شفاء حماته في كفرناحوم ومن وعظ المسيح في السفينة وتأكد من معجزة السمك أن المسيح ليس مجرد إنسان.
    ٱخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي ظاهر هذا الكلام ليس مراد بطرس الحقيقي فإنه لم يرد أن يظهر به إلا عدم استحقاقه لاقتراب المسيح منه. فهو كمعنى قول قائد العسكر ليسوع «يا سيد لست مستحقاً إن تدخل تحت سقفي». وكل إنسان يشعر طبعاً بخطاياه وعدم استحقاقه عند قرب الرب منه وإظهار قدرته. وأتى المسيح إلينا في الأرض لكي يجعلنا أهلاً للاقتراب إليه ويأحذنا إليه في السماء.
    ٩ «إِذِ ٱعْتَرَتْهُ وَجمِيعَ ٱلَّذِينَ مَعَهُ دَهْشَةٌ عَلَى صَيْدِ ٱلسَّمَكِ ٱلَّذِي أَخَذُوهُ».
    ذُكر هنا سجود بطرس ليسوع واعترافه بأنه خاطئ بدلاً من أن يفرح بكثرة ما صادروا وبالربح منه.
    وَجمِيعَ ٱلَّذِينَ مَعَهُ الأرجح أنهم أخوه أندراوس والخدام في سفينته (متّى ٤: ٨ ومرقس ١: ١٦).
    ١٠ «وَكَذٰلِكَ أَيْضاً يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ٱبْنَا زَبْدِي ٱللَّذَانِ كَانَا شَرِيكَيْ سِمْعَانَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ: لاَ تَخَفْ! مِنَ ٱلآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ ٱلنَّاسَ!».
    متّى ٤: ١٩ ومرقس ١: ١٧
    كان تأثير المعجزة في صيادي سفينة زبدي كما كان في صيادي سفينة سمعان.
    لاَ تَخَفْ اعتقد اليهود أنه لا أحد يرى الله ويعيش (انظر الشرح لوقا ١: ١٢) فسكّن المسيح خوف بطرس أول كل شيء.
    تَصْطَادُ ٱلنَّاسَ أي تنادي بالإنجيل لكي تجذب الناس إلى معرفة الحق وقبولهم إياه لخلاص نفوسهم. وهذه دعوة لبطرس ليكون مع المسيح دائماً وأن يكون رسولاً له. ولم يكن قبل ذلك سوى تلميذ (انظر الشرح متّى ٤: ٢٠). والأرجح أنه دعا حيئنذ يوحنا ويعقوب أيضاً (متّى ٤: ٢١).
    وقد مرّ الكلام على وجه الشبه بين صياد السمك والمبشر بالإنجيل في شرح إنجيل متّى (متّى ٤: ١٨) وفي شرح بشارة مرقس (مرقس ١: ١٦).
    ١١ «وَلَمَّا جَاءُوا بِٱلسَّفِينَتَيْنِ إِلَى ٱلْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ».
    متّى ٤: ٢٠ و١٩: ٢٧ ومرقس ١: ١٨ و١٨: ٢٨
    معنى ذلك أنهم لم يجعلوا صيد السمك مهنتهم بعد ذلك. وهذا لا يمنع أنهم كانوا يصيدون أحياناً (يوحنا ٢١: ١). وأظهر هؤلاء الصيادون محبتهم للمسيح وإنكار ذواتهم لأجله بترك شباكهم وسفنهم. وكان ذلك بمثابة ترك الأغنياء والملوك قصورهم وعروشهم وأملاكهم الواسعة. ويطلب المسيح من تلاميذه الآن الاستعداد لمثل ذلك أي لترك كل شيء لأجله وحسبان كل خسارة من أجله ربحاً ومحبته فوق كل الأهل والأصدقاء والمقتنيات.
    وقد رأينا في ما مرّ أربع علامات على أن بطرس تلميذ حقيقي. الأولى إصغاؤه إلى تعليم المسيح. والثانية طاعته لأمره. والثالثة تصديقه ما قال. والرابعة اتباعه إياه عندما ناداه.

    شفاء الأبرص ع ١٢ إلى ١٦


    ١٢، ١٣ «١٢ وَكَانَ فِي إِحْدَى ٱلْمُدُنِ. فَإِذَا رَجُلٌ مَمْلُوءٌ بَرَصاً. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي. ١٣ فَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً: أُرِيدُ فَٱطْهُرْ. وَلِلْوَقْتِ ذَهَبَ عَنْهُ ٱلْبَرَصُ».
    متّى ٨: ٢ ومرقس ١: ٤
    سبق الكلام على هذه المعجزة في شرح إنجيل متّى (متّى ٨: ٢ - ٤). وذكر متّى هذه المعجزة على أثر الوعظ على الجبل ولم يذكر مرقس ولوقا وقت فعلها ولم يشيرا إليه.
    فِي إِحْدَى ٱلْمُدُنِ أي مدن الجليل.
    مَمْلُوءٌ بَرَصاً أي كان برصه شديداً عاماً كل جسده.
    خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ أتى ذلك علامة لتواضعه واحترامه ليسوع والتضرع إليه.
    ١٤ «فَأَوْصَاهُ أَنْ لاَ يَقُولَ لأَحَدٍ. بَلِ ٱمْضِ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ، وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ كَمَا أَمَرَ مُوسَى شَهَادَةً لَـهُمْ».
    متّى ٨: ٤، لاويين ١٤: ٤ و١٠ و٢١ و٢٢
    في هذا العدد التفات من الغيبة إلى الخطاب. وهذا كثر في كل اللغات.
    ١٥ «فَذَاعَ ٱلْخَبَرُ عَنْهُ أَكْثَرَ. فَٱجْتَمَعَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ لِكَيْ يَسْمَعُوا وَيُشْفَوْا بِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِمْ».
    متّى ٤: ٢٥ ومرقس ٣: ٧ ويوحنا ٦: ٢
    نتج انتشار خبر المسيح من عدم إطاعة الأبرص الذي شفي للمسيح (مرقس ١: ٤٥) حتى أنه لم يمكنه أن يدخل مدينة ما لئلا يمسكه أرباب الحكومة بدعوى أنه مهيج للشعب.
    ١٦ «وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي ٱلْبَرَارِي وَيُصَلِّي».
    متّى ١٤: ٢٣ ومرقس ٦: ٤٦
    انظر الشرح مرقس ١: ٣٥.

    شفاء المفلوج ع ١٧ إلى ٢٦


    ١٧ «وَفِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ كَانَ يُعَلِّمُ، وَكَانَ فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ. وَكَانَتْ قُوَّةُ ٱلرَّبِّ لِشِفَائِهِمْ».
    وَفِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ أي حينما كان يجول في الجليل يبشر (ص ٤: ٤٤).
    كَانَ يُعَلِّمُ أي في كفرناحوم (مرقس ٢: ١). وقد سبق الكلام على شفاء هذا المفلوج في شرح بشارة متّى (متّى ٩: ٢ - ٨) وشرح بشارة مرقس (مرقس ٢: ١ - ١٢).
    مُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ أوضح لوقا أكثر من متّى ومرقس أن قد أتى كثيرون من رؤساء اليهود من الأماكن القريبة والأماكن البعيدة ليراقبوا يسوع ويجدوا علّة شكاية عليه للحكومة أو واسطة لحط مقامه عند الشعب. وأتوا ذلك حسداً له على نجاحه وخيفة من زيادة تأثير تعليمه في الناس.
    مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ أي من أكثر الأماكن التي في بلاد اليهود.
    قُوَّةُ ٱلرَّبِّ أي يسوع. والمعنى أنه ظهرت قوة إلهية عن يد الرب يسوع.
    لِشِفَائِهِمْ أي شفاء المرضى منهم الذين أتى بهم الجموع الذين كان يعلّمهم. وأظهر يسوع قوته الإلهية ليثبت صحة دعواه أنه هو المسيح. فلولا بشارة لوقا ما عرفنا أنه شفى حينئذ أحداً غير المفلوج.
    ١٨ «وَإِذَا بِرِجَالٍ يَحْمِلُونَ عَلَى فِرَاشٍ إِنْسَاناً مَفْلُوجاً، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ وَيَضَعُوهُ أَمَامَهُ».
    متّى ٩: ٢ ومرقس ٢: ٣
    ذكر متّى أن الذين حملوه أربعة وأنهم لم يستطيعوا الدخول إلى يسوع من باب البيت الذي كان فيه لكثرة المجتمعين.
    ١٩ «وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُونَ بِهِ لِسَبَبِ ٱلْجَمْعِ، صَعِدُوا عَلَى ٱلسَّطْحِ وَدَلَّوْهُ مَعَ ٱلْفِرَاشِ مِنْ بَيْنِ ٱلأَجُرِّ إِلَى ٱلْوَسَطِ قُدَّامَ يَسُوعَ».
    ٱلأَجُرِّ هو ترجمة لفظة كَرَامُن في اليونانية أي قرميد والمعنى هنا أوضح مما هو في كلام مرقس فإنه ذكر السقف ولم يذكر مادته. وظن البعض أن ذلك الأجر وضع على سقف ساحة الدار وكان ذلك السقف وقتياً فعلى ذلك يكون فتح المدخل فيه برفع الآجر وهو أمر سهل. واستدل بعضهم بكثرة كِسر الخزف والأجر في ردم كل المدن الجليلية القديمة على أن كل سقوف البيوت الوقتية والدائمة في تلك المدن كانت وقتئذ من الأجر وكلها يمكن أن يُرفع بسهولة عند الحاجة بخلاف ما كان الأمر لو وُضعت من التراب. وظن بعضهم أن لوقا كتب بشارته في بلدة كان كل سقوفها من الأجر فاصطلح أهلها أن يشيروا إلى السقف بلفظة آجر فاستعمل لوقا ذلك لمطلق السقف بقطع النظر عن مادته.
    ٢٠ «فَلَمَّا رَأَى إِيمَانَهُمْ قَالَ لَـهُ: أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ».
    إِيمَانَهُمْ أي إيمان المفلوج وحامليه.
    أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ذكر لوقا بعض ما في نداء المسيح من كلامه للمفلوج. ونقل مرقس آخر وهو قول يسوع للمفلوج «يا بني». وذكر متّى آخر وهو قوله «ثق».
    ٢١ «فَٱبْتَدَأَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يُفَكِّرُونَ قَائِلِينَ: مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟».
    متّى ٩: ٣ ومرقس ٢: ٦ و٧، مزمور ٣٢: ٥ وإشعياء ٤٣: ٢٥
    وجد الكتبة والفريسيون في كلام المسيح هنا علّة للشكاية عليه كما كانوا يطلبون. ولا ريب في أنهم فرحوا بذلك كما فرح قيافا عند محاكمة يسوع بإصابته علّة للحكم من فم المسيح (متّى ٢٦: ٦٣ و٦٥).
    يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ لو لم يكن المسيح إلهاً لكان ما قاله تجديفاً لا محالة لأنه ادعى قوة على مغفرة الخطايا لكنه أثبت للمشاهدين دعواه أنه إله بالمعجزة التي صنعها أمامهم فأخطأوا بعدم تسليمهم بصحة دعواه بعد البينة الجلية.
    ٢٢ - ٢٤ «٢٢ فَشَعَرَ يَسُوعُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَقَالَ لَـهُمْ: مَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِكُمْ؟ ٢٣ أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ قُمْ وَٱمْشِ. ٢٤ وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ فِرَاشَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِك».
    مرّ تفسير ذلك في شرح إنجيل متّى (متّى ٩: ٤ - ٦).
    لِكَيْ تَعْلَمُوا الخ (ع ٢٤) كأن المسيح بذلك يقول أنتم تظنون قولي «مغفورة لك خطاياك» باطلاً. وأنا أبرهن لكم بمعجزة سماوية أن لقولي سلطاناً على الأمراض الجسدية وذلك يثبّت لكم سلطانه على الأمراض الروحية. وهذا مثل البرهان الذي أتاه إيليا على جبل الكرمل على أنه نبي الله (١ملوك ١٨: ٢١ - ٣٩). فصنع المسيح ثلاث معجزات في ذلك الوقت.

    • الأولى: معرفة أفكار قلوب أعدائه.
    • الثانية: شفاء جسد المفلوج.
    • الثالثة: مغفرة خطاياه وهي أعظم الكل.


    ٢٥ «فَفِي ٱلْحَالِ قَامَ أَمَامَهُمْ، وَحَمَلَ مَا كَانَ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ وَهُوَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ».
    قَامَ أَمَامَهُمْ هذا لم يدع لهم سبيلاً إلى إنكار المعجزة. وكان يجب على الفريسيين أن يعترفوا لما شاهدوا ذلك بأن يسوع هو المسيح كما فعل الناس في زمان إيليا فلما نزلت النار من السماء على المحرقة بصلاته سقط جميع الشعب على وجوههم قائلين بفم واحد «الرب هو الله الرب هو الله». ولكن الفريسيين لم يعترفوا بيسوع إنما تأثر بعض الشعب كثيراً.
    وَهُوَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ هذا لم يذكره متّى ولا مرقس. ومعناه أن المفلوج شكر الله وحمده عندما خرج حاملاً الفراش الذي كان محمولاً عليه.
    ٢٦ «فَأَخَذَتِ ٱلْجَمِيعَ حَيْرَةٌ وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ، وَٱمْتَلأُوا خَوْفاً قَائِلِينَ: إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱلْيَوْمَ عَجَائِبَ!».
    كان الجمع كثيراً فلا بد من أن كانت الأقوال متنوعة في إظهار التعجب فنقل متّى شيئاً منها ونقل مرقس شيئاً آخر ونقل لوقا غيره ممن أخذ عنهم. ولم تكن علّة حيرتهم المعجزة وحدها بل صنع المسيح إياها إثباتاً لادعائه سلطاناً أعظم من سلطان شفاء الأمراض وهو القدرة على مغفرة الخطايا.

    دعوة لاوي والمخاطبة في بيته ع ٢٧ إلى ٣٩


    ٢٧، ٢٨ «٢٧ وَبَعْدَ هٰذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّاراً ٱسْمُهُ لاَوِي جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَـهُ: ٱتْبَعْنِي. ٢٨ فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ».
    متّى ٩: ٩ ومرقس ٢: ١٣ و١٤
    سبق الكلام على ذلك في الشرح متّى ٩: ٩ ومرقس ٢: ١٣ و١٤.
    عَشَّاراً تقدم بيان ماهية العشار ومقامه عند اليهود في شرح بشارة متّى (متّى ٥: ٤٦).
    لاَوِي هو متّى الرسول الإنجيلي (متّى ٩: ٩ و١٠: ٣). وكان جليلياً وطناً ويهودياً ديناً وعشاراً عملاً ورسولاً وكاتب بشارة بدعوة إلهية. ويحتمل أن يسوع سماه متّى عندما دعاه ليكون رسولاً كما سمى سمعان بطرس. ومتّى كلمة عبرانية مختصر متّاثيا ومعناه هبة الله.
    ٍفَتَرَكَ كُلَّ شَيْء هذا علاوة على ما قال متّى ومرقس ومعناه أنه اعتزل باطناً كل رجائه المكاسب المالية والمقاصد الدنيوية واعتزل ظاهراً جميع الأعشار لكي يكون تلميذاً للمسيح.
    ٢٩ - ٣٢ «٢٩ وَصَنَعَ لَـهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَٱلَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعاً كَثِيراً مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. ٣٠ فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟ ٣١ فَأَجَابَ يَسُوعُ: لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. ٣٢ لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ».
    متّى ٩: ١٠ ومرقس ٢: ١٥، ص ١٥: ١، متّى ٩: ١٣ و١تيموثاوس ١: ١٥
    ضِيَافَةً كَبِيرَةً (انظر الشرح متّى ٩: ١٠ - ١٧ ومرقس ٢: ١٥ - ٢٢).
    ذكر لوقا أن هذه الضيافة كانت في بيت متّى ولكن متّى لم يذكر ذلك تواضعاً. ونص على أنها كانت كبيرة أي المعدات كثيرة الصنوف. والأرجح أن متّى أولم تلك الوليمة إكراماً للمسيح وليجعل لأقاربه وأصحابه فرصة أن يسمعوا كلام يسوع.
    جَمْعاً كَثِيراً (ع ٢٩) كان من شأن حرفة متّى أن يتعرف بكثيرين من الناس فكان المدعوين من أصحابه ومعارفه ورصفائه.
    خُطَاةٍ (ع ٣٠) لا يلزم من تسمية الفريسيين إياهم بذلك أنهم كانوا أشراراً مشهورين بسوء السيرة. ولكن أولئك المدعين البرّ الذاتي اعتبروا الذين لا يحفطون شريعة موسى مثلهم خطاة. أو لعلهم أضافوا قولهم خطاة إلى قولهم عشارين بياناً لاعتبارهم الأمرين واحداً. ووجهوا اللوم إلى التلاميذ وقصدهم ملامة يسوع معلمهم.
    ٣٣ - ٣٨ «٣٣ وَقَالُوا لَـهُ: لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً وَيُقَدِّمُونَ طِلْبَاتٍ، وَكَذٰلِكَ تَلاَمِيذُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَيْضاً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ ٣٤ فَقَالَ لَـهُمْ: ٣٥ أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي ٱلْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ. ٣٦ وَقَالَ لَـهُمْ أَيْضاً مَثَلاً: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَٱلْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَٱلْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ ٱلرُّقْعَةُ ٱلَّتِي مِنَ ٱلْجَدِيدِ. ٣٧ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ ٱلْخَمْرُ ٱلْجَدِيدَةُ ٱلزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَٱلزِّقَاقُ تَتْلَفُ. ٣٨ بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعا».
    متّى ٩: ١٤ ومرقس ٢: ١٨، متّى ٩: ١٦ و١٧ ومرقس ٢: ٢١ و٢٢
    سبق الكلام على تعليم المسيح في حقيقة الصوم في الشرح (متّى ٩: ١٤ - ١٧ ومرقس ٢: ١٨ - ٢٢). ونقل الإنجيليون الثلاثة الأمثال الثلاثة التي أوردها المسيح بياناً لمراده. أخذ أولها من عوائد الأعراس. والثاني من عوائد رقع خروق الثياب. والثالث من عوائد حفظ الخمر الجديدة.
    وَقَالُوا لَـهُ (ع ٣٣) نفهم من القرينة هنا أن القائلين هم الفريسيون ومن الذي في بشارة متّى أن القائلين هم تلاميذ يوحنا المعمدان ومن الذي في بشارة مرقس أن القائلين هم تلاميذ يوحنا والفريسيون (مرقس ٢: ١٨). وهو يدفع شبهة الخلاف بين متّى ولوقا.
    طِلْبَاتٍ ليس المراد بهذه الطلبات الصلوات المرتجلة التي يصلّيها الأتقياء بغية ما يحتاجون إليه من البركات بل تلاوة صلوات مكتوبة فُرضت عليهم كسائر الطقوس.
    زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ (ع ٣٧) أشار بهذه الزقاق إلى النظام الموسوي الطقسي.
    زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ أي نظام المسيحي الروحي. وأشار بالخمر العتيقة إلى الديانة اليهودية وبالخمر الجديدة إلى الديانة المسيحية. وكل ما ذُكر من كلام المسيح في هذا بيان تعذر الاتفاق بين الطقوس اليهودية والحرية المسيحية. وهذا الفصل مختصر الحقائق التي أوضحها بولس في رسالته إلى أهل غلاطية.
    ٣٩ «وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ ٱلْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ ٱلْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: ٱلْعَتِيقُ أَطْيَبُ».
    ليس معنى المسيح في هذا العدد أن يقابل النظام اليهودي بالنظام المسيحي للحكم بأطيبية أحدهما بل إظهار الواقع وهو أنه صعب على الناس أن يتركوا حالاً ما اعتادوه ويتمسكوا بغيره. والكلام هنا متعلق بالآية الثانية والثلاثين وفيه شيء من العذر عن تلاميذ يوحنا المعمدان وأمثالهم الذين لا يسرعون إلى قبول تعليم المسيح الروحي بترك الطقوس القديمة.
    لِلْوَقْتِ أي في أول عرض الديانة الروحية عليه قبل أن يقابلها بالطقسية وقبل أن ينير روح الله قلبه ليتحقق فضل النظام الجديد. ومثال ذلك شاول الطرسوسي الذي رُبي في الديانة اليهودية واضطهد تابعي الإيمان الجديد بغية أن يميتهم لكنه بعد هذا صار رسولاً لذلك الإيمان وحامى عنه بكل قوته.


    الأصحاح السادس


    المناظرة لليهود في أمر حفظ السبت ع ١ إلى ١١


    ١ - ٥ «١ وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱلثَّانِي بَعْدَ ٱلأَوَّلِ ٱجْتَازَ بَيْنَ ٱلزُّرُوعِ. وَكَانَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ ٱلسَّنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ وَهُمْ يَفْرُكُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ. ٢ فَقَالَ لَـهُمْ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: لِمَاذَا تَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي ٱلسُّبُوتِ؟ ٣ فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ وَلاَ هٰذَا ٱلَّذِي فَعَلَـهُ دَاوُدُ، حِينَ جَاعَ هُوَ وَٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، ٤ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ ٱللّٰهِ وَأَخَذَ خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ وَأَكَلَ، وَأَعْطَى ٱلَّذِينَ مَعَهُ أَيْضاً، ٱلَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ؟ ٥ وَقَالَ لَـهُمْ: إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضا».
    متّى ١٢: ١ ومرقس ٢: ٢٣، خروج ٢٠: ١٠ و٢كورنثوس ٣: ٦، ١صموئيل ٢١: ٦، لاويين ٢٤: ٩
    فِي ٱلسَّبْتِ ٱلثَّانِي بَعْدَ ٱلأَوَّلِ لم يتضح أي زمان أشار إليه المسيح بهذه الكلمات على أنه ليس من أهمية لذلك. وقد ظن أكثر المفسرين أن المراد بالأول اليوم الأول من الفصح وبالثاني غده وهو يوم السبت وهو عند اليهود السبت الأول من السنة الدينية. وكان اليهود يقدّمون للرب في اليوم الثاني من العيد باكورة الحصاد ولم يكن جائزاً لهم أن يأكلوا من غلالهم الجديدة شيئاً قبل التقديم (لاويين ٢٣: ١٠ و١١ و١٤). وحضر يسوع العيد وأسرع بالرجوع من أورشليم إلى الجليل لعلّة ذُكرت في إنجيل يوحنا (يوحنا ٥: ١٥ و١٦). وظن آخرون أن المراد بالأول السبت الأول من السنة المدنية أو السياسية وهو في نحو أول شهر تشرين الأول وأن المراد بالسبت الثاني السبت الأول من السنة الدينية وهو في نحو أول نيسان. وظن غيرهم أن المراد بالسبت الثاني السبت الواقع في أسبوع عيد الخمسين لأن لليهود ثلاثة سبوت في السنة يعتبرونها أكثر مما سواها الأول السبت الواقع في أسبوع الفصح والثاني السبت الواقع في أسبوع عيد الخمسين والثالث السبت الواقع في أسبوع عيد المظال.
    يَقْطِفُونَ ٱلسَّنَابِلَ الخ سبق الكلام على عمل التلاميذ المذكور وشكاية الفريسيين وجواب المسيح في الشرح (متّى ١٢: ١ - ٨ ومرقس ٢: ٢٣ و٢٨). ولا فرق في رواية لوقا عن روايتي متّى ومرقس إلا أن لوقا ذكر شكوى الفريسيين إلى المسيح نفسه وأن متّى ومرقس ذكرا أنهم لاموا التلاميذ. ولعلهم لاموا التلاميذ أولاً ثم شكوهم إلى معلمهم يسوع.
    فَأَجَابَ يَسُوعُ (ع ٣) كانت خلاصة جوابه أمرين. الأول أنه تجوز الأعمال الضرورية في يوم الراحة أي يوم الرب. والثاني أنه يجوز في ذلك اليوم عمل ما أمر به هو أو ما سمح به أو كان في سبيل خدمته.
    ٦ - ١١ «٦ وَفِي سَبْتٍ آخَرَ دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ وَصَارَ يُعَلِّمُ. وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ ٱلْيُمْنَى يَابِسَةٌ، ٧ وَكَانَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِي فِي ٱلسَّبْتِ، لِكَيْ يَجِدُوا عَلَيْهِ شِكَايَةً. ٨ أَمَّا هُوَ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَدُهُ يَابِسَةٌ: قُمْ وَقِفْ فِي ٱلْوَسَطِ. فَقَامَ وَوَقَفَ. ٩ ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: أَسْأَلُكُمْ شَيْئاً: هَلْ يَحِلُّ فِي ٱلسَّبْتِ فِعْلُ ٱلْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ ٱلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ إِهْلاَكُهَا؟. ١٠ ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَـهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ. فَفَعَلَ هٰكَذَا. فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَٱلأُخْرَى. ١١ فَٱمْتَلأُوا حُمْقاً وَصَارُوا يَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ؟».
    متّى ١٢: ١٠ ومرقس ٣: ١، ص ١٣: ١٤ و١٤: ٣ ويوحنا ٩: ١٦
    فُسر ذلك في ما سبق من الشرح متّى ١٢: ٩ - ١٤ ومرقس ٣: ١ - ٦. والأرجح أن الحادثة المذكورة هنا حدثت في كفرناحوم. وزاد لوقا على ما ذكره متّى ومرقس أن شفاء يسوع ليابس اليد كان في السبت الذي يلي السبت الذي فرك فيه تلاميذه السنابل وأن يسوع كان يعلّم وقتئذ في المجمع. وأن اليد اليابسة كانت اليمنى. وأنه عرف ما في قلوب الفريسيين من الحسد والبغض وأنهم اعتبروه مخالفاً وصية السبت. وأنهم امتلأوا حمقاً. ولم يذكر لوقا ما ذكره مرقس من أن الفريسيين اتفقوا هم والهيروديون على اضرار المسيح.

    انتخاب الاثني عشر واجتماع الشعب إلى يسوع ع ١٢ إلى ١٩


    ١٢ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى ٱلْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى ٱللَّيْلَ كُلَّهُ فِي ٱلصَّلاَةِ لِلّٰهِ».
    متّى ١٤: ٢٣
    ٱلْجَبَلِ هو جبل قرب بحر الجليل أي بحيرة طبرية حيث كان يسوع يتردد وقتئذ (مرقس ٣: ٧).
    لِيُصَلِّيَ مما امتاز به لوقا محبته أن يذكر انفراد يسوع للصلاة مراراً. وكانت غاية المسيح من صلاته يومئذ الاستعداد لانتخاب رُسله. فإن قيل ما حاجة المسيح إلى الصلاة قلنا أنه إنسان كما أنه إله فاحتاج باعتبار كونه إنساناً إلى البركة الإلهية. وحاجته إلى الطعام. ولم يكن يصلّي لأجل نفسه فقط بل لأجل غيره أيضاً بالنظر إلى كونه وسيطاً بين الله والناس كما يُرى من صلاته التي ذكرها يوحنا الإنجيلي (يوحنا ص ١٧). وأنه لا يزال يصلّي كذلك في السماء (عبرانيين ٧: ٢٥).
    ١٣ «وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ، وَٱخْتَارَ مِنْهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضاً «رُسُلاً».
    متّى ١٠: ٢ ومرقس ٣: ١٤ الخ
    وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ أي أول الصبح.
    تَلاَمِيذَهُ أي المؤمنين به التابعين إياه ليسمعوا تعاليمه.
    َٱخْتَار لا يلزم من ذلك أن المسيح لم يكن قد اختارهم في ذهنه قبلاً لأن المراد هنا أن المسيح أظهر علناً الذين اختارهم رُسلاً ليكونوا رُسلاً بعد. وقد سبق الكلام على هذا في ما مرّ من الشرح (متّى ١٠: ٢ - ٤ و١٢: ١٥ - ٢١ ومرقس ٣: ٧ - ١٩).
    ولم يذكر متّى في بشارته اختيار الرسل بل إرسال المسيح إياهم للتبشير. والذي قصده لوقا هنا الاختيار فقط. وأما الإرسال فكان بعد ان علّمهم يسوع زماناً.
    ١٤ - ١٦ «١٤ سِمْعَانَ ٱلَّذِي سَمَّاهُ أَيْضاً بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ. يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ. ١٥ مَتَّى وَتُومَا. يَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَسِمْعَانَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْغَيُورَ. ١٦ يَهُوذَا بْنَ يَعْقُوبَ، وَيَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ ٱلَّذِي صَارَ مُسَلِّماً أَيْضاً».
    يوحنا ١: ٤٢، يهوذا ١
    مرّ الكلام على ذلك في الشرح متّى ١٠: ١ - ٤.
    ١٧ - ١٩ «١٧ وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، ٱلَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ، ١٨ وَٱلْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. ١٩ وَكُلُّ ٱلْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ، لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي ٱلْجَمِيعَ».
    متّى ٤: ٢٥ ومرقس ٣: ٧، متّى ٢٤: ٣٦، مرقس ٥: ٣٠ وص ٨: ٤٦
    وَنَزَلَ أي من قنة الجبل حيث صعد للصلاة ودعا تلاميذه إليه.
    فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ ذلك سهل صغير في السفح لا في الحضيض لأن المسيح لم ينحدر إليه كما يظهر من قول متّى (متّى ٥: ١). ولعله نزل أولاً إلى الحضيض وشفى المرضى هناك ولما ازدحم الجموع صعد ثانية إلى الجبل وخاطبهم من هنالك.
    جُمْهُورٌ كَثِيرٌ كان هنالك سوى الرسل والتلاميذ قسم ثالث من الناس وهم الذين أتوا ليسمعوا المسيح وينالوا الشفاء منه وهم لم يؤمنوا به إيماناً صحيحاً. وقد مرّ الكلام على هذا الجمهور في الشرح (متّى ٤: ٢٣ - ٢٥ ومرقس ٣: ٧ و٨).
    لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ (ع ١٩) أي ظهرت القوة التي فيه بمعجزات الشفاء.

    الوعظ على الجبل ع ٢٠ إلى ٤٩


    ٢٠ «وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
    متّى ٥: ٣ و١١: ٥ ويعقوب ٢: ٥
    ظن بعضهم أن الوعظ المذكور هنا غير الوعظ على الجبل الذي ذكره متّى في الأصحاحات الثلاثة الخامس والسادس والسابع ولكنه تكرير جزء من ذلك الوعظ في مكان آخر ووقت آخر. والذي حملهم على ذلك هو قول متّى أن يسوع صعد إلى الجبل وجلس (متّى ٦: ١). وقول لوقا أنه نزل ووقف في موضع سهل (ع ١٧) ولكن لوقا قال أن المسيح نزل ولم يبين أبقي في موضعه أم صعد أيضاً وهل وقف عند الوعظ أو جلس. ومما حملهم على ذلك أيضاً أن الخطاب في إنجيل لوقا أقصر من الخطاب في إنجيل متّى. لكن متّى كتب بشارته إلى اليهود ففسر لهم كما يقتضي الطبع ما ذكره المسيح لبيان روحانية ملكوته خلافاً لتعليم الكتبة والفريسيين الناموسي. وكتب لوقا إلى الأمم فلم يحتج إلى أن يحذرهم من تعليم أولئك. ولكن مع هذا الفرق الجزئي اتفق أكثر المفسرين على أن الوعظ الذي ذكره لوقا هو الوعظ الذي ذكره متّى وأن كلا منهم ذكر منه ما يوافق قصده في تسطير بشارته. والذي حملهم على ذلك مماثلة بداءة كل من الوعظين ونهايته ووحدة معنى الاثنين. وذكر كل من البشيرين على أثر فراغ المسيح من الوعظ دخوله إلى كفرناحوم وشفاءه عبد القائد. وقد مرّ تفسير الوعظ على الجبل في الشرح فارجع إليه (متّى ص ٥ وص ٦ وص ٧).
    وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ لو لم يكن في نظر يسوع إلى تلاميذه حينئذ أمر غير عادي لم يذكره لوقا في مقدمة نبإ الوعظ. وقال متّى في مقدمته لذلك «فتح فاه». فكلتا العبارتين تدل على أهمية الخطاب على أثر ذلك.
    طُوبَاكُمْ ذكر متّى سبع تطويبات خاصة وختمها بثامنة عامة. واقتصر لوقا على ذكر أربع منها هن الأولى والرابعة والثانية والتي هي الخاتمة مما ذكره متّى.
    أَيُّهَا ٱلْمَسَاكِينُ أي المساكين بالروح (متّى ٥: ٣). وهم الذين يشعرون بفقرهم الروحي ويأتون إلى المسيح ليغنيهم.
    مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ أي ملكوت السماوات والمعنى واحد لأن ملكوت السماء ملكوت الله. فلوقا نسب الملكوت إلى الملك ونسبه متّى إلى مكان عرشه تعالى. وذكر متّى الكلام على سبيل الغيبة بقوله «طوباكم الخ» وذكره لوقا في سبيل الخطاب كما رأيت وجرى كل من البشيرين على سبيله في ذلك الوعظ كله.
    والمقصود بالوعد للمساكين أنهم يتمتعون بكل حقوق ملكوت الله وبركاته الروحية.
    ٢١ «طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْجِيَاعُ ٱلآنَ، لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْبَاكُونَ ٱلآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ».
    إشعياء ٥٥: ١ و٦٥: ١٣ ومتّى ٥: ٦، إشعياء ٦١: ٣ ومتّى ٥: ٤
    ٱلْجِيَاعُ لم يكن جوع هؤلاء جوع الجسد إلى الخبز بل جوع النفس إلى البرّ (متّى ٥: ٦).
    ٱلْبَاكُونَ ٱلآنَ علّة بكائهم الخطية ونتائجها من غضب الله وعقابه كما يتضح مما ذكره متّى (متّى ٥: ٤).
    سَتَضْحَكُونَ أي تبتهجون وعلّة ابتهاجهم مغفرة خطاياهم ورضى الله عنهم الآن وإلى الأبد.
    ٢٢ «طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ ٱلنَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا ٱسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ».
    متّى ٥: ١١ و١بطرس ٢: ١٩ و٣: ١٤ و٤: ١٤، يوحنا ١٦: ٢
    أَبْغَضَكُمُ لأنكم تلاميذي. وهذا علّة ما ذكره متّى من التعيير والطرد وغيره (متّى ٥: ١٠ و١١).
    أَفْرَزُوكُمْ أي طردوكم من المجامع وحرموكم الحقوق التي للشعب اليهودي.
    ٢٣ «اِفْرَحُوا فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا، فَهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هٰكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِٱلأَنْبِيَاءِ».
    متّى ٥: ١٢ وأعمال ٥: ٤١ وكولوسي ١: ٢٤ ويعقوب ١: ٢، أعمال ٧: ٥١ و٥٢
    فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي يوم اضطهاد الناس إياكم لأجلي (متّى ٥: ١٢).
    ٢٤ - ٢٦ «٢٤ وَلٰكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. ٢٥ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلشَّبَاعَى، لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّاحِكُونَ ٱلآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. ٢٦ وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ ٱلنَّاسِ حَسَناً. لأَنَّهُ هٰكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ».
    عاموس ٦: ١ وص ١٢: ٢١ ويعقوب ٥: ١، متّى ٦: ٢ و٥ و١٦ وص ١٦: ٢٥، إشعياء ٦٥: ١٣، أمثال ١٤: ١٣، يوحنا ١٥: ١٩ و١يوحنا ٤: ٥
    لم يذكر متّى الويلات المذكورة هنا. ولا ريب أنه كان في خطاب المسيح أشياء أُخر لم يذكرها أحد من البشيرين. والأرجح أن تلك الويلات وُجهت إلى الفريسيين الذين كانوا هنالك.
    وَيْلٌ معناه عكس معنى طوبى وهو هنا دلالة على الشقاء في الدنيا والآخرة.
    أَيُّهَا ٱلأَغْنِيَاءُ أي المكتفون بنصيبهم الدنيوي المتكلون على غناهم كأنه الخير الأعظم فهم لا يشعرون بفقر نفوسهم وليس لهم كنز في السماء (مرقس ١٠: ٢٤ ولوقا ١٢: ١٩ و٢٠ و١تيموثاوس ٦: ٩ و١٠ و١٧). وأوضح يسوع مراده هنا في مثل الغني ولعازر (ص ١٦: ١٩).
    نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ أي نلتم ما يكون من مال الأرض من التعزية وهو عزاء قصير ناقص. وقوله «نلتم عزاءكم» دليل على أن ذلك نصيبهم الوحيد الذي لا عزاء لهم بعده لا من الإنجيل ولا من المسيح وفقاً لقول إبراهيم للغني في الجحيم «يَا ٱبْنِي ٱذْكُرْ أَنَّكَ ٱسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ» (ص ١٦: ٢٥).
    ٱلشَّبَاعَى (ع ٢٥) ما في هذه الآية عكس ما في الآية ٢١. والمراد بالشباعى هنا المكتفون بالعاجل أي ما لهم من هذه الحياة الدنيا غير جائعين إلى البر.
    سَتَجُوعُونَ (ع ٢٥) أي ستشعرون أن لذّات هذه الدنيا لا تشبع النفس الخالدة. وقد يعتري ذلك الجوع النفس في أثناء لذاتها الدنيوية وكثيراً ما يعتريها عند الموت ومفارقة كل نعيم أرضي ومعظم ذلك في الأبدية حيت تكون النفس مفتقرة إلى كل عزاء.
    ٱلضَّاحِكُونَ (ع ٢٥) أي المتمتعون بلذّات هذا العالم مفضلين إياها على اللذّات التي هي عند يمين الله بلا حزن على الخطية ولا خوف من العقاب.
    سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ في ساعة البلية التي ترون فيها أن لذات العالم لا تستطيع تعزيتكم وفي ساعة تضطرون فيها أن تتركوا كل تلك اللذّات وتقفوا أمام الديّان العادل (أمثال ١٤: ١٣ وجامعة ٧: ٦).
    وَيْلٌ لَكُمْ (ع ٢٦) هذا خطاب للتلاميذ لا للدنيويين الذين كان يخاطبهم.
    جَمِيعُ ٱلنَّاسِ (ع ٢٦) أي الدنيويين.
    قَالَ فِيكُمْ... حَسَناً (ع ٢٦) تفسير هذا قوله «لَوْ كُنْتُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ لَكَانَ ٱلْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلٰكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ... لِذٰلِكَ يُبْغِضُكُمُ ٱلْعَالَمُ» (يوحنا ١٥: ١٩). وقول الرسول «أَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ» (يعقوب ٤: ٤) فلا يمكن أهل العالم أن يقولوا في تلاميذ المسيح حسناً ما لم يكونوا مثلهم مخالفين ضمائرهم عائشين في الرياء والإثم طالبين مجد الناس لا المجد الذي هو من الله وحده. فمدح العالم لأولئك التلاميذ برهان على أن أقوالهم وأعمالهم لا تبكت العالميين ولا تماثل أعمال المسيح التي يبغضها أهل العالم.
    لأَنَّهُ هٰكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ الخ أي آباء الدنيويين في أزمنة الأنبياء الكذبة. ولم يرد المسيح الإشارة إلى حادثة معينة بل الإعلان بحقائق عامة وهي أن آباءهم أحبوا خطاياهم ومدحوا الأنبياء الكذبة لأنهم لم يوبخوهم على تلك الخطايا. ومن ذلك أنبياء البعل وأنبياء إسرائيل الذين ذكرهم إشعياء وإرميا (إشعياء ٣٠: ١٠ وإرميا ٥: ٣١).
    ٢٧، ٢٨ «٢٧ لٰكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلسَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، ٢٨ بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ».
    خروج ٢٣: ٤ وأمثال ٢٥: ٢١ ومتّى ٥: ٤٤ وع ٣٥ ورومية ١٢: ٢٠، ص ٢٣: ٢٤ وأعمال ٧: ٦٠
    انظر الشرح متّى ٥: ٤٤ و٤٥
    ٢٩ «مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَٱعْرِضْ لَـهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضاً».
    متّى ٥: ٣٩، ١كورنثوس ٦: ٧
    ارجع إلى الشرح متّى ٥: ٣٩ و٤٠.
    ٣٠ «وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ ٱلَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ».
    تثنية ١٥: ٧ و٨ و١٠ وأمثال ٢١: ٢٦ ومتّى ٥: ٤٢
    تقدم تفسيره متّى ٥: ٤٢.
    ٣١ «وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هٰكَذَا».
    متّى ٧: ١٢
    سبق شرحه متّى ٧: ١٢.
    ٣٢ - ٣٦ «٣٢ وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. ٣٣ وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى ٱلَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هٰكَذَا. ٣٤ وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ ٱلَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ ٱلْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ ٱلْمِثْلَ. ٣٥ بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي ٱلْعَلِيِّ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ ٱلشَّاكِرِينَ وَٱلأَشْرَارِ. ٣٦ فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ».
    متّى ٥: ٤٦، متّى ٥: ٤٢ ع ٢٧، مزمور ٣٧: ٢٦ وع ٣٠، متّى ٥: ٤٥، متّى ٥: ٤٨
    انظر الشرح متّى ٥: ٤٦ - ٤٨.
    والفرق هنا عما ذكره متّى أن لوقا ذكر عمل اللطف والإحسان إلى الأصحاب. ومتّى لم يذكر سوى التحيات التي تدل على المحبة التي هي مصدر اللطف والإحسان.
    ٣٧، ٣٨ «٣٧ وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. ٣٨ أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جَيِّداً مُلَبَّداً مَهْزُوزاً فَائِضاً يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ ٱلْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ».
    متّى ٧: ١، أمثال ١٩: ١٧، مزمور ٧٩: ١٢، متّى ٧: ٢ ومرقس ٤: ٢٤ ويعقوب ٢: ١٣
    انظر الشرح متّى ٧: ١ - ٩.
    كَيْلاً جَيِّداً مُلَبَّداً مَهْزُوزاً فَائِضاً هذا مجاز مأخوذ مما اعتادوه في كل الحبوب وكل أوصاف الكيل هنا إشارة إلى كماله وكمال الثواب للمحسنين إلى الفقراء والمحتاجين.
    فِي أَحْضَانِكُمْ (ع ٣٨) كانت ثياب اليهود يومئذ كثياب كثيرين من أهل الشرق اليوم طويلة واسعة يتنطق عليها حتى يمكن أن يوضع في العب كثير من الحبوب كالقمح والشعير وغيرها (خروج ٤: ٦ و٧ وراعوث ٣: ١٥ و٢ملوك ٤: ٣٩ وأمثال ٦: ٢٧ و١٥: ٣٣). والمعنى أن الناس يعاملوكم بالقول والعمل كما تعاملونهم فإن كنتم بخلاء على غيركم منتقدين أعمالهم كانوا عليكم كذلك وإن كنتم لطفاء بهم مسامحين لهم كرماء عليهم كانوا لكم كذلك. وقال يسوع مثل هذا في بشارة مرقس (مرقس ٤: ٢٤) لكن لغاية أخرى فإن قصده هناك أن يعلّم تلاميذه أنهم إن قبلوا تعاليمه برغبة ونشاط واجتهدوا في إفادة الجهلاء مما تعلّموا زادهم علماً وفائدة.
    ٣٩ «وَضَرَبَ لَـهُمْ مَثَلاً: هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا يَسْقُطُ ٱلاثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ؟».
    متّى ١٥: ١٤
    .ارجع إلى الشرح متّى ١٥: ١٤
    هذه الآية لم يذكرها متّى في ما نقله من الوعظ على الجبل بل ذكرها في خطاب المسيح للفريسيين وهو يتكلم على سوء تعليمهم في أمر النجاسة. وذكرها لوقا هنا مثلاً سائراً بين اليهود وهي متعلقة بالكلام في ع ٤٠ و٤١.
    ٤٠ «لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَارَ كَامِلاً يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ».
    متّى ١٠: ٢٤ ويوحنا ١٣: ١٦ و١٥: ٢٠
    سبق الكلام على هذا في الشرح متّى ١٠: ٢٤. ولكن القرينة والغاية في إنجيل متّى ليستا كالقرينة والغاية هنا فإن الغاية في بشارة متّى بيان أنه يجب على التلميذ أن ينتظر بغض الناس واضطهادهم إياه كما أبغضوا واضطهدوا معلمه. والغاية هنا لا ينتظر من التلميذ أن يعرف أكثر من معلمه فإن كان المعلم أعمى فالتلميذ كذلك. وأشار المسيح بذلك إلى أهمية أن يكون تلاميذه متعلمين كل حقائق الإنجيل لكي لا يكونوا قواداً عمياً للعميان.
    كَامِلاً (ع ٤٠) أي متعلماً كل ما قدر معلمه أن يعلّمه إياه حتى صار كالمعلم. فلا يمكنه أن يتعلّم من المعلم ما لا يعلمه. وحث المسيح تلاميذه بهذا الكلام على الرغبة في بلوغ الدرجة العليا من سلم العلم لكي يكونوا قادرين على تبليغ غيرهم إليها.
    وكان المسيح مثالاً في ما يجب أن يتصف به المعلم فلم يكن منتقداً ولا متكبراً بل كان لطيفاً متواضعاً حليماً فيجب على كل معلم أن يتمثل به في كل ذلك.
    ٤١، ٤٢ «٤١ لِمَاذَا تَنْظُرُ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا ٱلْخَشَبَةُ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ ٤٢ أَوْ كَيْفَ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ لأَخِيكَ: يَا أَخِي دَعْنِي أُخْرِجِ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِكَ، وَأَنْتَ لاَ تَنْظُرُ ٱلْخَشَبَةَ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَوَّلاً ٱلْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيك».
    متّى ٧: ٣، أمثال ١٨: ١٧
    انظر الشرح متّى ٧: ٣ - ٥.
    ٤٣، ٤٤ «٤٣ لأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً رَدِيّاً، وَلاَ شَجَرَةٍ رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً جَيِّداً. ٤٤ لأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا. فَإِنَّهُمْ لاَ يَجْتَنُونَ مِنَ ٱلشَّوْكِ تِيناً، وَلاَ يَقْطِفُونَ مِنَ ٱلْعُلَّيْقِ عِنَباً».
    متّى ٧: ١٦ و١٧، متّى ١٢: ٣٣، متّى ٧: ١٦
    انظر الشرح متّى ٧: ١٦ - ١٨.
    في هذا الكلام بيان العلاقة الشديدة بين صفات الإنسان وتعليمه. فالإنسان الصالح لا يكون معلم الضلال والإنسان الشرير لا يستطيع أن يكون معلم الحق. وهذا خلاف ما يعتقده البعض من جواز أن تكون سيرة الإنسان رديئة مع صلاحه لأن يكون معلم الشعب الديني.
    ٤٥ «اَلإِنْسَانُ ٱلصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلصَّالِحِ يُخْرِجُ ٱلصَّلاَحَ، وَٱلإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ».
    متّى ١٢: ٣٤ و٣٥
    (انظر الشرح متّى ١٢: ٣٥). هذه الآية لم يذكرها متّى في وعظ المسيح على الجبل لكنه ذكرها في موضع آخر ولا عجب من أن المسيح كررها لأهميتها.
    ٤٦ - ٤٩ «٤٦ وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، وَأَنْتُمْ لاَ تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟ ٤٧ كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلاَمِي وَيَعْمَلُ بِهِ، ٤٨ يُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتاً، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ ٱلأَسَاسَ عَلَى ٱلصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ ٱلنَّهْرُ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى ٱلصَّخْرِ. ٤٩ وَأَمَّا ٱلَّذِي يَسْمَعُ وَلاَ يَعْمَلُ، فَيُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ، فَصَدَمَهُ ٱلنَّهْرُ فَسَقَطَ حَالاً، وَكَانَ خَرَابُ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ عَظِيماً».
    ملاخي ١: ٦ ومتّى ٧: ٢١ و٢٥: ١١ وص ١٣: ٢٥، متّى ٧: ٢٤
    انظر الشرح متّى ٧: ٢١ - ٢٧.


    الأصحاح السابع


    شفاء عبد قائد المئة الروماني ع ١ إلى ١٠


    ١، ٢ «١ وَلَمَّا أَكْمَلَ أَقْوَالَـهُ كُلَّهَا فِي مَسَامِعِ ٱلشَّعْبِ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ. ٢ وَكَانَ عَبْدٌ لِقَائِدِ مِئَةٍ، مَرِيضاً مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ، وَكَانَ عَزِيزاً عِنْدَه».
    متّى ٨: ٥ الخ
    لا فرق يعتد به بين ما ذكره متّى وما ذكره لوقا في قصة هذا القائد ومن ذلك أن متّى قال أن مرض العبد كان فالجاً. وسبق شرح هاتين الآيتين في بشارة متّى (٨: ٥ - ١٣).
    ٣، ٤ «٣ فَلَمَّا سَمِعَ عَنْ يَسُوعَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخَ ٱلْيَهُودِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَشْفِيَ عَبْدَهُ. ٤ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَى يَسُوعَ طَلَبُوا إِلَيْهِ بِٱجْتِهَادٍ قَائِلِينَ: إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَـهُ هٰذَا».
    قال متّى أن القائد سأل المسيح وأبان لوقا كيف سأله أي أنه لم يسأله رأساً بل بواسطة شيوخ اليهود وهذا مجاز شائع في كل اللغات المشهورة وهو مثل قوله أن سليمان بنى الهيكل وأن بيلاطس جلد المسيح وهذا القائد بنى المجمع (ع ٥).
    ٥ «لأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا، وَهُوَ بَنَى لَنَا ٱلْمَجْمَعَ».
    اعتبر هذا الإنسان مع أنه وثنيٌ ديانة اليهود وأظهر مودته للإسرائيليين بأن قام ببناء معبد لهم. وهذا خلاف أكثر قواد الرومانيين وولاتهم الظالمين المتكبرين المحتقرين لليهود. ويظهر من قول لوقا في الآية التاسعة «ولا في إسرائيل» أن ذلك القائد لم يكن دخيلاً لأن الدخلاء كانوا يُحسبون شركاء الإسرائيليين في الإيمان والحقوق.
    ٦ «فَذَهَبَ يَسُوعُ مَعَهُمْ. وَإِذْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنِ ٱلْبَيْتِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ أَصْدِقَاءَ يَقُولُ لَـهُ: يَا سَيِّدُ، لاَ تَتْعَبْ. لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي».
    أَصْدِقَاءَ أظهر القائد اعتباره للمسيح بأنه لم يرسل إليه بعض عبيده بل أرسل بعض أصدقائه.
    لاَ تَتْعَبْ كان القائد وثنياً ولا ريب في أنه كان يعلم أن دخول المسيح إلى بيته يوجب عليه أن يكون نجساً إلى المساء حسب شريعة اليهود فلم يرد أن يكلفه ذلك.
    لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقّاً ألخ حسب هذا القائد لتواضعه أن إتيان المسيح إلى بيته شرف لا يستحقه هو. وشهادته على نفسه بعدم الاستحقاق خلاف شهادة الشيوخ له (ع ٤). فالغالب أن الذين يصغرون في عيون أنفسهم يكبرون في عيون غيرهم وبالعكس.
    ٧ - ١٠ «٧ لِذٰلِكَ لَمْ أَحْسِبْ نَفْسِي أَهْلاً أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ. لٰكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَيَبْرَأَ غُلاَمِي. ٨ لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ مُرَتَّبٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ، لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. وَأَقُولُ لِهٰذَا: ٱذْهَبْ فَيَذْهَبُ، وَلآخَرَ: ٱئْتِ فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِي: ٱفْعَلْ هٰذَا فَيَفْعَلُ. ٩ وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ هٰذَا تَعَجَّبَ مِنْهُ، وَٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْجَمْعِ ٱلَّذِي يَتْبَعُهُ وَقَالَ: أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا. ١٠ وَرَجَعَ ٱلْمُرْسَلُونَ إِلَى ٱلْبَيْتِ، فَوَجَدُوا ٱلْعَبْدَ ٱلْمَرِيضَ قَدْ صَحَّ».
    يوحنا ١: ٢٧
    تَعَجَّبَ لم يذكر في الإنجيل أن المسيح تعجب سوى مرتين. الأولى من إيمان هذا القائد. والثانية من عدم إيمان أهل الناصرة (مرقس ٦: ٦).
    وَقَالَ: أَقُولُ لَكُمْ الخ مدح المسيح القائد كما مدحه شيوخ اليهود ولكن لعلّة غير التي حملتهم على مدحه فهم مدحوه لسخائه ويسوع مدحه لإيمانه. وترك لوقا هنا بعض ما ذكره متّى (متّى ٨: ١١ و١٢) ولكنه ذكره في موضع آخر. وهذا دليل على أن المسيح كرّره (ص ١٣: ٢٨ و٢٩).
    وَرَجَعَ ٱلْمُرْسَلُونَ الخ هذا علاوة على ما ذكره متّى فإنه اقتصر على إنبائه بأن العبد شفي.

    إقامة ابن الأرملة في نايين ع ١١ إلى ١٧


    ١١ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ، وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ».
    المسافة بين كفرناحوم ونايين نحو مرحلة. وكانت نايين مدينة في الجليل على سفح حرمون الصغير المعروف اليوم بجبل الدوحيّ على أمد ٢٥ ميلاً من كفرناحوم وعلى مسافة ثلاثة أميال من جبل تابور جنوباً وهي في الجنوب الشرقي من الناصرة وعلى الطرف الشرقي من سهل يزرعيل المعروف اليوم بمرج ابن عامر وهي اليوم قرية حقيرة تسمى نين.
    جَمْعٌ كَثِيرٌ كان ذلك والمسيح في سمو اعتبار الشعب له لأن اليهود كانوا يتوقعون أن يكون ملكاً زمنياً ومنقذاً دنيوياً. وذكرهم لوقا لأنهم كانوا شهود المعجزة التي فعلها المسيح في نايين.
    ١٢ «فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْمَدِينَةِ، إِذَا مَيِّتٌ مَحْمُولٌ ٱبْنٌ وَحِيدٌ لِأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ».
    لم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين غير لوقا وهذا لا يضعف الثقة بصحة وقوعها.
    إِذَا مَيِّتٌ مَحْمُولٌ كانت عادة اليهود أن يدفنوا موتى كل مدينة مسوّرة خارج السور حفظاً للصحة ومنعاً للتنجيس الطقسي من الاقتراب إلى القبور واستثنوا من ذلك بعض الأنبياء وبعض الملوك الإسرائيليين.
    ٱبْنٌ وَحِيدٌ ذكر ذلك دليلاً على شدة الحزن. وهذا أمر مسلم به حتى ضربوا بموت الابن الوحيد المثل في الحزن المفرط (إرميا ٦: ٢٦ وزكريا ١٢: ١٠ وعاموس ٨: ١٠).
    وَهِيَ أَرْمَلَةٌ كونها أرملة جعل موت وحيدها من أشد النوازل لأنه كان تعزيتها وعمدتها. ولعلّ بعض الجمع المحتفل بجنازة الميت أنبأ يسوع بأمور هذا الميت على أنه لم يكن محتاجاً إلى ذلك لأنه يعلم كل شيء من نفسه. والأرجح أنه قصد نايين والوصول إليها عند بلوغهم بالميت باب المدينة ليقيمه.
    وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ اقتضت أحوال تلك الأرملة المحزنة أن تحرك حنو كثيرين من الناس فأظهروا شفقتهم بمرافقتهم إياها. وذكر لوقا ذلك الجمع ليظهر أن المعجزة كانت تجاه كثيرين من الشهود.
    ١٣ «فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: لاَ تَبْكِي».
    تَحَنَّنَ عَلَيْهَا لم يذكر لوقا غير التحنن علّة لفعل المسيح تلك المعجزة ولا دليل على أن الأرملة سألت المسيح إقامة ولدها ولا أن أحد أصدقائها سأله ذلك. ولم يشترط المسيح كعادته إيمان أحد من المشاهدين لإقامته ذلك الميت. والأرجح أن المسيح أقام ذلك الشاب لنفع نفس الشاب ونفع المشاهدين بإثبات دعواه أنه المسيح فضلاً عن تحننه على تلك الأرملة.
    لاَ تَبْكِي كثيراً ما يقول الناس للحزانى مثل هذا القول بغية التعزية لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شئاً يزيل علّة بكائهم لكن الذي نهى الأرملة عن البكاء هو الذي «سيمسح كل دمعة من كل عين» (رؤيا ٢١: ٤). وكان فعل المسيح وقتئذ رمزاً إلى فعله أخيراً. ولعلّ ذلك القول أنشأ الإيمان في قلب الأرملة. ولا يزال المسيح إلى الآن ينهي المسيحيين عن ندب الموتى الذين يموتون في الرب كغيرهم من الناس ويبين لهم سبب ذلك بوعده بإقامة الأجساد والاجتماع في السماء والسعادة الأبدية هنالك.
    ١٤ «ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ، فَوَقَفَ ٱلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: أَيُّهَا ٱلشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ قُمْ».
    ص ٨: ٥٤ ويوحنا ١١: ٤٣ وأعمال ٩: ٤٠ ورومية ٤: ١٧
    تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ فعل ذلك ليقف الحاملون. أما هم فعلموا مراده وأطاعوه بلا سؤال لتأثرهم من هيئته وكلامه.
    لَكَ أَقُولُ قُمْ الذي قال هذا «هو القيامة والحياة» (يوحنا ١١: ٢٥). وقوله ذو سلطان لا بد للموت من أن يطيعه. والصوت الذي ارتفع حينئذ هو الصوت الذي يفتح كل القبور ويقيم جميع الموتى.
    ولم يكن إيقاظ المسيح للميت من موته أصعب عليه من إيقاظ غيره للنائم من نومه. وهذا خلاف ما أظهر النبيان إيليا وأليشع من الأتعاب والاستناد على قوة غير قوتهما عند إقامة كل منهما ميتاً.
    قال المسيح لابنة يآيرس «طليثا قومي» وقال لابن الأرملة «لك أقول قم» وللعازر «هلم خارجاً» وكانت كل هذه الأقوال فعالة.
    ١٥ «فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ».
    فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ قوله الميت يثبت أنه كان ميتاً حقيقة لا مغشياً عليه. وكان كل من جلوسه وتكلمه برهاناً قاطعاً على حقيقة رجوعه إلى الحياة والصحة والقوة.
    فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ التحنن على الأم الذي حمله على إقامة ابنها الميت حمله أيضاً على الابتهاج بأن يقدّمه إليها حياً بياناً على أن قوله «لا تبكي» لم يكن عبثاً. وكما سر المسيح وقتئذ بمشاهدة ابتهاج تلك الأم هكذا يسر الله بأن يجمع كل المؤمنين الذين فرّقهم الموت ليملأ قلوبهم بهجة وحبوراً (١تسالونيكي ٤: ١٤).
    ١٦ «فَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ».
    ص ١: ٦٥، ص ٢٤: ١٩ ويوحنا ٤: ١٩ و٦: ١٤ و٩: ١٧، ص ١: ٦٨
    خَوْفٌ مثل هذا الخوف ينتج طبعاً من مشاهدة كل قوة إلهية. فلا عجب من أن المشاهدين لما فعل المسيح خافوا لأنهم لم يألفوا مثل تلك المشاهدة إذ لم يقم ميت منذ ٩٠٠ سنة قبل ذلك الوقت أي منذ أيام أليشع.
    وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ هذا دليل على أن خوفهم كان خوفاً صالحاً كخوف الأتقياء. وعلّة تمجيدهم لله أنه تعالى ذكر شعبه وافتقده بالرحمة وأرسل إليه نبياً (ص ١: ٦٨).
    نَبِيٌّ عَظِيمٌ ذكر المشاهدون وقتئذ إيليا وأليشع النبيين العظيمين اللذين أقاما بعض الموتى واعتبروا يسوع نبياً مثلهما. واعترافهم بأنه نبي ليس بتمام الإقرار بكل دعواه أنه المسيح. فهؤلاء لم يستنتجوا مما شاهدوا سوى أن يسوع نبي ولكن نحن نستنتج فوق ذلك أن للمسيح قوة فائقة وشفقة لا نظير لها وأنه بالحقيقة ابن الله وابن الإنسان.
    ١٧ «وَخَرَجَ هٰذَا ٱلْخَبَرُ عَنْهُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَفِي جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ».
    هٰذَا ٱلْخَبَرُ أي أنه قد ظهر نبي عظيم يفعل المعجزات العظمى. وكانت تلك المعجزة في الجليل وشاع خبرها في اليهودية وعبر الأردن إلى القلعة التي سجن فيها يوحنا المعمدان على شاطئ بحر لوط.

    مجيء رسولين من قبل يوحنا المعمدان إلى يسوع وخطاب يسوع على أثر ذلك ع ١٨ إلى ٣٥


    ١٨ «فَأَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلاَمِيذُهُ بِهٰذَا كُلِّهِ».
    متّى ١١: ٢
    (انظر الشرح متّى ١١: ٢ - ٧) ونبأ لوقا بهذا الأمر يفرق قليلاً عن نبإ متّى. ومن ذلك أن متّى ترك ما ذكره لوقا في ع ٢٠ و٢١ وأن لوقا ترك ما ذكره متّى في ع ١٤ و١٥ من ص ١١. ولا فرق بينهما في شيء من المعنى.
    أَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلاَمِيذُهُ لم يشر لوقا قبل ذلك إلى أن يوحنا كان في السجن ولا إلى شيء من علّة سجنه. ويظهر من الكلام هنا أنه كان مباحاً لتلاميذه أن يأتوا إليه وهو في السجن.
    بِهٰذَا كُلِّهِ أي المعجزات التي صنعها يسوع.
    ١٩ «فَدَعَا يُوحَنَّا ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟».
    إن قيل لماذا حمل يوحنا خبر معجزات المسيح على أن يرسل إليه اثنين من تلاميذه ليسألاه هذا السؤال قلنا أن يوحنا تعجب من أنه كيف الذي فعل بعض الأعمال التي توقعها من المسيح لا يعمل سائر ما كان يتوقع منه هو وسائر اليهود. وذلك أن يملك وينقذ اليهود من ظالميهم ويقضي على الأشرار ويعاقبهم كما أنبأ يوحنا به. فوجد صعوبة في أنه فعل بعض الأعمال وأهمل بعضها. ولا عجب من أن يدخل الشك في نفس يوحنا المعمدان وقد علمنا أن بطرس وسائر الرسل شكّوا فيه مع وفرة الوسائط التي كانت لهم لتحقيق دعواه (متّى ٢٦: ٣١ و٥٦ ولوقا ٢٤: ٢١). على أن الشكوك لا تضرنا إذا قادتنا إلى المسيح لإزالتها.
    ٢٠، ٢١ «٢٠ فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلرَّجُلاَنِ قَالاَ: يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ ٢١ وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ ٱلْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِين».
    فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ أي تلك المدة. والمرجح أن التلميذين بقيا مع المسيح أياماً صنع فيها المسيح كثيراً من معجزاته.
    ٢٢ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ ٱلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَٱلْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَٱلْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ».
    متّى ١١: ٤ و٥، إشعياء ٣٥: ٥ ص ٤: ١٨
    ابتدأ المسيح في جوابه بذكر ما أتاه من الفوائد الجسدية وانتهى بما هو أهم منها وهو عمله الروحي لنفع النفوس أي التشبير بالإنجيل. ولا ريب في أنه أشار بهذا الجواب إلى أنه تمم نبوءة إشعياء (إشعياء ٦١: ١).
    ٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ يحتمل أن التلميذين وصلا إلى يسوع وهو يقيم ابن الأرملة في نايين. والأرجح أنهما سمعا نبأ ذلك من غيرهما بدليل قوله «اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما».
    ٢٣ «وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ».
    قصد يسوع بهذا الكلام تقوية إيمان يوحنا وإزالة شكه من عدم ممارسته عمله كما تصور يوحنا. ولا ريب في أن يوحنا تشجع بذلك لأنه لما مات يوحنا أتى بعض تلاميذه إلى يسوع (متّى ١٤: ١٢).
    ٢٤ - ٢٨ «٢٤ فَلَمَّا مَضَى رَسُولاَ يُوحَنَّا، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟ ٢٥ بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا ٱلَّذِينَ فِي ٱللِّبَاسِ ٱلْفَاخِرِ وَٱلتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ ٱلْمُلُوكِ. ٢٦ بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! ٢٧ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! ٢٨ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ، وَلٰكِنَّ ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ مِنْهُ».
    متّى ١١: ٧، ملاخي ٣: ١
    سبق تفسير ذلك بالتفصيل (انظر الشرح متّى ١١: ٨ - ١٩).
    ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ أي ولادة طبيعية فيستثنى من ذلك المتكلم.
    لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ لم يفق يوحنا الأنبياء القدماء بالإيمان أو القداسة أو المحبة إنما فاقهم بوظيفته لأنه كان بها أقرب إلى المسيح منهم.
    ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ الخ إنما كان التلميذ الأصغر في كنيسة المسيح على الأرض أعظم من يوحنا لأنه يدرك أكثر منه أن ملكوت المسيح روحي وأنه يفدي شعبه بموته.
    ٢٩، ٣٠ «٢٩ وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَٱلْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا ٱللّٰهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. ٣٠ وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللّٰهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ».
    مزمور ٥١: ٤ ومتّى ١١: ١٩ ورومية ٣: ٤، متّى ٣: ٥ وص ٣: ١٢، أعمال ٢٠: ٢٧
    لم يذكر متّى هذين العددين ولم يتحقق أنهما جزء من كلام المسيح على خدمة يوحنا أو أنهما من كلام لوقا بياناً لما سبق. فإن كانا من كلام المسيح فالقصد منهما إظهار علّة ما أبانه بعد من ع ٣١ - ٣٤. وإن كانا من كلام لوقا وهو الأرجح فالقصد منها إنباء الأمم الذين يجهلون أحوال اليهود بسبب أن بعض الناس قبل يسوع وأن بعضهم رفضه وهو أن الذين قبلوا شهادة يوحنا واعتمدوا منه آمنوا بالمسيح والذين رفضوا شهادة يوحنا ومعموديته رفضوا المسيح.
    بَرَّرُوا ٱللّٰهَ أقروا بجودة قصد الله وأعماله التي ظهرت في كرازة يوحنا وبعدله وحقه أن يحكم عليهم بأنهم خطاة ويدعوهم إلى التوبة وإصلاح السيرة استعداداً لقبولهم المسيح.
    مُعْتَمِدِينَ كانت معموديتهم علامة أنهم «برروا الله» في أعماله وأنهم تابوا عن خطاياهم.
    فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللّٰهِ (ع ٣٠) أي لم يقبلوا تعليم يوحنا الذي هو إعلان مشورة الله فلم يأتوا إلى التوبة ولم يستعدوا لقبول المسيح بإصلاح سيرتهم.
    مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ هذا من صلة مشورة الله. والمعنى أنها كانت لنفع أنفسهم فأضروا تلك الأنفس برفض تلك المشورة.
    غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ هذا يصدق على أكثر الفريسيين فإن قليلين منهم اعتمدوا. وليس في ذلك شيء من المنافاة لقول متّى في ص ٣: ٧ إذ الأرجح أن معنى متّى أنه أتى كثيرون من الفريسيين إلى يوحنا في أول تعليمه ثم تركوه لما تحققوا ضيق طريقته وروحية ذلك التعليم. وكان رفض هؤلاء معمودية يوحنا رفض التوبة عينها أن معموديته كانت علامة وختماً لها.
    ٣١ - ٣٥ «٣١ ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ: فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هٰذَا ٱلْجِيلِ، وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ ٣٢ يُشْبِهُونَ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي ٱلسُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. ٣٣ لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. ٣٤ جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. ٣٥ وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا».
    متّى ١١: ١٦، متّى ٣: ٤ ومرقس ١: ٦ وص ١: ١٥، متّى ١١: ١٩
    انظر الشرح متّى ١١: ١٦ - ١٩.
    فَبِمَنْ أُشَبِّهُ... وَمَاذَا يُشْبِهُونَ تكرير هذا الاستفهام يدل على صعوبة إيجاد مثل يبين حال أناس عنيدين متقلبي الأفكار مثل اليهود في معاملتهم ليوحنا والمسيح. فإن صدقوا بشكواهم على يوحنا كان عليهم أن يمدحوا المسيح بناء على القياس الذي هم وضعوه. لكنهم لاموا يسوع على لطفه ويوحنا على صرامته فدانوا بذلك أنفسهم بأن لاموا كليهما بلا سبب فلم تكن شكواهم سوى عذر باطل عن عدم طاعتهم لقول كل منهما.
    بَنِيهَا (ع ٣٥) المراد ببني الحكمة شعب الله الأمين القليل العدد الذي رحب بيوحنا والمسيح كليهما باعتبار أنهما معلنا الحكمة السماوية وتاب بدعوة الأول وآمن بمواعيد الثاني.

    دهن المسيح في بيت الفريسي ع ٣٦ إلى ٥٠


    ٣٦ «وَسَأَلَـهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ».
    متّى ٢٦: ٦ ومرقس ١٤: ٣ ويوحنا ١١: ٢
    لم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين سوى لوقا. ويجب أن نميز بين هذا الدهن ودهن مريم أخت لعازر (متّى ٢٦: ٧ ومرقس ١٤: ٣ وفي يوحنا ١٢: ٣). فإن هذا كان في الجليل والأرجح أنه كان في كفرناحوم وذاك في بيت عنيا في اليهودية. وهذا في بيت سمعان الفريسي وهو رجل متكبر منتقد غير مكترث بواجبات الضيافة وذاك في بيت نُسب إلى سمعان الأبرص كان فيه يسوع مكرماً محبوباً. وهذا كانت الإمرأة التي أتته خاطئة لم نعرف اسمها دهنت يسوع علانية لتوبتها وذاك كانت التي أتته مريم أخت لعازر وهي تقية شُهد لها أنها قد اختارت النصيب الأفضل وكانت تجلس عند قدمي المسيح لتسمع تعليمه وأتت بدهنها استعداداً لتكفين يسوع. وهذا اعترض فيه الفريسي على دنو المرأة الخاطئة من يسوع، وذاك اعترض فيه يهوذا الاسخريوطي وسائر التلاميذ على الإسراف لكثرة ثمن الطيب. وهذا جرت بعده محادثة لا توافق الأحوال بعد ذاك. هذا ويستحيل أن يدعو رجل فريسي في اليهودية يسوع إلى العشاء في بيته حينما دهنت مريم قدميه لأن الاختلاف بينه وبين الفريسيين بلغ حداً يمنع ذلك (يوحنا ١٢: ٤٢).
    وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هو رجل اسمه سمعان (ع ٤٠). ولم يكن في هذا الوقت الخلاف بين يسوع والفريسيين قد بلغ حداً بعيداً يلام عنده ذلك الفريسي بدعوته يسوع إلى بيته. ولعلّ غايته بذلك أن يظهر ليسوع بعض الاعتبار لاشتهاره بالتعليم والأعمال.
    ولعله رغب فوق ذلك في أن يكون له شيء من المجد الذي حصل عليه يسوع. ويحتمل أنه كان في ريب من دعوى يسوع فدعاه إلى بيته ليسمع بعض تعاليمه قبل الحكم في تلك الدعوى. وربما كانت غايته كغاية هيرودس الملك وهي أن يراه ويرى معجزة تجري على يده. والظاهر أنه ظن قبول يسوع في بيته للطعام إكراماً كافياً دون أن يقوم بكل ما يليق بالضيف (ع ٤٤ - ٤٦). وبهذا أعلن للناس انه ليس بتلميذ للمسيح. وأما يسوع فلم يسأل تلك الدعوة ولم يرفضها إذ كان فرصة للتبشير بالإنجيل.
    وَٱتَّكَأَ مرّ بيان كيفية الاتكاء في الشرح (متّى ٢٣: ٦ وصورة الاتكاء في الصفحة المقابلة وجه ٢٩٠ من المجلد الأول).
    ٣٧ «وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ».
    ٱمْرَأَةٌ لم يذكر اسمها ولكن بعضهم ظنها مريم المجدلية وليس من دليل على ذلك لأن تلك لم يقل أنها زانية بل أنه فيها سبعة شياطين (ص ٨: ٢).
    فِي ٱلْمَدِينَةِ الأرجح أن هذه المدينة كفرناحوم لأن يسوع سكن هناك أكثر الوقت الذي تقضى عليه في الجليل.
    كَانَتْ خَاطِئَةً أي قبل أن تأتي إلى المسيح. والأرجح أن خطيئتها كانت ممن أتى المسيح ليدعوهم إلى التوبة ص ٥: ٣٢. ولأنها شعرت بثقل خطيتها كانت من المتعبين والثقيلي الأحمال الذين دعاهم المسيح إليه ليجدوا راحة لأنفسهم (متّى ١١: ٢٨). ولعلها سمعت قبلاً وعظ المسيح وتأثرت منه وآمنت وتابت وكانت تتوقع فرصة لإظهار شكرها للمسيح ولتحققها مغفرة خطاياها وخلاص نفسها.
    جَاءَتْ بِقَارُورَةِ إلى بيت سمعان بلا دعوة. والقارورة هي الوعاء المعتاد للطيب (متّى ٢٧: ٧).
    طِيبٍ أو طيب ناردين وهو كثير الثمن (متّى ٢٦: ٧ ومرقس ١٤: ٣).
    ٣٨ «وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيب».
    وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ كان المسيح متكئاً على مرفق يده اليسرى وقدماه ممدودتان وراءه على سرير عريض فكان سهلاً عليها أن تدنو من قدميه.
    تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ الخ كانت هذه الدموع دموع الخجل والتوبة عن خطيئتها وتقبيلها قدميه ودهنها إياهما علامة اعتبارها وشكرها له. ولعلها لم تقصد إلا التقبيل والدهن إنما جرت دموعها على رغمها لذكرها خطاياها.
    تَمْسَحُهُمَا كانت دموعها تقع على قدمي المسيح حين تنحني لتقبيلهما ولم ترَ لائقاً أن تتركهما مبللتين ولم يكن معها منشفة فحلّت شعرها واتخذته بدلاً من المنشفة لتجفف قدميه. وكان ذلك تواضعاً منها لأن الشعر مجد المرأة (١كورنثوس ١١: ١٥). وكان الطيب أثمن من تلك الدموع عند الناس ولكن الدموع كانت عند الله أثمن من ذلك الطيب.
    ٣٩ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْفَرِّيسِيُّ ٱلَّذِي دَعَاهُ ذٰلِكَ، قَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ».
    ص ١٥: ٢
    كانت معرفة صفات الناس وتاريخ حياتهم الماضية غير المعروف بين الناس من الأمور المختصة بالأنبياء (إشعياء ١١: ٣ و٤ ويوحنا ٤: ١٤). وظن سمعان الفريسي أنه وجد دليلاً على بطلان دعوى يسوع النبوءة. وهو أن يسوع إمّا عرف صفات تلك المرأة وإما لم يعرفها فإن كان قد عرفها فسماحه لها بأن تلمسه ينفي أن تكون له قداسة النبي وإن كان لم يعرفها لم تكن له معرفة النبي فهو على زعم سمعان ليس بنبي على الحالين. وذلك لأنه لم يخطر على باله أن النبي يعرف الصفات ويسمح بدنو صاحبها. وجهل ان دنوها من المسيح بالإيمان والتوبة جعلها طاهرة معدة للسماء.
    ٤٠ «فَقَالَ يَسُوعُ: يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ. فَقَالَ: قُلْ يَا مُعَلِّمُ».
    فَقَالَ يَسُوعُ الفريسي لم يتفوه بكلمة ولكن المسيح أجابه على أفكاره وبرهن لسمعان أنه نبي بنفس قياسه أي بمعرفته خفايا القلب (متّى ٩: ٤).
    سِمْعَانُ كان كثيرون من اليهود يسمون بذلك فكان من رسل المسيح الاثني عشر اثنان مسميّن بذلك. وذُكر في العهد الجديد خمسة عشر رجلاً كل منهم اسمه سمعان.
    عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ هذا تنبيه لطيف للفريسي على أن ما يليه كلام ذو شأن.
    ٤١ «كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلآخَرِ خَمْسُونَ».
    متّى ١٨: ٢٨
    لِمُدَايِنٍ أراد المسيح بالمديّن الله وبالدين الخطية.
    مَدْيُونَانِ أي خاطئان. ويظهر من آخر هذا المثل أن المسيح عنى بهذين الخاطئين المرأة وسمعان.
    خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ أي نحو ٢٢٥٠ قرشاً.
    خَمْسُونَ أي نحو ٢٢٥ قرشاً. فإن نسبة دين الأول إلى الثاني كنسبة عشرة إلى واحد. وهذه النسبة تختلف كل الاختلاف عن النسبة بين المديونين المذكورين في بشارة متّى (متّى ١٨: ٢١ - ٣٥) لأن تلك النسبة واحد إلى ألف ألف ومئتي ألف وخمسين ألفاً. وكان الدَين العظيم في بشارة متّى على الإنسان لله والصغير على إنسان لإنسان لكن الدينين كليهما في هذا العدد على الإنسان لله فإذاً لا فرق عظيم بين خاطئ وخاطئ في عيني الله تعالى.
    ولم يقصد المسيح هنا أن يصرّح بأن خطايا المرأة أعظم من خطايا سمعان أي أنها عشرة أضعافه بل أن يأتي المقابلة بين ما يشعر به كل منهما ويعترف. فسمعان كان يشعر بأن خطيئته على الله صغيرة كدين خسمين ديناراً لأنه حفظ الشريعة الطقسية ولأن سيرته كانت مستقيمة ولم يشعر بخطايا قلبه أمام الله. وأما المرأة فكانت تشعر بأن خطاياها الظاهرة وخطاياها القلبية كبيرة كدين خمس مئة دينار.
    ٤٢ «وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبّاً لَـهُ؟».
    لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَا يُوفِيَانِ علّمنا يسوع بذلك أن الإنسان عاجز كل العجز عن إيفاء الله ما عليه هو من دين الخطيئة. وقول المسيح عن علم يقين وهو يصدق على كل خاطئ كثير الخطايا أم قليلها فليس لخاطئ ما يوفي.
    سَامَحَهُمَا جَمِيعاً يشير صنع هذا الدائن إلى ما يصنعه الله لكل خاطئ يتوب فهو يسامحه وذلك لما فعله المسيح وتألم به لكي يوفي دين الخاطئ. فلو كان الدين مالياً لحق للدائن أن يسامح المديون بلا كفارة ولكن الخطية جرم علاوة على كونها ديناً فهي تقتضي كفارة وتلك الكفارة هي حياة المسيح المقدسة وموته على الصليب.
    فَقُلْ الخ سأل الفريسي أن يحكم في تلك المسئلة ليستيقظ ضميره وليؤثر فيه الحق البيّن هنا ولكي يدينه لسانه على تقصيره. ومثل هذا كان سؤال المسيح للناموسي (لوقا ١٠: ٣٠ - ٣٧).
    ٤٣ «فَأَجَابَ سِمْعَانُ: أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلأَكْثَرِ. فَقَالَ لَـهُ: بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ».
    بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ لم يرد المسيح بذلك أنه كلما زادت خطايا الإنسان تزيد محبته لله عند نواله المغفرة وإلا كان اللص الذي صُلب مع المسيح يحبه أكثر مما كان يحبه يوحنا الرسول. إنما مراده أن الخطاة يميلون إلى محبة الله والشكر له على المغفرة بقدر ما يشعرون بذنوبهم واستحقاقهم العقاب وكونهم في خطر الهلاك الأبدي وعجزهم عن إيفاء عدل الله.
    ٤٤ - ٤٦ «٤٤ ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. ٤٥ قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. ٤٦ بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ».
    مزمور ٢٣: ٥
    ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ نظر في أول الأمر إلى سمعان والأرجح أنه كان متكئاً تجاهه ثم حوّل وجهه نحو قدميه لكي يعيّن المرأة التي أرادها بقوله.
    دَخَلْتُ بَيْتَكَ أي دخله ضيفاً مدعواً فحق له على سمعان كل ما يجب للضيف ومن ذلك ثلاثة أمور:

    • الأول: ماء لقدميه (تكوين ١٨: ٤ و١٩: ٢ و٢٤: ٣٢ وقضاة ١٩: ٢١ ومتّى ٣: ١١ ويوحنا ١٣: ٥ و١تيموثاوس ٥: ١٠).
    • الثاني: قبلة الترحيب (تكوين ٢٢: ٤ و٢٧: ٦ و٧ و٣٣: ٤ وخروج ١٨: ٧ و١صموئيل ٢٠: ٤١ وأعمال ٢٠: ٣٧ ورومية ١٦: ١٦ و١كورنثوس ١٦: ٢٠).
    • الثالث: مسح الرأس بالدهن (راعوث ٣: ٣ و٢صموئيل ١٢: ٢٠ و١٤: ٢ ومزمور ٢٣: ٥ و٤٥: ٧ و١٤١: ٥ وجامعة ٩: ٨ ومتّى ٦: ١٧). ولم يكن سمعان يجهل أنه قصّر بواجباته للمسيح ولعله ظن دعوته ليسوع ابن النجار الناصري إلى تناول الطعام معه إكراماً كافياً له. فاجتهدت تلك المرأة بتقديم الإكرام الزائد للمسيح على قدر ما قصّر سمعان في إكرامه.


    ٤٧ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً. وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَـهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً».
    ١تيموثاوس ١: ١٤
    مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي لما ذُكر في الآيات الثلاث السابقة فكأن المسيح قال ينتج مما ذُكر ما يأتي.
    غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً المعنى أن أعمالها أظهرت محبتها العظيمة وأن تلك المحبة دلت على أنها تحققت نوال غفران عظيم لخطايا كثيرة عظيمة. وكانت تشعر أولاُ بكثرة ديونها فحزنت وخافت ولكنها لما نالت المغفرة فرحت وأَمنت. فلم تكن محبتها علّة الغفران بل نتيجته وبرهانه كما اتضح من الآية الثانية والأربعين. كذلك بولس شعر بأنه أول الخطأة ولكنه بعد ان نال الرحمة برهن شدة محبته للمسيح بما أتاه لأجله من السيرة والتعب.
    وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَـهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً أي الذي يرى خطاياه قليلة وصغيرة لا يشعر بشدة الخوف والحزن عند ما يعترف بها ولا يشعر بكثير من المحبة والشكر والفرح حين يحصل على المغفرة. فسمعان لم يأتِ إلا بما يدل على وجه القليل وبذلك شهد على نفسه بأنه لم يشعر إلا باحتياج زهيد للغفران وأن الله لم يغفر له إلا قليلاً. ولم يصرّح المسيح لسمعان بأنه هو الذي أحب قليلاً بل ترك ذلك لشهادة ضميره. وأعلن المسيح بذلك المثل أن سمعان لم يصب بحكمه بنفي النبوءة عن يسوع لأنه سمح لامرأة خاطئة بأن تلمسه لأن أعمالها الحبية أظهرت أنها تابت ونالت المغفرة وقبلها الله ولذلك لم يكن لمسها مدنساً لأحد. وفي هذه الآية جوهر تعليم المثل وهو أن شدة المحبة نتيجة وفرة الشعور بعظمة المغفرة. فيجب أن نحترس من أن نحسب شدة المحبة علّة للمغفرة لأن تلك العلّة ليست سوى نعمة الله المجانية.
    ٤٨ «ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ».
    متّى ٩: ٢ الخ ومرقس ٢: ٥ الخ
    صرّح المسيح هنا بأن تلك المرأة نالت المغفرة من الله وبرهن أنه الله بقدرته على أن يغفر الخطايا كما برهن ذلك بمعرفته أفكار سمعان الفريسي وأظهر حنوه على الخطأة.
    ٤٩ «فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضاً؟».
    ٱلْمُتَّكِئُونَ هم سمعان الفريسي وأصدقاؤه الفريسيون.
    مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ الخ ليس لهذا السؤال سوى جواب واحد وهو الله. فالذي يدّعي سلطان مغفرة الخطايا غير الله يجدف والمسيح له ذلك السلطان لأنه الله.
    ٥٠ «فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ! اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ».
    متّى ٩: ٢٢ ومرقس ٥: ٣٤ و١٠: ٥٢ وص ٨: ٤٨ و١٨: ٤٢
    إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ لم تكن الواسطة لنوالها الغفران دموعها ولا تواضعها ولا هديتها ولا محبتها بل إيمانها بأن ليسوع قوة على مغفرة الخطايا وأنه مستعد لذلك. وكان إيمانها حياً عاملاً بالمحبة وظهرت حقيقته بأعمالها.
    اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ صرفها المسيح بكلام حقق لها راحة البال في المستقبل بناء على نوالها الغفران. وبمثل هذا الكلام صرف المرأة التي أبرأها من نزف الدم (مرقس ٥: ٣٤).


    الأصحاح الثامن


    جولان المسيح للتبشير ع ١ إلى ٣


    ١ «وَعَلَى أَثَرِ ذٰلِكَ كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَمَعَهُ ٱلاثْنَا عَشَرَ».
    عَلَى أَثَرِ ذٰلِكَ أي حال فراغه من العشاء عند سمعان.
    كَانَ يَسِيرُ أشار لوقا هنا إلى جولان المسيح الثاني في الجليل. وكان الأول قبل انتخابه الرسل وهو الذي أشار إليه في ص ٤: ١٤ و١٥ وكان جولانه الثالث عندما أرسل تلاميذه أيضاً لينادوا بالإنجيل ويصنعوا المعجزات (ص ٩: ١ - ٦). وكان الوقت المشار إليه هنا أول السنة الثانية من سني تبشريه.
    وَمَعَهُ ٱلاثْنَا عَشَرَ أخذهم المسيح معه حينئذ إعداداً لهم ليذهبوا بدونه بعد ذلك فاستفادوا مما علّمهم ومما سمعوا من تعليمه لغيرهم ومن مشاهدتهم أعماله العجيبة وكانوا جماعة واحدة. والأرجح أنهم عندما كانوا يصلون مكاناً ما يجولون بين السكان ويخبرونهم بمجيء المسيح ويدعونهم ليجتمعوا ويسمعوه إما في المجمع وإما في ساحة من ساحات المكان.
    ٢ «وَبَعْضُ ٱلنِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ ٱلَّتِي تُدْعَى ٱلْمَجْدَلِيَّةَ ٱلَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ».
    متّى ٢٧: ٥٥ و٥٦، مرقس ١٦: ٩
    وَبَعْضُ ٱلنِّسَاءِ الأرجح أن النساء اللواتي معه كنّ ذوات ثروة ومقام سام رآهن يسوع أنهنّ أهل ليكنّ من جملة تلاميذه. وأشار الإنجيل إلى خدمتهنّ ليسوع في مكان آخر (متّى ٢٧: ٥٥ ولوقا ٢٣: ٤٩). ومما يستحق الاعتبار أنه لم يُذكر في الإنجيل واحد من الرجال قدّم للمسيح شيئاً من حاجاته الجسدية إنما نُسب ذلك إلى النساء فقط.
    وجرت العادة في عصر المسيح أن جماعة من النساء اليهوديات يقمن بنفقة بعض من يعتبرنه من الربانيين. وكما خدمت النساء المسيح في حياته الأرضية خدمت كنيسته بعد ذلك كالشماسات وغيرهن. وللنساء في كل عصر محل لخدمتهن الحبية للمسيح في كنيسته وهذه الخدمة ليست بأقل اعتباراً في عيني المسيح من تبشير المبشرين. والمسيح أظهر تواضعه بقبوله الحاجات الجسدية من أيدي الناس فكان يصنع المعجزات لسد احتياجات غيره ولكنه لم يصنع واحدة لسد احتياجات نفسه. أطعم ألوفاً بكلمة قدرته وقبل الخبز من أيدي أصحابه وقدّم القوت الروحي لإحياء نفوس الناس وأخذ القوت الجسدي من البشر. ولاق بالذين أخذوا النعمة من يد الرب أن يكرموه بشيء من أموالهم وهكذا يليق الآن.
    قَدْ شُفِينَ بنيت خدمتهنّ للمسيح أولاً على ما صنعه لهن من المراحم الجسدية ولا ريب في أنها بنيت أخيراً على رحمة أعظم من شفاء نفوسهنّ ونوالهنّ الحياة الأبدية.
    مَرْيَمُ ٱلَّتِي تُدْعَى ٱلْمَجْدَلِيَّةَ لم نعرف من أمر هذه المرأة سوى ما ذُكر هنا (ومتّى ٢٧: ٥٧ و٦١ ومرقس ١٥: ٤١ و٤٧ و١٦: ٩ وفي لوقا ٢٣: ٤٩ و٥٥ ويوحنا ١٩: ٢٥ و٢٠: ١٤ و١٥). وخلاصة ذلك أنها أُنقذت من قوة شيطانية شديدة عبّر عنها بقوة سبعة شياطين وأنها تبعت المسيح وخدمته في الجليل وأنها رافقته في سفره الأخير إلى أورشليم وأنها شاهدت آلام المسيح على الصليب هي وأم يسوع ويوحنا وأنها شاهدت دفن المسيح وأنها كانت من أول من أتى إلى القبر صباح يوم الأحد حاملة الطيب وأنها لما وجدت القبر فارغاً رجعت وأخبرت بطرس ويوحنا ورجعت معهما إلى القبر وبقيت هنالك بعد انصرافهما وأنها عندما كانت تبكي على القبر رأت المسيح حياً وتكلمت معه.
    خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ ذُكر هذا هنا شهادة بعظمة قوة المسيح. والمجدل التي نسبت إليها قرية على الشاطئ الغربي من بحيرة طبرية على أمد نحو ثلاثة أميال أو مسافة ساعة من مدينة طبرية وهي لم تزل قرية حقيرة في موضعها (انظر الشرح متّى ١٥: ٣٩).
    ٣ «وَيُوَنَّا ٱمْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ، وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ».
    يُوَنَّا ذكرت أيضاً في خبر القيامة فإنها كانت من حاملات الأطياب. والأرجح أنها كانت من الغنيات (ص ٢٤: ١٠).
    خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ أي وكيل هيرودس أنتيباس والي الجليل. ظنه بعضهم خادم الملك الذي شفى المسيح ابنه «فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ» (يوحنا ٤: ٤٦ - ٥٤). وكان من سكان كفرناحوم
    وَسُوسَنَّةُ هذه المرأة لم تُذكر إلا هنا.
    وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ فهؤلاء الكثيرات وإن لم تعرف أسماؤهن على الأرض لهن ذكر وثواب في السماء (متّى ٢٧: ٥٥).
    كُنَّ يَخْدِمْنَهُ أي ينفقن عليه من طعام وكسوة وغير ذلك من الحاجات الجسدية.

    مثل الزارع ع ٤ إلى ١٥


    ٤ - ١٥ «٤ فَلَمَّا ٱجْتَمَعَ جَمْعٌ كَثِيرٌ أَيْضاً مِنَ ٱلَّذِينَ جَاءُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ، قَالَ بِمَثَلٍ: ٥ خَرَجَ ٱلزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ. وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَٱنْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ. ٦ وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلصَّخْرِ، فَلَمَّا نَبَتَ جَفَّ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَـهُ رُطُوبَةٌ. ٧ وَسَقَطَ آخَرُ فِي وَسَطِ ٱلشَّوْكِ، فَنَبَتَ مَعَهُ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. ٨ وَسَقَطَ آخَرُ فِي ٱلأَرْضِ ٱلصَّالِحَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ صَنَعَ ثَمَراً مِئَةَ ضِعْفٍ. قَالَ هٰذَا وَنَادَى: مَنْ لَـهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!. ٩ فَسَأَلَـهُ تَلاَمِيذُهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا ٱلْمَثَلُ؟. ١٠ فَقَالَ: لَكُمْ قَدْ أُعْطِيَ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَأَمَّا لِلْبَاقِينَ فَبِأَمْثَالٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَفْهَمُونَ. ١١ وَهٰذَا هُوَ ٱلْمَثَلُ: ٱلزَّرْعُ هُوَ كَلاَمُ ٱللّٰهِ، ١٢ وَٱلَّذِين عَلَى ٱلطَّرِيقِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ ٱلْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا. ١٣ وَٱلَّذِينَ عَلَى ٱلصَّخْرِ هُمُ ٱلَّذِينَ مَتَى سَمِعُوا يَقْبَلُونَ ٱلْكَلِمَةَ بِفَرَحٍ. وَهٰؤُلاَءِ لَيْسَ لَـهُمْ أَصْلٌ، فَيُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ، وَفِي وَقْتِ ٱلتَّجْرِبَةِ يَرْتَدُّونَ. ١٤ وَٱلَّذِي سَقَطَ بَيْنَ ٱلشَّوْكِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَخْتَنِقُونَ مِنْ هُمُومِ ٱلْحَيَاةِ وَغِنَاهَا وَلَذَّاتِهَا، وَلاَ يُنْضِجُونَ ثَمَراً. ١٥ وَٱلَّذِي فِي ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ هُوَ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ وَيُثْمِرُونَ بِٱلصَّبْرِ».
    متّى ١٣: ٣ ومرقس ٤: ٢، متّى ١٣: ١٠ ومرقس ٤: ١٠، إشعياء ٦: ٩ ومرقس ٤: ١٢، متّى ١٣: ١٨ ومرقس ٤: ١٤
    قد سبق الكلام على هذا المثل في الشرح (متّى ١٣: ٣ - ٨ و١٨ - ٢٣ ومرقس ٤: ٣ - ٢٠) وليس من فرق كبير بين كلام متّى وكلام لوقا في هذا المثل لكنه لم يذكر لوقا هنا بقية الأمثال التي ذكرها متّى إنما ذكر اثنين منها في موضع آخر وهما حبة الخردل ومثل الخميرة (ص ١٣: ١٨ - ٢١).
    مَنْ لَـهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ الخ (ع ٨) (انظر الشرح متّى ١١: ٥).
    زاد لوقا على قول البشيرين الآخرين أنه «انداس» الزرع الذي وقع على الطريق. وما سماه متّى بالأماكن المحجرة سماه لوقا بالصخر (ع ٦) والمعنى واحد خلاصته أن تربة ذلك القمح كانت رقيقة فوق صخر. وزاد لوقا في هذا العدد أن الزرع جفّ «لانه لم يكن له رطوبة». وعبّر متّى ومرقس عن خصب الذي زُرع في الأرض الجيدة بأن صنع بعضه مئة وآخر ستين وآخر ثلاثين أما لوقا فاقتصر على الأكثر (ع ٨). وسمى متّى في تفسير المسيح للمثل الذي خطف ما قد زرع في القلب «الشرير» وسماه مرقس «الشيطان» وسماه لوقا «إبليس». وزاد لوقا على ما قال متّى ومرقس في علّة ذلك الخطف قوله «لئلا يؤمنوا فيخلصوا» (ع ١٢). وقال لوقا في المرتدين «أنهم في وقت التجربة يرتدون» (ع ١٣). وقال متّى بدلاً من ذلك «فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ» (متّى ١٣: ٢١). وزاد لوقا على ما قاله متّى في تفسير ما سقط بين الشوك من أسباب اختناق الزرع «لذات هذه الحياة» (ع ١٤).
    في قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ (ع ١٥) ذلك مثل قلب نثنائيل (يوحنا ١: ٤٧) وقلوب البيريين (أعمال ١٧: ٩). والذي جعل ذلك القلب كذلك هو رب الحقل.
    بِٱلصَّبْرِ (ع ١٥) هذا يوافق قول المسيح في بشارة متّى «ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ» (متّى ١٠: ٢٢ و٢٤: ١٣).

    تنبيه لسامعي الحق ع ١٦ إلى ١٨


    ١٦ «وَلَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيُغَطِّيهِ بِإِنَاءٍ أَوْ يَضَعُهُ تَحْتَ سَرِيرٍ، بَلْ يَضَعُهُ عَلَى مَنَارَةٍ، لِيَنْظُرَ ٱلدَّاخِلُونَ ٱلنُّورَ».
    متّى ٥: ١٥ ومرقس ٤: ٢١ وص ١١: ٣٣
    انظر الشرح متّى ٥: ١٥ ومرقس ٤: ٢١ - ٢٥.
    ١٧ «لأَنَّهُ لَيْسَ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ مَكْتُومٌ لاَ يُعْلَمُ وَيُعْلَنُ».
    متّى ١٠: ٢٦ وص ١٢: ٢
    هذا من أقوال المسيح التي كررها حسب مقتضى الحال وقصد به أحياناً تعزية الرسل حين كان يعيرهم الناس ويحتقرونهم ويكذبون عليهم (متّى ١٠: ٢٦) وأحياناً التحذير من الرياء (لوقا ١٢: ٢). وأحياناً ما كان يكنزه في قلوب الرسل من الحق الذي أوجب عليهم أن يعلنوه للناس كما هنا. وهذا كان خفياً وقتاً قصيراً للإعلان دائماً. وما أتى به المسيح في العددين ١٦ و١٧ هو نتيجة مثل الزارع وهي أن الله يطالبهم باستعمالهم ما عرفوه من الروحيات وذلك أن يسلكوا بالقداسة في نور تلك المعرفة وأن يضيئوا بذلك النور لإرشاد غيرهم. فلم يقصد المسيح أن يخفي تلاميذه تعليمه عن العالم كما قصد فلاسفة الوثنيين.
    ١٨ «فَٱنْظُرُوا كَيْفَ تَسْمَعُونَ! لأَنَّ مَنْ لَـهُ سَيُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَـهُ فَٱلَّذِي يَظُنُّهُ لَـهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».
    ٱنْظُرُوا كَيْفَ تَسْمَعُونَ لم يقصر المسيح المسؤولية على البشيرين في شأن مناداتهم بالكلمة بل أوقعها على السامعين في كيفية السمع والكيفية المقبولة تقوم بخمسة أمور:

    • أن يسمعوا بالإصغاء والتأمل لكي لا ينسوا.
    • أن يسمعوا بالوقار والتواضع لأن المتكلم الله لا إنسان.
    • أن يسمعوا بالإيمان أي أن يصدقوا كل ما سمعوا تعليماً كان أم وعداً أم وعيداً.
    • أن يسمعوا مع تقديمهم الصلاة للروح القدس.
    • أن يسمعوا قصد أن يطيعوا في كل أمر في الحال.


    لأَنَّ مَنْ لَـهُ سَيُعْطَى قال المسيح هذا مراراً فقاله أولاً مع مثل الزارع (متّى ١٣: ١٢) ومرّ تفسيره هنالك. وقاله ثانياً مع مثل الوزنات (متّى ٢٥: ٢٩). وقاله ثالثاً مع مثل الأمناء (لوقا ١٩: ٢٦). ومعنى قوله «من له» الذي سمع التعليم وفهمه وعمل بمقتضاه. ومعنى «من ليس له» الذي لم ينتفع بما سمع حتى كأنه لم يسمع.
    فَٱلَّذِي يَظُنُّهُ لَـهُ الخ الكلام هنا على من يخدع نفسه باعتقاده أن مجرد سمع الكلمة كاف له بدون التأثير الروحي. والذي يظنه له هو المعرفة العقلية فهذه إذا لم تفده تعدّ أنها أُخذت منه.

    مجيء أم يسوع وإخوته إليه ع ١٩ إلى ٢١


    ١٩ - ٢١ «١٩ وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ ٱلْجَمْعِ. ٢٠ فَأَخْبَرُوهُ: أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْكَ. ٢١ فَأَجَابَ: أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا».
    متّى ١٢: ٤٦ ومرقس ٣: ٣١
    سبق الكلام على ذلك في الشرح متّى ١٢: ٤٦ - ٥٠ ومرقس ٣: ٣١ - ٣٥.
    أما أسماء إخوة يسوع فذكرها متّى ١٣: ٥٥. وذكر هذه الحادثة متّى ومرقس قبل ذكرهما تعليم يسوع للشعب بالأمثال وذكرها لوقا بعد ذلك. والأرجح أن لوقا لم يذكر الحوادث على ترتيب وقوعها كما ذكرا هما. ولعلّ لوقا ذكر هذه الحادثة هنا تفسيراً لقوله «انظروا كيف تسمعون (ع ١٨) وأبان تلك الكيفية في (ع ٢١) بقوله «يسمعون كلمة الله ويعملون بها». فما سماه المسيح في بشارة لوقا «كلمة الله» سماه في بشارة متّى «مشيئة أبي» وسماه في بشارة مرقس «مشيئة الله» وهذا يدل على أن الروح القدس ألهم البشيرين أن يعتبروا كلمة الله إعلان إرادته.

    تسكين يسوع العاصفة والبحر ع ٢٢ إلى ٢٥


    ٢٢ «وَفِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ دَخَلَ سَفِينَةً هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ، فَقَالَ لَـهُمْ: لِنَعْبُرْ إِلَى عَبْرِ ٱلْبُحَيْرَةِ. فَأَقْلَعُوا».
    متّى ٨: ٢٣ ومرقس ٤: ٣٥
    فِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ لم يعين لوقا الوقت وكذلك متّى ولكن مرقس صرّح بأنه مساء اليوم الذي تكلم فيه بمثل الزارع وغيره من الأمثال (مرقس ٤: ٣٥).
    لِنَعْبُرْ أي لنجز من جانب بحيرة الجليل الغربي إلى الجانب الشرقي.
    ٢٣ «وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ نَامَ. فَنَزَلَ نَوْءُ رِيحٍ فِي ٱلْبُحَيْرَةِ، وَكَانُوا يَمْتَلِئُونَ مَاءً وَصَارُوا فِي خَطَرٍ».
    سبق الكلام على هذه الحادثة كلها في الشرح (متّى ٨: ١٨ و٢٣ - ٢٧ ومرقس ٤: ٣٥ - ٤١). وذكر لوقا قبل هذا معجزات المسيح التي تبين قوته على شفاء المرضى وإخراج الشياطين وإقامة الموتى. وذكر هنا معجزة تبين سلطان المسيح على العالم المادي.
    نَامَ زاد مرقس قوله «على وسادة» (مرقس ٤: ٣٨).
    نَزَلَ نَوْءُ رِيحٍ أي من الأكمات التي شرقي البحيرة.
    كَانُوا يَمْتَلِئُونَ مَاءً المعنى أن الأمواج كانت تقع على السفينة وتجعلها في خطر الغرق من ثقل ما ألفت فيها من الماء.
    ٢٤، ٢٥ «٢٤ َتَقَدَّمُوا وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، يَا مُعَلِّمُ، إِنَّنَا نَهْلِكُ!. فَقَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ وَتَمَوُّجَ ٱلْمَاءِ، فَٱنْتَهَيَا وَصَارَ هُدُوءٌ. ٢٥ ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ: أَيْنَ إِيمَانُكُمْ؟ فَخَافُوا وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ هُوَ هٰذَا؟ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ ٱلرِّيَاحَ أَيْضاً وَٱلْمَاءَ فَتُطِيعُهُ!».
    يَا مُعَلِّمُ، يَا مُعَلِّمُ يدل هذا التكرار مع قولهم أنّا نهلك انهم كانوا في شديد الخوف من الغرق. ولا بد في ذلك الوقت الرهيب من أن أحد التلاميذ قال شيئاً والآخر قال شيئاً آخر ولهذا اختلف ما نقله البشيرون عن ألسنتهم.
    فَقَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ ذكر متّى بعض ما قاله المسيح من كلمات التوبيخ والعزاء للتلاميذ قبل أن انتهر الريح واقتصر مرقس ولوقا على ذكر ما قاله للتلاميذ بعد ذلك فالأرجح أنه خاطبهم بذلك قبل الانتهار وبعده.

    إخراج اللجيئون من مجنون جدرة ع ٢٦ إلى ٣٩


    ٢٦ «وَسَارُوا إِلَى كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ ٱلَّتِي هِيَ مُقَابِلَ ٱلْجَلِيلِ».
    متّى ٨: ٢٨ ومرقس ٥: ١
    كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ أي البلاد التي كانت جدرة أحد مدنها وتسمى أيضاً «العشر المدن».
    مُقَابِلَ ٱلْجَلِيلِ يدل هذا التحديد على أن لوقا كتب إنجيله للأجانب لا لليهود. وقد سبق الكلام على هذه المعجزة في الشرح (متّى ٨: ٢٨ - ٣٤ و٩: ١ ومرقس ٥: ١ - ٢٠).
    ٢٧ «وَلَمَّا خَرَجَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱسْتَقْبَلَـهُ رَجُلٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِ شَيَاطِينُ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَكَانَ لاَ يَلْبَسُ ثَوْباً وَلاَ يُقِيمُ فِي بَيْتٍ بَلْ فِي ٱلْقُبُور».
    ٱسْتَقْبَلَـهُ رَجُلٌ اقتصر مرقس ولوقا على ذكر واحد ولكن متّى ذكر اثنين والظاهر أن أحدهما كان مشهوراً أكثر من الثاني.
    مِنَ ٱلْمَدِينَةِ إن ذلك الرجل كان من أهل تلك المدينة لكنه حين استقبل المسيح كان ساكناً بين القبور. وهذه المدينة هي جرسة أو جرجسة قرب الشاطئ لا جدرة لأن جدرة كانت على أمد ثلاث ساعات من البحيرة.
    مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ ذكر ذلك لوقا دون غيره دلالة على فرط شقاء ذلك الإنسان وعدم أمل أن يبرأ من جنونه.
    لاَ يَلْبَسُ ثَوْباً لم يذكر ذلك إلا لوقا وأما مرقس فأشار إلى ذلك بقوله بعد الشفاء كان لابساً (مرقس ٥: ١٥).
    ٢٨ - ٣١ «٢٨ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ صَرَخَ وَخَرَّ لَـهُ وَقَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ! أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي. ٢٩ لأَنَّهُ أَمَرَ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ ٱلإِنْسَانِ. لأَنَّهُ مُنْذُ زَمَانٍ كَثِيرٍ كَانَ يَخْطَفُهُ، وَقَدْ رُبِطَ بِسَلاَسِلٍ وَقُيُودٍ مَحْرُوساً، وَكَانَ يَقْطَعُ ٱلرُّبُطَ وَيُسَاقُ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱلْبَرَارِي. ٣٠ فَسَأَلَـهُ يَسُوعُ: مَا ٱسْمُكَ؟ فَقَالَ: لَجِئُونُ. لأَنَّ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً دَخَلَتْ فِيهِ. ٣١ وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَأْمُرَهُمْ بِٱلذَّهَابِ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ».
    رومية ١٠: ٧ ورؤيا ٢٠: ٣
    إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ (ع ٣١) أي سجن الأرواح الهالكة أو جهنم مسكن الشياطين.
    ٣٢ «وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى فِي ٱلْجَبَلِ، فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَأْذَنُ لَـهُمْ بِٱلدُّخُولِ فِيهَا، فَأَذِنَ لَـهُمْ».
    خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ قال مرقس أن تلك الخنازير نحو ألفين.
    فِي ٱلْجَبَلِ كل الأرض التي شرقي البحيرة جبلية فالخنازير كانت ترعى إما على سفوحها وإما في الأودية بين رؤوس جبالها.
    ٣٣ «فَخَرَجَتِ ٱلشَّيَاطِينُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ وَدَخَلَتْ فِي ٱلْخَنَازِيرِ، فَٱنْدَفَعَ ٱلْقَطِيعُ مِنْ عَلَى ٱلْجُرْفِ إِلَى ٱلْبُحَيْرَةِ وَٱخْتَنَقَ».
    دَخَلَتْ فِي ٱلْخَنَازِيرِ لا نعلم كيف دخلت في الخنازير لقصر معرفتنا أمور الأرواح إنما نعلم مما قيل هنا أن دخولها كان سبب خوف عظيم للخنازير ومن المعلوم أنه إذا اعترى الخوف جماعة كثيرة من البهائم كالبقر أو الخيل وغيرها لم تدرك ماذا تفعل بل تسرع إلى الهلاك.
    وَٱخْتَنَقَ عظمة الضرر التي نتجت من قبل الشياطين تدل على كثرتهم وشراستهم وإنقاذ المسيح رجلاً أو رجلين منهم يدل على رحمته وقوته.
    ٣٤ - ٣٧ «٣٤ فَلَمَّا رَأَى ٱلرُّعَاةُ مَا كَانَ هَرَبُوا وَذَهَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي ٱلْمَدِينَةِ وَفِي ٱلضِّيَاعِ، ٣٥ فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَوَجَدُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلشَّيَاطِينُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لاَبِساً وَعَاقِلاً جَالِساً عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ، فَخَافُوا. ٣٦ فَأَخْبَرَهُمْ أَيْضاً ٱلَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ خَلَصَ ٱلْمَجْنُونُ. ٣٧ فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ جُمْهُورِ كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ، لأَنَّهُ ٱعْتَرَاهُمْ خَوْفٌ عَظِيمٌ. فَدَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ وَرَجَعَ».
    متّى ٨: ٣٤ وأعمال ١٦: ٣٩
    لاَبِساً (ع ٣٥) لم يذكر لوقا من أين أتى المجنون بالثياب والأرجح أن الرسل أعطوه إياها.
    جَالِساً عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ (ع ٣٥) لم يذكر ذلك إلا لوقا وجلوسه هناك يدل على عظمة تغيره لأنه كان قبل ذلك يهرب من الناس وعلى شكره ومحبته للمسيح ورغبته في تعليمه.
    ٣٨، ٣٩ «٣٨ أَمَّا ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ، وَلٰكِنَّ يَسُوعَ صَرَفَهُ قَائِلاً: ٣٩ ٱرْجِعْ إِلَى بَيْتِكَ وَحَدِّثْ بِكَمْ صَنَعَ ٱللّٰهُ بِكَ. فَمَضَى وَهُوَ يُنَادِي فِي ٱلْمَدِينَةِ كُلِّهَا بِكَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ».
    مرقس ٥: ١٨
    لم يذكر متّى طلب المجنون المذكور هنا وعلّة إباء يسوع إجابة طلبه ذُكرت في ما مرّ من الشرح (مرقس ٥: ١٩).
    فِي ٱلْمَدِينَةِ كُلِّهَا (ع ٣٩) الأرجح أن تلك المدينة مدينة جرسة قرب البحيرة. وقال مرقس أن ذلك الرجل نادى بالمسيح في كل تلك الكورة أي العشر المدن. فما أعجب صنيع المسيح لذلك المجنون في وقت قصير جداً فإنه نجاه فيه من الشياطين الكثيرة وجدد قلبه وأناره بالروح القدس حتى صار مستعداً للتبشير بالإنجيل.

    إقامة ابنة يايرس وشفاء المرأة النازفة الدم ع ٤ لى ٥٦


    ٤٠ - ٥٦ «٤٠ وَلَمَّا رَجَعَ يَسُوعُ قَبِلَـهُ ٱلْجَمْعُ لأَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعُهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ. ٤١ وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ يَايِرُسُ قَدْ جَاءَ وَكَانَ رَئِيسَ ٱلْمَجْمَعِ فَوَقَعَ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، ٤٢ لأَنَّهُ كَانَ لَـهُ بِنْتٌ وَحِيدَةٌ لَهَا نَحْوُ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ فِي حَالِ ٱلْمَوْتِ. فَفِيمَا هُوَ مُنْطَلِقٌ زَحَمَتْهُ ٱلْجُمُوعُ ٤٣ وَٱمْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً، وَقَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ، وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ، ٤٤ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَلَمَسَتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. فَفِي ٱلْحَالِ وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. ٤٥ فَقَالَ يَسُوعُ: مَنِ ٱلَّذِي لَمَسَنِي! وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يُنْكِرُونَ، قَالَ بُطْرُسُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ: يَا مُعَلِّمُ، ٱلْجُمُوعُ يُضَيِّقُونَ عَلَيْكَ وَيَزْحَمُونَكَ، وَتَقُولُ مَنِ ٱلَّذِي لَمَسَنِي! ٤٦ فَقَالَ يَسُوعُ: قَدْ لَمَسَنِي وَاحِدٌ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي. ٤٧ فَلَمَّا رَأَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَنَّهَا لَمْ تَخْتَفِ جَاءَتْ مُرْتَعِدَةً وَخَرَّتْ لَـهُ، وَأَخْبَرَتْهُ قُدَّامَ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ لأَيِّ سَبَبٍ لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ بَرِئَتْ فِي ٱلْحَالِ. ٤٨ فَقَالَ لَهَا: ثِقِي يَا ٱبْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ. ٤٩ وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، جَاءَ وَاحِدٌ مِنْ دَارِ رَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ قَائِلاً لَـهُ: قَدْ مَاتَتِ ٱبْنَتُكَ. لاَ تُتْعِبِ ٱلْمُعَلِّمَ. ٥٠ فَسَمِعَ يَسُوعُ وَأَجَابَهُ: لاَ تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ، فَهِيَ تُشْفَى. ٥١ فَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْبَيْتِ لَمْ يَدَعْ أَحَداً يَدْخُلُ إِلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَأَبَا ٱلصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا. ٥٢ وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَبْكُونَ عَلَيْهَا وَيَلْطِمُونَ. فَقَالَ: لاَ تَبْكُوا. لَمْ تَمُتْ لٰكِنَّهَا نَائِمَةٌ. ٥٣ فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، عَارِفِينَ أَنَّهَا مَاتَتْ. ٥٤ فَأَخْرَجَ ٱلْجَمِيعَ خَارِجاً، وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا وَنَادَى قَائِلاً: يَا صَبِيَّةُ قُومِي. فَرَجَعَتْ رُوحُهَا وَقَامَتْ فِي ٱلْحَالِ. فَأَمَرَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ. ٥٦ فَبُهِتَ وَالِدَاهَا. فَأَوْصَاهُمَا أَنْ لاَ يَقُولاَ لأَحَدٍ عَمَّا كَانَ».
    متّى ٩: ١٨ ومرقس ٥: ٢٢، متّى ٩: ٢٠، مرقس ٥: ٣٠ وص ٦: ١٩، مرقس ٥: ٣٥، يوحنا ١١: ١١ و١٣، ص ٧: ١٤ ويوحنا ١١: ٤٣، متّى ٨: ٤ و٩: ٣٠ ومرقس ٥: ٤٣
    مرّ تفسير ذلك كله في ما مرّ من الشرح متّى ٩: ١٨ - ٢٦ ومرقس ٥: ٢٢ - ٤٣. وكانت هاتان الحادثتان في كفرناحوم بعد رجوع المسيح من أرض الجرجسيين. وكان المسيح حين أتى يايرس إليه في وليمة في بيت متّى. وذكر لوقا تلك الوليمة في ص ٥: ٢٩. وزاد لوقا ثلاثة أشياء:
    (١) أن بنت يايرس كانت وحيدة لوالديها (ع ٤٢).
    (٢) أن الذي أجاب عن قول المسيح «من لمسني» هو بطرس. وهذا كان يتوقع من بطرس لما نعلمه من أخلاقه. ولا يحسن أن نستنتج من قول لوقا أن الجميع أنكروا أنهم لمسوه. (٣) أن المرأة أنكرت ذلك لأن الأرجح أنها رجعت إلى الوراء حالاً وأغلق الحياء والخوف فمها.


    الأصحاح التاسع


    إرسال يسوع الاثني عشر للتبشير ع ١ إلى ٦


    ١ «وَدَعَا تَلاَمِيذَهُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَاناً عَلَى جَمِيعِ ٱلشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاض».
    متّى ١٠: ١ ومرقس ٣: ١٣ الخ و٦: ٧
    انظر الشرح متّى ٩: ٣٥ - ٣٨ و١٠: ٥ - ٤٢ و١١: ١ ومرقس ٦: ٦ - ١٣. وهذا جولان المسيح الثالث في الجليل وإنباء لوقا به أخصر من إنباء غيره به. ونعلم مما قيل في بشارة متّى (١١: ١) أنه حين جال الرسل في القرى يبشرون كان المسيح يبشر أيضاً في المدن.
    أَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَاناً الخ أظهر يسوع قوته الإلهية غير المحدودة بإعطائه غيره قدرة على عمل المعجزات فضلاً على ما أظهر بعملها.
    عَلَى جَمِيعِ ٱلشَّيَاطِينِ مهما كانت كثرتهم وقوتهم وشراستهم.
    ٢ «وَأَرْسَلَـهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ وَيَشْفُوا ٱلْمَرْضَى».
    متّى ١٠: ٧ و٨ ومرقس ٦: ١٣ وص ١٠: ١ و٩
    لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ كان ذلك عملهم الأهم وإنما كان شفاء المرضى دليلاً على صدق كرازتهم وسلطانها. وأرسل يسوع التلاميذ اثنين اثنين (مرقس ٦: ٧).
    ٣ «وَقَالَ لَـهُمْ: لاَ تَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ، لاَ عَصاً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ فِضَّةً، وَلاَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ».
    متّى ١٠: ٩ ومرقس ٦: ٨ وص ١٠: ٤ و٢٢: ٣٥
    لاَ تَحْمِلُوا شَيْئاً الخ قصد المسيح بهذا كله تعليم تلاميذه الاقتناع بضرورياتهم وتجنبهم الجاه الدنيوي والترفّه.
    لاَ عَصاً نستنتج من مقابلة هذا بقوله «غير عصا فقط» (مرقس ٦: ٨) أن المسيح قصد أن يذهب تلاميذه بما لهم حينئذ فمن له عصى فليأخذه ومن ليس له فلا يضع الوقت في التفتيش عن عصا ومن له عصا فلا يأخذ اثنين احتياطاً من الحاجة إلى ذلك.
    ٤ «وَأَيَّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا، وَمِنْ هُنَاكَ ٱخْرُجُوا».
    متّى ١٠: ١١ ومرقس ٦: ١٠
    هُنَاكَ أَقِيمُوا لم ينه المسيح تلاميذه عن التطويف من بيت إلى آخر بغية التبشير وشفاء المرضى بل نهاهم عن الجولان لأجل الطعام. وذلك منعٌ لهم من إضاعة الوقت بالزيارات الدنيوية واللذات الجسدية.
    ٥ «وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ فَٱخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ، وَٱنْفُضُوا ٱلْغُبَارَ أَيْضاً عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ».
    متّى ١٠: ١٤ وأعمال ١٣: ٥١
    مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ علّم يسوع بذلك تلاميذه أن يتوقعوا من الناس تكذيب كلامهم ومقاومتهم،
    وَٱنْفُضُوا ٱلْغُبَارَ ذلك مجاز قصد به أن الذين يرفضون كلامهم يُحسبون كالوثنيين ويتركون في قساوة قلوبهم. وأنه لا يبقى على الرسل شيء من المسؤولية من أمرهم إذا هلكوا.
    ٦ «فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ».
    مرقس ٥: ١٣
    يُبَشِّرُونَ قال مرقس إنهم كرزوا بالتوبة (مرقس ٦: ١٢) وذلك جزء من التبشير بالإنجيل لأن التوبة شرط ضروري لنوال البركات الإنجيلية.
    فِي كُلِّ قَرْيَةٍ... فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أي في كل مكان دخلوه وزاد مرقس على ذلك أنهم كانوا يدهنون المرضى بالزيت عندما قصدوا شفاءهم.

    ارتياب هيرودس ع ٧ إلى ٩


    ٧ - ٩ «٧ فَسَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ، وَٱرْتَابَ لأَنَّ قَوْماً كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. ٨ وَقَوْماً: إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ. وَآخَرِينَ: إِنَّ نَبِيّاً مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ. ٩ فَقَالَ هِيرُودُسُ: يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هٰذَا! وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ».
    متّى ١٤: ١ ومرقس ٦: ١٤، ص ٢٣: ٨
    انظر الشرح متّى ٤: ١ - ١٢ ومرقس ٦: ١٤ - .٢٩
    هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ هو كان كذلك حقيقة ولكن مرقس سماه ملكاً إكراماً جرياً على عادة الناس في مثل ذلك على أنه كان ابن هيرودس الكبير وله سلطان يقرب من سلطان الملك.
    لأَنَّ قَوْماً كَانُوا يَقُولُونَ الخ كان أصل هذا القول من هيرودس على ما قال متّى ولوقا ثم تناقلته الألسنة بلا إسناد إليه كعادة الناس في نقل أقوال العظماء وارتياب هيرودس بيان لقوة الضمير على إقلاق قلوب المذنبين وتهييج مخاوفهم.
    إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ (ع ٨) ميّز الناس بين إيليا الذي لم يمت إنما نقل حياً إلى السماء (٢ملوك ٢: ١١). ويوحنا المعمدان والأنيباء الذين ماتوا بقولهم أن الأول ظهر وأن الآخرين قاموا من الأموات.
    يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ (ع ٩) هذا النبأ الوحيد الذي جاء به لوقا من أنباء موت يوحنا المعمدان. وكنا نتوقع أن يستوفي الكلام على موت يوحنا أكثر من سائر البشيرين لأنه استوفى الكلام على ولادته أكثر منهم. فدل اختصاره في ذلك أنه اعتبر أهمية تاريخ يوحنا من جهة كونه سابق المسيح وشاهده ولم يفه بعد هذا بغيره من أمر يوحنا لأن ما أبانه هو المتعلق بحياة المسيح على الأرض.
    مَنْ هُوَ هٰذَا (ع ٩) لعلّ ما قاله القوم كما مرّ كان جواباً لسؤال هيرودس هذا.
    مِثْلَ هٰذَا أي ما أتاه المسيح من المعجزات.
    كَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ ذلك لرغبته في رؤية شيء من معجزاته ولإزالة ارتيابه وخوفه بمشاهدته فلم يحصل على فرصة لذلك إلا في يوم صلب المسيح (ص ٢٣: ٦ - ١٢).

    رجوع التلاميذ وذهاب المسيح معهم إلى البريّة وإشباعه الخمسة الآلاف ع ١٠ إلى ١٧


    ١٠ - ١٧ «١٠ وَلَمَّا رَجَعَ ٱلرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا، فَأَخَذَهُمْ وَٱنْصَرَفَ مُنْفَرِداً إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صَيْدَا. ١١ فَٱلْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ، فَقَبِلَـهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَٱلْمُحْتَاجُونَ إِلَى ٱلشِّفَاءِ شَفَاهُمْ. ١٢ فَٱبْتَدَأَ ٱلنَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ ٱلاثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَـهُ: ٱصْرِفِ ٱلْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى ٱلْقُرَى وَٱلضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَاماً، لأَنَّنَا هٰهُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاَءٍ. ١٣ فَقَالَ لَـهُمْ: أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا. فَقَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ طَعَاماً لِهٰذَا ٱلشَّعْبِ كُلِّهِ. ١٤ لأَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: أَتْكِئُوهُمْ فِرَقاً خَمْسِينَ خَمْسِينَ. ١٥ فَفَعَلُوا هٰكَذَا وَأَتْكَأُوا ٱلْجَمِيعَ. ١٦ فَأَخَذَ ٱلأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ، ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلتَّلاَمِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ. ١٧ فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعاً. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ ٱلْكِسَرِ: ٱثْنَتَا عَشَرَةَ قُفَّةً».
    مرقس ٦: ٣٠، متّى ١٤: ١٣، متّى ١٤: ١٥ ومرقس ٦: ٣٥ الخ ويوحنا ٦: ١ و٥
    انظر الشرح متّى ١٤: ١٣ - ٢١ ومرقس ٦: ٣٠ - ٤٤.
    فَأَخَذَهُمْ (ع ١٠) أي رفقاء.
    وَٱنْصَرَفَ لم يبين لوقا أفي البحر كان ذلك أم في البرّ لكن نعرف من سائر البشائر أنه كان في البحر.
    مَوْضِعٍ خَلاَءٍ لِمَدِينَةٍ أي تابع لتلك المدينة. ولا تضادّ بين قول لوقا هنا وقول مرقس أنهم بعدما تركوا الموضع ذهبوا إلى بيت صيدا (مرقس ٦: ٤٥). فالأرجح أن المعجزة المذكورة هنا كانت في سهل شرقي بيت صيدا تابع لها يسمى اليوم سهل البطيحة. وأن التلاميذ دخلوا السفينة بعد المعجزة لكي يعبروا خليجاً صغيراً في بحيرة طبرية قاصدين بيت صيدا.
    بَيْتَ صَيْدَا كانت هذه المدينة قرب الشاطئ وعلى الشمال الشرقي من البحيرة وكانت في أول أمرها قرية صغيرة جعلها فيلبس رئيس الربع مدينة لكثرة ما بنى فيها وزينها وسماها جولياس إكراماً لجوليا ابنة الأمبراطور. وقد ذهب البعض ان تلك المدينة بُنيت على جانبي نهر الأردن عند مصبه وعلى هذا المذهب تكون المدينة قسمين أحدها عبر الآخر فالواحد شرقي قرب محل المعجزة والثاني غربي وهو الذي ذُكر في بشارة مرقس (مرقس ٦: ٤٥) وفي بشارة يوحنا (يوحنا ٦: ١٦).
    فَقَبِلَـهُمْ (ع ١١) كان يسوع حينئذ قد تعب وطلب الانفراد لكن لما شاهد الجمع الذي سبقه جارياً على البرّ تحنن عليه وعلمه وشفى مرضاه.
    ٱلنَّهَارُ يَمِيلُ (ع ١٢) أي تميل الشمس إلى الغروب.
    مَوْضِعٍ خَلاَءٍ أي خال من السكان. وكان هناك عشب كثير (يوحنا ٦: ١٠).
    أَرْغِفَةٍ (ع ١٣) قال يوحنا إن تلك الأرغفة كانت من الشعير وأن التلاميذ اشتروها من غلام هنالك.
    إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ ذكر مرقس ذلك على سبيل الاستفهام والمعنى واحد وهو بيان عدم إمكانهم أن يشبعوا ذلك الجمع العظيم. وزاد مرقس ويوحنا على ذلك قول التلاميذ إنهم يحتاجون إلى مئتي دينار ليعطوا كل واحد شيئاً يسيراً من الطعام.
    نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ (ع ١٤) «مَا عَدَا ٱلنِّسَاءَ وَٱلأَوْلاَدَ» (متّى ١٤: ٢١).
    وَأَتْكَأُوا قال متّى ومرقس إن المسيح أمر الجمع بالاتكاء فالأمر ظاهر أن المسيح أمر الرسل بأن يأمروا الجميع بذلك ومثل هذا شائع في كل لغة.

    اعتراف بطرس بالمسيح ع ١٨ إلى ٢١


    ١٨ - ٢١ «١٨ وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى ٱنْفِرَادٍ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مَعَهُ. فَسَأَلَـهُمْ: مَنْ تَقُولُ ٱلْجُمُوعُ إِنِّي أَنَا؟ ١٩ فَأَجَابُوا: يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ إِنَّ نَبِيّاً مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ. ٢٠ فَقَالَ لَـهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ بُطْرُسُ: مَسِيحُ ٱللّٰهِ. ٢١ فَٱنْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لاَ يَقُولُوا ذٰلِكَ لأَحَدٍ».
    متّى ١٦: ١٣ ومرقس ٨: ٢٧، متّى ١٤: ٢ وع ٧ و٨، متّى ١٦: ١٦ ويوحنا ٦: ٦٩، متّى ١٦: ٢٠
    ترك لوقا هنا ما ذكره متّى ومرقس من أمر مشي المسيح على الماء (متّى ١٤: ٢٣ - ٣٦ ومرقس ٦: ٤٥ و٤٦). وإتيان المرأة الكنعانية إليه تسأله شفاء ابنتها وإشباعه الأربعة الآلاف وشفاء الاصم الأخرس (متّى ١٥: ٢١ - ٣٨ ومرقس ٧: ٢٤ - ٣٧). وكلامه على خمير الصدوقيين والفريسيين (متّى ١٦: ٤ - ١٢ ومرقس ٨: ١٣ - ٢١) وإبرائه الأعمى في بيت صيدا (مرقس ٨: ٢٢ - ٢٦).
    وقد مرّ الكلام على هذه الآيات في الشرح (متّى ١٦: ١٣ - ٢١ ومرقس ٨: ٢٧ - ٣١).
    فِيمَا هُوَ يُصَلِّي (ع ١٨) لم يذكر أحد من الإنجيليين سوى لوقا أن المسيح شغل وقتاً بالصلاة قبل أن سأل تلاميذه عن إيمانهم به وقبل إنبائه إياهم بآلامه وموته وقيامته. ولا ريب في أن تلك الصلاة كانت لأجل التلاميذ لكي لا يتزعزع إيمانهم به إذا سمعوا أنه يأتي عليه خلاف ما كانوا يسمعون ويعتقدون من أمر المسيح.
    عَلَى ٱنْفِرَادٍ أي بمعزل عن الجمع المزدحم. ونستنتج مما قاله مرقس أن يسوع كان حينئذ قد استراح قليلاً على الطريق وانتهز فرصة الصلاة والخطاب الروحي مع تلاميذه (مرقس ٨: ٢٧).
    مَنْ تَقُولُ ٱلْجُمُوعُ إِنِّي أَنَا غاية المسيح من هذا السؤال حمل التلاميذ على أن يميزوا جلياً بين اعتقاد الشعب فيه والاعتقاد الذي بلغوه في ذلك وأن يستعدوا لتعليم جديد من جهة الطريق التي فيها يكمل عمل الخلاص.
    وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ خاطب المسيح بذلك الرسل كلهم وأراد جواب الكل. فأجابه بطرس عن الجميع وقبله يسوع كذلك وكان ما في ذلك الجواب من المعرفة والاعتراف نتيجة إعلان الله (متّى ١٦: ١٦).
    مَسِيحُ ٱللّٰهِ هذا مثل قول سمعان الشيخ «مسيح الرب» (ص ٢: ٢٦) أي الذي مسحه الله وأرسله. وعُبر عنه في بشارة متّى بالمسيح ابن الله الحي وفي بشارة مرقس بالمسيح. والمقصود في كل ذلك واحد وهو أن يسوع هو المسيح الموعود به.
    أَنْ لاَ يَقُولُوا ذٰلِكَ (ع ٢١) أي أن يسوع هو مسيح الله. وقد مرّ الكلام على سبب تلك الوصية في الشرح (متّى ١٦: ٢٠).

    إنباء يسوع بموته وقيامته ع ٢٢ إلى ٢٧


    ٢٢ - ٢٧ «٢٢ قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ ٢٣ وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. ٢٤ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهٰذَا يُخَلِّصُهَا. ٢٥ لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ ٢٦ لأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي، فَبِهٰذَا يَسْتَحِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ ٱلآبِ وَٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ. ٢٧ حَقّاً أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
    متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٣، متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤ ومرقس ٨: ٣٤ وص ١٤: ٢٧، متّى ١٦: ٢٦ ومرقس ٨: ٣٦، متّى ١٠: ٣٣ ومرقس ٨: ٣٨ و٢تيموثاوس ٢: ١٢، متّى ١٦: ١٨ ومرقس ٩: ١
    انظر الشرح متّى ١٦: ٢١ - ٢٨ ومرقس ٨: ٣١ - ٣٨.
    أخذ المسيح من ذلك الوقت يكرر على التلاميذ أنه يتألم ويموت من أجل خطايا العالم ليعوّد أسماعهم ما يخالف كل آرائهم السابقة في شأن المسيح. ولم يذكر لوقا توبيخ المسيح لبطرس لاعتراضه على قوله هنا (متّى ١٦: ٢٢ و٢٣). كما لم يذكر وعده لبطرس على أثر اعترافه به (متّى ١٦: ١٧ - ١٩).
    لِلْجَمِيعِ (ع ٢٣) نعلم من هذا ومن قول مرقس أنه دعا الجمع مع تلاميذه أنهم بلغوا في الطريق إحدى القرى حيث اجتمع الناس ليسمعوا تعليمه (مرقس ٨: ٣٤).
    فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ (ع ٢٣) يميل قلب الإنسان طبعاً إلى الراحة الجسدية واللذات الدنيوية والمجد العالي فيجب على كل إنسان قبل أن يقيم المسيح ملكاً عليه أن ينزع من قلبه كل تلك الغايات الشخصية الدنيوية.
    وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ أي يقاوم العالم والشيطان وهذه المقاومة علّة العار والبلية في هذه الدنيا. ويُفهم من قوله «صليبه» أن الله عين لكل إنسان ما يحتمله لأجل اسمه وليس عليه أن يحمل صليب غيره. فحمل الصليب فرض على كل مسيحي فيستحيل أن يكون الدين المسيحي بلا صليب كما يستحيل أن يكون بلا مسيح.
    كُلَّ يَوْمٍ إنكار الذات وحمل الصليب فُرضا على كل مسيحي كل يوم من أيام حياته وكل ساعة من ساعات كل يوم وهذا يقرب من قول بولس الرسول عن نفسه «أَمُوتُ كُلَّ يَوْمٍ» (١كورنثوس ١٥: ٣١).
    يُخَلِّصَ نَفْسَهُ (ع ٢٤) أي حياته الجسدية بإنكاره المسيح وقت الاضطهاد.
    يُهْلِكُهَا أي يهلك حياته الروحية السامية الحقيقية. فللنفس هنا معنيان الحياة الطبيعية والحياة الروحية. وكذلك جاء للموت معنيان في قوله تعالى «دَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ» (متّى ٨: ٢٢) أي موتى الروح يدفنون موتى الجسد.
    مَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي أي من يبذل حياته الجسدية لا يستحق الذكر بالنسبة إلى عظمة الخسارة بهلاك النفس.
    مَاذَا يَنْتَفِعُ (ع ٢٥) أي لا ينتفع شيئاً لأن ربح العالم كله زهيد لا يستحق الذكر بالنسبة إلى عظمة الخسارة بهلاك النفس.
    خَسِرَهَا أي خسر حياته السماوية وذلك لنفيه من حضرة الله وحبسه بين الهالكين في جهنم.
    مَنِ ٱسْتَحَى بِي (ع ٢٦) أي من أظهر الحياء بأن أنكر المسيح لينقذ جسده من الموت.
    بِهٰذَا يَسْتَحِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يفعل به فعل من استحى بغيره. فلا يعترف بأنه من أتباعه ويرفضه وينفيه من حضرته في يوم الدين.
    مَتَى جَاءَ (ع ٢٦) صرّح المسيح هنا بمجيئه ثانية وسيكون ذلك المجيء بمجد عظيم. ولذلك المجد ثلاث صفات:

    • الأولى: أنه «مجده» أي المجد الذي لابن الله منذ الأزل.
    • الثانية: أنه مجد الآب أي المجد الذي منحه الآب إياه جزاء على أتضاعه وآلامه لأجل عمل الفداء.
    • الثالثة: أنه مقترن بمجد الملائكة الذين يرافقونه يومئذ خداماً له.


    ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا (ع ٢٧) أي الرسل وغيرهم ع ٢٣.
    يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ شبه الموت هنا كأس مرّة.
    يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ فسر هذا القول متّى بقوله «يَرَوُا ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ» (متّى ١٦: ٢٨) ومرقس بقوله «يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ» (مرقس ٩: ١) وقصد يسوع بكل ذلك أن بعض الذين كان يكلمهم ينظرون من قبل موتهم ما يحقق لهم أن المسيح أتى وأسس ملكوته على الأرض.
    ولعلّ هذه النبوءة لم تتم دفعة بحادث واحد وقد تمت جزئياً في ثلاثة أوقات.

    • الأول: وقت تجلّيه. وشاهد ذلك ثلاثة من أولئك القيام.
    • الثاني: يوم الخمسين. ففيه أسس ملكوت المسيح علناً بانسكاب الروح القدس وموهبة الألسنة وإنشاء الكنيسة المسيحية وانتصارها على المقاومين وشاهد ذلك كل الرسل من أولئك القيام سوى يهوذا الاسخريوطي.
    • الثالث: يوم خراب أورشليم الذي زالت به الهيئة الخارجية للنظام القديم. وشاهد ذلك الخراب يوحنا الرسول وهو أحد أولئك القيام.



    التجلي ع ٢٨ إلى ٣٦


    ٢٨ - ٣٦ «٢٨ وَبَعْدَ هٰذَا ٱلْكَلاَمِ بِنَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، أَخَذَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ إِلَى جَبَلٍ لِيُصَلِّيَ. ٢٩ وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضّاً لاَمِعاً. ٣٠ وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا، ٣١ ٱَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ، وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ ٱلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَـهُ فِي أُورُشَلِيمَ. ٣٢ وَأَمَّا بُطْرُسُ وَٱللَّذَانِ مَعَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِٱلنَّوْمِ. فَلَمَّا ٱسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ، وَٱلرَّجُلَيْنِ ٱلْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ. ٣٣ وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ قَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ: يَا مُعَلِّمُ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هٰهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلِإِيلِيَّا وَاحِدَةً. وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ. ٣٤ وَفِيمَا هُوَ يَقُولُ ذٰلِكَ كَانَتْ سَحَابَةٌ فَظَلَّلَتْهُمْ. فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي ٱلسَّحَابَةِ. ٣٥ وَصَارَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ. لَـهُ ٱسْمَعُوا. ٣٦ وَلَمَّا كَانَ ٱلصَّوْتُ وُجِدَ يَسُوعُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا هُمْ فَسَكَتُوا وَلَمْ يُخْبِرُوا أَحَداً فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْصَرُوهُ»
    متّى ١٧: ١ ومرقس ٩: ٢، ٢ بطرس ١: ١٥، دانيال ٨: ١٨ و١٠: ٩، متّى ٣: ١٧، أعمال ٢: ٢٣، متّى ١٧: ٩
    قد مرّ الكلام على ذلك في الشرح متّى ١٧: ١ - ٨ ومرقس ٩: ٢ - ٨.
    بِنَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ (ع ٢٨) حسب لوقا اليوم الذي أنبأ المسيح فيه بذلك واليوم الذي جرى فيه. وأما متّى ومرقس فحسبا الأيام الستة التي بين ذينك اليومين.
    بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ كان يسوع يعزّ هؤلاء الثلاثة كثيراً وأخذهم معه شهوداً بمجده. فإن شهادة الثلاثة في الشريعة اليهودية تثبت كل حادثة.
    جَبَلٍ الأرجح أن هذا الجبل هو حرمون أي جبل الشيخ.
    لِيُصَلِّيَ لم يذكر أن هذا علّة صعوده على الجبل إلا لوقا. وكان المسيح يبتدئ كل أعماله العظمى بالصلاة كما فعل يوم اعتماده ووقت انتخابه الرسل وحين تجليه وزمن صلبه.
    مُتَغَيِّرَةً (ع ٢٩) أي ممجدة. لم يزل المسيح معروفاً بها كما كان من ذي قبل.
    رَجُلاَنِ (ع ٣٠) ذكر متّى ومرقس ظهور موسى وإيليا ولم يذكرا في أي الصور ظهرا لكن لوقا عيّن أنهما ظهرا رجلين.
    ظَهَرَا بِمَجْدٍ (ع ٣١) أي بنور وبهاء كالسماويين.
    خُرُوجِهِ أي موته وذلك كتعبير بطرس عن موته هو (٢ بطرس ١: ١٥). ذكر متّى ومرقس ان موسى وإيليا تكلما معه ولم يذكرا موضوع الكلام. ولكن لوقا أبان ان ذلك الموضوع هو الموت الذي عزم يسوع أن يموته في أورشليم لأجل خطايا العالم. وإنما كان ذلك سبب إتيانه إلى العالم ليبذل نفسه فدية عن العالم الخاطئ. والذي هو موضوع تأمل القديسين الممجدين في السماء وكلامهم يليق أن يكون موضوع تأمل قديسي المسيح الأحياء على الأرض وكلامهم فإنما هو تعزيتهم في الحياة والوفاة وفرحهم في الأبدية.
    يُكَمِّلَـهُ أي يجريه إتماماً للقضاء الإلهي وللنبؤات المتعلقة به ولعمل الفداء.
    تَثَقَّلُوا بِٱلنَّوْمِ كان ليل وقد تعب الرسل بالصعود على الجبل. والأرجح أنهم ناموا أكثر مدة المخاطبة واستيقظوا وقد قربت من النهاية فلم يسمعوا سوى قليل منها. وهذا يتبين من قوله فلما «استيقظوا» الخ.
    مَجْدَهُ، وَٱلرَّجُلَيْنِ أي مجد المسيح وكان ذلك المجد عظيماً حتى لم ينتبه الرسل الثلاثة لمجد موسى وإيليا. وقد سبق الكلام على غاية التجلي في الشرح (متّى ١٧: ٨).
    فَسَكَتُوا (ع ٣٦) أتوا ذلك إطاعة لأمر المسيح (متّى ١٧: ٩) والأرجح أنهم ظلوا ساكتين إلى بعد القيامة. ولم يذكر لوقا في بشارته سؤال الرسل عن مجيء إيليا قبل مجيء المسيح المنتظر كما كان يتوقع اليهود فلم يكن من حاجة إلى أن يبين لهم أن النبؤة بسبق إيليا قد تمت بمجيء يوحنا المعمدان.

    شفاء الولد المجنون ع ٣٧ إلى ٤٣


    ٣٧ - ٤٣ «٣٧ وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي إِذْ نَزَلُوا مِنَ ٱلْجَبَلِ، ٱسْتَقْبَلَـهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ. ٣٨ وَإِذَا رَجُلٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ صَرَخَ: يَا مُعَلِّمُ، أَطْلُبُ إِلَيْكَ. اُنْظُرْ إِلَى ٱبْنِي، فَإِنَّهُ وَحِيدٌ لِي. ٣٩ وَهَا رُوحٌ يَأْخُذُهُ فَيَصْرُخُ بَغْتَةً، فَيَصْرَعُهُ مُزْبِداً، وَبِٱلْجَهْدِ يُفَارِقُهُ مُرَضِّضاً إِيَّاهُ. ٤٠ وَطَلَبْتُ مِنْ تَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا. ٤١ فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ وَٱلْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمِ ٱبْنَكَ إِلَى هُنَا. ٤٢ وَبَيْنَمَا هُوَ آتٍ مَزَّقَهُ ٱلشَّيْطَانُ وَصَرَعَهُ، فَٱنْتَهَرَ يَسُوعُ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ، وَشَفَى ٱلصَّبِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلَى أَبِيهِ. ٤٣ فَبُهِتَ ٱلْجَمِيعُ مِنْ عَظَمَةِ ٱللّٰهِ. وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ، قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ».
    متّى ١٧: ١٤ ومرقس ٩: ١٤ و١٧
    انظر الشرح متّى ١٧: ١٤ - ٢١ ومرقس ٩: ١٤ - ٢٩ ونبأ مرقس بهذا واف أكثر من غيره.
    فِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي (ع ٣٧) تقضّى عليهم الليل وهم على الجبل ورجعوا صباحاً إلى قيصرية فيلبي حيث بقي الرسل التسعة.
    فَإِنَّهُ وَحِيدٌ لِي (ع ٣٨) لم يذكر هذا إلا لوقا وهذا مما زاد حزن أبيه بمصابه.
    مِنْ عَظَمَةِ ٱللّٰهِ يريد ظهور تلك العظمة في شفاء المجنون فذلك كتعجب الناس اليوم بقولهم «سبحان الله» وأكثر الذين بهتوا من الجمع الكثير الذي كان هنالك (ع ٣٧).

    إنباء يسوع بموته ثانية ع ٤٤ و٤٥


    ٤٤، ٤٥ «٤٤ ضَعُوا أَنْتُمْ هٰذَا ٱلْكَلاَمَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ». ٤٥ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا هٰذَا ٱلْقَوْلَ، وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ لِكَيْ لاَ يَفْهَمُوهُ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ هٰذَا ٱلْقَوْلِ».
    متّى ١٧: ٢٢، مرقس ٩: ٣٢ وص ٢: ٥٠ و١٨: ٣٤
    كان يجب أن يكون أول هذا الفصل بعد العدد الثالث والأربعين لأن أول ذلك العدد يتعلق بحادث قيصرية فيلبس وباقيه بالخطاب بين المسيح وتلاميذه وهم على الطريق من تلك المدينة إلى كفرناحوم كما يظهر من بشارة مرقس (مرقس ٩: ٣٠ و٣١).
    سبق الكلام على هذا في الشرح (متّى ١٧: ٢٢ و٢٣ ومرقس ٣٠ - ٣٢). ولعلّ تعجب الجمع من عمل المسيح وتمجيدهم إياه جعلا التلاميذ يتوقعون إتيان ملكوت المسيح بالقوة حالاً وينسون ما أنبأهم به سابقاً من آلامه وموته ولذلك أنبأهم به ثانية.
    هٰذَا ٱلْكَلاَمَ (ع ٤٤) أي ما تفوه به على توالي الأوقات في شأن اتضاعه حتى الموت قبل أن يملك.
    فَلَمْ يَفْهَمُوا (ع ٤٥) لعلهم ظنوا لكلامه معنى سرياً وأنه لم يرد ظاهره لأن الظاهر يخالف كل آراء الأمة اليهودية في شأن المسيح ملك اليهود.
    وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ كان علّة إخفائه آراءهم السابقة في حقيقة ملك المسيح وإباءهم تصديق ما يخالف مشتهياتهم.
    وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ علّة ذلك أنهم لم يستطيعوا سؤاله ما لم يظهروا عدم رضاهم به وقد سمعوا توبيخ المسيح لبطرس عندما أظهر مثل ما في قلوبهم.

    توبيخ المسيح تلاميذه على حب الرئاسة وتعليمه إياهم التواضع ع ٤٦ إلى ٤٨


    ٤٦ - ٤٨ «٤٦ وَدَاخَلَـهُمْ فِكْرٌ: مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟ ٤٧ فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ، ٤٨ وَقَالَ لَـهُمْ: مَنْ قَبِلَ هٰذَا ٱلْوَلَدَ بِٱسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي، لأَنَّ ٱلأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعاً هُوَ يَكُونُ عَظِيماً»
    متّى ١٨: ١ ومرقس ٩: ٣٤، متّى ١٠: ٤٠ و١٨: ٥ ومرقس ٩: ٣٧ ويوحنا ١٢: ٤٤ و١٣: ٢٠، متّى ٢٣: ١١ و١٢
    انظر الشرح متّى ١٨: ١ - ٥ ومرقس ٩: ٣٣ - ٣٧.
    حدثت المشاجرة هنا بين التلاميذ وهم سائرون في الطريق ولم يلتفت يسوع إلى ذلك إلا بعد وصولهم إلى كفرناحوم (مرقس ٩: ٣٣ و٣٤).
    عَلِمَ يَسُوعُ الظاهر أنهم كانوا بعيدين حين المشاجرة عن يسوع فسألهم في كفرناحوم عن موضوع مشاجرتهم فاستحوا أن يخبروه (مرقس ٩: ٣٣ و٣٤). فينتج أنه علم بقوته الإلهية أفكار قلوبهم أي محبتهم للذات والرئاسة والسلطان والشرف التي كانت علّة تلك المشاجرة. ولنا من كلام المسيح هنا ووضعه الولد مثلاً لتلاميذه دليل قاطع على مساواة الرسل ومساواة كل من يرسله المسيح للتبشير في المقام وإن كان أحدهم أعظم لذلك نتيجة تواضعه وإنكاره لذاته.

    غيرة يوحنا ع ٤٩ و٥٠


    ٤٩، ٥٠ «٤٩ فَقَالَ يُوحَنَّا: يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ بِٱسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُ مَعَنَا. ٥٠ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا».
    عدد ١١: ٢٨ الخ ومرقس ٩: ٣٨، متّى ١٢: ٣٠ وص ١١: ٢٣
    سبق الكلام على ذلك في الشرح مرقس ٩: ٣٨ و٣٩.
    يظهر من كلام يوحنا هنا أنه ظن مراد المسيح أن الرسل الاثني عشر مستثنون مما قال في مساواة تلاميذه وأن لهم حقوقاً خاصة وسلطاناً سامياً وذكر للمسيح فعلاً أتاه هو يستدل منه دعواه أنه أدرك أنه يكون للاثني عشر تلك الحقوق. وعلى ذلك يكون قد ذكر ما فعله مدحاً لنفسه. أو لعله شعر من إقامة الولد الصغير في وسطهم مثلاً للتواضع بشيء من التوبيخ له على منعه الإنسان الذي كان يخرج الشياطين باسم المسيح فسأل المسيح ليعلم أأخطأ أم أصاب بذلك.

    ذهاب المسيح الأخير من الجليل ع ٥١ إلى ٥٦ (سنة ٢٩ ب. م)


    ٥١ «وَحِينَ تَمَّتِ ٱلأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    مرقس ١٦: ١٩ وأعمال ١: ٣ و١١
    في هذا العدد نهاية خدمة المسيح في الجليل وذكر حوادث آخر حياته على الأرض. وكان تركه الجليل وقتئذ بداءة صعوده إلى أورشليم لكي يموت ولكنه لم يذهب إلى هنالك على خط مستقيم بل دار في بيرية (Perea) شرقي الأردن وتقضت عليه عدة أشهر هنالك (ص ١٠: ١ و١٣: ٢٢ و٣١ و١٧: ١١ و١٨: ٣١).
    امتازت بشارة لوقا عن بشارتي متّى ومرقس بأنها اشتملت على تفصيل أعمال المسيح في مدة جولاته في بيرية (Perea) وأما متّى ومرقس فاقتصروا على مجرد ذكر ذهابه إليها (متّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١ - ٣١ ويوحنا ٧: ٢ و١٤).
    وهذا العدد مقدمة عشرة أصحاحات من هذه البشارة وهي من ع ٥١ من هذا الأصحاح إلى ع ٢٨ من ص ١٩. وتشتمل على حوادث صعود المسيح الأخير إلى أورشليم.
    حِينَ تَمَّتِ ٱلأَيَّامُ أي قربت من النهاية لأنها أيام السنة الأخيرة من حياة المسيح على الأرض.
    لارْتِفَاعِهِ أشار بهذه الكلمة عن موته وقيامته وصعوده. فتكون بقية بشارة لوقا تاريخ سفر المسيح ليموت ويمجد.
    ثَبَّتَ وَجْهَهُ الخ أي عزم عزماً ثابتاً أن يذهب إلى أورشليم مع أن فيها أشد أعدائه ولم يكن الذهاب إليها إلا ذهاباً إلى الآلام والموت. ولعله ظهرت على وجهه إمارات ذلك العزم.
    ٥٢ «وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَـهُ».
    وَأَرْسَلَ... رُسُلاً كان أول حادث من حوادث سفره من الجليل مروره بالسامرة وغاية إرساله الرسل إعداد الحاجات الجسدية من مأوى وطعام للمسيح وأصحابه. ولعله قصد أيضاً أن ينبئ الرسل بمجيئه إليهم مسيحاً لأنه لم يخفِ دعواه هنالك كما فعل في اليهودية (يوحنا ٤: ٢٦).
    لِلسَّامِرِيِّينَ سبق الكلام على السامريين في الشرح متّى ١٠: ٥ و٦ وذُكرت أسباب الخلاف بينهم وبين اليهود في سفر الملوك الثاني (ص ١٧) وعزرا (ص ٤).
    ٥٣ «فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ».
    يوحنا ٤: ٤ و٩
    فَلَمْ يَقْبَلُوهُ أي لم يسمحوا له بمأوى وطعام. والأرجح أنها أبانوا عدم قبولهم إياه بواسطة الرسل.
    لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً الخ كانت عداوة السامريين لليهود دائمة لكنها كانت تشتد كلما مرّ اليهود في السامرة وهم صاعدون إلى أورشليم ليحضروا الأعياد هنالك ويكرموا الهيكل والعبادة فيه مع أن السامريين اعتبروا جبل جرزيم فوق مدينة السامرة موضع العبادة الحقيقية. فإذاً لم يرفض السامريون المسيح كراهة لشخصه أو تعليمه بل لكونه أحد الأمة التي كانوا يكرهونها. وقد صعد للعيد في أورشليم لأنه كان حينئذ وقت عيد المظال (يوحنا ٧: ١٤).
    وزار المسيح السامرة قبل ذلك بسنتين ورحب السامريون به لكنه لم يكن يومئذ متوجهاً إلى أورشليم كما هنا ولم يكن معه حيئنذ سوى قليلين من تلاميذه (يوحنا ٤: ٤٠) لكن هنا كان معه جماعة كثيرة متوجهة إلى الهيكل.
    ولعلّ السامريين سمعوا دعوى يسوع أنه المسيح ولو حكم بأن جرزيم موضع العبادة الحقيقي لرحبوا به لكن لما رأوه حكم (بتوجهه إلى أورشليم للعبادة) عليهم ولليهود رفضوا أنه المسيح وأبوا قبوله ضيفاً.
    وكان من غريب التنازل أن يرضى ملك السماء أن يكون ضيفاً في أفخر قصور الملوك فكم يكون تنازله واتضاعه برضاه أن يكون ضيفاً في بيت قرية سامرية حقيرة رفض أهلها أن يبيت ضيفاً عندهم ليلة واحدة.
    ٥٤ «فَلَمَّا رَأَى ذٰلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالاَ: يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟».
    ٢ملوك ١: ١٠ و١٢
    رَأَى ذٰلِكَ تِلْمِيذَاهُ أي علما ممن أرسلهم المسيح أو مما شاهداه من إمارات العداوة التي أظهرها أهل القرية حين قربا منها.
    أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ الخ رأيا أن معلمهما أُهين بتلك المعاملة فحملتهما محبتهما له إرادة قصاص أهل تلك القرية فاعتبروا أن عقاب إيليا لرسل الملك أخزيا كان عدلاً (٢ملوك ١: ١٢ - ١٤) فأرادا أن يقتديا به في الانتقام.
    ٥٥ «فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا!».
    فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا لم يسر المسيح بغيظ التلميذين وإن كانت علته جيدة وهي محبتهما له فإنه وإن لم يستحسن عبادة السامريين ولا رفضهم إياه لم يرض إضرار أجسادهم ولا الانتقام منهم. وقد أوضح بذلك الانتهار تحريم الاضطهاد الديني أبداً.
    لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا ظن التلميذان ما أتياه هو من محبتهما للمسيح وغيرتهما لمجده لكن المسيح حكم أنه من باب القسوة والانتقام طلبهما خراب قرية لقلة أدب أهلها في شأن الضيافة. فنسيا أنه يجب على التلميذ أن يكون كمعلمه ويظهر ما أظهره من اللطف والحلم والعفو والمحبة ونسيا قوله «لا تقاوموا الشر الخ» (متّى ٥: ٣٩ - ٤٤).
    ونتعلّم من قول المسيح هنا أن الميل إلى القسوة والانتقام مضاد لروح الدين المسيحي وأنه يمكن أن يشغل الإنسان وقتاً طويلاً في مدرسة المسيح ولا يتعلّم أن يعرف نفسه. فيظن رذائله فضائل فإذا غلط تلميذان من تلاميذ المسيح الاثني عشر هكذا فكم يكون سائر الناس عرضة لمثل ذلك الغلط. وأنه يجب على من يخدمون المسيح وإنجيله بين أعداء الحق أن يمتحنوا أنفسهم لئلا يدخل قلوبهم من جهة خصومهم ما لا يرضي المسيح ويحسبوا أن اجتهادهم في الظفر بمقاومتهم غيرة للرب كما فعل ياهو (٢ملوك ١٠: ١٦).
    ومما يستحق الاعتبار هنا أن أحد ذينك التلميذين وهو يوحنا رجع إلى السامرة بعد مدة وأظهر روحاً خلاف ذلك الروح إذ قصد أن يمنح السامريين البركات الروحية (أعمال ٨: ٢٥).
    ٥٦ «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ ٱلنَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ. فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى».
    يوحنا ٣: ١٧ و١٢: ٤٧
    لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ... بَلْ لِيُخَلِّصَ هذا وفق ما قيل في بشارة متّى (متّى ١٨: ١١) وبشارة يوحنا (يوحنا ٣: ٧ و٥: ٤٥). فلو أجاب المسيح ابني زبدي على طلبهما لناقض ما قاله في غاية مجيئه إلى العالم. فلا يجوز لتلاميذ المسيح أن يرغبوا في هلاك الذين أتى المسيح ليخلّصهم. فوظيفة المسيح غير وظيفة إيليا فإن الله أرسل إيليا ليجري قضاءه على عشرة أسباط إسرائيل عقاباً لهم على تركهم عبادته تعالى والتمسك بعبادة بعل. ولأن المسيح أتى للخلاص لا للانتقام وجب أن يظهر كل تلاميذه ما أظهره هو من الصبر والاحتمال والوداعة والمغفرة والشفقة والرغبة في خلاص الناس.
    فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى هذا وفق أمره لتلاميذه في مثل هذا الحال (متّى ١٠: ١٤ و٢٣). ولم يذكر لوقا أللسامريين كانت تلك القرية الأخرى أم لليهود. والأرجح أنها يهودية لأن علّة رفضهم من إحدى قرى السامرة تكون علّة رفضهم من سائر قراها. ولا نستطيع أن نتحقق إلى أين سافر المسيح وقتئذ فظن البعض أنه عدل عن المرور بالسامرة وعبر الأردن إلى بيرية. وذهب أكثر المفسرين أنه ذهب رأساً إلى أورشليم وحضر عيد المظال (يوحنا ٧: ١٠) وكان ذلك العيد في تشرين الأول وأنه رجع حالاً من هنالك إلى الجليل لا للتعليم بل ليسير إلى بيرية. وذهب آخرون أنه بقي في أورشليم ثلاثة أشهر وذلك من عيد المظال إلى عيد التجديد (يوحنا ١٠: ٢٢ و٤٠) وأنه ذهب بعد ذلك إلى بيرية أي عبر الأردن.

    طلب ثلاثة أن يتبعوا المسيح وجوابه لكل منهم ع ٥٧ إلى ٦٢


    ٥٧، ٥٨ «وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ قَالَ لَـهُ وَاحِدٌ: يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي. ٥٨ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَـهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ».
    متّى ٨: ١٩
    لم يتحقق أفي أزمنتها ذُكرت الحوادث من هذا العدد إلى العدد ٦٢ أم في غير أزمنتها والأرجح أنها في غيرها لأن لوقا لم يلتفت إلى أزمنة الحوادث كما التفت إليها متّى.
    قَالَ لَـهُ وَاحِدٌ الخ هو كاتب (انظر الشرح متّى ٨: ١٨ - ٢٠).
    قَالَ لَـهُ يَسُوعُ الخ أمره يسوع في هذا الجواب أن ينظر في الأسباب التي حملته على طلبه اتباعه فأبان له أنه إذا كانت غايته دنيوية لم يحصل عليها بذلك الاتباع.
    ٥٩ - ٦٠ «٥٩ وَقَالَ لآخَرَ: ٱتْبَعْنِي. فَقَالَ: يَا سَيِّدُ، ٱئْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي. ٦٠ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: دَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَٱذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰه».
    متّى ٨: ٢١
    لآخَرَ هو أحد التلاميذ أي المعترفين بأن يسوع نبي (انظر الشرح متّى ٨: ٢١ و٢٢). ويظهر من قول متّى أنه سأل المسيح من تلقاء نفسه. ولوقا هنا يقول أن المسيح دعاه ولكن هذا لا يمنع أنه سأل المسيح فأجابه بقوله اتبعني وأمره في هذا الجواب أن يختار أفضل الأمرين وهما الدعوة الطبيعية والدعوة الإلهية.
    وَنَادِ لم يذكر هذا الأمر غير لوقا.
    ٦١، ٦٢ «٦١ وَقَالَ آخَرُ أَيْضاً: أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلٰكِنِ ٱئْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِي. ٦٢ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
    ١ملوك ١٩: ٢٠
    وَقَالَ آخَرُ لم يذكر نبأ هذا الآخر أحد من البشيرين غير لوقا.
    ٱئْذَنْ لِي أَوَّلاً الخ هذا الرجل قدّم نفسه تلميذاً ليسوع كالأول لكنه توقف كالثاني بين ما يجب عليه للمسيح وما يجب عليه لأهل بيته. والظاهر ان ما طلبه من المسيح وفق الطبع البشري وغير مخالف لشيء من الواجبات الدينية ولكن نستنتج من جواب المسيح إما أنه رأى ذلك ولم يعزم العزم على اتباعه فامتحنه كما امتحن الشاب الغني بأمره إياه بأن يبيع كل ما له ويوزعه على الفقراء (متّى ١٩: ٢١) وإما أنه علم أن أصحابه يبذلون ما في وسعهم في تغيير مقاصده ويدركون مرادهم فمنعه من الذهاب إلى بيته. وضرب له مثل الفلاح الذي لم ينجح لجريه على غير سنن الواجبات فإنه من واجبات الفلاح أن ينظر وهو يحرث إلى تلمه ليكون مستقيماً عميقاً كما يلزم ولكن ذلك الفلاح التفت إلى ما يشغل باله من الوراء فلم يحسن عمله لأن يديه كانتا في العمل وأفكاره في موضع آخر ومثل هذا لا يحسن أن يحرث حقلاً.
    يَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ هذا كناية عن عدم الانتباه للعمل وتفضيل شيء آخر عليه.
    وغاية المسيح من هذا المثل حمل الإنسان الذي طلب أن يتبعه على أن يمتحن نفسه وينظر في قصده من ذلك وأن يحثه أن يعزم كل العزم على ترك كل شيء لأجل ملكوت الله. فكأنه قال له لا يقدر أحد أن يخدم سيدين (متّى ٦: ٢٤).
    لَيْس...َ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي لا يصلح أن يكون شريكاً للمسيح ورسله والشهداء في بناء الملكوت الجديد الذي ابتدأ يسوع يؤسسه. فالذي يهتم بهموم هذه الدنيا أو يخاف من الاضطهاد أو خسران المال لا يستطيع أن يتبع المسيح كما يجب لأن المسيح لا يقبل من قلبه منقسم بين الله والعالم تلميذاً. فالنظر إلى الوراء في الروحيات ليس سوى استعداد للرجوع أي العود إلى العالميات. ومثل من لا يصلح للملكوت السماوي امرأة لوط (تكوين ١٩: ٢٦). ومثل من يصلح لذلك إبراهيم الذي ترك وطنه وبيت أبيه طوعاً لأمر الله (تكوين ١٢: ٤ قابل بذلك ٢بطرس ٢: ٢١ و٢٢).
    وفي هذه الحوادث الثلاث من ع ٥٧ - ٦٢ ثلاثة موانع من اتباع المسيح. الأول حب الربح الدنيوي. والثاني الحزن. والثالث المحبة العائلية. لكن الثاني والثالث لم يكونا مانعين إلا لأنهما وُضعا في المقام الأول ووضع اتباع المسيح في المقام الثاني. وتبين لنا أن الشخص الأول من الطلبة الثالثة كان عجولاً يفعل حالاً غير ناظر إلى العاقبة وأن الثاني كان متباطئاً أي متوانياً عن الأخذ في ما عزم عليه وأن الثالث كان متردداً أي لم يعتمد أحد الأمرين فكان مضمون ما قاله المسيح للأول أن أحسب ما يكلفك اتباعي ثم اعتمد. ومضمون قوله للثاني أن لا عذر للمتواني. ومضمون قوله للثالث أن اختر ما شئت في الحال واعزم عليه كل العزم.


    الأصحاح العاشر


    إرسال يسوع السبعين للتبشير ع ١ إلى ١٦


    ١ «وَبَعْدَ ذٰلِكَ عَيَّنَ ٱلرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضاً، وَأَرْسَلَـهُمُ ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعاً أَنْ يَأْتِيَ».
    متّى ١٠: ١ ومرقس ٦: ٧
    بَعْدَ ذٰلِكَ أي بعد الحوادث المذكورة في الأصحاح السابق.
    لم يذكر أحد من البشيرين إرسال السبعين إلا لوقا ولا نعلم علّة أن متّى ومرقس لم يذكراه إلا أن يكون ذلك الإرسال كان في أثناء خدمة المسيح الأخيرة في بيرية فإن إنباؤهما بحوادث تلك المدة كانت على غاية الاختصار.
    سَبْعِينَ هذا وفق عدد الشيوخ الذين اختارهم موسى لسياسة بني إسرائيل (خروج ٢٤: ١ وعدد ١١: ١٦ و١٧) وكثر المسيح عدد المرسلين لأن بلاد بيرية التي أرسلهم إليها واسعة ولأن الوقت الباقي للتبشير كان قصيراً.
    آخَرِينَ أي غير الاثني عشر الذين ذُكروا في العدد الأول من الأصحاح التاسع. وكانت وظيفة السبعين تختلف عن وظيفة الاثني عشر في أن وظيفة السبعين كانت وقتيه ووظيفة الاثني عشر كانت دائمة. وأن الاثني عشر أرسلوا خاصة إلى خراف إسرائيل الضالة لجعل الاثني عشر سبطاً ملكوتاً جديداً (متّى ١٠: ٥ و٦). لكن إرسال السبعين كان عاماً لليهود والوثنيين الساكنين معاً. وفي ذلك إشارة إلى أن بركات الإنجيل عامة معدة لكل من يقبلها من أمم الأرض. وبما أن إنجيل لوقا كُتب لفائدة الأمم وافق مقصده ذكر إرسال أولئك السبعين. ومن تقاليد اليهود أن أصل عدد أمم الأرض سبعون بناء على ما جاء في سفر التكوين (تكوين ص ١٠) ولا نعلم هل التفت المسيح إلى ذلك أو لا والظن الراجح أنه لم يلتفت إليه.
    أَمَامَ وَجْهِهِ لما أراد المسيح أن يجول في الجليل أرسل الاثني عشر أمام وجهه (متّى ١٠: ١) ولما قصد أن يجول في بيرية أرسل التلاميذ قدامه ليمهدوا الطريق لقبوله.
    وسميت البلاد شرقي الأردن بيرية «περεα» من «περα» وهي كلمة يونانية معناها عبر أي عبر الأردن وعبر بحر طبرية وتشتمل تلك الأرض على بلاد باشان وجلعاد وهي التي كانت لسبطين ونصف سبط من بني إسرائيل وهم رأوبين وجاد ونصف سبط منسى. وكانت تلك البلاد في عصر المسيح كثيرة السكان وكان بعضهم يهوداً وبعضهم من الأمم. وكتب لوقا عشرة أصحاحات في جولان المسيح في تلك البلاد ولكن متّى لم يكتب في ذلك سوى الأصحاح التاسع عشر وستة عشر عدداً من الأصحاح العشرين ولم يكتب مرقس في ذلك سوى جزء من الأصحاح العاشر وهو من ع ١ - ٣١.
    إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ لم ينههم المسيح كما نهى الاثني عشر بقوله «إلى طريق أمم لا تمضوا» لأن اليهود والأمم كانوا ساكنين معاً في بيرية.
    ٢ «فَقَالَ لَـهُمْ: إِنَّ ٱلْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ».
    متّى ٩: ٣٧ و٣٨ ويوحنا ٤: ٣٥ و٢تسالونيكي ٣: ١
    أكثر الأوامر التي أمر بها المسيح السبعين كالأوامر التي أمر بها الاثني عشر وقد مرّ الكلام على ذلك في الشرح (متّى ١٠: ٧ - ١٥).
    ٱلْحَصَادَ كَثِيرٌ ذكر المسيح مثل هذا قبل أن أرسل الاثني عشر وسبق تفسيره في الشرح (متّى ٩: ٣٧ و٣٨).
    فَٱطْلُبُوا الخ في ما قاله المسيح للرسل السبعين ثمانية أمور ذات شأن الأول وجوب الصلاة وقد أمر المسيح التلاميذ بالصلاة قبل كل الأوامر إشارة إلى أنها خير الوسائط لانتشار إنجيله.
    ٣ «اِذْهَبُوا. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ».
    متّى ١٠: ١٦
    بيّن المسيح هنا للسبعين الأخطار المتعلقة بالمناداة بالإنجيل وكذا كان في كل عصور الكنيسة المسيحية (١يوحنا ٣: ١٣ و١بطرس ٣: ٨). ولنا من هذا الأمر الثاني الذي قصد المسيح أن ينتبه التلاميذ له هو أن يتوقعوا الاضطهاد والضيقات في تبشيرهم.
    ٤ «لاَ تَحْمِلُوا كِيساً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ أَحْذِيَةً، وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي ٱلطَّرِيقِ».
    متّى ١٠: ٩ و١٠ ومرقس ٦: ٨ وص ٩: ٣، ٢ملوك ٤: ٢٩
    (انظر الشرح متّى ١٠: ٩ و١٠) في هذا العدد الأمر الثالث وهو وجوب أن يعتزلوا كل ما يعيقهم عن التبشير من الرفاهية والأُلفة.
    وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي ٱلطَّرِيقِ لم يجئ هذا النهي في سوى بشارة لوقا. وكانت التحيات اليهودية كثيرة ظاهرة قليلة المعنى تشغل وقتاً طويلاً فمنع يسوع أولئك عن مثل ذلك تنبيهاً على أن وقتهم قصير وعملهم مهم يحتاج إلى السرعة وانتهاز كل فرصة لنشر بشارتهم وأن لا وقت لهم يشغلونه بالاحتفالات العادية وهذا كتوصية أليشع النبي خادمه جيحزي (٢ملوك ٤: ٢٩). وليس في ذلك من منافاة لقول الرسول «كونوا لطفاء» (١بطرس ٣: ٨).
    ٥ - ٨ «٥ وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ. ٦ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ٱبْنُ ٱلسَّلاَمِ يَحِلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. ٧ وَأَقِيمُوا فِي ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لأَنَّ ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. ٨ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ».
    متّى ١٠: ١٢، متّى ١٠: ١٠ و١١ و١كورنثوس ٩: ٤ الخ و١٠: ٢٧ و١تيموثاوس ٥: ١٨ ص ٩: ٢، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧ و١٠: ٧ وع ١١
    انظر الشرح (متّى ١٠: ١١ - ١٣). هنا الأمر الرابع وهو وجوب القناعة.
    سَلاَمٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ (ع ٥) هذا تحية عادية ١(صموئيل ٢٥: ٦ ومزمور ١٢٢: ٧ و٨).
    ٱبْنُ ٱلسَّلاَمِ اي المستحق أن يبشر بالسلام.
    ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ (ع ٧) هذه العبارة هي القول الوحيد الذي اقتبس في الرسائل من أقوال المسيح في البشائر.
    لاَ تَنْتَقِلُوا (ع ٧) بغية الطعام الطيب والإكرام الزائد فإن الولائم الكثيرة تشغل الأوقات الثمينة.
    فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ (ع ٨) أي اكتفوا به.
    ٩ «وَٱشْفُوا ٱلْمَرْضَى ٱلَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَـهُمْ: قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ»
    ص ٩: ٢، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧ و١٠: ٧ وع ١١
    ٱشْفُوا ٱلْمَرْضَى هنا الأمر الخامس وهو وجوب إقامة براهين مرسليتهم بالعجائب النافعة.
    وَقُولُوا لَـهُمْ الخ هنا الأمر السادس وهو موضوع تبشيرهم وذلك أنه قد تمت المواعيد بمجيء المسيح.
    ١٠ - ١٢ «١٠ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَٱخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: ١١ حَتَّى ٱلْغُبَارُ ٱلَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا هٰذَا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. ١٢ وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَة».
    متّى ١٠: ١٤ وص ٩: ٥ وأعمال ١٣: ٥١ و١٨: ٦، متّى ١٠: ١٥ ومرقس ٦: ١١
    مرّ الكلام على ذلك في شرح متّى ١٠: ١٤ و١٥ وفيه الأمر السابع وهو الإنباء بإثم الذين يرفضون شهادتهم.
    وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا الخ اقترب ملكوت الله من الناس بواسطة المرسلين قبلوا شهادتهم أم رفضوها فالدينونة يوم الدين تبنى على رفضهم تلك البشارة بعد تقديمها لهم فإعلان الله إن قُبل كان بشارة وإلا فهو إنذار وعلّة دينونة.
    ١٣ - ١٥ «١٣ وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ ٱلْقُوَّاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيماً جَالِسَتَيْنِ فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَادِ. ١٤ وَلٰكِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ يَكُونُ لَـهُمَا فِي ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لَكُمَا. ١٥ وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومُ ٱلْمُرْتَفِعَةُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، سَتُهْبَطِينَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ».
    متّى ١١: ٢١، حزقيال ٣: ٦، متّى ١١: ٢٣، تكوين ١١: ٤ وتثنية ١: ٢٨ وإشعياء ١٤: ١٣ وإرميا ٥١: ٥٣، حزقيال ٢٦: ٢٠ و٣٢: ١٨
    انظر الشرح متّى ١١: ٢١ - ٢٣). ذكر المسيح نبأ هاتين المدينتين صور وصيدا عبرة للأشرار. وكانت كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم مشابهات لهما في الشر لأنها قاومت الإنجيل. نعم إن شر هذه الثلاث أعظم من شر صور وصيدا فتكون عاقبتها أردأ. والأرجح أن المسيح قال هذا الكلام مرتين الأولى في الجليل وهو يبشر فيها ويصنع المعجزات. والثانية عند تركه للجليل أخيراً.
    ١٦ «اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي، وَٱلَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي، وَٱلَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي».
    متّى ١٠: ٤٠ ومرقس ٩: ٣٩ ويوحنا ١٣: ٢٠، ١تسالونيكي ٤: ٨، يوحنا ٥: ٢٣
    راجع الشرح متّى ١٠: ١٤. في هذا العدد الأمر الثامن وهو الأخير في خطاب المسيح للسبعين وهو الشرف الذي يكون لهم من الله باعتبار أنهم سفراء المسيح لأنهم يكونون شركاء المسيح في الكرامة مقابلة لإهانة الناس لهم كما ذُكر في ع ٣.

    رجوع السبعين ع ١٧ إلى ٢١


    ١٧ «فَرَجَعَ ٱلسَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، حَتَّى ٱلشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِٱسْمِكَ».
    ع ١
    فَرَجَعَ ٱلسَّبْعُونَ الأرجح أنه لم يكن سوى زمن قصير بين ذهاب السبعين للتبشير ورجوعهم فإن كثرتهم سهلت لهم أن يزوروا أماكن كثيرة في وقت واحد لأنهم ذهبوا اثنين اثنين فأمكنهم أن يبشروا في ٣٥ مكاناً في حين واحد. ولعلّ المسيح توقع رجوعهم وهو في بيرية في المكان الذي أرسلهم منه. ولا يلزم من النبإ أن السبعين رجعوا معاً بل يحتمل أنهم رجعوا على التوالي حسب المسافة التي انتهوا إليها.
    بِفَرَحٍ هذا الفرح هو الكلمة ذات الشأن في هذه الآية فإن كل فرقة منهم عادت مسرورة تعجب من نجاح مرسليتها.
    حَتَّى ٱلشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا كان ذلك الخضوع أنهم كانوا يخرجون من الناس بأمر التلاميذ. وحسب السبعون ذلك من أعظم المعجزات. ولم يذكروا هل قبل الناس تبشيرهم أولاً ويحتمل أنهم ذكروا شيئاً من ذلك لم ير لوقا ذكره ضرورياً لمقصده. وكان نجاحهم دليلاً على قوة إيمانهم لأن بعض الاثني عشر عجز عن مثل ذلك لضعف إيمانه (متّى ١٧: ٢١). وكان المسيح قد أوصاهم عند إرساله إياهم أن يشفوا المرضى (ع ٩) وهذا يتضمن الوعد بقوة على ذلك ولما استعملوا تلك القوة واختبروا نتائجها قوي إيمانهم حتى أنهم تجرأوا على عمل ما هو أعظم من شفاء المرضى وقدروا لأن المسيح وهب لهم سلطاناً على قدر الإيمان. ولا موجب للظن أنهم فرحوا بمجد أنفسهم لحصولهم على ذلك السلطان وأن المسيح اعتبرهم نواباً عنه. فالأولى أن تحكم أنهم فرحوا به لنفعهم الناس بتحريرهم من رق الشيطان الهائل ولتمجيدهم المسيح لأنهم فعلوا المعجزات باسمه فتبين أن سيدهم ابن الله المسيح الحق.
    بِٱسْمِكَ اعطوا كل المجد للمسيح باعتبار أنه مصدر كل سلطانهم.
    ١٨ «فَقَالَ لَـهُمْ: رَأَيْتُ ٱلشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ ٱلْبَرْقِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
    إشعياء ١٤: ٩ إلى ١٥ ويوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١ ورؤيا ٩: ١ و١٢: ٧ إلى ١٢
    رَأَيْتُ رأى المسيح لكونه هو الله تأثير تبشير السبعين ونتيجة أعمالهم في عالم الأرواح التي لم يروها هم. وهو رأى تلك النتيجة قبل أن أتوا وأخبروه بأعمالهم. وهم شاهدوا أعمال متفرقة وهو نظر نتيجة واحدة عظيمة من تلك الأعمال.
    ٱلشَّيْطَانَ هو رئيس الشياطين الذين أخرج السبعون بعضهم من الناس.
    سَاقِطاً... مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي هابطاً من مقام الكرامة والسلطان إلى هاوية الهوان والهلاك. لأن الشيطان كان بواسطة انتصاره على البشر وقوده إياهم إلى حب العالم والإثم كأنه ارتفع إلى عرش عالٍ من السلطان. وذلك وفق قول الرسول على الشيطان وجنوده «أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس ٦: ١٢). فكأن المسيح قال للسبعين أنتم مصيبون بأنكم فرحتم بإخضاع الشياطين لأن نتائج ذلك الإخضاع أعظم مما ظننتم وموضوع الفرح كذلك لأنكم ظننتم أن أفراد الأبالسة خضعوا وأن أفراد النفوس البشرية عتقت من عبوديتهم والحق أنه قد هُدم جزء من ملكوت الظلمة وابتدأت شوكة رئيس تلك المملكة تنكسر. فانتصاركم دائم لا وقتي وهو بداءة سقوط مملكة الشيطان كلها. فالمسيح أتى لكي ينقض أعمال الشيطان (١يوحنا ٣: ٨) ورأى عمل السبعين جزءاً من ذلك النقض وعربون إتمامها فجمع نتيجة أعمالهم إلى كل نتائج أعماله في هذا العالم واحتماله تجربة إبليس في البرية وتبشيره ومعجزاته وموته وقيامته وإرساله الروح القدس ومقاومته للشيطان بواسطة كنيسته وغاية ذلك كله هدم ملكوت الشيطان وبنيان ملكوته.
    و «سقوط الشيطان من السماء» كناية عن هدم كل مملكة الشر (إشعياء ١٤: ١٢ ورؤيا ٩: ١ انظر أيضاً يوحنا ١٢: ٣١ ورؤيا ١٢: ٧ - ٩ و٢٠: ٢ و٣ و٧ - ١٠).
    مِثْلَ ٱلْبَرْقِ في السرعة.
    ١٩ «هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ ٱلْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ».
    تكوين ٣: ١٥ ومزمور ٩١: ١٣ ومرقس ١٦: ١٨ وأعمال ٢٨: ٥
    أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً وعد المسيح السبعين بدوام السلطان الذي منحهم إياه وتوسيع نطاقه لكي يعزيهم في أتعابهم المستقبلة ومقاساتهم المقاومة والاضطهاد.
    لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ لعلّ المسيح قصد أن يفهموا هذا الكلام حقيقة كقوله في بشارة مرقس «يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ» (مرقس ١٦: ١٨) وتم ذلك فعلاً (أعمال ٢٨: ٣). والأرجح أنه أشار بالحيات والعقارب إلى أعدائهم الروحية وقوات الشر الضارة المكروهة. فوعدهم أنه يحميهم منها ومن الأضرار الجسدية التي يستطيعها الشياطين. ومثل هذا قوله تعالى «هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ» (تكوين ٣: ١٥). وقول المرنم «عَلَى ٱلأَسَدِ وَٱلصِّلِّ تَطَأُ» (مزمور ٩١: ١٣) وعلى ذلك يكون دوس الحيات والعقارب كسقوط الشيطان من السماء مثل البرق.
    وَكُلَّ قُوَّةِ ٱلْعَدُوِّ العدو هنا الشيطان وهو رئيس كل المقاومين ولذلك ذُكر مفرداً وهو تفسير للحيات والعقارب فهي مجاز وهو حقيقة. ومن فعل قوة العدو الإضرار الجسدي والنوازل الطبيعية كالزلازل والأنواء وما شاكلها وتهييج الأشرار وتجارب إبليس الهائلة.
    لاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ تم هذا الوعد مراراً بأن أنقذ المسيح عبيده من أيدي أعدائهم ووقاهم الأضرار الطبيعية. فإن سمح ربنا بنزول شيء من المصائب الجسدية لا يسمح بشيء من الأذى الروحي فما يكون ضرراً لأجساد تلاميذه يكون ربحاً لنفوسهم.
    ٢٠ «وَلٰكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهٰذَا أَنَّ ٱلأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
    خروج ٣٢: ٣٢ ومزمور ٦٩: ٢٨ وإشعياء ٤: ٣ ودانيال ١٢: ١ ورومية ٨: ١٦ وفيلبي ٤: ٣ وعبرانيين ١٢: ٢٣ ورؤيا ١٣: ٨ و٢٠: ١٢ و٢١: ٢٧
    لاَ تَفْرَحُوا بِهٰذَا أَنَّ ٱلأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لا تتخذوا قوتكم على صنع أعظم المعجزات معظم فرحكم أو علته الوحيدة لأن كثيرين من فعلة الإثم صنعوا مثل تلك المعجزات (متّى ٧: ٢٢). وكان ليهوذا الاسخريوطي مثل تلك القوة. ولا بد من أن يكون من حصل على مثل تلك القوة عرضة للافتخار والكبرياء.
    بَلِ ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ ذكر لهم يسوع علّة فرح حقيقي لائق بهم لا خطر لصاحبه من أن يتعرض للكبرياء.
    أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هذا مجاز وهو أن أسماء عبيد الله سُطرت في سفر ومعنى ذلك أنه تعالى يعترف بأنهم أولاده وورثته لأنهم من أهل المدينة السماوية وكثيراً ما جاء مثل هذا المجاز في الكتاب المقدس ومنه ما جاء في سفر الخروج ٣٢: ٣٢ و٣٣ ودانيال ٢١: ١ وملاخي ٣: ١٦ وفيلبي ٤: ٣ وعبرانيين ١٢: ٢٣ ورؤيا ٣: ٥ و١٣: ٨ و٢٠: ١٢ و٢١: ٢٧. فتكون علّة فرح التلاميذ أنهم نالوا الرحمة والمغفرة بواسطة المسيح وأن خلاصهم الأبدي لا ريب فيه. ونتيجة ذاك أن هبة النعمة أفضل من هبة القوة وأن المواهب السماوية أفضل من المواهب الأرضية مهما عظمت. وأي علّة فرح لمن ينقذ أجساد الناس من سلطة الشيطان الوقتية وتبقى نفسه في قيود الشيطان ويكون شريكاً له في العذاب الأبدي.
    وعلّة الفرح المشار إليه هنا ليست القداسة الشخصية ولا حسن المعرفة ولا الأعمال الصالحة بل وعد المسيح بالحياة الأبدية لكل من يؤمن به وشهادة الإنسان لنفسه بالإيمان.

    فرح يسوع ٢١ إلى ٢٤


    ٢١ «وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِٱلرُّوحِ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ، رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ».
    متّى ١١: ٢٥
    تَهَلَّلَ يَسُوعُ أي فرح فرحاً عظيماً أظهر بالكلام ولا ريب في أنه ظهر من الإمارات على وجهه وهو عربون الفرح الذي وعد الله المسيح به في قوله «مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ» (إشعياء ٥٣: ١١). وليس في الإنجيل غير هذا الموضع ذكر فيه أن المسيح تهلل.
    أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ ذُكر مثل هذه الآية في بشارة متّى ١١: ٢٥ و٢٦. وكانت الأحوال هناك مختلفة عن الأحوال هنا ولا عجب من أن المسيح ذكره مرتين.
    لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ... وَأَعْلَنْتَهَا ذكر المسيح هنا عملين من أعمال الآب وهما الإخفاء والإعلان واتخذ كلاً منهما موضوعاً للشكر. فالأول إجراء العدل في حجب نور الحق عن الذين أغمضوا عيونهم ورفضوا الحق وأبغضوه واحتقروه. والثاني إجراء الرحمة في إيضاح الحق لبسطاء القلوب الذين يحبونه وقد فتحوا قلوبهم لقبول التعليم الإلهي. والإشارة بقوله «هذه» في هذه الجملة إلى ما آمن به السبعون وبشروا به مع إتيان المسيح والخلاص به. والمراد بالحكماء والفهماء هنا أرباب الحكمة والفهم حقاً في الدنيويات وأرباب ذلك على وهمهم في الروحيات وهم ممن اشتهروا بالحكمة والفهم عند أكثر العالم ولكنهم ليسوا كذلك في عيني الله. وأمثال هؤلاء الفريسيون. وقول المسيح هنا وفق قول الرسول (١كورنثوس ١: ٢٧ - ٣١).
    لِلأَطْفَالِ أي للسبعين وأمثالهم الذين حسبهم العالميون أطفالاً في الحكمة والفهم وهم ليسوا أقوياء في أنفسهم بل متواضعين قابلين للتعليم مستعدين للطاعة وقد اختارهم الله آلات لأعظم أعماله. وشهد المسيح لتلاميذه لما أظهروه من الإيمان والغيرة والإدراك الروحي.
    نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ أظهر المسيح مسرته بمقاصد الله وأعماله واعتبر أنها عادلة مقدسة صالحة وإن كانت مخالفة للحكمة البشرية باختيار البسطاء لنشر تعاليم دين جديد.
    ٢٢ «وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ ٱلابْنُ إِلاَّ ٱلآبُ، وَلاَ مَنْ هُوَ ٱلآبُ إِلاَّ ٱلابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَـهُ».
    متّى ٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ و٥: ٢٧ و١٧: ٢، يوحنا ١: ١٨ و٦: ٤٤ و٤٦
    جاء مثل هذا الكلام في بشارة متّى ١١: ٢٧ فراجع الشرح هناك.
    كُلُّ شَيْءٍ أي كل ما في السماء وعلى الأرض من ضروريات عمل الفداء.
    وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الخ صرّح المسيح هنا بأمرين:
    (١) أن الله وحده يعلم سر تجسد المسيح تمام العلم وأن لا أحد يستطيع أن يدرك حقيقة المسيح أي أنه ابن الله وابن الإنسان ما لم يعلّمه الآب.
    (٢) أن لا أحد يعرف الآب تمام المعرفة إلا بواسطة الابن الذي أتى إلى العالم ليخبر بذلك (يوحنا ١: ١٨).
    فالتلاميذ السبعون الذين عرفوا أن يسوع هو المسيح ابن الله هم من «الأطفال» الذين أعلن لهم الآب الحق المخفي عن الفريسيين المتكبرين الحكماء والفهماء في عيون أنفسهم.
    ٢٣، ٢٤ «٢٣ وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى ٱنْفِرَادٍ وَقَالَ: طُوبَى لِلْعُيُونِ ٱلَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ، ٢٤ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا».
    متّى ١٣: ١٦، تكوين ٤٩: ١٨ و٢صموئيل ٢٣: ١ إلى ٥ و١بطرس ١: ١٠
    هذا مثل ما ذكر في بشارة متّى ١٣: ١٦ و١٧ والاختلاف في الحال والزمن. وتكرار هذا الوعد حسن.
    ٍإِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى ٱنْفِرَاد كلام المسيح هنا موجه للمؤمنين به دون غيرهم ولعلهم كانوا يشتملون على الاثني عشر والسبعين وغيرهم.
    طُوبَى لِلْعُيُونِ الخ هذا التطويب ليس لمن نظروا المسيح بالعيون الجسدية لأن الفريسيين غير المؤمنين نظروه كذلك بل لمن نظروه بعيون الإيمان ورأوه المسيح ابن الله مخلص العالم.
    مُلُوكاً عبّر عنهم متّى بالأبرار وهم أبرار الملوك كداود وسليمان وحزقيا. وزاد حظ تلاميذ المسيح كثيراً على حظ إبراهيم وموسى وداود وسليمان وإشيعاء ودانيال من معرفة صفات الله ومقاصد رحمته بواسطة ابنه يسوع المسيح. ويتضمن ما مرّ من التطويب على تلك المعرفة السماوية النصح أن يعتبروها ويتمسكوا بها ويجتهدوا أن يتقدّموا فيها.

    سؤال الناموسي وجواب المسيح له وقصة السامري الحنون ع ٢٥ إلى ٣٧


    ٢٥ «وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟».
    متّى ١٩: ١٦ و٢٢: ٣٥ ومرقس ١٢: ٢٨ الخ
    نَامُوسِيٌّ هو إنسان عالم في شريعة موسى. والناموسيين فرقة من الكتبة. والحادثة هنا لم يذكرها أحد من الإنجيليين سوى لوقا. فيجب أن نميز بينها وبين حادثة الرئيس الغني المذكورة في هذه البشارة (ص ١٨: ١٨ - ٣٠ وبشارة متّى ١٩: ١٦ - ٢٤ وبشارة مرقس ١٠: ١٧ - ٣١). فالسؤال فيهما واحد وأول الجواب كذلك ويجب أن نميز أيضاً بينها وبين الحادثة التي ذُكرت في بشارة متّى ٢٢: ٣٥ - ٤٠ وبشارة مرقس ١٢: ٢٨ - ٣٤.
    يُجَرِّبُهُ لا يلزم من هذا أن الناموسي أراد أن يصطاد المسيح بكلمة. فيحتمل أنه قصد امتحان معرفته باعتبار أنه معلم وكشف ما في تعليمه ليرى هل فيه شيء يخالف شريعة موسى. ولعله سأله ذلك وهو يعتقد برّ ذاته (كما يظهر من ع ٢٩) منتظراً أن جواب المسيح يثبت مدحه لنفسه بأنه عمل كل ما يقتضيه ميراث الحياة الأبدية.
    مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ هذه المسئلة من أهم المسائل يجب على كل إنسان أن يسألها. ووجّهها الناموسي إلى أفضل من يستطيعون جوابها وهي عين المسئلة التي سألها الرئيس (ص ١٨: ١٨ ومتّى ١٩: ٢٦). والأرجح أن الناموسي توقع أن المسيح يأمره بعمل من الأعمال الخيرية فوق ما فعل منها وبنكران الذات أو الزهد.
    ٢٦ «فَقَالَ لَـهُ: مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟».
    مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عرف المسيح غاية الناموسي من سؤاله أي أن «يجربه» وجاوبه بما لا وجه فيه للاعتراض. وخلاصة جوابه أن مطلوبك أيها الناموسي في الناموس الذي قد درسته وعلمته.
    كَيْفَ تَقْرَأُ اصطلح الربانيون على هذا السؤال عندما كانوا يسألون تلاميذهم عما قرأوه من كلمات التوراة بحروفه.
    ٢٧ «فَأَجَابَ: تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ».
    تثنية ٦: ٥، لاويين ١٩: ١٨
    أظهر الناموسي بهذا الجواب قوة إدراكه خلاصة الشريعة وبلاغته في الإيجاز بدلاً من أن يذكر الأوامر والمناهي تفصيلاً. واقتبس جوابه من (تثنية ٦: ٥ ولاويين ١٩: ١٨).
    والذي عرفه هذا الناموسي من تلقاء نفسه التزم يسوع أن يعلمه ناموسياً آخر في أورشليم (متّى ٢٢: ٣٧ - ٣٩). فظهر أن معرفته الشريعة أعظم من معرفته نفسه.
    ٢٨ «فَقَالَ لَـهُ: بِٱلصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هٰذَا فَتَحْيَا».
    لاويين ١٨: ٥ ونحميا ٩: ٢٩ وحزقيال ٢٠: ١١ و١٣ و٢١ ورومية ١٠: ٥
    اِفْعَلْ هٰذَا فَتَحْيَا سبق تفسير هذا في الشرح (متّى ٢٢: ٣٧ - ٤٠). ومعنى المسيح أن فعل الناموس على هذا الأسلوب علامة أن الفاعل وارث الحياة الأبدية لأن الذي يحب الله فوق كل شيء ويحب قريبه كنفسه يكون ممن نشأت في قلبه الحياة الأبدية. ولكن لا أحد من البشر فعل ذلك على الأرض أو سيفعله عليها. وخاطب يسوع الناموسي بكلمات الشريعة تمهيداً لكلمات الإنجيل وتنبيهاً له على أنه لم يحفظ الناموس كما يجب ولم يكن وارث الحياة الأبدية وهذا وفق قول الرسول «كَانَ ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٣: ٢٤). ولم يكن الناموسي مستعداً لكلام الإنجيل لأنه لم يشعر بعجزه عن حفظ كل وصايا الناموس وبأنه مفتقر إلى برّ المسيح بالإيمان. فالذين استعدوا لقبول الإنجيل جاوبهم المسيح بغير ذلك (يوحنا ٦: ٢٨ و٢٩).
    ٢٩ «وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، سَأَلَ يَسُوعَ: وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟».
    ص ١٦: ١٥ و٢كورنثوس ١٠: ١٨
    أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ إما أن يبرئ نفسه من عدم حفظ شريعة المحبة على اختلاف مطاليبها بناء على أن قول المسيح «افعل هذا» يستلزم أنّه لم يحفظ تلك الشريعة وإمّا أن يبرّئ نفسه من الجهل اللازم من سؤاله مسئلة بسيطة جوابها واضح.
    مَنْ هُوَ قَرِيبِي على فرض أنه أراد تبرئة نفسه من عدم حفظ الجزء الثاني من شريعة المحبة واعتقد أنه يحب الله كما يجب حتى لم يتصور أن المسيح يتهمه بعدم حفظه الجزء الأول من تلك الشريعة يكون كأنه قال للمسيح لا بد من أن تكون علّة ظنك عدم حفظي الجزء الثاني أنك فهمت أنت من «قريبي» معنى غير المعنى الذي فهمته أنا منه. لأني أعتقد أن قريبي هو اليهودي لا السامري ولا الوثني أفلستَ تعتقد هكذا؟ فإن كان قد قصد تبرير نفسه بهذا فقد دانها بتضييق دائرة المحبة فكان يجب أن يتركها على ما هي عليه دون تحديده. وقد أخطأ كما أخطأ بطرس بسؤاله الرب «كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَـهُ» (متّى ١٨: ٢١). وعلى فرض أنه أراد تبرئة نفسه من الجهالة لإتيانه ذلك السؤال البسيط يكون كأنه قال لم يهُن أن نعرف من هو القريب لأن آراء العلماء في ذلك تختلف كثيراً.
    ٣٠ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ».
    أَجَابَ يَسُوعُ كان جوابه المثل المعروف بمثل السامري الصالح وهو ليس جواب سؤال الناموسي «من قريبي» على خط مستقيم لكن جواب سائل يقول من يحفظ الجزء الثاني من شريعة المحبة حفظاً تاماً أي من يحب قريبه كما يجب. فكأن المسيح قال للناموسي لا تنظر إلى صنوف الناس لتتحقق من هو قريبك بل انظر إلى أعمال الذين يدعون أنهم يحبون القريب وعواطفهم لتتحقق من هو قريبك الذي يحبه حباً صحيحاً.
    إِنْسَانٌ نعلم من القرينة أن هذا الإنسان يهودي وإلا لم يصدق أنه نازل من أورشليم.
    مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا بين أورشليم وأريحا مسافة نحو سبع ساعات أي عشرين ميلاً وكانت أورشليم أعلى من أريحا بنحو ٣٤٠٠ قدم لأن أورشليم تعلو سطح البحر بنحو ٢٥٠٠ قدم واريحا أوطأ منه بنحو ٩٠٠ قدم ولهذا قال «كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا». وضرب المسيح تلك القصة مثلاً لبيان تعليمه لا يمنع من أنها كانت من الواقعات.
    فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ معظم الأرض بين أورشليم وأريحا صخري جديب لا يحسن للحراثة فلذلك خلا من السكان وفيه أودية عميقة تكثر الكهوف في صخورها يكمن بها اللصوص للمسافرين. وكانت أريحا يومئذ مدينة كبيرة غنية فكان المسافرون إليها والطريق بين المدينتين اشتهرت منذ العصور الخالية بكثرة اللصوص حتى سُميت «بالطريق الحمراء» أو الدموية.
    فَعَرَّوْهُ أظهر اللصوص قساوتهم بعد اكتفائهم بأخذ نقوده وبضاعته بأن نزعوا عنه ثيابه وأخذوها.
    وَجَرَّحُوهُ ربما فعلوا ذلك في أول هجومهم عليه ليمنعوه من المقاومة أو لأنه أخذ يدفع عن نفسه وعن ماله أو ليمنعوه عن أن يتتبع آثارهم ويجد من يساعدونه على رد ما سلبوه ولعلهم جرحوه لمجرد قساوة قلوبهم وحبهم أذى الغير.
    وَمَضَوْا غير مكترثين بموته أو حياته.
    بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ فكان عاجزاً عن أن يسير إلى حيث يجد من يعتني به وفي حال توجب له شفقة كل من يمر به.
    ٣١ «فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ ٱلطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَـهُ».
    خروج ٢٣: ٤ و٥ وتثنية ٢٢: ١ إلى ٤ ومزمور ٣٨: ١١ وإشعياء ٥٨: ٧
    فَعَرَضَ أي اتفق أو كان بلا قصد سابق للاعتناء بذلك الجريح.
    كَاهِناً أحد أبناء هارون. وكانت أريحا مقام كثيرين من الكهنة واللاويين حين فراغهم من خدمة الهيكل. قيل أن عددهم هنالك بلغ في أيام المسيح نحو ١٢٠٠٠ فلزم طبعاً أن يمرّوا كثيراً بين المدينتين ذهاباً وإياباً.
    فَرَآهُ على البعد.
    وَجَازَ مُقَابِلَـهُ أي لم يقترب منه ليقف على أمره أو ليساعده أو ليسمع استغاثة الجريح. وعلّة ذلك إما أنه لم يرد أن يُعاق ويكلف نفسه نفقة وتعباً وإما أنه خاف من نجاسة طقسية إن كان هو ميتاً ودنا من جثته وإما أنه خاف من أن يتهمه أحد بقتله إذا رآه قريباً منه.
    وهذا الكاهن خالف بما أتاه شريعة المحبة. وكان عليه لكونه خادماً لله ونائبه على الأرض أن يتمثل به تعالى لقوله «إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً» (هوشع ٦: ٦) ولكونه معلماً تلك الشريعة أن يكون قدوة في إظهار المحبة والشفقة لكنه خالف شريعة المحبة التي أمرت بالشفقة على العدو وبرد بهائمه أو إقامتها (خروج ٢٣: ٤ و٥) فهي بالأولى أن تأمر بالشفقة على حياة إنسان ليس بعدو له.
    ٣٢ «وَكَذٰلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضاً، إِذْ صَارَ عِنْدَ ٱلْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَـهُ».
    لاَوِيٌّ أحد أبناء لاوي وهم مساعدو بني هارون في خدمة الهيكل (عدد ٨: ٥ - ٢٢). وهذا الموضع الوحيد في البشائر الذي ذُكر فيه لاوي. واللاويين كانوا موقوفين لخدمة الله كالكهنة ومجبرين على أن يظهروا الشفقة على الناس أكثر ممن سواهم.
    جَاءَ وَنَظَرَ رغبة في الوقوف على الواقع. ولا بد من أنه عرف شدة احتياج ذلك الجريح إلى المساعدة لأن حياته كادت تنتهي من كثرة ما سال من دمه فأذنب بعدم عنايته به أكثر من الكاهن لأنه قسى قلبه بمخالفته الشريعة والطبيعة والأول لم يخالف سوى الشريعة.
    وَجَازَ مُقَابِلَـهُ كما فعل الكاهن، فلو لم يكن الجريح يهودياً لصرّح بذلك بياناً لتركه من كل من الكاهن واللاوي. وكانا كلاهما من علماء الشريعة ومفسريها ومدعي حفظها. فلا يقام بالناموس بمجرد العلم والادعاء.
    ٣٣ «وَلٰكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ».
    يوحنا ٤: ٩
    سَامِرِيّاً كان السامريون وثنيين آمنوا بشريعة موسى وقاموا ببعض رسوم الشريعة (انظر الشرح متّى ١٠: ٥) ولم يُذكر أن هذا السامري أتى من أورشليم. ويحتمل أنه كان آتياً من بيت إيل أو جرزيم فمرّ في بعض الطريق بين أورشليم وأريحا وهو مسافر للتجارة. وذكر المسيح هذا السامري لكي يعلم أن الأجنبي الذي يطيع شريعة المحبة خير من خادم الدين الحق الذي يخالفها لا ليكرم السامريين ولا ليهزأ بالكهنة واللاويين.
    جَاءَ إِلَيْهِ كان يمكن السامري ان يعتذر بما لا بد من أن اللاوي والكاهن اعتذرا به لكونه كان مجبراً على الإسراع وخائفاً من رجوع اللصوص وسلبهم إياه والتهمة بقتل ذلك الإنسان إن مات لكنه احتمل كل تلك الأخطار ولم يبال بها طوعاً لشريعة المحبة.
    تَحَنَّنَ أي رقّ له وكان ذلك علّة صنيعه من أعمال إنكار الذات والتعب والنفقة كما أن عدم رقة الكاهن اللاوي سبب عدم الاكتراث بذلك الجريح. ومما يحقق لنا أن الجريح كان يهودياً أنه لو كان سامرياً لذكر ذلك بياناً لاعتناء السامري به دون غيره. وكان من عوائد السامريين وممّا ربوا عليه أن يبغضوا اليهود. ولكن هذا السامري لم يسمح أن تكون عوائده وما رُبي عليه علّة ليقسّي قلبه على يهودي مفتقر إلى شفقته وعنايته.
    ٣٤ «فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَٱعْتَنَى بِه».
    ضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ لعله فعل ذلك برُبُط فصّلها من ثيابه.
    زَيْتاً وَخَمْراً كانوا قد اعتادوا يومئذ أن يعالجوا الجراح بالزيت والخمر (إشعياء ١: ٦) والمقصود من المعالجة بهما قطع جريان الدم وتسكين الألم بمنع الهواء عن الجراح. فالظاهر أن السامري كان قد حمل الزيت والخمر استعداداً لنفعه الخاص فأنفقه على الجريح إحساناً.
    وَأَرْكَبَهُ بعد أن عالجه وقطع جريان دمه حتى لا تؤذيه الحركة.
    عَلَى دَابَّتِهِ فاضطر أن يمشي ويقاسي تعباً شديداً ليمسكه وقاية له من السقوط في تلك الأرض الصخرية المنحدرة.
    فُنْدُقٍ أي خان.
    وَٱعْتَنَى بِهِ لم يكتف بأن أوصله إلى هناك بل زاد على ذلك أنه خدمه على قدر الاقتضاء.
    ٣٥ «وَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ ٱلْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَـهُ: ٱعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ».
    متّى ٢٠: ٢
    أَخْذَ دِينَارَيْنِ أي نحو تسعة غروش ولكن قيمة النقود يومئذ كانت أعظم من قيمتها اليوم وكان ذلك أجرة فاعلين على عمل يومين (متّى ٢٠: ٢ و٩). وكان ثمن طعام يكفي خمسين نفساً دفعة على قياس ما في الآية ٣٧ من ص ٦ من بشارة مرقس. فقام ذلك السامري بالنفقة على الجريح في الحال وبعض المستقبل.
    فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ توقع السامري أن يرجع في تلك الطريق ولم يكتف بما أنفق على الجريح فوعد الفندقي أنه يحاسبه بما ينفقه فوق ذلك فاعتنى به في الحضور والغيبة.
    ٣٦ «فَأَيُّ هٰؤُلاَءِ ٱلثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ ٱللُّصُوصِ؟».
    أَيُّ هٰؤُلاَءِ ٱلثَّلاَثَةِ المراد بهؤلاء الثلاثة الكاهن واللاوي والسامري فالأولان عرفا شريعة المحبة وعلّماها الناس ولم يعملا بمقتضاها ولكن الآخر أي السامري جرى بمقتضاها سواء كان يعرف لفظها أم لا. والناموسي سأل عن أنه «من هو قريبي» الذي أنا ملزوم أن أظهر له المحبة أليس هو الذي مثلي في الاعتقاد ونسيبي في الدم وصاحبي الذي يستطيع أن ينفعني إذا نفعته فلم يجبه المسيح على ذلك رأساً بل ضرب له مثل ذلك السامري الذي لم يقل «من هو قريبي» بل أظهر المحبة تبرعاً لإنسان وليس بقريب له على مذهب الناموسي في معنى القريب.
    صَارَ قَرِيباً الخ كنا نتوقع أن يقول المسيح من حسب السامري قريبه. وأن يجاب بأنه هو الجريح. ولكنه قلب السؤال حتى كان الجواب أنه السامري لا الجريح وعلّة ذلك القلب صدق القرابة على كل منهما وإرادة المسيح بيان أن السامري اعتبر حقيقة تلك القرابة بما فعله.
    فإن قيل لماذا أجاب المسيح سؤال الناموسي أي قوله «من هو قريبي» بسؤال آخر وهو قوله «أي هؤلاء الثلاثة ترى الخ» قلنا إرادته أن ينبه ضمير السائل ليحكم بالصواب وليقتنع الناس من شهادة وجدانه لا من جواب المسيح.
    ٣٧ «فَقَالَ: ٱلَّذِي صَنَعَ مَعَهُ ٱلرَّحْمَةَ. فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَٱصْنَعْ هٰكَذَا».
    ٱلَّذِي صَنَعَ مَعَهُ ٱلرَّحْمَةَ لم يرد الناموسي أن يصرّح بمدح السامري فأشار إليه معنى لا لفظاً. وهذا جواب نقله عن ضميره يضاد مبادئه اليهودية التي رُبي عليها. والأرجح أنه لولا هذا المثل لم يسلم بأن السامري قريب الجريح.
    وَٱصْنَعْ هٰكَذَا هذا هو غاية المسيح من المثل. أمر الناموسي أن يصنع كما صنع السامري للجريح لأنه بذلك يعمل بمقتضى شريعة المحبة.
    ولنا من هذا المثل وجوب أن نحسب كل الناس أقرباء بقطع النظر عن الأمة أو الملة وأن نحب الجميع وأن نظهر محبتنا بأعمالنا وقت الحاجة. والذي فسر هذا المثل بفعله أكثر ممن سواه هو المسيح. ولا أحد يقدر أن يعمل بمقتضاه ما لم يتعلّم من المسيح.
    إن الكنيسة المسيحية بطاعتها لهذا المثل ولأمر المسيح ولمثاله صارت ملاك رحمة للعالم وحملت له البركات الجسدية والروحية كإبطال النخاسة (أي الاتجار بالعبيد) ومنع القساوة على المسجونين وأسرى الحرب وتوزيع الطعام على الجياع من كل ملة ولسان وتشييد المستشفيات للمرضى وبث بشرى الخلاص في كل أرض.

    يسوع في بيت مريم ومرثا ع ٣٨ إلى ٤٢


    ٣٨ «وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا».
    يوحنا ١١: ١ و١٢: ٢ و٣
    سَائِرُونَ أي مسافرون إلى أورشليم السفر الذي ذُكرت بداءته في ص ٩: ٥١.
    قَرْيَةً لا ريب أن هذه القرية بيت عنيا وهي على سفح جبل الزيتون الشرقي بينها وبين أورشليم مسافة نحو ثلاثة أرباع الساعة (متّى ٢٦: ٦ ومرقس ١٤: ٣ ويوحنا ١١: ١ و١٢: ١ و٢). وتسمى اليوم بالعازارية. ولم يتحقق زمان الحادثة المذكورة هنا. كان يسوع في أورشليم في عيد المظال في تشرين الأول من السنة الأخيرة من حياته على الأرض (يوحنا ٧: ١٠) وكان أيضاً في عيد التجديد في كانون الأول من تلك السنة (يوحنا ١٠: ٢٢). فتلك الحادثة إما في الزيارة الأولى أو الزيارة الثانية فهي لم تُذكر باعتبار زمانها لأن الكلام هنا على خدمة المسيح في بيرية.
    ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا مَرْثَا هي أخت مريم ولعازر والأرجح أنها أكبر من كل منهما. ويحتمل أن سمعان الأبرص (متّى ٢٦: ٦) أبوهم أو زوج إحدى الأختين. والأرجح أنه كان في أيام تبشير المسيح ميتاً أو غائباً لأنه لم يُذكر من أمره سوى اسمه. ولأسباب لم نعلمها كان كلام كل من متّى ومرقس ولوقا على تلك العائلة في بيت عنيا تلميحاً لا تصريحاً وأما يوحنا الذي كتب بعدهم فذكر اسم لعازر واسم القرية التي هو فيها وهذا لم يذكره غيره من البشيرين.
    مَرْثَا لم يذُكر مثل هذا الاسم في العهد القديم وهو سرياني معناه سيدة وهي تلميذة مؤمنة اعتبرها المسيح (يوحنا ١١: ٥).
    فِي بَيْتِهَا أي قبلته فيه ضيفاً احتراماً له وكذا فعلت في آخر أسبوع من حياته الأرضية.
    ٣٩ «وَكَانَتْ لِهٰذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، ٱلَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ».
    ص ٨: ٣٥ وأعمال ٢٢: ٣ و١كورنثوس ٧: ٣٢ الخ
    مَرْيَمَ اسم عبراني معناه مرارة أو مرُّ البحر وكذا كان اسم أم يسوع واسم أخت موسى.
    جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ الخ أي جلوس التلاميذ لدى المعلم. وأظهرت إكرامها للمسيح بترك كل أعمال البيت وأصغت إلى تعليمه. والأرجح أن موضوع ذلك التعليم كان الملكوت الذي أتى يسوع ليؤسسه في قلوب الناس وكان جلوسها المذكور قبل العشاء لأن أختها مرثا كانت قد أخذت في إعداده.
    ٤٠ «وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ، فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!».
    مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ اعتبرت مرثا يسوع علاوة عن اعتبارها إياه صديقاً أنه رباني مشهور ونبي الله. واختارت الطريق لإظهار إكرامها إياه إعداد مأدبة فاخرة. وهي خلاف الطريق التي اختارتها مريم لذلك. فكانت غاية كلتيهما واحدة وهي احترام المسيح. ولعلّ مرثا ظنت أن الطعام البسيط دون قدر يسوع. وارتبكت بتلك الخدمة العظيمة لتعد مائدة تليق بضيفها الجليل.
    وَقَفَتْ وَقَالَتْ كانت علّة ذلك أنها رأت أختها جالسة مستريحة بلا هم من جهة أتعاب البيت وقد أعيت هي من مشقة الخدمة. والمرجح أنها تكلمت بسرعة وحدّة.
    يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي في هذا شيء من اللوم ليسوع بأنه لم ينتبه لكثرة ارتباكها ولم يسأل مريم مساعدتها. ولمرثا شيء من العذر بجراءتها على هذا الكلام لأن غايتها من ذلك كله الاهتمام بإعداد ما يليق بربها.
    أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي يدل هذا على أن مريم كانت تعمل مع مرثا في أول الأمر ثم سمعت بعض حديث المسيح وهي مارة فلذّ لها فجلست تصغي إليه ونسيت أعمالها وأختها وما يجب عليها للضيف.
    فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي كأن مريم لا يحسن أن ترجع إلى العمل إلا بإذن يسوع وأمره.
    ٤١ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: مَرْثَا مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ».
    مَرْثَا مَرْثَا تكرير المسيح اسمها يجعل لها توبيخ الصديق لا توبيخ الديّان فهذا مثل قوله «سمعان سمعان» (ص ٢٢: ٣١) و «شاول شاول» (أعمال ٩: ٤). ولا شيء يسكّن المضطرب مثل مناداته باسمه. ولا بد من أن يكون في ذلك التكرير تنبيهاً على أهمية الكلام.
    أَنْتِ تَهْتَمِّينَ الخ لم يوبخها المسيح على خدمتها بل على زيادة اهتمامها بها وارتباكها فيها. ولم يقل ذلك إلا بعد أن سألته أن يلوم أختها. وقوله هنا كقوله للتلاميذ سابقاً «لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ الخ» (متّى ٦: ٢٥). وكان خطأوها أنها اهتمت اهتماماً زائداً بالواجبات الدنيوية ولكنها أصابت بذكر همومها للمسيح وفقاً لقول الرسول «مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ» (١بطرس ٥: ٧).
    ٤٢ «وَلٰكِنَّ ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَٱخْتَارَتْ مَرْيَمُ ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا».
    مزمور ٢٧: ٤
    ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ يحتمل هذا الكلام معنيين الأول الحرفي وهو أنك تعدّين أشياء كثيرة لخدمتي ضيفاً ولكني لا أحتاج إلا إلى قليل أو صنف واحد من الأطعمة. والثاني المعنى الروحي وهو العناية بالنفس. أو الإصغاء لصوت المسيح الذي هو الوسيلة إلى ذلك. أو قبول المسيح نفسه في القلب بالإيمان بدلاً من قبوله ضيفاً يُخدم «بأمور كثيرة». فمن الخطأ أن نقصر مراد المسيح على الأول لأنه لا بد من أن يكون قد قصد الثاني فتكلم بما يصدق على الاثنين لكي ينبه بالمعنى الحرفي على المعنى الروحي.
    ثم إن استماع مريم للمسيح كان نفعاً لها لا له وخدمة مرثا كانت نفعاً له ففضل المسيح العطاء على الأخذ وفقاً لقوله «أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ» (متّى ٢٠: ٢٨). فهو يؤثر محبة القلوب على ربوات الذبائح.
    ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ هذا مجاز بُني على تقسيم الميراث على الورثة الذين خُيروا في أخذ النقود أو الحقول أو الآثاث أو البيوت. والمعنى هنا كمعنى قوله «الحاجة إلى واحد» وهو الحياة الأبدية التي هي موهبة الله والميراث السماوي. وهذا النصيب خير من الأنصبة وهو صالح في الصحة وفي المرض وفي الشبيبة وفي الشيخوخة وفي الراحة وفي المشقة وفي الحياة وفي الموت وفي هذا الزمان وفي الأبدية.
    لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا لأن الحياة الأبدية نصيب لا يزول وميراث لا يفنى. وسمع مريم لكلام المسيح وإيمانها به هما شربها من ماء الحياة وأكلها من خبز الحياة بدليل قول المسيح «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَـهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا ٦: ٥٤). وصرّح المسيح لمرثا أنه لا يفعل شيئاً يصرف أختها عن طلب ذلك الخير الأعظم الذي اختارته نصيباً وأخذت تجتهد في إصابته. والنصيب الذي لا ينزع ممن يقتنيه وهو المشار إليه هنا يختلف عن كل الأنصبة الدنيوية أنها تنزع من أربابها عند موتهم فيفارق الملوك قصورهم والأغنياء أموالهم ويقفون عراة أمام الله.
    وفي ما قاله المسيح لمريم ومرثا فوائد جزيلة لكل مسيحي:

    • الأولى: أنه لا يحسن أن نعتني كل الاعتناء بواجبات الدين الخارجية ولو كانت من أعمال الإحسان إلى المساكين ونهمل الواجبات الروحية من تلاوة كتاب الله والتأمل والصلاة مع أن الواجبات الثانية أصل الواجبات الأولى ومصدرها. فيحب أن نقتدي بالمسيح في أنه اعتنى بعض الاعتناء بأجساد الناس بشفاء أمراضهم وإطعامه لكنه اهتم أكثر بتعليمهم الدين لخلاص نفوسهم.
    • الثانية: أنه لا يجوز للمسيحيين أن يسمحوا ان يمنعهم الاعتناء بالحاجات الزمنية عن الاهتمام بخلاص نفوسهم.
    • الثالثة: أن الجلوس عند أقدام المسيح أفضل طريق لشغل الوقت وذلك أن نكون من طلبة كلامه ونصغي إلى صوته القدوس في قلوبنا.
    • الرابعة: أنه يجب على الوالدين أن يجتهدوا في أن يحببوا إلى أولادهم أن يختاروا النصيب الصالح أكثر مما يحبّبون إليهم تحصيل العلوم والمناصب والثروة وأن يحذروا من تعريضهم للتجربة أن يهملوا خير نفوسهم باهتمامهم بمجرد خير أجسادهم وعقولهم. فإن كان كلام المسيح هنا تنبيهاً لكل المسيحيين فهو أجدر أن يكون كذلك للدنيويين لكي لا يكتفوا بأن يطلبوا لأجسادهم «أموراً كثيرة» من العالميات التي تفنى ونحن نستعملها بل لكي يطلبوا الحياة الأبدية لنفوسهم بالمسيح.




    الأصحاح الحادي عشر


    إنباء يسوع الثاني بالصلاة الربانية ع ١ إلى ٤


    ١ «وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضاً تَلاَمِيذَهُ».
    إِذْ كَانَ يُصَلِّي كثيراً ما ذكر لوقا صلوات المسيح ومن ذلك ذكره صلاته عند معموديته (ص ٣: ٢١). وفي البرية (ص ٥: ١٦) وقبل تعيينه الاثني عشر رسولاً (ص ٦: ١٢) وفي انفراده (ص ٩: ١٨) وعند تجليه (ص ٩: ٢٨ و٢٩).
    فِي مَوْضِع لا نعلم اسم هذا الموضع ولا موقعه والذي نعلمه أنه كان في بيرية بلغه يسوع مدة سفره الأخير من الجليل إلى أورشليم.
    وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وهذا كان نائباً عن الباقين لأنه قال «علمنا» لا علمني.
    عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ الأرجح أن التلاميذ شاهدوا حرارة المسيح في الصلاة فأثر فيهم ذلك ورغبوا في أن يصلّوا مثله. وكان الربانيون يعلّمون اليهود أن يصلّوا ثلاث مرات في النهار وكان الفريسيون يصلّون صلوات طويلة معينة وتحقق التلاميذ أن صلاة المسيح خلاف الصلوات التي علمها الربانيون والصلوات التي مارسها الفريسيون في زوايا الأزقة والشوارع. فطوبى لمن يشاركون التلاميذ في ذلك الشعور ويقولون للمسيح «علّمنا أن نصلّي» لأنه لا أحد يستغني عن التعليم في شأن الصلاة. والرب يسوع وحده قادر أن يعلمنا كيف نصلّي ويقدرنا على تقديم الصلاة.
    كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا الخ لم يذكر أحد من البشيرين تعليم يوحنا الصلاة لتلاميذه سوى لوقا. وأشار لوقا قبل ذلك إلى أن يوحنا علم تلاميذه حفظ أصوام وتقديم طلبات كسائر الربانيين.
    ٢ - ٤ «٢ فَقَالَ لَـهُمْ: مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. ٣ خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، ٤ وَٱغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّير».
    متّى ٦: ٩
    أجاب المسيح هذا الطلب في الحال لأنه موافق لإرادته. وهذه مرة ثانية علّم تلاميذه الصلاة الربانية. والمرة الأولى كانت قبل هذه بنحو سنتين وهو يعظ على الجبل (متّى ٦: ٩ - ١٣). وتكريرها دليل على أهميتها. وكذا كررت الشريعة مرتين على مسامع الإسرائيليين (تثنية ٩: ١٠ و١٠: ٤). والفرق بين ألفاظ تلك الصلاة في المرة الأولى وألفاظها في الثاني زهيد. وسيأتي ذكره. ويعلّمنا ذلك الفرق أن المسيح لم يقصد تقييدنا ألفاظ معينة بل أراد أن يوجب علينا المعنى.
    (راجع تفسير الصلاة الربانية في الشرح متّى ٦: ١ - ١٣. وقد وضعنا هنا صورتها في كل من المرتين).

    الصلاة الربانية كما هي في بشارة متى


    «أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ. وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ، وَٱلْقُوَّةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ».

    الصلاة الربانية كما هي في بشارة لوقا


    «أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، وَٱغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ».
    وخلاصة تلك الصلاة الاقتراب إلى الله أباً وطلب ثلاثة أشياء عظيمة وهي تمهيد اسم أبينا وإتيان ملكوته وتكميل إرادته. ثم طلب ثلاثة أشياء لنا وهي طعامنا اليومي والمغفرة التي نحتاج إليها كل يوم والنجاة من الشيطان كذلك وتقترن إحدى هذه الطلبات بشرط وهو أن نغفر لغيرنا.
    كُلَّ يَوْمٍ (ع ٣) في متّى «اليوم» والمعنى واحد وهو طلب ما تحتاج أجسادنا إليه في كل وقت حاضر.
    خَطَايَانَا (ع ٤) أي «ذنوبنا» كما في متّى والمظنون أن لوقا عبّر عن الآثام بالكلمة الشائعة بين الأمم ومتّى عبّر عنها باللفظة الشائعة عند العبرانيين والفرق بين الكلمتين في اليونانية زهيد. ولعلّ اللفظة التي استعملها متّى أعم قليلاً.
    لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ في بشارة متّى «كما نغفر نحن» ومعنى العبارتين واحد وهو لا حق لنا أن نتوقع مغفرة الله لتعدينا على شريعته إذا لم نغفر لإخوتنا البشر تعدياتهم علينا. ومغفرتنا لإخوتنا لا تجعل لنا حقاً في أن يغفر لنا بل هي علامة أننا قمنا بالشرط الذي لا بد منه. ولا يمكن الإنسان أن يغفر كما يغفر الله لأنه ينزع جرم الخطية من قلب الإنسان. وأما الإنسان فمغفرته أن لا يبغض المسيء إليه ولا يطلب الانتقام منه بل يرغب في خيره.
    والخاتمة المذكورة لم يذكرها لوقا.

    مثل الصديق الذي أتى في منتصف الليل ع ٥ إلى ٨


    ٥، ٦ «٥ ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ: مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَـهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ ٱللَّيْلِ وَيَقُولُ لَـهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ، ٦ لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَه».
    علّم المسيح كيف يُصلَّى (ع ١ - ٤) ثم علّم أيضاً فاعلية الصلاة بمثل (ع ٥ - ٩). وباختبار الذين صلّوا (ع ٩ و١٠) ومن براهين مبنية على أبوية الله (ع ١١ - ١٣).
    مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَـهُ صَدِيقٌ لم يذكر هذا المثل أحد من كتبة البشائر سوى لوقا. وغايته تعليمنا وجوب المواظبة والإلحاح. وبنى كلامه هنا على تأثير اللجاجة في إنسان محب الذات كسلان يكره أن يجيب طلبة صاحبه لأحوال لا توافقه ومع ذلك حملته اللجاجة على إجابته فبالأولى أن تؤثر الصلاة في الله المحب الجواد الذي يرغب أبداً في إجابة الطالبين ولا مانع له من ذلك. ومثله الكلام على القاضي الظالم.
    نِصْفَ ٱللَّيْلِ ذكر الوقت ليبين على كره الصديق إجابة طلبة صديقه.
    لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ لا عجب من وصول الضيف في مثل تلك الساعة لأنه إن كان الوقت صيفاً كان السفر ليلاً خيراً من السفر نهاراً. وذكر ذلك عذر للطالب على إيقاظه في ذلك الوقت غير المناسب وبيان أنه لم يأته لجوعه بل لقيامه بواجبات الضيافة وذاك عذر مقبول.
    ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ ليس لهذا معنى روحي ولكن ذكره لأنه هو القدر الكافي لرجلٍ.
    ٧ «فَيُجِيبَ ذٰلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لاَ تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ ٱلآنَ، وَأَوْلاَدِي مَعِي فِي ٱلْفِرَاشِ. لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ».
    مِنْ دَاخِلٍ لم يتكلف القيام لفتح الباب بل جاوبه وهو في مضجعه.
    لاَ تُزْعِجْنِي الخ قال ذلك عذراً على رفضه طلبه لأن فتح الباب يكلفه مشقة وينزع راحته وراحة أهل بيته. والكلام هنا يدل على أن المسؤول كان فقيراً إذ لا خادم عنده وليس له سوى مخدع واحد لكل عائلته وكان ذلك المخدع مفروشاً على أسلوب لا يمكنه معه أن يقوم دون أن يزعج أولاده أيضاً.
    لاَ أَقْدِرُ الخ أي أن الصعوبات التي ذكرتها لك تمنعني من إجابة طلبك ما لم أظلم نفسي وأهل بيتي.
    ٨ «أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لاَ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ».
    ص ١٨: ١ الخ
    ِمِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِه يظهر من ذلك أن الصديق الطالب لم ييأس باعتذار صديقه ورفضه لكنه لبث يقرع الباب ويلح عليه فبلغ بذلك مراده أخيراً. فظهر مما ذُكر أن اللجاجة أشد تأثيراً من علاقات الصداقة ومن حقوق الضيافة وكسل المسؤول ومحبته لذاته ومراعاته راحة عائلته.
    قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ أي أنه حصل بواسطة لجاجته على تمام مراده من كاره كل ما اقتضاه طلبه. وغاية المثل بيان أنه إذا نجح الإنسان بمواظبة السؤال والإلحاح في نوال مطلوبه في مثل تلك الأحوال فكم ينجح بذلك في خطاب الله الذي يدعونا إلى الطلب وقد وعدنا بالإجابة وهو يحب العطاء والليل والنهار لديه سيّان ويستطيع أن يجيب طلباتنا وهو لا يكلف بذلك نفسه ولا غيره شيئاً من المشقة.
    فإن ظهر أن الله مبطئ عن إجابة طلباتنا فذلك ليس لعدم إرادته الإجابة كالصديق المسؤول في هذا المثل بل لأجل فائدتنا وأنه كثيراً ما يمتحن إيمان شعبه بذلك ويتأخر أن يجيبنا أحياناً لكوننا غير مستعدين لقبول البركة التي نطلبها بأننا لم نشعر بافتقارنا إليها كما يجب أو لأننا لم نطلبها بالتواضع اللائق والرغبة في نوالها. وليس في ما مرّ ما ينافي قوله تعالى في بشارة متّى «حينما تصلّون».

    فاعلية الصلاة ع ٩ إلى ١٣


    ٩ - ١٣ «٩ وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. ١٠ لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَـهُ. ١١ فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ ٱلسَّمَكَةِ؟ ١٢ أَوْ إِذَا سَأَلَـهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ ١٣ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يُعْطِي ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَه».
    متّى ٧: ٧ و٢١: ٢٢ ومرقس ١١: ٢٤ ويوحنا ١٥: ٧ ويعقوب ١: ٥ و٦ و٧ و١يوحنا ٣: ٢٢، متّى ٧: ٩، متّى ٧: ١١
    مرّ تفسير ذلك في الشرح متّى ٧: ٧ - ١١. وبين الكلامين فرق زهيد في اللفظ لا في المعنى. وفي الخطاب الذي رواه متّى «حجر» بدل «العقرب» هنا. وعلّة ذلك أن المسيح ذكر المثل مرتين على صورتين نقله متّى على إحداهما ولوقا على الأخرى. ويقال في مثل هذا على نقل متّى «عطايا صالحة» ونقل لوقا «الروح القدس» وهو أفضل النعم بعد هبة المسيح لنا.
    ولنا مما جاء في الكلام على الصلاة من ع ١ - ١٣ سبع فوائد:

    • الأولى: فائدة المواظبة واللجاجة في الصلاة وذلك وفق قول النبي «يَا ذَاكِرِي ٱلرَّبِّ لاَ تَسْكُتُوا وَلاَ تَدَعُوهُ يَسْكُتُ، حَتَّى يُثَبِّتَ وَيَجْعَلَ أُورُشَلِيمَ تَسْبِيحَةً فِي ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٦٢: ٦ و٧).
    • الثانية: إنه إن كان للصديق حق أن يتوقع المعروف من صديقه وللابن أن ينتظر ذلك من أبيه فالأولى أن يتوقع ذلك أولاد الله منه تعالى.
    • الثالثة: إنه إن كان الآباء الأرضيون وهم أشرار ضعفاء يحبون ذواتهم يعطون أولادهم عطايا صالحة فالأولى أن الآب السماوي الصالح الغني الرحيم غير المحدود في القدرة يعطي أولاده كذلك.
    • الرابعة: إنه تعالى لا يعطينا إجابة لطلباتنا عطايا غير نافعة كحجر أو مضرة كعقرب بل يهب لنا أفضل المواهب وأشدنا حاجة إليها.
    • الخامسة: وجوب أن لا نغلط بأن نحسب تباطؤه عن إجابة طلباتنا رفضه إياها.
    • السادسة: وجوب الثقة بمحبة الله وحكمته وأن لا نحسب لعنة ما يرسله بركة وأن لا نظن خبزه حجراً وسمكته حية.
    • السابعة: إن عطية الروح القدس هي أشد ما نحتاج إليه. وهي أحب شيء إلى الله أن يعطينا إياه فإن لم نحصل على تلك البركة فالعلّة الوحيدة لذلك عدم مواظبتنا على الصلاة وقلة حرارتنا وإيماننا.



    معجزة المسيح وتجديف الفريسيين ع ١٤ إلى ٢٦


    ١٤ - ٢٣ «١٤ وَكَانَ يُخْرِجُ شَيْطَاناً، وَكَانَ ذٰلِكَ أَخْرَسَ. فَلَمَّا أُخْرِجَ ٱلشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ ٱلأَخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ. ١٥ وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ. ١٦ وَآخَرُونَ طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ يُجَرِّبُونَهُ. ١٧ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لَـهُمْ: كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تَخْرَبُ، وَبَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى بَيْتٍ يَسْقُطُ. ١٨ فَإِنْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ أَيْضاً يَنْقَسِمُ عَلَى ذَاتِهِ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ لأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ. ١٩ فَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذٰلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ. ٢٠ وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. ٢١ حِينَمَا يَحْفَظُ ٱلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً، تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. ٢٢ وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ ٱلْكَامِلَ ٱلَّذِي ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ. ٢٣ مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّق».
    متّى ٩: ٣٢ و١٢: ٢٢، متّى ٩: ٣٤ و١٢: ٢٤، متّى ١٢: ٣٨ و١٦: ١، يوحنا ٢: ٢٥، متّى ١٢: ٢٥، مرقس ٣: ٢٤، خروج ٨: ١٩، متّى ١٢: ٢٩، مرقس ٣: ٢٧، إشعياء ٤٩: ٢٤ و٢٥ و٥٣: ١٢، كولوسي ٢: ١٥، متّى ١٢: ٣٠، متّى ١٢: ٤٣
    انظر الشرح متّى ١٢: ٢٢ - ٣٠.
    أَخْرَسَ (ع ١٤) لم يذكر لوقا هذه المعجزة في زمان حدوثها كما فعل متّى واقتصر على أن المجنون كان أخرس وذكر متّى أنه أعمى أيضاً.
    فَتَعَجَّبَ زاد متّى على ذلك قولهم «ألعلّ هذا هو ابن داود».
    قَوْمٌ مِنْهُمْ (ع ١٥) هم فريسيون (متّى ١٢: ٢٤).
    وكتبة من أورشليم (مرقس ٣: ٢٢).
    بَعْلَزَبُولَ انظر الشرح متّى ١٠: ٢٥.
    طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً (ع ١٦) جواب هذا الطلب في ع ٢٩ بعد رد المسيح على تجديف الفريسيين (ع ١٥). ولعلّ سبب ذكر لوقا الأمرين معاً أن بعضهم لما قال القوم المذكور «أنه يصنع الآيات برئيس الشياطين» سألوا أن يبطل قولهم بأن يريهم آية من السماء تظهر أنها من الله رأساً.
    بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ (ع ٢٠) قال متّى موضع ذلك «بروح الله» فكلام لوقا مجاز وكلام متّى حقيقة وفي هذا المجاز إشارة إلى أن روح الله يصنع المعجزات بغاية السهولة.
    ٢٤ - ٢٦ «٢٤ مَتَى خَرَجَ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ، يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً، وَإِذْ لاَ يَجِدُ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي ٱلَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ ٢٥ فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ٢٦ ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ!».
    يوحنا ٥: ١٤، عبرانيين ٦: ٤ و١٠: ٢٦، ٢بطرس ٢: ٢٠
    راجع الشرح متّى ١٢: ٤٣ - ٤٥.

    تطويب المرأة ليسوع ع ٢٧ و٢٨


    ٢٧ «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهٰذَا رَفَعَتِ ٱمْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ ٱلْجَمْعِ وَقَالَتْ لَـهُ: طُوبَى لِلْبَطْنِ ٱلَّذِي حَمَلَكَ وَٱلثَّدْيَيْنِ ٱللَّذَيْنِ رَضَعْتَهُمَا».
    ص ١: ٢٨ و٤٨
    لم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين سوى لوقا واسم المرأة المذكورة هنا مجهول والظاهر أنها من نساء ذلك الجمع سمعت كلام المسيح وتعجبت من الكلمات الخارجة من فيه ولعلها شاهدت بعض معجزاته فأظهرت تعجبها ومسرتها بما قالت هنا ومعناه طوبى لأم ابنٍ عجيبٍ كهذا.
    ولعلّ سبب تطويبها لأمه لا له نفسه أنها ظنت أمراً زهيداً أن تقتصر على مباركة الشفتين اللتين تكلمتا بذلك الكلام واليدين اللتين فعلتا تلك الآيات فباركت علاوة على ذلك البطن الذي حمله والثديين اللذين رضعهما.
    أو لعلها رأت أنها لا تستحق أن تبارك المسيح نفسه فباركته بمباركة أمه لأجله.
    ولعلها كانت متيقنة كسائر الإسرائيليات أن المسيح يولد من إحداهن وراجية أن تنال هذا الإكرام وحين تحققت أن يسوع هو المسيح حكمت بالبركة والغبطة لأمه وصرخت قائلة طوبى لها لأنها نالت أعظم البركات التي لا يمكن غيرها أن تنال نظيرها.
    ٢٨ «أَمَّا هُوَ فَقَالَ: بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللّٰهِ وَيَحْفَظُونَهُ».
    متّى ٧: ٢١، ص ٨: ٢١، يعقوب ١: ٢٥
    لم ينكر يسوع في جوابه أن الله ميّز مريم على غيرها من النساء باختياره إياها والدة للمسيح لكنه لم يسلم بأن ذلك السبب الأعظم للسرور وبأن الغبطة التي نالتها لا ينال أحد مثلها قدراً وبأن النسبة الجسدية بين الأم والابن خير الأنساب بل صرّح بأنه باق لكل إنسان نسبة روحية أعظم من تلك النسبة وهي النسبة الناتجة من المحبة لله والطاعة لأوامره. وهذا وفق قول المسيح «مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟... لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي... هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (متّى ١٢: ٤٨ و٥٠).
    وكانت مريم من الذين «سمعوا كلمة الله وحفظوها» وممن آمنوا بالله مخلصهم (ص ١: ٣٨ و٤٧). وشهدت بإيمانها أليصابات بقولها «طُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ» (ص ١: ٤٥).
    كَلاَمَ ٱللّٰهِ هو كلام المسيح أيضاً ولكنه نسبه إلى الله تواضعاً لأنه أخلى نفسه من أجلنا وأتى كرسول من الله.

    جواب السائلين آية من السماء ع ٢٩ إلى ٣٢


    ٢٩ - ٣٢ «٢٩ وَفِيمَا كَانَ ٱلْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ: هٰذَا ٱلْجِيلُ شِرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَـهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةُ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. ٣٠ لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، كَذٰلِكَ يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجِيلِ. ٣١ مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي ٱلدِّينِ مَعَ رِجَالِ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هٰهُنَا. ٣٢ رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا!».
    متّى ١٢: ٣٨ و٣٩ ويونان ١: ١٧ و٢: ١٠، ١ملوك ١٠: ١، يونان ٣: ٥
    هذا جواب السؤال الذي في ع ١٦.
    كَانَ ٱلْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ (ع ٢٩) لعلّ سبب ازدحام الناس توقعهم أن يأتي يسوع بآية من السماء كما سُئل.
    ٱبْتَدَأَ يَقُولُ سبق الكلام على ما قاله يسوع في هذا الجواب في الشرح (متّى ١٢: ٣٩ - ٤٢). والفرق بين قول لوقا وقول متّى ليس بأكثر مما نتوقعه من مؤرخين مستقلين.
    آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى (ع ٣٠) كان يونان آية لأهل نينوى بمعنى وكان لليهود الذين في عصر المسيح آية بمعنى آخر. فكان لأهل نينوى آية بعد أن كان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال ولا بد من أنه أخبرهم بعصيانه لله وقصاص الله له وبصلاته ونجاته. وفي هذا كان آية لهم على أنهم يعاقبون إن بقوا عصاة لله وأنهم ينالون المغفرة إذا تابوا. وكان آية لهم أيضاً لأن نجاته العجيبة شهدت بأنه مرسل من الله إليهم.
    لِهٰذَا ٱلْجِيلِ أي يهود ذلك العصر وكان يونان آية لهم بعد قيامة المسيح من الموت لأنه بقي في قلب الأرض ثلاثة أيام كما بقي في جوف الحوت ولم يوضح لوقا هذا كما أوضحه متّى (متّى ١٢: ٤٠).

    النور السماوي والعين الروحانية ع ٣٣ إلى ٣٦


    ٣٣ «لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيَضَعُهُ فِي خُفْيَةٍ، وَلاَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ ٱلدَّاخِلُونَ ٱلنُّورَ».
    متّى ٥: ١٥، مرقس ٤: ٢١ ص ٨: ١٦
    كل أقوال المسيح في هذا الفصل (أي ع ٣٣ - ٣٧) تكلم بها أولاً في وعظه على الجبل ثم تكلم بها أيضاً في أحوال أخرى قصد غاية أخرى.
    يُوقِدُ سِرَاجاً (راجع الشرح متّى ٥: ١٥) المقصود بالسراج في بشارة متّى تعليم الرسل وسيرتهم. وفي ذلك تحذير للرسل من كل شيء يحجب نور تعليمهم عن أعين الناس. والمراد بالسراج هنا تعليم المسيح عينه وفيه مثل ذلك التحذير. وإن كان المسيح قد وجه كلامه هنا إلى الفريسيين فالمقصود منه هنا تبرير نفسه بأنه لم يضع سراج تعليمه تحت المكيال كما اتهموه بطلب آية من السماء كأنه أخفى تعليمه بعدم إيراد البراهين السماوية كما فعل موسى وتخطئتهم بأنهم لم يستفيدوا من السراج الذي أوقده لهم.
    ٣٤ - ٣٦ «٣٤ سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِماً. ٣٥ اُنْظُرْ إِذاً لِئَلاَّ يَكُونَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً. ٣٦ فَإِنْ كَانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً لَيْسَ فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيِّراً كُلُّهُ، كَمَا حِينَمَا يُضِيءُ لَكَ ٱلسِّرَاجُ بِلَمَعَانِه».
    متّى ٦: ٢٢
    (راجع الشرح متّى ٦: ٢٢ و٢٣) علّة إيراد المسيح هذا الكلام هنا أن يبيّن سبب ظهور الحق لبعض الناس كأهل نينوى وملكة سبأ وخفائه عن بعضهم كفريسي ذلك الجيل وهو أن الفرق الأول فتح عيني قلبه لدخول النور السماوي إليه وأن الفريق الثاني أغمضهما.
    وعلى ذلك تبقى المسؤولية على كل إنسان لأن النور السماوي دخل العالم وأُعد لكل من يفتح عينيه.
    ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ (ع ٣٥) أي شهادة الضمير للحق فالله جعل الضمير للنفس بمنزلة العين للجسد. وفيه تحذير من التواء الضمير بالضلال والعوائد الرديئة والتعصب الجهلي فإن الضمير إذا التوى قاد إلى الغواية والهلاك بدلاً من أن يرشد إلى الهدى والحياة.
    جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً هذا مجاز معناه أنه إذا كانت النفس خالية من التعصب ومن تسلط الشهوات والكبرياء وشاهدت نور تعليم المسيح ضاءت كلها بذلك التعليم وزاد فيها النور على توالي الأيام إلى أن تبلغ النهار الكامل في السماء.
    «إن الله نور» (١يوحنا ١: ٥) والمسيح «هو نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢) و «النور الحقيقي» (يوحنا ١: ٩).

    العشاء في بيت الفريسي وتوبيخ المسيح للفريسيين ع ٣٧ إلى ٥٤


    ٣٧ «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَـهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ، فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ».
    سَأَلَـهُ فَرِّيسِيٌّ الأرجح أن قصد هذا الفريسي من دعوة يسوع إلى طعامه كقصد الفريسي المذكور في ص ٧: ٣٦ وذلك الرغبة في أن يرى أو يسمع شيئاً جديداً وتقديم شيء من الإكرام ليسوع باعتبار أنه معلّم مشهور بالقول والفعل وبغية الحصول على شيء من المجد بنزول المسيح عليه ضيفاً.
    َفَدَخَل دخل المسيح بيوت العشارين والخطاة ضيفاً لإفادة أنفسهم ودخل بيوت الفريسيين كذلك عند سنوح الفرصة لمثل هذه الإفادة.
    وَاتَّكَأَ أي اتكأ عند مائدة الطعام في حال دخوله البيت.
    ٣٨ «وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذٰلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً قَبْلَ ٱلْغَدَاءِ».
    مرقس ٧: ٣
    تَعَجَّبَ كان سبب تعجب الفريسي من عمل المسيح مخالفته لعوائد الفريسيين المبنية على تقاليد شيوخهم «لأَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ ٱلْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِٱعْتِنَاءٍ لاَ يَأْكُلُونَ الخ» (مرقس ٧: ٣ و٤). ولا ريب في أن المسيح أتى ذلك عمداً لأنه كان يعلّم بأعماله كما كان يعلّم بأقواله. وقصد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى الكلام على طهارة القلب. ولم يقل هنا أن الفريسي أظهر عجبه بقول أو إشارة والأرجح أنه فعل كذلك لأن المسيح لم يبدأ يوبخ في الحال لو لم يُعترض عليه بالكلام الصريح البيّن أو بالوسوسة أو بإمارات الغيظ.
    يَغْتَسِلْ أي الاغتسال الطقسي الذي اعتاده الفريسيون. (من أراد أن يعرف معنى الكلمة اليونانية «βαπτισμα» ليقف على حقيقة معنى المعمودية فعليه أن ينظر إلى معنى «يغتسل» هنا وينظر في نوع الاغتسال الذي توقعه الفريسي من المسيح. فلو ترجمنا تلك الكلمة حرفياً لكانت العبارة «تعجب أنه لم يعتمد أولاً قبل الغداء» فليحكم القارئ هل كان الفريسي ينتظر أن يغطس المسيح كله في الماء قبل الأكل أولا).
    ٣٩، ٤٠ «٣٩ فَقَالَ لَـهُ ٱلرَّبُّ: أَنْتُمُ ٱلآنَ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ ٱلْكَأْسِ وَٱلْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ ٱخْتِطَافاً وَخُبْثاً. ٤٠ يَا أَغْبِيَاءُ، أَلَيْسَ ٱلَّذِي صَنَعَ ٱلْخَارِجَ صَنَعَ ٱلدَّاخِلَ أَيْضاً؟».
    متّى ٢٣: ٢٥، تيطس ١: ١٥
    توبيخات المسيح هنا للفريسيين كبعض توبيخاته لهم في هيكل أورشليم في الأسبوع الأخير من حياته الأرضية (متّى ص ٢٣).
    إن المسيح فعل كسائر المعلمين الدينيين والعالميين في كل عصر بتكرير بعض التعليم الذي حسبه ذا شأن.
    ولا عجب من أن المسيح وهو ضيف في بيت فريسي يوبخ الفريسيين على أعمالهم توبيخاً شديداً لأن المسيح حيث ذهب لم يزل مبشراً ومعلماً وموبخاً على كل الشرور. ولم تكن غاية الفريسي من دعوة المسيح خالصة ليستحق أن يخاطبه المسيح بزيادة اللطف والرقة كما يظهر من ع ٥٣ و٥٤.
    يَا أَغْبِيَاءُ (ع ٤٠) أظهر الفريسيون غباوتهم بأنهم مارسوا تطهيراً جزئياً لا كاملاً وأتوا ذلك فرضاً دينياً بغية أن يرضوا الله فإنه سبحانه وتعالى هو الذي صنع الداخل كما صنع الخارج ومن الجهالة ظنهم أنه يرضى التطهير الظاهر بالاغتسال الطقسي دون التطهير الباطن والتقديس القلبي وفقاً لقوله تعالى بلسان داود «هَا قَدْ سُرِرْتَ بِٱلْحَقِّ فِي ٱلْبَاطِنِ» (مزمور ٥١: ٦).
    وقد مرّ تفسير هذين العددين في الشرح متّى ٢٣: ٢٥.
    ٤١ «بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً، فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ».
    إشعياء ٥٨: ٧، دانيال ٤: ٢٧، ص ١٢: ٣٣
    لا بد من أن المسيح قصد بهذا العدد أن يمارس الفريسيون الصدقات بدلاً من الاختطاف والخبث (ع ٣٩) وذلك يكون ذريعة إلى تطهير أفضل من غسل اليدين. وليس مراد المسيح أن إعطاء الصدقة هو القداسة إنما أراد أنه أفضل من التطهير الطقسي وتمهيداً إلى القداسة وبرهاناً على وجودها.
    كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ أي كل مقتنى. فيحق لكم أن تستعملوه وتنتفعوا به بعد أن توزعوا بعضه على المحتاجين إكراماً لله. وفسّر بعضهم قوله «كل شيء» بكل ما هو داخل الكأس والقصعة وأن ذلك الداخل لا يتطهر بغسل خارج الإناء بل بتوزيع بعض ما فيه صدقة. وهو معنى حسن وموافق للأصل.
    ٤٢ «وَلٰكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ ٱلنَّعْنَعَ وَٱلسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْلٍ، وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ ٱلْحَقِّ وَمَحَبَّةِ ٱللّٰهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هٰذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ!».
    متّى ٢٣: ٢٣
    انظر الشرح متّى ٢٣: ٢٣
    ٱلسَّذَابَ هو نبات صغير مرّ الطعم يتداوى بأوراقه.
    ٤٣ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ ٱلْمَجْلِسَ ٱلأَوَّلَ فِي ٱلْمَجَامِعِ، وَٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱلأَسْوَاقِ».
    متّى ٢٣: ٦، مرقس ١٢: ٣٨ و٣٩
    سبق الكلام على مثل هذه الآية في الشرح متّى ٢٣: ٦ و٧
    ٤٤ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ مِثْلُ ٱلْقُبُورِ ٱلْمُخْتَفِيَةِ، وَٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ!».
    مزمور ٥: ٩، متّى ٢٣: ٢٧
    (راجع الشرح متّى ٢٣: ٢٧).
    ٱلْقُبُورِ ٱلْمُخْتَفِيَةِ، وَٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ ذكر متّى خطاب المسيح للفريسيين في أورشليم وتشبيهه إياهم بقبور مبيّضة إشارة إلى الفرق بين الطهارة الظاهرة والنجاسة الداخلية. وذكر لوقا هنا خطابه لهم في البرية (على الأرجح) حيث لا تميز القبور عن سائر الأرض فيمكن الناس ان يحسبوا الأرض التي يمشون عليها طاهرة كغيرها من الأرضين والواقع أنها تشتمل على جثث الموتى وتدنس المارين عليها (عدد ١٩: ١٦). ومعنى التشبيه هنا أن قلوب الفريسيين مملوءة شراً خفياً عن الناس وأن الذين يعاشرونهم يتدنسون بكبريائهم وطمعهم وهم لا يشعرون كالذين يمشون على القبور المختفية.
    ٤٥ «فَقَالَ لَـهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِيِّينَ: يَا مُعَلِّمُ، حِينَ تَقُولُ هٰذَا تَشْتِمُنَا نَحْنُ أَيْضاً».
    وَاحِدٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِيِّينَ الناموسيون قوم وظيفتهم أن يشرحوا الناموس وأكثرهم من فرقة الفريسيين. وهذا الناموسي اعتقد أن المسيح وبخه بتوبيخ الفريسيين وأن وظيفته تقيه من ذلك التوبيخ فاعترض المسيح بقوله متوقعاً أنه يستثنيه منه.
    ٤٦ «فَقَالَ: وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلنَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ ٱلنَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ ٱلْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ ٱلأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ».
    متّى ٢٣: ٤
    انظر الشرح متّى ٢٣: ٤.
    ٤٧، ٤٨ «وَيْلٌ لَكُمْ، لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. ٤٨ إِذاً تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ، لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ.
    متّى ٢٣: ٢٩
    (سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متّى ٢٣: ٢٩ - ٣٣). وكلام المسيح هنا يفيد أنه أسهل على الناس أن يحمدوا الصالحين بعد موتهم ويبنوا قبورهم من أن يمارسوا فضائلهم. وأن أعمال الفريسيين برهان على أنهم يشبهون قاتلي الأنبياء أكثر مما يشبهون الأنبياء أنفسهم.
    ٤٩ - ٥١ «٤٩ لِذٰلِكَ أَيْضاً قَالَتْ حِكْمَةُ ٱللّٰهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ ٥٠ لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ، ٥١ مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا ٱلَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ ٱلْمَذْبَحِ وَٱلْبَيْتِ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ!».
    متّى ٢٣: ٣٤، تكوين ٤: ٨، ٢أيام ٢٤: ٢٠ و٢١
    انظر شرح بشارة متّى ٢٣: ٣٤ - ٣٦.
    قَالَتْ حِكْمَةُ ٱللّٰهِ الأرجح أنه قصد نفسه بهذه الحكمة فكأنه قال «قلت أنا» وذلك وفق ما في بشارة متّى ٢٣: ٣٤. وسمي المسيح حكمة الله في ١كورنثوس ١: ٢٤. وظن بعضهم أن ما قيل هنا مختصر ما جاء في سفر الأيام الثاني ٢٤: ١٨ - ٢٢.
    ٥٢ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ ٱلْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَٱلدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ».
    متّى ٢٣: ١٣
    مِفْتَاحَ ٱلْمَعْرِفَةِ كانت عادة اليهود أن يعطوا الناموسي مفتاحاً عند تعيينه للوظيفة في بلوغه سن الثلاثين إشارة إلى أنه ملزوم بفتح كنوز الحكمة الإلهية التي في الناموس والأنبياء لنفسه وللشعب.
    مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ الخ أي قصرتم كل التقصير في استعمال مفتاح المعرفة لنفع أنفسكم ونفوس غيركم لأنكم علمتم أن تقاليد الشيوخ أهم من أقوال الله سبحانه وتعالى وحرفتم معاني الأقوال الإلهية ولا سيما معاني ما قيل في المسيح وملكوته وآلامه. ولو علمتم الحق لاستعد الشعب لقبوله.
    وقصد الله بتسليم مفتاح المعرفة لمعلمي الدين أن يفتحوا به ملكوت السماء للناس ولكنهم أغلقوه بأعمالهم (متّى ٢٣: ١٣).
    ٥٣، ٥٤ «٥٣ وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهٰذَا ٱبْتَدَأَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يَحْنَقُونَ جِدّاً، وَيُصَادِرُونَهُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، ٥٤ وَهُمْ يُرَاقِبُونَهُ طَالِبِينَ أَنْ يَصْطَادُوا شَيْئاً مِنْ فَمِهِ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْه».
    مرقس ١٢: ١٣
    ما ذُكر في هاتين الآيتين بيان لعلّة ما ذُكر من توبيخات المسيح للفريسيين وتهديداته لهم فإن المسيح عرف بغضهم إياه واجتماعهم لكي يقاوموه. وكان هو ضيف واحد منهم فكان عليهم أن يعاملوه باللطف بدلاً من معامتلهم إياه بالخشونه.
    يُصَادِرُونَه أي يمتحنونه بمسائل كثيرة سفسطية لا لقصد الاستفادة بل ليعربسوه بها. وأجابهم على مسائلهم الخداعية بالحكمة والصبر والحلم.
    يَصْطَادُوا أي يسألوه كمن يرغب في الإفادة وغايتهم من السؤال كغاية الصيادين من إخفاء الفخاح.
    لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ إما إلى رؤساء اليهود بدعوى أنه جدّف أو إلى الحكام الرومانيين بدعوى أنّه هيج فتنة.
    وكانت أطوار فريسيي أورشليم وأفعالهم في معاملة المسيح كأطوار فريسيي بيرية المذكورين هنا (يوحنا ص ٨ وص ١٠ ومتّى ص ٢٢).

  2. #2
    الأصحاح الثاني عشر

    التحذير من الرياء والخوف ع ١ إلى ١٢


    ١ «وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ إِذِ ٱجْتَمَعَ رَبَوَاتُ ٱلشَّعْبِ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَدُوسُ بَعْضاً، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِتَلاَمِيذِهِ: أَوَّلاً تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱلَّذِي هُوَ ٱلرِّيَاءُ».
    متّى ١٦: ٦ ومرقس ٨: ١٥، متّى ١٦: ١٢
    ذُكرت في هذا الأصحاح أقوال كثيرة قالها المسيح مراراً تقريراً لها في أذهان تلاميذه فعل سائر المعلمين. ففي هذا الأصحاح تسع وخمسون آية خمس وثلاثون منها ذُكرت في أوقات أخرى.
    فِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ أي في مدة الحوادث التي ذُكرت في الأصحاح السابق.
    ٱجْتَمَعَ رَبَوَاتُ ٱلشَّعْبِ لا نعلم في أي مكان من بيرية اجتمعوا إنما نعلم أن المسيح كان حينئذٍ مسافراً السفر الذي ذُكرت بداءته في ص ١١: ٢٩. وكانت مقاصد المجتمعين مختلفة فكان مقصد البعض مشاهدة الغرائب ومقصد البعض الاستفادة ومقصد البعض شفاء الأمراض ومقصد الآخرين الانتقاد والمقاومة.
    لِتَلاَمِيذِهِ كان الخطاب السابق للكنيسة والفريسيين وهنا وجّه المسيح الكلام إلى المؤمنين به لا إلى الاثني عشر وحدهم.
    خَمِيرِ أي تعليم الفريسيين. وذكر وجه المشابهة بين الخمير وتعليمهم في الشرح (متّى ١٦: ٦ و١٢).
    ٱلرِّيَاءُ حذر المسيح التلاميذ أولاً من الرياء لأنهم في شديد الخطر منه لتعرضهم للاقتداء بالفريسيين المرائين الذين هم رؤساء الدين.
    ٢ «فَلَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ».
    متّى ١٠: ٢٦ ومرقس ٤: ٢٢ وص ٨: ١٧
    سبق تفسير هذه الآية في شرح بشارة متّى ١٠: ٢٧ وذكر المسيح فيها أحد أسباب تحذيره للتلاميذ من الرياء وهو أنه لا ينفع صاحبه لأنه ستر القداسة الخداعية الذي يتمزق فتظهر وراءه النجاسة وكثيراً ما يكون ذلك في هذه الحياة ولكن لا بد منه في يوم الدين.
    ٣ «لِذٰلِكَ كُلُّ مَا قُلْتُمُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ يُسْمَعُ فِي ٱلنُّورِ، وَمَا كَلَّمْتُمْ بِهِ ٱلأُذُنَ فِي ٱلْمَخَادِعِ يُنَادَى بِهِ عَلَى ٱلسُّطُوحِ».
    الكلام هنا كالكلام في بشارة متّى (متّى ١٠: ٢٦) فانظر تفسيره هناك. قصد المسيح أن يكون تلاميذه شركاءه في نشر الحق فما علّمهم إياه على انفراد أراد أن ينادوا به علانية لكي ينادي به الذين يتعلّمون منهم. وبذلك ينتشر خبره في كل المسكونة. وكان التلاميذ يضطرون في أزمنة الاضطهاد أن يجتمعوا خفية ويعلّموا غيرهم سراً ولكن تعليمهم كله كان يظهر في وقت الأمن.
    ٤، ٥ «٤ وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذٰلِكَ لَيْسَ لَـهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ. ٥ بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ ٱلَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَـهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هٰذَا خَافُوا!».
    إشعياء ٥١: ٧ و٨ و١٢ و١٣ وإرميا ١: ٨ ومتّى ١٠: ٢٨ ويوحنا ١٥: ١٤ و١٥
    راجع الشرح متّى ١٠: ٢٧.
    نتعلّم من هاتين الآيتين أن النفس تبقى حية بعد انفصالها عن الجسد. وأن قوة الناس على النفس تنتهي عند الموت. وكثيراً ما تعزّى الشهداء بهذا الكلام زمن الاضطهاد.
    يَا أَحِبَّائِي هذه أول مرة ذُكر خطاب المسيح لتلاميذه بهذه الكلمة بياناً لمحبته وثقته بهم. وكررها أيضاً في بشارة يوحنا ١٥: ١٣ - ١٥.
    ٱلَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ الخ هو الله وخوف الله يطرد خوف الناس من القلب.
    ٦، ٧ «٦ أَلَيْسَتْ خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا لَيْسَ مَنْسِيّاً أَمَامَ ٱللّٰهِ؟ ٧ بَلْ شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ أَيْضاً جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ! فَلاَ تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ!».
    راجع الشرح متّى ١٠: ٢٩ - ٣١.
    يظهر من هذا الكلام أن عناية الله تشمل الأمور الدقيقة وفي ذلك خير عزاء للمسيحي. وقد حقق المسيح لتلاميذه أن الله يعتني بهم عناية خاصة.
    خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ جاء في متّى «عصفوران يباعان بفلس» وهنا خمسة بفلسين حسب عادة البيع أنه على قدر زيادة المبيع يقل الثمن. وكل ذلك بيان لخسة قدر العصافير وعظمة عناية الله وشمولها.
    ٨، ٩ «٨ وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ ٱعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، يَعْتَرِفُ بِهِ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ. ٩ وَمَنْ أَنْكَرَنِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، يُنْكَرُ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ».
    متّى ١٠: ٣٢ ومرقس ٨: ٣٨ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ و١يوحنا ٢: ٢٣
    راجع الشرح متّى ١٠: ٣٢ و٣٣.
    جاء في بشارة متّى «قدام أبي الذي في السماوات» وهنا «قدام ملائكة الله» وكل من القولين يتضمن الآخر لأنه حيث الله في السماء فهنالك الملائكة وحيث الملائكة فهنالك الله.
    ١٠ «وَكُلُّ مَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَـهُ، وَأَمَّا مَنْ جَدَّفَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلاَ يُغْفَرُ لَـهُ».
    متّى ١٢: ٣١ و٣٢ ومرقس ٣: ٢٨ و٢٩ و١يوحنا ٥: ١٦
    انظر الشرح متّى ١٢: ٣١ و٣٢.
    ١١، ١٢ «١١ وَمَتَى قَدَّمُوكُمْ إِلَى ٱلْمَجَامِعِ وَٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَحْتَجُّونَ أَوْ بِمَا تَقُولُونَ، ١٢ لأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يُعَلِّمُكُمْ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا يَجِبُ أَنْ تَقُولُوهُ».
    متّى ١٠: ١٩ ومرقس ١٣: ١١ وص ٢١: ١٤
    انظر الشرح متّى ١٠: ١٧ - ٢٠.

    تحذير من الطمع ع ١٣ إلى ٢١


    ١٣ «وَقَالَ لَـهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ: يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي ٱلْمِيرَاثَ».
    وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ هو ليس بتلميذ لكنه أحد الحاضرين المهتمين بأمورهم الخاصة.
    يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي من البلادة أن يطلب الإنسان أموره الخاصة الدنيوية في أثناء الكلام على الروحيات بدون الاعتبار الواجب للمتكلم وللسامعين وللحقائق التي هي موضوع الخطاب. وقد أخطأ هذا السائل غاية المسيح من مجيئه وظنه أتى لكي ينشئ مملكة عالمية يمارس وظائف الحكام السياسيين ويصلح ما فسد من الشرائع السياسية وذلك خلاف تلك الغاية لأنه لم يأت المسيح للتعرض للأمور السياسية بل ليؤسس ملكوتاً روحياً ويحث الناس على اقتناء كنز في السماء وميراث أبدي.
    يُقَاسِمَنِي ٱلْمِيرَاثَ طريق قسمة الميراث بُنيت في شريعة موسى (تثنية ٢١: ٧). رأى هذا الرجل تأثير كلام المسيح في السامعين وشاء أن يستخدم ذلك التأثير في فصل الدعوة بينه وبين أخيه.
    ١٤ «فَقَالَ لَـهُ: يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟».
    خروج ٢: ١٤ ويوحنا ١٨: ٣٦
    مَنْ أَقَامَنِي الخ هذا استفهام إنكاري معناه أنه لم يقمه أحد قاضياً لا إنسان ولا الله. فلو حكم المسيح لذلك الرجل أو عليه لأقام نفسه مقام الحاكم السياسي وهو أبى ذلك على الدوام. نعم إن المسيح صرّح بأنه ملك إسرائيل لكنه بيّن أن ملكوته روحي (يوحنا ١٨: ٣٦). وهذا السبب الأعظم لرفضه ذلك الطلب. وكان لهذا سبب ثان دون ذاك وهو أنه لم يرد أن يترك حجة لأعدائه يشتكون بها عليه. وهذا كفعله في أمر الزانية (يوحنا ٨: ١١) وفي أمر إعطاء الجزية لقيصر (متّى ٢٢: ١٥). ولعلّ ذلك الإنسان كان آلة للفريسيين ليصطادوا المسيح بما يجيبه به. ومع أن المسيح أبى أن يتعرض لمثل ذلك الأمر علّم مبادئ إذا سلك الناس بمقتضاها بطلت الدعاوي وجرى العدل وأحب الإنسان غيره كنفسه.
    وسلوك المسيح في هذا الأمر مثال حسن لكل خدمة الدين ليعتزلوا التعرض لأن يكونوا حكاماً سياسيين. واختبار الكنيسة يبين صلاح ذلك المبدإ أي أن لا يكون رؤساء الدين حكاماً سياسيين. وهذا وفق نصيحة بولس لتيموثاوس (١تيموثاوس ٤: ١٣ و١٤). وليس في ذلك ما ينافي قول الرسول في رسالته الأولى إلى الكورنثيين (١كورنثوس ٦: ١ - ٨) لأن الرسول نصح هنالك التلاميذ أن يقضوا دعاويهم بتوسط بعضهم لبعض بالحسنى.
    ١٥ «وَقَالَ لَـهُمُ: ٱنْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ ٱلطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ».
    ١تيموثاوس ٦: ٧ الخ، متّى ٤: ٤
    تَحَفَّظُوا مِنَ ٱلطَّمَعِ الطمع شدة الرغبة في الخير الزمني وهو مخالف للوصية العاشرة (خروج ٢٠: ١٧) وعبادة للأوثان (كولوسي ٣: ٥). والأرجح أن المسيح رأى غاية ذلك السائل الطمع. والسائل نفسه أعلن ذلك بقطعه الحديث الروحي بطلبه الدنيوي. وعلى كل حال إنّ علّة الخلاف غالباً في قسمة الميراث هو الطمع الذي يحمل الواحد على أخذ أكثر من حقه والآخر على إباءته ما يحق له.
    حَيَاتُهُ ذهب بعضهم أن المقصود هنا حياة الجسد فيكون معنى الآية على ذلك أن المقتنيات مهما كانت كثيرة لا تتكفل بحياة صاحبها لأنها لا تحميه من الموت. فالغني مهما وفر غناه لا يعيش إلى الأبد. وذهب البعض أن معنى الحياة هنا السعادة التي تجعل الحياة محبوبة. فالله مصدر سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة لا مقتنياته. وكلا المعنيين مستقيم ومفيد لأن حياة الإنسان الجسدية متوقفة على إرادة الله لا على المال وسعادته هبة من الله فليست نتيجة ثروته. ولكن خاتمة الكلام في ع ٢١ تدل على أن المقصود بالحياة هو السعادة الأبدية القائمة بكون الإنسان «غنياً لله».
    مِنْ أَمْوَالِهِ لا بد من أن يترك كل إنسان أمواله عند الموت ولعله يضطر أن يتركها حالاً فلا يمكن أن تقوم سعادته الحقيقية بها بل بما يبقى له بعد الموت وإلى الأبد فالله وحده مصدر الحياة والسعادة.
    ١٦ «وَضَرَبَ لَـهُمْ مَثَلاً قَائِلاً: إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ».
    لم يذكر هذا المثل أحد من البشيرين غير لوقا. ولا إشارة إلى أن ذلك الغني كان ظالماً. ويظهر أنه حصل على غناه بالوسائط العادية الجائزة وأن نجاحه هبة من الله بواسطة خصب كورته. فلو أحسن التصرف بثروته لكانت بركة له.
    ١٧ «فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟».
    لم يحمله غناه على القناعة ولم يقه من عناء البال. فقصر اهتمامه على خزن أمواله وعزم على الاستعداد لزيادتها وهذا وفق قول الحكيم «مَنْ يُحِبُّ ٱلْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ ٱلْفِضَّةِ، وَمَنْ يُحِبُّ ٱلثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْلٍ» (جامعة ٥: ١٠). ووجه هذا الغني الخطاب إلى نفسه غير ملتفت إلى إرشاد الله. ولم يكترث بالإحسان إلى غيره مع أن أحسن الأمكنة لجمع أمواله بيوت فقراء الأرامل وأفواه جياع اليتامى فلو جمعها هنالك لكان كأنه جمعها في خزانة الله.
    ١٨، ١٩ «١٨ وَقَالَ: أَعْمَلُ هٰذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَّتِي وَخَيْرَاتِي، ١٩ وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَٱشْرَبِي وَٱفْرَحِي».
    جامعة ١١: ٩ و١كورنثوس ١٥: ٣٢ ويعقوب ٥: ٥
    خطئ هذا الإنسان بما أتاه (علاوة على ما أظهره به من غباوته) وذلك لستة أمور:

    • الأول: أنه لم يفتكر في الله الذي وهب له تلك الخيرات فأنكر بقوله «غلاتي وخيراتي» إن مصدرها الله وأنه ليس سوى وكيل في التصرف بها.
    • الثاني: أنه لم يبال بالفقراء وأظهر بقوله «أجمع في مخازني جميع غلاتي» إنه لم يقصد أن ينفق شيئاً منها على غيره. ولم يخطر على باله طريق من طرق التصرف بها سوى جمعها وبلعها.
    • الثالث: أنه ظن نفسه الخالدة المخلوقة على صورة الله تشبع من الأطعمة الجسدية وخاطب نفسه بقوله «يا نفس لكِ خيرات كثيرة... استريحي وكلي الخ» كأنها نفس بهيمة وكأن الأكل والشرب أفضل النعم.
    • الرابع: أنه لم يحسب حساب الموت وأظهر بقوله «خيرات موضوعة لسنين كثيرة» جهله احتمال أن يأتيه الموت في تلك الليلة عينها.
    • الخامس: أنه لم يبال بالأبدية بعد الموت ولم يكترث بحاجات نفسه فيها.
    • السادس: أن عاقبة الأمر أظهرت غباوته لأنه خسر نفسه وخسر السماء ولم يكن له أدنى شيء يعتاض به عن ذلك.


    ٢٠ «فَقَالَ لَـهُ ٱللّٰهُ: يَا غَبِيُّ، هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهٰذِهِ ٱلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟».
    أيوب ٢٠: ٢٢ و٢٧: ٨ ومزمور ٥٢: ٧ ويعقوب ٤: ١٤، مزمور ٣٩: ٦ وإرميا ١٧: ١١
    فَقَالَ لَـهُ ٱللّٰهُ إن ذلك الرجل لم يلتفت إلى الله لكن عدم التفاته إليه تعالى لم يمنع الله من أن يلتفت إليه. ولم نعلم كيف خاطبه الله أبصوت مسموع خاطبه أم برؤيا أم بإرسال ملاك الموت.
    يَا غَبِيُّ أي يا جاهل. ظن ذلك الإنسان أنه حكيم بإعداده الأهراء والمخازن لجمع غلاته ولعلّ جيرانه حسبوه بذلك حكيماً سعيداً لكن الله حسبه «غبياً» وهو نفسه تيقن ذلك عند حلول الأجل وفوات الفرصة لإصلاح الخطأ.
    هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ توقع ذلك الإنسان أن يحيا «سنين كثيرة» مع أن الساعات التي بقيت من حياته كانت أقل عدداً من السنين التي توقعها.
    تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ المؤمن يستودع الله نفسه اختياراً لاعتقاده أنّه صديقه وأبوه وأما غير المؤمن فالله يطلب منه نفسه إجباراً. وعد ذلك الإنسان نفسه بالراحة والفرح باللذات الجسدية بقوله لنفسه «كلي واشربي وافرحي» ولكن الله طلب حضورها أمامه للمحاكمة والقضاء.
    فَهٰذِهِ ٱلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ معنى هذا السؤال أن ذلك الإنسان لا يعرف لمن تكون. أتقسم على كثيرين أم يأخذها من يكره هو أن يرثه إنما يعرف أنه لا يبقى له حق فيها بعد موته دقيقة واحدة.
    والسؤال هنا كالسؤال في سفر الجامعة وهو قوله «فَكَرِهْتُ كُلَّ تَعَبِي ٱلَّذِي تَعِبْتُ فِيهِ تَحْتَ ٱلشَّمْسِ حَيْثُ أَتْرُكُهُ لِلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَكُونُ بَعْدِي. وَمَنْ يَعْلَمُ، هَلْ يَكُونُ حَكِيماً أَوْ جَاهِلاً» (جامعة ٢: ١٨ و١٩ قابل بهذا مزمور ٣٩: ٦).
    ٢١ «هٰكَذَا ٱلَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلّٰهِ».
    متّى ٦: ٢٠ وع ٣٣ و١تيموثاوس ٦: ١٧ إلى ١٩ ويعقوب ٢: ٥
    هٰكَذَا أي مثل هذا الغبي. وضع المسيح أمامنا أمرين أحدهما إنسان غني والآخر الموت لنتحقق جهل من يتكل على الثروة لأن كل غنى ذلك الرجل لم ينفعه شيئاً ساعة موته. فمثل هذا غير مستعد للأبدية المستقبلة وليس له شيء من الكنوز السماوية.
    يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ هذا وصف لكل إنسان دنيوي جعل نفسه أهلاً له وكنزه الأرضي نصيب تلك النفس الوحيد.
    وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلّٰهِ الذي يكنز لنفسه فقط بدون التفات إلى الله أو المحتاجين من إخوته البشر فهو فقير لله إذ ليس له ميراث عنده. وهذا لا يقتضي أن اقتناء المال شر بل أنه شر للذي ينفقه على نفسه ولا يسأل عن نصيب آخر.
    وأما الغني لله فهو الغني بالإيمان (يعقوب ٢: ٥) والغني بالإعمال الصالحة (ع ٣٣ ومتّى ٥: ٢٠ و١تيموثاوس ٦: ١٨). والغني بمحبة الله (رؤيا ٢: ٩ قابل ص ١٦: ١١ وأمثال ٨: ١٨ و١٩: ١٧).
    فكل إنسان إما يجمع لنفسه وإما يجمع لله ومن المحال أن يجمع للاثنين معاً فعليه أن يختار أحدهما فإن اختار الأول هلك هو وكنزه معاً وإن اختار الثاني كان غنى الله غناه إلى الأبد وإن كان فقيراً على الأرض.

    الاتكال على الله ع ٢٢ إلى ٣٤


    ٢٢ - ٣١ «٢٢ وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: مِنْ أَجْلِ هٰذَا أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَلاَ لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. ٢٣ اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ ٱللِّبَاسِ. ٢٤ تَأَمَّلُوا ٱلْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ، وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلاَ مَخْزَنٌ، وَٱللّٰهُ يُقِيتُهَا. كَمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ ٱلطُّيُورِ! ٢٥ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ ٢٦ فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ وَلاَ عَلَى ٱلأَصْغَرِ، فَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِٱلْبَوَاقِي؟ ٢٧ تَأَمَّلُوا ٱلزَّنَابِقَ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ، وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. ٢٨ فَإِنْ كَانَ ٱلْعُشْبُ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ فِي ٱلْحَقْلِ وَيُطْرَحُ غَداً فِي ٱلتَّنُّورِ يُلْبِسُهُ ٱللّٰهُ هٰكَذَا، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ؟ ٢٩ فَلاَ تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ تَقْلَقُوا، ٣٠ فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ ٱلْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ. ٣١ بَلِ ٱطْلُبُوا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ».
    متّى ٦: ٢٥، أيوب ٣٨: ٤١ ومزمور ١٤٧: ٩، متّى ٦: ٣٣
    سبق الكلام على ذلك الشرح متّى ٦: ٢٥ - ٣٣.
    مِنْ أَجْلِ هٰذَا (ع ٢٢) أي لما سبق من بيان أن الغنى الدنيوي قليل النفع لصاحبه وكثير التجربة له.
    لاَ تَهْتَمُّوا عدم الاهتمام بالحاجات الدنيوية هنا يقتضي الاتكال على الآب السماوي الذي يمنحها.
    ٱلْغِرْبَانَ جاء في متّى بدل ذلك «الطيور» ولكن الذي يصح هنا على الغربان يصح على سائر الطيور فاتخذها بدلاً من الكل كما جاء في سفر أيوب (أيوب ٣٨: ٤١ ومزمور ١٤٧: ٩).
    فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ الخ (ع ٢٦) لم يذكر هذه الآية سوى لوقا. ومعناه أن لا فائدة من الاهتمام إذ لا تزيد به الحياة شيئاً فالأجدر أنه لا يأتي بشيء من حاجات الحياة.
    لاَ تَقْلَقُوا (ع ٢٩) لم ينقل هذا سوى لوقا ومعناه لا تضطربوا أي لا تترددوا بين الخوف والرجاء.
    ٣٢ «لاَ تَخَفْ أَيُّهَا ٱلْقَطِيعُ ٱلصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ ٱلْمَلَكُوتَ».
    متّى ١١: ٢٥ و٢٦
    لاَ تَخَفْ من عدم ما يقوم بالاحتياجات الجسدية فمن كان الله له أباً وصديقاً لزم أن لا يخاف.
    ٱلْقَطِيعُ ٱلصَّغِيرُ شبّه المسيح تلاميذه بالخراف لأنه هو راعيهم الصالح (يوحنا ١٠: ١١) ونعت القطيع بالصغير لأن المشبهين به كانوا قليلين بالنسبة إلى الألوف والربوات الكثيرة من أهل هذا العالم وبالنسبة إلى كثرة أعدائهم. ولكن الله لا ينسى ذلك القطيع وإن كان صغيراً.
    لأَنَّ أَبَاكُمْ يعلن الله ذاته لمختاريه أبا لا مجرد ملك أو ديان فيجب أن هذا يزيل همومهم بالنظر إلى حاجاتهم الجسدية.
    أَنْ يُعْطِيَكُمُ ٱلْمَلَكُوتَ أي ملكوت السماء فمن المحال أن الله يسمح بأن ورثة غنى الملكوت السماوي يعوزهم وسائط هذه الحياة القصيرة لأن الأكبر يشتمل على الأصغر. فيجب أن التفكير في غناهم الروحي الدائم ينفي التفكير في فقرهم الجسدي الزائل.
    ٣٣ «بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لاَ تَفْنَى وَكَنْزاً لاَ يَنْفَدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، حَيْثُ لاَ يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلاَ يُبْلِي سُوسٌ».
    متّى ١٩: ٢١ وأعمال ٢: ٤٥ و٤: ٣٤، متّى ٦: ٢٠ وص ١٦: ٦ و١تيموثاوس ٩: ١٩
    انظر الشرح متّى ٦: ١٩ و٢٠.
    بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً يحتمل أن المسيح قصد إتمام هذا الأمر حقيقة لتلاميذه حين تركوا كل شيء واتبعوه ليبشروا بكلام الله. ويحتمل أنه قصد أن تلاميذه الأولين يفعلون ذلك في أول نشوء الدين المسيحي وهم فعلوا كذلك (أعمال ٢: ٤٤ و٤: ٣٢). ويحتمل أن تكون الأحوال اليوم موجبة ذلك. وعلى كل حال ذلك واجب علينا إذا أمرنا المسيح به حقيقة. ولكن الأرجح أن المسيح لم يقصد حقيقة إنما أراد أن نتصرف بمالنا الدنيوي في طريق نصل بها إلى الكنز الروحي لأن البيع كثيراً ما يكون بدل شيء بشيء فالذي يعطي الفقراء إكراماً ليسوع يبدل كنزه الأرضي بالكنز السماوي.
    نعم إنّ الخلاص هبة لا يمكن أن يُشترى بالصدقات لكن الإنسان البخيل الذي يحسب الغنى خيره الأعظم لا يقدر أن يدخل السماء. والسؤال هنا ليس عما يعمله الإنسان ليخلص بل ماذا يعمل الإنسان في حال الخلاص ليزيد سعادته في السماء.
    اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لاَ تَفْنَى هذا مجاز حقيقته الغنى الروحي الأبدي.
    ٣٤ «لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكُمْ أَيْضاً».
    انظر الشرح متّى ٦: ٢١.

    الحث على السهر ومثل السيد والعبد ع ٣٥ إلى ٤٠


    ٣٥ «لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً».
    متّى ٢٥: ١ الخ وأفسس ٦: ١٤ و١بطرس ١: ١٣
    أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً هذا مجاز معناه أن يكونوا مستعدين للعمل ناشطين فيه غير منهمكين في أمور هذا العالم فكما أن اللابس الثوب الطويل بلا منطقة غير متأهب لسفر أو مستعد للسفر السماوي أو الخدمة الإلهية وأما مشدود الحقوين فهو عازم على العمل وشارع فيه (٢ملوك ٤: ٢٩ و٩: ١ وإرميا ١: ١٧ وأعمال ١٢: ٨).
    وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً الإشارة هنا إلى عبيد يتوقعون رجوع سيدهم ليلاً. والمقصود من ذلك أن المسيح سيرجع بعد ذهابه عن تلاميذه إلى السماء. وسبق الكلام على مثل هذا في مثل العشر العذارى (متّى ٢٥: ١ - ١٣).
    وقصد المسيح بهذا القول أن يحث تلاميذه على أن يتوقعوا رجوعه دائماً وهم متيقظون غير مثقلين بالنوم الروحي. ولنا من ذلك وجوب أن نستعد أبداً للموت ولرجوع المسيح والاستعداد لأحد هذين الأمرين هو عين الاستعداد للثاني. والذي أوقد الروح القدس في قلبه سُرج الإيمان والرجاء والمحبة والطاعة لا يخشى ظلمات وادي ظل الموت.
    ٣٦ «وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجِعُ مِنَ ٱلْعُرْسِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَـهُ لِلْوَقْتِ».
    تختلف صورة هذا المثل عن صورة مثل العذارى لأن أولئك العذارى كن منتظرات مجيء العريس لكي يرافقن العروس إلى بيته والعبيد هنا كانوا ينتظرون رجوع سيدهم إليهم من العرس وهم في بيته. وهذا السيد إما العريس نفسه يرجع بالعروس ورفيقاتها من بيت أبيها وإما أحد أصحاب العريس حضر الوليمة وعاد.
    يَفْتَحُونَ لَـهُ لِلْوَقْتِ هذا إشارة إلى كونهم منتبهين ومستعدين.
    ٣٧ «طُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ ٱلَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ».
    متّى ٢٤: ٤٦
    أشار المسيح بهذا إلى إثابته تلاميذه الأمناء المتوقعين رجوعه. وأظهر السيد في المثل تنازلاً غريباً بأنه خدم عبيده. نعم إنّه جرت العادة أن يخدم رب البيت ضيوفه كما فعل إبراهيم وهو غير عالم أن ضيوفه ملائكة (تكوين ١٨: ٧ و٨) ولكن لم تجر العادة أن يخدم السيد عبيده. وأظهر لهم علاوة على ذلك التنازل اعتباراً وإكراماً ومحبة. وأتى سيدنا يسوع المسيح مثل هذه الخدمة بغسله أرجل تلاميذه (يوحنا ١٦: ٤ - ١٢). وأبان بهذا المثل ما قصد أن يفعله لخدامه الأمناء يوم عرسه السماوي. ولا نستطيع أن ندرك الآن كل ما تضمنه هذا التشبيه من الإكرام والسعادة لكننا نعلم أن سعادة المؤمنين تكون كاملة حتى كأن سيدهم نفسه خادمهم هناك. وهذا أمر لو طلبنا شيئاً مثله لكان من أغرب مطامع الطمع.
    ٣٨ «وَإِنْ أَتَى فِي ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّانِي أَوْ أَتَى فِي ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّالِثِ وَوَجَدَهُمْ هٰكَذَا، فَطُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ».
    ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّانِي أي الربع الثاني من الليل وقد سبق الكلام على أقسام الليل في الشرح (متّى ١٤: ٢٥).
    ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّالِثِ أي الربع الثالث من الليل وهو ثلاث ساعات بعد نصف الليل. ولم يذكر هنا الهزيع الأول لأنه لم يكن الوقت المناسب للعرس حسب العوائد ولم يذكر الهزيع الرابع لأن العرس ينتهي غالباً قبله. ويغلب أن يكون الناس عرضة للسبات في الهزيع الثاني والثالث خلافاً لتعرضهم في الأول والرابع.
    وَوَجَدَهُمْ هٰكَذَا أي ساهرين مستعدين متوقعين رجوعه.
    طُوبَى الخ كرر هذه العبارة لزيادة التقرير.
    ٣٩، ٤٠ «٣٩ وَإِنَّمَا ٱعْلَمُوا هٰذَا: أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي ٱلسَّارِقُ لَسَهِرَ، وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. ٤٠ فَكُونُوا أَنْتُمْ إِذاً مُسْتَعِدِّينَ، لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَان».
    متّى ٢٤: ٤٣ و١تسالونيكي ٥: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠ ورؤيا ٣: ٣ و١٦: ١٥، متّى ٢٤: ٤٤ و٢٥: ١٣ ومرقس ١٣: ٣٣ وص ٢١: ٣٤ و٣٦ و١تسالونيكي ٥: ٦ و٢بطرس ٣: ١٢
    علّم المسيح تلاميذه وجوب السهر بمثل آخر وهو مثل إنسان سُرق بيته لعدم سهره. وقد ضرب المسيح هذا المثل في وقت آخر. وقد سبق تفسيره في الشرح (متّى ٤٢: ٤٣ و٤٤). وقد جاء هذا التشبيه في سفر الرؤيا ٣: ٣ و١٦: ١٥.
    يَأْتِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ انظر الشرح مرقس ١٣: ٣٣.
    صرّح المسيح بهاتين الآيتين أنه لا يمكن تلاميذه أن يعرفوا وقت مجيئه الثاني. وترك الوقت مجهولاً ليكون تلاميذه مستعدين أبداً ليتوقعوا مجيئه ساعة فساعة.

    مثَل الوكيلين ع ٤١ إلى ٤٨


    ٤١ «فَقَالَ لَـهُ بُطْرُسُ: يَا رَبُّ، أَلَنَا تَقُولُ هٰذَا ٱلْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضاً؟».
    هٰذَا ٱلْمَثَلَ لعلّ بطرس عنى «بهذا المثل» كل ما ذكر بين الآية الثانية والثلاثين والآية الأربعين من التحاذير والوصايا والتشابيه والمواعيد وسماها كلها مثلاً لأن أكثر ألفاظها مجاز. أو لعله قصد مجرد ما قيل في الآية السابعة والثلاثين من خدمة السيد للعبد. وأراد بطرس ان يعرف هل هذا الكلام للتلاميذ فقط أو هو لكل الجمع.
    ٤٢ - ٤٦ «٤٢ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: فَمَنْ هُوَ ٱلْوَكِيلُ ٱلأَمِينُ ٱلْحَكِيمُ ٱلَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ ٱلْعُلُوفَةَ فِي حِينِهَا؟ ٤٣ طُوبَى لِذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ ٱلَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هٰكَذَا! ٤٤ بِٱلْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. ٤٥ وَلٰكِنْ إِنْ قَالَ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ ٱلْغِلْمَانَ وَٱلْجَوَارِيَ، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَرُ. ٤٦ يَأْتِي سَيِّدُ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا، فَيَقْطَعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ ٱلْخَائِنِين».
    متّى ٢٤: ٤٥ و٢٥: ٢١ و١كورنثوس ٤: ٢، متّى ٢٤: ٤٧، متّى ٢٤: ٤٨ الخ، متّى ٢٤: ٥١
    أتى المسيح بمثل هذا الكلام في غير هذا الوقت وغير هذه الأحوال وسبق تفسيره في الشرح (متّى ٢٤: ٤٥ - ٥١).
    فَقَالَ ٱلرَّبُّ لم يجب المسيح بطرس بالجواب الصريح بل بما يتضمن معناه وهو أن الوعد في ع ٣٧ لم يقصر على الاثني عشر فهو لكل وكيل أمين حكيم من تلاميذه.
    ٱلْوَكِيلُ كاليعازر في بيت إبراهيم وكيوسف في بيت فوطيفار.
    ويصح هذا اللقب على كل المسيحيين لأنهم استودعوا مواهب لا بد من أن يحاسبوا عليها فعليهم اليوم واجبات ولأمنائهم غداً ثواب عظيم لكنه يصح أكثر على خدمة الدين لأنهم يخدمون الكنيسة التي هي بيت الله (١كورنثوس ٤: ١) فكل ما قيل هنا يصدق على كل المسيحيين ولا سيما خدمة الدين.
    ٤٧، ٤٨ «٤٧ وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيراً. ٤٨ وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيراً يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ».
    عدد ١٥: ٣ وتثنية ٢٥: ٢ ويوحنا ٩: ٤١ و١٥: ٢٢ وأعمال ١٧: ٣٠ ويعقوب ٤: ١٧، لاويين ٥: ١٧ و١تيموثاوس ١: ١٣
    لم يذكر هذا إلا لوقا. أتى المسيح فيما سبق بما يتضمن الجواب عن سؤال بطرس في ع ٤١ وهو أن كل المؤمنين وكلاء وكلهم مأمورون بذلك وموعودون بالثواب عليه. وأتى في هذين العددين بما يتضمن أنه على المتوظفين في كنيسته المسؤولية العظمى وأن لهم الثواب الأعظم إذا كانوا أمناء والعقاب الأشد إذا كانوا خائنين.
    وصرّح المسيح هنا بمبدأ ديني وهو أن مسؤولية الإنسان على قدر معرفته وسمو رتبته ووسائطه وبمقتضى هذا المبدأ يدان في اليوم الأخير.
    ٱلَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ كالرسل والتلاميذ الذين سمعوا تعليم المسيح شفاهاً وكل من وصلهم كتاب الله.
    لاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ أي لا يتوقع قدوم سيده ولا يسهر ليعد له ما يلزم ولا يقوم بما أوجبه عليه.
    فَيُضْرَبُ كَثِيراً هذا مجاز مبني على نسبة السادة إلى العبيد في بيوتهم فإنهم يعاقبون الخائنين من عبيدهم بالضرب. وبالمعنى أن الخطأة الذين يخطئون على رغم ضمائرهم ونص كتاب الله يعاقبون عقاباً شديداً في هذا العالم أحياناً وفي العالم الآتي أبداً.
    ٱلَّذِي لاَ يَعْلَمُ لم يرد المسيح بهذا الذي يجهل إرادة الله كل الجهل بل الذي معرفته بالنسبة إلى معرفة المذكور آنفاً كلا شيء فإن معرفة الأول ليست بكاملة فكذلك جهالة الآخر. حتى أن للوثنيين شيئاً من معرفة إرادة الله بواسطة شهادة ضمائرهم وما كتبه الله من صفاته على صفحات الخليقة فليس لخاطئ من عذر (رومية ١: ١٩ و٢٠ و٣٢ و٢: ١٤ و١٥).
    يُضْرَبُ قَلِيلاً بالنسبة إلى العلماء وعلى قدر ما له من المعرفة. وعلّة عقابه ليست مخالفته لأوامر مجهولة بل لفعله ما يستحق عليه العقاب وهو مخالفة أنوار الضمير والطبيعة.
    ولنا من هذين العددين أن عقاب جهنم درجات كما أن الثواب في السماء أنواع. وهذا وفق ما قيل في (ص ١٠: ١٢ و١٣ و١كورنثوس ١٥: ٤١).
    كُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً الخ التعليم هنا مثل التعليم في مثل الوزنات (متّى ٢٥: ١٥ - ٢٩).

    إنباء المسيح بمقاومة العالم لدينه ص ٤٩ إلى ٥٣


    ٤٩ «جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى ٱلأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ ٱضْطَرَمَتْ؟».
    ع ٥١
    نَاراً النار في الكتاب المقدس عبارة عن ثلاثة أمور رمزية:

    • الأول: الرمز إلى تطهير المؤمنين (ملاخي ٣: ٢) بفعل الروح القدس (متّى ٣: ١١).
    • الثاني: الرمز إلى الغضب والهلاك (٢تسالونيكي ١: ٨ وعبرانيين ١٢: ٢٩).
    • الثالث: الرمز إلى الحروب والمقاومات (مزمور ٦٦: ١٢ وإشعياء ٤٣: ٢ و١بطرس ٤: ١٢) ونتيجته أمران اضطهاد المؤمنين وقتياً. وإبادة الشر أخيراً. والقرينة تدل على أن المعنى هنا الثالث وهي قوله «انقساماً» (ع ٥١) ونتيجته في ع ٥٢ و٥٣.


    قال المسيح أن النتيجة الأولى من دخول دينه هذا العالم المملوء ضلالاً وخطيئة هي مقاومة الأعداء لذلك الدين. فيكون كشعلة بين يابس الحطب لأنه يهيج على نفسه كل الانفعالات الطبيعية البشرية الفاسدة. على أن المسيح قصد بذلك الدين إصلاح العالم وإحراق ما فيه من فساد العقائد والأعمال. فاستعارته النار لتأثير دينه في العالم كاستعارته السيف له (متّى ١٠: ٣٤) وقد مرّ تفسيره في محله.
    وكل ما ذُكر هنا أول تأثير للدين المسيحي في العالم وأما النتيجة الأخيرة فهي تطهير العالم من الضلال والإثم؟
    كان المسيح على الصليب أول ما اتقدت نار الاضطهاد هذه وهو احتمل أشد لهبها. فوقع عليه بعض الأشعة من حرّها بمقاومة الفريسيين له كما ذكر في ص ١١: ٥٣ و٥٤ وأحاط به كل لهبها حين سلّمه رؤساء الكهنة إلى بيلاطس وأماتوه صلباً. ولم تزل بشارة المصلوب منذ يوم صُلب إلى اليوم كإلقاء النار على الأرض فكانت علّة الاضطهاد لتابعيه والإبادة للضلال.
    مَاذَا أُرِيدُ لَوِ ٱضْطَرَمَتْ نقول في هذا:

    • إن كلمات المسيح هذه تدل على شدة اشتياقه واضطراب أفكاره يومئذ. ومما يدل على ذلك أن كلامه هنا متقطع. ومثله ما جاء في ع ٢٧ و٢٨ من ص ١٢ من إنجيل يوحنا.
    • إن معنى المسيح أوضح مما هو في الألفاظ المعبّر بها عنه. وبيان ذلك أن «لو» إما مصدرية فتكون هي وصلتها مفعول به لمحذوف والتقدير «أريد اضطرامها» وهو جواب قوله «ماذا أريد». وإما حرف تمنٍ فيكون المعنى «ليتها اضطرمت». وإما شرطية والجواب محذوف فيكون المعنى «إن اضطرمت فاضطرامها هو مطلوبي فدعوها متقدة وإن كنت أول محترق في لهبها».
    • إن يسوع علّم أن إنجيله لا يدخل العالم إلا بأن يحتمل هو أشد الآلام فنفرت طبيعته البشرية من ذلك الألم ولكن لأنه هو الوسيلة الوحيدة لإتمام عمل الفداء اشتاق إلى توقد نيرانه حتى صعب عليه أن يصبر إلى أن تتقد. فكان تردده بين هذين الأمرين من اضطراب أفكاره.
    • إنه علّم أيضاً أن إنجيله لا يدخل العالم إلا بأن يكون علّة مقاومة لتلاميذه وانقسام واضطهاد وقتل وأن عاقبة ذلك كله انتصار الحق وإبادة الضلال وتطهير العالم من دنس الخطية. فكان من علل اضطراب أفكاره تردده بين الحزن على تلاميذه والفرح بنتيجة آلامهم.
      ذهب بعضهم إلى استحالة كون النار هنا رمزاً إلى الانقاسامات والاضطهادات لأنهم لم يستطيعوا تصور أن المسيح يفرح بها ويشتاق إليها لكن فرحه بذلك كمسرة بولس في ضيقاته (٢كورنثوس ٧: ٤).
    • إنه علّم أيضاً أن دخول إنجيله يكون علّة إيقاد نيران الحروب والنوازل في العالم وأن لا خلاص ولا انتصار ولا تطهير كامل إلا بها فلذلك اشتاق إلى اضطرامها.


    ٥٠ «وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟».
    متّى ٢٠: ٢٢ ومرقس ١٠: ٣٨
    صِبْغَةٌ أشار المسيح بهذه الصبغة إلى آلامه وموته كما جاء في بشارة (متّى ٢٠: ٢٢). فعلى الكنيسة الآن أن تشارك المسيح في صبغة الآلام.
    وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ أي أنا بين أمرين متضادين أريد كلاً منهما. فهذه الحال كحال بولس المذكور في رسالته إلى أهل (فيلبي ١: ٢٣). فإن يسوع كان يشتهي أن يكمل عمل الفداء بموته من أجل الخطاة وكانت طبيعته البشرية تنفر من الآلام التي يقتضيها إيفاؤه الدين عن العالم. وهذا المعنى يقرب من معنى الآية السابقة. وانفعالات المسيح هنا كانفعالاته في بستان جثسيماني. والذي عبّر عنه بالصبغة هنا عبّر عنه بالكأس هناك (ص ٢٢: ٤٢ ويوحنا ١٢: ٢٧).
    ٥١ - ٥٣ «٥١ أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى ٱلأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ ٱنْقِسَاماً. ٥٢ لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ ٱلآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى ٱثْنَيْنِ وَٱثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. ٥٣ يَنْقَسِمُ ٱلأَبُ عَلَى ٱلابْنِ وَٱلابْنُ عَلَى ٱلأَبِ، وَٱلأُمُّ عَلَى ٱلْبِنْتِ وَٱلْبِنْتُ عَلَى ٱلأُمِّ، وَٱلْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَٱلْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا».
    متّى ١٠: ٣٤ وع ٤٩، ميخا ٧: ٦ ويوحنا ٧: ٤٣ و٩: ١٦ و١٠: ١٩، متّى ١٠: ٣٥
    معنى الكلام هنا كمعنى الكلام في بشارة متّى ١٠: ٣٤ - ٣٦ فارجع إلى الشرح هناك.
    أَتَظُنُّونَ الخ سأل يسوع تلاميذه ذلك ليزيل من أفكارهم توقع انتصار ملكوت المسيح المجيد بدون المقاومة والآلام فكأنه قال لا تظنوا الخ.

    توبيخ المسيح الناس على عدم تمييزهم الوقت ع ٥٤ إلى ٥٩


    ٥٤ - ٥٧ «٥٤ ثُمَّ قَالَ أَيْضاً لِلْجُمُوعِ: إِذَا رَأَيْتُمُ ٱلسَّحَابَ تَطْلُعُ مِنَ ٱلْمَغَارِبِ فَلِلْوَقْتِ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَأْتِي مَطَرٌ. فَيَكُونُ هٰكَذَا. ٥٥ وَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحَ ٱلْجَنُوبِ تَهُبُّ تَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ. فَيَكُونُ. ٥٦ يَا مُرَاؤُونَ، تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاءِ، وَأَمَّا هٰذَا ٱلزَّمَانُ فَكَيْفَ لاَ تُمَيِّزُونَهُ؟ ٥٧ وَلِمَاذَا لاَ تَحْكُمُونَ بِٱلْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ؟».
    متّى ١٦: ٢
    قد مرّ تفسير هذه الآيات في الشرح (متّى ١٦: ٢ و٣) وذكر متّى أن المسيح خاطب بذلك الكتبة والفريسيين وذكر لوقا أنه خاطب به الناس الذين اقتدوا بهم لكن الوقت في رواية متّى غير الوقت في رواية لوقا. وذكر متّى بعض الآثار الجوية على أسلوب لم يأته لوقا وأبان أن حمرة السماء مساءً علامة الصحو وأبان لوقا أن نشوء السحاب من المغرب علامة مطر وهبوب ريح الجنوب علامة حرٍ وذلك مثل ما جاء في سفر الملوك الأول (١٨: ٤٤) ونبوءة إرميا (٤: ١١).
    يَا مُرَاؤُونَ (ع ٥٦) دعاهم مرائين لأنهم لم يحبوا الحق ولم يبحثوا عنه ولم يميزوه مع ادعائهم أنهم أصحاب الحق.
    تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ ٱلأَرْضِ لعلّ اليهود اعتادوا تمييز علامات كل من الصحو والمطر بمراقبة قدر الندى على الأرض ومراقبة أوراق النبات فكانوا حكماء في تمييز علامات المطر والحر وجهلاء في تمييز البراهين على أن المسيح قد أتى وهو قائم في وسطهم.
    أَمَّا هٰذَا ٱلزَّمَانُ أي زمان مجيء المسيح وعلامات ذلك التي كان عليهم أن يميزوها إتمامه النبوءات المتعلقة به ومجيء يوحنا المعمدان سابقه والمعجزات التي فعلها والتعاليم التي أتى بها.
    ٱلْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ (ع ٥٧) أي بمقتضى شهادة عقولكم وضمائركم غير ملتفتين إلى قضاتكم الخادعين الذين منعوكم من الحكم الصحيح في شأن علامات زمان المسيح. «والحق» هنا أن ملكوت المسيح أتى ودعواه أنه المسيح حقة.
    ٥٨، ٥٩ «٥٨ حِينَمَا تَذْهَبُ مَعَ خَصْمِكَ إِلَى ٱلْحَاكِمِ، ٱبْذُلِ ٱلْجَهْدَ وَأَنْتَ فِي ٱلطَّرِيقِ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ، لِئَلاَّ يَجُرَّكَ إِلَى ٱلْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ ٱلْقَاضِي إِلَى ٱلْحَاكِمِ، فَيُلْقِيَكَ ٱلْحَاكِمُ فِي ٱلسِّجْنِ. ٥٩ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ ٱلْفَلْسَ ٱلأَخِيرَ».
    مزمور ٣٢: ٦ وأمثال ٢٥: ٨ وإشعياء ٥٥: ٦ ومتّى ٥: ٢٥، مرقس ١٢: ٤٢ وص ٢١: ٢
    تكلم المسيح بهذا الكلام أيضاً في وعظه على الجبل فراجع الشرح هناك (متّى ٥: ٢٥). ومعناه وجوب تجنب رفع الدعاوي إلى الحكومة على قدر الإمكان لأنها علّة القلق والاضطراب والنفقات وتعرض الإنسان لخطر السجن فلذلك يجب أن يصالح الإنسان خصمه قبل أن تُرفع الدعوة إلى القاضي ويبتّ الحكم.
    والعلاقة بين هاتين الآيتين وما قبلهما غير واضحة. ظن البعض أنهما من متعلقات قسمة الميراث التي ذكر في ص ١٢: ١٣ وكانت علّة قسم كبير من هذا الخطاب. ولا دليل على أن الكلام هنا مجاز. ولكن إذا أراد أحد أن يتخذه مجازاً رأى المعنى أنه من أحسن الحكمة أن يتصالح الإنسان مع الله بالتوبة والإيمان قبل فوات الوقت وحلول النقمة على الأمم والأفراد. وعلى هذا يكون الله هو القاضي والحاكم معاً.

    الأصحاح الثالث عشر


    قتل الجليليين ع ١ إلى ٥


    ١ «وَكَانَ حَاضِراً فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ ٱلْجَلِيلِيِّينَ ٱلَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ».
    فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي وقت الخطاب الذي ذُكر في ص ١٢.
    ٱلْجَلِيلِيِّينَ هم سكان القسم الشمالي من الأقسام الثلاثة التي قسمت فلسطين إليها (وهي الجليل والسامرة واليهودية) وكانوا تحت حكم هيرودس لا حكم بيلاطس وكانوا أقل تمدناً من سائر سكان فلسطين وأقل خضوعاً لنير الرومانيين وكثيري الفتن.
    خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ كان يبلاطس وقتئذ والي اليهودية وكان قاسياً ظالماً يحب سفك الدم فالظاهر أنه أرسل عساكره إلى الجليليين بغتة وهم يقدّمون ذبائحهم في دار الهيكل في أورشليم. ولعلهم كانوا فعلوا شيئاً في المدينة هيّج غضب بيلاطس.
    ولم يذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي هذا القتل لكن ذلك لا ينفي الواقع لأن مثل هذه الحوادث أو ما هو أعظم منها كان كثير الوقوع في أيام بيلاطس ولكن ذكر يوسيفوس أن الجليليين كانوا أشراراً جداً وكثيري الميل إلى الفتن. ولم يتضح سبب إخبار الحاضرين يسوع بهذه الحادثة. ولعلّ ذلك جدّة الحادثة ورغبة الناس في إشاعة الأخبار ليظهروا انفعالاتهم ويهيجوا عداوة غيرهم على الظالم.
    ٢ «فَقَالَ يَسُوعُ لَـهُمْ: أَتَظُنُّونَ أَنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ ٱلْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هٰذَا؟».
    تكوين ٤٣: ٢١ وأعمال ٢٨: ٤
    سألهم المسيح ذلك إصلاحاً لخطائهم بالحكم من ثلاثة أوجه:

    • الأول: ظنهم اولئك الجليليين شراً من غيرهم لأن الله سمح بوقوع تلك النازلة عليهم وهي شر من الموت الطبيعي.
    • الثاني: استنتاجهم ذلك أيضاً من أن الجليليين قُتلوا وهم يقدّمون الذبائح التي غايتها إرضاء الله. وحكمهم بأن سماح الله بقتلهم حينئذ علامة رفضه تعالى إلى تقدماتهم لفظاعة آثامهم.
    • الثالث: كونهم بنوا حكمهم على خطإ كان شائعاً بين عامة اليهود وهو أن كل نازلة عقاب إثم معيّن. وذلك كحكم أصحاب أيوب عليه. وحكم أهل مليطة على بولس (أعمال ٢٨: ٤). ويتفرع على هذا الحكم الباطل خطاءٌ آخر وهو أن الذي لا يموت كذلك هو بار.


    ٣ «كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ».
    كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ نستفيد من هذا الجواب ثلاثة أمور:

    • الأول: أن المسيح لم ينكر أنهم خطاة وأنهم مستحقون العقاب وأن بين الخطية والمصيبة علاقة العلّة بالمعلول لكل بني البشر ولم ينكر أن الإنسان قد يعاقب على بعض الخطايا في هذه الحياة.
    • الثاني: أنه أنكر كون هؤلاء الجليليين وحدهم خطأة وأن تلك النازلة برهان على ذلك وأنها أتت عليهم لإثم خاص وفقاً لاعتقاد العامة يومئذ.
    • الثالث: أنه أنكر النتيجة التي استنتجوها (اي المخاطبون) وهي أنهم ليسوا بمذنبين لأنه لم يقع عليهم مثل تلك النازلة.


    إِنْ لَمْ تَتُوبُوا حول المسيح أفكارهم عن ذنوب غيرهم إلى ذنوب أنفسهم وحكم بأن جميع الجليليين الذين قُتلوا والمخاطبين مذنبون ومستحقون الهلاك وأن الطريق التي تؤدي إلى النجاة للأحياء هي التوبة سريعاً.
    فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ الهلاك المقصود هنا إما بيد الرومانيين كما جرى بعد ذلك بنحو أربعين سنة حين أُخرجت مدينتهم وإما بسيف عدل الله. وفحوى كل ما مرّ إصلاح خطإ اليهود بحكمهم بأن المصائب نتيجة ضرورية لخطايا خاصة وتحذير لأمة اليهود من دينونة الله المعدة لها وحثها على التوبة في الحال. وفي هذا إنباء لكل خطاة الأرض غير التائبين بالهلاك الآتي عليهم الذي كان قتل الجليليين رمزاً إليه.
    ٤، ٥ «٤ أَوْ أُولَئِكَ ٱلثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ٱلَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ ٱلْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَـهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هٰؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ ٥ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ».
    نحميا ٣: ١٥ ويوحنا ٩: ٧
    أُولَئِكَ ٱلثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ذكر المسيح نازلة أخرى كالأولى والأرجح أنها كانت حديثة العهد مشهورة لكل الحاضرين وأنهم قد استحقوا منها مثل الذي استنتجوه من قتل الجليليين (ع ٢).
    ٱلْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ عين سلوام أو بركة سلوام (يوحنا ٩: ٧) خارج سور أورشليم في جهة الجنوب الشرقي والبرج المذكور هنا إما بناء مستقل قرب العين وإما بناء على السور فوق البركة وكذلك سُمي برج سلوام (نحميا ٣: ١٥).
    أَتَظُنُّونَ الخ لعلّ السبب الذي حمل المسيح على ذكر هذه الحادثة مع تلك أن الذين قُتلوا فيها ليسوا جليليين وأن الله قتلهم بلا توسط الناس. ومضمون كلام المسيح هنا أن النوازل تصيب اليهود والجليليين وسائر الناس على السواء. وأنها سواء كانت من الله رأساً أو بواسطة الناس ليست بدليل على أن المصابين بها شر من غيرهم. وأن الموت الزمني رمز إلى الموت الروحي. وأن كل نازلة إنذار بالهلاك المعد للباقين إن لم يهربوا منه بواسطة التوبة. وهذا قصد المسيح الأعظم من هذا المثل فيجب علينا أن نحسب كل المجاعات والأوبئة والزلازل والطوفان والزوابع دواعي للناس إلى التوبة.
    ولم يقصد المسيح فكره وقتئذ على برج واحد من أبراج أورشليم يسقط على ثمانية عشر رجلاً من اليهود بل رأى بعين النبوءة كل أسوار تلك المدينة وهياكلها وقصورها وبيوتها ساقطة معاً على ألوف وربوات من الشعب فلذلك حذر اليهود وحثهم على التوبة.
    ونظر أيضاً حوادث يوم الدين والهلاك الذي يقع على عالم الخطاة ولذلك رفع صوته بإنذارهم وحثهم على التوبة. وهذا أنذار وحث لنا أيضاً.

    مثل التينة العقيم ع ٦ إلى ٩


    ٦ «وَقَالَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ، فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً وَلَمْ يَجِدْ».
    إشعياء ٥: ٢ ومتّى ٢١: ١٩
    ضرب المسيح هذا المثل بعد أن دعا الناس إلى التوبة بياناً أن إبطاء الله في إجراء الدينونة على الخطأة إنما هو ليعطيهم فرصة للتوبة وأنهم إن لم يتوبوا عوقبوا لا محالة.
    لِوَاحِدٍ أشار بهذا الواحد إلى الله.
    شَجَرَةُ تِينٍ ... فِي كَرْمِهِ قصد المسيح بهذه الشجرة الأمة اليهودية لأنه جعل لها أفضل الوسائط لكي تأتي بأثمار البرّ لمجده تعالى.
    أَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً أشار بذلك إلى أن الله طلب من إسرائيل في كل العصور الخالية أثمار المحبة والإيمان والطاعة التي له حق أن ينتظرها.
    وَلَمْ يَجِدْ كان عقم شجرة التين إشارة إلى إثم الأمة اليهودية وكان يؤنبهم على ذلك بفم أنبيائه على توالي الأزمنة (إشعياء ٥: ٢ و٧ وإرميا ص ١٥ وهوشع ١٠: ١).
    ٧ «فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هٰذِهِ ٱلتِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ ٱلأَرْضَ أَيْضاً؟».
    تكوين ٦: ٣ ويوحنا ١٤: ١٦ وورمية ٨: ٢٦ و٢٧
    هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ هذا وقت طويل بالنسبة إلى عمر شجرة تين وهو كاف لامتحان الشجرة ليتبين أمثمرة هي أم عقيم. والقصد من ذلك أن الله أعطى شعبه فرصة كافية لكي يرى هل يطيعون وصاياه أو لا. وليس في عدد السنين هنا من إشارة إلى عدد سني وعظ المسيح وإلا وجب أن يكون خراب أورشليم بعد ذلك بسنة واحدة ولكن ذلك لم يقع إلا بعد أربعين سنة.
    اِقْطَعْهَا يظهر لنا أن قضاء صاحب الكرم بقطعها مما يتوقع طبعاً في مثل تلك الأحوال. ومن الحق والعدل أن يجري الله رب الشريعة الديان مثل هذا القضاء على شعب غير طائع لأوامره.
    لِمَاذَا تُبَطِّلُ ٱلأَرْضَ هذا علّة قطعها فإنها لا تنفع شيئاً وتشغل محل شجرة أخرى مثمرة وتأخذ بعض قوة الأرض عبثاً. كذا كانت أمة اليهود أي أنها كانت غير نافعة بل مضرة لأنها أغاظت الله وعصت أوامره وكانت عثرة لغيرها فصدق عليها قول الرسول «لأَنَّ ٱسْمَ ٱللّٰهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ» رومية ٢: ٢٤). وكذلك كل إنسان لا يأتي بثمر البرّ لأنه علاوة على عدم نفعه مضرّ بكونه عثرة لغيره في سبيل الخلاص.
    ٨ «فَأَجَابَ: يَا سَيِّدُ، ٱتْرُكْهَا هٰذِهِ ٱلسَّنَةَ أَيْضاً، حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً».
    فَأَجَابَ أي الكرام. ويراد به هنا الرب يسوع المسيح الوسيط العظيم الوحيد بين الله والناس (أيوب ٣٣: ٢٣ وزكريا ١: ١٢ وعبرانيين ٧: ٢٥).
    ٱتْرُكْهَا هٰذِهِ ٱلسَّنَةَ أَيْضاً لم يرد أن تترك الشجرة في عقم دائم بل أن تمهل ليسعى في إصلاحها.
    أَنْقُبَ حَوْلَهَا الخ أي أستعمل كل الوسائط المناسبة لتغذية الشجرة وتنشيطها. وكذا لم يطلب المسيح من الآب أن يترك الإسرائيليين في عصيانهم وإثمهم بل أن يمهلهم مدة قبل إجراء القضاء وهو يستعمل كل وسائط النعمة لعلهم يتوبون ويأتون بأثمار تليق بالتوبة. وتلك الوسائط هو موته للفداء وقيامته وحلول الروح القدس وتعاليم رسله والمعجزات التي أتوها لإثبات مرسليتهم.
    ٩ «فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً، وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا».
    هذا هو مطلوب صاحب الكرم والكرام كليهما فإن حصل سلمت الشجرة. وما يصح على الشجرة يصح على اليهود فلم يقل المسيح لهم أعلم أنكم لا تتوبون وأنه لا بد من أن تهلكوا لكنه بهذا الكلام ترك لهم باب النجاة مفتوحاً يدخلونه بالتوبة. وهذا يعلّمنا أن طول أناة الله إنما هو لإعطاء فرصة للتوبة واكتساب الخلاص (٢بطرس ٣: ١٥). وعلّة تأخير الله ليوم الدين رحمة الله وشفاعة يسوع. والغاية من عفو الله عن الخطاة الآن إنما هو توقيف الدينونة وقتاً.
    وَإِلاَّ... تَقْطَعُهَا كما تستحق على عقمها. وأشار المسيح بهذا الكلام إلى أن هلاك إسرائيل لا ريب فيه إن بقي في عصيانه وأن ذلك عقاب عال وأن المسيح يسلم بأنه حق. وقد أتى ذلك بعد أربعين سنة من إنذار المسيح بأن هُدمت أورشليم وخربت اليهودية كلها. وما صدق في هذا المثل على الأمة اليهودية يصدق على كل الناس الذين نحن من جملتهم. فكل من يسمعون الإنجيل ولا يسيرون بمقتضاه هم أشجار تين بلا ثمر في كرم الله.
    ولنا هنا ثلاثة أمور ذات شأن:

    • الأول: أنه على الناس في البلاد المسيحية أن يأتوا بأثمار البرّ لمجده تعالى أكثر مما كان على اليهود قديماً لأن للمسيحيين وسائط دينية كثيرة لم تكن لأولئك.
    • الثاني: إن الخطر الشديد مشرف على كل الذين حصلوا على وسائط النعمة وبقوا بلا ثمر. وأن من الجهالة أن يعيش الناس لأنفسهم لا لله ويظنون أنه لا يلتفت إلى ذلك لأن توقيف الدينونة ليس بعفو دائم ولعلّ «سنة» العفو قد قربت من النهاية.
    • الثالث: نتعلّم من هذا عظمة الدين الذي علينا لحلم الله وشفاعة المسيح فلولاهما هلك العالم بأسره منذ أزمان.



    شفاء المرأة المنحنية في يوم السبت ع ١٠ إلى ١٧


    ١٠ «وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ ٱلْمَجَامِعِ فِي ٱلسَّبْتِ».
    فِي أَحَدِ ٱلْمَجَامِعِ كان لليهود هيكل واحد في أورشليم لكنه كان لهم مجامع في كل مكان في بلادهم (انظر الشرح متّى ٤: ٢٣) وكان المسيح لا يفتأ ينتهز الفرصة ليخاطب الشعب المجتمع يوم السبت ويعلّمهم ما يتعلق بملكوته إن لم يمنعه من ذلك بعض الرؤساء والكهنة. وكان من عادة اليهود بعد قراءة الناموس أن يدعو رئيس المجمع من حضر من معلمي الدين إلى الخطاب (أعمال ١٣: ١٥).
    ١١ «وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ ٱلْبَتَّةَ».
    ع ١٦
    ٱمْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ لو لم يكن لنا سوى ما في هذا العدد من نبإ تلك المرأة لحكمنا بأنه أصابها مرض أضعفها ثم حناها وأيبس عضلات ظهرها وتقوست سلسلتها الفقرية فمنعتها من الانتصاب. ولكن يتبين لنا مما قيل في ع ١٦ أن علّة مصابها شيء آخر غير المرض وهو فعل الشيطان.
    ١٢ «فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: يَا ٱمْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضَعْفِكِ».
    دَعَاهَا من تلقاء نفسه لا إجابة لطلبها. ولعله رأى حضورها المجمع وقتئذ علامة أنها توقعت حضوره هناك والتفاته إليها بالشفاء. ولا بد من ان رئيس المجمع رأى ذلك فوبخها كما تبين من ع ١٤. ونداء المسيح لتلك المرأة أنشأ فيها الرجاء والعزاء والإيمان بأنه يشفيها.
    يَا ٱمْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ أي من قيود المرض الجسدي ومن سلطة إبليس. كلام المسيح هو كلام الله الذي «قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ» (مزمور ٣٣: ٩). وغاية المسيح من قوله للمرأة هنا كغايته من قوله لذي اليد اليابسة «مد يدك» (متّى ١٢: ٩) فكأنه قال لها انتصبي.
    ١٣ «وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ، فَفِي ٱلْحَالِ ٱسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ ٱللّٰهَ».
    مرقس ١٦: ١٨ وأعمال ٩: ١٧
    وَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ يجب أن نفهم أن فعل المسيح هنا وقوله السابق للمرأة كانا في وقت واحد وغايته تقوية إيمانها وبيان أنه هو الذي يحل بقوته قيود المرض وربط الشياطين.
    كان من عادة المسيح أن يُخرج الشياطين من الناس بكلمة بلا وضع يد فمخالفته للعادة هنا دليل على أن حال المرأة كانت مختلفة عن حال غيرها ممن دخلتهم الشياطين.
    فِي ٱلْحَالِ ٱسْتَقَامَتْ آمنت وأخذت تنتصب وقوّاها المسيح على ذلك.
    مَجَّدَتِ ٱللّٰهَ مجدته بإقرارها أن يسوع شفاها وأنه هو المسيح. وفي ذلك الشفاء أعظم بيان لشفقة المسيح وقوّته.
    ١٤ «فَرَئِيسُ ٱلْمَجْمَعِ، وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي ٱلسَّبْتِ، قَالَ لِلْجَمْعِ: هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا ٱلْعَمَلُ، فَفِي هٰذِهِ ٱئْتُوا وَٱسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ».
    خروج ٢٠: ٩، متّى ١٢: ١٠ ومرقس ٣: ٢ وص ٦: ٧ و١٤: ٣
    وَهُوَ مُغْتَاظٌ أي الرئيس ومعظم علّة غيظه تمجيد يسوع كالمسيح. وهذا مثل ما في بشارة متّى (٢١: ١٥ و١٦) واغتاظ أيضاً لما صار بذلك الشفاء من الاستخفاف بتقاليد الشيوخ وأوامرهم في شأن حفظ السبت. فهو لم يود فعل الخير إلا في الطريق التي استحسنها هو. فلو حكم بالصواب لرأى أن الذي يفعل مثل تلك المعجزة لا يمكن أن يتعدى شريعة الله.
    سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا ٱلْعَمَلُ هذا حق لكن الشفاء ليس من الأعمال المختصة بتلك الأيام. وادعى الرئيس بهذا القول أن المسيح أتى عملاً عادياً كسائر الأطباء. وتوجيهه كلامه إلى الناس دون يسوع في غير محله لأنهم لم يفعلوا شيئاً. وإن كان قصد المرأة بلومه كان لها أن تجيب بقولها إني لم أطلب إلى يسوع الشفاء. ولكنه قصد خطاب المسيح ووجه الكلام إلى غيره حياء منه وخوفاً من قوته.
    ١٥ «فَأَجَابَهُ ٱلرَّبُّ: يَا مُرَائِي، أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ ٱلْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟».
    ص ١٤: ٥
    فَأَجَابَهُ ٱلرَّبُّ علم المسيح أن الرئيس قصد لومه بلومه للجمع فأجابه على ذلك.
    يَا مُرَائِي أظهر الرئيس رياءه بأنه ادعى الغيرة لحفظ يوم السبت ولكن لم يحركه إلى ذلك سوى الحسد والبغض. ولولا الرياء ما حكم بما خالف مقتضى الحق والرحمة التي اعتادها الناس في مثل تلك الحال. وأعلن رياءه أيضاً بتوبيخه الشعب الذي شاهد المعجزة وهو يقصد توبيخ صانعها. وبلومه المسيح على ما صنعه للمرأة وهو مما يباح صنعه للبهائم في السبت. وبسوء تفسيره لشريعة الله لأنه اعتبر حل قيود الشيطان عن النفس والجسد تعدياً لتلك الشريعة وفعل الرحمة في يوم السبت تنجسياً لذلك اليوم.
    أَلاَ يَحُلُّ الخ بيّن المسيح بهذا الدليل أنه لم يخالف وصية السبت لأن مفسري الشريعة المدققين صرّحوا بأن العمل المذكور لا شيء فيه من المخالفة للشريعة مع أن حل البهيمة وأخذها إلى الماء يشغل وقتاً وتعباً كان جائزاً يوم السبت لأنهما من أعمال الرحمة الضرورية.
    ١٦ «وَهٰذِهِ، وَهِيَ ٱبْنَةُ إِبْرَاهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا ٱلشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هٰذَا ٱلرِّبَاطِ فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟».
    ص ١٩: ٩
    وَهٰذِهِ أبان المسيح أن الضرورة هنا أعظم والرحمة أولى لثلاثة أسباب:

    • الأولى: أن المحسن إليه امرأة لا بهيمة.
    • الثانية: أن تلك المرأة كانت ابنة إبراهيم أي يهودية ولذلك كانت من أحباء الله الأخصاء حسب اعتقاد الرؤساء أنفسهم ومستحقة الرحمة.
    • الثالثة: أنّ الشيطان كان قد ربطها ثماني عشرة سنة بقيود ضارة كل الضرر للجسد والروح وأما البهيمة فيربطها الإنسان ليلة واحدة ولو بقيت مربوطة ما تألمت إلا قليلاً بالعطش.


    رَبَطَهَا ٱلشَّيْطَانُ لا نستطيع إدراك معنى هذه العبارة إدراكاً تاماً لكن نعلم أن الشيطان لم يتسلط عليها إلا بإذن الله. ويظهر أن أمرها كان كأمر أيوب (أيوب ١: ١٢ و٢: ٦ و٧). ولعلّ أمرها كان كأمر الذين أشار إليهم بولس بقوله «أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هٰذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ ٱلْجَسَدِ الخ» (١كورنثوس ٥: ٥). وقوله «مِنْهُمْ هِيمِينَايُسُ وَٱلإِسْكَنْدَرُ، ٱللَّذَانِ أَسْلَمْتُهُمَا لِلشَّيْطَانِ لِكَيْ يُؤَدَّبَا» (١تيموثاوس ١: ٢٠). ونرى أن للإنسان قوة على أن يضر غيره من الناس كل حياته بأن يجعله سكيراً أو لصاً أو قاتلاً فلا عجب من أن الشيطان يتسلط على تلك المرأة مدة من حياتها لإضرارها. وإذا اعتبرنا أن كل مرض مثل الموت (رومية ٥: ١٢) من نتائج الخطية وعبودية نسل آدم للشيطان فيجوز أن ننسب المرض إلى مصدره الأصلي. وليس في كلام المسيح هنا ما يبطل الوصية الرابعة أو يحط شأنها إنما هو بيان طريق الصواب إلى حفظها.
    ١٧ «وَإِذْ قَالَ هٰذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ ٱلْجَمْعِ بِجَمِيعِ ٱلأَعْمَالِ ٱلْمَجِيدَةِ ٱلْكَائِنَةِ مِنْهُ».
    جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ هذا يبين لنا أن رئيس المجمع لم يكن وحده المعترض على المسيح فالأرجح أنه كان معه فريسيون من سكان تلك الأرض أو ممن تبعوه من الجليل إلى بيرية ليضادوه في التعليم والتأثير وكان مقاومو المسيح غالباً الرؤساء لأنهم خافوا زوال سلطانهم على الشعب بواسطة تعليم المسيح.
    وَفَرِحَ كُلُّ ٱلْجَمْعِ لأنهم أعيوا من ثقل نير الطقوس الذي وضعه عليهم رؤساؤهم ولأن نفوسهم لم تقتت من تعليم رؤسائهم فانتعشت وتعزت من تعليم المسيح.
    بِجَمِيعِ ٱلأَعْمَالِ ٱلْمَجِيدَةِ أي معجزات أُخر صنعها المسيح في بيرية لم يذكرها لوقا بالتفصيل.

    مثل حبة الخردل ع ١٨ و١٩


    ١٨، ١٩ «١٨ فَقَالَ: مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ، وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟ ١٩ يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ، فَنَمَتْ وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً، وَتَآوَتْ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا».
    متّى ١٣: ٣١ ومرقس ٤: ٣٠
    أتى المسيح بهذا المثل وقتاً آخر وقد مرّ الكلام عليه في الشرح متّى ١٣: ٣١ و٣٢. ومعظم الغاية من هذا المثل بيان قوة الإنجيل على الانتشار.

    مثل الخميرة ع ٢٠ و٢١


    ٢٠, ٢١ «٢٠ وَقَالَ أَيْضاً: بِمَاذَا أُشَبِّهُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ؟ ٢١ يُشْبِهُ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا ٱمْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيعُ».
    متّى ١٣: ٣٣
    ضرب المسيح هذا المثل في وقت آخر ومرّ الكلام عليه في شرح بشارة متّى ١٣: ٣٨. ومعظم الغاية من هذا المثل إعلان ما للإنجيل من قوة التغيير للقلوب وللعالم. وفي هذا المثل والمثل الذي قبله بيان ظفر الإنجيل أخيراً وإصلاح أفكار اليهود في شأن ملكوت المسيح من أنه يأتي دفعة ويكون ذا مجد عالمي وقوة خارجية خارقة الطبيعة.

    تعاليم المسيح في بيرية وهو سائر إلى أورشليم ع ٢٢ إلى ص ١٨: ١٤


    ٢٢ «وَٱجْتَازَ فِي مُدُنٍ وَقُرىً يُعَلِّمُ وَيُسَافِرُ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ».
    متّى ٩: ٣٥ ومرقس ٦: ٦
    فِي مُدُنٍ وَقُرىً هي مدن بيرية وقراها حيث بشّر السبعون قدام المسيح (ص ١٠: ١).
    يُسَافِرُ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ هذا جزء من السفر الذي ذُكرت بداءته في (ص ٩: ٥١ ومتّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١ ويوحنا ١٠: ٤٠). ولم يسافر المسيح في طريق مستقيم بل مرّ أولاً في السامرة (ص ٩: ٥٢ و١٧: ١١) ثم عاد إلى بيرية.

    سؤال عن عدد الذين يخلصون ع ٢٣ إلى ٣٠


    ٢٣ «فَقَالَ لَـهُ وَاحِدٌ: يَا سَيِّدُ، أَقَلِيلٌ هُمُ ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ؟ فَقَالَ لَـهُمُ».
    وَاحِدٌ نستنتج أن هذا الواحد من جملة المجتمعين غير التلاميذ وليست غايته من سؤاله طلب الفائدة بل مجرد الوقوف على أمر مجهول.
    أَقَلِيلٌ هُمُ ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ أي ينجون من العقاب الأبدي ويفوزون بالسعادة السماوية. ومراده معرفة نسبة الذين يخلصون إلى الذين يهلكون وهو موضوع مناظرة عند اليهود. فقال بعضهم أن «الذين يخلصون» هم كل أولاد إبراهيم وقال آخرون هم قليل من أولاده استناداً على أنه لم يخلص من كل جنود الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر سوى اثنين واتفق الفريقان على أن الخلاص مقصور على اليهود.
    ولعلّ هذا السائل سمع من المسيح أنه ليس كل اليهود يشتركون في فوائد الملكوت السماوي (ص ١١: ٤٧ - ٥١) فأراد أن يعرف نسبة الخالصين إلى الهالكين أملاً أن يتبين له من الجواب كثرة الذين يخلصون فيزيد اطمئناناً بخلاص نفسه.
    فَقَالَ لَـهُمُ السائل واحد لكنه كان نائباً عن الجمع فكان جواب المسيح للجميع لأن ذلك الجواب مما يهمهم كلهم وهم راغبون في سمعه.
    ٢٤ «ٱجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ يَقْدِرُونَ».
    متّى ٧: ١٣، يوحنا ٧: ٣٤ و٨: ٢١ و١٣: ٣٣ ورومية ٩: ٣١
    ٱجْتَهِدُوا هذا ليس بجواب على السؤال المذكور بل على ما كان يجب أن يسأل عنه وهو «ماذا أعمل لكي أخلص» فكأن المسيح قال له لا يعنيك أمر غيرك فاطلب خلاص نفسك. وعلى هذا الأسلوب كان جواب المسيح للناموسي (ص ١٠: ٢٩) وجوابه لبطرس (ص ١٢: ٤١) وليهوذا (ليس الإسخريوطي) (ص ١٤: ٢٢ و٢٣).
    ومع أن المسيح لم يجب على السؤال عينه نقدر أن نعرف ما هو الجواب من نصوص أُخر في الكتاب المقدس وهو أن عدد المخلصين يزيد على عدد الهالكين إذا حسبنا كل الذين يموتون قبل سن التكليف ممن يخلصون بواسطة المسيح وكل الذين آمنوا به وممن يؤمنون به في الأزمنة الأخيرة. ولعلّ نسبة الهالكين في جهنم إلى الناجين في السماء ليست بأعظم من نسبة المسجونين على الأرض لذنوبهم إلى الذين يتمتعون بحريتهم.
    ومعنى الاجتهاد هنا استعمال كل وسائط الخلاص بغيرة ونشاط كالمتصارعين في المشاهد وكالمتحاربين في الوقائع ويجب أن يكون ذلك الاجتهاد قبل الاجتهاد في غيره من الأمور.
    مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ استعار المسيح للسماء هنا مدينة أو قصراً مدخل كل منهما ضيق. وقد مرّ الإيضاح عن هذه الاستعارة في شرح بشارة متّى ٧: ١٣ و١٤.
    وَلاَ يَقْدِرُونَ الأرجح أن الكلام هنا يتصل بالكلام الذي في العدد الخامس والعشرين وأن المسيح أراد أن يذكر أحد الأسباب المانعة للناس من دخول السماء وهو طلبهم الدخول بعد فوات الوقت. ومن أسباب عدم دخولهم أنهم لم يجتهدوا كما يجب أي كان اجتهادهم قليلاً إلى أمد قصير. وأنهم لم يجتهدوا في ذلك أولاً. وأنهم طلبوا الدخول ببرّ أنفسهم لا ببرّ المسيح وأبوا أن يدخلوا من باب التوبة والإيمان وإنكار الذات وهو الباب الضيق وباب السماء الوحيد. وقول المسيح كثيرون لا يدخلونه مما يوجب شدة الاجتهاد. فكأنه قال للسائل وللجميع الهالكون كثيرون فلذلك كل منكم في خطر الهلاك.
    ٢٥ «مِنْ بَعْدِ مَا يَكُونُ رَبُّ ٱلْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَغْلَقَ ٱلْبَابَ، وَٱبْتَدَأْتُمْ تَقِفُونَ خَارِجاً وَتَقْرَعُونَ ٱلْبَابَ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، ٱفْتَحْ لَنَا، يُجِيبُكُمْ: لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ!».
    مزمور ٣٢: ٦ وإشعياء ٥٥: ٦، متّى ٢٥: ١٠ ص ٦: ٤٦، متّى ٧: ٢٣ و٢٥: ١٢
    ِمِنْ بَعْد كثيرون يرون أن هذا الكلام متعلق بالكلام السابق أي أن كثيرين لا يقدرون أن يدخلوا من بعد ما يكون رب البيت قد قام والمعنى أنهم أخروا الطلب إلى أن فات الوقت فكان طلبهم الدخول حينئذ عبثاً. فعلى هذا يكون طلبهم الدخول قرعهم الباب وصراخهم من خارج. وعلّة عدم قدرتهم على الدخول التباطؤ في الطلب فيجب الاجتهاد في الحال لئلا تمر الفرصة بالتباطؤ.
    رَبُّ ٱلْبَيْتِ قَدْ قَامَ أشار المسيح بذلك إلى نفسه كأنه صاحب بيت أولم لعائلته وأصدقائه الذين يأتون في الوقت المعين فبعد ما مضى ذلك الوقت أغلق الباب ولم يفتحه بعد لأحد.
    ومعنى ذلك أن الله قد عيّن وقتاً لطلب الخلاص وهو الزمن الحاضر أو بالإجمال مدة حياة الإنسان فباب التوبة يُغلق دون كل إنسان عند موته وينتهي حينئذ زمن النعمة.
    وقد مرّ تفسير ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ٢٥: ١٠ و١١).
    تَقِفُونَ... تَقْرَعُونَ... قَائِلِينَ أشار بذلك إلى انفعالات المرفوضين وأقوالهم وأعمالهم عندما يقفون قدام الله للدينونة الأخيرة.
    ٢٦، ٢٧ «٢٦ حِينَئِذٍ تَبْتَدِئُونَ تَقُولُونَ: أَكَلْنَا قُدَّامَكَ وَشَرِبْنَا، وَعَلَّمْتَ فِي شَوَارِعِنَا. ٢٧ فَيَقُولُ: أَقُولُ لَكُمْ لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ! تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي ٱلظُّلْمِ».
    متّى ٧: ٢٣ و٢٥: ٤١ وع ٢٥، مزمور ٦: ٨ ومتّى ٢٥: ٤١
    انظر الشرح متّى ٧: ٢٢ و٢٣.
    لاَ أَعْرِفُكُمْ من جملة الهالكين بعض الذين تظاهروا على الأرض أنهم من تلاميذ المسيح وحصلوا على أعظم وسائط النعمة وأعظم اعتبار الناس فهؤلاء لم يكونوا مسيحيين بالحق ولم يعرفهم المسيح من خاصته لأنه لو عرفهم كذلك مرة لعرفهم دائماً.
    فَاعِلِي ٱلظُّلْمِ ترك المسيح مثل المتباطئين عن الوليمة وخاطب المتأخرين عن التوبة وهم المشار إليهم بالمثل الذين دينونتهم باقية عليهم لبقائهم في خطاياهم.
    ٢٨، ٢٩ «٢٨ هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ، مَتَى رَأَيْتُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَمِيعَ ٱلأَنْبِيَاءِ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَأَنْتُمْ مَطْرُوحُونَ خَارِجاً. ٢٩ وَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَمِنَ ٱلْمَغَارِبِ وَمِنَ ٱلشِّمَالِ وَٱلْجَنُوبِ، وَيَتَّكِئُونَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
    متّى ٨: ١٢ و١٣: ٤٢ و٢٤: ٥١، متّى ٨: ١١
    انظر الشرح متّى ٨: ١١ و١٢.
    مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَمِنَ ٱلْمَغَارِبِ الخ أي من كل ممالك الارض. فأشار المسيح بذلك إلى دعوة الأمم إلى الكنيسة واشتراكهم مع الآباء والأنبياء في فوائد ملكوت الله. وفحوى ع ٢٤ أن الهالكين كثيرون فاحذروا أن تكونوا منهم. وفحوى هذين العددين أن الخالصين كثيرون لا من اليهود فقط بل من الأمم أيضاً فاحترسوا من أن لا تكونوا بينهم وإلا فلا منفعة لكم من كثرتهم.
    ٣٠ «وَهُوَذَا آخِرُونَ يَكُونُونَ أَوَّلِينَ، وَأَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ».
    متّى ١٩: ٣٠ و٢٠: ١٦ ومرقس ١٠: ٣١
    انظر الشرح متّى ١٩: ٣٠ و٢٠: ١٦ ومرقس ١٠: ٣١.
    الأولون هنا الذين صاروا آخرين هم اليهود المتكلون على برّ أنفسهم والآخرون الذين صاروا أولين تبّاع المسيح المهانون من اليهود والأمم. ويصدق هذا الكلام على أفراد الناس وعلى كنائس وعلى ممالك.

    تهديد هيرودس ع ٣١ إلى ٣٥


    ٣١ «فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ تَقَدَّمَ بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَـهُ: ٱخْرُجْ وَٱذْهَبْ مِنْ هٰهُنَا، لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ».
    لم يذكر هذا الحادث سوى لوقا.
    بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ يحتمل أن هؤلاء الفريسيين ذهبوا إلى هيرودس لكي يشتكوا على المسيح فعادوا إليه بتهديده. ويتبين أن ذلك لم يكن من اختراع الفريسيين لأن جواب المسيح كان موجهاً إلى هيرودس.
    ٱذْهَبْ مِنْ هٰهُنَا كانت بيرية يومئذ جزءاً من مملكة هيرودس كالجليل. وعلّة أمر هيرودس له بالذهاب من هنالك أنه علم ميل الشعب إلى المسيح وبغض رؤساء الدين إياه فخاف من الشغب والتشويش. ولم يرد أن يقتله خوفاً من الشعب ولم يرد أن يتركه هنالك خوفاً من الفتنة.
    هِيرُودُس هو هيرودس أنتيباس الذي قتل يوحنا المعمدان (متّى ١٤: ١).
    يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ الأرجح أن هذا التهديد كان خداعاً من هيرودس لأنه حين وقع المسيح في يده لم يقتله (ص ٢٣: ١١). وإنما هذا الخداع ليخاف المسيح ويذهب من مملكته.
    وليس في قول لوقا هنا ما يخالف قوله في موضع آخر أن هيرودس «كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ» (ص ٢٣: ٨) لأنه كان إنساناً متقلب الآراء. فكان يشتهي أحياناً أن يرى يسوع رجاء ان يصنع معجزة أمامه وأحياناً أن يتخلص منه خوف الفتنة وإرضاء للفريسيين وتسكيناً لاضطراب نفسه الذي دل عليه قوله «هٰذَا هُوَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (متّى ١٤: ٢).
    ٣٢ «فَقَالَ لَـهُمُ: ٱمْضُوا وَقُولُوا لِهٰذَا ٱلثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي ٱلْيَوْمَ وَغَداً، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ أُكَمَّلُ».
    فيلبي ٣: ١٢ وعبرانيين ٢: ١٠
    لِهٰذَا ٱلثَّعْلَبِ الثعلب حيوان مشهور بالرواغ والاحتيال والقساوة والإضرار. وشبّه المسيح هيرودس به لمشاركته الثعلب في تلك الصفات. ومن أدلة هذا إرساله إليه ذلك التحذير بواسطة الذين يظهرون له الصداقة مماثلاً الثعلب في الخداع بدلاً من أن يقبض عليه علناً بالنظر إلى أنه ملك.
    ٱلْيَوْمَ وَغَداً، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ هذا الكلام كان جارياً عندهم مجرى المثل في الدلالة على قصر الوقت (هوشع ٦: ٢) وقصد المسيح من جوابه لهيرودس تبيين أنه لا يخافه لأمرين. الأول أن أعماله لا تقاوم سلطانه لأنها مقصورة على إخراج الشياطين وشفاء المرضى والثاني أنه لا يبقى في مملكة هيروس إلا زمناً يسيراً.
    أُكَمَّلُ أي أتمم ما عليّ من الأعمال وأكون متهيئاً لآلامي وموتي كما يبين من (يوحنا ٤: ٣٤ و٥: ٣٦ وعبرانيين ٢: ١٠ و٥: ٩). والأرجح أن هذا الكلام لم يفهم هيرودس معناه المراد.
    ٣٣ «بَلْ يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ ٱلْيَوْمَ وَغَداً وَمَا يَلِيهِ، لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجاً عَنْ أُورُشَلِيمَ».
    يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ ٱلْيَوْمَ وَغَداً وَمَا يَلِيهِ هذا جواب على تهديد هيرودس له ليذهب من بيرية. ومعنى المسيح أنه يذهب من بيرية بعد قليل لا خوفاً من تهديد هيرودس أو تحذير الفريسيين المرائين بل طوعاً لأمر أسمى من أمر هيرودس. ولكنه قصد أن يزور بعض المدن والقرى في بيرية وهو ذاهب إلى أورشليم كما كان قبلاً ع ٢٢. وقوله «ينبغي» يدل على قضاء الله ببقائه حياً على الأرض مدة معينة. وليس المراد من قوله «اليوم وغداً وما يليه» ثلاثة أيام حقيقة بل وقتاً قصيراً كما مرّ في العدد الذي قبل هذا لأن يسوع بقي حياً أكثر من ذلك قبل أن يُرفع على الصليب.
    لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ الخ عدم الإمكان هذا أدبي لا مادي. فحكم المسيح أغلبي بدليل أن يوحنا وغيره من الأنبياء قتلوا خارج أورشليم. فكأن المسيح قال أكثر الأنبياء قتلوا في أورشليم وأنا أُقتل هنالك أيضاً ولا بد من ذلك وفقاً لكل شهرتها الماضية في مقاومتها للحق وجورها على الأنبياء ووفقاً لمقاومتها السابقة لي وهي مركز كل المقاومات لي.
    ولعلّ المسيح أراد أنه لا يمكن قتل نبي خارج أورشليم بمقتضى الشريعة لأن المجلس الذي يحكم في دعاوي الأنبياء هو في أورشليم فإن حكم ذلك المجلس على أحد بأنه نبي كاذب مجدف قضى عليه بأنه مستحق الموت وسلمه للرومانيين في أورشليم ليجروا ذلك القضاء.
    ٣٤، ٣٥ «٣٤ يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ ٱلأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا. ٣٥ هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! وَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ: مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».
    متّى ٢٣: ٣٧، لاويين ٢٦: ٣١ و٣٢ ومزمور ٦٩: ٢٥ وإشعياء ١: ٧ ودانيال ٩: ٢٧ وميخا ٣: ١٢، مزمور ١١٨: ٢٦ ومتّى ٢١: ٩ ومرقس ١١: ١٠ وص ١٩: ٣٨ ويوحنا ١٢: ١٣
    ذكر المسيح لأورشليم باعتبار أنها محل آلامه وموته. وتأمله في ذنبها والعقاب المعد لها حملاه على هذه المرثاة التي كانت نظير المرثاة التي تكلم بها يوم وقف أمام تلك المدينة ونظر إليها (ص ١٩: ٤١).
    وقد فُسرت هذه الكلمات في متّى ٢٣: ٣٧ - ٣٩.


    الأصحاح الرابع عشر


    ذهاب المسيح إلى بيت فريسي للعشاء والحوادث هناك ع ١ إلى ٢٤ (بيرية سنة ٣٠)

    شفاء مستسقٍ ع ١ إلى ٦


    ١ «وَإِذْ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَحَدِ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ فِي ٱلسَّبْتِ لِيَأْكُلَ خُبْزاً، كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ».
    أَحَدِ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ الأرجح أنه رئيس المجمع كما كان في متّى ٩: ١٨.
    لِيَأْكُلَ خُبْزاً أي ليتعشّى. والذي حمل الفريسي على دعوة يسوع إلى العشاء ما ذُكر في شرح ص ٧: ٣٦.
    لم يحسب الفريسيون إيلام الولائم يوم الرب تدنيساً للوصية الرابعة إذا أعدوا الأطعمة يوم الجمعة ولم يطبخوا شيئاً في السبت. وقبل المسيح الدعوة إلى العشاء في ذلك اليوم لا للذة بل لأنه مسافر ومحتاج إلى أن ينزل ضيفاً على الناس للضروريات الجسدية ولقصده إفادة المجتمعين بالتعليم.
    كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ كان المدعوون كثيرين بينهم جماعة من الفريسيين (ع ٣ و٧) وكانوا أهل ظنه يراقبونه دائماً ليجدوا علّة شكوى عليه ليضعفوا تأثيره في الشعب وليشكوه إلى الحكام. وكانوا مغتاظين منه حينئذ لتوبيخه إياهم (ص ١١: ٤٠ - ٥١).
    ٢ «وَإِذَا إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ كَانَ قُدَّامَهُ».
    إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ أي مصاب بداء الاستسقاء وهو عرض من أعراضه ورم الجسد من احتباس الماء الكثير فيه.
    كَانَ قُدَّامَهُ لم يكن هذا المصاب من المدعوين بدليل أن المسيح لما شفاه أطلقه (ع ٤) وهو أتى إما من تلقاء نفسه أملاً أن يراه المسيح ويشفق عليه ويشفيه لكنه لم يجسر أن يطلب الشفاء خوفاً من الفريسيين وإما لإرشاد الفريسيين إياه إلى ذلك لكي يجربوا المسيح بشفائه إياه في السبت فتكون لهم علّة لأن يشكوه. والأرجح الأول أنه ليس من عادة المسيح أن يشفي من لا يؤمن بقدرته على الشفاء والأولى لأنه لا يشفي من رضي أن يكون آلة للفريسيين الذين أرادوا أن يصطادوه.
    ٣ «فَسَأَلَ يَسُوعُ ٱلنَّامُوسِيِّينَ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ: هَلْ يَحِلُّ ٱلإِبْرَاءُ فِي ٱلسَّبْتِ؟».
    متّى ١٢: ١٠
    فَسَأَلَ يَسُوعُ لا دليل على أن الفريسيين تكلموا بشيء فإذن يكون جوابه على أفكارهم لأنها كانت ظاهرة له كما لو تكلموا. وقد أظهروا أفكارهم بكلامهم قبل هذا (ص ١٣: ١٤).
    ٱلنَّامُوسِيِّينَ الأرجح أن الناموسيين كانوا من جملة الفريسيين وامتازوا عن سائر تلك الفرقة بأنهم جعلوا شريعة موسى موضوع درسهم وتعلمهم.
    ٤، ٥ «٤ فَسَكَتُوا. فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ. ثُمَّ سَأَلَ: ٥ مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلاَ يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟».
    خروج ٢٣: ٥ وتثنية ٢٢: ٤ وص ١٣: ١٥
    فَسَكَتُوا (ع ٤) هذا السكوت أظهر حيرتهم فإنهم لو قالوا «يحل» لم يبق طريق لتخطئة المسيح إذا ابرأه ولو قالوا «لا يحل» عرضوا أنفسهم لقول الشعب عليهم أنهم بلا شفقة. وأعلن ذلك السكوت سوء قصدهم لأنه كان يجب عليهم باعتبار أنهم معلمي الشعب أن يصرّحوا حكمهم بأحد الوجهين.
    فَأَمْسَكَهُ أظهر المسيح بذلك أنه هو مصدر الشفاء.
    وَأَبْرَأَهُ هذا جواب لسؤاله الفريسيين وهو قوله «هل يحل الخ» فبيّن المسيح الفرق العظيم بين عدم شفقة أولئك الذين لم يريدوا أن يتفوهوا بكلمة مساعدة للمصاب وشفقته بأن شفاه وعرّض ذاته لبغض الأعداء.
    وكانت علّة إبراء المسيح ذلك المستسقي شفقته عليه. وغايته من شفائه في يوم السبت إزالة ما أضافه الفريسيون إلى الوصية الرابعة من التقاليد والأوامر الثقيلة غير النافعة وتبيين حقيقتها الأصلية كما قصد الله.
    وَأَطْلَقَهُ ليذهب إلى بيته لئلا يوبخه الفريسيون لأنه شُفي في السبت كما فعلوا غير مرات (ص ١٣: ١٤ ويوحنا ٩: ٣٤).
    ثُمَّ سَأَلَ معنى كلام المسيح هنا كمعنى كلامه في ص ١٣: ١٥ ومتّى ١٢: ١١ فراجع الشرح هناك.
    حَالاً هذه السرعة تدل على عدم وجود أدنى شك في جواز ذلك العمل يوم السبت.
    وترك المسيح للفريسيين أن يستنتجوا هم أن ما يجوز أن يعمله الإنسان من الخير للبهيمة في يوم السبت شفقة عليها أولى أن يجوز عمله للإنسان كذلك.
    ٦ «فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُجِيبُوهُ عَنْ ذٰلِكَ».
    لم يكن عدم إجابتهم من عدم إرادتهم للجواب بل لأنهم لم يروا ما به يدفعون حجته ولأن الشعب كان مسروراً به. ولعلهم خافوا من القوة التي أظهرها في شفاء الإنسان.

    خطاب يسوع للمدعوين ع ٧ إلى ١١


    ٧ «وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ ٱخْتَارُوا ٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى».
    متّى ٢٣: ٦
    مَثَلاً سُمي كلام المسيح هنا مثلاً لتضمنه معنى أدبياً متعلقاً بالتواضع الواجب على المدعويين أن يأتوه في الولائم. وهذا يوافق المبدأ الذي أبانه الرسول بقوله «بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً» (فيلبي ٢: ٣ و٤).
    وَهُوَ يُلاَحِظُ الأرجح أن هذه الملاحظة كانت قبل تناول الطعام حين اتّكأوا للعشاء قبل شفاء المستسقي.
    كَيْفَ ٱخْتَارُوا ٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى أتى الرسل مثل ذلك عند اجتماعهم لأكل الفصح الأخير ووقع بينهم مشاجرة به (لوقا ٢٢: ٢٤) «والمتكآت الأولى» هي ما كانت أقرب من صدر المائدة حيث يجلس رب البيت وكان من مطلوبات الفريسيين المتولدة عن كبريائهم (متّى ٢٣: ٦) وصورة الاتكاء حول المائدة في صفحة ٢٩٠ من المجلد الأول والكلام عليها في شرح بشارة متّى ٢٣: ٦.
    ٨ «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي ٱلْمُتَّكَإِ ٱلأَوَّلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ».
    مَتَى دُعِيتَ خاطب المسيح المفرد تعميماً للخطاب أي ليكون لكل فرد من الحاضرين.
    إِلَى عُرْسٍ أي وليمة عرس لأن وليمة العرس تكون كبيرة والمدعوون كثرين.
    أَكْرَمَ مِنْكَ أي أعظم منك رتبة أو منصباً أو أكبر منك سناً ولمثل هذا الحق في أن يجلس فوقك بمقتضى العادة.
    ٩ «فَيَأْتِيَ ٱلَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهٰذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ ٱلْمَوْضِعَ ٱلأَخِيرَ».
    ٱلَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ الخ أي رب البيت الذي يحق له أن يعيّن لكل مدعو متكأه وهو يرى أن الذي أتى أخيراً أعظم منك وأنه أهل للمتكأ الذي اتكأت أنت فيه ويأمرك أن تتركه له.
    تَبْتَدِئُ هذا يدل على شيء من تكلف ترك متكئه وهو الذي يحمله على التباطوء.
    بِخَجَلٍ لأنك ملزوم أن تترك محل الشرف أمام كل المدعوين وتجلس في مكان دونه.
    ٱلْمَوْضِعَ ٱلأَخِيرَ أي الذي هو أبعد عن صدر المائدة وذلك لم يكن من اختيار رب البيت بل لمقتضى الحال إذ لم يبق محل فوقه.
    ١٠ «بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَٱذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلأَخِيرِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ٱلَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ٱرْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ ٱلْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ».
    أمثال ٢٥: ٦ و٧
    اتَّكِئْ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلأَخِيرِ أي اظهر أنك لا تحسب نفسك أعظم من الآخرين وأنك لست براغب في العظمة والرفعة وأنك لست بمولع في تحصيل حقوقك.
    حَتَّى... يَقُولُ لَكَ ينبغي أن يكون ذلك نتيجة غير مقصودة وإلا كان التواضع رياء وخداعاً.
    ٱلَّذِي دَعَاكَ يستدل من هذا أن رب البيت كان يستقبل المدعوين عند الباب ويدعوهم إلى الجلوس حول المائدة ولا يحضر المائدة إلا بعد دخول الكل واتكائهم.
    يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ لاهتمام رب البيت بك اهتماماً خاصاً وبيان أنك مستحق الإكرام وأنك من المتواضعين. ويتبين من ذلك أنه غير محظور على المسيحي أن يقبل الإكرام من الناس وأن يسر به لكن لا يجوز أن يطلب ذلك ويرغب في الحصول عليه ويدعي أنه مستحق له بل يجب أن يستحق الإكرام بفضائله ولا سيما فضيلة التواضع.
    ١١ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ».
    أيوب ٢٢: ٢٩ ومزمور ١٨: ٢٧ وأمثال ٢٩: ٢٣ وإشعياء ١٤: ١٣ إلى ١٥ ومتّى ٢٣: ١٢ وص ١٨: ١٤ وفيلبي ٢: ٥ إلى ١١ ويعقوب ٤: ٦ و١بطرس ٥: ٥
    هذا مبدأ من مبادئ الديانة المسيحية كرّره المسيح مراراً وقد مرّ تفسيره في شرح بشارة متّى ٢٣: ١٢. وما قيل في رسالة بطرس الأولى ٥: ٥ يدل على أن تلاميذه لم ينسوه. وهو قانون عام في السماء وغالب على الأرض. فذكر المسيح هذا المبدإ هنا يظهر أن كلامه السابق غير مقصور على التصرف في الولائم بل يفيد أن التواضع واجب في كل أحوال الحياة.

    خطاب لرب البيت ع ١٢ إلى ١٤


    ١٢ «وَقَالَ أَيْضاً لِلَّذِي دَعَاهُ: إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ ٱلْجِيرَانَ ٱلأَغْنِيَاءَ، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً، فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَاةٌ».
    وجّه المسيح خطابه قبلاً للمدعوين ولكنه وجّهه الآن إلى رب البيت الذي دعاهم.
    إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً الأرجح أن أكثر المدعوين حينئذ من الأعيان أو الأغنياء ولعلّ رب البيت دعاهم ليسروا به ويدعوه إلى بيوتهم كما دعاهم. ووصف المسيح هنا الوليمة التي يجوز للمسيحي أن يولمها ويسر المسيح بها ويجازي مولمها عليها في السماء. فإذا كانت وليمة الأصحاب حسنة فالوليمة التي وصفها المسيح هنا أحسن.
    فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ... وَلاَ ٱلْجِيرَانَ ٱلأَغْنِيَاءَ ليس مراد المسيح أن يمنع من الإيلام للأصدقاء والأغنياء لكنه قصد أن لا يُكتفى بذلك ويُترك الفقراء والمساكين. وأن صنع الولائم للأصدقاء وللأغنياء ليست بفضيلة دينية يُثاب عليها في السماء. على أنّه قصد أن يمنع ولائم الترفه والولائم التي الغاية منها إظهار غنى المولم وفخره واللذة بالمشتهيات من طعام وشراب التي تهيج الشهوات الجسدية وتقتضي نفقات وافرة لا تبقي شيئاً لمساعدة البائسين فهذه الولائم لا ترضي المسيح ولا ثواب عليها عند الله.
    لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً الخ الذي يدعو أصحابه بغية أن يدعوه هم فهو كتاجر لا مضيف لأن الضيافة تقتضي أن يُنفق على الضيف لمجرد إكرامه لا لانتظار المكافأة. فالذي يدعو أصحابه لكي يسر بهم يستوفي أجره بتلك المسرة وكذا من يدعوهم لإظهار سخائه وغناه فكفى الداعي ما ناله من مطلوبه فلا يظن أن له بذلك فضلاً عند الله وأن له ثواباً في السماء.
    ١٣ «بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَٱدْعُ ٱلْمَسَاكِينَ: ٱلْجُدْعَ، ٱلْعُرْجَ، ٱلْعُمْيَ».
    نحميا ٨: ١٠ و١٢
    ٱلْمَسَاكِينَ الخ هم الذين لا طعام لهم ولا قدرة على تحصيل القوت الضروري بالعمل.
    ١٤ «فَيَكُونَ لَكَ ٱلطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَـهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ، لأَنَّكَ تُكَافَى فِي قِيَامَةِ ٱلأَبْرَارِ».
    فَيَكُونَ لَكَ ٱلطُّوبَى من مدح الضمير ومدح الله واللذة بعمل الخير ويكون لك في السماء أجر عظيم. وهذا وفق قوله تعالى «مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ» (أعمال ٢٠: ٣٥).
    لَيْسَ لَـهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ لا يقدرون أن يدعوك إلى الولائم ولا يستطيعون مكافأتك بطريق أُخرى لكن مع ذلك لا يكون إنفاقك عليهم باطلاً.
    لأَنَّكَ تُكَافَى أي أن الله يثيبك. ووعده يؤكد ذلك. لكن تلك الإثابة على سبيل النعمة لا سبيل الأجرة لأن الثواب عظيم والعمل زهيد وهو واجب على كل حال. وغني عن البيان أن الإحسان الذي يُثاب عليه يُؤتى شفقة على الفقراء وإطاعة لأمر الله لا للافتخار وبغية الأجر.
    قِيَامَةِ ٱلأَبْرَارِ أي في اليوم الأخير الذي يثيب الله فيه الأتقياء على كل أعماله الصالحة التي أتوها على الأرض (متّى ١٠: ٤٢ و٢٥: ٣٤ - ٣٦). ولا داعي للمسيح هنا إلى ذكر قيامة الأشرار ولهذا لم يذكرها فلا يلزم من ذلك أن الأشرار لا يقومون أو أنهم يقومون في وقت آخر. وكيف كان الأمر لا يقومون قيامة مجيدة للسعادة والثواب إلا الأبرار. وتسمى قيامتهم «قيامة الحياة» (يوحنا ٥: ٢٩). والذي قاله المسيح لرب البيت يُقال لكل إنسان لأن المسيح لا يريد أن ننسى الفقراء ونهملهم بل يود أن نساعدهم على قدر طاقتنا. ويجب أن نعولهم بالضروريات أكثر من حبه أن نولم لجيراننا وأقربائنا وأصحابنا غير المحتاجين. ويتبين من كلام ربنا هنا أن نتوقع يوم القيامة. ونعمل كل ما يثاب عليه في ذلك اليوم ولو أمراً يسيراً مثل أنه ألفقراء ندعو إلى الطعام أم الأغنياء. وإن الله يثيب الأتقياء في اليوم الأخير حسب أعمالهم لا لأجلها.

    مثَل العشاء العظيم ع ١٥ إلى ٢٤


    ١٥ «فَلَمَّا سَمِعَ ذٰلِكَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَـهُ: طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزاً فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
    رؤيا ١٩: ٩
    وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ قَالَ هذا القائل ليس من تلاميذ المسيح بل من اليهود الذين كانوا يتوقعون أن يأتي المسيح ملكاً زمنياً فإنه سمع قول المسيح بالثواب في قيامة الأبرار وفهم بتلك القيامة إعلان ملكوت المسيح المجيد كسائر اليهود. وتوقع أن يكون أول زمن تأسيسه وقت احتفال عظيم ووليمة نفيسة. وتحقق أنه من المدعوين إلى تلك الوليمة لا محالة لأنه يهودي. ولم يسأل نفسه هل قبلت دعوة الله وهل خلا قلبي من الشهوات الجسدية التي تكون سبباً لرفضي منها. ووجه المسيح هذا المثل إليه وإلى أمثاله تحذيراً لهم. فكأنه قال أي نفع إن طوبتم من حضروا تلك الوليمة إن لم تقبلوا أنتم الدعوة إليها. وهذا المثل غير المثل المذكور في بشارة متّى ٢٢: ١ - ١٤.
    ١٦ «فَقَالَ لَـهُ: إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيماً وَدَعَا كَثِيرِينَ».
    متّى ٢٢: ٢
    إِنْسَانٌ أشار المسيح بهذا إلى الله لأنه ضرب المثل على أثر قول أحد الضيوف «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله».
    عَشَاءً عَظِيماً هذا إشارة إلى وليمة الإنجيل التي يذوق المدعوون بعض أطائبها الروحية الآن ويتمتعون بكلها في السماء.
    وتنبأ بهذه الوليمة إشعياء (إشعياء ٢٥: ٦). ومرّ الكلام على وجه الشبه بين بركات الإنجيل والوليمة في الشرح (متّى ٢٢: ٢). ويصح أن يعبّر عن وليمة الإنجيل بعشاء عظيم لأن ربها ملك السماء الأعظم وقد استعد لتلك الوليمة قروناً كثيرة.
    وَدَعَا كَثِيرِينَ هذا من جملة الأدلة على أن العشاء عظيم والمدعوون هنا اليهود العارفون كالكهنة والكتبة والشيوخ والفريسيين وسائر العلماء الذي عرفوا الكتب المقدسة أحسن معرفة وادعوا الغيرة للناموس وزيادة البر. وجعلتهم زيادة معرفتهم وادعائهم ما ذكر بمنزلة المدعوين أولاً إلى ملكوت الله. وكانت هذه الدعوة دعوة استعداد للحضور لا دعوة حضور. ويظهر مما يأتي أنهم قبلوا الدعوة وإلا لم يأت الخادم ثانية ليخبرهم بحلول وقت العشاء.
    فاليهود ادعوا أنهم متوقعون المسيح ومستعدون للترحيب به وأنهم هم الضيوف في الوليمة السماوية لا غيرهم من الناس.
    ١٧ «وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُوِّينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ».
    أمثال ٩: ٢ و٥
    عَبْدَهُ أشار بالعبد هنا إلى كثيرين وأفرده بالنظر إلى مقتضى المثل. والذي أرسله الله أولاً ليدعو إلى وليمة الإنجيل هو يوحنا المعمدان ثم يسوع نفسه ثم الرسل والمبشرون الذين نادوا بأن المسيح قد أتى وأخذ يؤسس ملكوته.
    لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ لم يكن كل شيء معداً إلا بعد أن أتى المسيح الموعود به انظر الشرح متّى ٢٢: ٤.
    ١٨ - ٢٠ «١٨ فَٱبْتَدَأَ ٱلْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَـهُ ٱلأَوَّلُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. ١٩ وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. ٢٠ وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِٱمْرَأَةٍ، فَلِذٰلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ».
    تثنية ٢٤: ٥
    ٱلْجَمِيعُ لا يحسن أن يُفهم من ذلك أن كل رؤساء اليهود وعلمائهم رفضوا المسيح لأن بعضهم آمن به كنيقوديموس ويوسف الرامي وغيرهما. لكنهم كانوا قليلين كما ظهر من قول الرؤساء «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ ٱلرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ» (يوحنا ٧: ٤٨).
    بِرَأْيٍ وَاحِدٍ كانت الأعذار بعدم قبول الدعوة مختلفة لكنه كان روح الكل واحداً فكانوا كأنهم اتفقوا على رأي واحد.
    يَسْتَعْفُونَ علّة استعفاء رؤساء اليهود الحقيقية هي ما في قوله «فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي» (يوحنا ١٥: ٢٤). وعدم رغبتهم في الروحيات التي دعاهم المسيح إليها. وكان بعض أعذارهم يختلف عن بعض وكلها كاذباً. على أنها لو صحت لكانت غير كافية. وجميعها مبني على الأهواء الدنيوية كمحبة المال والمتاجر واللذات وهذه ليست شريرة بالذات لكنها صارت كذلك بتقديمها على غيرها ولأنها تمنع أصحابها عن طلب الخير الروحي السماوي. وكلها تبين الاستخفاف برب الوليمة وعدم الاكتراث بما أعده. ومما يبين بطلانها كونهم قد قبلوا الدعوة في أول الأمر.
    وطلب الأول الإعفاء بحجة الاضطرار فقال «أنا مضطر... أسألك أن تعفيني» وطلب الثاني الإعفاء بحجة عزمه على أمر سابق فقال «أنا ماض... أسألك أن تعفيني». وأما الثالث فلم يطلب الإعفاء بل اكتفى بقوله «لا أقدر أن أجيء». فعذر الثالث كان مقبولاً حسب شريعة موسى لو كانت الدعوة إلى حرب (تثنية ٢٤: ٥) ولكنه لم يُقبل في عدم المجيء إلى وليمة قبل الدعوة إليها قبلاً.
    ومثل هذه الأعذار الباطلة كل الأعذار التي يوردها الناس في عدم اهتمامهم بخلاص نفوسهم وعدم قبولهم المسيح الآن مخلصاً لهم. ومهما ظهرت لهم تلك الأعذار كافية الآن فهي غير كافية لدى الله ولا تظهر لهم كافية في يوم الدين.
    ٢١ «فَأَتَى ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذَلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ: ٱخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا ٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْجُدْعَ وَٱلْعُرْجَ وَٱلْعُمْيَ».
    فَأَتَى... وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ هذا من أعراض المثل بالنسبة إلى الناس فإن الله يعلم كل شيء بلا حاجة إلى أن يخبره أحد.
    غَضِبَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ لأنه علم أن تلك الأعذار باطلة وأن علّة استعفائهم بغضهم إياه ولأنهم أهانوه بذلك. وكذا يغضب الله على كل من لا يؤمن به ولا يقبل إنجيله.
    ٱخْرُجْ... إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ يستدل من قوله «شوارع المدينة» أن الدعوة الثانية كانت لليهود كالأولى إلا أنها للعشارين والخطاة منهم وهم معدودون من أدنياء الشعب وهم المشار إليهم في ع ١٣. فالله يدعو إلى وليمته الروحية أمثال هؤلاء وفقاً لنصح المسيحي للفريسي أن يفعل في الوليمة الأرضية.
    ٢٢ «فَقَالَ ٱلْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ».
    قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ أي دعوا الناس من الشوارع وأتوا بهم. وكذا كان في الإقبال إلى المسيح «وَكَانَ ٱلْجَمْعُ ٱلْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ» (مرقس ١٢: ٣٧).
    وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ كذلك السماء واسعة ومعدّات فداء المسيح ونعمة الله غير محدودة تكفي العالم كله.
    ٢٣ «فَقَالَ ٱلسَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: ٱخْرُجْ إِلَى ٱلطُّرُقِ وَٱلسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي».
    ٱلطُّرُقِ وَٱلسِّيَاجَاتِ هذه في خارج المدينة. وأشار بهذا الكلام إلى دعوة الأمم. وعبّر عنهم بمصطلحات اليهود فإنهم كانوا يحسبون الأمم مثل كناسة مدينتهم المقدسة. فعلى هذا صارت دعوة الإنجيل لخطأة كل الأجيال الذين يشعرون بافتقارهم إلى المسيح ونعمته.
    أشار المسيح بالدعوة الأولى والثانية إلى ما كان من دعوة الإنجيل في الماضي والحال وبالدعوة الثالثة إلى ما يكون في مستقبله إلى ما يصير من يوم الخمسين إلى نهاية العالم.
    وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُولِ لا بالإجبار أو بالرغم بل بشدة الإلحاح لأن الذين مساكنهم السياجات يرون أنفسهم ليسوا أهلاً للدخول إلى قصور الأغنياء والتعشي هنالك فيحتاجون إلى من يحقق لهم أنه يرحب بهم هنالك. وكذلك على المبشرين أن يستعملوا كل ما في طاقتهم من البراهين القاطعة المبنية على تهديدات الناموس أو مواعيد الإنجيل ليقنعوا الناس بأن يقبلوا المسيح ودعوته. وهذا وفق قول بولس «فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ نُقْنِعُ ٱلنَّاسَ» (٢كورنثوس ٥: ١١). وقوله «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ ٱللّٰهِ» (رومية ١٢: ١). وقوله «كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ» (٢كورنثوس ٥: ٢٠). وهذا الكلام يدل على رغبة الله في خلاص الجميع وأنه لا يرفض أحداً لفقره أو لجهله أو لخطاياه السالفة.
    حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي يدل هذا على كثرة الناس الذين يؤمنون أخيراً بالمسيح ويخلصون. فيتم قصد الرحمة الإلهية للخلاص وإن كان بعض اليهود والأمم يستخفون بنعمته ويهلكون.
    ٢٤ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ ٱلرِّجَالِ ٱلْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي».
    متّى ٢١: ٤٣ و٢٢: ٨ وأعمال ١٣: ٤٦
    لا يلزم من كلام رب البيت هنا على من رفضوا دعوته وأهانوه أن لا يخلص أحد من اليهود أو من الفريسيين أو من سائر علمائهم بل إنّ جميع الذين يرفضون دعوة الخلاص يهلكون لا محالة (أمثال ١: ٢٨ ومتّى ٢٥: ١١ و١٢). وينتج من ذلك أنّ المتباطئ عن قبول الدعوة في خطر عظيم لأنه يقاوم الروح القدس الذي يحثه على القبول. وأن رافضي الخلاص اليوم سيطلبونه عبثاً أخيراً. وذهب البعض إلى أن نهاية المثل في الآية الثالثة والعشرين وأن هذه الآية من كلام المسيح على نفسه فكأنه قال «لأني رب الوليمة السماوية أصرّح لكم أنكم لا تذوقون عشائي السماوي لانكم رفضتموني».

    خطاب المسيح للجمع في شروط التلمذة ع ٢٥ إلى ٣٥


    ٢٥ «وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَـهُمْ».
    سَائِرِينَ مَعَهُ كان المسيح سائراً في بيرية إلى أورشليم فازدحم عليه الناس ليشاهدوا معجزاته ويسمعوا تعليمه. والأرجح أنهم لم يسيروا معه كل الطريق بل كانوا يأتون إليه جماعات ويذهبون على التوالي.
    فَٱلْتَفَتَ أي وقف قليلاً ليفهّم الناس ما يحتاجون إليه لكي يكونوا تلاميذه حقيقة لا ممن يقتصروا على المشاهدة والتعجب.
    ٢٦ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً».
    تثنية ١٣: ٦ و٣٣: ٩ ومتّى ١٠: ٣٧، يوحنا ١٢: ٢٥، رؤيا ١٢: ١١
    معنى هذه الآية كمعنى الآية ٣٧ من ص ١٠ من بشارة متّى إلا أن الكلام أشد فانظر الشرح هناك.
    يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ الخ لم يقصد المسيح بهذا أن يبغض الإنسان والديه وأهل بيته حقيقة كما يظهر من سلوكه مع أمه (يوحنا ١٩: ٢٥ - ٢٧) بل عنى أنه يجب أن تكون محبته لهم أقل من محبته له حتى يكون حبه لهم بالنسبة إلى حبه إياه كالبغض إلى المحبة. ويوضح أن هذا هو المراد من ذكره البغض للنفس مع البغض للوالدين والإخوة. ولا ريب في أنه يجب علينا أن نحب أقاربنا وأن نعز حياتنا الجسدية ونعتني بها ولكن إذا اضطررنا أن نختار بين المسيح وأقاربنا وحياتنا وجب علينا أن نفعل كأننا أبغضناهم أي لا نلتفت إليهم وأن نلتصق بالمسيح. فخير لنا أن نغيظ أفضل أصحابنا الأرضيين من أن نغيظ الذي مات على الصليب من أجلنا.
    ٢٧ «وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً».
    متّى ١٦: ٢٤ ومرقس ٨: ٣٤ وص ٩: ٢٣ و٢تيموثاوس ٣: ١٢
    انظر الشرح متّى ١٠: ٣٨.
    علمنا من الآية السابقة وجوب أن نستعد إكراماً للمسيح أن نخسر أصحابنا على الأرض وحياتنا الجسدية. ومن هذه الآية وجوب أن نحتمل المشقة والعار كل يوم من أجل المسيح.
    ٢٨ - ٣٠ «٢٨ وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ ٱلنَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ ٢٩ لِئَلاَّ يَضَعَ ٱلأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ ٱلنَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، ٣٠ قَائِلِينَ: هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ».
    أمثال ٢٤: ٢٧
    يعلّمنا المسيح (من ع ٢٨ - ٣٠) أن نحسب النفقة التي تلزمنا باتباعه قبل الشروع في خدمته. وفسر المسيح مقصوده بمثلين لم يذكرهما إلا لوقا. والأول مثل بناء البرج. والثاني إنشاء الحرب.
    أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً يقتضي ذلك نفقة وافرة فالإنسان الحكيم يشتغل قبل أن يبتدئ البناء وقتاً كافياً بأن يحسب قدر النفقة اللازمة لبنائه ويستشير المختبرين مثل ذلك الأمر ثم يعتمد مقصده إذا وجد أنه قادر. وذلك لكي لا يبتدئ يبني ثم يضطر إلى ترك البناء لحزنه وخسرانه وتعريض نفسه لهزء الناس كما يفعل الجهلاء.
    وأشار المسيح بهذا التشبيه إلى وفرة النفقة على من أراد أن يكون له تلميذاً كخسرانه محبة الأصحاب واعتبار عامة الناس والمال حتى الحياة نفسها. ودعا الحاضرين إلى التأمل في أنهم أمستعدون هم لتلك الخسارة أم غير مستعدين. وليس قصد المسيح من ذلك تقليل رغبة أحد في الخلاص فإنه يشاء أن الكل يقبلون إليه وينالون الحياة الأبدية. لكنه لم يرغب في أن يتبعه أفواج من الناس وهم يتوقعون المراتب الدنيوية والمجد العالمي والانتصار على الأعداء ويرجعون عند وقوع المصائب لأن ذلك ضرر لنفوسهم وعثرة للغير ممن يريدون الإقبال عليه وعار لكنيسة المسيح. وهذا وفق قول الجامعة «أَنْ لاَ تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلاَ تَفِيَ» (جامعة ٥: ٥).
    ٣١، ٣٢ «٣١ وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ ٱلَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ ٣٢ وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذٰلِكَ بَعِيداً، يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ».
    هذا المثل يوضح جهالة الإنسان الذي يشرع في محاربة من هو أقوى منه بدون استعداد ونظر في العواقب. لأنه يعرض بذلك جسده وأجساد جنوده للقتل وأمواله وملكه للخسارة مع أن الحكمة تدل على طريق أكثر أمناً ونفعاً له.
    ومعنى ذلك الروحي وجوب نظر العواقب في الأمور الدينية حتى لا يشرع الإنسان في شيء عاقبته العار والخسارة. فنكتفي بمقصود المثل الروحي بقطع النظر عن أعراضه. ومن أراد الوقوف على تفسير تلك الأعراض لبعض المفسرين فلينظر ما نورده له هنا.
    إن الملك الذي له عشرة آلاف هو الإنسان الذي يرغب في خلاص نفسه ويجتهد في الحصول عليه بأعماله الصالحة فقوته على تحصيل ذلك الخلاص في عينيه تعدل قوة عشرة آلاف جندي في الحرب. وان الملك الثاني الذي له عشرون ألفاً هو الله الذي أنشأ الشريعة المقدسة وهو غيور في أن يطيعه الناس الطاعة الكاملة وليس للخاطئ الطالب الخلاص أدنى رجاء أن يحفظ تلك الشريعة من تلقاء نفسه وأن يدخل السماء ببره الذاتي. وعلى هذا يكون رجاؤه نجاح عمله باطلاً. فطريق الحكمة الوحيدة أن يترك كل اجتهاده في تبرير نفسه بأعماله الصالحة ويلقي نفسه على رحمة الله قابلاً شروط الصلح وهي التوبة والإيمان وإنكار الذات. ولكن الأحسن الاكتفاء بمقصود المثل الروحي وقطع النظر عن أعراضه كما ذكرنا.
    ٣٣ «فَكَذٰلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً».
    معنى ذلك أن عار الإنسان وخسارته وهو يدعي أنه تلميذ المسيح ولم يستعد لإنكار الذات كعار باني البرج الجاهل والملك المحارب حمقاً وخسارتهما.
    ٣٤، ٣٥ «٣٤ اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلٰكِنْ إِذَا فَسَدَ ٱلْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ ٣٥ لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ، فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجاً. مَنْ لَـهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!».
    متّى ٥: ١٣ ومرقس ٩: ٥٠
    انظر الشرح متّى ٥: ١٣ ومرقس ٩: ٥٠.


    الأصحاح الخامس عشر


    تذمر الفريسيين على المسيح لقبوله الخطاة ع ١ و٢


    ١، ٢ «١ وَكَانَ جَمِيعُ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. ٢ فَتَذَمَّرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: هٰذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُم».
    متّى ٩: ١٠، أعمال ١١: ٣ وغلاطية ٢: ١٢
    جَمِيعُ ٱلْعَشَّارِينَ أي كثيرين منهم وهم أكثر الجمع. وقد مرّ الكلام عليهم في الشرح متّى ٩: ١٠ و١١.
    يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ كانوا يأتون إلى المسيح على التوالي لا ليشاهدوا معجزاته فقط بل ليسمعوا تعليمه أيضاً. وأظهروا باقترابهم إليه رغبتهم في الفائدة لأنهم شعروا بإثمهم واحتياجهم إلى مغفرة الله ولم يجدوا في تعليم رؤساء اليهود ما يدلهم على طريق المصالحة لله كما في تعليم المسيح. لأن أولئك الرؤساء حسبوا هؤلاء العشارين أشراراً نجسين لا يستحقون أن يدنوا منهم ويتعلّموا وأنه لا فائدة من تعليمهم إذ لا يُرجى أن يدخلوا السماء.
    فَتَذَمَّرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ ادعى هؤلاء طهارة عجيبة وبراً سامياً (انظر الشرح متّى ٥: ٢٠). فاحتقروا العشارين وأبغضوهم لأجل مهنتهم وقبح سيرتهم. وأظهروا ذلك بتذمرهم في قلوبهم أو بمخاطبة بعضهم بعضاً.
    هٰذَا قالوا ذلك استخفافاً به كأنه لم يستحق أن يلقب بمعلم أو رباني أو نبي لأنه كان يعلّم العشارين.
    يَقْبَلُ خُطَاةً أي يلطف بهم ويأذن لهم في أن يتعلّموا منه. ودل كلامهم على كبريائهم وتعجبوا من عمل المسيح وهزئهم به. فليس لهم شفقة على أولئك الخطاة ولا رغبة في خلاصهم ولم يأتوا أدنى الوسائط إلى ترجيعهم إلى الله والقداسة. ولم يستطيعوا أن يدركوا مقاصد المسيح بقبوله إياهم. واستنتجوا من فعله أنه خاطئ كسائر العشارين زعماً أنه لو لم يكن كذلك ما عاشرهم. وأنه لو كان نبياً مقدساً لطلب معاشرة القديسين والأبرار كالفريسين أنفسهم وتجنب معاشرة أولئك النجسين لكن فعل ما فعل بغية خلاصهم. فالذي حسبه اليهود عاراً على المسيح حسبه المسيح شرفاً عظيماً وهو خير لنا لأننا خطاة محتاجون إلى قبوله إيانا. وشكوى الفريسيين عينها برهان على أن يسوع هو المسيح.
    وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ فعل ذلك في الجليل كما ذُكر في متّى ٩: ١٠ و١١. ولعله فعل مثله في بيرية حينئذ لتكون له فرصة لتعليمهم وإقناعهم بخلوص حبه لهم (انظر رؤيا ٣: ٢٠).
    وتذمر الفريسيون عليه قبلاً لهذه العلّة عينها وجاوبهم بضربه مثل الطبيب والمرضى وقد مرّ تفسير ذلك في شرح ص ٥: ٢١. وجاوبهم هنا بضرب ثلاثة أمثال تبريراً لذاته بما فعل وإظهاراً لرحمة الله للخطاة التائبين. وكتب لوقا إنجيله لفائدة الأمم وكانت غايته أن يؤكد لهم استعداد الله لقبولهم ولذلك أكثر من إيراد الأمثال التي تظهر رحمة الله.

    مثل الخروف الضال ع ٣ إلى ٧


    ٣، ٤ «٣ فَكَلَّمَهُمْ بِهٰذَا ٱلْمَثَلِ: ٤ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَـهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا، أَلاَ يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لأَجْلِ ٱلضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟».
    خروج ٣٤: ٦ و١١ إلى ١٥ ومتّى ١٠: ٦ و١٨: ١٢
    ورد هذا المثل في بشارة متّى ١٨: ١٢ - ١٤. والغاية منه هنالك إظهار قيمة خروف واحد والغاية من إيراده هنا إظهار شفقة الراعي في طلبه.
    أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ أي غايتي من هذا السؤال أن أبين لكم أنه إذا كان أحد منكم لا يكره أن يتعب هذا التعب لرد خروف ضال أفمن الغريب أن أتعب أنا لإنقاذ نفس ضالة.
    فِي ٱلْبَرِّيَّةِ المراد بالبرية هنا أرض لم تفلح ترعى فيها الغنم ويمكن أن تضل فيها لفرط اتساعها.
    وَيَذْهَبَ لأَجْلِ ٱلضَّالِّ هذا مما يجب على الراعي أن يفعله. وكان يجب على المسيح أن يفعل مثله للناس الضالين تتميماً لواجباته باعتبار كونه راعي النفوس (إشعياء ٤٠: ١٧ وحزقيال ٣٤: ٦ و١١ - ١٥).
    حَتَّى يَجِدَهُ أشار المسيح بذلك إلى كل ما عمله لأجل الخطأة وتألم من أجلهم منذ ترك السماء ووُلد في بيت لحم إلى أن رجع إلى السماء بعد موته على الصليب. فلم يرسل المسيح ملاكاً أو رئيس ملائكة ليجد الضالين لكنه ذهب هو نفسه ليجدهم.
    ٥ «وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً».
    حمله الخروف على منكبيه ضرروي لأن الخروف الضال كان قد أعيا من الجولان فلم يضربه الراعي بل حمله فكان في راحة وأمن. كذلك المسيح بمعاشرته العشارين والخطاة طلب أن يردهم إلى القداسة والنجاة من الهلاك الأبدي. ويعتني بتعليمهم بالرفق. وأن يصونهم من تجارب الشيطان ويوصلهم إلى السماء ويسر بكل ما فعل من ذلك.
    ٦ «وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو ٱلأَصْدِقَاءَ وَٱلْجِيرَانَ قَائِلاً لَـهُمُ: ٱفْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي ٱلضَّالَّ».
    إشعياء ٤٠: ١١ ومتّى ٩: ٣٦ و١بطرس ٢: ١٠ و٢٥
    يَدْعُو ٱلأَصْدِقَاءَ وَٱلْجِيرَانَ لم يذكر المسيح هؤلاء في ضربه لهذا المثل قبلاً (متّى ١٨: ١٢ - ١٤) ومن مقتضيات الطبع أن الذي يجد خروفه يدعو أصدقاءه إلى الفرح معه. وذكر المسيح ذلك لكي يعطي فرصة ليقابل الفرح بوجدان الخروف بفرح السماء بخلاص خاطئ.
    ٧ «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ».
    ص ٥: ٣٢
    فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ يعرف القديسون والملائكة قيمة النفس وعظمة العذاب الذي يقع على النفس الهالكة وعظمة السعادة التي تنالها النفس الخالصة. ويعرفون محبة المسيح للخطاة وما احتمله لأجل خلاصهم ولذلك يفرحون عند توبة الخاطئ.
    ويقابل المسيح هنا فرح السماء لتوبة خاطئ واحد بتذمر الفريسيين والكتبة عليه لطلبه خلاص الخطأة.
    بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ ذكر في المثل فعل الراعي فقط لأن الخروف لا يتوقع أنه يندم ولكنه ذكر هنا توبة الخاطئ لأنها شرط ضروري لخلاصه وهو قادر على ذلك وواجب عليه.
    وفي هذا العدد إشارة إلى عظمة فرح السماء أخيراً حين يجتمع فيها ربوات وربوات لا تحصى من الخطاة التائبين الذين يفرحون مع المسيح.
    وعلّم المسيح في هذا المثل كنيسته أن تتمثل به في طلب الضالين في برية العالم الواسعة وأن يفرحوا بسمعهم أنباء الإنجيل بين الأمم وقبولهم الخلاص.

    مثل الدرهم المفقود ع ٨ إلى ١٠


    ٨ «أَوْ أَيَّةُ ٱمْرَأَةٍ لَهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً، أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ ٱلْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِٱجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟».
    أمثال ٢٠: ٢٧ وصفنيا ١: ١٢
    معنى هذا المثل كمعنى المثل السابق وهو إظهار محبة المسيح وشفقته في طلب الخطأة الضالين وفرحه بنجاتهم.
    أَيَّةُ ٱمْرَأَةٍ لا مقصد من ذكر المرأة بدل الإنسان إلا أن كنس البيت من أعمال المرأة غالباً ولا من ذكر البيت خاصة ولا من ذكر عدد العشرة دون غيره ولا من ذكر السراج إلا بيان قيمة المفقود ورغبة صاحبته في وجدانه وفرحها بذلك.
    عَشَرَةُ دَرَاهِمَ الدرهم نقد يوناني قيمته كقيمة الدينار الروماني (انظر الشرح متّى ٢٠: ٢) وقيمة الدينار أربعة غروش ونصف غرش وهو أجرة الفاعل في اليوم فقيمة عشرة دراهم خمسة وأربعون غرشاً.
    أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً قيمة درهم لامرأة لها عشرة دراهم أعظم من قيمة خروف لصاحب مئة خروف.
    أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً الخ أوقدت المصباح لكي تفتش عن الدرهم في بعض زوايا البيت المظلمة التي لم يقع عليها ضوء الشمس وكنست البيت لكي يقع نظرها على كل جزء من أجزاء أرض البيت وهذان العملان يظهران اهتمام المرأة بالدرهم المفقود وفرط رغبتها واجتهادها في إصابته. وكل ذلك إشارة إلى قيمة نفوس الخطأة عند الرب وحزنه على فقدان واحدة منها فإنه ترك السماء لينشد النفوس الضالة ويخلصها.
    ٩، ١٠ «٩ وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو ٱلصَّدِيقَاتِ وَٱلْجَارَاتِ قَائِلَةً: ٱفْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ ٱلدِّرْهَمَ ٱلَّذِي أَضَعْتُهُ. ١٠ هٰكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ».
    تَدْعُو ٱلصَّدِيقَاتِ وَٱلْجَارَاتِ مشاركة هؤلاء لتلك المرأة في فرحها إشارة إلى مشاركة جنود السماء للمسيح في مسرته بخلاص الخاطئ. وفي ذلك توبيخ آخر للفريسيين على عدم اكتراثهم بخلاص نفوس العشارين والخطأة وتبرير آخر لعمله بقبوله إياهم وأكله معهم لكي يفيدهم.

    مثل الابن الضال ع ١١ إلى ٣٢


    ١١ «وَقَالَ: إِنْسَانٌ كَانَ لَـهُ ٱبْنَانِ».
    حُسب هذا المثل تاج أمثال المسيح كلها وإنجيلاً مختصراً ضمن إنجيل يُظهر محبة الله المنقذة التي هي غاية الإنجيل كله.
    ومقصود المسيح به كمقصوده في المثلين السابقين إظهار رحمة الله للخطأة ورغبته في قبول الراجعين إليه بالتوبة والتوبيخ للفريسيين المتذمرين عليه. ولم يتلفظ المسيح بالنتيجة بل تركها لتأمل السامع والقارئ.
    ولهذا المثل تقدم على المثلين السابقين في إيضاح قيمة النفس. فالمفقود في الأول واحد من مئة وفي الثاني واحد من عشرة وفي الثالث واحد من اثنين وقيمة خروف لدى صاحب مئة خروف دون قيمة درهم لدى صاحبة عشرة دراهم ولكن قيمة الولد لدى أبيه أعظم من كل تلك الخراف والدراهم بما لا يقاس.
    وله التقدم عليهما في إظهار عواطف الله للضالين. وفي الأول بيان أن أتعاب ابن الله وآلامه من أجل الخاطئ مبنية على شفقته كشفقة الراعي على الخروف الضال الذي صار عرضة لافتراس المهلك. وفي الثاني بيان اهتمام المسيح بإصابة المفقود ورغبته في ذلك بناء على قيمة النفس التي أعطاه الآب إياها كاهتمام المرأة ورغبتها في إصابة درهمها الثمين في عينيها. وفي الثالث اشتياق الله الآب إلى رجوع الخاطئ إليه كاشتياق الوالد الحنون إلى ابنه الضال.
    وفي المثل الثالث أمران زائدان على ما في كل من المثل الأول والمثل الثاني.
    الأول: بيان ما يجب أن يعمله الخاطئ نفسه لكي يرجع وهو التوبة وهذا لا يمكن بيانه في مثل الخروف الضال ومثل الدرهم المفقود.
    الثاني: بيان أن الخطيئة ليست بمانع من رجوع الخاطئ ولا من مسرة الله برجوعه فإنه لا يصح أن يُنسب إلى الخروف والدرهم ذنب يوجب غضب الراعي على خروفه وغضب المرأة على درهمها حتى لا يعودا يسألان عنهما. وأما الابن الضال فعلم أنه أخطأ إلى أبيه وأن لأبيه حقاً أن يغضب عليه ويرفضه ولكنه مع ذلك رحب به حين رجع كذلك الله يرحب بالخطأة التائبين.
    إِنْسَانٌ المراد به هنا الآب السماوي الذي «كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (٢كورنثوس ٥: ١٩).
    ٱبْنَانِ المراد بالأكبر منهما الفريسيون والكتبة وبالأصغر العشارون والخطاة. ويصح أن يراد بالأكبر اليهود وبالأصغر الأمم. ويصح أيضاً أن يراد بالأول كل المتكبرين المتكلين على برّ أنفسهم يهوداً وأمماً وبالثاني كل الذين يعترفون بآثامهم ويرجعون عنها إلى نهاية الزمان.
    ١٢ «فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ ٱلَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ ٱلْمَالِ. فَقَسَمَ لَـهُمَا مَعِيشَتَهُ».
    تثنية ٢١: ١٧، مرقس ١٢: ٤٤
    أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ هذا طلب غير شرعي ولا يحسن بالابن أن يطلبه من أبيه. ولا دليل على أن ذلك كان سائغاً في الشريعة اليهودية نعم إنّ إبراهيم قسم ماله على أولاده في حياته لكنه أتى ذلك اختياراً منعاً لانشقاق العائلة (تكوين ٢٥: ٥ و٦) وطلب هذا الابن ذلك القسم ليمكنه الإنفاق على شهواته الجسدية. وهذا إشارة إلى أول خطوة من خطى الإنسان في سبيل الخطية وخلاصته أن يتحرر من الله وشريعته ويكون إلهاً لنفسه تابعاً ميل قلبه (تكوين ٣: ٥). فكل إنسان إذا تبع ميله الطبيعي كان كالابن الأصغر في رغبته في لذات العالم والخطيئة.
    فَقَسَمَ لَـهُمَا مَعِيشَتَهُ اختياراً وتلطفاً لا على رغمه. وكان ثلثا المال للأكبر والثلث للأصغر حسب شريعة موسى (تثنية ٢٧: ١٧) فأعطى الابن الأصغر قسمه وأبقى عنده قسم الأبن الأكبر. كذا الله يترك الإنسان حراً ولا يجبره على خدمة غير مرضية ليختبر هل عبوديته لشهواته وللشيطان أهون من الخدمة لله تعالى (رومية ١: ٢١ و٢٨).
    ١٣ «وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ ٱلابْنُ ٱلأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَـهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ».
    جَمَعَ... كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ لعلّ حادثة مثل هذه ليست بغريبة في تلك الأيام وهي أن شاباً يهودياً يترك اليهودية ويسافر إلى إسكندرية أو كورنثوس أو رومية ويبلغ أهله أنه ينفق أمواله على الزواني (ع ٣٠) غير مكترث بدينه ولا مهتم بأبيه. والمراد بالكورة البعيدة نسيان الله بالبعد القلبي لا البعد المكاني. وهذا البعد يتبع حالاً الاستقلال عن الله ومحبة الخليقة تنزع من القلب محبة الخالق.
    بَذَّرَ مَالَـهُ لا أحد مسرف كالخاطئ فإنه ينفق على شهواته القوة والمواهب والبركات التي منحه الله إياها لمجده تعالى ولخير الناس وهذا عاقبة الاستقلال عن الله.
    بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ لأن الخطيئة استولت عليه فكان كالخروف في حال ضلاله والدرهم وهو مفقود.
    ١٤ «فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ».
    حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ لم يكن حدوث المجاعات في الأيام القديمة من غرائب الأمور لأنه لم تكن السفن ووسائط نقل الطعام كثيرة كما في هذه الأيام (انظر أعمال ١١: ٢٨).
    فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ كان تمتع الابن بحريته وتصرفه حسب شهواته إلى حين ثم كثرت عليه النوائب فأفلس في وقت المجاعة وجاع كثيراً. وهذا يدلنا طبعاً على أن أصحابه الأشرار تركوه. والمراد بتلك المجاعة عدم إمكان لذّات هذا العالم أن تشبع النفس فإنها تشتهي محبة الله والحق وراحة الضمير والخبز من السماء (يوحنا ٦: ٣٢). وجوع الجسد ليس شيئاً بالنسبة إلى جوع النفس التي شعرت ببعدها عن الله (إرميا ٢: ١٩ و١٧: ٥ و٦). فشعور النفس باحتياجها إلى الله هو فعل الله عينه وذلك الشعور كصوت الله يدعو الضال إلى وطنه السماوي.
    ١٥، ١٦ «١٥ فَمَضَى وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَأَرْسَلَـهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. ١٦ وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ».
    ص ١٦: ٢١
    وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ لم يكن ذلك عملاً شريراً فإنه أتى ذلك رغبة في إصلاح شأنه. فخير له أن يجوع وهو مع الخنازير من أن يشبع في ولائم الزواني. وكان يجب عليه عند ذلك أن يرجع إلى بيت أبيه ولكنه استحيا أن يفعل ذلك لكبريائه حينئذ فظن أنه يحصّل وسائط معاشه بتعبه فذهب أمله عبثاً.
    فَأَرْسَلَـهُ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ طلب هذا الابن التخلص من خدمة أبيه الخفيفة فاضطر إلى خدمة أجنبي ثقيلة تُعد عند اليهود أنجس وأكره خدمة.
    ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ يستدل بهذا أن عمله كان أن يذهب إلى البرية حيث شجر الخرنوب ويجني ثمره ويطرحه للخنازير.
    فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ أي لم يعطه أحد طعاماً غير الخرنوب واضطر إلى أكل ذلك لأنه لم يهتم أحد به. ولم يشبع من ذلك الثمر لأنه ليس من المغذيات الحسنة الموافقة للإنسان. على أن تلك الحال الرديئة كانت خيراً له من حاله وهو يهيم في أودية شهواته لأنه لو بقي في حال الترفة لظل بعيداً عن بيت أبيه لكن مصائبه كانت بركات له إذ قادته إلى التوبة والرجوع. وخلاصة نتائج ضلاله أنه بدل صرّح أبيه بالبرية وعشرة أهله بعشرة الخنازير وخيرات ذلك الصرح بالخرنوب وشبعه بالجوع. والمعنى الروحي من ذلك هو أن الإنسان بعدما يشعر بأن لذات هذا العالم ليست كافية لتشبع نفسه وبان بعده عن الله علّة الشقاء يجتهد أن يصلح نفسه بالآداب الظاهرة دون الديانة القلبية فيكون معتمده حفظ أعمال الناموس بغية راحة الضمير فيجد أنه أردأ من ذي قبل بدلاً عمّا رامه من الإصلاح.
    ١٧ «فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً!».
    فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ لأنه كان في حال جهله كالمجنون (جامعة ٩: ٣). فمن ينقاد لشهواته يشبه البهيمة بل المجنون.
    فرجوع الابن إلى نفسه الخطوة الأولى من رجوعه إلى أبيه ورجوع الخاطئ إلى نفسه استعداد لرجوعه إلى الله لأنه يسير حينئذ بمقتضى العقل والضمير لا الشهوات.
    كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي ذكر الابن حال بيت أبيه وقابلها بحالته التعيسة فإنه صار أجيراً ولكنه دون الأجراء في بيت أبيه. ولس للأجراء في هذا المثل من معنى روحي سوى الأصاغر في بيت الله. فالخاطئ يقابل حاله بحال واحد منهم فيحزن لعظمة الفرق بينهما.
    يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ بدل الخرنوب. وزيادة الخبز على أجراء أبيه مقابل الجوع الذي يهلكه.
    أَنَا أَهْلِكُ جُوعاً ذلك إشارة إلى نتيجة الخدمة للعالم بدلاً من الخدمة لله فالشعور بالشقاء استعداد للرجوع إليه تعالى.
    ١٨ «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَـهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ».
    أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي نتج هذا العزم من تأمله في سوء الحال التي صار إليها وذكره أن له أباً وثقته بمحبة أبيه وبأنه يغفر له فلم ييأس ويهلك كبعض الضالين. كذلك الخاطئ الذي يشعر بأنه هالك لبعده عن الله يعزم على الرجوع إليه بالتوبة ولكنه لا يفعل ذلك إلا بأن يجذبه الآب السماوي ولا يستطيعه إلا بوسيط أعده الآب (عبرانيين ١٠: ١٩ - ٢٢).
    أَخْطَأْتُ الاعتراف بالخطيئة شرط ضروري للمغفرة ولا تكون التوبة صحيحة بدونه (١يوحنا ١: ٩ و١٠).
    ولم يعتذر الابن بشبيبته وطيشه وجهله وقوة التجربة بل اعترف بذنبه. وهكذا يليق بكل أثيم أن يصلّي قائلاً كالعشار «اللهم ارحمني أنا الخاطئ».
    إِلَى ٱلسَّمَاءِ أي إلى الله. علامة التوبة الحقيقية هي شعور الخاطئ بأنه أخطأ إلى الله وأن ذلك أعظم جرماً من الإخطاء إلى الناس. كذا كانت توبة داود بدليل قوله «إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ» (مزمور ٥١: ٤).
    وَقُدَّامَكَ لأنه تركه واستهان بنصائحه وعيّره بسيرته الردية وبدّد ماله. فمن أخطأ إلى الله والناس وجب أنه بعد اعترافه لله يعترف لمن أخطأ إليه من الناس وإن صعب عليه أن يتضع أمامهم أكثر مما يصعب عليه الاتضاع أمام الله.
    ١٩ «وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ».
    لَسْتُ مُسْتَحِقّاً الخ من علامات التوبة الحقيقية التواضع وأفضل برهان على أن الإنسان مستحق القبول رؤيته أنه غير مستحق.
    ٢٠ «فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَه».
    أعمال ٢: ٣٩ وأفسس ٢: ١٣ و١٧ ويعقوب ٤: ٨
    فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ أظهر بأعماله الصالحة صحة توبته وإيمانه فكل انفعالاته ودموعه ومقاصده الخيرية لم تنفعه لو لم يعمل بموجبها فالذي فعله الابن في المثل كالذي فعله العشارون والخطاة بإتيانهم إلى المسيح (ع ١). وكل خاطئ يولد ثانية حيثما يترك العالم ويشرع في الرجوع إلى الله وإلى القداسة وإلى السماء.
    وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ يظهر من هذا أن أباه كان يتوقع رجوعه ويرقبه.
    فَتَحَنَّنَ عرف ابنه حالاً مع كل ما صار إليه من سوء الحال. ولم يحتج إلى ما يعطف قلبه على ابنه من التضرعات فإنه رقّ له بلا واسطة.
    وَرَكَضَ لعلّ الابن كان بطيء السير لخجله فلم يصبر أبوه إلى أن يصل إليه فلاقاه سائراً جزءاً من الطريق دلالة على مسرته برجوعه.
    وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ علامة حبه له (تكوين ٤٥: ١٤ و٤٦: ٢٩ و٢صموئيل ١٤: ٣٣).
    وَقَبَّلَـهُ كان ذلك علامة الصفح والسلام والمحبة (تكوين ٣٣: ٤ و٢صموئيل ١٤: ٣٣ ومزمور ٢: ١٢).
    وفي هذا بيان عظمة محبة الله للخطأة واستعداده لقبول الراجعين إليه بالتوبة فإن الله يراقبهم في كل تيههم وهو الذي يخلق فيهم الرغبة في الرجوع إليه. ومحبة الآب هي علّة عمل الفداء «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ الخ» (يوحنا ٣: ١٦).
    وهذا المثل شرح لهذه الآية. فركض الوالد لملاقاة ولده إشارة إلى إرسال الله ابنه يسوع من عرشه السماوي إلى هذه الأرض ومحل اجتماعه بالخاطئ هو الصليب على الجلجثة وقبله الصفح إشارة إلى تمام المصالحة التي هي غاية الفداء.
    ٢١ «فَقَالَ لَـهُ ٱلابْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً».
    مزمور ٥١: ٤
    لم يشر الآب إلى خطيئة ولده بشيء من إمارات وجهه ولا بلفظة من كلامه. وحقق رضاه عليه بقبلة المغفرة ومع ذلك كله اعترف الابن بذنبه لأن إظهار الآب محبته لابنه جعلته يشعر كل الشعور بما ارتكبه من الإثم بعصيانه على والده الرؤوف. فالمسيحيون الحقيقيون لا يزالون مدة الحياة يعترفون بخطاياهم ويحزنون عليها كلما أظهر الله محبته لهم. وقد جاء مثل ذلك في نبوءة حزقيال فإنه بعدما حقق الله لبني إسرائيل تجديد قلوبهم وتطهيرهم من كل نجاساتهم وأصنامهم وإحيائهم وتليين قلوبهم وسكون روحه فيهم (حزقيال ٣٦: ٢٥ - ٢٧) قيل فيهم «فَتَذْكُرُونَ طُرُقَكُمُ ٱلرَّدِيئَةَ وَأَعْمَالَكُمْ غَيْرَ ٱلصَّالِحَةِ، وَتَمْقُتُونَ أَنْفُسَكُمْ أَمَامَ وُجُوهِكُمْ مِنْ أَجْلِ آثَامِكُمْ» (حزقيال ٣٦: ٣١).
    ولم يكمّل الابن ما قصد أن يقوله هو «اجعلني كأحد أجرائك» إما لأن أباه لم يدعه يكمل الجملة وإما لأن أباه اعتنقه وقبله واعترف فعلاً بأنه ابنه فلم يبق محل لطلبه أن يكون بمنزلة الأجير. فلو طلب ذلك لكان طلبه دليلاً على شكه في مغفرة أبيه له. أو على كبريائه بأنه لم يرد أن يقبل النعمة مجاناً أو كان ذلك اتضاعاً ليس في محله.
    ٢٢ «فَقَالَ ٱلأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتِماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ».
    إشعياء ٦١: ١٠ وزكريا ٣: ٤ و٥ ورؤيا ٣: ١٨، زكريا ١٠: ١٢ وأفسس ٦: ١٥
    ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَ... خَاتِماً فِي يَدِهِ هما علامة الرضى التام والإكرام (تكوين ٤١: ٤٢ وأستير ٣: ١٠ وإرميا ٢٢: ٢٤ ودانيال ٥: ٢٩ ويعقوب ٢: ٢).
    وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ كان لبس الحذاء تمييزاً للبنين عن العبيد لأنهم كانوا حفاة. وفي هذا كله مقابلة حاله في الغربة بحاله في بيت أبيه فصار له بدل العري الحلة الأولى وبدل الخدمة القاسية الخاتم والحذاء اللائقين بالابن والعجل المسمن بدل الخرنوب.
    ومعنى كل ما ذُكر أن الله يقبل التائب إليه بعلامات المحبة والرضى برفعه عنه كل الدينونة ويغفر له كل المغفرة ويهب له كل حقوق الابن ويعامله كأنه لم يضل عنه بل يعامله كأنه مستحق الثواب لأجل نفسه بل إكراماً ليسوع المسيح. وليس لنا أن نجد تفسيراً مخصوصاً للحلة والخاتم والعجل المسمن فهي كلها علامة رضى الله يهب بعضها للمؤمنين على الأرض وبعضها في السماء.
    ٢٣، ٢٤ «٢٣ وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، ٢٤ لأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَٱبْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ».
    ع ٣٢ وأفسس ٢: ١ و٥: ١٤ ورؤيا ٣: ١
    ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ هو عجل يُطعم في البيت إما لوليمة أو تقدمة. وكان هنا للوليمة. وتلك الوليمة إشارة إلى فرح الوالد برجوع ولده. فكان قصده من ذلك كقصد الراعي من دعوة أصدقائه وجيرانه للفرح معه على وجدانه خروفه الضال (ع ٦) وكقصد المرأة من دعوى صديقاتها وجاراتها لتشاركها في فرحها على وجدان الدرهم المفقود (ع ٩).
    لأَنَّ ٱبْنِي اعترف بقوله هذا بابنه أمام الحاضرين وصرّح بأن له كل حقوق الابن.
    كَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ هذا شرح لما سبقه وهو قوله «كان ميتاً فعاش» لأنه حسب بعده عنه وهو خاطئ موتاً وحزنه عليه كحزنه على ميت. وكانت تلك الوليمة إشارة إلى فرح الله بالخاطئ الذي نال منه المغفرة وفرح الخاطئ بنواله المغفرة. فنتيجة هذا المثل كنتيجة كل من المثلين السابقين وهي أنه «يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ» (ع ٧ و١٠).
    وما قيل في الابن من أنه «كان ميتاً فعاش» يليق كثيراً أن يقال في الخاطئ قبل توبته وبعدها لأنه كان ميتاً بالنظر إلى الله وإلى القداسة وإلى رجاء السماء (١يوحنا ٣: ١٤ وأفسس ٢: ١ - ٦ و١بطرس ٢: ٢٥) وهنا نهاية المثل من جهة تعلقه بالخاطئ.
    ٢٥ «وَكَانَ ٱبْنُهُ ٱلأَكْبَرُ فِي ٱلْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ ٱلْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً».
    ٱبْنُهُ ٱلأَكْبَرُ قصد المسيح بالابن الأكبر الكتبة والفريسيين الذين تذمروا عليه (ع ٢) وهو أيضاً كناية عن كل من يدّعي البرّ الذاتي ونظره إلى الخطاة كنظر هؤلاء إليهم.
    ادّعى الكتبة والفريسيون أنهم حافظو الناموس. وكان يمكن كلاً منهم بالنظر إلى اعتقاده برّ نفسه أن يقول للآب السماوي كما قال الابن الأكبر لأبيه «قط لم أتجاوز وصيتك» فالمسيح أجابهم على فرض صحة دعواهم وبين لهم على ذلك الفرض أنه لا محل لتذمرهم عليه.
    فِي ٱلْحَقْلِ كان هناك ليراقب الفعلة فلم يتأخر عن خدمة خارجية لأبيه مع أنه لم يعتبره حق الاعتبار ولم يكن له روح الطاعة كما يظهر من ع ٢٩.
    صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً ذلك من علامات الفرح ومكملات الوليمة. وكان الذين يأتون مثل ذلك يُستأجرون غالباً.
    ٢٦ «فَدَعَا وَاحِداً مِنَ ٱلْغِلْمَانِ وَسَأَلَـهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟».
    هذا من الإمارات التي دلت على شراسة أخلاقه لأنه لم يدخل حالاً ويشارك المبتهجين في ابتهاجهم بل أرسل يستخبر عن علّة الفرح كأنه لا حق لأهل البيت أن يأتوا مثل ذلك في غيبته.
    ٢٧ «فَقَالَ لَـهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ، لأَنَّهُ قَبِلَـهُ سَالِماً».
    اعتقد الخادم أن ابن سيده الأكبر يفرح معهم متى عرف العلّة.
    ٢٨ «فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ».
    فَغَضِبَ أظهر بذلك رداءة أخلاقه وأن لا محبة في قلبه لأخيه ولا اعتبار لائق لأبيه. فلو شارك أباه في شعوره لرحب بأخيه الراجع وفرح مع الفارحين. فكان ذلك منه بمنزلة تذمر الكتبة والفريسيين على المسيح لقبوله الخطاة.
    لَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ ذلك لغيظه فإنه أبى أن يدخل بيتاً أخوه فيه.
    فَخَرَجَ أَبُوهُ الخ أظهر أبوه بذلك حلمه وتنازله لأنه ترك الوليمة والضيوف وابنه الأصغر وخرج ليطلب إلى ابنه الأكبر أن يدخل كأن السرور لا يكمل وأحد ولديه حزين.
    والآب السماوي رغب في أن يدخل الكتبة والفريسيون ملكوت السماء كما دخل العشارون والخطأة وأظهر طول أناته وشدة رغبته في إتيانهم إليه كما فعل ذلك الأب الأرضي.
    ٢٩ «فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي».
    يذكرنا هذا الجواب صلاة الفريسي في الهيكل (ص ١٨: ١٠ و١٢). وهو كلام إنسان مدّع البرّ الذاتي.
    جَدْياً هو أقل قيمة من العجل ولا سيما العجل المسمّن فتذمر الابن الأكبر بأنه لم يأخذ ما هو الأرخص مع أن أخاه نال ما هو الأغلى.
    ٣٠ «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ ٱبْنُكَ هٰذَا ٱلَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ ٱلزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَـهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ».
    ٱبْنُكَ لم يتنازل إلى أن يدعوه أخاه فأظهر بهذا إهانته لابيه وتمرده على إرادته وشدة محبته لذاته.
    أَكَلَ مَعِيشَتَكَ أي أسباب معاشك. وذكر ذلك ليدل على أن ما أتلفه علّة الخسارة العظمى لكن الآب مع علمه بما أتاه ابنه الأصغر غفر له لأنه تاب فكان على أخيه أن يفعل كذلك.
    مَعَ ٱلزَّوَانِي لم يذكر هذا سابقاً في المثل. وأتى به الابن الأكبر ليجعل أخاه مكروهاً في عيني أبيه ولا نعلم أحقٌ هو أم باطل وعلى كلا الحالين تاب الابن الأصغر ونال مغفرة أبيه فليس للابن الأكبر حق أن يغضب ويأبى المغفرة.
    ذَبَحْتَ لَـهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ كأنه كله لمجرد بهجة أخيه. والحق أنه ذبح لكل أهل البيت وكانت الوليمة إظهاراً للفرح العام. ونتيجة كلامه اتهام أبيه بالمحاباة بدعوى أنه شح عليه (ع ٢٩) وجاد على أخيه.
    ٣١ «فَقَالَ لَـهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ».
    يَا بُنَيَّ دعاه ابناً مع أنه لم يدعه أباً. وأظهر بذلك لطفه وحلمه لكي يطفئ نار غيظه وحسده. ولم يلمه على خشونته وقساوته.
    أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ قال ذلك بياناً لعدم إيلام وليمة له كأنه قال له أنت لم تغب عن البيت قط ولم تقرب من الهلاك حتى تحتاج إلى الابتهاج المخصوص والوليمة لرجوعك سالماً.
    وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ هذا بيان أنه يجب أن لا يخاف خسراناً برجوع أخيه لأن كل المال له وليس بعد ذلك من قسمة أخرى. وليس في هذا من معنى روحي إلا البيان أن لا حق للفريسيين والكتبة في أن يتذمروا فالله لم يظلمهم بقبول العشارين والخطاة وهم لم يخسروا بذلك شيئاً لأن عهود الله باقية لهم كاملة ولهم الناموس والأنبياء وطقوس الديانة الموسوية وتعليم العلماء. وكل وسائط النعمة مباحة لهم إذا شاءوا استعمالها.
    ٣٢ «وَلٰكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ».
    ع ٢٤
    كَانَ يَنْبَغِي برّر الآب نفسه في ما فعله لأن العلّة التي حملته على ذلك كافية وهي أمران الأول أن المفقود وُجد والثاني أن الميت عاش.
    أَخَاكَ أنكر الابن الأكبر هذه النسبة بقوله لأبيه «ابنك» (ع ٣٠) فذكره أبوه إياها دليلاً على وجوب أن يشترك في الفرح. والعشارون والخطاة إخوة للكتبة والفريسيين لأنهم كلهم أولاد آدم وزادهم قرابة أنهم جميعاً أولاد يعقوب فكان يجب عليهم أن يفرحوا بخيرهم ويحزنوا على خطاياهم.
    والمسيح لم يتمم المثل لكي نعلم هل اقتنع الابن الأكبر من أبيه ورضي بأخيه أو لا لكننا نعرف أن الكتبة والفريسيين المقصودين بالابن الأكبر بقوا متكبرين يحتقرون غيرهم ولا يكترثون بخلاصهم.
    فإن اعتبرنا الأمة اليهودية الآن بمنزلة الابن الأكبر وسائر أهل الأرض بمنزلة الأبن الأصغر رأينا الابن الأكبر بعد ما ينيف على ١٨٠٠ سنة لا يزال واقفاً خارج كنيسة المسيح مغتاظاً حسداً مستنكفاً من مشاركة المؤمنين من الأمم المتمتعين بالوليمة الروحية السماوية.
    ويصح أيضاً أن نأخذ الابن الأكبر رمزاً إلى كل الناس المدعين البر الذاتي في كل زمان ومكان وهم كل من يتكلون على التقوى الخارجية وينظرون إلى الذين خطاياهم ظاهرة للناس كانهم مقطوعون عن رجاء الخلاص.


    الأصحاح السادس عشر


    مثل وكيل الظلم ع ١ إلى ١٣


    ١ «وَقَالَ أَيْضاً لِتَلاَمِيذِهِ: كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَـهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَـهُ».
    لِتَلاَمِيذِهِ أي للمؤمنين به على سمع الفريسيين أيضاً (ع ١٤) لا للاثني عشر فقط. وكان بعض أولئك التلاميذ من العشارين والخطاة. وكان ما سبق في ص ١٥ موجهاً خصوصاً إلى الكتبة والفريسيين المتذمرين عليه.
    ولم يذكر هذا المثل إلا لوقا وغايته بيان حكمة استعداد الإنسان لما تحتاج إليه نفسه في المستقبل أي أن يتخذ الخيرات الزمنية وسيلة إلى السعادة الأبدية.
    إِنْسَانٌ غَنِيٌّ ليس لهذا من معنى روحي. فالمقصود تمثيل إنسان دنيوي يقيس كل أمر بمقياس أهل العالم. والظاهر من سياق الحديث أن هذا الإنسان الغني لم يتولَّ أمور أملاكه بل سلمها إلى وكيل يعتني بها ويجمع له حاصلاتها.
    وَكِيلٌ ليس لهذا معنى روحي أيضاً. وكانت نسبته إلى الغنى كنسبة أليعازر لإبراهيم (تكوين ٢٤: ٢ - ١٢) وكنسبة يوسف إلى فوطيفار (تكوين ٣٩: ٤) فأخذ من الفعلة ما لسيده من الغلال وحاسب السيد بها. وكان أكثر أمثاله الوكلاء عبيداً لكن هذا كان حراً (ع ٣ و٤) وكانت وظيفته مما تمكنه من اختلاس ما شاء لأنه أُمِّن على أموال كثيرة وعين سيده لم ترقبه دائماً.
    فَوُشِيَ بِهِ لم يصرّح المثل أحقّة كانت تلك الوشاية أم باطلة والأرجح أنها حقّة لأنه لم ينكرها وتصرفه بعد ذلك أثبت أنه غير أمين على مال سيده.
    بَذِّرُ أَمْوَالَـهُ ينفقها على لذاته بدل أن يعطيها سيده.
    ٢ «فَدَعَاهُ وَقَالَ لَـهُ: مَا هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ».
    مَا هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ ليس هذا استفهاماً عن حقيقة الوشاية بل تعجباً وتوبيخاً من أمر واقع لا يستطيع الوكيل إنكاره.
    عَنْكَ بعد أن اتكلت عليك بكل ثقة.
    أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ الخ هذا دليل على أنه لم يكن للسيد من وسيلة إلى الاستيلاء على ما له إلا بطرد الوكيل من وكالته وأمره إياه بتقديم صورة الحساب.
    وليس في تلك المعاملة من إشارة إلى معنى روحي كالموت أو يوم الدينونة. إنما هي دلالة على أن الخيانة ليست بنافعة للإنسان ولو في هذا العالم لأنها عرضة للظهور أبداً وخسران للخائن إذ يضيع بها مركزه وصيته.
    ٣ «فَقَالَ ٱلْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي ٱلْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ».
    مَاذَا أَفْعَلُ أظهر هذا الوكيل في حيرته واضطرابه الحكمة. أولاً بأنه شغل وقتاً بتأمله حسناً في ما يجب أن يعمله. فصار بذلك مثالاً لأبناء النور لأنه ما من شيء أضر من العمل بلا روية.
    لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ أي لم أتعود العمل الشاق كالأجير الذي ينقب الأرض وليس لي قدرة على تحصيل أسباب المعاش بمثل هذا العمل.
    وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ منعته كبرياؤه أن يحصّل ما يحتاج إليه بالتسول بعد شرف وظيفته ولا عذر له في الاستعطاء من آفة أو مرض ومع ذلك لم يستح أن يسرق مال سيده ففضل أن يسميه الناس لصاً على أن يسموه مستعطياً.
    ٤ «قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ ٱلْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ».
    قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ هذا يدل على انتهاء حيرته واضطرابه إذ خطر على باله المهرب من ذلك فعزم حالاً على الجري فيه. وكان يجب أن يقوده كشف خيانته وخسارته مركزه إلى التوبة والاعتراف بذنبه لسيده ورد ما اختلسه. لكنه عزم بدلاً من ذلك على الخيانة إلى آخر فرصة بقيت له وعلاوة على تبذير مال سيده سابقاً اعتمد نهبه أيضاً لسبيل نفعه في المستقبل وانتقاماً من سيده على طرده إياه.
    ولنا من ذلك أن الخطية الواحدة تقود إلى خطية أخرى طبعاً وأن الذي يبتدئ يخون في القليل تقوده شهواته وإبليس أخيراً إلى أن يخون في الكثير ما لم يخطفه روح الله من شفير هاوية الهلاك.
    ٥ «فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟».
    من الواضح أن ما جرى هنا كان في غيبة السيد قبل أن سلم الوكيل إليه الحساب والصكوك التي على أرباب العمل في عقاره. ولم يكن سبب سؤاله لمديوني سيده عن مقدار ديونهم جهله إياه لأن الصكوك في يده لكنه قصد أن ينبه المديونين على ذلك المقدار.
    ٦ «فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَـهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱجْلِسْ عَاجِلاً وَٱكْتُبْ خَمْسِينَ».
    إشعياء ٥: ١ وحزقيال ٤٥: ١٠ و١١ و١٤
    مِئَةُ بَثِّ البث مكيال عبراني للسوائل يساوي الإيفة أو نحو اثنتين وعشرين أقة وثلاثة أرباع الأقة ولا نعلم هل كان هذا كل ما كان عليه من الدين بعد المحاسبة أو كان المرتّب عليه كل سنة من أجرة الأرض وهذا هو الأرجح.
    زَيْتٍ كانوا يأكلون الزيت وقتئذ ويصطبحون به ويتّجرون كما في هذه الأيام. والظاهر أن هذا الرجل كان مستأجراً من ذلك السيد أرضاً فيها أشجار الزيتون وما ذكره كان نصيب السيد من غلتها.
    خُذْ صَكَّكَ كان الصك في يد الوكيل فأعطاه المستأجر لكي يبدله بغيره ويكتب خمسين بدل المئة ويصدقه الوكيل بخطه أو توقيعه.
    عَاجِلاً أي قبل أن يأخذ سيده الصكوك منه كما أنذره. ولم يكن لذلك الوكيل حق في تغيير هذا الصك فكان عليه أن يصون كل حقوق سيده لكنه خسره نصف دخله من الزيت وربح الأجير ذلك وجعله ممنوناً له وشريكاً في الاختلاس حتى لا يستطيع أن يشكوه إلى سيده في ما بعد إذا ثقل عليه. فارتكب إثماً فوق إثم فإنه اختلس وجعل غيره مختلساً.
    ٧ «ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَـهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱكْتُبْ ثَمَانِينَ».
    ١ملوك ٤: ٢٢ و٢أيام ٢: ١٠ و٢٧: ٥ وحزقيال ٤٥: ١٣
    ثُمَّ قَالَ لآخَرَ هذا فلاح استأجر من السيد أرضاً للزرع.
    مِئَةُ كُرِّ الكرّ هو الحومر ويعدل نحو مئة وأربعين أقة.
    ٱكْتُبْ ثَمَانِينَ الأرجح أن ذلك كان أجرة الأرض في السنة. وفعل الوكيل هنا كما فعل في السابق اختلس وجعل غيره يختلس. فخسر السيد خُمس غلة الأرض من الحنطة.
    ولم يذكر المثل ما فعله الوكيل لسائر الفعلة بل ترك للقارئ أن يقيس ما بقي على ما مرّ.
    ٨ «فَمَدَحَ ٱلسَّيِّدُ وَكِيلَ ٱلظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ فِي جِيلِهِمْ».
    يوحنا ١٢: ٣٦ ورومية ١٣: ١٢ وأفسس ٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٥
    فَمَدَحَ ٱلسَّيِّدُ وَكِيلَ ٱلظُّلْمِ لينتبه القارئ أن الذي مدح الوكيل ليس هو المسيح بل سيد الوكيل. ولم يصوب المسيح ذلك الوكيل بدليل أنه دعاه وكيل الظلم. والسيد الذي مدحه هو أحد «أبناء هذا الدهر». ولم يذكر المثل بأي واسطة علم السيد بتغيير الصكوك أو هل عرف كل ذلك بالتفصيل إنما رأى بعد طرد وكيله من الوكالة أن الفعلة قبلوه في بيوتهم واعتنوا به فحكم بأن ذلك لا يكون إلا باتفاق بينهم وبينه قبل عزله ولا يكون ذلك إلا بواسطة الاختلاس.
    فأظهر الوكيل بما أتاه صفتين من صفاته الخيانة والحكمة. أما الحكمة فتدبيره وسائط راحته في المستقبل. ولم يذكر في المثل شيء من قول السيد في أمر الخيانة لكنه اقتصر على أنه مدح الوكيل على حكمته.
    أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أي الذين يحيون لهذا الدهر وحده ويختارون نصيبهم في هذا العالم وتتعلق قلوبهم بالمقتنيات الدنيوية أحكم في اكتساب المال من المسيحي في اكتساب الكنز السماوي. فليس المعنى أن الدنيويين أحكم من المسيحيين في الأمور الدنيوية.
    أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ هذا لقب للمسيحيين لأنهم يسيرون في نور كتاب الله وروحه القدوس ولأنهم متنورون من السماء ولأنهم يحبون النور ويتبعونه (يوحنا ١٢: ٣٦ و١تسالونيكي ٥: ٥ وأفسس ٥: ٨). إن الله نور والمسيحيين هم أبناء الله فلذلك هم أبناء نور (١يوحنا ١: ٦). وسمّوا أبناء النور مقابلة لأبناء هذا الدهر الذين أعمالهم أعمال الظلمة كعمل وكيل الظلم المذكور.
    فِي جِيلِهِمْ أي في معاملتهم لأمثالهم من محبي العالم. ومعنى الآية كلها وهي قوله «لأن أبناء هذا الدهر الخ» إن أهل الدنيا يظهرون الحكمة في أمورهم الدنيوية أكثر مما يظهره المسيحيون منهم في الأمور الروحية. وذلك في ثلاثة أشياء:

    • الأول: العزم الثابت. قال وكيل الظلم «قد علمت ماذا أفعل» وبقي على ذلك إلى النهاية.
    • الثاني: استنباط الوسائل إلى بلوغ الغاية.
    • الثالث: الغيرة والاجتهاد في استعمال تلك الوسائل بانتهاز الفرص والانتباه. ومن المعلوم أن أهل هذا العالم يجتهدون في اكتساب المال أكثر مما يجتهد المسيحيون في خلاص نفوسهم.


    ٩ «وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ ٱلظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي ٱلْمَظَالِّ ٱلأَبَدِيَّةِ».
    دانيال ٤: ٢٧ ومتّى ٦: ١٩ و١٩: ٢١ وص ١١: ٤١ و١٢: ٣٣ و١تيموثاوس ٦: ١٧ إلى ١٩
    أَنَا أَقُولُ لَكُمُ أي أيها التلاميذ (خلافاً لقول وكيل الظلم لنفسه) أنتم أولاد النور ولا شركة لكم في أعمال الظلمة والخيانة ومع ذلك تقدرون أن تتعلّموا شيئاً من أعمال أولئك الخائنين.
    ٱصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ لم يقل المسيح اصنعوا أموال الظلم أصدقاء أي أحببوها بل اصنعوا الأصدقاء بواسطتها. ولم يقل أخزنوا الأموال أو اقتنوا بواسطتها البيوت والحقول والثياب الفاخرة وأولموا الولائم لكن قال اصنعوا «أصدقاء». وقوله «اصنعوا لكم أصدقاء» مبني على قول وكيل الظلم في العدد الرابع فإنه قصد أن يجعل له أصدقاء بواسطة مال سيده ليقبلوه في بيوتهم. وقال المسيح أنه يجب على المسيحيين أن يتمثلوا به في استعمال أمواله لكي يحصلوا على السعادة المستقبلة لكن يأتون ذلك بوسائط عادلة. فإن أنفقنا أموالنا على فقراء المسيح وسددنا حاجاتهم جعلناهم أصدقاءنا إلى الأبد. وإن أنفقنا مالنا في طريق يؤدي إلى خلاص النفوس الهالكة كان الذين خلصوا بواسطتنا أصدقاءنا في السماء. وعلى هذا يكون الملائكة الذين يفرحون بتوبة كل خاطئ يتوب أصدقاءنا لأننا وسطاء توبتهم. والمسيح الذي مات لأجلهم يكون صديقاً لنا وكذلك الآب الذي أحبهم وأرسل المسيح ليخلصهم.
    مَالِ ٱلظُّلْمِ أي المال المعتاد. وأضيف إلى الظلم لا لأن كل مال نتيجة الظلم لكن لكثرة ما يكون كذلك. وسمي كذلك مقابلة بالمال الباقي. ولأن المال فان خادع يعِد الإنسان بالسعادة ولم يُنله إياها. ومعنى الجملة كلها وفي قوله «اصنعوا لكم الخ» انفقوا مالكم بطريق يكون بها شاهداً لكم في السماء يوم الدين لا عليكم. فيكون ذلك إن أنفقتموه على الفقراء إكراماً لله وإن أنفقتموه في سبيل انتشار الإنجيل وخدمة الله وكنيسته وخلاص العالم. فتعلّمنا صريحاً أن الإنسان يمكنه أن ينفق ماله في سبيل يزيد بها سعادته السماوية لا بأن يشتري بماله رضى الله ومغفرة الخطايا ومنزلة في السماء فيمكننا أن نزيد سعادتنا السماوية بواسطة أمانتنا في التصرف بأموالنا. وذلك وفق قول المسيح «ٱكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي ٱلسَّمَاءِ» (متّى ٦: ٢٠) وقول الرسول «وَأَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فِي أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا أَسْخِيَاءَ فِي ٱلْعَطَاءِ... مُدَّخِرِينَ لأَنْفُسِهِمْ أَسَاساً حَسَناً لِلْمُسْتَقْبَلِ» (١تيموثاوس ٦: ١٨ و١٩).
    حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ أي متم.
    يَقْبَلُونَكُمْ أي الأصدقاء المذكورون آنفاً الذين ربحتموهم بواسطة أموالكم فإن كانوا من الفقراء الذي أنفتقتم عليهم أم ممن اهتدوا إلى الخلاص بواسطة ما أنفقتموه على المقاصد الدينية فهم ينتظرونكم في السماء ليرحبوا بكم. (فالمثل صوّر لهم كل من الفريقين توفّي قبلهم). ولكن ينبغي أن نعلم أن أولئك المحسن إليهم لا يفتحون أبواب السماء للمحسنين إنما يرحبون بهم وهم داخلون بواسطة إيمانهم بالمسيح.
    ٱلْمَظَالِّ ٱلأَبَدِيَّةِ أي السماء ونعتت هذه المظال بأنها أبدية مقابلة لها بالمساكن الأرضية الزائلة.
    اتخذ وكيل الظلم بخيانته وحكمته أصدقاء دنيويين قبلوه في بيوتهم الأرضية (ع ٤) فيجب على المسيحيين أن يتخذوا بتصرفهم في الأموال بالحكمة والعدل أصدقاء سماويين يقبلونهم في المواطن السماوية.
    وخلاصة مثل وكيل الظلم ثلاثة أمور. الأول: والأعظم وجوب النظر في المستقبل. فإن كان الأشرار يبذلون ما في وسعهم من الحكمة بغية اقتناء البيوت الزائلة بالخداع فكم بالحري يجب على تلاميذ المسيح أن يستفرغوا كل ما عندهم من الحكمة لكي يقتنوا المساكن الباقية. والثاني وجوب إنفاق المال بالحكمة فإن كان ذلك الوكيل الشرير تصرف في ما وصلت إليه يده من المال في سبيل أدت به إلى غايته اللئيمة فكم يجب على تلاميذ المسيح أن يتصرفوا في أموالهم بالحكمة لكي يربحوا الخير الأبدي. لكن يجب أن لا يستنتج من ذلك أن الخطأة يستطيعون الحصول على المغفرة والسماء بواسطة صدقاتهم فخطاب المسيح كان لتلاميذه الذين هم أبناء النور وورثة السماء بإيمانهم به. والثالث وجوب أن يحسب كل إنسان نفسه وكيل الله تعالى وأن ماله ليس له بل لربه. وإن لم يصح أن نحسب المراد بالغني الله. ووكيل الظلم كل إنسان. وأنه لا بد من أن تأتي ساعة يدعو السيد فيها كل إنسان للمحاسبة. فمن أسمى طرق الحكمة أن نستعمل مال الله الذي وكله إلينا في طريق ترضيه تعالى وتؤدي بنا إلى السعادة الأبدية ويجب أن نشكره تعالى على أنه أوجد طريقاً نستطيع بها أن نبدل مال الظلم بمال الحق والكنز الفاني بالكنز الباقي.
    ١٠ «اَلأَمِينُ فِي ٱلْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ، وَٱلظَّالِمُ فِي ٱلْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ».
    متّى ٢٥: ٢١ وص ١٩: ١٧
    أوصى المسيح تلاميذه في الكلام السابق بأن يتصرفوا في أموالهم بالحكمة وأوصى في هذه الآية واثنتين غيرها بالأمانة لكي لا يظن أحد أن المسيح مدح خيانة وكيل الظم ولكي لا يتوهم السامع أن المال ذو شأن عظيم في نفسه. والكلام في هذه الآية جار مجرى المثل. فقد غلب أن الذي يصدق في الأمور الصغيرة يصدق في الكبيرة والذي يخدع ويكذب في الأولى يخدع ويكذب في الأخرى إذا مكنته الفرصة. لأن تصرفه في الأمور الصغيرة التي لا يفحص عنها يظهر طبيعته الحقيقية ومبادئه التي يسلك بمقتضاها.
    فِي ٱلْقَلِيلِ المقصود بذلك الأمور العالمية كالمال وهي مما لا قيمة له بالنسبة إلى البركات الروحية التي عبّر عنها هنا «بالكثير». وغاية التعليم في هذه الآية أن الإنسان الأمين حق الأمانة في الزمنيات يكون أميناً في الروحيات. والأمين للناس يكون أميناً لله. وأن الله يمتحن الإنسان بواسطة الأمور الدنيوية الزهيدة لكي يتبين هل هو مستحق أن يدخل ملكوت السماء ويؤمن على غناه. وهذا مثل ما جاء في متّى ٢٥: ٢١ ولوقا ١٩: ١٧.
    ١١ «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ ٱلظُّلْمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى ٱلْحَقِّ؟».
    مَالِ ٱلظُّلْمِ (انظر ع ٩) أي مال هذا العالم وسماه مال الظلم لان كثيراً منه يُجمع ظلماً ويُنفق باطلاً ويُحبس بخلاً ولأنه يخدع مقتنيه ويقود إلى الخطية وليس فيه خير بالذات وكله فانٍ.
    مَنْ يَأْتَمِنُكُمْ أي لا أحد يأتمنكم لأنه لا أحد غير الله يقدر على أن يعطي الإنسان الغنى الحقيقي ويستحيل أن يعطيه غير أمين على المال الدنيوي. ولأن الذي لم يتصرف في أمور هذا العالم بأمانة وصدق وسخاء واستقامة ليس من الأتقياء ولا من الراجين دخول السماء.
    ٱلْحَقِّ اي الغنى الحقيقي الذي هو رضى الله وكنز السماء (متّى ٦: ١٩ و٢٠) وميراث القديسين والملكوت المعد منذ تأسيس العالم. ويعطينا الله مال الظلم ليتبين هل نحن مستحقون نوال «الحق» أي المال الحق.
    ١٢ «وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ، فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟».
    هذه الآية تقرير للسابقة وتفسير لها.
    مَا هُوَ لِلْغَيْرِ هذا ما أشار إليه في الآية السابقة بمال الظلم وسُمي ما هو للغير لأن لا أحد من الناس يحق له ادعاء أن ماله لنفسه فالمال لله والإنسان وكيله ملزوم أن ينفقه كما أمره الله. وسُمي كذلك أيضاً لأنه ينتقل أبداً من إنسان إلى إنسان فلا يستطيع أن يمسكه وهو حي لأن السوس والصدأ يأكلانه وأن السارقين يسرقونه ولا أن يأخذه وهو ميت (متّى ٦: ١٩ و١تيموثاوس ٦: ١٩).
    مَا هُوَ لَكُمْ أي الغنى السماوي الذي يبقى لكم إلى الأبد بعد أن يهبه الله لكم. وعبّر عنه بطرس بقوله «مِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (١بطرس ١: ٤).
    ويجري السادة الأرضيون على هذا المبدإ وهو أنهم يجربون أمانة خدمهم بالأمور الحقيرة قبل أن يأتمنوهم على الأمور العظيمة والله السيد الأعظم كذلك. فالمسئلة هنا هي أنه كيف يقدر الله أن يعطينا كنزاً سماوياً يبقى لنا إلى الأبد ونحن لسنا بأمناء على الكنز الأرضي الذي أُعطيناه عارية وقتاً قصيراً والمحقق أنه لا يعطينا إياه لأنه يعرف أننا لا نؤتمن عليه.
    ١٣ «لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَال».
    متّى ٦: ٢٤
    قد مرّ إيضاح ذلك في الشرح متّى ٦: ٢٤. أتى المسيح بهذا أولاً في وعظه على الجبل وكرره هنا ليبين ما هي الأمانة التي يطلبها وهي اختيار الله رباً عظيماً لا المال أو ليدفع وهم من يظن أنه يقدر أن يرضي في وقت واحد إله هذا العالم وإله السماء ويتمتع بغنى كل من الأرض والسماء وليظهر لتلاميذه ما يجب عليهم من جهة المال الذي يأتمنهم الله عليه فلا يجوز أن يخدموه باعتبار أنه إلههم بل يجب أن يستعملوه في خدمة إله السماء حسب أمره.

    توبيخ المسيح للفريسيين ع ١٤ إلى ١٨


    ١٤ «وَكَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً يَسْمَعُونَ هٰذَا كُلَّهُ، وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ، فَٱسْتَهْزَأُوا بِه».
    متّى ٢٣: ١٤
    وَكَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً يَسْمَعُونَ وجه المسيح كلامه إلى تلاميذه (ع ١) ولكن الفريسيين كانوا حاضرين فسمعوه.
    هٰذَا كُلَّهُ أي كل الكلام على قلة قيمة المال.
    وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ كانت محبة المال من أخص صفات الفريسيين.
    فَٱسْتَهْزَأُوا بِهِ لأنهم حسبوا كلام المسيح توبيخاً لهم على حبهم المال. وعلّة استهزائهم ما قاله المسيح في الآية التاسعة في استعمال المال لخير الغير لكي يكون المحسنون أغنياء في السماء وما قاله في الآية الثانية عشرة من أن أموال الناس ليست لهم وأنهم وكلاء الله على ماله وما قاله في الآية الثالثة عشرة من خدمة السيدين وتعذر أن يحب الإنسان الله والمال معاً وعلى زعم الفريسيين أن المسيح لم يصدق بذلك لأنهم تحققوا أنهم يدخلون السماء وينالون رضى الله مع فرط محبتهم للمال. ولا عجب من استهزائهم لأن مبادئ الحكمة السماوية يظهر أبداً للدنيويين أنها جهالة.
    ١٥ «فَقَالَ لَـهُمْ: أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ! وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ. إِنَّ ٱلْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ ٱلنَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ ٱللّٰهِ».
    ص ١: ٢٩، مزمور ٧: ٩، ١صموئيل ١٦: ٧
    تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ ادعى الفريسيون القداسة وقلوبهم مملوءة بخلاً وطمعاً واجتهدوا في أن يظهروا للناس أنهم أبرار ولم يسألوا عن أحوال قلوبهم قدام الله.
    ٱللّٰهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ هذا وفق ما جاء في ١صموئيل ١٦: ٧ ومزمور ٧: ٩ وإرميا ١٧: ١٠. فالناس ينظرون أعمال غيرهم ويسمعون أقوالهم وينخدعون من جهة طبيعة الإنسان الحقيقية لكن الله ينظر إلى القلب ويعلم الحقيقة فكأن المسيح قال لهم أن الله يعرف رياءكم. وهذا تحذير لهم وتنبيه على أن تقواهم الظاهرة باطلة في عيني الله لأنه تعالى لا يُخدع.
    إِنَّ ٱلْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ ٱلنَّاسِ الخ ليس المعنى أن كل ما يعتبره الناس ويفتخرون به يكرهه الله بل أن ما يفعله الإنسان بنيّة رديئة هو رجس عند الله وإن كان ذلك العمل حسناً بالذات. ومن أمثلة ذلك أكثر أعمال الفريسيين لأنهم كانوا يأتون صلواتهم وصدقاتهم ويمارسون أحوالهم لكي يراهم الناس.
    وقول المسيح حق لأن الله وحده يعرف القلب فهو يحكم بخلاف ما يحكم الناس لأنهم لا يستطيعون أن يدركوا سوى الظواهر. وكان الفريسيون يرون حبهم المال أمراً حسناً مع أنه عند الله عبادة أوثان (كولوسي ٣: ٥) ورجس قدامه. وتقواهم الظاهرة رآها الناس شيئاً ورآها الله شيئاً آخر.
    ١٦ «كَانَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ».
    متّى ٤: ١٧ و١١: ١٢ و١٣ وص ٧: ٢٩ و١٥: ١
    انظر الشرح متّى ١١: ١٢.
    العلاقة بين بعض أقوال المسيح هنا والبعض ليس بواضح. وعبّر لوقا عنها في هذا الفصل بالإيجاز.
    كَانَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا معنى ذلك أن كل ما كتب وقيل في زمن العهد القديم من أول نبي إلى آخر أنبيائه أي من موسى إلى يوحنا المعمدان تمهيد لملكوت الله في العصر المسيحي.
    وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي منذ مجيء يوحنا إلى الآن وهو المدة التي بشر فيها يسوع وتلاميذه بملكوت الله.
    كُلُّ وَاحِدٍ أي كثيرون من كل صنف حتى أدنى العشارين والخطاة.
    وقول المسيح في هذه الآية توبيخ للفريسيين فكأنه قال أنتم تفتخرون بناموس العهد القديم وطقوسه وتتكلون عليه وتظنون أنكم داخل ملكوت الله وأن العشارين والخطاة خارجه والحق أنهم سبقوكم إليه ودخلوا وبقيتم أنتم في الخارج.
    ١٧ «وَلٰكِنَّ زَوَالَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ».
    مزمور ١٠٢: ٢٦ و٢٧ وإشعياء ٤٠: ٨ و٥١: ٦ ومتّى ٥: ١٨ و١بطرس ١: ٢٥
    انظر الشرح متّى ٥: ١٨.
    أظهر المسيح أنه لم يأت لكي يبطل الناموس بما قاله هنا وهو كلامه على أبديته فدفع بذلك أعظم اعتراضات الفريسيين عليه.
    ١٨ «كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ ٱمْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُلٍ يَزْنِي».
    متّى ٥: ٣٢ و١٩: ٩ ومرقس ١٠: ١١ و١كورنثوس ٧: ١٠ و١١
    انظر الشرح متّى ٥: ٣١ و٣٢ و١٩: ٣ - ٩.
    لعلّ العلاقة بين هذه الآية والتي قبلها تبيينه للفريسيين بطلان برهم الذاتي (ع ١٥). فكأنه قال لهم أنتم متكلون على الناموس لتتبرروا وتخلصوا فانظروا أنكم مخالفون لذلك الناموس في أمر الطلاق وقس على ذلك ما بقي.
    ولعلّ المسيح قصد بهذا القول أن يبيّن لأهل بيرية التعليم الصحيح في شأن الزيجة أي ثبوت عقد الزيجة وشر الطلاق.

    مثل الغني ولعازر ع ١٩ إلى ٣١


    ١٩ «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ ٱلأُرْجُوَانَ وَٱلْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً».
    رؤيا ١٨: ١٢
    يسوغ لنا أن نسمي ما قاله يسوع في هذا الفصل مثلاً على أنه ليس كالمثل في كل شيء وليست حوادثه كلها مجازية فيحتمل أن بعضها حقيقي تاريخي. وهو قسمان:
    الأول: بيان حالَي شخصين على الأرض (ع ١٩ - ٢١).
    الثاني: بيان حاليهما بعد الموت (ع ٢٢ - ٣١).
    وغاية المسيح من هذا المثل توبيخ الفريسيين على حب المال والذات واحتقار القريب وإظهاره لهم بطلان رجائهم ودعواهم ببيان عاقبتهم.
    وغايته منه أيضاً بيان ما قاله في شأن استعمال المال وإثباته فرفع الحجاب بين العالم الحاضر وعالم الأرواح ليبين أن سوء استعمال الإنسان لماله في مدة حياته علّة شقائه الأبدي وليعلن جهل وخطاء الإنسان الذي يكتفي أن يترفه في هذه الدار ولا يكترث بحاجات نفسه بعد الموت.
    إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لعلّ المسيح قصد به إنساناً معلوماً لم يذكر اسمه إكراماً لأقربائه أو لعله قصد غير معيّن لكثرة أمثاله.
    ٱلأُرْجُوَانَ وَٱلْبَزَّ هما من الملبوسات الجميلة الفاخرة وكثيراً ما ذكرا معاً كأنهما مما يختص بالملوك على أن الأغنياء لبسوهما أيضاً (أستير ١: ٦ و٨: ١٥ ورؤيا ١٨: ١٢). وكان يأتي الأرجوان غالباً من صور والبز من مصر. وكان يلبسهما هذا الغني كل يوم لا في أيام الاحتفالات والأعياد فقط وهذا دليل الافتخار والتنعم.
    يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ أي يتلذذ يوماً فيوماً بولائم نفيسة. وخلاصة ما قيل من جهة هذا الإنسان أنه غير مهتم بشيء من ارتكاب الفواحش وأنه لم يحصل ماله بغير الحق ولكنه كان من أبناء هذا الدهر (ع ٨) وممن يعتنون باللذات الجسدية دون اللذات الروحية وحاجات النفس هنا وفي الآخرة وأنه لم يفتكر في واجباته لله ولا في واجباته للمحتاجين الذين مثل لعازر المطروح قدام بيته فلم يصنع له أصدقاء من مال الظلم (ع ٩) إنما عاش للذته وأهلك نفسه.
    ٢٠ «وَكَانَ مِسْكِينٌ ٱسْمُهُ لِعَازَرُ، ٱلَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِٱلْقُرُوحِ».
    مِسْكِينٌ ٱسْمُهُ لِعَازَرُ وهو غير لعازر أخي مريم ومرثا. وكان هذا الاسم شائعاً يومئذ بين اليهود. ذكر الله في كتابه اسم الفقير وترك اسم الغني وهذا خلاف ما يفعل الناس. ومعنى «لعازر» الله عون.
    طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ الذين طرحوه هنالك أقرباؤه أو أصحابه وهذا يدلنا على أنه كان عاجزاً عن الإتيان بنفسه وقصدوا بطرحه هناك أن ينظره الغني فيحسن إليه وكانوا معتادين أن يضعوا الفقراء على أبواب الأغنياء والهياكل (أعمال ٣: ٢). فامتحن الله الغني بواسطة ذلك المسكين لكي يعطيه فرصة ليصنع له أصدقاء من ماله بواسطته رحمته له.
    مَضْرُوباً بِٱلْقُرُوحِ كان علاوة على فقره وعجزه معذباً بقروح مؤلمة وكانت تلك القروح نتيجة فقره وعدم الاكتراث به.
    ٢١ «وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ ٱلْفُتَاتِ ٱلسَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ ٱلْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ ٱلْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ».
    يَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ ٱلْفُتَاتِ هذا كان اشتهائه واشتهاء أقربائه ولم يقل المثل أَحصل على ذلك أم لا. والظاهر من القصة أنه لم يرج من الغني سوى الفتات الذي كان يسقط من مائدة الغني ويحمله الخدام إلى لعازر من تلقاء أنفسهم لا بأمر الغني.
    وذكر الفُتات هنا مقابلة للنفائس التي كان يتنعّم بها الغني كل يوم.
    كَانَتِ ٱلْكِلاَبُ تَأْتِي الخ كانت الكلاب تأتي إلى هنالك بغية ما ابتغاه لعازر أي الفتات. وذكر المثل لحس الكلاب قروح لعازر بياناً لتعاسة حاله التي بلغت مبلغاً عظيماً حتى حملت الكلاب على الشفقة وإظهاراً لكونه كان عارياً لا ممرّض له سوى الكلاب تلميحاً إلى أن الغني لم يكترث به البتة. والذي زاد إثم الغني بإهماله ذلك المسكين ثلاثة أمور:

    • الأول: أن المسكين كان عند بابه فكان لا بد له من أن يراه ويعرف سوء حاله.
    • والثاني: أن لعازر كان متروكاً من الناس وفي غاية الاحتياج إلى ذلك الغني.
    • والثالث: أن كل ما كان يحتاج إليه ذلك المسكين كان كالعدم بالنسبة إلى غناه.


    فإذا قابلنا أحوال الغني بأحوال لعازر رأينا الأول مكتسياً بالأرجوان والبز والثاني عارياً ظاهر القروح. والأول يتنعم كل يوم بوليمة والثاني يشتهي الفتات. والأول له خدم كثيرة تقوم بقضاء كل حاجاته والثاني لا خادم له سوى الكلاب. وهذا حال كل منهما في هذا العالم (ع ٢١).
    ٢٢ «فَمَاتَ ٱلْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ».
    متّى ١٣: ٤١ و١٨: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤
    فَمَاتَ ٱلْمِسْكِينُ لم يقل المثل شيئاً من أمر جنازته أو دفنه لعدم اهتمام الناس به.
    حَمَلَتْهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أي حملت نفسه وهذا وفق اعتقاد اليهود لأنهم اعتقدوا أن الملائكة تحمل أنفس المتوفين الأتقياء ولا ريب في أن ذلك حق بدليل قول الكتاب «أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ (أي الملائكة) أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ ٱلْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا ٱلْخَلاَصَ» (عبرانيين ١: ١٤). ولا أهمية لأي نوع كان من أنواع الدفن لجسد لعازر إذ كانت الملائكة حملت نفسه إلى السماء.
    إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ كان إبراهيم أبا كل الأمة اليهودية واعتقد اليهود أن الحلول في حضن إبراهيم حظ كل يهودي مؤمن. والكلام مأخوذ من عوائد الولائم لأنه كان كل من المدعوين يتكئ على حضن غيره كما اتكأ يوحنا البشير على حضن المسيح في العشاء الرباني (يوحنا ١٣: ٢٣) ومنه القول أن المسيح في حضن الآب (يوحنا ١: ١٨) فالاتكاء في حضن إبراهيم إشارة إلى نوال الراحة التامة والإكرام الزائد واللذة الكاملة. وكثيراً ما يعبّر الكتاب عن السماء كأنه محل وليمة وأن القديسين يتكئون هنالك مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب (متّى ٨: ١١). وحضن إبراهيم هنا مثل الفردوس في ص ٢٣: ٤٣.
    فما أعظم التغير الذي طرأ على حال لعازر فإنه انتقل من باب حيث أحاطت الكلاب به إلى الفردوس السماوي وذلك ليس لأنه كان فقيراً على الأرض بل لأنه كان تقياً كما يظهر من القرينة.
    وَمَاتَ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً لم يمنع الغنى الموت عنه.
    وَدُفِنَ حصل جسده بعد موته على الإكرام الذي كان له في حياته. ولم ينقصه شيء من الاحتفال والنفقة على جثته. وهذا كل ما أمكن ماله أن يهبه له ونهاية منفعته منه وهو غير شاعر بشيء من ذلك. ولم يقل المثل أن الملائكة حملته إلى العالم الآخر كما حملت لعازر.
    ٢٣ - ٢٥ «٢٣ فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، ٢٤ فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ٱرْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هٰذَا ٱللَّهِيبِ. ٢٥ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ٱبْنِي ٱذْكُرْ أَنَّكَ ٱسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذٰلِكَ لِعَازَرُ ٱلْبَلاَيَا. وَٱلآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ».
    مزمور ٩: ١٧ ومرقس ٩: ٤٣ ورؤيا ١: ١٨، زكريا ٤: ١٢، إشعياء ٦٦: ٢٤ ومرقس ٩: ٤٤ الخ، أيوب ٢١: ١٣ وص ٦: ٢٤
    في هذه الآيات مجاز أعلنت به أمور حقيقية مهمة في أحوال عالم الأرواح عبّر عنها المسيح بأسلوب المحادثة بين إبراهيم ولعازر كما يمكن أن يحدث في هذا العالم بين اثنين تفصل بينهما حفرة عميقة ونسب إلى أرواح الموتى ما لا يصدق إلا على الناس الأحياء على الأرض. فعلينا أن ننتبه للحقائق الجوهرية المقصودة بهذا القول ولا نعتبر أن صورة الكلام هي الأمر الجوهري متذكرين أولاً أن المجاز الأرضي لا يوضح الحقائق الروحية كل الإيضاح. وثانياً إنا لا نعلم من أمر عالم الأرواح ما يقدّرنا على أن نحكم بما يمكن أن يحدث هناك وبما لا يمكن حدوثه كذلك.
    فِي ٱلْهَاوِيَةِ (ع ٢٣) هو «هادس» في اليونانية و «شأول» في العبرانية. ويشار به غالباً إلى مسكن أرواح الموتى قبل القيامة. واعتقد اليهود غالباً واليونانيون الوثنيون أن فيه محل راحة ومحل عذاب تبقى في كل منهما ما فيه من النفوس إلى يوم القيامة وحينئذ يُنقل الأتقياء إلى السماء والأشرار إلى جهنم (رؤيا ٢٠: ١٤). فالمسيح صاغ مثله على اصطلاح الفريقين ولم يصدق ذلك الاعتقاد.
    وَهُوَ فِي ٱلْعَذَابِ لا لأنه كان غنياً في دنياه إذ لا خطية في الغنى فإن إبراهيم كان من أغنى أهل الشرق وكذلك أيوب وداود لكن لأنه عاش لهذا العالم فقط ولم يتب إلى الله كما سترى في (ع ٣٠) من أنه طلب إلى إبراهيم أن يرسل من ينهي إخوته عن أن يفعلوا كما فعل هو.
    وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ... وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ ذكر هذا بياناً أن شقاء الأشرار يعظم بمقابلته بسيادة الأبرار.
    يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ (ع ٢٤) اتخذ ما كان له من النسبة الأرضية إلى إبراهيم حجة على استحقاقه شفقة إبراهيم الخاصة وإجابته لطلبه. وهذا على وفق زعم اليهود أن كل مختون يأمن من عذاب الجحيم.
    أَرْسِلْ لِعَازَرَ قال ذلك كأن طرح لعازر عند بابه على الأرض كان مستلزماً العلاقة بينهما.
    لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ الخ زعم اليهود أن المتوفين يستطيعون أن يرى بعضهم بعضاً في عالم الأرواح ويعرفه ويخاطبه فتكلم المسيح هذا على وفق زعمهم توصلاً إلى تعليم الحقائق المتعلقة بذلك العالم.
    وعبّر عن شدة العذاب في الجحيم بما اعتاد الناس على الأرض أن يعبّروا به عن الآلام وعن طلب الراحة بالوسائط التي يتوصل بها إليها في الدنيا.
    ومعظم الفرق بين حال الغني وحال لعازر في العالمين يتضح مما ذكر أنه كما اشتهى لعازر الفتات من مائدة الغني كذلك اشتهى الغني قطرة مما يتمتع به لعازر. ولو قيل للغني حين كان كلاهما على الأرض «هل تحتاج إلى شيء من هذا المسكين المطروح تكسوه القروح» لأنف من ذلك شديد الأنفة ولكن حين صار لعازر في حضن إبراهيم بلغ من التنعم مبلغاً عظيماً حتى تمنى الغني أن يحصل على أقل شيء من سعادته.
    ولم يطلب الغني شفقة الله لعلمه أن وقت ذلك قد فات ولم يطلب النجاة من العذاب والدخول إلى حيث لعازر لتيقنه أن ذلك محال.
    وهذه هي الصلاة الوحيدة التي ذُكر في الكتاب المقدس أنها وُجهت إلى قديس في السماء فلير القارئ أي نفع كان منها.
    يَا ٱبْنِي (ع ٢٥) لم ينكر إبراهيم نسبة الغني إليه لكنه لم يسلّم بأنها علّة استحقاقه المساعدة. ومما يتبين شدة عذابه أن الذي كان يتنعم بالولائم كل يوم على الأرض طلب في الجحيم قطرة واحدة من الماء ولم يحصل عليها.
    ٱذْكُرْ من أشد عذاب الأشرار في الجحيم أن يذكروا حوادث حياتهم على الأرض كالمراحم التي لم يشكروا الله عليها وفرص الخلاص التي لم ينتهزوها والخطايا التي ارتكبوها ونذورهم التي لم يفوا بها فإن ضميرهم يوبخهم على كل ما يذكرون من ذلك (أمثال ٥: ١٢ - ١٤).
    وليس كلام إبراهيم هنا قدحاً في الغني ولم ينتج عن قساوة لكنه يقطع رجاء الغني كل نجاة.
    ٱسْتَوْفَيْتَ (متّى ٦: ٢) شاع استعمال هذه العبارة بياناً لنوال الإنسان كل ما له حق أن يتوقعه من ديون أو هبات وغيرها. والمعنى هنا أن لا حق له أن ينتظر بعد ذلك شيئاً من البركات الإلهية لأن زمان نوالها قد انتهى.
    خَيْرَاتِكَ العطايا الزمنية كالغنى وأمثاله. ونُسب الخيرات إليه لأنه اختارها نصيباً وفضّلها على كل ما سواها من فوائد الحياة فهو قد زرع للجسد فلم يبق له أن يحصد إلا فساداً (غلاطية ٦: ٨ ولوقا ٦: ٢٤ و١تيموثاوس ٦: ٩ و١٠).
    لِعَازَرُ ٱلْبَلاَيَا أي الفقر والمرض والألم. ولم يُنسب البلايا إلى لعازر كما نسب الخيرات إلى الغني لأن لعازر لم يختر البلايا نصيباً بل قبلها من يد الله. ولعله لم يحسبها مصائب بل سرّ بها كما سرّ بولس بضيقاته (٢كورنثوس ١٢: ٩ و١٠) ولا شك أنها كانت امتحاناً له وإعداداً لنوال الخيرات. فالغني لم يرحم غيره في حياته فلم يُرحم بعد موته. ولم يصنع له أصدقاء من مال الظلم فلم يُقبل «في المظال الأبدية».
    ٢٦ «وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْعُبُورَ مِنْ هٰهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا».
    وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ أي علاوة على كون شقائك نتيجة توغلك في الشهوات الدنيوية وحب الذات.
    هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ أشار بهذا إلى الفاصل الأبدي بين المخلصين والهالكين فلم يبقَ لأهل الجحيم من وسيلة للعبور لا برحمة الله ولا بتوبتهم.
    أُثْبِتَتْ بإرادة الله وقضائه بناء على عدله. فحكمه بذلك أبدي لا يتغير.
    مِنْ هٰهُنَا إِلَيْكُمْ لكي يعزّي الهالكين شفقة عليهم.
    وَلاَ ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ الخ بغية النجاة من العذاب فعلى من يتوقعون اليوم نفع صلواتهم من أجل الموتى أو قرابينهم أن يراجعوا قول إبراهيم للغني.
    ٢٧، ٢٨ «٢٧ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذاً يَا أَبَتِ أَنْ تُرْسِلَـهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي، ٢٨ لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ، حَتَّى يَشْهَدَ لَـهُمْ لِكَيْلاَ يَأْتُوا هُمْ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِ ٱلْعَذَابِ هٰذَا».
    بعد أن يئس الغني من استجابة صلاته من أجل نفسه صلّى من أجل أقربائه الأحياء على الأرض. ولا يستلزم ذلك أن الهالكين يسألون عن خلاص أصدقائهم أو يطلبون طلبات كهذه لكن ذُكر هنا سؤال الغني ليكون جواب إبراهيم له وسيلة إلى التعليم الذي أراد المسيح بيانه.
    وإذا سلمنا أن الهالكين يسألون مثل هذا فغايتهم من ذلك هي أن لا يزيد عذابهم بمجيء هؤلاء ليبكتوهم بأنهم هم كانوا سبب هلاكهم بما أتوه بسوء القدوة. وليس في كون إخوته خمسة معنى روحي إنما هو من مكملات المثل. والشهادة التي طلب أن يرسل بها إلى إخوته هي بيان أن النفس تحيا بعد الموت. وبيان شقائه إنذاراً لهم بشر عواقب العيش للجسد فقط. وطلب أن يكون لعازر الشاهد لهم لأنهم عرفوا أنه مات فيصدقون أنه أتاهم برسالة من عالم الأرواح.
    ٢٩ «قَالَ لَـهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ».
    إشعياء ٨: ٢٠ و٣٤: ١٦ ويوحنا ٥: ٣٩ و٤٥ وأعمال ١٥: ٢١ و١٧: ١١ ورومية ١٠: ١٧
    عِنْدَهُمْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءُ أي خمسة أسفار موسى وسائر كتب العهد القديم.
    لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ أي ليطيعوهم. ولم يقبل إبراهيم هنا كما قال في أمر العبور من الفردوس إلى الجحيم من أن بينهما هوة عظيمة لا يمكن أن تعبّر بل قال ما مضمونه أن لا حاجة إلى إرسال لعازر. وفي قول إبراهيم شهادة بقيمة كتب العهد القديم أن فيها نوراً كافياً ليقود الإنسان إلى السماء إذا استنار به. فيمكن أخوة الغني أن يتعلّموا منها أن العيشة الدنيوية خطية ووجوب التوبة وعبادة الله والاستعداد للموت والأبدية. وإذا صحت هذه الشهادة من جهة موسى والأنبياء فكم بالحري تصح من جهة كتاب الله المشتمل اليوم على أقوال موسى والأنبياء والمسيح ورسله فأي عذر لمن لا يسمع منهم.
    ٣٠ «فَقَالَ: لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ».
    طلب الغني مثل طلب اليهود من المسيح آية خاصة إثباتاً للإعلان الإلهي (متّى ١٢: ٣٣ و١٦: ١.
    ٣١ «فَقَالَ لَـهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ».
    يوحنا ١٢: ١٠ و١١
    يُصَدِّقُونَ أي يقتنعون بخطيتهم وجهلهم وحقيقة الخلود ووجوب التوبة والرجوع إلى الله.
    وما قيل في هذه الآية من جهة إخوة الغني يصدق بالنظر إلى كل أهل العالم غير المؤمنين أي أن زيادة البراهين على صحة دين الله لا تقنعهم لأن علّة عدم إيمانهم ليست ضعف البراهين أو قلتها بل إغماض عيونهم وقساوة قلوبهم فلو زادت الشمس ضياء لم ينظر الأعمى وزيادة البراهين لا تقنع القلب القاسي.
    والذي أثبت ما قيل هنا أنه بعد أن قال المسيح هذا المثل بقليل رجع من عالم الأرواح لعازر بيت عنيا أخو مريم ومرثا ولم يكن تأثير رجوعه في اليهود سوى أن طلبوا أن يقتلوه ليخفوا شهادته (يوحنا ١١: ٤٧ و٥٠). وظن هيرودس أن يسوع هو يوحنا قام من الأموات ولكنه لم يستفد من ذلك شيئاَ. وتحقق رؤساء الكهنة من شهادة عساكرهم أن يسوع قام من الأموات ولكنهم لم يستفيدوا منه البتة (متّى ٢٨: ١١).
    وخلاصة التعليم في مثل الغني ولعازر أحد عشر أمراً:

    • إن نجاح الإنسان في هذا العالم ليس بدليل على محبة الله له وأن ضيقته ليست بدليل على عدم مسرته به.
    • إن الفقر مع محبة الله خير من كل غنى العالم ورضى الناس بدون تلك المحبة.
    • إن الموت حكم على كل بشر ينتهي به سرور الغنى الدنيوي وحزن الفقير المؤمن وهذا تعتني بنفسه الملائكة حاملة إياها إلى النعيم.
    • إن النفس تحيا بعد موت الجسد.
    • إن النفوس في العالم الأخير قسمان المخلصون والهالكون وهما الأخيار والأشرار على هذه الأرض.
    • إن سعادة الأخيار وشقاء الأشرار يبتدئان عند الموت ويدومان إلى الأبد. فليس النفس في سبات بين الموت والقيامة.
    • إن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على اللذات العالمية والسعادة الأبدية.
    • إنه لا بد من ثواب الأبرار وعقاب الأشرار وانفصال كل من الفريقين عن الآخر إلى الأبد.
    • إن مجرد العيشة الدنيوية بالغفلة عن الواجبات الدينية خطية وتوجب العقاب على مرتكبها.
    • إن قوة الذكر تبقى للنفوس في العالم الأخير.
    • إن وسائط النعمة التي منح الله الناس إياها كافية لتنويرهم وخلاصهم فالذين يهملونها يجب أن لا ينتظروا أن الله ينبههم بالمعجزات لكي يتوبوا ويؤمنوا. فمن العبث أن ينتظر الناس رجوع أحد الموتى إليهم ليخبرهم ما سمع ورأى في عالم الأرواح.




    الأصحاح السابع عشر


    تحذيرات المسيح لتلاميذه ع ١ إلى ١٠


    ١ «وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ ٱلْعَثَرَاتُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ!».
    متّى ١٨: ٦ و٧ ومرقس ٩: ٤٢ و١كورنثوس ١١: ١٩
    لِتَلاَمِيذِهِ أي كل تابعيه الحاضرين وكان بعضهم رسلاً (ع ٥) وما سبق من الكلام على الغني ولعازر كان للفريسيين (ص ١٦: ١٤ و١٥).
    لاَ يُمْكِنُ علّة ذلك وجود الناس في عالم شرير وكونهم ضعفاء مائلين إلى السقوط ولكن في السماء لا عثرة إذ ليس هنالك من خطية.
    ٱلْعَثَرَاتُ أي كل ما هو سبب لسقوط الناس في الإثم ولجعلهم يشكون في صدق ديانة المسيح أن ينكرونها. ومن تلك العثرات الهزء والتمليق والاضطهاد والقدوة الردية ومقاومة الفريسيين للمسيح واتهامهم إياه كذباً. فمثل هذه العثرات منع الناس من الإيمان بالمسيح وجعل تلاميذه في خطر السقوط. ومنها محبة التلاميذ للعالم وعدم مغفرة بعضهم لبعض.
    وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ انظر الشرح متّى ١٨: ٧.
    هذا الويل لكل من يجعلون أحد تلاميذ المسيح يسقط في الخطيئة من أعظم مضطهد مثل نيرون إلى التلميذ الدنيوي الذي يضل إخوته بسوء سيرته.
    ٢ «خَيْرٌ لَـهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي ٱلْبَحْرِ، مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ».
    هذا الكلام جارٍ مجرى المثل وقد مرّ معناه في شرح بشارة متّى (متّى ١٨: ٦).
    ٣، ٤ «٣ اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَٱغْفِرْ لَـهُ. ٤ وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَٱغْفِرْ لَـهُ».
    لاويين ١٩: ١٧ و١٨ وأمثال ١٧: ١٠ ومتّى ١٨: ١٥ و٢١ ويعقوب ٥: ١٩ و٢٠
    اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ أما من أن تجعلوا إخوتكم يسقطون في الخطيئة لحقدكم وعدم العفو عنهم. (وذكر المسيح هذه العثرة لأن السقوط بها أسهل منه بغيرها ونتيجتها أردأ لمسببها). وأما من أن يسقطوا بالعثرات التي يسببها إخوتكم لا أعداؤكم فقط ومن أن تُغلبوا بها إذ لم تغفروا لهم في الحال. انظر الكلام على ذلك في الشرح (متّى ١٨: ١٥ و٢١ و٢٢).
    سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ (ع ٤) كناية عن مرارٍ غير معينة (مزمور ١٢: ٦ ومتّى ١٢: ٤٥ ولوقا ١١: ٢٦) والمعنى مثل معنى قوله «سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ» (متّى ١٨: ٢٢) لأنه لم يقل سبع مرات فقط بل سبع مرات في اليوم.
    ٥ «فَقَالَ ٱلرُّسُلُ لِلرَّبِّ: زِدْ إِيمَانَنَا».
    شعر الرسل باحتياجهم إلى زيادة الإيمان لكي يقدروا على حفظ كل أوامر المسيح ولا سيما وصيته بأن يغفروا لإخوتهم وأن يقووا على العثرات وكان عليهم أن يطلبوا دائماً زيادة الإيمان لكن طلبهم إياها حينئذ أظهر عدم ثقتهم الواجبة بأن الله يعطيهم قوة على القيام بما عليهم لأن إجابة المسيح لطلبهم تتضمن شيئاً من التوبيخ لهم على ذلك الطلب.
    ٦ «فَقَالَ ٱلرَّبُّ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهٰذِهِ ٱلْجُمَّيْزَةِ ٱنْقَلِعِي وَٱنْغَرِسِي فِي ٱلْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ».
    متّى ١٧: ٢٠ و٢١: ٢١ ومرقس ٩: ٢٣ و١١: ٢٣
    انظر شرح بشارة متّى ١٧: ٢٠ و٢١: ٢١.
    صرّح المسيح هنا بقوة الإيمان فقال أن الإيمان بالله يقدر الرسل على عمل عجائب عظيمة في عالم المادة ويقدر كل تلاميذه على غلبة المصاعب في العالم الروحي التي تظهر للإنسان الطبيعي أن دفعها يمتنع امتناع نقل الشجرة من الأرض إلى قلب البحر بكلمة. وللإيمان هذه القوة العجبية لأنه يحرك قوة الله غير المحدودة.
    في جواب المسيح إيماء إلى أنه كان على التلاميذ أن يؤمنوا بمحبة الله وبأنه يهب لهم نعمة كافية لكي يقوموا بما هو عليهم من الواجبات.
    ٧، ٨ «٧ وَمَنْ مِنْكُمْ لَـهُ عَبْدٌ يَحْرُثُ أَوْ يَرْعَى، يَقُولُ لَـهُ إِذَا دَخَلَ مِنَ ٱلْحَقْلِ: تَقَدَّمْ سَرِيعاً وَٱتَّكِئْ. ٨ بَلْ أَلاَ يَقُولُ لَـهُ: أَعْدِدْ مَا أَتَعَشَّى بِهِ، وَتَمَنْطَقْ وَٱخْدِمْنِي حَتَّى آكُلَ وَأَشْرَبَ، وَبَعْدَ ذٰلِكَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ أَنْتَ».
    ص ١٢: ٣٧
    وَمَنْ مِنْكُمْ خاطبهم كأنهم مثل سائر الناس في معاملة بعضهم لبعض. وغايته من قوله هنا أن الأعمال الصالحة لا تستحق الأجر في ذاتها فذكرهم أنهم ليسوا سوى خدم وأن كل قوى أجسادهم وعقولهم ونفوسهم لسيدهم الله وأنه يجب عليهم أن يخدموه تعالى بسرور وتواضع وصبر كلما طلب خدمتهم. فشبّه خدمته لله بخدمة العبيد لساداتهم الأرضيين ليظهر لهم أن لا حق لهم أن يتوقعوا من الله أن يعاملهم معاملة أحسن من معامتلهم لعبيدهم.
    عَبْدٌ أي رقيق مشترى بالمال لا حق له أن ينتظر أجرة غير أكله وكسوته.
    يَحْرُثُ أَوْ يَرْعَى ذكر المسيح هذين العملين لأنهما من أنواع الأعمال التي كان السادة يكلفون العبيد إياها.
    يَقُولُ... تَقَدَّمْ سَرِيعاً وَٱتَّكِئْ أي لا يقول له ذلك لأنه يتضمن الراحة واللذة قبل الفراغ من شغل النهار.
    أَعْدِدْ يظهر من ذلك أنه بقي عل العبد أن يعمل أعمال البيت بعد الفراغ من أعمال الحقل فلم يكن له أن يتوقع الطعام والراحة قبل إتمامه ما يجب عليه إلى نهاية النهار وأن ليس له أن ينتظر بعد ذلك سوى الأكل والاستراحة.
    تَمَنْطَقْ هذا ما يضطر إليه ذو الثياب الطويلة الواسعة عند الشروع في العمل. والمقصود من ذلك تعليم التلاميذ ثلاثة أمور:

    • إنه يجب عليهم أن يخدموا سيدهم السماوي بالمسرّة والصبر إلى نهاية الحياة هنا.
    • إنه لا حق لهم أن يتوقعوا الراحة واللذة بعد العمل القصير لكن لهم ذلك في السماء بعد إكمال العمل الشاق الطويل.
    • وجوب أن يتكلوا على سيدهم السماوي في أن يثيبهم على أتعابهم كما يشاء.


    ٩ «فَهَلْ لِذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فَضْلٌ لأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ؟ لاَ أَظُنُّ».
    هذا يدل على أن السادة لم يعتادوا أن يشكروا عبيدهم على أحكام الأعمال العادية ولم يكن للعبيد أن يتوقعوا الشكر على ذلك. ونتيجة ذلك أنه ليس لعبيد الله أن ينتظروا مدحه تعالى وشكره لهم على إتمامهم ما يجب عليهم. فخلاصة التعليم في الآية السابعة والآية الثامنة أنه يجب على عبيد الله الآب الاجتهاد في العمل والمواظبة عليه. وفي الآية التاسعة والآية العاشرة وجوب التواضع والقناعة في طلب الثواب على العمل.
    ١٠ «كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا».
    أيوب ٢٢: ٣ و٣٥: ٧ ومزمور ١٦: ٢ ومتّى ٢٥: ٣٠ ورومية ٣: ١٣ و٦: ٢٣ و١١: ٣٥ و١كورنثوس ٩: ١٦ و١٧ وفليمون ١١
    لنا من هذه الآية أن إثابة كل المؤمنين في السماء من النعمة لا من الاستحقاق. وهذا وفق قول الرسول «وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية ٦: ٢٣). ويعلمنا أن ليس لأفضل الناس أن يتوقع أجرة على بره وأعماله الصالحة وأنه لا يمكن للصالحين أن يأتوا أعمالاً نافلة يجبر بها نقص غيرهم.
    عَبِيدٌ بَطَّالُونَ أي أناس لا يفعلون فوق ما يجب عليهم. والمسيحيون «عبيد بطالون» لخمسة أسباب:

    • إن الله لا يحتاج إليهم ولا يربح شيئاً من أعمالهم.
    • إنه هو يهب لهم كل الحاجات الجسدية وهذا اكثر مما يستحقونه على خدمتهم إياه فليس تعالى بمديون لهم.
    • إنه يعطيهم نعمة يقدرون بها على القيام بما يجب عليهم له وبطاعتهم لله يردون له ما له (أيوب ٢٢: ٢ و٣ ورومية ١١: ٣٥ و١كورنثوس ٤: ٧).
    • إنهم لا يستطيعون عمل ما هو فوق الواجبات عليهم مهما اجتهدوا فلا فضل لهم عند الله لأن خدمتهم لله دين حق عليهم.
    • إن كل الناس قصروا عن إكمال الواجب «إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية ٣: ٢٣).


    وهذا العدد يعلّمنا التواضع والاتكال على مجرد استحقاق المسيح لنوال الخلاص وعظمة محبة الله ورحمته فإنه مع أنا عبيد بطالون يتنازل لمخاطبة كل منا قائلاً «نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متّى ٢٥: ٢١ و٢٣) ويعاملنا في السماء معاملة الأب لأولاده ويجعلنا ورثة المجد السماوي ويعدنا بعروش وأكاليل وكنوز لا تفنى وسرور لا يتناهى. فخير لنا أن نسمي أنفسنا الآن «عبيداً بطالين» بالتواضع والاتكال على برّ المسيح ويقول لنا المسيح أخيراً «يا مباركي أبي» من أن نسمي أنفسنا اليوم بالكبرياء والاتكال على البرّ الذاتي أفاضل الأبرار فيقول المسيح في اليوم الأخير فينا «العبد البطال اطرحوه إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الاسنان».
    وهذه نهاية مواعظ المسيح التي بداءتها الأصحاح الخامس عشر.

    شفاء عشرة برص ع ١١ إلى ١٩


    ١١ «وَفِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ ٱجْتَازَ فِي وَسَطِ ٱلسَّامِرَةِ وَٱلْجَلِيلِ».
    متّى ١٩: ١ وص ٩: ٥١ و٥٢ ويوحنا ٤: ٤
    فِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لم يحقق الزمان الذي صنع فيه يسوع هذه المعجزة لكن نعلم أنه كان في أثناء ذهابه الأخير إلى أورشليم الذي ذكرت بدائته في ص ٩: ٥١ ومتّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١. والأرجح أنها صُنعت في أول ذلك الذهاب بعدما منعه السامريون من الدخول إلى مدينتهم (ص ٩: ٥٢ - ٥٦).
    فِي وَسَطِ ٱلسَّامِرَةِ وَٱلْجَلِيلِ أي الأرض التي بين هذين البلدين. ولعله سار على التخم من الغرب إلى الشمال ثم اجتاز الأردن بعد صنع المعجزة ودخل بيرية.
    ١٢ «وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ ٱسْتَقْبَلَـهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ، فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ».
    لاويين ١٣: ٤٦ وعدد ٥: ٢
    وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ الأرجح أن هذه الحادثة كانت خارج باب السور حيث اعتاد المتسولون أن يجتمعوا ليطلبوا الصدقة.
    عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ مرّ الكلام على مرض البرص في الشرح متّى ٨: ٢. كانت إصابة هؤلاء العشرة بمرض واحد علّة ائتلافهم مع اختلافهم في الجنس والآراء.
    فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ وفقاً لشريعة موسى لأن مرضهم كان نجساً (لاويين ١٣: ٤٦ وعدد ٥: ٢ و٢ملوك ١٥: ٥).
    ١٣ «وَصَرَخُوا: يَا يَسُوعُ يَا مُعَلِّمُ، ٱرْحَمْنَا».
    وَصَرَخُوا ليلتفت يسوع إليهم لأنهم لم يجسروا أن يدنوا منه. وصرخوا كلهم بصوت واحد لأن العلّة مشتركة. ودلوا بذلك على شقاء حالهم وطلبهم المعونة والإيمان بقوة المسيح وشفقته.
    يَا يَسُوعُ عرف هؤلاء المسيح والقوات التي صنعها مع أنهم اعتزلوا الناس لمرضهم وهم من أهل قرية حقيرة لا يقصدها الناس إلا قليلاً. فهؤلاء الذين اتفقوا على أن نادوا المسيح في ضيقهم نسوا إلا واحداً منهم أن يشكروه في فرحهم.
    ١٤ «فَنَظَرَ وَقَالَ لَـهُمُ: ٱذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ. وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهَرُوا».
    لاويين ١٣: ٢ و١٤: ٢ الخ ومتّى ٨: ٤ وص ٥: ١٤
    فَنَظَرَ هذا وفق ما ظهر للحاضرين أنه نتيجة صراخهم والحق أن المسيح عرفهم قبلاً والأرجح قصد إبراءهم بمجيئه إلى تلك القرية.
    أَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ راجع الشرح متّى ٨: ٤. أمر يسوع في الحادثة التي ذكرها متّى الإنسان أن يُري نفسه للكاهن بعد الشفاء وهنا أمر البرص بمثل ذلك قبله. فإن الأبرص كان مضطراً حسب شريعة موسى أن يُري نفسه للكاهن عندما يُشفى ويقدّم تقدمة معينة ويأخذ الشهادة منه بأنه قد طهر (لاويين ص ١٤). وأظهر يسوع بذلك الأمر اعتباره للشريعة الموسوية الطقسية التي كانت على وشك الزوال وامتحن إيمانهم بطاعتهم لأمره أن يفعلوا كأنهم طهروا (أي أن يذهبوا إلى الكهنة) متكلين عليه أن يشفيهم وهم سائرون مع أنه لم يلمسهم ولم يروا أدنى تغير في مرضهم. كذلك يجب على كل المسيحيين أن يشرعوا في كل واجبات الديانة متكلين على الله أن يعطيهم القوة والنعمة الضروريتين للقيام بذلك.
    وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ لم يقولوا «أي نفع من أن نذهب قبل الشفاء اشفنا أولاً فننطلق» لكنهم أظهروا إيمانهم بذهابهم في الحال ولإيمانهم شفاهم يسوع. والأرجح أن ذلك حدث عندما ذهبوا فصلح دمهم الفاسد وعادت أجسادهم كما كانت في أيام الصحة.
    ١٥ «فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ شُفِيَ، رَجَعَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ».
    فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ... رَجَعَ لا بد من أن الجميع شعروا بشفائهم ولكنهم بقوا سائرين إلى الكهنة ثم إلى أوطانهم وأعمالهم ما عدا هذا الواحد.
    يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ حسب تمجيده للمسيح تمجيداً لله.
    بِصَوْتٍ عَظِيمٍ هذا دليل على شدة محبته وفرحه وشعوره بوجوب الشكر لمن شفاه.
    ١٦ «وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِراً لَـهُ. وَكَانَ سَامِرِيّاً».
    وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ هذا دليل على التواضع علاوة على الشكر والمحبة. والأرجح أنه اقتنع أن الذي شفاه هو المسيح وعَبَده لهذا الاعتبار.
    وَكَانَ سَامِرِيّاً مرّ الكلام على ما يتضمن ذلك في الشرح (متّى ١٠: ٥ و٦).
    وفي هذا أن بقية الذين شفوا كانوا من اليهود.
    ١٧ «فَقَالَ يَسُوعُ: أَلَيْسَ ٱلْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ ٱلتِّسْعَةُ؟».
    أَلَيْسَ ٱلْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا كان الذين طلبوا التطهير عشرة والذين نالوا الشفاء العشرة فكان على العشرة أن يرجعوا ليشكروا لأن ذلك لا يكلفهم سوى تعب قليل ولا يعيقهم عن سفرهم إلا قليلاً ولم يتوقع المسيح أكثر من ذلك ولكن تلك الأصوات التي ارتفعت في الضيق انقطعت عند الفرج.
    والمسيح عمل بذلك عشر معجزات معاً بدون لمس أو واسطة أخرى. ودل سؤاله على أنه يحفظ حساب المراحم التي يمنحها.
    فَأَيْنَ ٱلتِّسْعَةُ لم يأت المسيح ذلك بغية الاستخبار لأنه عرف أنهم ذهبوا إلى الكهنة مسرورين بالبركة ناسين واهبها. فالاستفهام للتعجب والحزن والاشتياق لانه اشتاق أن يراهم راجعين إليه لينالوا منه بركة أعظم من شفاء أجسادهم وهي شفاء نفوسهم من مرض الخطية. فعملهم من أمثلة الكفر بالنعمة. وهذا غير منقطع النظير فله أمثال كثيرة. والله يسأل مثل هذا السؤال الآن الذين أنعم عليهم بآلاء كثيرة ويتوقع منهم أن يشكروه ولكن أكثرهم مثل أولئك التسعة يقبلون النعم وينسون المنعم.
    ١٨ «أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْداً لِلّٰهِ غَيْرُ هٰذَا ٱلْغَرِيبِ ٱلْجِنْسِ؟».
    ٢ملوك ١٧: ٢٤ إلى ٤١
    كان التسعة الذين طهروا من اليهود فيحق أن يتوقع منهم فضائل أكثر مما يتوقع من السامري لأنهم نالوا من وسائط النعمة ما لم ينله. وفضلوا السنن الطقسية على فرض الشكر للمنعم وهو يهودي مثلهم. أما السامري فمع أنه من أمة لا يعاملها اليهود (يوحنا ٤: ٩) رجع ليشكره ولم يعثر بما فعله الباقون فتركهم ورجع وحده.
    ١٩ «ثُمَّ قَالَ لَـهُ: قُمْ وَٱمْضِ. إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ».
    متّى ٩: ٢٢ ومرقس ٥: ٣٤ و١٠: ٥٢ وص ٧: ٥٠ و٨: ٤٨ و١٨: ٤٢
    إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ أي نجىّ نفسك. كان إيمان هذا السامري الأول المماثل لإيمان رفقائه التسعة علّة شفاء جسده. وصار إيمانه الثاني الذي أظهره برجوعه إلى يسوع للشكر والاعتراف أنه المسيح على شفاء نفسه وعلّة بركة أعظم من الأولى وهو أقوى من الأول.

    تعليم في شأن ملكوت الله ع ٢٠ إلى ٣٧


    ٢٠ «وَلَمَّا سَأَلَـهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ: مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ؟ أَجَابَهُمْ: لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ بِمُرَاقَبَةٍ».
    ص ١٤: ١
    سَأَلَـهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ لم نعلم غايتهم من هذا السؤال إنما نعلم أنهم كانوا كثيراً ما يسألونه ليهزأوا به وليجدوا علّة للشكاية عليه. ولعلّ هؤلاء من أحسن رجال فرقتهم ممن توقعوا مجيء المسيح الموعود به وملكه ملكاً أرضياً وأرادوا أن يسمعوا يسوع الرباني المشهور في ذلك الأمر. والظاهر من جواب المسيح أنهم انتظروا أن يكون إتيان المسيح بقوة إلهية ظاهرة عجيبة.
    مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أي ملك المسيح.
    لاَ يَأْتِي... بِمُرَاقَبَةٍ أي أنه يفرق عن الملك الأرضي كل الفرق لأنه لا يأتي بآيات خارجية ظاهرة لعيون الذين يراقبونه أي لا يأتي بآيات من الآثار الجوية ولا بتكتّب الجيوش بأسلحتهم وألويتهم في الأرض لكنه يأتي رويداً بالهدوء فلا ينبه الأنظار إليه إلا بنتائجه. وبداءة هذا الملك كان في مذود بيت لحم وكان تابعوه وقتئذ بعض العشارين وصيادي السمك من الجليل. فلم ير رؤساء اليهود والفريسيون علامات إتيانه فلم يؤمنوا بأنه أتى.
    ٢١ «وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ، لأَنْ هَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ».
    يوحنا ١: ٢٦ ورومية ١٤: ١٧
    وَلاَ يَقُولُونَ أي صدقاً لأن الذين يقولون كذباً كثيرون.
    هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ أي في أورشليم أو في السامرة أو في البرية قرب بحر طبرية حيث انتظر اليهود أن يظهر المسيح.
    مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ يختلف تفسير هذا الكلام باختلاف تعييننا للمخاطبين فإن قلنا هم الفريسيين كما يستدل من ع ٢٠ كان المعنى كمعنى قول يوحنا المعمدان «فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ ٱلَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ» (يوحنا ١: ٢٦) فيكون كقول المسيح «قد انتصب ملكوت الله بينكم وأنتم سائلون متّى يأتي ملكوت الله. وحضر الملك وأخذ ينادي بشرائع المملكة ومبادئها وجمع خاصته وأنتم في غفلة عن ذلك». وإن قلنا هم عموم الناس من الفريسيين وغيرهم كان قصد المسيح بيان حقيقة ذلك الملكوت حيث أتى أو سيأتي أي أنه ملكوت روحي ينتصب في قلوب الناس ويُخضع أفكارهم وشهواتهم ومقاصدهم وعواطف قلوبهم. فحيث يتوب الناس عن الخطيئة ويؤمنون بالمسيح ويولدون ثانية من الروح القدس فهنالك ملكوت الله داخل قلوبهم. وهذا موافق قول المسيح «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ٣: ٣) وقول الرسول «لَيْسَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أَكْلاً وَشُرْباً، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (رومية ١٤: ١٧). والتفسيران صحيحان ولكن الأرجح بدلالة القرينة هو الأول.
    ٢٢ «وَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: سَتَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ وَلاَ تَرَوْنَ».
    متّى ٩: ١٥ ويوحنا ١٧: ١٢
    قَالَ لِلتَّلاَمِيذِ ما يأتي مما يتعلق بمجيئه الثاني.
    تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا الخ يحتمل هذا الكلام معنيين:
    الأول: اشتياق الكنيسة بعد زمان إلى أيامها الماضية حين كان ابن الإنسان معها بالجسد وذلك وفق قول المسيح مشيراً إلى نفسه «سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ (أي عن بني العرس) فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ» (متّى ٩: ١٥).
    والثاني: اشتياقها إلى مجيئه الثاني كما وعد. والاشتياق الأول صلة إلى الثاني.
    وَلاَ تَرَوْنَ أي لا تنظرونه في الجسد في حال اتضاعه لأنه يكون قد صعد. ولا تشاهدونه آتياً بالمجد لأن وقت ذلك الإتيان لم يكن قد حان ص ٥: ٣٤ ومتّى ٩: ١٥ ومرقس ٢: ١٩) وهذا إنباء للكنيسة بأنها تحتاج إلى أن تسلك مدة بالإيمان.
    ٢٣ «وَيَقُولُونَ لَكُمْ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ. لاَ تَذْهَبُوا وَلاَ تَتْبَعُوا».
    متّى ٢٤: ٢٣ ومرقس ١٣: ٢١ وص ٢١: ٨
    هذا كقوله في بشارة متّى (متّى ٢٤: ٢٤ - ٢٧) فراجع تفسيره.
    هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ هذه تنبيهات يأتيها الذين ظنوا أنهم رأوا علامات ظاهرة لمجيء المسيح ملكاً أرضياً فحذر المسيح تلاميذه من أن يُخدعوا وأن يذهبوا إلى حيث أشار أولئك لأنه لم يقصد المجيء حينئذ.
    لم يقصد المسيح بما ذُكر نفي ظهور العلامات المتعلقة بمجيئه الثاني بل نفى ذلك في زمان تكلمه أو ما يقرب منه.
    ٢٤ «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلْبَرْقَ ٱلَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ».
    متّى ٢٤: ٢٧
    أبان المسيح في هذه الآيات علامات مجيئه الثاني في نهاية العالم.
    كَمَا أَنَّ ٱلْبَرْقَ الخ أي أنه يأتي بغتة إتياناً بيناً تشاهده كل عين في كل مكان (انظر الشرح متّى ٢٤: ٢٧). ولا منافاة بين هذا القول وما قيل في ع ٢٠ و٢١ لأن هذين العددين يشرحان حال ملكوت المسيح من بداءة زمن الكرازة إلى نهايته وهذا العدد إشارة إلى وقت مجيء المسيح الثاني بالمجد ونهاية الزمان الحاضر.
    ٢٥ «وَلٰكِنْ يَنْبَغِي أَوَّلاً أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ».
    مرقس ٨: ٣١ و٩: ٣١ و١٠: ٣٣ وص ٩: ٢٢
    أنبأ بأنه يسبق مجيئه الثاني ورفض الأمة اليهودية إياه وتألمه (انظر متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ ولوقا ٢٤: ٢٦ وأعمال ٣: ١٨).
    وقصد «بهذا الجيل» الأمة اليهودية.
    وما ذُكر هنا هو أعظم الحوادث المتعلقة بمجيئه الأول واستعداد لمجد مجيئه الثاني لأنه قدّم نفسه اختياراً للرفض والآلام إرادة فداء العالم.
    ٢٦، ٢٧ «٢٦ وَكَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً فِي أَيَّامِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ. ٢٧ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيُزَوِّجُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ ٱلْفُلْكَ، وَجَاءَ ٱلطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ ٱلْجَمِيعَ»
    تكوين ٧ ومتّى ٢٤: ٣٧
    انظر الشرح متّى ٢٤: ٣٧ - ٣٩ وقابل ذلك بما في ٢ بطرس ٣: ٣٤.
    هذا بيان لكون أكثر الناس غير متوقع مجيئه الثاني. فبطوءه يحمل الناس على الاطمئنان والتوغل في اللذات الجسدية.
    أَيَّامِ نُوحٍ أي مدة مئة وعشرين سنة حين بنى نوح الفلك وأنذر الناس بالطوفان ودعاهم إلى التوبة.
    ٢٨، ٢٩ «٢٨ كَذٰلِكَ أَيْضاً كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ لُوطٍ، كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، وَيَغْرِسُونَ وَيَبْنُونَ. ٢٩ وَلٰكِنَّ ٱلْيَوْمَ ٱلَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ، أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَأَهْلَكَ ٱلْجَمِيعَ».
    تكوين ١٩، تكوين ١٩: ١٦ إلى ٢٥
    فِي أَيَّامِ لُوطٍ لم يذكر متّى ذلك في ما نقله من هذا الخطاب واكتفى بذكر أيام نوح فالمثالان بمعنى واحد وهو أن الناس كانوا في غفلة ويكونون كذلك عند مجيء المسيح. وكثيراً ما أشار المسيح في مواعظه إلى مصاب تينك المدينتين (ص ١٠: ١٢ ومتّى ١٠: ١٥ و١١: ٢٣). وأشار إليهما أيضاً بطرس في رسالته الثانية ٢: ٧.
    أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً تكوين ١٩: ٢٤.
    ٣٠ «هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ يُظْهَرُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ».
    ٢تسالونيكي ١: ٧
    يُظْهَرُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أي يُبين للعالم كأنه كان وراء حجاب رُفع بغتة فظهر لكل عين (كولوسي ٣: ٣ و٤ و٢تسالونيكي ١: ٧ و١بطرس ١: ٧).
    ٣١ «فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ مَنْ كَانَ عَلَى ٱلسَّطْحِ وَأَمْتِعَتُهُ فِي ٱلْبَيْتِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَهَا، وَٱلَّذِي فِي ٱلْحَقْلِ كَذٰلِكَ لاَ يَرْجِعْ إِلَى ٱلْوَرَاءِ».
    متّى ٢٤: ١٧ و١٨ ومرقس ١٣: ١٥ و١٦
    سبق مثل هذه النصائح في نصح المسيح لتلاميذه زمن خراب أورشليم لأنه كان رمزاً إلى هلاك العالم (انظر الشرح متّى ٢٤: ١٦ - ١٨). والمعنى أنه يجب على المسيحيين أن لا يكترثوا حينئذ بمقتنياتهم الدنيوية بل أن يوجهوا أفكارهم إلى إعلان المسيح العظيم.
    فاتضح من كلام المسيح أن حال العالم عند مجيء المسيح ثانية تكون كحاله في الأزمنة الثلاثة وهي زمان الطوفان وزمان خراب سدوم وعمورة وزمان خراب أورشليم.
    ٣٢ «اُذْكُرُوا ٱمْرَأَةَ لُوطٍ».
    تكوين ١٩: ٢٦
    هذا الإنذار مبني على ما حدث في أيام لوط ع ٢٨ فإن امرأة لوط خالفت نهي الرب عن أن تنظر إلى ورائها فهلكت. بقي قلبها في سدوم مع أن قدميها خرجتا منها (تكوين ١٩: ١٧ و٢٦).
    والذي يجب أن نذكره من أمرها أربعة أمور:

    • الأول: خطر الاستخفاف بتهديدات الله ومخالفة أوامره.
    • الثاني: أن التفات المسيحي إلى الوراء بعد سيره في طريق الحياة يُعد رجوعاً ويُعاقب عليه كذلك. والمراد بالالتفات إلى الوراء هنا اشتهاء اللذات الدنيوية ومعاشرة الاشرار.
    • الثالث: أن حصول الإنسان على أفضل وسائط الخلاص لا تتكفل بخلاصه لأن امرأة لوط حصلت على تنبيه الله وإرشاد الملائكة ومرافقة لوط البار وكان خارج سدوم وفي طرق الأمن.
    • الرابع: أن الإنسان قد يكون قريباً من الخلاص ويهلك.


    ٣٣ «مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا».
    متّى ١٠: ٣٩ و١٦: ٢٥ ومرقس ٨: ٣٥ وص ٩: ٢٤ ويوحنا ١٢: ٢٥
    انظر الشرح متّى ١٠: ٣٩.
    يصح هذا القانون في كل حين فالذي ينكر المسيح لينقذ جسده من الموت ويعيش عيشة دنيوية يخسر نفسه إلى الأبد. وذُكر هذا القانون في الكلام على اليوم الأخير بياناً لكون الذي صرف حياته على الأرض ليحصل على الأمن الجسدي ولذات العالم ومجده يجد في اليوم الأخير أنه خسر كل خيراته الدنيونة ونفسه أيضاً. وعكسه الذي يخسر كل شيء هنا لأجل المسيح يجد في اليوم الأخير أنه ربح كل شيء. وفي كلام المسيح هنا تلميح إلى أنه يكون قبل مجيئه وقت امتحان شديد لإيمان الناس به ومحبتهم له وأنهم يضطرون إلى أن يختاروا بين حياة الجسد وحياة النفس.
    ٣٤ - ٣٦ «٣٤ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ يَكُونُ ٱثْنَانِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ، فَيُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلآخَرُ. ٣٥ تَكُونُ ٱثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ مَعاً، فَتُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ ٱلأُخْرَى. ٣٦ يَكُونُ ٱثْنَانِ فِي ٱلْحَقْلِ، فَيُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلآخَرُ».
    متّى ٢٤: ٤٠ و٤١ و١تسالونيكي ٤: ١٧
    جاء مثل هذا في نبإ خراب أورشليم انظر الشرح متّى ٢٤: ٤٠ و٤١. وأشار به المسيح هنا إلى الانفصال العظيم الأبدي بين المؤمنين وغير المؤمنين في اليوم الأخير.
    ٣٧ «فَقَالُوا لَـهُ: أَيْنَ يَا رَبُّ؟ فَقَالَ لَـهُمْ: حَيْثُ تَكُونُ ٱلْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ ٱلنُّسُورُ».
    أيوب ٢٩: ٣٠ ومتّى ٢٤: ٢٨
    أَيْنَ يَا رَبُّ هذا سؤال التلاميذ وأما سؤال الفريسيين فكان قولهم «متّى يأتي ملكوت الله». ولم يدرك التلاميذ أن المسيح قصد بكلامه السابق عموم هلاك العالم في يوم الدين فظنوه يتكلم على نازلة معينة في مكان محدود. وكان جواب المسيح حينئذٍ كجوابه على السؤال عن خراب أورشليم (متّى ٢٤: ٢٨) إلا أنه تكلم هناك على هلاك الأشرار ونجاة الأبرار. وتكلم هنا على هلاك الأشرار فقط. ومعنى الجواب هنا أنه حيث تكون الخطيئة والفساد فهناك تكون رسل الله للعقاب (متّى ١٣: ٤٩).


    الأصحاح الثامن عشر


    مثل المرأة الملحة ع ١ إلى ٨


    ١ «وَقَالَ لَـهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ».
    ص ١١: ٥ و٢١: ٣٦ ورومية ١٢: ١٢ وأفسس ٦: ١٨ وكولوسي ٤: ٢ و١تسالونيكي ٥: ١٧
    هذا المثل يشبه مثل وكيل الظلم (ص ١٦: ١ - ٨) في أن تعاليمه مبنية لإفادة الأخيار على أعمال الأشرار.
    لَـهُمْ أي للتلاميذ.
    فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى أي بياناً لوجوب الصلاة.
    كُلَّ حِينٍ المراد بالصلاة «كل حين» أنه يجب على الإنسان أن لا يهمل الصلاة بل بواظب عليها دائماً وأن يكون مشتاقاً إلى بركة الله عليه وإلى معونته أبداً. وأن يصلّي كلما أراد الشروع في أمر ذي شأن. وأن يكون قلبه مستعداً أبداً لسؤال الله عند الحاجة. وأن يمارس الصلاة في الحزن والفرح. وفي زمن التجربة والشكوك والاضطهاد. لأنه محتاج كل حين إلى الله وبركاته الجسدية والروحية فينبغي أن يصلّى في كل حين (أفسس ٦: ١٨ و١تسالونيكي ٥: ١٧).
    وَلاَ يُمَلَّ معنى هذا السلب كمعنى الإيحاب السابق فهو توكيد له أي أنه يجب على الإنسان أن لا يهمل الصلاة إذا لم يستجبه الله حالاً بل أن يواظب عليها.
    ٢ «كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لاَ يَخَافُ ٱللّٰهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَاناً».
    فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ كان من الواجب حسب شريعة موسى أن يُقام في المدن قضاة يجلسون في الأبواب ليقضوا بالعدل (تثنية ١٦: ١٨ وخروج ٢٦: ٦ و٩ ولاويين ١٩: ١٥). وكانت منزلة القاضي تمكنه من عمل الخير أو عمل الشر بحكمه عدلاً أو ظلماً.
    لاَ يَخَافُ ٱللّٰهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَاناً أي لا تؤثر فيه الأسباب التي تحمل الناس على الحكم بالعدل. فلو خاف الله لمنعه ضميره من الظلم وحثّه على إنصاف المظلوم من غيره ولو هاب الناس اعتزل ما يجلب عليه لومهم واجتهد في القيام بحقوق القضاء وربح مدحهم. ويغلب أن تقترن مهابة الناس ومراعاة حقوقهم بخوف الله فإذا انتفى أحدهما انتفى الثاني.
    ٣ «وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي».
    أَرْمَلَةٌ كانت الأرملة عرضة للجور والظلم في كل زمان ومكان لطمع أهل العدوان فيها إذ يسهل خداعها ويقل من يحامي عنها. وأمر الله القضاة أن يعتنوا بالأرامل اعتناء خاصاً (إرميا ٢٢: ٣).
    كَانَتْ تَأْتِي مراراً كثيرة.
    أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي يتبين من سؤالها أنه اعتدى عليها من هو أقوى منها فسألت القاضي دفع ذلك الاعتداء عدلاً. وكان مما يجب على القاضي أن ينصفها بمقتضى وظيفته والشفقة على الأرملة المظلومة.
    ٤ «وَكَانَ لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلٰكِنْ بَعْدَ ذٰلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَخَافُ ٱللّٰهَ وَلاَ أَهَابُ إِنْسَاناً».
    كَانَ لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ بقي مدة طويلة يسد أذنيه عن صراخها ويغلق قلبه عن الشفقة عليها وضميره لم يتنبه لإنصافها.
    ٥ «فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي».
    ص ١١: ٨
    عزم أخيراً على أن يلتفت إلى الأرملة للجاجتها ودفع إقلاقها إياه وامتناعه بذلك عن لذاته.
    ٦ «وَقَالَ ٱلرَّبُّ: ٱسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي ٱلظُّلْمِ».
    ٱسْمَعُوا أي انتبهوا لما يستنتجه المسيح من ذلك من سمع الله لصلاة المؤمنين. والأرجح أن القاضي لم يذكر ذلك لفظاً لكن الله عرف أفكاره وأعلنها حتى كأنه أوضحها هو بنفسه.
    ٧ «أَفَلاَ يُنْصِفُ ٱللّٰهُ مُخْتَارِيهِ، ٱلصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟».
    ٢بطرس ٣: ٩ و١٥ ورؤيا ٦: ١٠
    أَفَلاَ يُنْصِفُ ٱللّٰهُ حاشا لله أن يشبه ذلك القاضي في صفاته أو مبادئه. ولكن إذا كان قاضي الظلم قد سمع وانتقم لصاحبة الحق فكم بالأولى يفعل كذلك الله قاضي العدل. وإذا أصغى الإنسان القاسي المحب للذات فكم بالأحرى يصغي الله الرحيم الحنان. وإذا كانت لجاجة الأرملة قد أثرت في قاضي يكرهها أفلا تؤثر في الله صلاة مختاريه الذين يحبهم ووعدهم بالاستجابة. وخلاصة هذا الكلام أنه لو كان الله تعالى مثل قاضي الظلم لسمع الصلاة فكم بالأولى يسمعها وهو عادل رحيم مستعد أن يسمع ويستجيب.
    مُخْتَارِيهِ هذا من ألقاب المحبة وهو يثبت عناية الله بشعبه لأنه يدل على أن الله اختاره من عالم الإثم منذ الأزل خاصة له (أفسس ١: ٤ وكولوسي ٣: ١٢ و١تسالونيكي ١: ٤ و١بطرس ١: ٢).
    ٱلصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً هذا كلام جار مجرى المثل يشار به إلى المواظبة على الصراخ. ويمتاز مختاروا الله عن غيرهم بأنهم يرفعوا صلواتهم إليه على الدوام. فإذا كانت لجاجة المرأة الأرملة قد نجحت عند القاضي مع كل موانع النجاح فبالأولى أن تنجح لجاجة المؤمنين عند الله إذ عنده لذلك كل الاستعداد للسمع والاستجابة.
    وصراخ المختارين إليه تعالى للنجاة من خصومهم كصراخ الأرملة للنجاة من خصمها لأنه قيل «وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: حَتَّى مَتَى أَيُّهَا ٱلسَّيِّدُ ٱلْقُدُّوسُ وَٱلْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا» (رؤيا ٦: ١٠). على أن كون أولاد الله مختاروه هو معظم العلّة لسمعهم واستجابتهم لا لجاجتهم.
    وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ أي يبطئ عن استجابتهم فيظهر لهم أنه لا يلتفت إلى صراخهم لطول المدة بين تقديمهم الصلاة واستجابة الله لها. نعم إنّ القاضي مطل المرأة الأرملة كرهاً وأبى إنصافها قصداً والله يظهر لشعبه أنه كذلك مع أن الأمر بخلافه لأن ما يظهر للإنسان وقتاً طويلاً هو ليس كذلك عند الله وإن تمهّل فذلك لأسباب حكمته ومحبته لا لكراهته طلباتنا.
    ٨ «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً! وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ ٱلإِيمَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ؟».
    عبرانيين ١٠: ٣٧ و٢بطرس ٣: ٨
    أَقُولُ لَكُمْ لرفع كل شك ولتأكيد ما يأتي.
    إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً أي في أول ما يرى ذلك موافقاً فهو لا يُبقي المسيحي في بوطة البليّة أكثر مما يلزم لكي يمحصه. وعلى هذا جرى المسيح في تمهله على عائلة لعازر في بيت عنيا (يوحنا ١١: ٦) وفي تركه تلاميذه يتعذبون في البحر أكثر الليل ولم يأت لمساعدتهم إلا في الهزيع الرابع (متّى ١٤: ٢٤ و٢٥).
    مَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ سبق الكلام على مجيء ابن الإنسان لدينونة الأشرار (ص ١٧: ٢٤ - ٣٧). وذُكر هنا لنجاة الأخيار أيضاً. وأكثر الإشارة إلى مجيئه الأخير لدينونة العالم ويصح حمله أيضاً على مجيء المسيح من وقت إلى وقت بروحه لينجي الأبرار ويعاقب الأثمة.
    أَلَعَلَّهُ يَجِدُ ٱلإِيمَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ الإيمان المشار إليه هو الإيمان بالله وبفاعلية الصلاة وهو الذي يجعل شعب الله يصلّون كل حين ولا يملّون. وفي هذا السؤال إشارة إلى أن المسيح لا يجد عند إتيانه إيماناً عند شعبه لما يصيبهم من النوازل. وفي قوله «ولكن» إشارة إلى أنه كان يجب على شعب الله أن لا يشكوا في فاعلية الصلاة نظراً إلى ما في هذا المثل من توكيد استجابته.
    وخلاصة معنى هذا السؤال أن الخطر على المختارين هو ضعف إيمانه بفاعلية الصلاة لا عدم إنصاف الله إياهم.

    مثل الفريسي والعشار ع ٩ إلى ١٤


    ٩ «وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ ٱلآخَرِينَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ».
    ص ١٠: ٢٩ و١٦: ١٥
    غاية هذا المثل تعليم وجوب التواضع في الصلاة وكانت غاية المثل السابق وجوب الإلحاح فيها والاستمرار عليها.
    لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ رأى المسيح أن بعض الذين اجتمعوا حوله اتكلوا على برهم لخلاصهم لا على رحمة الله ولا على برّ المسيح وذلك يقود إلى الكبرياء الدينية. ولعلّ المسيح رأى في بعض تلاميذه الحقيقيين الميل إلى هذه الكبرياء فحذرهم بهذا المثل منها. ولو قصد توبيخ الفريسيين فقط لم يضرب لهم مثل إنسان منهم كان ما فعله لائقاً وممدوحاً حسب اعتقادهم وما كان ذلك مثلاً بل خبراً. والحق أن كل الناس مائلون إلى الاتكال على البرّ الذاتي فذلك المثل نافع للكل.
    وَيَحْتَقِرُونَ ٱلآخَرِينَ أي الذين اعتبروهم أقل براً منهم فالثقة بالنفس تقود صاحبها إلى احتقار غيره.
    ١٠ «إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَٱلآخَرُ عَشَّارٌ».
    صَعِدَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ أي المكان المعتاد للصلاة وكان أعلى من المدينة. ومحل الصلاة فيه إحدى أدؤره وهي دار النساء (انظر الشرح متّى ٢١: ١٢).
    وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ كان الفريسيون غيورين في حفظ طقوس الدين والأعمال الأدبية في الظاهر معتزلين الخطايا القبيحة ولذلك اعتبروا أنفسهم أبراراً ولم يشعروا بآثام قلوبهم وذنوبهم أمام الله (انظر الشرح متّى ٣: ٢٧).
    وَٱلآخَرُ عَشَّارٌ لم يكن للعشارين رجاء تبرير أنفسهم أمام الله بحفظ طقوس الديانة ولا بسيرتهم الظاهرة (انظر الشرح متّى ٥: ٤٦ و٩: ١٠).
    ١١ «أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هٰكَذَا: اَللّٰهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ ٱلْخَاطِفِينَ ٱلظَّالِمِينَ ٱلزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هٰذَا ٱلْعَشَّار».
    مزمور ١٣٥: ٢ إشعياء ١: ١٥ و٥٨: ٢ ورؤيا ٣: ١٧
    أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ الوقوف الذي اعتاده اليهود في الصلاة (١ ملوك ٨ : ٢٢ و٢ أيام ٦: ١٢ ومتّى ٦: ٥ ومرقس ١١: ٢٥). وكانوا حين يريدون إظهار غاية التواضع أو الإلحاح يجثون أو يركعون (٢أيام ٦: ١٣ ودانيال ٦: ١٠ وأعمال ٩: ٤٠ و٢٠: ٣٦ و٢١: ٥).
    يُصَلِّي بالنظر إلى اعتقاده أن ما أتاه صلاة لا بالنظر إلى ما رآه الله.
    أَنَا أَشْكُرُكَ هذا الكلام بداءة حسنة للصلاة لو كانت مقترنة بتواضع وعدم تعيير للغير لكنه أخطأ بأن جعل شكره وسيلة لافتخاره بفضائله.
    أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ قسم أهل العالم إلى قسمين هو القسم الأول وسائر الناس القسم الثاني ولم ير في نفسه إلا الصلاح ولم ير في غيره سوى الشر وكان موضوع شكره لله برّ نفسه.
    ِٱلْخَاطِفِينَ ٱلظَّالِمِينَ ٱلزُّنَاة قسم الناس غيره أقساماً بالنظر إلى صنوف آثامهم. فأمكنه أن يرى خطايا الغير ويعلنها ولكنه لم ير واحدة من آثامه. فلو قاس نفسه بشريعة الله المقدسة بدلاً من أن يقيسها بالأشرار لصلّى أحسن من ذلك. ولو نظر إلى الأشرار بالحنو بدلاً من الهزء لحسنت صلاته.
    وَلاَ مِثْلَ هٰذَا ٱلْعَشَّارِ رأى الفريسي ذلك العشار داخلاً إلى الهيكل فحسبه كأنه مثال الخطاة الذين ذكرهم وشر منهم. وكان قد عدد فضائله في ما مضى سلباً وذكرها هنا إيجاباً.
    ١٢ «أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي ٱلأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ».
    أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي ٱلأُسْبُوعِ افتكر أنه عمل أعمالاً نافلة لأن موسى لم يأمر اليهود إلا بصوم واحد في السنة وهو يوم الكفارة (لاويين ١٦: ٢٩ وعدد ٢٩: ٧) لكنه صام كبقية الفريسيين اليوم الثاني والخامس من كل أسبوع أي الأثنين والخميس (انظر الشرح متّى ٦: ١٦).
    وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ مطاليب الشريعة هي عشر أثمار الحقل والبهائم (عدد ١٨: ٢١ ولاويين ٢٧: ٣٠) وإنما هو قدّم كل عُشر مقتنياته حتى النعنع والشبّث والكمون (متّى ٢٣: ٢٣). وبذلك جعل الله مديوناً له واعتبروا الصوم وإعطاء العشور أعظم من أثقل الناموس.
    ونقائص صلاة الفريسي ثلاث:

    • إنه ليس في صلاته اعتراف بالخطيئة فإنه اكتفى بذكر فضائله وأعماله النافلة واتكل عليها للخلاص.
    • إنه لم يشعر فيها باحتياجه إلى الله ولم يطلب شيئاً منه.
    • إنه ليس فيها شيء من التواضع فإنه جعل بره الذاتي موضوع الكبرياء والافتخار.


    ١٣ «وَأَمَّا ٱلْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئ».
    فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ أي كان بعيداً عن الفريسي وعن بقية الساجدين في الهيكل وعن المقدس. وكان ذلك دليلاً على تواضعه وشعوره بخطاياه.
    لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ كان إطراقه دليلاً على خجله وشعوره بدناءته أمام الله حتى اعتقد أنه لا يستحق أن يرفع عينيه إلى مسكن قدسه تعالى. وهذا وفق قول عزرا «ٱللّٰهُمَّ إِنِّي أَخْجَلُ وَأَخْزَى مِنْ أَنْ أَرْفَعَ يَا إِلٰهِي وَجْهِي نَحْوَكَ، لأَنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ كَثُرَتْ فَوْقَ رُؤُوسِنَا، وَآثَامَنَا تَعَاظَمَتْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (عزرا ٩: ٦).
    قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ كان ذلك علامة خارجية لفرط حزنه (ص ٢٣: ٤٨) وشكواه على نفسه.
    ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ عبّر عن نفسه كأنه لا خاطئ على الأرض سواه. والفريسي عبّر عن نفسه كأنه لا صالح على الأرض سواه. وكلماته هنا تشير إلى شعوره بخطيئته وتوبته الحقيقية وانسحاق قلبه وعدم استحقاقه واحتياجه إلى المغفرة وشوقه إلى نوالها وإيمانه برحمة الله.
    وتظهر جودة صلاة العشار من خمسة أمور:

    • إن ما أتى به دعاء لاخطاب مجرد.
    • إنه سأل الله حاجاته الشخصية فلم يلتفت إلى خطايا غيره بل قصر النظر على خطايا نفسه.
    • إن صلاته اقترنت بالتواضع وبالاعتراف بإثمه.
    • إنه اتكل على رحمة الله.
    • إن صلاته كانت من قلبه لا من شفتيه فقط.


    ١٤ «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هٰذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِع».
    أيوب ٢٢: ٢٩ ومتّى ٢٣: ١٢ وص ١٤: ١١ ويعقوب ٤: ٦ و١بطرس ٥: ٥ و٦
    أَقُولُ لَكُمْ قال ذلك توكيداً لصحة ما يقوله وإن ظن السامعون خلاف ذلك.
    هٰذَا أي العشار الذي دان نفسه.
    مُبَرَّراً بقضاء الله. أي أن الله رضيه وأجاب صلاته. فسأله تعالى أن يرحمه فغفر له ولذلك صار باراً في عينيه. والمثل لم يذكر سبب هذا التبرير لكننا نعلم أن علّة تبرير الخاطئ التائب المؤمن دم المسيح وشفاعته.
    ولعلّ المعنى هنا أن العشار نال من الله راحة الضمير والفرح الناتج من الشعور بالغفران من الله.
    دُونَ ذَاكَ أي الفريسي الذي برر نفسه. والمعنى أنه لم يتبرر شيئاً فخطاياه بقيت عليه لأنه لم يشعر بثقلها ولم يطلب مغفرتها فنزل من الهيكل وقلبه قاس كما كان وهو داخل إليه ولم يرضه الله ولم يقبل صلاته.
    لأَنَّ كُلَّ مَنْ الخ سبق الكلام على ذلك في الشرح (متّى ٢٣: ١٢ وص ١٤: ١١). رفع الفريسي نفسه لكن قضاء الله وضعه. ووضع العشار نفسه فرفعته رحمة الله.

    قبول المسيح للأطفال ومباركته إياهم ع ١٥ إلى ١٧


    ١٥، ١٦ «١٥ فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ ٱلأَطْفَالَ أَيْضاً لِيَلْمِسَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمُ ٱلتَّلاَمِيذُ ٱنْتَهَرُوهُمْ. ١٦ أَمَّا يَسُوعُ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ: دَعُوا ٱلأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هٰؤُلاَءِ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
    متّى ١٩: ١٣ ومرقس ١٠: ١٣، ١كورنثوس ١٤: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢
    انظر الشرح (متّى ١٩: ١٣ - ١٥ ومرقس ١٠: ١٣ - ١٦).
    ٱلأَطْفَالَ ذكر متّى ومرقس أن الذين قدّموا أولاد صغار ولا ريب في أنه كان بينهم أطفال أطلقهم لوقا على الجميع فلا مناقضة.
    ١٧ «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَـهُ».
    مرقس ١٠: ١٥
    انظر الشرح متّى ١٨: ٣.

    الرئيس الغني ع ١٨ إلى ٣٠


    ١٨ - ٢٧ «١٨ وَسَأَلَـهُ رَئِيسٌ: أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟» ١٩ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ. ٢٠ أَنْتَ تَعْرِفُ ٱلْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِٱلزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ. ٢١ فَقَالَ: هٰذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. ٢٢ فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذٰلِكَ قَالَ لَـهُ: يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ. بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى ٱلْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي. ٢٣ فَلَمَّا سَمِعَ ذٰلِكَ حَزِنَ، لأَنَّهُ كَانَ غَنِيّاً جِدّاً. ٢٤ فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ، قَالَ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ! ٢٥ لأَنَّ دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ!. ٢٦ فَقَالَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا: فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟ ٢٧ فَقَالَ: غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ».
    متّى ١٩: ١٦ ومرقس ١٠: ١٧، خروج ٢٠: ١٢ إلى ١٦ وتثنية ٥: ١٦ إلى ٢٠ ورومية ١٣: ٩، أفسس ٦: ٢ وكولوسي ٣: ٢٠، متّى ٦: ١٩ و٢٠ و١٩: ٢١ و١تيموثاوس ٦: ١٩، أمثال ١١: ٢٨ ومتّى ١٩: ٢٣ ومرقس ٢٠: ٢٣ إرميا ٣٢: ١٧ وزكريا ٨: ٦ ومتّى ١٩: ٢٦ وص ١: ٣٧
    انظر الشرح متّى ١٩: ١٦ - ٢٦ ومرقس ١٠: ١٧ - ٢٧.
    رَئِيسٌ (ع ١٨) الأرجح أنه كان رئيس مجمع اليهود وهذا ما زاده لوقا على رواية متّى ومرقس فإنهما رويا أنه كان شاباً أتى جارياً إلى يسوع وأن يسوع أحبه وهذا لم يذكره لوقا.
    ٢٨ - ٣٠ «٢٨ فَقَالَ بُطْرُسُ: هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. ٢٩ فَقَالَ لَـهُمُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، ٣٠ إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هٰذَا ٱلزَّمَانِ أَضْعَافاً كَثِيرَةً، وَفِي ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ».
    متّى ١٩: ٢٧، تثنية ٣٣: ٩، أيوب ٤٢: ١٠
    انظر شرح متّى ١٩: ٢٧ - ٢٩ ومرقس ١٠: ٣٢ - ٣٤.

    إنباء يسوع بموته وقيامته ع ٣١ إلى ٣٤


    ٣١ - ٣٤ «٣١ وَأَخَذَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَـهُمْ: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِٱلأَنْبِيَاءِ عَنِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ، ٣٢ لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى ٱلأُمَمِ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ، وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ، ٣٣ وَيَجْلِدُونَهُ، وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ. ٣٤ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذٰلِكَ شَيْئاً، وَكَانَ هٰذَا ٱلأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ».
    متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٠: ١٧ و١٨ ومرقس ١٠: ٣٢، مزمور ٢٢ وإشعياء ٥٣، متّى ٢٧: ٢ وص ٢٣: ١ ويوحنا ١٨: ٢٨ وأعمال ٣: ١٣، مرقس ١٩: ٣٢ وص ٢: ٥٠ و٩: ٤٥ ويوحنا ١٠: ٦ و١٢: ١٦
    انظر الشرح متّى ٢٠: ١٧ - ١٩ ومرقس ١٠: ٣٢ - ٣٤.
    هذا إنباء يسوع ثالثة بهذا الشأن.
    كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِٱلأَنْبِيَاءِ لم يذكر هذه العبارة إلا لوقا. ومن هؤلاء الأنبياء داود (مزمور ١٦: ١٠ و٢٢: ٧ و٨ و١٦: ١٨ و٤٩: ١٥). وإشعياء (إشعياء ٥٣: ١ - ٩) ودانيال (دانيال ٩: ٢٦).
    فَلَمْ يَفْهَمُوا (ع ٣٤) هذا لم يذكره إلا لوقا. والمعنى أنهم لم يدركوا قصد المسيح من تلك الكلمات. والذي منعهم من ذلك ما سبق من آرائهم اليهودية في شأن المسيح.
    وَكَانَ هٰذَا ٱلأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ لا بقصد الله أو فعله بل بآرائهم الفاسدة الدنيوية في حقيقة ملكوت المسيح وبغلاظة عقولهم. على أنه يصعب في الغالب فهم معنى النبوءة قبل تمامها.

    إبراء أعمى في أريحا ع ٣٥ إلى ٤٣


    ٣٥ - ٤٣ «٥٣ وَلَمَّا ٱقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِساً عَلَى ٱلطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. ٣٦ فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْجَمْعَ مُجْتَازاً سَأَلَ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟ ٣٧ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. ٣٨ فَصَرَخَ: يَا يَسُوعُ ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي!. ٣٩ فَٱنْتَهَرَهُ ٱلْمُتَقَدِّمُونَ لِيَسْكُتَ، أَمَّا هُوَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: يَا ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي. ٤٠ فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا ٱقْتَرَبَ سَأَلَـهُ: مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟ ٤١ فَقَالَ: يَا سَيِّدُ، أَنْ أُبْصِرَ. ٤٢ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: أَبْصِرْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ. ٤٣ وَفِي ٱلْحَالِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَهُ وَهُوَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ. وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا ٱللّٰه».
    متّى ٢٠: ٢٩ الخ ومرقس ١٠: ٤٦ ص ١٧: ١٩، ص ٥: ٢٦ وأعمال ٤: ٢١ و١١: ١٨
    انظر الشرح متّى ٢٠: ٢٩ - ٣٤ ومرقس ١٠: ٤٦ - ٥٢.
    وَلَمَّا ٱقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا (ع ٣٥) يدل الأصل اليوناني على أنه كان قرب أريحا بقطع النظر عن كونه مقبلاً إليها أو ذاهباً عنها. وقيّد متّى ذلك بقوله «وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ مِنْ أَرِيحَا» (متّى ٢٠: ٢٩) فالأرجح أن تلك الحادثة كانت في صباح يوم الجمعة بعد أن تقضّت على يسوع الليلة في بيت زكا هنالك. وأما أريحا فمر الكلام عليها في شرح بشارة متّى (متّى ١٠: ١٩). وكانت على الطريق من بيرية إلى أورشليم.
    أَعْمَى ذكر مرقس أن اسم هذا الأعمى بارتيماوس وذكر متّى أنه كان له رفيق.
    وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا ٱللّٰهَ (ع ٤٣) لم يذكر تأثير هذه المعجزة في أهل أريحا سوى لوقا.


    الأصحاح التاسع عشر


    زكا العشار ع ١ إلى ١٠


    ١ «ثُمَّ دَخَلَ وَٱجْتَازَ فِي أَرِيحَا».
    هذا يعم كل الحوادث التي كانت بين إتيان المسيح إلى أريحا يوم الخميس وخروجه صباح يوم الجمعة.
    أَرِيحَا تقدم الكلام على هذه المدينة في الشرح (متّى ٢٠: ٢٩).
    ٢ «وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيّاً».
    وَإِذَا رَجُلٌ هذا بداءة إحدى الحوادث التي حدثت في أثناء الزمان المذكور في الآية الأولى. والأرجح أنها حدثت قبل إبراء ابن طيما ولسبب مجهول اختار لوقا أن يذكرها بعده.
    زَكَّا هو في العبراني زكاي ومعناه زكيٌ وذُكر هذا الاسم بين الذين رجعوا من بابل إلى أورشليم بعد السبي (نحميا ٧: ١٤) وهو يهودي كما يظهر من ع ٩.
    رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ أي جباة العشور أو جَمَعة الجزية التي ضربها الرومانيون على اليهود باعتبار كونهم أمة خاضعة لهم. ولعلّ زكا ضمن العشور كلها في تلك الكورة بتأديته مالاً معيناً للحكومة ليأخذ من الشعب ما استطاع عدلاً كان أو جوراً. وقد مرّ الكلام على العشارين في الشرح (متّى ٥: ٤٦ و٩: ١).
    كَانَ غَنِيّاً لعلّ علّة غناه ما أخذه من الشعب إجباراً فوق حقه. ويحتمل أن سبب ذكر لوقا إياه هنا قول المسيح سابقاً «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» وقوله «غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (ص ١٨: ٢٤ و٢٧). فأتى بخبر زكا إثباتاً للقول الأخير.
    ٣ «وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ ٱلْجَمْعِ، لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ ٱلْقَامَةِ».
    سمع زكا صيت النبي الجديد ونبأ معجزاته فرغب في أن يشاهده. ولعلّ ذلك كان كل ما قصده. لكن الله أحب أن يجعل رغبته في المشاهدة وسيلة إلى خلاص نفسه.
    والكلام يدل هنا على أن زكا اجتهد أولاً أن يراه وهو بين الجمع فلم يستطع.
    ٤ «فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ».
    فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً هذا دليل قاطع على اجتهاده وعدم انثنائه عن قصده للموانع. ويحتمل أن ما فعله حمل الناس على الهزء به.
    جُمَّيْزَةٍ فسرتها كتب اللغة بالتين الذكر. وهي شجرة عظيمة ثمرها يشبه ثمر التين وينشأ على ساق الغصن لا فروعه وورقها يشبه ورق التوت وهي دانية الغصون افقيتها تقريباً فيسهل بذلك الصعود عليها.
    ٥ «فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَـهُ: يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَٱنْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ ٱلْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ».
    لعلّ الناس الذين رأوا زكا على الجميزة ذكروا اسمه أمام المسيح على أن المسيح الذي عرف قلب زكا لا يحتاج إلى من يخبره باسمه فيمكن أنه عرفه كما عرف نثنائيل (يوحنا ١: ٤٨).
    وهذه المرة الوحيدة عرض المسيح نفسه للضيافة. وهذا وفق دعوته في سفر الرؤيا (رؤيا ٣: ٣٠). ولم يسأل المسيح زكا هل له بيت وهل أحوال ذلك البيت موافقة لقبول الضيف لأنه عرف كل أحوال بيته وعواطف قلبه. ولم يطلب أن يبيت في بيوت أحد الربانيين أو كهنة أريحا بل اختار أن يبيت في بيت زكا إذ رأى في قلبه استعداداً للترحيب به وأراد أن يخلص نفسه وفقاً لقوله «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (ع ١٠). ولمثل هذه الغاية خاطب المرأة السامرية (يوحنا ص ٤).
    ٦ «فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَـهُ فَرِحاً».
    لا ريب في أن العجب أخذ زكا عندما خاطبه يسوع. ولعله توقع أن يوبخه ذلك النبي فتنازل المسيح بطلبه أن يقبله ضيفاً أثر فيه فحسب ضيافة المسيح شرفاً له فجعله ذلك يقبله فرحاً في بيته كما قبله بالإيمان والمحبة في قلبه.
    ٧ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْجَمِيعُ ذٰلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ».
    متّى ٩: ١١ وص ٥: ٣٠
    تَذَمَّرُوا الذين تذمروا الجمع المرافق له لا تلاميذه. وكان ذلك الجمع من اليهود فزعموا وجوب أن ينزل المسيح عند أحد الفريسيين لا عند عشار لأن العشار كان مكروهاً لديهم (ص ٥: ٣٠ و١٥: ٢).
    رَجُلٍ خَاطِئٍ لو كان زكا من الأمم ما سكتوا عن بيان ذلك. وكان من المستحيل أن يأكل المسيح عنده طعاماً لو كان من الأمم لأن المسيح كان حافظاً السنن اليهودية. ودعاه اليهود خاطئاً لأن العشارين لم يكونوا يبالون بالطقوس اليهودية وتقاليد الشيوخ التي يجعل حفظها الإنسان «باراً». وكانت أعمالهم مكروهة لديهم فاعتبروهم من جملة الخطاة تعييراً لهم.
    ٨ «فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ».
    ص ٣: ١٤، خروج ٢٢: ١ و١صموئيل ١٢: ٣ و٢صموئيل ١٢: ٦
    فَوَقَفَ زَكَّا الأرجح أن ذلك كان في بيته ولعله حدث عند العشاء. وكان وقوفه دلالة على ثبات عزمه وتوقيره لله وهو ينذر له ويتعهد.
    أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي هذا دليل واضح على أنه مع غناه لم يكن قلبه عابداً لماله وعلى أنه شعر بوجوب أن يكرم الله بماله ويصنع به خيراً. وفعل ذلك أيضاً شكراً للنعمة التي حصل عليها بإتيان المسيح إلى بيته وفعل نعمته في قلبه.
    وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ الخ وعد بذلك أنه يراجع أعماله الماضية بالتدقيق ويرد على من اختلس منه شيئاً بالخداع أو الإجبار أربعة أضعاف. وهذا يزيد على ما تطلبه الشريعة لأن الشريعة لا تطلب سوى الخمس زيادة على المختلس إذا اعترف المذنب بذنبه تبرعاً (عدد ٥: ٦ و٧). ولكن إذا سرق الإنسان بهيمة وتصرف بها ثم قُبض عليه فأجبر أن يؤدي أربعة أضعاف ما سرق (خروج ٢٢: ١). ولكن إذا وُجد المسروق حياً بين يديه عوّض عليه باثنين (خروج ٢٢: ٤). فما أتى به زكا كان برهاناً على صدق توبته. ولو اعترف بخطيئته ولم يرد المسروق أو المختلس لكانت توبته عبثاً. ولا يزال هذا القانون واجباً على كل الذين يدّعون التوبة الآن.
    ٩ «فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ».
    رومية ٤: ١١ و١٢ و١٦ وغلاطية ٣: ٧، ص ١٣: ١٦
    حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ لأنه تجددت نفس صاحب البيت. فدخل المسيح ذلك البيت وأدخل الخلاص معه وقبل العشار المخلص والخلاص معاً.
    إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ هذا رد على الذين تذمروا عليه لأنه دخل بيت زكا وهو رجل خاطئ (ع ٧). فقال أن زكا وإن كان خاطئاً هو ابن إبراهيم بالتسلسل الطبيعي والخلاص لليهود أولاً فيليق أن يقدّم له لأنه يهودي لا واحد من الأمم. ويحسن أن يقدّم له لسبب ثان وهو أنه أظهر بالعمل أنه ابن إبراهيم بالإيمان والحق لا بالدم وحده.
    ١٠ «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ».
    متّى ١٠: ٦ و١٥: ٢٤ و١٨: ١١
    هذا جواب ثانٍ للمتذمرين عليه لدخوله بيت زكا الخاطئ وهو أنه دخل بيته لكي يخلص نفسه الهالكة وقد سبق الكلام على هذه الآية في شرح ص ١٥: ٣ - ١٠.
    ولنا من هذه الحادثة أربع فوائد:

    • الأولى: قوة النعمة الإلهية فإنها جعلت عشاراً غنياً ظالماً مسيحياً كريماً مؤمناً.
    • الثانية: إنه تنتج من أمور طفيفة نتائج عظيمة. فإنه من رغبة ذلك الإنسان في مشاهدة المسيح وهو مار وصعوده على الشجرة نتج الخلاص الأبدي لبيته.
    • الثالثة: تنازل المسيح ومحبته ورحمته باختياره ذلك العشار إناء لرحمته.
    • الرابعة: إن من تجدّد حقاً يبرهن صحة تجدده بأعماله.



    مَثَل العشرة الأمناء ع ١١ إلى ٢٧


    ١١ «وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هٰذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلاً، لأَنَّهُ كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي ٱلْحَال».
    أعمال ١: ٦
    هٰذَا أي ما قاله يسوع لزكا والأرجح أن ما ذُكر هنا من خطاب يسوع له كان قليلاً من كثير.
    عَادَ أي زاد على قوله السابق.
    مَثَلاً هذا المثل يشبه في بعض الوجوه مَثَل العشر الوزنات (متّى ٢٥: ١٤ - ٣٠ ومرقس ١٣: ٣٤ - ٣٦) ويختلف عنه في عدة وجوه نذكر خمسة منها.

    • الأول: إن مثَل الوزنات ضربه يسوع في أورشليم في أسبوع صلبه. ومثَل الأمناء ضربه في أريحا في الأسبوع الذي قبله.
    • الثاني: إن في مثَل الوزنات «إنساناً وزع أمواله على عبيده ليتجروا بها» وكانت قيمة ما وزعه عليهم إن كان فضة نحو ٢٠٠٠ ليرة إنكليزية وإن كان ذهباً نحو ٤٨٠٠٠ ليرة كذلك. وإن في مثل الأمناء أميراً ذهب ليطلب ملكاً لنفسه وترك لكل من عبيده قليلاً من المال وكانت جملة ما تركه للجميع لا تزيد على ستين ليرة انكليزية وأتى ذلك امتحاناً لأمانتهم.
    • الثالث: أنّ كلا من العبيد في مثل الوزنات أخذ ما هو على قدر طاقته فمنهم من أخذ عشر وزنات ومنهم من أخذ خمساً الخ. ولكن في مثل الأمناء كل عبد أخذ مناً.
    • الرابع: أنه لم يذكر في مثل الوزنات سوى العبيد ولكنه ذُكر في مثل الأمناء الأعداء أيضاً.
    • الخامس: إن غاية المسيح من المثل الأول تعليم تلاميذه وجوب الأمانة والاجتهاد في غيبة سيدهم الطويلة وبطء يوم المحاسبة وغايته من الثاني تعليم كل الشعب أن لا يتوقعوا مجيء ملكوت الله في الحال وكيفية المحاسبة وقت مجيئه.


    كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ أي نحو سبع ساعات أو عشرين ميلاً لأنه كان وقتئذ في أريحا.
    أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ عَتِيدٌ الخ توقع الجمع الذي رافق المسيح وتلاميذه أيضاً أن المسيح يغلب في الحال على كل أعداء الأمة اليهودية ولا سيما الحكومة الرومانية وأن يقيم ملكوته ظاهراً وممجداً في أورشليم قاعدة مملكته وأن كل نبوات الكتاب المقدس في شأن ملك المسيح على وشك الإتمام بظاهر المعنى. وظنوا أن غاية صعوده إلى أورشليم حينئذ إنجاز ذلك. وعلّة هذا الانتظار المعجزات التي فعلها المسيح. فتكلم بهذا المثل إصلاحاً لذلك الخطإ. وأنه يمضي عليهم زمان طويل قبل استعلانه بالمجد. وأنه يجب الاجتهاد في خدمة الرب وهم ينتظرون. وفيه أيضاً إنذار لمقاومية (ع ١٤: ٢٧).
    ١٢ «فَقَالَ: إِنْسَانٌ شَرِيفُ ٱلْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكاً وَيَرْجِعَ».
    متّى ٢٥: ١٤ ومرقس ١٣: ٣٤
    إِنْسَانٌ شَرِيفُ ٱلْجِنْسِ أشار المسيح بهذا إلى نفسه وهو ابن داود ابن إبراهيم وابن الله السرمدي.
    ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَة الخ وقع كثيراً مثل الحوادث المذكورة في أيام المملكة الرومانية فهيرودس الكبير لم يكن في سوى وظيفة ليست بعالية في اليهودية وذهب إلى رومية قاعدة المملكة فعيّنه السناتوس هنالك ملكاً على اليهودية فعاد وملك واستوطن. وكذلك ابنه أرخيلاوس بعد موت أبيه اضطر أن يذهب إلى رومية ويسأل الأمبراطور أوغسطس الملك حتى يستطيع أن يخلف أباه. والمشار إليه بالذهاب إلى الكورة البعيدة هنا قصد المسيح أن يذهب إلى السماء (كما قال في متّى ٢١: ٣٣ و٢٥: ١٤ ومرقس ١٢: ١) لينتظر الوقت الذي عيّنه الآب لرجوعه لكي يملك ظاهراً ملك الملوك ورب الأرباب على عرش المملكة التي اقتناها بدمه وفق قوله في (يوحنا ١٦: ١٦) وما قيل في (رؤيا ١٧: ٤ و١٩: ٦). نعم إنّ المسيح ملكٌ «عَلَى أَنَّنَا ٱلآنَ لَسْنَا نَرَى ٱلْكُلَّ بَعْدُ مُخْضَعاً لَـهُ» (عبرانيين ٢: ٨). فلذلك يجب أن لا نتوقع تمجده اليوم.
    ١٣ «فَدَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَـهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ، وَقَالَ لَـهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِي».
    حزقيال ٤٥: ١٢
    المقصود من ذلك المسيحيون كلها لا عدد معين.
    عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ المنا هنا مئة دينار أو نحو ٤٥٠ غرشاً. أعطى السيد مناً لكل واحد من عبيده ليربح به لسيده. وقصد السيد بذلك امتحان أمانتهم لكي يثيب الأمناء عند رجوعه برفع مقامهم وتوليتهم. كذلك المسيح وهب لكل من تلاميذه مواهب روحية كمعرفة الحق ونعمة الروح القدس لكي يمجد الله بها وينفع الناس وهو يقصد أن يثيب الأمين بالبركات السماوية.
    تَاجِرُوا أي تصرفوا بهذه الأمناء باجتهاد وأمانة لتزيدوني نفعاً بربحها. كذلك يأمر المسيح تلاميذه بالاجتهاد في خدمته والأمانة في إتمام مقصاده لمجد الله وخلاص الناس. فقوله «تاجروا» كقوله «أنتم نور العالم» «واذهبوا تلمذوا جميع الأمم».
    حَتَّى آتِيَ توقع ذلك الأمير ان يرجع سريعاً ليملك. أما يسوع فلا بد أن يأتي أيضاً في نهاية العالم ليملك في المجد. فعلى الكنيسة كلها أن تكون مجتهدة أمينة إلى مجيء ربها ثانية. وعلى كل منا أن يكون كذلك إلى يوم موته.
    ١٤ «وَأَمَّا أَهْلُ مَدِينَتِهِ فَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ، فَأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ سَفَارَةً قَائِلِينَ: لاَ نُرِيدُ أَنَّ هٰذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا».
    يوحنا ١: ١١
    حدث مثل هذا في اليهودية في زمن بعض السامعين يوم ذهب أرخيلاوس إلى رومية يسأل الملك بعد موت أبيه هيرودس. فاليهود إذ كانوا يعرفون سوء أخلاقه (انظر الشرح متّى ٢: ٢٢) أرسلوا لجنة من خمسين رجلاً في رومية يسألون أوغسطس ان لا يملّكه لكنهم لم يفوزوا بمرادهم. وأشار المسيح بكلامه هنا إلى معاملة اليهود إياه إذ أبوا قبوله باعتبار أنه هو المسيح وأبغضوه وطلبوا قتله. وأنبأ بما سيقوله اليهود حين يسألهم بيلاطس قائلاً «ما أفعل بملككم» وهو قولهم «اصلبه اصلبه ليس لنا ملك إلا قيصر».
    وما صدق على اليهود يصدق على كل الخطاة الذين لا يؤمنون بالمسيح حين يدعوهم إليه فتقول قلوبهم «لا نريد أن هذا يملك علينا».
    ١٥ «وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَمَا أَخَذَ ٱلْمُلْكَ، أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أُولَئِكَ ٱلْعَبِيدُ ٱلَّذِينَ أَعْطَاهُمُ ٱلْفِضَّةَ، لِيَعْرِفَ بِمَا تَاجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ».
    ما مرّ من حوادث هذا المثل أشار إلى حوادث هذه الأرض وما يأتي تشير إلى ما سيحدث في العالم الآتي. وقد بلغ هذا الشريف إربه من أولياء الأمر ورجع ملكاً ثم اهتم أولاً بالسؤال عن تصرف عبيده في غيبته ليعرف ما ربحه كل منهم ويتحقق بذلك اجتهاده وأمانته.
    ١٦ «فَجَاءَ ٱلأَوَّلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ رَبِحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ».
    فَجَاءَ ٱلأَوَّلُ طُلب من كل أن يعطي حساباً بمفرده ولم يحاسبهم معاً لكي لا تستر أمانة بعضهم خيانة بعض.
    مَنَاكَ لم يدّعِ العبد الأمين أن المال له بل اعترف بأنه لسيده. ولم يقل مفتخراً أنا ربحت كذا وكذا بل «مناك ربح» كأنه هو لم يفعل شيئاً فوفرة الربح شهادة بفرط اجتهاده وحكتمه وأمانته.
    ١٧ «فَقَالَ لَـهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ، لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ، فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشَرِ مُدُنٍ».
    متّى ٢٥: ٢١ وص ١٦: ١٠
    نِعِمَّا... ٱلصَّالِحُ... كُنْتَ أَمِيناً لا بد من أن كلمات هذا المديح كانت حسنة جداً في مِسمعي ذلك العبد.
    فِي ٱلْقَلِيلِ إن المال الذي أخذه كان زهيداً جداً فإنه ليس سوى مناً واحد لكنه كان كافياً لامتحان اجتهاده وأمانته.
    سُلْطَانٌ عَلَى عَشَرِ مُدُنٍ هذا ثواب جزيل حقق له الشرف والقوة والغنى وكل وسائط السعادة والإفادة.
    ومعنى ذلك الروحي أن الله يثيب المسيحي الأمين في اليوم الأخير إثابة جزيلة أكثر مما يستحقه. ولا نعلم كل ما قصده المسيح «بالسلطان على عشر مدن» لكن نتيقن أنه توكيد للمجد والإكرام والسعادة وأسباب النفع للغير. ونستنتج من ذلك أن ثواب العبد الأمين في العالم الآتي فرصة لزيادة المنفعة ووفرة العمل في خدمة الله لأن السلطان على عشر مدن ليس بمقصور على مشاهدة وجه الله وتسبيحه إلى الأبد.
    ١٨، ١٩ «١٨ ثُمَّ جَاءَ ٱلثَّانِي قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. ١٩ فَقَالَ لِهٰذَا أَيْضاً: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدُن».
    أظهر العبد الثاني التواضع كالعبد الأول بقوله «مناك عمل».
    خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ أخذ قدر ما أخذ الأول لكنّه ربح أقلّ منه كأنّ اجتهاده أقلّ من اجتهاد ذاك.
    عَلَى خَمْسِ مُدُنٍ حكم السيد بقدر اجتهاده على قدر ربحه وأثابه كذلك. فثوابه وإن كان عظيماً في ذاته أقل من ثواب الأول وأسباب سعادته وإفادة غيره أقل من مثلها لذاك. وكذلك يُثاب المسيحي في السماء على قدر أمانته واجتهاده في خدمة الله على هذه الأرض.
    ٢٠ «ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ ٱلَّذِي كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيل».
    اقتصر المثل على ذكر محاسبة ثلاثة عبيد من العشرة لأن ذلك كاف لبيان كيفية المحاسبة. ولا نعلم هل كان من خان واحداً فقط أو أكثر.
    يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ لم يكن هذا الإنسان من أعداء الملك بل كان من عبيده. أخذ المنا من سيده بناء على أن يتاجر به لنفع ذلك السيد.
    مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيلٍ لم يتصرف بالمنا شيئاً لنفع سيده لكسله وعدم اكتراثه بشأن الملك أو لعدم محبته وأمانته وتصديقه رجوع ذلك السيد. نعم إنّه لم ينفق المنا على نفسه ولم يُضعه لكنه حسب حبسه ورده كل ما يُطلب منه.
    ٢١ «لأَنِّي كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ، إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ، تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ».
    متّى ٢٥: ٢٤
    اتهم سيده بالظلم ستراً لذنبه هو وبأنه مشهور بطلبه من عبيده ما لاحق له أن يطلبه. وكلماته هنا جارية مجرى المثل. وقد سبق الكلام عليها في الشرح متّى ٢٥: ٢٤.
    ٢٢ - ٢٤ «٢٢ فَقَالَ لَـهُ: مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ، آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ، وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ، ٢٣ فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ ٱلصَّيَارِفَةِ، فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِباً؟ ٢٤ ثُمَّ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: خُذُوا مِنْهُ ٱلْمَنَا وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ ٱلْعَشَرَةُ ٱلأَمْنَاءُ».
    ٢صموئيل ١: ١٦ وأيوب ١٥: ٦ ومتّى ١٢: ٣٧، متّى ٢١: ١٢ و٢٥: ٢٦ و٢٧
    انظر الشرح متّى ٢٥: ٢٦ - ٢٨.
    مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ قوله بيّن كسله وذنبه وبطلان عذره. وهذا العذر وإن سكّت ضميره لم يقنع سيده لأن السيد طلب خدمته فكان عليه أن يأتي تلك الخدمة خوفاً منه على دعواه إن لم يأتها محبة له. فلم يجعله أميناً خوفٌ ولا محبة. وأشار المسيح بذلك إلى الذين يدعون أنهم مسيحيون لكنهم لا يستعملون الوسائط التي لهم لنفع نفوسهم ونفوس غيرهم ولمجد الله فالله يعلن ذنبهم ويعاقبهم بخزي وخسران.
    ٢٥ «فَقَالُوا لَـهُ: يَا سَيِّدُ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ».
    هذا الكلام من السامعين إظهارٌ لتعجبهم من كرم الملك على إنسان كان قد أكرمه بكثير.
    ٢٦ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَـهُ يُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَـهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».
    متّى ١٣: ١٢ و٢٥: ٢٩ ومرقس ٤: ٢٥ وص ٨: ١٨
    هذا كلام جار مجرى المثل يبين به الملك سبب فعله كرره المسيح مراراً (متّى ١٣: ١٢ و٢٥: ٢٩ ومرقس ٤: ٢٥ وص ٨: ١٨) فراجع الشرح.
    ٢٧ «أَمَّا أَعْدَائِي، أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَٱذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي».
    أتى أرخيلاوس مثل هذا العذاب لليهود الذين قاوموه منعاً من أن يكون ملكاً عليهم كما يبيّن من تاريخ يوسيفوس. وأشار المسيح بهذا إلى عقاب أعدائه في هذا العالم وفي العالم الآتي يهوداً كانوا أو أمماً في عصره أو سائر الأعصار.
    ولنا من هذا المثل ثماني فوائد:

    • الأولى: إنه سوف يأتي المسيح في نهاية العالم ليملك ممجداً.
    • الثانية: إنه يدعو حال مجيئه كل عبيده للمحاسبة.
    • الثالثة: إنه سيحاسب عبيده واحداً فواحداً بلا استثناء ولا محاباة فلا يترك سبيلاً لأحد أن يستر آثامه بظل الكنيسة أو القديسين.
    • الرابعة: إن أهم ما يبحث عنه من أمور الإنسان في يوم الدين أمانته في ما وُكل إليه.
    • الخامسة: إن خدم المسيح الأمناء يعطون حسابهم بالتواضع وينسبون كل فضل إلى نعمة المسيح وفقاً لقول بولس الرسول (غلاطية ٢: ٢٠).
    • السادسة: إن المسيح يجازي الأمناء قولاً وفعلاً أكثر مما توقعوا أو تصوروا.
    • السابعة: إن ثواب السماء وإن كان كله من النعمة مختلف الصنوف باختلاف اجتهاد الإنسان وأمانته.
    • الثامنة: إن غير الأمناء من تلاميذ المسيح يعاقبون مع أعدائه المجاهرين ويكون نصيبهم الخجل والخسران الأبدي.



    صعود المسيح من أريحا إلى أورشليم ع ٢٨ إلى ٤٠


    ٢٨ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا تَقَدَّمَ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ».
    مرقس ١: ٣٢
    وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أي على أثر ما قاله في بيت زكا. والأرجح أنّه وصل إلى هنالك يوم الخميس وبات وسافر في صباح يوم الجمعة وفتح عيني ابن تيماوس وهو خارج.
    تَقَدَّمَ أي سبق كل الناس رغبة في بلوغه أورشليم مع أنه كان يتوقع الآلام والموت هناك (انظر الشرح مرقس ١٠: ٣٢).
    صَاعِداً تعلو أورشليم أريحا بنحو ٣٤٠٠ قدم. قال يوحنا الرسول «ثُمَّ قَبْلَ ٱلْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا» (يوحنا ١٢: ١). ونعلم من ذلك أنه بلغ بيت عنيا مساء يوم الجمعة. والأرجح أنه تقضى عليه يوم السبت هناك وأنه بعد الغروب أي عند نهاية السبت حضر الوليمة التي فيها دهنت مريم قدمي يسوع (يوحنا ١٢: ١ - ٩).
    ٢٩ - ٣٨ «٢٩ وَإِذْ قَرُبَ مِنْ بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا عِنْدَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي يُدْعَى جَبَلَ ٱلزَّيْتُونِ، أَرْسَلَ ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ ٣٠ قَائِلاً: اِذْهَبَا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي أَمَامَكُمَا، وَحِينَ تَدْخُلاَنِهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ قَطُّ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ. ٣١ وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُلاَّنِهِ؟ فَقُولاَ لَـهُ: إِنَّ ٱلرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. ٣٢ فَمَضَى ٱلْمُرْسَلاَنِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَـهُمَا. ٣٣ وَفِيمَا هُمَا يَحُلاَّنِ ٱلْجَحْشَ قَالَ لَـهُمَا أَصْحَابُهُ: لِمَاذَا تَحُلاَّنِ ٱلْجَحْشَ؟ ٣٤ فَقَالاَ: ٱلرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. ٣٥ وَأَتَيَا بِهِ إِلَى يَسُوعَ، وَطَرَحَا ثِيَابَهُمَا عَلَى ٱلْجَحْشِ وَأَرْكَبَا يَسُوعَ. ٣٦ وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ. ٣٧ وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ، ٱبْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلتَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ ٱللّٰهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ ٱلْقُوَّاتِ ٱلَّتِي نَظَرُوا، ٣٨ قَائِلِينَ: مُبَارَكٌ ٱلْمَلِكُ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي ٱلأَعَالِي!».
    متّى ٢١: ١ ومرقس ١١: ١، ٢ملوك ٩: ١٣ ومتّى ٢١: ٧ ومرقس ١١: ٧ ويوحنا ١٢: ١٤، متّى ٢١: ٨، مزمور ١١٨: ٢٦ وص ١٣: ٣٥، ص ٢: ١٤ وأفسس ٢: ١٤
    انظر الشرح متّى ٢١: ١ - ١٦. كان دخول المسيح هذا بالاحتفال إلى أورشليم من نوادر الأمور المتعلقة بحياة المسيح وقد التفت إليها البشيرون الأربعة. ويستنتج من ذلك أنها كانت من الأمور المهمة. والأرجح أن ذلك حدث يوم الأحد.
    جَمِيعِ ٱلْقُوَّاتِ ٱلَّتِي نَظَرُوا (ع ٣٧) من تلك القوات فتح عيني برتيماوس في أريحا (ص ١٨: ٤٣) وإقامة لعازر التي حدثت قبل ذلك بقليل (يوحنا ١١: ٤٤).
    ٣٩ «وَأَمَّا بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ ٱلْجَمْعِ فَقَالُوا لَـهُ: يَا مُعَلِّمُ، ٱنْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ».
    بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ رافقه بعض الفريسيين ليراقبوا أعماله ويجدوا علّة للاشتكاء عليه ولم يشاركوا الجموع في الفرح وامتلأوا حسداً على تمجيد الناس إياه فلم يصدقوا أنه هو المسيح وحسبوا نسبة التلاميذ النبوات المتعلقة بالمسيح إلى يسوع تجديفاً.
    ٱنْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ طلبوا ذلك إليه لا إلى الشعب لأنهم حسبوا سكوته اشتراكاً في التجديف وحسبوه مهيج الشعب إلى ذلك التسبيح.

    بكاء يسوع على أورشليم ع ٤١ إلى ٤٤


    ٤٠ «فَأَجَابَ: أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هٰؤُلاَءِ فَٱلْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!».
    حبقوق ٢: ١١
    جاوبهم المسيح هنا بكلام جار مجرى المثل أظهر به أنه راض ما أتاه الجمع من التسبيح له وأبى أن يسكته عن ذلك كما طلب الفريسيون. وأبان صعوبة تسكيتهم بأنه أسهل عليه أن يجعل الحجارة البكماء تنطق من أن يجعل أولئك الناطقين يسكتون. وعرّض بذلك أن الفريسيين الذين امتنعوا عن التسبيح أقسى من الحجارة. فكأنه قال «الحق معهم وتسبيحهم في محله لأنه أتى الوقت للمناداة بأن يسوع هو المسيح الملك وهم اقتنعوا بذلك ففرحوا فرحاً عظيماً لا يستطيعون كتمه». وكان يسوع قبل ذلك ينهي تلاميذه عن أن ينادوا به مسيحاً وملكاً وأما هنا فأذن لهم في ذلك واعتبره من الضروريات لإتمام مقاصد الله ونبوءات الكتاب (زكريا ٩: ٩) ولهذا لو سكت الشعب عن التسبيح لأنطق الله الحجارة به.
    ٤١ «وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا».
    يوحنا ١١: ٣٥
    لم يذكر أحد من البشيرين سوى لوقا بكاء يسوع في ذلك الوقت ولوقا كان يحب أن يذكر الأشياء التي تُظهر كون يسوع ابن الإنسان وأنه يشفق على الناس الذين أخذ طبيعته منهم حتى وفي أحزانهم التي جلبوها على أنفسهم بخطاياهم.
    وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ يمكن المسافر من بيت عنيا إلى أورشليم أن يذهب في إحدى طريقين الأولى فوق جبل الزيتون والثانية على سفحه وكلاهما يشرف على المدينة والهيكل.
    وَبَكَى عَلَيْهَا لم يشغل أفكاره جمال المدينة والهيكل ولم تلهه تسبيحات الشعب وترنيماته. ولم تخفه الآلام التي توقعها هناك لكنه حقق بسابق علمه النوازل التي قُضي بها على أهل أورشليم لرفضهم إياه وهي التي أبكته. وهذه المرة الثانية أُخبرنا أنه بكى وكانت الأولى عند قبر لعازر (يوحنا ١١: ٣٥). وكانت دموعه في كلتيهما لأحزان غيره.
    ٤٢ «قَائِلاً: إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هٰذَا مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ».
    لَوْ عَلِمْتِ أي «يا ليتك علمت» أو في الكلام حذف وتقدير المحذوف «لكان خيراً لك». فكأن المسيح قابل في ذهنه المجد والسعادة اللذين كانت تستطيع الحصول عليهما بالنوازل التي جلبتها على نفسها. فعدم معرفة أورشليم ما هو خير لها كان من مختاراتها وآثامها لأنها أبت قبول البراهين على أن يسوع هو المسيح وكانت تلك البراهين كلماته ومعجزاته.
    فِي يَوْمِكِ هٰذَا أي زمن نعمة الله الذي فيه أرسل الله ابنه إليك وفُتح لك فيه أبواب التوبة والرحمة وهو وقت قبول المسيح والخلاص به. ويسمّى أيضاً «زمان افتقادك» (ع ٤٤) ويراد بذلك على الخصوص نحو ثلاث سنين ونصف سنة وهي مدة تبشير المسيح على هذه الأرض. وأما الاستعداد لذلك اليوم فشغل نحو أربعة آلاف سنة.
    مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ السلام هنا كناية عن كل خير زمني وروحي. فلو قبلت يسوع مسيحاً نلت كل سلام ولكن برفضك أنه المسيح رفضت كل السلام.
    أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ أي عن عيني أهلك إجمالاً فإن قليلين منهم عرفوا الحقيقة. والأمر المخفى عنهم هو أن يسوع هو المسيح وأنه أتى خلاصاً لهم. وعلّة إخفاء ذلك عدم إيمانهم لأنهم لم يقبلوا شهادة يسوع ورسله ونسبوا المعجزات التي أتوا بها إلى بعلزبول.
    ٤٣، ٤٤ «٤٣ فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، ٤٤ وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ ٱفْتِقَادِك».
    إشعياء ٢٩: ٣ و٤ وإرميا ٦: ٣ و٦ وص ٢١: ٢٠، ١ملوك ٩: ٧ و٨ وميخا ٣: ١٢، متّى ٢٤: ٢ ومرقس ١٣: ٢ وص ٢١: ٦، دانيال ٩: ٢٤ وص ١: ٦٨ و٧٨ و١بطرس ٢: ١٢
    سبب بكاء المسيح ما ذُكر في هذين العددين مما عرفه المسيح بعلمه السابق وذلك مختصر ما أنبأ به متّى في الأصحاح الرابع والعشرين من بشارته في شأن حصار أورشليم سنة ٧٠ ب.م فراجع الشرح هناك.
    لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ ٱفْتِقَادِكِ أي جهلت علّة خرابك (متّى ٢١: ٣٨ - ٤٣ و٢٢: ٧). والمراد بزمان افتقادها وقت الرحمة كما في (تكوين ٢١: ١ وراعوث ١: ٦ ولوقا ١: ٦٨ و٧٨ و٧: ١٦). ولا سيما وقت خدمة المسيح على الأرض. وهو يتضمن أيضاً أربعين سنة بعد صعوده وأتى حينئذ يوم النقمة بخراب المدينة. وعدم معرفة اليهود زمن افتقادهم هو جهلهم أن يسوع هو مسيحهم ورفضهم إياه وصلبهم له وبذلك حوّلوا الرحمة نقمة.
    وما صح على اليهود يصح على كل الخطاة من أربعة أوجه:

    • الأول: أنّ الله عيّن لهم وقتاً يمكنهم فيه أن يتوبوا ويستعدوا للسماء. ومنحهم وسائط كافية لذلك.
    • الثاني: أنّ ذلك الوقت محدود. وهو زمان افتقادهم الذي هو من أهم الأوقات لأنه يتعلق به سعدهم الأبدي أو شقاؤهم الدائم.
    • الثالث: أنّه حينما يتقضى ذلك الوقت يزول وسائط النعمة ولا سيما تأثير الروح القدس فيهم ويُغلق الباب.
    • الرابع: أنّه بعد نهاية زمن افتقادهم الرحمة يبتدئ زمان افتقاد الدينونة والانتقام ويدوم إلى الأبد.



    تطهير الهيكل الثاني ع ٤٥ إلى ٤٨


    ٤٥، ٤٦ «٤٥ وَلَمَّا دَخَلَ ٱلْهَيْكَلَ ٱبْتَدَأَ يُخْرِجُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِيهِ ٤٦ قَائِلاً لَـهُمْ: مَكْتُوبٌ أَنَّ بَيْتِي بَيْتُ ٱلصَّلاَةِ. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ».
    متّى ٢١: ١٢ ومرقس ١١: ١١ و١٥ ويوحنا ٢: ١٤ و١٥، إشعياء ٥٦: ٧، إرميا ٧: ١١
    قد سبق الكلام على تطهير الهيكل في الشرح (متّى ٢١: ١٢ و١٣ ومرقس ١١: ١٥ - ١٩). وكان تطهير الهيكل أولاً في بداءة خدمة المسيح (يوحنا ٢: ١٣ - ١٦).
    ٤٧، ٤٨ «٤٧ وَكَانَ يُعَلِّمُ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ مَعَ وُجُوهِ ٱلشَّعْبِ يَطْلُبُونَ أَنْ يُهْلِكُوهُ، ٤٨ وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَفْعَلُونَ، لأَنَّ ٱلشَّعْبَ كُلَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقاً بِهِ يَسْمَعُ مِنْهُ».
    مرقس ١١: ١٨ ويوحنا ٧: ١٩ و٨: ٣٧
    كُلَّ يَوْمٍ أي من الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع الذي صُلب فيه. وكان يبيت حينئذ كل ليلة في بيت عنيا ويرجع صباحاً إلى أورشليم. وخرج آخر مرة من الهيكل في مساء يوم الثلاثاء (متّى ٢٤: ١ ومرقس ١١: ١٩ ولوقا ٢١: ٣٨).
    وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ الخ انظر الشرح (مرقس ١١: ١٨ و١٩).
    وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَفْعَلُونَ أي لم يجدوا في تعليمه ما يشتكونه به إلى الحكام ولم يجسروا أن يقبضوا عليه بلا حجة.
    ٱلشَّعْبَ (ع ٤٨) أي عامة أهل المدينة والجموع التي أتت من الجليل وغيرها من البلاد ليحضروا عيد الفصح.


    الأصحاح العشرون


    سؤال رؤساء اليهود ليسوع عن سلطانه ع ١ إلى ٨


    ١ - ٨ «١ وَفِي أَحَدِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ إِذْ كَانَ يُعَلِّمُ ٱلشَّعْبَ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَيُبَشِّرُ، وَقَفَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ مَعَ ٱلشُّيُوخِ، ٢ وَقَالُوا لَـهُ: قُلْ لَنَا بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هٰذَا، أَوْ مَنْ هُوَ ٱلَّذِي أَعْطَاكَ هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ؟ ٣ فَأَجَابَ: وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَقُولُوا لِي: ٤ مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا، مِنَ ٱلسَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ ٱلنَّاسِ؟ ٥ فَتَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: إِنْ قُلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ ٦ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ ٱلنَّاسِ، فَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ يَرْجُمُونَنَا لأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ. ٧ فَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ. ٨ فَقَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هٰذَا».
    متّى ٢١: ٢٣ ومرقس ١١: ٢٨ وأعمال ٤: ٧ و٧: ٢٧ ومتّى ١٤: ٥ و٢١: ٢٦ وص ٧: ٢٩
    سبق الكلام على هذا في الشرح متّى ٢١: ٢٣ - ٢٧ ومرقس ١١: ٢٧ - ٣٣.
    فِي أَحَدِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ الأرجح أن ذلك كان يوم الثلاثاء صباحاً فما ورد هنا يفرق قليلاً عما ورد في متّى ومرقس في اللفظ لا في المعنى.

    مثل الكرامين الخائنين ع ٩ إلى ١٩


    ٩ - ١٩ «٩ وَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِلشَّعْبِ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَاناً طَوِيلاً. ١٠ وَفِي ٱلْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى ٱلْكَرَّامِينَ عَبْداً لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ ٱلْكَرْمِ، فَجَلَدَهُ ٱلْكَرَّامُونَ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ١١ فَعَادَ وَأَرْسَلَ عَبْداً آخَرَ. فَجَلَدُوا ذٰلِكَ أَيْضاً وَأَهَانُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ١٢ ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ ثَالِثاً. فَجَرَّحُوا هٰذَا أَيْضاً وَأَخْرَجُوهُ. ١٣ فَقَالَ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبَ. لَعَلَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ يَهَابُونَ! ١٤ فَلَمَّا رَآهُ ٱلْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: هٰذَا هُوَ ٱلْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا ٱلْمِيرَاثُ. ١٥ فَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ؟ ١٦ يَأْتِي وَيُهْلِكُ هٰؤُلاَءِ ٱلْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي ٱلْكَرْمَ لآخَرِينَ. فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: حَاشَا! ١٧ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: إِذاً مَا هُوَ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ: ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ. ١٨ كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟ ١٩ فَطَلَبَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ أَنْ يُلْقُوا ٱلأَيَادِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ، وَلٰكِنَّهُمْ خَافُوا ٱلشَّعْبَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ عَلَيْهِمْ».
    متّى ٢١: ٣٣ ومرقس ١٢: ١، مزمور ١١٨: ٢٢ ومتّى ٢١: ٤٢ ومرقس ١٢: ١٠، دانيال ٢: ٣٤ و٣٥ ومتّى ٢١: ٤٤
    انظر الشرح متّى ٢١: ٣٣ - ٤٦ ومرقس ١٢: ١ - ١٢.
    هٰذَا ٱلْمَثَلَ (ع ٩) بعض الكلام في هذا المثل مجاز وبعضه تاريخ وبعضه نبوءة.
    وَفِي ٱلْوَقْتِ (ع ١٠) سمى متّى ذلك الوقت بوقت الإثمار والمقصود به وقت الحصاد.
    مَاذَا أَفْعَلُ (ع ١٣) هذا الكلام دليل حزن صاحب الكرم على عصيان الكرامين وعلى اجتهاده في فعل ما يمكنه ليردهم إلى الطاعة.
    يَأْتِي وَيُهْلِكُ الخ (ع ١٦) سبق هذا الكلام في بشارة متّى سؤال يسوع للفريسيين وجوابهم له.

    تقديم الجزية لقيصر ع ٢٠ - ٢٦


    ٢٠ - ٢٦ «٢٠ فَرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ، حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إِلَى حُكْمِ ٱلْوَالِي وَسُلْطَانِهِ. ٢١ فَسَأَلُوهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ بِٱلاسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ، وَلاَ تَقْبَلُ ٱلْوُجُوهَ، بَلْ بِٱلْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ ٱللّٰهِ. ٢٢ أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ ٢٣ فَشَعَرَ بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَـهُمْ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ ٢٤ أَرُونِي دِينَاراً. لِمَنِ ٱلصُّورَةُ وَٱلْكِتَابَةُ؟ فَأَجَابُوا: لِقَيْصَرَ. ٢٥ فَقَالَ لَـهُمْ: أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّٰهِ لِلّٰهِ. ٢٦ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ ٱلشَّعْبِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَوَابِهِ وَسَكَتُوا».
    متّى ٢٢: ١٥ الخ ومرقس ١٢: ١٣ الخ
    قابل بهذا ما شرح في بشارة متّى ٢٢: ١٥ - ١٢. وما قيل هنا في ع ٢٠ زيادة على ما جاء في متّى لكنه موافق لما قيل هناك.

    إفحام يسوع للصدوقيين ع ٢٧ إلى ٤٠


    ٢٧ - ٤٠ «٢٧ وَحَضَرَ قَوْمٌ مِنَ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ ٱلَّذِينَ يُقَاوِمُونَ أَمْرَ ٱلْقِيَامَةِ، وَسَأَلُوهُ: ٢٨ يَا مُعَلِّمُ كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ وَلَـهُ ٱمْرَأَةٌ، وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، يَأْخُذُ أَخُوهُ ٱلْمَرْأَةَ وَيُقِيمُ نَسْلاً لأَخِيهِ. ٢٩ فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. وَأَخَذَ ٱلأَوَّلُ ٱمْرَأَةً وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، ٣٠ فَأَخَذَ ٱلثَّانِي ٱلْمَرْأَةَ وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، ٣١ ثُمَّ أَخَذَهَا ٱلثَّالِثُ، وَهٰكَذَا ٱلسَّبْعَةُ. وَلَمْ يَتْرُكُوا وَلَداً وَمَاتُوا. ٣٢ وَآخِرَ ٱلْكُلِّ مَاتَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَيْضاً. ٣٣ فَفِي ٱلْقِيَامَةِ، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ! ٣٤ فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَبْنَاءُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ يُزَوِّجُونَ وَيُزَوَّجُونَ، ٣٥ وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذٰلِكَ ٱلدَّهْرِ وَٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، ٣٦ إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا أَيْضاً، لأَنَّهُمْ مِثْلُ ٱلْمَلاَئِكَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ، إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ ٱلْقِيَامَةِ. ٣٧ وَأَمَّا أَنَّ ٱلْمَوْتٰى يَقُومُونَ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مُوسَى أَيْضاً فِي أَمْرِ ٱلْعُلَّيْقَةِ كَمَا يَقُولُ: اَلرَّبُّ إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ. ٣٨ وَلَيْسَ هُوَ إِلٰهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلٰهُ أَحْيَاءٍ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ. ٣٩ فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ: يَا مُعَلِّمُ حَسَناً قُلْتَ!. ٤٠ وَلَمْ يَتَجَاسَرُوا أَيْضاً أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ».
    متّى ٢٢: ٢٣ ومرقس ١٢: ١٨ وأعمال ٢٣: ٦ و٨، تثنية ٢٥: ٥، ١كورنثوس ١٥: ٤٢ و٤٩ و٥٢ و١يوحنا ٣: ٢، رومية ٨: ٢٣، خروج ٣: ٦، رومية ١٤: ٨ و٩
    انظر الشرح متّى ٢٢: ٢٣ - ٣٣.
    أَبْنَاءُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ ما ذُكر هنا من ع ٣٤ - ٣٦ لم يروه أحد من البشيرين سوى لوقا. ومعنى قوله «أبناء هذا الدهر» سكان الأرض على وجه العموم بقطع النظر عن كونهم أخياراً أو أشراراً.
    يُزَوِّجُونَ وَيُزَوَّجُونَ نفهم هذا بدلالة القرينة أن الله عيّن الزيجة في هذا العالم فقط لأن الناس يموتون فيه فلزم أن يولد غيرهم ليأخذوا أماكنهم بخلاف عالم الأرواح فإنه لا موت فيه فلا حاجة إلى الزواج.
    حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذٰلِكَ ٱلدَّهْرِ (ع ٣٥) معنى «ذلك الدهر» هنا السماء والذين حُسبوا أهلاً للحصول عليه هم الأتقياء الذين ينالون الحياة الأبدية هناك.
    وَٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أي الحياة المجيدة التي تكون القيامة المدخل إليها. وهي «قيامة الحياة» المذكورة في بشارة يوحنا (يوحنا ٥: ٢٩) وهي التي عناها بولس بقوله «لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ» (فيلبي ٣: ١١) والمقصود بها حياة القداسة والسعادة التي يدخل فيه المختارون بواسطة القيامة حين تتحد أرواحهم بأجسادهم وتكون تلك الأجساد في صورة جسد المسيح الممجد (فيلبي ٣: ٢١ و١يوحنا ٣: ٢). فاقتصر المسيح هنا على ذكر أحوال المخلصين في السماء حسب مقتضى السؤال فلا داعي إلى ذكر أحوال الهالكين الذين قيامتهم للدينونة.
    لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا (ع ٣٦) لأن الله قضى بنفي الموت من السماء (رؤيا ٢١: ٤).
    لأَنَّهُمْ مِثْلُ ٱلْمَلاَئِكَةِ في أمرين. الأول أنهم غير خاضعين للموت أيضاً والثاني انهم لا يحتاجون إلى الزيجة بعد.
    وَهُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ لقيامتهم وتحولهم إلى صورة المسيح. فحين كانوا على الأرض في الجسد كانوا أبناء البشر عرضة للموت ولما بلغوا السماء صاروا أبناء الله في أنهم خالدون. وإلى هذا أشار داود النبي بقوله «أَمَّا أَنَا فَبِٱلْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا ٱسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ» (مزمور ١٧: ١٥). وفي أنهم قديسون ومثله قول يوحنا «نكون مثله» (١يوحنا ٣: ٢).
    أَبْنَاءُ ٱلْقِيَامَةِ لأنهم ورثة كل فوائد القيامة وذلك مثل قول المسيح «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا ١٤: ١٩). ولأنهم يأخذون في يوم القيامة أجساداً ليست عرضة للموت ووفق ذلك قول بولس في رسالته الأولى إلى الكورنثيين (ص ١٥: ٥٢ - ٥٤).
    لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ (ع ٣٨) فالذي صدق على إبراهيم وإسحاق ويعقوب يصدق على كل الموتى وهو أنهم لا يزالون أحياء عند الله.
    وقول المسيح هنا نص جلي على أن نفس الإنسان لا تنفك تحيا بعد انفصالها عن الجسد.
    الناس يقسمون البشر قسمين الأحياء والأموات فالأحياء هم الذين في الأجساد والأموات هم الغائبون عن أجسادهم والحق أن الجميع عند الله أحياء سواء كانوا في الأجساد أم لا وعلى الأرض أو في عالم آخر.
    قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ (ع ٣٩) المرجح أن الكتبة هنا من الفرقة الفريسية التي اعتقدت القيامة (أعمال ٢٣: ٨) فسروا بالبرهان الجديد الذي أقامه المسيح إثباتاً لمعتقدهم.
    لَمْ يَتَجَاسَرُوا الخ (ع ٤٠) بغية أن يصطادوه بكلمة (متّى ٢٢: ٤٦).

    سؤال يسوع للفريسيين عن نسبة المسيح إلى داود ع ٤١ - ٤٤


    ٤١ - ٤٤ «٤١ وَقَالَ لَـهُمْ: كَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنُ دَاوُدَ، ٤٢ وَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَقُولُ فِي كِتَابِ ٱلْمَزَامِيرِ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي ٤٣ حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. ٤٤ فَإِذاً دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَكَيْفَ يَكُونُ ٱبْنَهُ؟».
    متّى ٢٢: ٤٢ ومرقس ١٢: ٣٥، مزمور ١١٠: ١ وأعمال ٢: ٣٤
    راجع الشرح متّى ٢٢: ٤١ - ٤٦.
    لَـهُمْ أي الكتبة (ع ٣٩) وجاء في بشارة متّى أن المسيح قال لهم «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي ٱلْمَسِيحِ» (متّى ٢٢: ٤٢).
    يَقُولُ فِي كِتَابِ ٱلْمَزَامِيرِ زاد مرقس في روايته أنّ داود قال هذا بالروح القدس (مرقس ١٣: ٣٦). فتبيّن من كلام المسيح هذا أن المزامير من أقوال الوحي الإلهي.

    تحذير المسيح تلاميذه من الكتبة عن ٤٥ إلى٤٧


    ٤٥ - ٤٧ «٤٥ وَفِيمَا كَانَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ يَسْمَعُونَ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٤٦ ٱحْذَرُوا مِنَ ٱلْكَتَبَةِ ٱلَّذِينَ يَرْغَبُونَ ٱلْمَشْيَ بِٱلطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ ٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱلأَسْوَاقِ، وَٱلْمَجَالِسَ ٱلأُولَى فِي ٱلْمَجَامِعِ، وَٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى فِي ٱلْوَلاَئِمِ. ٤٧ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ ٱلأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ ٱلصَّلَوَاتِ. هٰؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!».
    متّى ٢٣: ١ ومرقس ١٢: ٣٨، متّى ٢٣: ٥ و٦ وص ١١: ٤٣، متّى ٢٣: ١٤
    انظر الشرح متّى ٢٣: ١٤ ومرقس ١٢: ٣٨ - ٤٠.
    فِيمَا كَانَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ يَسْمَعُونَ (ع ٤٥) ذكر لوقا هذا بياناً أن المسيح حينما كان يخاطب تلاميذه رفع صوته حتى يسمع كل الشعب المحيط به.


    الأصحاح الحادي والعشرون


    الأرملة والفلسان ع ١ إلى ٤


    ١ - ٤ «١ وَتَطَلَّعَ فَرَأَى ٱلأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي ٱلْخِزَانَةِ، ٢ وَرَأَى أَيْضاً أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. ٣ فَقَالَ: بِٱلْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ ٱلْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، ٤ لأَنَّ هٰؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ ٱللّٰهِ، وَأَمَّا هٰذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ ٱلْمَعِيشَةِ ٱلَّتِي لَهَا».
    مرقس ١٢: ٤١ و٤٢، ٢كورنثوس ٨: ١٢
    انظر الشرح مرقس ١٢: ٤١ - ٤٤.

    إنباء يسوع بخراب أورشليم ع ٥ إلى ٣٦


    ٥ - ١١ «٥ َإِذْ كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ عَنِ ٱلْهَيْكَلِ إِنَّهُ مُزَيَّنٌ بِحِجَارَةٍ حَسَنَةٍ وَتُحَفٍ قَالَ: ٦ هٰذِهِ ٱلَّتِي تَرَوْنَهَا، سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ. ٧ فَسَأَلُوهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَتَى يَكُونُ هٰذَا وَمَا هِيَ ٱلْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَصِيرُ هٰذَا؟ فَقَالَ: ٨ ٱنْظُرُوا! لاَ تَضِلُّوا. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ، وَٱلزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ. فَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَهُمْ. ٩ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاَقِلٍ فَلاَ تَجْزَعُوا، لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هٰذَا أَوَّلاً، وَلٰكِنْ لاَ يَكُونُ ٱلْمُنْتَهَى سَرِيعاً. ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ ١٠: تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، ١١ وَتَكُونُ زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ، وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ. وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلاَمَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
    متّى ٢٤: ١ ومرقس ١٣: ١، ص ١٩: ٤٤، متّى ٢٤: ٤ ومرقس ١٣: ٥ وأفسس ٥: ٦ و٢تسالونيكي ٢: ٣، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧ و٢٤: ٧
    تكلم المسيح بما في هذا الأصحاح لتلاميذه وهم خارجون من الهيكل وكان كلامه جواباً لكلام بعض التلاميذ والسؤال من ثلاثة منهم (مرقس ١٣: ١ - ٣).
    ما رواه متّى من هذا الخطاب مستوفىً أكثر مما رواه سائر البشيرين (انظر الشرح متّى ص ٢٤ ومرقس ص ١٣).
    ٱلزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ (ع ٨) هذا جزء من كلام الأنبياء الكذبة على ظهور المسيح على الأرض ممجداً.
    ١٢ - ١٩ «١٢ وَقَبْلَ هٰذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ، وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ ٱسْمِي. ١٣ فَيَؤُولُ ذٰلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً. ١٤ فَضَعُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنْ لاَ تَهْتَمُّوا مِنْ قَبْلُ لِكَيْ تَحْتَجُّوا، ١٥ لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا. ١٦ وَسَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ ٱلْوَالِدِينَ وَٱلإِخْوَةِ وَٱلأَقْرِبَاءِ وَٱلأَصْدِقَاءِ، وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ. ١٧ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. ١٨ وَلٰكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ. ١٩ بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ».
    مرقس ١٣: ٩ ورؤيا ٢: ١٠، أعمال ٤: ٣ و٥: ١٨ و١٢: ٤ و١٦: ٢٤، أعمال ٢٥: ٢٣ و١بطرس ٢: ١٣، فيلبي ١: ٢٨ و٢تسالونيكي ١: ٥، متّى ١٠: ١٩ ومرقس ١٣: ١١ وص ١٢: ١١، أعمال ٦: ١٠، ميخا ٧: ٦ ومرقس ١٣: ١٢، أعمال ٧: ٥٩ و١٢: ٢، متّى ١٠: ٢٢ و٣٠
    قَبْلَ هٰذَا كُلِّهِ أي قبل إنجاز سائر ما ذُكر في هذه النبوة. وقد مرّ الكلام على مضطهديه المسيحيين وواجباتهم في الشرح (متّى ١٠: ١٧ - ٢٢ و٢٤: ٩ - ١٤ ومرقس ١٣: ٩ - ١٣).
    فَيَؤُولُ ذٰلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً (ع ١٣) أي أن وقوع الاضطهاد على التلاميذ يكون وسيلة إلى الشهادة للمسيح وللحق. ويكون احتمالهم إياه شهادة بأمانتهم ومتى وقفوا أمام الملوك والرؤساء (مرقس ١٣: ٩) وأدوا تلك الشهادة فإن قبلها السامعون كانت لهم وإن رفضوها كانت عليهم.
    أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً (ع ١٥) أي أقدّركم على التكلم بنعمة الروح القدس (مرقس ١٣: ١١) وأمنحكم الحكمة لكي تقدّموا براهين مقنعة للسامعين. وقد تم ذلك فعلاً ومن أمثلته ما جاء في أعمال ٤: ١٩ و٢٠ و٥: ٢٩ - ٣٢ و٧: ٢٦.
    شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ (ع ١٨) إذا نظرنا إلى اللفظ بقطع النظر عن القرينة كان ذلك وعداً بالوقاية من الخطر الشخصي كما وقع فعلاً (أعمال ٢٧: ٣٤). ولكن القرينة تدل على أن المعنى أنه لا يذهب شيء مما يُبذل في سبيل الدين عبثاً ولو أقل الأشياء لأنه يؤول إلى انتشار الإنجيل هنا وسعادة المبشرين في الآخرة (فيلبي ١: ١٩). وأن أعداءهم لا يستطيعون أن يؤذوهم أدنى أذى إلا بإذن الله لإتمام مقاصده الخيرية.
    بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ (ع ١٩) أي بتمسككم بالإيمان زمن الاضطهاد تقون أنفسكم من الهلاك الأبدي فإن سلمتم أجسادكم إلى الموت بالصبر فذلك هو الطريق المؤدية إلى الاقتناء السماوي الذي عينه الله لكم ولكن إن أنكرتم المسيح لتقوا حياة أجسادكم خسرتم حياة نفوسكم السماوية. وذلك وفق ما قيل في بشارة متّى ١٠: ٣٩ و٢٤: ١٣ وبشارة مرقس ١٣: ١٣.
    ٢٠ - ٢٤ «٢٠ وَمَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ، ٢١ فَحِينَئِذٍ ٱعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ خَرَابُهَا. حِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجِبَالِ، وَٱلَّذِينَ فِي وَسَطِهَا فَلْيَفِرُّوا خَارِجاً، وَٱلَّذِينَ فِي ٱلْكُوَرِ فَلاَ يَدْخُلُوهَا، ٢٢ لأَنَّ هٰذِهِ أَيَّامُ ٱنْتِقَامٍ، لِيَتِمَّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ. ٢٣ وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَٱلْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ، لأَنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ عَلَى ٱلأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هٰذَا ٱلشَّعْبِ. ٢٤ وَيَقَعُونَ بِٱلسَّيْفِ، وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ ٱلأُمَمِ، وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ ٱلأُمَمِ، حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ ٱلأُمَمِ».
    متّى ٢٤: ١٥ ومرقس ١٣: ١٤، ص ١٨: ٧ و٨، دانيال ٩: ٢٦ و٢٧ وزكريا ١١: ٦ و١٤: ١ و٢، متّى ٢٤: ١٩، دانيال ٩: ٢٧ و١٢: ٧ ورومية ١١: ٢٥
    انظر الشرح متّى ص ٢٤.
    أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ (ع ٢٠) هذا تفسير ما جاء في بشارتي متّى ومرقس على رجسة الخراب (متّى ٢٤: ١٥ ومرقس ١٣: ١٤) وكان بين أول مجيء الجيوش الرومانيين إلى أورشليم والحصار الأخير أربع سنين أي من سنة ٦٦ ب.م إلى ٧٠ ب.م.
    هٰذِهِ أَيَّامُ ٱنْتِقَامٍ (ع ٢٢) أي زمن عقاب الله الأمة اليهودية على خطاياها وهو لم يأت إلا بعد زمن الافتقاد بالرحمة.
    كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ أي كل ما كتبه أنبياء العهد القديم في هذا الشأن (لاويين ٢٦: ١٤ - ٢٣ وتثنية ١٨: ١٥ - ٦٨ و٢٩: ٢٢ - ٢٨ ودانيال ٩: ٢٦ و٢٧ وزكريا ص ١١ و١٤: ١ و٢) وما كتبه بعض تلاميذ المسيح (لوقا ١١: ٥٠ و٥١ و١٩: ٤٣ و٤٤).
    عَلَى ٱلأَرْضِ (ع ٢٣) أي اليهودية لأن الجنود الرومانية انتشرت فيها ونهبت مدنها وقتلت بعض السكان وأسرت البعض.
    وَسُخْطٌ أي نوازل الله النازلة عن سخطه.
    وَيَقَعُونَ بِٱلسَّيْفِ حُسب قتلى اليهود يومئذ في أورشليم وسائر اليهودية فبلغت ١٣٥٠٠٠٠.
    وَيُسْبَوْنَ بلغ عدد من سُبي من اليهود يومئذ ٩٧٠٠٠.
    أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ ٱلأُمَمِ قابل هذا بما جاء في سفر الرؤيا ١١: ٢ لم تكن هذه النبؤة مقصورة على هدم الرومانيين لأورشليم بل اشتملت على ما جرى عليها من الحوادث من ذلك الوقت إلى هذه الساعة وما سيكون عليها في المستقبل إلى ما شاء الله والمقصود بتلك النبوءة أنه يملك اليهودية ملوك ليسوا من اليهود وأن اليهود سكانها الأصليين يكونون في حال الذّل والهوان.
    حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ ٱلأُمَمِ يحتمل ذلك معنيين الأول زمان إكمال الأمم مقاصد الله الانتقامية منها. والثاني وهو الأرجح زمان قبول الأمم للإنجيل. وهذا هو الوقت الذي أنبأ به قدماء الأنبياء. وأشار إليه المسيح في بشارة متّى ٢١: ٤٣ و٢٢: ١٨ وفي بشارة مرقس ١٢: ٩ وأشار إليه بولس بقوله «مِلءُ الأمم» (رومية ١١: ٢٥). وقد عيّن الله لليهود يوم افتقادهم قبل خراب مدينتهم وهو قد عيّن للأمم يوم افتقادهم وهو الذي فيه يُبشرون بالإنجيل لو يدعون إلى التوبة وقبول المسيح. وتظل الدينونة على أورشليم مدة ذلك الافتقاد وعلى كل اليهود أيضاً بالنتيجة. والذي يحدث بعد ذلك في شأن أورشليم والأمة اليهودية نعرفه من نبوات أخرى منها ما جاء في الرسالة إلى الرومانيين (رومية ١١: ١٥ و٢٣ و٢٦).
    ٢٥ - ٣٣ «٢٥ وَتَكُونُ عَلاَمَاتٌ فِي ٱلشَّمْسِ وَٱلْقَمَرِ وَٱلنُّجُومِ، وَعَلَى ٱلأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ. اَلْبَحْرُ وَٱلأَمْوَاجُ تَضِجُّ، ٢٦ وَٱلنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَٱنْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى ٱلْمَسْكُونَةِ، لأَنَّ قُوَّاتِ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. ٢٧ وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابَةٍ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. ٢٨ وَمَتَى ٱبْتَدَأَتْ هٰذِهِ تَكُونُ، فَٱنْتَصِبُوا وَٱرْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ. ٢٩ وَقَالَ لَـهُمْ مَثَلاً: اُنْظُرُوا إِلَى شَجَرَةِ ٱلتِّينِ وَكُلِّ ٱلأَشْجَارِ. ٣٠ مَتَى أَفْرَخَتْ تَنْظُرُونَ وَتَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنَّ ٱلصَّيْفَ قَدْ قَرُبَ. ٣١ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى رَأَيْتُمْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَٱعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ قَرِيبٌ. ٣٢ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلُّ. ٣٣ اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ، وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ».
    متّى ٢٤: ٢٩ ومرقس ١٢: ٢٤ و٢بطرس ٣: ١٠ و١٢، متّى ٢٤: ٢٩ و٣٠ ورؤيا ١: ٧ و١٤: ١٤، رومية ٨: ١٩ و٢٣، متّى ٢٤: ٣٢ ومرقس ١٣: ٢٨، متّى ٢٤: ٣٥
    انظر الشرح متّى ٢٤: ٢٧ - ٣٣ ومرقس ١٣: ٢٤ - ٣٢.
    كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ هذا مثل قوله «تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ» (متّى ٢٤: ٣٠ ورؤيا ٦: ١٢ - ١٥). وذلك بالنظر إلى النوازل التي حدثت وإلى ما خافوه من أمثالها في المستقبل.
    هٰذِهِ (ع ٢٨) أي النوازل المذكورة في ع ٢٥.
    فَٱنْتَصِبُوا أي لا تسلموا أنفسكم إلى اليأس والخوف بل افرحوا بما يخيف عالم الخطاة. وقال يسوع ذلك تعزية لتلاميذه.
    لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ هذا موافق لقوله في بشارة متّى «فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ... فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ» (متّى ٢٤: ٢١). فإنهم وإن ماتوا يكون موت أجسادهم وسيلة إلى نجاة أنفسهم من كل تعب وخطر.
    ٣٤ - ٣٦ «٣٤ فَٱحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ ٱلْحَيَاةِ، فَيُصَادِفَكُمْ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ بَغْتَةً. ٣٥ لأَنَّهُ كَٱلْفَخِّ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ ٱلْجَالِسِينَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ. ٣٦ اِسْهَرُوا إِذاً وَتَضَرَّعُوا فِي كُلِّ حِينٍ، لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلاً لِلنَّجَاةِ مِنْ جَمِيعِ هٰذَا ٱلْمُزْمِعِ أَنْ يَكُونَ، وَتَقِفُوا قُدَّامَ ٱبْنِ ٱلإِنْسَان».
    رومية ١٣: ١٣ و١تسالونيكي ٥: ٦ و١بطرس ٤: ٧، ١تسالونيكي ٥: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠ ورؤيا ٣: ٣ و١٦: ١٥، متّى ٢٤: ٢٤ و٢٥: ١٣ ومرقس ١٣: ٣٣ ص ١٨: ١، مزمور ١: ٥ وأفسس ٦: ١٣
    ومعنى ما أتى هنا من الحث على الصلاة والسهر يوافق معنى ما جاء في بشارة متّى ٢٤: ٣٨ - ٥١ ومرقس ١٣: ٣٣ - ٣٧ فراجع الشرح هناك.
    فَٱحْتَرِزُوا (ع ٣٤) الأمور التي حذر المسيح تلاميذه منها هي التي تعيقهم عن الاستعداد الذي يقتضيه مجيئه الثاني وهي محبة العالم والترفّه واللذات الجسدية وزيادة الاهتمام بأمور هذه الحياة.
    ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ أي اليوم الأخير أعني يوم مجيء الرب وطلب الناس للحساب. وما قيل على نهاية العالم يصح أيضاً على موت كل إنسان.
    كَٱلْفَخِّ يَأْتِي (ع ٣٥) هذا مجاز حقيقته خطر بغتي لا نجاة منه. ويأتي ذلك على من توقعوا الأمان. واستعارة الفخ له هنا كاستعارة اللص له في غير مواضع (١تسالونيكي ٥: ٢ و٢بطرس ٣: ١٠).
    عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ أي أن أكثر الناس يكونون عند مجيء المسيح ثانية غافلين غير مستعدين فيدركهم الحيرة والهلاك. وهذا يدلنا على أن كلام المسيح لم يكن مقصوراً على خراب أورشليم بل يشتمل على نهاية العالم أيضاً.
    اِسْهَرُوا (ع ٣٦) أي احترزوا في زمن النجاح من الغفلة والترفه والكسل وفي زمن الضيق من زيادة الاهتمام والتذمر واليأس.
    لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلاً لِلنَّجَاةِ لم يقل «لكي تكونوا أهلاً للنجاة» بل «لكي تحسبوا» لأن ذلك من نعمة الله يسوع المسيح ربنا (يهوذا ٢٤).
    وَتَقِفُوا قُدَّامَ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ أي تقوموا في يوم الدين بلا خوف ولا خجل ولا دينونة متبررين مسرورين (قابل هذا مع مزمور ١: ٥ وملاخي ٣: ٢ و١يوحنا ٢: ٢٨) وفي ذلك إشارة إلى دوام بقائهم في حضرة المسيح كملائكة السماء

    كيفية تصرف المسيح ع ٣٧ و٣٨


    ٣٧، ٣٨ «٣٧ وَكَانَ فِي ٱلنَّهَارِ يُعَلِّمُ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَفِي ٱللَّيْلِ يَخْرُجُ وَيَبِيتُ فِي ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي يُدْعَى جَبَلَ ٱلزَّيْتُونِ. ٣٨ وَكَانَ كُلُّ ٱلشَّعْبِ يُبَكِّرُونَ إِلَيْهِ فِي ٱلْهَيْكَلِ لِيَسْمَعُوهُ».
    يوحنا ٨: ١ و٢ ص ٢٢: ٣٩
    هذا مختصر أنباء تصرف المسيح في الثلاثة الأيام الأولى من الأسبوع الأخير من حياته. وهذه خاتمة مخاطباته الأخيرة التي مقدمتها في ص ١٩: ٤٧ وهي قوله «وكان يعلّم كل يوم في الهيكل».
    وَيَبِيتُ فِي ٱلْجَبَلِ كانت بيت عنيا في جبل الزيتون والأرجح أن المسيح كانت تتقضى عليه الليالي فيها. ولا يقتضي الكلام هنا أن المسيح كان يبيت بلا مأوى (متّى ٢١: ١٧ ومرقس ١٤: ٣).
    يُبَكِّرُونَ إِلَيْهِ كما ذُكر في (بشارة متّى ٢١: ١٨ وبشارة مرقس ١١: ١٢ و٢٠).


    الأصحاح الثاني والعشرون


    الاستعداد للفصح ع ١ إلى ١٣


    ١، ٢ «١ وَقَرُبَ عِيدُ ٱلْفَطِيرِ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَـهُ ٱلْفِصْحُ. ٢ وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا ٱلشَّعْب».
    متّى ٢٦: ٢ ومزمور ١٤: ١، مرقس ٢: ٢ ويوحنا ١١: ٤٧ وأعمال ٤: ٢٧
    انظر الشرح متّى ٢٦: ١ - ٥.
    وَقَرُبَ أي كان بعد يومين. وكان ذلك الكلام مساء يوم الثلاثاء بعد غروب الشمس فيكون أول يوم الأربعاء.
    ٱلْفَطِيرِ... ٱلْفِصْحُ فسر لوقا الفطير بالفصح إفادة للأمم الذين كتب إنجيله لنفعهم.
    يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ أرادوا أن يقبضوا عليه وهو منفرد أو مع قليلين من تلاميذه لكنهم لم يأملوا النجاح في ذلك إلاّ بعد العيد (متّى ٢٦: ٥).
    خَافُوا ٱلشَّعْبَ تدل هذه العبارة وأمثالها أن كثيرين من الشعب اعتبروا يسوع نبياً. فالجموع الذين صرخوا بعد ذلك قائلين اصلبه اصلبه هاجهم رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب (متّى ٢٧: ٢٠).
    ٣ - ٦ «٣ فَدَخَلَ ٱلشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ. ٤ فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ ٱلْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ. ٥ فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. ٦ فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْواً مِنْ جَمْعٍ».
    متّى ٢٦: ١٤ ومرقس ١٥: ١٠ ويوحنا ١٣: ٢ و٢٧، أعمال ٤: ١، زكريا ١١: ١٢
    انظر الشرح متّى ٢٦: ١٤ - ١٦ ومرقس ١٤: ١٠ و١١.
    دَخَلَ ٱلشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا أي جربه الشيطان وهو سلم نفسه له ليعمل كل ما يأمره به. فهذا لم يكن على رغمه ولم يأته دفعة واحدة. فأول دخوله إياه كان بواسطة حب المال كما يظهر من قوله «مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي» (متّى ٢٦: ١٥) ثم بواسطة السرقة (يوحنا ١٢: ٦). ثم بمؤامرة رؤساء الكهنة المذكورة هنا. ثم بذهابه من مائدة الفصح لينبئ الرؤساء بالمكان الذي فيه يقبضون عليه (يوحنا ١٣: ٢٧). ثم بتسليمه إياه إلى أعدائه في البستان.
    وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ هذا بيان لفظاعة خيانته لسيّده ومعلمه.
    قُوَّادِ ٱلْجُنْدِ (ع ٤) أي رؤساء حرس الهيكل وهم من اليهود.
    عَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً (ع ٥) قادته محبته الفضة إلى تسليم نفسه إلى الشيطان وارتكاب أفظع الآثام.
    ٧ «وَجَاءَ يَوْمُ ٱلْفَطِيرِ ٱلَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ ٱلْفِصْحُ».
    متّى ٢٦: ١٨ ومرقس ١٤: ١٢
    وَجَاءَ يَوْمُ ٱلْفَطِيرِ يوم الخميس الرابع عشر من شهر نيسان وكان يوم استعداد للفصح يزيل اليهود فيه كل خمير من بيوتهم. وكانوا يحسبون ذلك اليوم أحياناً من أيام الفصح (انظر الشرح متّى ٢٦: ١٧). وكانوا يذبحون خروف الفصح في عصر ذلك النهار ويأكلونه بعد الغروب أي في أول يوم الجمعة.
    ولم يذكر البشيرون كيف تقضّى يوم الأربعاء على المسيح. والأرجح أنه تقضى عليه وهو مع تلاميذه في بيت عنيا.
    يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ الخ حسب شريعة موسى (خروج ١٢: ٣ - ٢٧ ولاويين ٢٣: ٤ - ٨ وتثنية ١٦: ١ - ٨).
    ٨ «فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: ٱذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا ٱلْفِصْحَ لِنَأْكُلَ».
    بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا ذكر مرقس أن المسيح أرسل تلميذين وزاد لوقا على ذلك اسميهما (مرقس ١٤: ١٣).
    ٩ «فَقَالاَ لَـهُ: أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟».
    أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ ذكر متّى ومرقس هذا السؤال ولم يذكر ما ذكره لوقا هو أن علّة هذا السؤال أمر المسيح لهم بالذهاب.
    ١٠ - ١٣ «١٠ فَقَالَ لَـهُمَا: إِذَا دَخَلْتُمَا ٱلْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى ٱلْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ، ١١ وَقُولاَ لِرَبِّ ٱلْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ ٱلْمُعَلِّمُ: أَيْنَ ٱلْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ ٱلْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ ١٢ فَذَاكَ يُرِيكُمَا عُلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا. ١٣ فَٱنْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَـهُمَا، فَأَعَدَّا ٱلْفِصْحَ».
    انظر الشرح متّى ٢٦: ١٨ ومرقس ١٤: ١٢ - ١٦.
    فَأَعَدَّا ٱلْفِصْحَ وبيان ما يتضمن ذلك في الشرح (متّى ٢٦: ١٩).

    الفصح ع ١٤ إلى ١٨


    ١٤ «وَلَمَّا كَانَتِ ٱلسَّاعَةُ ٱتَّكَأَ وَٱلاثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ».
    متّى ٢٦: ٢٠ ومرقس ١٤: ١٧
    انظر شرح بشارة متّى ٢٦: ٢٠ - ٢٥ ومرقس ١٤: ١٧.
    ٱلسَّاعَةُ أي الوقت المعيّن لأكل الفصح وهو مساء يوم الخميس أي أول يوم الجمعة الخامس عشر من نيسان.
    ٱتَّكَأَ حسب عوائد اليهود عند أكلهم الفصح في زمن المسيح. وذلك خلاف العوائد الأصلية وهي ان يأكلوه وهم وقوف (خروج ١٢: ١١).
    ١٥ «وَقَالَ لَـهُمْ: شَهْوَةً ٱشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هٰذَا ٱلْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ».
    ٱشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هٰذَا ٱلْفِصْحَ علّة ذلك الاشتهاء لم تُذكر هنا ويحتمل أنها أربعة أمور:

    • الأول: كون ذلك الفصح هو الفصح الأخير في تاريخ الكنيسة بعد أن بقي تذكاراً ورمزاً نحو ١٥٠٠ سنة.
    • والثاني: كونه على عزم أن يفارقهم فأراد وهو حزين لذلك أن يشاركهم في هذا الرسم الديني الموقّر تعزية لنفسه.
    • والثالث: جعل الفصح مقترناً برسم العشاء الرباني وهو وليمة محبة واتحاد بينه وبين تلاميذه تتداولها الكنيسة إلى نهاية العالم.
    • والرابع: اتخاذه فرصة لتعليم تلاميذه استعداداً لمفارقته إيّاهم وقد أتى ذلك فعلاً (يوحنا ص ١٤ وص ١٥ وص ١٦).


    قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ صرّح بهذا أنه قرب الوقت الذي فيه يموت على الصليب من أجلهم وأنه لا يمكنهم أن يأكل الفصح بعد ذلك معهم.
    ١٦ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
    ص ١٤: ١٥ وأعمال ١٠: ٤١ ورؤيا ١٩: ٩
    (انظر الشرح متّى ٢٦: ٢٩). تتضمن هذه الآية أمرين الأول أن المسيح لا يأكل الفصح أيضاً مع تلاميذه على الأرض. والثاني ان موته يكمل كل مقاصد الفصح ويؤسس ملكوت الله الجديد الذي ليس فيه فصح رمزي. فالمسيح أكمل بموته على الصليب كل مقاصد الفصح. ومن هذه المقاصد أن يكون الخروف بلا عيب وأن يُذبح وأن يُرش دمه وأن يشوى على النار وأن يؤكل وأن لا يُكسر عظم منه. ويحتمل أنّ في هذه الآية إشارة إلى وضع العشاء الرباني. وأن فيها أيضاً إشارة إلى عشاء عرس الخروف المذكور في (سفر الرؤيا ١٩: ٩ وبشارة متّى ٢٦: ٢٩). فمتى بلغ جميع المؤمنين السماء يحتفلون بنجاتهم العظمى من جهنم التي كانت نجاة الإسرائيليين من عبودية مصر رمزاً إليها ويتنعمون بالوليمة الروحية السماوية التي كان عيد الصفح رمزاً إليها.
    ١٧ «ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ وَقَالَ: خُذُوا هٰذِهِ وَٱقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ».
    تَنَاوَلَ كَأْساً (انظر الكلام على الفصح في شرح بشارة متّى ٢٦: ٢). هذه الكأس الأولى من الكاسات الخمس التي اعتاد اليهود شربها في الفصح.
    وَشَكَرَ كانت العادة وقتئذ أن يقول صاحب البيت عند تناوله هذه الكأس «مبارك أنت يا ربنا وإلهنا ملك العالم الذي خلق نتاج الكرمة».
    خُذُوا هٰذِهِ وَٱقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ المرجّح أنه ذاقها قبل أن قال هذه الكلمة وفقاً لعادة صاحب البيت في الفصح ووفقاً لقوله في الآية الخامسة عشرة ولقوله «إِنِّي مِنَ ٱلآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ هٰذَا الخ» (متّى ٢٦: ٢٩).
    ١٨ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ».
    متّى ٢٤: ٢٩ ومرقس ١٤: ٢٥
    حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أي حتى يبلغ كمال الفوز والمجد في السماء ويشترك المسيح والمختارون في كل الأفراح الروحية والبركات السماوية التي كان عيد الفصح رمزاً إليها. والكلام هنا مجاز لا حقيقة وكرره المسيح بعد وضع العشاء الرباني (متّى ٢٦: ٢٩ ومرقس ١٤: ٢٥).

    العشاء الرباني ع ١٩ و٢٠


    ١٩ «وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هٰذَا لِذِكْرِي».
    متّى ٢٦: ٢٦ ومرقس ١٤: ١٢، ١كورنثوس ١١: ٢٣ إلى ٢٥
    سبق الكلام على هذا في شرح (بشارة متّى ٢٦: ٢٦ - ٢٩ وبشارة مرقس ١٤: ٢٢ - ٢٥). وما قاله لوقا في شأن وضع هذا السر يوافق لفظاً ومعنى ما قاله بولس في رسالته إلى الكورنثيين (١كورنثوس ١١: ٢٣ - ٢٦).
    اِصْنَعُوا هٰذَا لِذِكْرِي أي اكسروا الخبز فكلوه ذكراً لي. ولم يذكر هذه العبارة إلا لوقا هنا وبولس في رسالته إلى أهل كورنثوس الأولى ١١: ٢٦. ومضمونها أن العشاء الرباني تذكار دائم (علاوة على كونه إشارة إلى جسد المسيح ودمه) لآلام المسيح لأجلنا ولمحبته المنقذة. وذكر موت المسيح كذلك يهيج حبنا له وشكرنا وثقتنا به ويقودنا إلى التواضع وانسحاق القلب. وبذكرنا المسيح كما تقدم نرضيه ونطيع أمره. ويلزم من وجوب ذكر موت المسيح على الدوام وجوب ممارسة الكنيسة لذلك السر دائماً.
    ٢٠ «وَكَذٰلِكَ ٱلْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ ٱلْعَشَاءِ قَائِلاً: «هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ هِيَ ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ بِدَمِي ٱلَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُم».
    ١كورنثوس ١٠: ١٦
    ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ بِدَمِي أي عهد الحياة الأبدية الذي ختمه المسيح بدمه للمؤمنين.
    ٱلَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ أي دم المسيح البار يسفك فداء عن الأثمة.

    يهوذا الخائن ع ٢١ إلى ٢٣


    ٢١ - ٢٣ «٢١ وَلٰكِنْ هُوَذَا يَدُ ٱلَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى ٱلْمَائِدَةِ. ٢٢ وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يُسَلِّمُهُ. ٢٣ فَٱبْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هٰذَا؟».
    مزمور ٤١: ٩ ومتّى ٢٦: ٢١ ومرقس ١٤: ١٨ ويوحنا ١٣: ٢١ و٢٦، متّى ٢٦: ٢٤ وأعمال ٢: ٢٣ و٤: ٢٨، متّى ٢٦: ٢٢ ويوحنا ١٣: ٢٢ و٢٥
    مرّ تفسير هذه الآيات في الشرح متّى ٢٦: ٢١ - ٢٥.
    لو فرضنا أن لوقا تكلم عن الحوادث باعتبار ترتيب أزمنتها لحكمنا من سياق الحديث هنا أن يهوذا الاسخريوطي أكل العشاء الرباني مع سائر الرسل. لكن علمنا مما سبق من بشارته أنه لم يلتفت إلى قص الحوادث باعتبار زمن حدوثها فإذا لا شيء هنا يناقض ما يُستنتج من قول يوحنا أن يهوذا الاسخريوطي خرج من بين الرسل على أثر أكلهم الفصح قبل رسم العشاء الرباني.
    مَعِي عَلَى ٱلْمَائِدَةِ الأرجح أن في هذه إشارة إلى قوله في بشارة متّى «ٱلَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي ٱلصَّحْفَةِ» (متّى ٢٦: ٢٣).

    مشاجرة الرسل ع ٢٤ إلى ٣٠


    ٢٤ «وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضاً مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ».
    مرقس ٩: ٣٤ وص ٩: ٤٦
    لم يذكر هذا من كاتبي البشائر سوى لوقا والأرجح أنه لم يُذكر في محله وأنه حدث قبل أكل الفصح والعشاء الرباني وأن علّة وقوع تلك المشاجرة تباين مواضعهم على مائدة الفصح وطلب كل منهم المكان الأسمى. وعند ذلك غسل المسيح أرجل تلاميذه ليعلّمهم التواضع (يوحنا ١٣: ٣ و٥) ثم تكلم بما ذُكر هنا وهذا يفسر ما قاله لوقا عن قول المسيح «أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِمُ» (ع ٢٧). ويبعد عن الظن أن تحدث مشاجرة مثل هذه بعد ممارستهم السرّ الموقّر وبعد حزنهم بما علموه من أنباء المسيح إياهم بأن واحداً منهم يخونه ويسلمه إلى الأعداء ليقتلوه.
    وكان الاتكاء على مائدة الولائم في تلك الأيام موضوع الخصام والتنازع (ص ١٤: ٧ - ١١ ومتّى ٢٣: ٦) وسبق وقوع مثل هذا بين التلاميذ لاختلافهم في أنه أيهم هو الأعظم (ص ٩: ٤٦ ومتّى ١٨: ١ و٢٠: ٢٠ - ٢٨ ومرقس ٩: ٣٤).
    ٢٥ «فَقَالَ لَـهُمْ: مُلُوكُ ٱلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَٱلْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ».
    متّى ٢٠: ٢٥ ومرقس ١٠: ٤٢
    انظر الشرح متّى ٢٠: ٢٥ - ٢٨ ومرقس ١٠: ٤٢.
    ٱلأُمَمِ ذكر الأمم هنا لأنه كثيراً ما يقع مثل تلك المشاجرة بينهم وديانتهم لا تمنعهم عن عمل مثل ذلك ولكنه لا يحسن بتابعي المسيح.
    يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ رغب الملوك اليونانيون والملوك الرومانيون أن يُلقبوا «محسنين» وأنفقوا على شعبهم أموالاً وافرة ليحصلوا على ذلك بقطع النظر عن استحقاقهم إياه أو عدمه. فعلّم يسوع تلاميذه أنهم إنما يستحقون أن يدعوا محسنين بخدمتهم غيرهم ونفعهم إياهم وأنهم بذلك ينالون العظمة الحقيقية.
    ٢٦ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هٰكَذَا، بَلِ ٱلْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَٱلأَصْغَرِ، وَٱلْمُتَقَدِّمُ كَٱلْخَادِمِ».
    متّى ٢٠: ٢٦ و١بطرس ٥: ٣ ص ٩: ٤٨
    وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هٰكَذَا إن كان المسيح قد عيّن بطرس رئيساً للرسل وجعله خليفة له فهل ساغ له ان يقول هذا القول. ومعناه أنتم لستم رؤساء وليس لكم أن تطلبوا أسماء الامتياز الفارغ كالملوك الوثنيين الطغاة الظالمين ولا المناصب العالية.
    كَٱلأَصْغَرِ... كَٱلْخَادِمِ العظمة الحقيقية بأمرين التواضع ونفع الغير.
    ٢٧ «لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ ٱلَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ ٱلَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلٰكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِم».
    ص ١٢: ٣٧، متّى ٢٠: ٢٨ ويوحنا ١٣: ١٣ إلى ١٧ وفيلبي ٢: ٧
    أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِمُ جعل المسيح عمله مثالاً لما يجب على التلاميذ أن يفعلوه بعد أن سألهم سؤالاً جوابه من واضحات الأمور وخلاصته أنه مع ما له من الحق في الرئاسة أخذ لنفسه منزلة الخادم بما أتاه من غسل أرجل التلاميذ (يوحنا ١٣: ١ - ١٦) وكل أعمال المسيح على الأرض كانت وفق قوله على نفسه «أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ» (متّى ٢٠: ٢٨).
    ٢٨، ٢٩ «٢٨ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، ٢٩ وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً».
    عبرانيين ٤: ١٥، متّى ٢٤: ٤٧ وص ١٢: ٣٢ و١كورنثوس ١: ٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢
    بعد ما أنذر يسوع تلاميذه وحذرهم من طلب الرئاسة والمجد العالمي عزاهم بوعده إياهم بمجد حقيقي أبدي في السماء إثابة على أمانتهم له.
    ثَبَتُوا مَعِي أي شاركوني في الأتعاب والضيقات طوعاً وحباً بلا ملل.
    فِي تَجَارِبِي لم يشر بذلك إلى تجاربه من الشيطان في البرية لأنه احتملها منفرداً عن الناس لكنه أشار إلى ضيقاته وتعيير الناس إياه مما أصابه في كل خدمته ولا سيما ما ذُكر في بشارة متّى ١٢: ١٤ وفي بشارة يوحنا ٦: ٦٠ و٦٨ (١كورنثوس ١٠: ١٣ ويعقوب ١: ٢ و١٢ و١بطرس ١: ٦).
    وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ... مَلَكُوتاً لم يقصد ملكوتاً مخصوصاً لكل واحد من الرسل بل أن يكونوا جميعاً شركاءه في المجد والسعادة حين يملك في السماء.
    كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي هذا تحقيق لما وعدهم به وبيان لنوع ذلك الملكوت وهو أنه روحي لا جسدي وسماوي لا أرضي.
    ٣٠ «لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلاثْنَيْ عَشَر».
    متّى ٨: ١١ وص ١٤: ١٥ ورؤيا ١٩: ٩، مزمور ٤٩: ١٤ ومتّى ١٩: ٢٨ و١كورنثوس ٦: ٢ ورؤيا ٣: ٢١
    لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي هذا مجاز مبني على عادة الملوك أن يدعوا من يحبهم ويريد أن يكرمهم ليتكئ معهم في الولائم إكراماً واعتباراً له.
    وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ الخ سبق تفسير هذا الكلام في شرح بشارة متّى ١٩: ٣٨. فوعد المسيح تلاميذه بأن يكونوا شركاءه في ملكوت أعظم من كلّ ممالك الأرض وهو عالم أنه بعد قليل يُقبض عليه كمذنب ويموت شر الميتات.

    إنباء يسوع بإنكار بطرس إياه ع ٣١ إلى ٣٨


    ٣١ «وَقَالَ ٱلرَّبُّ: سِمْعَانُ سِمْعَانُ، هُوَذَا ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ!».
    عاموس ٩: ٩ و١بطرس ٥: ٨
    حذّر المسيح بطرس من السقوط مرتين. الأولى قبل العشاء (يوحنا ١٣: ٣٦ - ٣٨). والثانية بعد العشاء والمرجح أنهم كانوا حينئذ ذاهبين إلى جثسيماني (متّى ٢٦: ٣١ - ٣٥ ومرقس ١٤: ٢٧ - ٣١). والأرجح أن التحذير الذي ذكره لوقا هو التحذير الأول على أثر قوله «إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ» (يوحنا ١٣: ٣٧).
    سِمْعَانُ هو اسم بطرس أولاً قبل أن لُقب ببطرس (يوحنا ١: ٤٢ ومتّى ١٦: ١٨). وتكرر الاسم دلالة على أهمية الكلام. ولعلّ سبب تخصيص يسوع بطرس بهذا الكلام أنه كان الأول في المشاجرة في أنه من يكون منهم هو الأكبر. وأخبره هنا أنه وهو يطلب الارتفاع لنفسه يكون في غاية الخطر من السقوط.
    ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ يرغب الشيطان في سقوط كل رسل المسيح لأنه عدوهم وعدو الله ويريد أن يمنعهم من تمجيد الله ونفع الغير ويريد هلاك أنفسهم وهو عدو قوي خبير بالشرور ويأتي الشر خفية فلذلك كان خطره أعظم من كل خطر. وقد عرف المسيح بسابق علمه أن الشيطان يريد أن يجرب بطرس تجربة عظيمة وحذّره ليكون على استعداد. وقوله «يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ» إشارة إلى ما قصده الشيطان من إقلاق أفكار بطرس وتحييره بالتجارب بغية أن يقوده إلى الشر كما قصد من أيوب (أيوب ١: ٩ - ١٢ و٢: ٤ - ٦) ويسمح الله بوقوع مثل هذه التجارب لتذكية الأتقياء.
    ٣٢ «وَلٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ».
    يوحنا ١٧: ٩ و١١ و١٥، مزمور ٥١: ١٣ ويوحنا ٢١: ١٥ إلى ١٧
    لٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ كأنه قال أنا عالم بضعفك وبقوة الشيطان وبفاعلية الصلاة لتقوى على مكائد هذا العدوّ ولهذا صلّيت من أجلك. ولا ريب أن المسيح صلّى من أجل كل التلاميذ لكنه خصص بطرس لأنه كان في شدة الخطر من فرط اتكاله على نفسه. نعم إن طلب الشيطان ضرر الناس قوي ولكن شفاعة المسيح أقوى منه لأنه لا يشفع باطلاً (يوحنا ١١: ٤٢) وهذا هو رجاء المسيحي الوحيد للنصر في محاربة إبليس.
    لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ لم يطلب المسيح من أجل بطرس لكي لا يُجرب ولا لكي يتزعزع إيمانه أبداً (وذلك لكي يعرف ضعفه) لكن طلب أن لا يتلاشى إيمانه حتى لا يبقى منه شيء. ومعنى الإيمان هنا التصديق أن يسوع هو المسيح والأمانة له. فلولا صلاة المسيح من أجل بطرس لم يبق له شيء من الإيمان والله قاده للتوبة إجابة لصلاة المسيح وجعل إيمانه أقوى مما كان وقرنه بالتواضع.
    وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ في هذا وعد بأن سقوطه لا يكون إلى الأبد.
    ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ يبين من ذلك أن إخوته التلاميذ ضعفاء وفي خطر السقوط وفي حاجة إلى النصح والتنشيط وأن اختيار بطرس بعد سقوطه يُعده ليحذرهم من السقوط وينهضهم بإرشاده إياهم إلى مصدر كل القوة أي الله. والرسالتان اللتان كتبهما بطرس من الأدلة على أنه أطاع أمر المسيح المذكور.
    ٣٣، ٣٤ «٣٣ فَقَالَ لَـهُ: يَا رَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى ٱلسِّجْنِ وَإِلَى ٱلْمَوْتِ. ٣٤ فَقَالَ: أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ، لاَ يَصِيحُ ٱلدِّيكُ ٱلْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي».
    متّى ٢٦: ٣٤ ومرقس ١٤: ٣٠ ويوحنا ١٣: ٣٨
    (انظر الشرح متّى ٢٦: ٣٣ - ٣٥) في كلام بطرس هنا إظهار المحبة للمسيح وجهله قوة التجربة وضعف إيمانه وفيه تلميح إلى أنه غير محتاج إلى شفاعة المسيح فيه.
    يَا بُطْرُسُ لم يناد المسيح هذا التلميذ بهذا الاسم الذي معناه صخر سوى هذه المرة ولعله أراد أن يبيّن له أنه وإن كان قوياً كالصخر التجربة أقوى منه.
    تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (انظر الشرح متّى ٢٦: ٣٤).
    ٣٥ «ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ: حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ، هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالُوا: لاَ».
    متّى ١٠: ٩ وص ٩: ٣ و١٠: ٤
    حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ اشار بذلك إلى الوقت الذي أرسل فيه الاثني عشر للتبشير.
    هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ أمرهم هنا أن ينظروا في ما مضى ويذكروا ما اختبروه لكي يكون لهم ثقة بالله في المستقبل فإن العناية الإلهية حملت أصدقاءهم على الاعتناء بهم ومنعت أعداءهم من أذاهم. وقد جعل ذلك مقدمة لما يأتي.
    ٣٦ «فَقَالَ لَـهُمْ: لٰكِنِ ٱلآنَ، مَنْ لَـهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذٰلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَـهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً».
    لٰكِنِ ٱلآنَ قد تغيّرت الأحوال فلزم أن تتغيّر الأوامر التي ذُكرت في ص ٩: ٣ وكانت مقصورة على سفر الرسل زمناً قصيراً ومسافة قريبة في وطنهم بين المستعدين للترحيب بهم وهو على القرب منهم في الجسد لكي يرشدهم ويعتني بهم. فكان عليهم بعد ذلك أن يسافروا أسفاراً طويلة لنشر بشرى الخلاص بين الغرباء وبين الأعداء أحياناً ويكونوا عرضة لضيقات كثيرة وأخطار عظيمة.
    مَنْ لَـهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ أشار بذلك إلى احتياجهم إلى النقود ليحصلوا على الطعام في أسفارهم.
    وَمَنْ لَيْسَ لَـهُ (كيس) فيه نقود لكي يشتري به سيفاً.
    فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً هذا يدل على شدة الخطر المحيط بالمؤمنين والحاجة إلى إعداد الوسائط لدفع الخطر حتى يضطر الإنسان إلى بيع بعض أثوابه التي لا بد له منها.
    وليس مقصود المسيح هنا أمر رسله بأن يذهبوا تلك الليلة ويشتروا سيوفاً ليدفعوا من يريدون إمساكه في البستان بدليل قوله «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» (متّى ٢٦: ٥٢). لكن كلامه موجه إلى المؤمنين عامة في الأزمنة المستقبلة وهو أنباء بإتيان أزمنة الضيق والخطر والاضطهاد والموت فيلزم أن يكون لهم من الأدوات اللازمة العادية من أسلحة وغيرها لدفع الخطر من الوحوش الضارية أو من اللصوص أو من الذين يضطهدونهم على إيمانهم وطوعاً به لهذا الأمر لجأ بولس إلى سيف الدولة الرومانية ليقي نفسه من مكايد اليهود (أعمال ٢٢: ٢٦ - ٢٨ و٢٥: ١١).
    وليس للكيس والمزود والسيف هنا من معنى روحي ولا يلزم مما ذكر أن يتكل المسيحي على تلك الوسائط المادية دون الوسائط الروحية كالصلاة والاستغاثة بالله.
    ولا يلزم من كلام المسيح هنا أنه يجوز للكنيسة أن تتخذ قوة السيف لتجبر الوثنيين على التنصر لأنه «أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً» (٢كورنثوس ١٠: ٤) بل إنّه يحل للأفراد المسيحيين أن يتخذوا الوسائط الشرعية لحماية حياتهم الجسدية.
    وينتج من ذلك أنه لا يحسن بالمسيحي أن يترك وسائل المعاش والوقاية من الخطر ويعتمد مجرد الاتكال على الله. فعليه مع ذلك الاتكال أن لا يعدل عن اتخاذ تلك الوسائل على قدر طاقته.
    ٣٧ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَـهُ ٱنْقِضَاءٌ».
    إشعياء ٣: ١٢ ومرقس ١٥: ٢٨
    ذكر هنا الدواعي إلى تلك الأوامر الجديدة (ع ٣٦) وهي ثلاث:

    • الأولى: كونه مزمعاً أن يتركهم وفقاً للنبوات المتعلقة بموته باعتبار كونه فادياً ووسيطاً.
    • والثانية: أنهم يُحصون مع أثمة كمعلمهم.
    • والثالثة: حصول كل ذلك في أقرب وقت.


    هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ إشعياء ٥٣: ١٣.
    أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ أي عومل كالأثيم بدلاً من الأثمة حقيقة وأما هو «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ» (عبرانيين ٧: ٢٦).
    مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي أي كل نبوة ورمز وإشارة. وما ذكر في هذه الآية واحدة من تلك النبوات.
    ٣٨ «فَقَالُوا: يَا رَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ. فَقَالَ لَـهُمْ: يَكْفِي!».
    هُنَا سَيْفَانِ لا عجب من وجود ذينك السيفين معهم لأن أكثر الجليليين كانوا يتقلدون السيوف في ذلك الوقت لأن البلاد يومئذ كانت كثيرة الوحوش واللصوص (ص ١٠: ٣٠) فجرى التلاميذ على سنن غيرهم من أهل الوطن. وكان أحد ذينك السيفين لبطرس (يوحنا ١٨: ١٠) فأخطأ الرسل بقصرهم ما قصده المسيح على خطر وقتي يحيط بهم فقط في تلك الليلة يجب عليهم أن يدفعوه بالسيف.
    يَكْفِي ليس معنى المسيح أنه يكفي سيفان بل أنه يكفي أن يتكلموا في ذلك الموضوع إذ رآهم غير قادرين على إدراك معناه وأن الذي قاله حينئذ كاف لأن يدركوا به المعنى بعد. وغنيٌ عن البيان أن المسيح لم يرد بذينك السيفين القوتين السياسية والروحية اللتين منحتا لبطرس أو لغيره من الرسل.
    وبعد هذا الكلام لفظ المسيح المذكور في إنجيل يوحنا ص ١٤ - ص ١٦ وأنبأ ثانية بإنكار بطرس إياه وترك جميع الرسل له (متّى ٢٦: ٣١ - ٣٥).

    آلام يسوع في البستان ع ٣٩ إلى ٤٦


    ٣٩ - ٤٢ «٣٩ وَخَرَجَ وَمَضَى كَٱلْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضاً تَلاَمِيذُهُ. ٤٠ وَلَمَّا صَارَ إِلَى ٱلْمَكَانِ قَالَ لَـهُمْ: صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. ٤١ وَٱنْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى ٤٢ قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ. وَلٰكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُك».
    متّى ٢٦: ٣٦ ومرقس ١٤: ٣٢ وص ٢١: ٣٧ ويوحنا ١٨: ١، متّى ٦: ١٣ و٢٦: ٤١ ومرقس ١٤: ٣٨ وع ٤٦، متّى ٢٦: ٣٩ ومرقس ١٤: ٣٥، يوحنا ٥: ٣٠ و٦: ٣٨
    سبق الكلام على آلام المسيح في البستان في شرح بشارة متّى ٢٦: ٣٠ - ٤٦ وشرح بشارة مرقس ١٤: ٢٦ - ٤٢ فارجع إليه.
    وَخَرَجَ (ع ٣٩) من مدينة أورشليم.
    كَٱلْعَادَةِ لذلك عرف يهوذا أين يجده ليقبض عليه (يوحنا ١٨: ٢).
    جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ (ع ٣٩) أي بستان جثسيماني الذي كان على سفح ذلك الجبل (متّى ٢٦: ٣٦) وهو عبر وادي قدرون (يوحنا ١٨: ١).
    ٱلْمَكَانِ (ع ٤٠) أي البستان.
    ٱنْفَصَلَ عَنْهُمْ (ع ٤١) أي عن ثلاثة من الرسل وهم بطرس ويعقوب ويوحنا لأنه ترك بقية الرسل قرب مدخل البستان وكان البعد بينه وبين الثلاثة غير كاف لمنع سمعهم كلامه.
    جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ أي ركع وكان أحياناً يخر أي ينكب على وجهه (متّى ٢٦: ٣٩).
    يَا أَبَتَاهُ صلّى المسيح في البستان ثلاث صلوات ذكر متّى الثلاث وكلام اثنتين منها وجمعها مرقس ولوقا في واحدة.
    لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ هذا كالطلبة الثالثة من الصلاة التي علّمها تلاميذه. قبل المسيح طوعاً واختياراً آلامه في البستان وعلى الصليب فداء عن الخطاة ولولا ذلك لكان ظلماً أن يعاقب البار عن الأثمة.
    ٤٣ - ٤٦ «٤٣ وَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. ٤٤ وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ. ٤٥ ثُمَّ قَامَ مِنَ ٱلصَّلاَةِ وَجَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ، فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً مِنَ ٱلْحُزْنِ. ٤٦ فَقَالَ لَـهُمْ: لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ».
    متّى ٤: ١١، يوحنا ١٢: ٢٧ وعبرانيين ٥: ٧ ع ٤٠
    وَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكٌ لم يذكر هذا أحد من كاتبي البشائر سوى لوقا. أتى الملائكة المسيح مثل هذه الخدمة بعد احتماله التجربة (متّى ٤: ١١).
    يُقَوِّيهِ نفساً وجسداً لأن المسيح كان إنساناً تاماً (كما أنه إله تام) احتاجت طبيعته البشرية إلى المساعدة في أشد ضيقاته. ومن مختصات لوقا رغبته في ذكر ما يتعلق بناسوت المسيح.
    فِي جِهَادٍ (ع ٤٤) هذا الجهاد جزء من الآلام التي احتملها المسيح في سبيل الفداء ولولا ذلك لوجب أن يحتملها كل الناس وقوّاه الملاك لعجز طبيعته البشرية عن احتمالها. ولا يحسن أن نظن علّة اضطرابه خوفه من الموت فإنها ثقل غضب الله على الخطية الذي هو احتمله (إشعياء ٥٣: ١٠ و١٢ وعبرانيين ٥: ٧ و٩).
    وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ (ع ٤٤) لم يذكر هذا سوى لوقا وكان ذلك ليلاً ولا بدّ أنه كان الهواء بارداً وكان يسوع منكباً على الأرض فلم يكن عرقه إلا من شدة انفعالات نفسه التي ظهر تأثيرها على جسده. وظن بعضهم أن عرقه دماً ممزوجاً بماء لكن لا يلزم من كلام الإنجيل إلا أن قطرات العرق كانت كبيرة كقطرات الدم وأنها خرجت من جسده بكثرة حتى وقعت على الأرض كدم من جرح.
    نِيَاماً مِنَ ٱلْحُزْنِ لم يذكر علّة هذا النوم سوى لوقا. وذكر الأطباء أن الحزن المستمر من علل الخدر والسبات في بعض الناس. وكان لنومهم علّة أخرى وهي أنه كان نحو منتصف الليل. وهؤلاء التلاميذ الثلاثة ناموا أيضاً في أثناء تجلي المسيح ص ٩: ٣٢.
    لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ (ع ٤٦) هذا السؤال لإظهار حزنه وتعجبه ولتوبيخه إياهم لأنهم لم يبالوا بآلام المسيح في أشد تجربة الشيطان لمعلمهم ولهم أيضاً. وكانت الأحوال تقتضي الصلاة والاستعانة بالله وهم نسوا كل شيء وناموا وعادوا إلى النوم بعد أن نبههم مرتين (مرقس ٥: ٤٠) وبقوا نائمين إلى أن أتى العسكر وحينئذ أيقظهم يسوع ولم يناموا (متّى ٢٦: ٤٤ و٤٥).

    تسليم يسوع والقبص عليه ع ٤٧ إلى ٥٣


    ٤٧، ٤٨ «٤٧ وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ، وَٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا أَحَدُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ يَتَقَدَّمُهُمْ، فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَـهُ. ٤٨ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ؟».
    متّى ٢٦: ٤٧ ومرقس ١٤: ٤٣ ويوحنا ١٨: ٣
    انظر الشرح متّى ٢٦: ٤٧ - ٥٦ ومرقس ١٤: ٤٣ - ٥٢.
    يَتَقَدَّمُهُمْ دليلاً لهم (أعمال ١: ١٦).
    أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لم يذكر هذا السؤال إلا لوقا والكلام في صورة الاستفهام والمقصود منه التأثير في قلب يهوذا لينقذه من الهلاك الأبدي ولولا قساوة قلبه لقاده إلى التوبة والاعتراف وترك خيانته. ولكل كلمة من هذه العبارة تأثير فالقبلة علامة الصداقة أفيليق أن تُستعمل في الخيانة فتزيد القاسي رياء. وأشار بقوله «تُسلّم» إلى أنه كان يجب عليه لكونه تلميذه أن يحامي عنه. وسمّى نفسه «ابن الإنسان» لينبه ذاكرته وليرقق قلبه عند سمعه الاسم الذي سمى المسيح نفسه به ليشير إلى تواضعه واشتراكه في طبيعة الإنسان وأحزانه وليحذّره من نتائج عمله الضارة لنفسه ولأن ابن الإنسان هو الموعود بأن يأتي ملكاً ودياناً للعالم (دانيال ٧: ١٣).
    ٤٩ «فَلَمَّا رَأَى ٱلَّذِينَ حَوْلَـهُ مَا يَكُونُ، قَالُوا: يَا رَبُّ، أَنَضْرِبُ بِٱلسَّيْفِ؟».
    أَنَضْرِبُ بِٱلسَّيْفِ هذا دليل على استعداد جميع التلاميذ للدفع عن المسيح إذا أذن لهم.
    ٥٠ «وَضَرَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَبْدَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذُنَهُ ٱلْيُمْنَى».
    متّى ٢٦: ٥١ ومرقس ١٤: ٤٣ ويوحنا ١٨: ١٠
    وَضَرَبَ وَاحِدٌ ذكر هذه الحادثة البشيرون الأربعة ولكن لم يذكر اسمي الضارب والمضروب سوى يوحنا وذلك لأن يوحنا كتب إنجيله بعد ما أمن الخطر من معاقبة الحكومة لبطرس الضارب.
    ٥١ «فَقَالَ يَسُوعُ: دَعُوا إِلَى هٰذَا! وَلَمَسَ أُذُنَهُ وَأَبْرَأَهَا».
    دَعُوا إِلَى هٰذَا لم يتحقق من وجّه المسيح هذا الكلام إليه فإن كان قد وجّهه إلى التلاميذ فمعناه لا تضربوا بعد واصبروا ولا تقاوموا الشر. وهذا يوافق ما نقله متّى من نبإ ذلك وهو قوله «كُلَّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» (متّى ٢٦: ٥٢) وإن كان قد وجهه إلى العكسر فمعناه لا تعاقبوا التلاميذ على فعل واحد منهم واعفوا عنه أو اتركوا لي الحرية أن أحرك يديّ اللتين أنتم مسكتموهما لكي ألمس أذن المضروب وأشفيه.
    وَلَمَسَ أُذُنَهُ الخ لم يعتد المسيح أن يصنع معجزة إلا حيث الإيمان. ولكنه صنع هنا معجزة لإنسان هو عدوه فضلاً عن أنه لم يؤمن به قبل المعجزة ولم يشكره بعدها. وأظهر بذلك حلمه. وقوته الإلهية وغايته مما صنع حماية تلاميذه من انتقام العسكر منهم. ومن العجب أن تلك الآية لم تؤثر في الجند حتى يكفوا عن مسكهم إياه.
    ٥٢ «ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ وَٱلشُّيُوخِ ٱلْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ!».
    ع ٤، متّى ٢٦: ٥٥ ومرقس ١٤: ٤٨
    لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ لم يذكر غير لوقا أن بعض رؤساء الكهنة رافق العسكر ليحثّهم على عملهم وليتحقق إنجاز مقصدهم الشرير.
    وَقُوَّادِ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ هم اللاويون والكهنة الذين كانوا يحرسون الهيكل ليلاً (ص ٢٢: ٤٠ وأعمال ٤: ١ و٥: ٢٤).
    ٥٣ «إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ ٱلأَيَادِيَ. وَلٰكِنَّ هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ».
    يوحنا ١٢: ٢٧
    انظر الشرح متّى ٢٦: ٥٥
    سَاعَتُكُمْ أي الوقت الذي عينه الله لكم لكي تتموا فيه مقاصدكم بقتلي (أعمال ٢: ٢٣) ولكن قبل إتيانه لم يكن لكم أدنى استطاعة على إضراري مهما بذلتم الجهد (يوحنا ٧: ٣٠ و٨: ٢٠). ووقتكم هذا قصير «كساعة» ويكون بعد ذلك وقتي وهو وقت النور والمجد والنصر والملك والنقمة وهو يدوم إلى الابد.
    وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ لعلّ في ذلك إشارة إلى أن الليل يوافق أعمالهم الشريرة ويمكنهم من إجرائها خفية عن الناس. وأول هذه الآية يدل على هذا المعنى ولكن لا بد من أن المسيح قصد أيضاً أنهم شركاء الشيطان رئيس مملكة الظلمة في مضادتهم له وأنهم متممون آراءه الخبيثة. ولا بد من أن الشيطان اجتهد حينئذ بكل قوته في تجربة المسيح وتهييج رؤساء اليهود عليه كما يتضح من قول المسيح قبل ذلك بقليل «لأَنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَأْتِي» (يوحنا ١٤: ٣٠).

    إنكار بطرس ليسوع ع ٥٤ إلى ٦٢


    ٥٤ - ٦٢ «٥٤ فَأَخَذُوهُ وَسَاقُوهُ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ. ٥٥ وَلَمَّا أَضْرَمُوا نَاراً فِي وَسَطِ ٱلدَّارِ وَجَلَسُوا مَعاً، جَلَسَ بُطْرُسُ بَيْنَهُمْ. ٥٦ فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِساً عِنْدَ ٱلنَّارِ فَتَفَرَّسَتْ فِيهِ وَقَالَتْ: وَهٰذَا كَانَ مَعَهُ. ٥٧ فَأَنْكَرَهُ قَائِلاً: لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا ٱمْرَأَةُ! ٥٨ وَبَعْدَ قَلِيلٍ رَآهُ آخَرُ وَقَالَ: وَأَنْتَ مِنْهُمْ! فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَنَا! ٥٩ وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَكَّدَ آخَرُ قَائِلاً: بِٱلْحَقِّ إِنَّ هٰذَا أَيْضاً كَانَ مَعَهُ، لأَنَّهُ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً. ٦٠ فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ وَفِي ٱلْحَالِ بَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ صَاحَ ٱلدِّيكُ. ٦١ فَٱلْتَفَتَ ٱلرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ ٱلرَّبِّ، كَيْفَ قَالَ لَـهُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ٦٢ فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً».
    متّى ٢٦: ٥٧ و٥٨ ويوحنا ١٨: ١٥، متّى ٢٦: ٦٩ ومرقس ١٤: ٦٦ و٦٨ ويوحنا ١٨: ١٧ و١٨، متّى ٢٦: ٧١ ومرقس ١٤: ٦٩ ويوحنا ١٨: ٢٥، متّى ٣٦: ٧٣ ومرقس ١٤: ٧٠ ويوحنا ١٨: ٢٦، متّى ٢٦: ٧٥ ومرقس ١٤: ٧٢، متّى ٢٦: ٣٤ و٧٥ ويوحنا ١٣: ٣٨
    انظر الشرح متّى ٢٦: ٦٩ - ٧٥ ومرقس ١٤: ٦٦ - ٧٢.
    لم يذكر لوقا امتحان المسيح الاول أمام حنان (يوحنا ١٨: ١٩ - ٢٤) ولا امتحانه الثاني أمام مجلس اليهود في بيت قيافا والحكم عليه ليلاً (متّى ٢٦: ٥٧ - ٦٦ ومرقس ١٤: ٥٣ - ٦٤). لكنه ذكر إنكار بطرس له الذي حدث في أثناء محاكمة الليل وذكر استهزاء العسكر به حينئذ.

    الاستهزاء بيسوع ليلاً ع ٦٣ إلى ٦٥


    ٦٣ - ٦٥ «٦٣ وَٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ، وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ: تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ ٱلَّذِي ضَرَبَكَ؟ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ».
    متّى ٢٦: ٦٧ و٦٨ ومرقس ١٤: ٦٥
    انظر الشرح متّى ٢٦: ٦٧ و٦٨ ومرقس ١٤: ٦٥

    وقوف يسوع أمام المجلس صباحاً ع ٦٦ إلى ٧١


    ٦٦ «وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ ٱجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ ٱلشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ».
    متّى ٢٧: ١ وأعمال ٤: ٢٦
    وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ اقتصر متّى ومرقس على الإشارة إلى ذلك إجمالاً ولم يصرّحا بالحوادث (متّى ٢٧: ١ ومرقس ١٥: ١). ولم تجز الشريعة الرومانية ولا عوائد اليهود كما هي في التلمود أن يوقف إنسان أمام المجلس ليلاً ويُمتحن ثم يُحكم عليه بالموت. لذلك اضطر مجلس السبعين أن يجتمع ثانية بعد طلوع النهار لكي يجدّدوا حكمهم على يسوع ويجعلوه شرعياً. ولعلهم التزموا أن يفعلوا ذلك لأن عدد الأعضاء الذين اجتمعوا في الليل كان قليلاً.
    وكانت غاية هذا الاجتماع أيضاً التآمر في أن يشكوا يسوع إلى الحاكم الروماني لكي يفوزوا بقتله.
    مَشْيَخَةُ ٱلشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ هم مجلس السبعين اليهودي والأرجح أن مكان اجتماعهم وقتئذ كان أحد مخادع الهيكل (متّى ٢٧: ٣ و٥).
    ٦٧ «قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا. فَقَالَ لَـهُمْ: إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ».
    متّى ٢٦: ٦٣ ومرقس ١٤: ٦١
    إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ يظهر لنا أن هذا السؤال لا يحسن أن يكون افتتاح المحاكمة لأنه بغتي ولا نرى هنا داعياً له. ولكن رأينا في بشارة متّى أن هذا السؤال مبني على ما جرى من محاكمة الليل. وغاية المجلس منه حمل المسيح على تكرير ما قاله فيها مما حسبوه تجديفاً (متّى ٢٦: ٦٣ و٦٤).
    إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ قال ذلك لأنه علم أنهم لم يسألوه عن ذلك إلا ليجدوا علّة شكاية عليه ولأنهم لم يصدقوا ما قاله قبلاً.
    ٦٨ «وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي».
    وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي الخ أي لا تتركون لي فرصة لكي أبرهن لكم أني أنا المسيح أو أني بريء مما اتهمتموني به كعادة المحاجّة بالسؤال والجواب. لأنكم حكمتم عليّ بالموت قبل الفحص فإذاً إقامة البراهين عبث وتكون المحاجة الآن بلا فائدة كما كانت في مسئلة يوحنا المعمدان (ص ٢٠: ٤).
    ٦٩ «مُنْذُ ٱلآنَ يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ».
    متّى ٢٦: ٦٤ ومرقس ١٤: ٦٢ وعبرانيين ١: ٣ و٨: ١
    مُنْذُ ٱلآنَ الخ هذا تكرير ما شهد المسيح به في المحاكمة السابقة (متّى ٢٦: ٦٤) فانظر الشرح هنالك. وصرّح بذلك التكرير أن ما قاله دانيال النبي في شأن المسيح صادق عليه (دانيال ٧: ٩ - ١٤). وقرر ذلك اختياراً لكي تتم مقاصد الله في موته فداء عن العالم.
    ٧٠ «فَقَالَ ٱلْجَمِيعُ: أَفَأَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟ فَقَالَ لَـهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُو».
    متّى ٢٦: ٦٤ ومرقس ١٤: ٦٢
    أَفَأَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ذلك مضمون كلامه في الآية التاسعة والستين ومع ذلك أراد المجلس أن يصرّح المسيح به لفظاً ومعنىً فكأنهم قالوا أفمعنى ابن الإنسان ابن الله أيضاً وقد مرّ الكلام على بيان معنى ابن الله في الشرح (مرقس ١٤: ٦١).
    أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ معنى هذا في اصطلاح اللغة يومئذ نعم أي ان ما قلتموه حق.
    ٧١ «فَقَالُوا: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ».
    متّى ٢٦: ٦٥ ومرقس ١٤: ٦٣
    كانت نتيجة المحاكمة الثانية كنتيجة المحاكمة الأولى (متّى ٢٦: ٦٦). واتفقوا بعد ذلك على كيفية الشكاية عليه إلى بيلاطس (متّى ٢٧: ١) ثم أتى يهوذا الاسخريوطي نادماً على خيانته ورد الفضة إلى رؤساء الكهنة (متّى ٢٧: ١ - ١٠).


    الأصحاح الثالث والعشرون


    وقوف يسوع أمام بيلاطس وهيرودس ع ١ إلى ٢٥


    ١، ٢ «١ فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ، ٢ وَٱبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هٰذَا يُفْسِدُ ٱلأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ».
    متّى ٢٧: ٢ ومرقس ١٥: ١ ويوحنا ١٨: ٢٨، أعمال ١٧: ٧، متّى ١٧: ٢٧ و٢٢: ٢١ ومرقس ١٢: ١٧، يوحنا ١٩: ١٢
    لم ينجح اليهود في مقصودهم الأول أن يجعلوا بيلاطس يحكم على المسيح بالموت دون فحص كما طلبوا إكراماً لهم (يوحنا ١٨: ٣٠) فحاولوا أن يقنعوا الوالي بأن يسوع مهيّج للشعب على الحكومة الرومانية.
    وَجَدْنَا هٰذَا الخ ادّعوا غيرة عظيمة لحكومة قيصر وأنهم وجدوا يسوع بعد الفحص مذنباً في تهييج الشعب عليه وهذه الدعوى لم تُذكر في مجلس اليهود ليلاً ولا صباحاً إنما حكموا عليه لعلّة أخرى (متّى ٢٧: ٦٥) وكانت شكواهم كاذبة. نعم قال يسوع أنه مسيح ملك ولكنه لم يهيج الأمة على قيصر ولم يدع أنه ملك اليهودية بدلاً من قيصر لأن ملكوته روحي في قلب الناس لا ينافي ملك قيصر (ص ٢٠: ٢٢ ويوحنا ١٨: ٣٧).
    ٣، ٤ «٣ فَسَأَلَـهُ بِيلاَطُسُ: أَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَأَجَابَهُ: أَنْتَ تَقُولُ. ٤ فَقَالَ بِيلاَطُسُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْجُمُوعِ: إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ».
    متّى ٢٧: ١١ و١تيموثاوس ٦: ١٣، ١بطرس ٢: ٢٢
    ذكر يوحنا ما جرى بين يسوع وبيلاطس في هذه المحادثة بأكثر إيضاح (يوحنا ١٨: ٣٣ - ٣٨).
    وجرى ذلك في دار الولاية بانفراد عن الناس وأبان المسيح فيه أن ملكوته ليس من هذا العالم وأقنع بيلاطس بأن دعواه لا تنافي سلطان قيصر.
    ٥ «فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ يُهَيِّجُ ٱلشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى هُنَا».
    ظنوا أنهم يهيجون غضب بيلاطس على يسوع بتكرير شكواهم بحدة ذاكرين أنه شرع في المناداة بدعواه في الجليل وهي البلاد التي اشتهرت بكثرة الفتن وادّعوا أنه ذهب إلى هنالك بغية تهييج الفتنة.
    يُعَلِّمُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ صدقوا بقولهم انه يعلّم لكنهم كذبوا بنسبتهم إليه أنه يهيّج الفتنة.
    وكان رياء اليهود فاحشاً في تلك الشكوى لأنهم اعتقدوا أن المسيح الحقيقي يكسر شوكة الرومانيين ويعتق اليهود من نيرهم ومعظم علّة رفضهم أن يسوع هو المسيح أنه لم يوافقهم على ذلك الأمر. وليس بيلاطس جاهلاً إلى ذلك الحد حتى أنه يصدقهم لأنه كان متيقناً أن اليهود يبغضون حكومة قيصر وأنه لو كانت شكواهم على يسوع صحيحة ما رفعوها إليه. وعرف أنهم ما اشتكوا عليه إلا حسداً (متّى ٢٧: ١٨).
    ٦، ٧ «٦ فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ ذِكْرَ ٱلْجَلِيلِ، سَأَلَ: هَلِ ٱلرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟ ٧ وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَـهُ إِلَى هِيرُودُسَ، إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ ٱلأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ».
    ص ٣: ١
    هَلِ ٱلرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ الظاهر أن الناس أجابوه «نعم» على زعمهم أن وطنه ناصرة الجليل.
    أَرْسَلَـهُ إِلَى هِيرُودُسَ هذا ظلم من بيلاطس وهو أنه أرسل إنساناً تحقق أنه بريء إلى غيره ليحاكمه. ولم يذكر هذا الأمر غير لوقا. وهيرودس هذا هو أنتيباس والي الجليل وبيريّة قاتل يوحنا المعمدان انظر الشرح متّى ١٤: ١. ومن أسباب إرسال بيلاطس يسوع إليه إظهار الإكرام له والاعتبار للشريعة الرومانية التي تجيز إرسال متهم بذنب ليحاكم في وطنه أو في المكان الذي أدعى أنه أذنب فيه وطرح المسؤولية عن نفسه في المحاكمة المتعبة لأنه لم يرد أن يحكم على إنسان بريء ولم يرد أن يغيظ اليهود بإطلاقه. والأرجح أن السبب الأخير هو الأولى.
    كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ ٱلأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ لأنه أتى إلى هناك ليعيّد عيد الفصح.
    ٨ «وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدّاً، لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ يَرَاهُ يَصْنَعُ آيَةً».
    ص ٩: ٩، متّى ١٤: ١ ومرقس ٦: ١٤
    فَرِحَ جِدّاً سمع بمعجزاب يسوع واشتهى أن يراه متأملاً أن يشاهد معجزة منه.
    ٩ «وَسَأَلَـهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ».
    وَسَأَلَـهُ من جهة دعوى أنه المسيح آملاً أن يعمل المعجزة إثباتاً لدعواه.
    فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ لتبرير ذاته وإثبات دعواه. وعلّة سكوت المسيح علمه أن لا فائدة من الكلام وأنهم لا بدّ من أن يقتلوه وأن هيرودس سمع الحق من يوحنا المعمدان ولم يستفد منه. وعرف يسوع أن هيرودس لم يقصد معرفة الحق وأنه لم يستفد منه. ما سأل هيرودس عن براءة المسيح أو ذنبه وهو الوحيد من قضاته الذي لم يجبه المسيح بكلمة.
    ١٠ «وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِٱشْتِدَاد».
    رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ أرسلهم بيلاطس ليشهدوا على يسوع (ع ١٥) والأرجح أنهم فرحوا بالإذن في أنهم يشتكون عليه وأملوا أن يحكم عليه هيرودس بالموت بإذن بيلاطس بدعوى أنه جليلي (ع ٦). وأظهر هيرودس بعدم حكمه عليه أنه لم يصدق شكوى اليهود عليه. ولو صدق أن يسوع هيّج الفتنة مبتدئاً من الجليل لحكم عليه.
    ١١ «فَٱحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَٱسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ».
    إشعياء ٥٣: ٣
    أذن هيرودس لعسكره أن يهزأوا بالمسيح إرضاء لرؤساء الكهنة وشفاء لغيظه لأن يسوع لم يجبه على شيء من سؤالاته ولم يصنع معجزة أمامه. وهذا الاستهزاء هو الاستهزاء الثاني بالمسيح وكان الأول في دار رئيس الكهنة من خدامه ومن جنود الهيكل والثالث من العساكر الرومانيين في دار الولاية.
    أَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً استهزاء بدعوى أنه ملك لأن ذلك كان مما اعتاد الملوك أن يلبسوه.
    وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ لكي يحكم عليه هو فأكرم بيلاطس بذلك أي بعدم ادعائه السلطة على يسوع لكونه جليلياً. والأرجح أنه اقتنع كما اقتنع بيلاطس بتبرئة يسوع ولم يرد أن يغيظ رؤساء اليهود بإطلاقه ولا أن يجعل على نفسه دماً زكياً إذا قضى على يسوع بالموت.
    ١٢ «فَصَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا».
    أعمال ٤: ٢٧
    علّة هذه العداوة غير معروفة ولعلها تتعلق بحقوق المحاكمة. وإرسال يسوع من الواحد إلى الأخر بيان أن أحدهما لم يرد أن يعتدي على الثاني في حقوقه السياسية.
    ١٣، ١٤ «١٣ فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْعُظَمَاءَ وَٱلشَّعْبَ، ١٤ وَقَالَ لَـهُمْ: قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ ٱلشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ».
    متّى ٢٧: ٢٣ ومرقس ١٥: ١٤ ويوحنا ١٨: ٣٨ و١٩: ٤، ع ١ و٢ ع ٤
    دعا بيلاطس رؤساء اليهود إلى الاجتماع القانوني وصرّح لهم أن المسيح بريء من تهييج الفتنة فكرر شرعاً ما قاله قبلاً على غير هذا السبيل (ع ٤).
    ١٥ «وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ صُنِعَ مِنْه».
    وَلاَ هِيرُودُسُ إرجاع هيرودس يسوع إلى بيلاطس بدون حكم عليه برهان أنه حسبه بريئاً ولو حسبه مذنباً لم يرجعه فإذاً المسيح تبرر بحكم اثنين ملكٍ ووالٍ.
    ١٦ «فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ».
    متّى ٢٧: ٢٦ ويوحنا ١٩: ١
    فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ هذا ظلم محض لأنه اعترف أنه لم يجد فيه علّة ولا هيرودس فكان عليه لأنه قاض أن يطلقه بلا أذىً. ومعنى قوله «أودبه» أجلده. وكان الجلد عند الرومانيين مؤلماً جداً. وقصد ذلك إرضاء لرؤساء اليهود لكي يسلّموا بإطلاقه لكن نتج عن ذلك أنهم زادوا جراءة عليه بطلب قتل يسوع.
    ١٧ «وَكَانَ مُضْطَرّاً أَنْ يُطْلِقَ لَـهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِداً».
    متّى ٢٧: ١٥ ومرقس ١٥: ٦ ويوحنا ١٨: ٢٩
    ارجع إلى الشرح متّى ٢٧: ١٥ ومرقس ١٥: ٦.
    كان الولاة الرومانيون في أول أمرهم يأتون ذلك تبرعاً ثم صار على توالي السنين ضربة لازبٍ.
    ١٨، ١٩ «١٨ فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: خُذْ هٰذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ! وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ».
    أعمال ٣: ١٤
    علّة صراخ الشعب تهييج رؤساء الكهنة (متّى ٢٧: ١٦ - ١٩ ومرقس ١٥: ٧ - ١٠).
    ٢٠ «فَنَادَاهُمْ أَيْضاً بِيلاَطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوع».
    خاطب بيلاطس هنا الشعب كأنه حوّل الأمر من الرؤساء إليه آملاً أن يحكم بإطلاق يسوع وكان موضوع خطابه أن يسوع بريء بدليل قوله «وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ» (متّى ٢٧: ٢٢ و٢٣).
    ٢١ «فَصَرَخُوا: ٱصْلِبْهُ! ٱصْلِبْهُ!».
    اتفق الشعب مع الرؤساء في ما رغبوا فيه وعلّة طلبهم الصلب دون غيره من صنوف القتل لأنه كان عقاب الخارجين على قيصر.
    ٢٢ «فَقَالَ لَـهُمْ ثَالِثَةً: فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هٰذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ، فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ».
    هذا تصريح ثالث من بيلاطس ببراءة المسيح.
    ٢٣ «فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ».
    غلب صراخهم الحق والعدل وضمير القاضي (يوحنا ١٩: ٨) وحكمه المقرر ثلاثاً وتضرّع امرأته (متّى ٢٧: ١٩). وشهد بيلاطس بذلك على نفسه بأنه جبان وظالم وقاس.
    ٢٤ «فَحَكَمَ بِيلاَطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُم».
    متّى ٢٧: ٢٦ ومرقس ١٥: ١٥ ويوحنا ١٩: ١٦
    أخذ بيلاطس قبل هذا الحكم ماء وغسل يديه ليُري أنه بريء من قتل يسوع وأخذ اليهود الإثم على أنفسهم (متّى ٢٧: ٢٤ و٢٥).
    ٢٥ «فَأَطْلَقَ لَـهُمُ ٱلَّذِي طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ، ٱلَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ».
    كُرر وصف بارباس المذكور في الآية التاسعة عشرة بياناً لغرابة ما كان وهو أنهم فضلوا إنساناً شريراً كهذا على يسوع البارّ فأطلقوا الأول وسلّموا الثاني إلى الموت.

    الصلب ع ٢٦ إلى ٤٩


    ٢٦ «وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ ٱلْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ ٱلصَّلِيبَ لِيَحْمِلَـهُ خَلْفَ يَسُوعَ».
    متّى ٢٧: ٣٢ ومرقس ١٥: ٢١ ويوحنا ١٩: ١٧
    هزئ العسكر الروماني قبل ذلك بيسوع وجلدوه (متّى ٢٧: ٢٦ - ٣٠ ومرقس ١٥: ١٥ - ١٩) ثم أوقفه بيلاطس أمام الشعب والدم يسيل من جراحه بغية أن يحرك شفقة قلوبهم ليطلبوا إطلاقه ولكن ذلك كله ذهب عبثاً (يوحنا ١٩: ١٤ و١٥).
    الفرق بين نبإ الصلب في مرقس وما ذكره متّى زهيد جداً وأما نبأ لوقا فيزيد عليهما أربعة أمور:

    • الأول: خبر الباكيات عليه من نساء أورشليم (ع ٢٧ - ٣١).
    • الثاني: طلب يسوع المغفرة لقاتليه (ع ٣٤).
    • الثالث: توبة أحد اللصين (ع ٣٩ - ٤٣).
    • والرابع: استيداع يسوع روحه في يدي أبيه (ع ٤٦).


    سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً راجع الشرح متّى ٢٧: ٣٢.
    ٢٧ «وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، وَٱلنِّسَاءِ ٱللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ».
    جُمْهُورٌ كَثِيرٌ هذا الجمهور ليس من تلاميذ المسيح بل هو إخلاط من الناس كالذين يخرجون من مدينة كبيرة لمشاهدة منظر غير عادي.
    وَٱلنِّسَاءِ هؤلاء النساء لسن من المؤمنات اللواتي وقفن عند الصليب (ع ٤٩) لأن المذكورات هن من «بنات أورشليم» (ع ٢٨) وأولئك «من الجليل». ولا عجب أن وجدت النساء بين «جمهور كثير» في مثل تلك الحال. وكان منهن من هنّ رقيقات الأفئدة يبكين على يسوع ولعلهن لم يعلمن أن مجلس السبعين حكم على يسوع بالموت وشفقن عليه لأنه يهودي مثلهن ولأنهن ظنن علّة قتله قساوة الرومانيين. ويحتمل أنه كان بين أولئك النساء من شاهدن بعض معجزات المسيح في أورشليم وسمعن تعليمه وآمنّ به.
    ٢٨ «فَٱلْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ».
    يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ تدل القرينة على أن المسيح أشار بنسبة البنات إلى أورشليم إلى أنهن عرضة للأتعاب والأوجاع والنوازل التي حكم الله بوقوعها على تلك المدينة.
    لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ لم يفتكر المسيح في أوجاعه بل في الأحزان الآتية على الأمة اليهودية. إنه سكت في وقت الاستهزاء عليه والبصق في وجهه وجلده ولكن أنطقته دموع النساء ومعرفته ضيقاتهم المستقبلة.
    بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ لا ريب في أن بعضهنّ عشن أربعين سنة بعد ذلك واختبرن أهوال حصار المدينة ولكن أكثر تلك النوازل وقع على أولادهن (متّى ٢٧: ٢٥) وليست تلك النوازل وحدها موضوعاً يستحق البكاء بل كل الضيقات التي وقعت على نسلهن من ذلك الوقت إلى اليوم وهو متفرق بين شعوب الأرض. وأعظم من ذلك أن الله رفض اليهود من أن يكونوا شعبه المختار لخطاياهم وعدم إيمانهم وهم بلا ملك ولا كهنوت ولا مدينة ولا وطن وأعظم الكل الدينونة الهائلة في اليوم الأخير.
    ٢٩ «لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَٱلْبُطُونِ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ وَٱلثُّدِيِّ ٱلَّتِي لَمْ تُرْضِعْ».
    متّى ٢٤: ١٩ وص ٢١: ٣٣
    هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي أشار بذلك إلى حوادث خراب مدينة أورشليم المستقبلة.
    يَقُولُونَ أي يقول سكان أورشليم في أثناء الخراب.
    طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ الخ كان اليهود يفرحون بالنسل أكثر من نساء الشعوب واعتبروا الأولاد علامة رضى الله عنهم فيكون من أوضح الأدلة على شدة مصابهم تطويبهم للعواقر فما كان محسوباً عندهم لعنة صار في ضيق تلك الأيام بركة. وخاطب المسيح النساء بأنباء المستقبل بما يؤثر في أفكارهن ويجعلهن شاعرات بشدة الضيق يومئذ.
    ٣٠ «حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا».
    إشعياء ٢: ١٩ وهوشع ١٠: ٨ ورؤيا ٦: ١٦ و٩: ٦
    الكلام هنا مبني على ما جاء في نبوة هوشع ١٠: ١٨ ويدل على وقوع نوازل عظيمة وخوف الناس وطلبهم الملاجئ. وأُشير بمثل هذا الكلام إلى أهوال يوم الدين (رؤيا ٦: ١٦ و١٧).
    واختبأ اليهود في زمن خراب أورشليم في أسراب المدينة وأجواف الأرض التي تحت المدينة. ولعلّ في الكلام هنا إشارة إلى طلب الموت بغتة بسقوط الأسوار عليهم لأنهم فضلوا موت الفجاءة على الموت جوعاً وخوفاً ومرضاً.
    ٣١ «لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِٱلْعُودِ ٱلرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هٰذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِٱلْيَابِسِ؟».
    أمثال ١١: ٣١ وإرميا ٢٥: ٢٩ وحزقيال ٢٠: ٤٧ و٢١: ٣ و٤ و١بطرس ٤: ١٧
    هذا كلام جارٍ مجرى المثل ومن المعلوم أن النار تحرق الحطب الأخضر بصعوبة ولكنها تحرق اليابس بسهولة إحراقاً شديداً. والمراد بالنار هنا قساوة الرومانيين وحماستهم في القتل والهدم والمراد بالعود الرطب المسيح البريء من الفتنة الذي أمر تلاميذه بالطاعة للحكام وحكم الوالي ببراءته. والمراد باليابس اليهود الذين عصوا بعد ذلك الرومانيين وأعلنوا الحرب عليهم وقتلوا عساكرهم. فإذا كان الرومانيون يقتلونني خلافاً للعدل وأنا بارّ فكم بالحري اليهود المذنبين. فإذا قتلوني وأنا لم أغظهم فكم بالأجدر يقتلوهم وهم يغيظونهم بطرق مختلفة.
    وفسر بعضهم هذه الآية بأنه إذا ارتكب اليهود الفظائع مثل قتلهم إياي وخوفهم من الرومانيين يكفهم عن ارتكاب كل الشر فعن أي شر يعدلون بعد أن يلقوا عنهم نير الرومانيين ويسلموا أنفسهم إلى الشهوات.
    وفسر بعضهم النار بعموم الضيقات والعود الرطب بالأتقياء والعود اليابس بالأشرار وأن مقصوده أنه إذا أذن الله في وقوع مثل تلك المصائب عليّ أنا التقي فكم بالحري يأذن في وقوعها عليكم أيها اليهود الأشرار حين يفتقدكم الله للدينونة.
    ٣٢، ٣٣ «٣٢ وَجَاءُوا أَيْضاً بِٱثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ. ٣٣ وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَٱلآخَرَ عَنْ يَسَارِه».
    إشعياء ٥٣: ١٢ ومتّى ٢٧: ٣٨، متّى ٢٧: ٣٣ ومرقس ١٥: ٢٢ ويوحنا ١٩: ١٧ و١٨
    انظر الشرح متّى ٢٧: ٣٣ - ٣٨ ومرقس ١٥: ٢٠ - ٢٦.
    ٣٤ «فَقَالَ يَسُوعُ: يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَـهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ. وَإِذِ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ ٱقْتَرَعُوا عَلَيْهَا».
    متّى ٥: ٤٤ وأعمال ٧: ٦٠ و١كورنثوس ٤: ١٢، أعمال ٣: ١٧ و١كورنثوس ٢: ٨، متّى ٢٧: ٣٥ ومرقس ١٥: ٢٤ ويوحنا ١٩: ٢٣
    لم يذكر صلاة المسيح إلا لوقا. وتلفظ المسيح بها حين سمّره العسكر على الصليب. فلما قدّم نفسه ذبيحة عن الخطاة شفع فيهم أيضاً كالحبر الأعظم إتماماً لقول النبي «وشفع في المذنبين» (إشعياء ٥٣: ١٢).
    ولم يتبين من الكلام أي الناس قصد المسيح في تلك الصلاة والأرجح أنه قصد العكسر الرومانيين الذين أطاعوا أمر قائدهم وهم لا يعرفون شيئاً. ولعلها أيضاً شملت جمهور الذين اشتركوا في قتله برضاهم عمل الرؤساء وبصراخهم قائلين اصلبه طوعاً لأمر الرؤساء لأنهم قيدوا لهم كالعميان ولم يعرفوا أن يسوع ابن الله ولذلك لم يشعروا بفظاعة الإثم الذي ارتكبوه. وهذا وفق قول بطرس «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ، كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً» (أعمال ٣: ١٧). وقول بولس «لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (١كورثنوس ٢: ٨) وقلما تشمل رؤساء الكهنة الذين سمعوا تصريحه بأنه المسيح ابن الله ورفضوه عمداً. ولا بد من أنها تشمل كل الخطاة في كل عصر فإن خطاياهم علّة تعليق المسيح على الصليب.
    ولنا في تلك الصلاة أربع فوائد:

    • الأولى: أنه يجب على المسيحيين أن يغفروا لأعدائهم ويصلّوا لأجلهم كما فعل سيدهم الإلهي.
    • والثانية: أنه يمكن أعظم الخطاة أن ينالوا مغفرة خطاياهم.
    • والثالثة: أن الذي يخطئ بجهالة إثمه أخفّ من إثم الذي يرتكب الخطأ عمداً.
    • والرابعة: أن هذه الصلاة تؤكد لنا أن المسيح يشفع الآن في السماء في جميع الخطاة الذين يطلبون شفاعته ودليل ذلك أنه لم ينفك يشفع وهو مسمّر على الصليب يقاسي آلام الموت فكم بالحري أنه لا ينفك كذلك وهو جالس عن يمين الله.


    ٣٥ - ٣٨ «٣٥ وَكَانَ ٱلشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَٱلرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ ٱلْمَسِيحَ مُخْتَارَ ٱللّٰهِ. ٣٦ وَٱلْجُنْدُ أَيْضاً ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَـهُ خَلاًّ، ٣٧ قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ ٱلْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ. ٣٨ وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: هٰذَا هُوَ مَلِكُ ٱلْيَهُود».
    مزمور ٢٢: ١٧ وزكريا ١٢: ١٠، متّى ٢٧: ٣٩ ومرقس ١٥: ٢٩، متّى ٢٧: ٣٧ ومرقس ١٥: ٢٦ ويوحنا ١٩: ١٩
    ارجع إلى الشرح متّى ٢٧: ٤١ - ٤٤.
    قَائِلِينَ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الخ (ع ٣٧) تعلّم العسكر ذلك من هزء الرؤساء به ومن العنوان الذي فوق الصليب وهو أن المسيح ملك اليهود.
    وَكَانَ عُنْوَانٌ (ع ٣٨) انظر الشرح متّى ٢٧: ٣٨.
    ٣٩ «وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ٱلْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!».
    متّى ٢٧: ٤٤ ومرقس ١٥: ٣٢
    وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ذكر متّى ومرقس ان اللصين جدفا على يسوع (متّى ٢٧: ٤٤ ومرقس ١٥: ٣٢) وأما لوقا فذكر هنا تجديف واحد منهما فقط ولا يلزم من ذلك التناقض بين الخبرين لاحتمال أنه بعد أن جدف الاثنان تغير فكر أحدهما فعدل عن التجديف إلى الصلاة.
    يُجَدِّفُ عَلَيْهِ كان المستهزئون بيسوع كثيرين وهم العسكر ورؤساء اليهود والكتبة والشيوخ والعامة واقتدى بهم اللصان (متّى ٢٧: ٤١ - ٤٤) وتجديف اللص هو قوله في آخر هذه الآية.
    إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ أي إن صدقت بدعواك. وهو كفر واستهزاء في صورة الشرط وإلا لم يكن تجديفاً..
    فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا أي نجنا من الموت. فلم يطلب سوى النجاة من الموت الجسدي ولو طلب إلى المسيح نجاة نفسه من الهلاك الأبدي لاستجابه حالاً. فنرى من هذه أن ليس للآلام الجسدية في نفسها أن تلين القلب وتقود الإنسان إلى التوبة والإيمان وليس لمشاهدة المسيح على الصليب قوة تخليص ما لم تقترن نعمة الله والإيمان القلبي بذلك.
    ٤٠ «فَٱنْتَهَرَهُ ٱلآخَرُ قَائِلاً: أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ ٱللّٰهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هٰذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟».
    فَٱنْتَهَرَهُ ٱلآخَرُ نعلم من أنباء متّى أنه ابتدأ في التجديف كرفيقه (متّى ٢٧: ٤٤) ثم عدل عن ذلك إلى الصلاة والأرجح أن علّة ذلك التغير هي تأثير صبر المسيح وحلمه فيه والصلاة التي نطق بها المسيح من أجل قاتليه وقوة الروح القدس التي قادته إلى التوبة والإيمان.
    أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ ٱللّٰهَ أي أيحسن أن تكون كسائر المشاهدين في عدم خوف الله وأنت ستقف سريعاً قدام ذلك الديّان الذي يعاقب كل الذين هزئوا بهذا الإنسان البار.
    تَحْتَ هٰذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ أي حكم الموت فإذاً لا حق لك بالنظر إلى ما أنت فيه أن تدينه أو تلومه. وكان يجب أن يحملك شعورك بمثل آلامه على الشفقة عليه ومخاطبته بكلام العزاء والتشجيع.
    ٤١ «أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأَنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّه».
    أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ هما لصان علما أنهما تعدّيا الشريعة المدنية وأنهما استحقا بموجب تلك الشريعة العقاب الذي وقع عليهما وشهد ضمير الواحد منهما بأنهما مذنبان أمام الله ومستحقان عقابه أيضاً.
    وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ الخ إن قيل كيف علم ذلك قلنا لعله سمع نبأ يسوع قبلاً ولعله وقف في المحكمة للمحاكمة حين كان يسوع هنالك وسمع بيلاطس يقول «إن هذا الإنسان لم يفعل شيئاً ليس في محله» أو لعله استنتج ذلك من كلام الواقفين حول الصليب ومنظر المسيح حقق له أنّه بريءٌ.
    ومن الغريب أنه لما قام أكثر الناس على المسيح أقام الله شاهداً ببراءته من أحد المصلوبين معه. وأقام الله أيضاً أربعة شهود غيره لم نكن نتوقع شهادتهم له في ذلك النهار عينه. الأول يهوذا الذي أسلمه والثاني امرأة بيلاطس والثالث بيلاطس الذي حكم عليه والرابع قائد العكسر الذي سمره على الصليب (ع ٤٧).
    ٤٢ «ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ».
    ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ لم يسأل النجاة من الموت على الصليب لكنه ألقى نفسه على محبة المسيح ورحمته لكي يعتني به كما يحسن في عيينه.
    مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ آمن بأن يسوع ملك وأنه سوف يأتي في مجد وسلطان وغير ذلك مما يليق بالملك. والأرجح أنه لم يدرك أن ملكوت المسيح روحي فظن كسائر اليهود أن ملكه أرضي زمني لكن مع ذلك كان إيمانه أقوى من إيمان الرسل أنفسهم.
    وأظهر هذا اللص صحة توبته بما وجهه من كلمات التوبيخ إلى رفيقه وأبان صحة إيمانه بصلاته إلى المسيح في هذا العدد.
    ٤٣ «فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ».
    هذا الثاني من الأقوال السبعة التي نطق بها المسيح على الصليب (انظر الشرح متّى ٢٧: ٥٠)، أخذ يسوع ساعة صلبه أن يمارس كل الوظائف الثلاث المتعلقة بكونه وسيطاً أي وظيفة نبي (ع ٢٠) ووظيفة الكاهن (ع ٣٤) ووظيفة الملك (ع ٤٢ و٤٣).
    ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ هذا الكلام دليل على السلطة وغايته التأكيد.
    إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي (ع ٤١) يتضمن هذا الوعد أن المسيح واللص يموتان وأن كليهما يكونان معاً في الفردوس. ويتحقق اللص أنه ينال الراحة والفرح سريعاً.
    طلب اللص أن يسوع يذكره في وقت ما في المستقبل ولكن يسوع أكد له أن يذكره في ذلك اليوم عينه بأخذه إياه معه إلى الفردوس. ولا ريب أن وعد المسيح ونعمته المقترنة به عزى نفس اللص وقواها وهو متألم على الصليب إلى أن مات.
    فِي ٱلْفِرْدَوْسِ هذا الاسم فارسي الأصل ومعناه جنة وأشار به اليهود إلى جنة عدن ثم أخذوا يشيرون به إلى مسكن المتوفين من الأتقياء قبل قيامة الأجساد والدينونة.
    خاطب يسوع اللص بكلام اعتاده فيمكنه أن يدركه فأشار به إلى محل الراحة والأمانة والسعادة. فمعناه «حضن إبراهيم» (متّى ١٦: ٢٢). وذُكر أيضاً في إحدى رسائل بولس (٢كورنثوس ١٢: ٤ وفي سفر الرؤيا ٢: ٧) وفي هذه القصة عدة فوائد نذكر أربعاً منها:

    • الأولى: إن وسائط الخلاص تكون لبعض الناس «رائحة موت لموت» وللبعض «رائحة حياة لحياة» (٢كورنثوس ٢: ١٦). فكلا اللصين شاهدا المسيح مصلوباً ولكن واحداً منهما قسّى قلبه وظل يجدف والآخر ليّن قلبه وصلّى.
    • والثانية: أنه إن تاب أحد عن خطيته وآمن بالمسيح ولو في آخر ساعة من حياته نال الخلاص وإن لم تكن فرصة لأن يعتمد أو يتناول عشاء الرب أو أن يعمل أعمالاً صالحة. ولكن ليس في حادثة اللص ما يؤمن أحداً أن ينال الخلاص إن أبطأ عن التوبة إلى ساعة الموت لأنّه ليس من دليل على أن ذلك اللص عرف المسيح قبلاً وأنه حصل على فرصة للتوبة والإيمان قبل الساعة التي آمن فيها وتاب. وخلاص ذلك اللص عند الموت يعلّمنا أنه لا يحسن أن ييأس أحد من نوال الخلاص قرب موته. وعدم وجود غير هذه الحادثة يعلّمنا أن لا نطمع ونبطئ عن الاستعداد للموت.
    • والثالثة: أن نفوس المؤمنين تبقى حيّة بعد انفصالها عن الجسد وليست في سبات لا تشعر معه في شيء إلى يوم القيامة لكنها تدخل على أثر الموت محل المجد والسعادة. وإن غاية تلك السعادة وجودها مع المسيح (فيلبي ١: ٢٣ ويوحنا ١٧: ٢٤).
    • والرابعة: إن هذه القصة تحقق لنا عظمة قوة المسيح واستعداده لتخليص الخطاة لأنه في ساعة آلامه وموته كانت أذنه مفتوحة لسمع صلاة الإيمان ويده قوية على خطف الأسير من يد الشيطان ووفدائه وتقديسه وإقامته إلى فردوس الله.


    فإذا كان قد أظهر قوته وحنوه في ساعة اتضاعه فكم بالحري يظهر مثل ذلك في حين ارتفاعه إذ «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متّى ٢٨: ١٦ ويوحنا ٦: ٣٧).
    ٤٤ - ٤٦ «٤٤ وَكَانَ نَحْوُ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ، فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. ٤٥ وَأَظْلَمَتِ ٱلشَّمْسُ، وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ. ٤٦ وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ».
    متّى ٢٧: ٤٥ ومرقس ١٥: ٣٣، متّى ٢٧: ٥١ و مرقس ١٥: ٣٨، مزمور ٣١: ٥ و١بطرس ٢: ٢٣ و٤: ١٩، متّى ٢٧: ٥٠ ومرقس ١٥: ٣٧ ويوحنا ١٩: ٣٠
    انظر الشرح متّى ٢٧: ٤٥ - ٥١ ومرقس ١٥: ٢٦ و٣٣ - ٣٨.
    ٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ ذكر لوقا هذا بقطع النظر عن ترتيب الحوادث لأن ذلك كان على أثر موته كما يظهر من نبأي متّى ومرقس.
    يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي (ع ٤٦) لم يذكر لوقا قول المسيح الثالث وهو على الصليب حين سلم أمه إلى يوحنا ليعتني بها ولا قوله الرابع «إيلي إيلي لما شبقتني؟» ولا قوله الخامس «أنا عطشان» ولا قوله السادس «قد أكمل» واقتصر على ذكر ثلاثة من أقوال المسيح على الصليب وهو الأول والثاني والسابع وهو المذكور هنا.
    ٤٧ «فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ مَا كَانَ، مَجَّدَ ٱللّٰهَ قَائِلاً: بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً!».
    متّى ٢٧: ٥٤ ومرقس ١٥: ٣٩
    راجع الشرح متّى ٢٧: ٥٢ - ٥٥.
    مَجَّدَ ٱللّٰهَ كان قائد المئة رومانياً ومع ذلك أثرّ فيه ما رآه وسمعه في مشهد صلب المسيح حتى سبّح الإله الحق وعبده. ولعلّ الذي أثرّ فيه حلم المسيح وصلاته من أجل قاتليه ومخاطبته اللص التائب واستيداعه نفسه في يدي أبيه والآيات في عالم الطبيعة من كسوف الشمس وغيره.
    كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً نقل متّى ومرقس أنه قال «حقاً كان هذا ابن الإنسان» وأن أربعة من العسكر وافقوه على ذلك (متّى ٢٧: ٥٤ ومرقس ١٥: ٣٩). والأرجح أنه قال القولين على أن القول الثاني يستلزم القول الأول لأن اليهود أسلموه إلى الموت كمذنب لأنه قال أنه ابن الله ولأنه دعا الله مرتين وهو على الصليب أباه فتحقق القائد أنه بار وأنه تكلم بالحق وكان ما ادعاه وأنكره اليهود حقاً وهو أنه ابن الله.
    ٤٨ «وَكُلُّ ٱلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهٰذَا ٱلْمَنْظَرِ، لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ، رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ».
    وَكُلُّ ٱلْجُمُوعِ صُلب يسوع في أسبوع عيد الفصح وكان عدد المجتمعين في أورشليم في مثل ذلك الوقت كثيراً فكان يبلغ أحياناً ألفي ألف أو ثلاثة آلاف ألف. وزاد عدد الذين احتشدوا لمشاهدة صلب يسوع باشتهار أنه نبي في كل تلك البلاد وبحدوث ظلمة غير عادية يوم ذلك الصلب بقيت ثلاث ساعات.
    لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ أي الزلزلة (متّى ٢٧: ٥٢) والظلمة (ع ٤٤) ولعلهم سمعوا نبإ انشقاق حجاب الهيكل (ع ٤٥).
    يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ بياناً لحزنهم وتأنيب ضمائرهم (أعمال ٢: ٣٧) وخوفهم من وقوع دينونة الله عليهم لاشتراكهم في قتل ذلك البار (٢٣). والمرجح أن الأعداء كفوا عن الهزء بيسوع منذ بداءة الظلمة.
    ٤٩ «وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذٰلِكَ».
    مزمور ٣٨: ١١ ومتّى ٢٧: ٥٥ ومرقس ١٥: ٤٠ ويوحنا ١٩: ٢٥
    جَمِيعُ مَعَارِفِهِ لا بد من أن عدد هؤلاء كان كثيراً وهم من الذين أتوا للعيد من الجليل وبيرية وقرى اليهودية حيث جال المسيح نحو ثلاث سنين ونصف سنة يبشر ويصنع معجزات.
    نِسَاءٌ (متّى ٢٧: ٥٥) ليست هؤلاء النساء «بنات أورشليم» المذكورات في الآية الثامنة والعشرين.
    وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ كذا فعل أكثرهم ولكن بعضهم اقتربوا إلى صليبه (يوحنا ١٩: ٢٥).
    يَنْظُرُونَ ذٰلِكَ أي الآيات المقترنة بموته. وبقوا هنالك بعد ما انفض الجمع وعادوا بخوف إلى المدينة ولا بد من أن أولئك المعارف كانوا في خيبة وحيرة ورغبوا في القيام بواجبات دفن المسيح مع الخوف من إعلان رغبتهم.

    دفن جسد المسيح ع ٥٠ إلى ٥٦


    ٥٠ - ٥٦ «٥٠ وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً ٥١ هٰذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِنَ ٱلرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. ٥٢ هٰذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ، ٥٣ وَأَنْزَلَـهُ، وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ. ٥٤ وَكَانَ يَوْمُ ٱلاسْتِعْدَادِ وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ. ٥٥ وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَنَظَرْنَ ٱلْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. ٥٦ فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱسْتَرَحْنَ حَسَبَ ٱلْوَصِيَّةِ».
    متّى ٢٧: ٥٧ ومرقس ١٥: ٤٢ ويوحنا ١٩: ٣٨، مرقس ١٥: ٤٣ وص ٢: ٢٥ و٢٨، متّى ٢٧: ٥٩ ومرقس ١٥: ٤٦، متّى ٢٧: ٦٢، ص ٨: ٢ مرقس ١٥: ٤٧، مرقس ١٦: ١، خروج ٢٠: ١٠
    أنظر الشرح متّى ٢٧: ٥٧ - ٦١ ومرقس ١٥: ٤٢ - ٥٧.
    مُشِيراً (ع ٥٠) أي عضواً من أعضاء مجلس السبعين.
    رَجُلاً صَالِحاً بَارّاً (ع ٥٠) زاد لوقا هذين الوصفين على أنباء متّى ومرقس فإنهما اقتصرا على ذكر وظيفته من سائر صفاته.
    لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ (ع ٥١) أي لرأي قيافا (يوحنا ١١: ٤٩) ولرأي المجلس أي قتله بعد إقامته لعازر من الموت (يوحنا ١١: ٥٣) ولاتفاقهم مع يهوذا الاسخريوطي على تسليمه ولحكمهم عليه في المجلس وشكواهم إياه إلى بيلاطس.
    يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ كزكريا وسمعان الشيخ. انظر الشرح (مرقس ١٥: ٤٣).
    وزاد يوحنا في نبإ يوسف على ما أنبأ به غيره من البشيرين أنه «كان تلميذاً ليسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود» وأن نيقوديموس كان شريكه في دفن جسد المسيح (يوحنا ١٩: ٣٨).
    يَوْمُ ٱلاسْتِعْدَادِ (ع ٥٤) أي يوم الجمعة. انظر الشرح (متّى ٢٧: ٥٢ ومرقس ١٥: ٤٢).
    وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ أي قرب غروب يوم الجمعة والسبت يبتدئ من الغروب (لاويين ٢٣: ٣٢).
    والمدة بين موت المسيح والغروب نحو ٣ ساعات. وفي تلك المدة ذهب رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس وسألوه فرقة من العسكر ليحرسوا القبر فأعطاهم وخُتم القبر (متّى ٢٧: ٦٢ - ٦٦).
    وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ (ع ٥٥) ذكر متّى ومرقس أسماء بعض هؤلاء النساء (متّى ٢٧: ٥١ ومرقس ١٥: ٤٧). وأظهرت هؤلاء النساء شجاعتهن ومحبتهن ليسوع بما فعلن.
    وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً (ع ٥٦) على قدر ما استطعن قبل غروب يوم الجمعة. واشترين ما نقصت الحنوط من اللوازم يوم السبت بعد الغروب أي بداءة يوم الأحد (مرقس ١٦: ١) وظهر مما فعلنه أنهن لم يأملن قط قيامة المسيح في اليوم الثالث بعد موته.
    حَسَبَ ٱلْوَصِيَّةِ اي الوصية الرابعة من وصايا الله العشر وهي «اُذْكُرْ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ» الخ (خروج ٢٠: ٨).


    الأصحاح الرابع والعشرون


    إتيان النساء إلى القبر وإتيان بطرس كذلك ع ١ إلى ١٢


    ١ «ثُمَّ فِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ، أَوَّلَ ٱلْفَجْرِ، أَتَيْنَ إِلَى ٱلْقَبْرِ حَامِلاَتٍ ٱلْحَنُوطَ ٱلَّذِي أَعْدَدْنَهُ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ».
    متّى ٢٨: ١ ومرقس ١٦: ١ وص ٢٣: ٥٦ ويوحنا ٢٠: ١
    ذكر لوقا في هذا الأصحاح بالاختصار إتيان النساء إلى القبر (ع ١ - ١١). وإتيان بطرس كذلك (ع ١٢) وظهور المسيح للتلميذين ذاهبين إلى عمواس (ع ١٣ - ٢٢). وظهوره لتلاميذه الأحد عشر يوم قيامته (ع ٣٣ - ٤٣). ووعده لهم بالروح القدس (ع ٣٦ - ٤٩). وصعوده إلى السماء (ع ٥٠).
    أَتَيْنَ أي النساء المذكورات في ص ٢٣: ٥٥ و٥٦ ومعهن نساء أُخر أيضاً (ع ١٠) والأرجح أنهن أتين من المدينة فرقتين واجتمعن عند القبر.
    ٢ «فَوَجَدْنَ ٱلْحَجَرَ مُدَحْرَجاً عَنِ ٱلْقَبْر».
    متّى ٢٨: ٢ ومرقس ١٦: ٤
    انظر الشرح مرقس ١٦: ٣ و٤.
    رجعت مريم المجدلية إلى المدينة حالاً لما شاهدت القبر مفتوحاً (يوحنا ٢٠: ١ و٢).
    ٣ «فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
    مرقس ١٦: ٥ وع ٢٣
    فَدَخَلْنَ مرقس ١٦: ٥.
    ٤ «وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذٰلِكَ، إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ».
    يوحنا ٢٠: ١٢ وأعمال ١: ١٠
    مُحْتَارَاتٌ لأنهن رأين الحجر قد دُحرج وجسد المسيح ليس هنالك. ولا ريب في أن ما قالته مريم المجدلية عن أفكارها موافقاً لأفكار الباقيات (يوحنا ٢٠: ٢ - ١٣).
    رَجُلاَنِ هما ملاكان في هيئتي رجلين سماهما مرقس ولوقا رجلين باعتبار الهيئة وسماهما متّى ويوحنا الاسم الحقيقي. ولم يذكر متّى ومرقس سوى ملاك واحد وهذا لا ينافي أنه كان هنالك ملاكان أو أكثر. ولم يتحقق أن ظهور الملاك في كل من بشارتي متّى ومرقس هو عين الظهور الذي ذكره لوقا. والذي ذكره متّى كان لاثنتين من النساء فقط وما ذكره لوقا كان لجماعة من النساء. وما ذكره متّى من كلام الملاك يختلف عما ذكره لوقا.
    ٥ «وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى ٱلأَرْضِ، قَالاَ لَـهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ ٱلْحَيَّ بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ؟».
    مُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى ٱلأَرْضِ ذلك لحزنهن وخيبة آمالهن وخوفهنّ من الملاكين.
    لِمَاذَا تَطْلُبْنَ ٱلْحَيَّ بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ أي لماذا تطلبن المسيح في القبر. وفي هذا بشارة للنساء بقيامة المسيح وتعجب وتوبيخ لهم على عدم ذكرهنّ نبوءة يسوع بقيامته وعدم إيمانهن بكلامه وطلبهن الحي في مدفن الأموات.
    ويصح أن يوبخ ذلك التوبيخ عينه كل الذين يندبون موتاهم المؤمنين كأن أرواحهم مع أجسادهم في القبر وهي تحيا عند الله.
    ٦ «لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا لٰكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي ٱلْجَلِيلِ».
    لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا السؤال السابق يتضمن معنى هذا القول فهو تأكيد له.
    اُذْكُرْنَ ما حدث ليسوع من النوازل في تلك الأيام كان خلاف كل ما انتظرن في شأنه حتى أنساهن كل ما قاله سابقاً في أمر قيامته.
    كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي ٱلْجَلِيلِ إن الجليل كان وطن أكثرهن أو كلهن فسمعن أقوال المسيح هنالك (ص ٢٣: ٥٥ ومتّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٣).
    ٧ «قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ».
    متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٣ ومرقس ٨: ٣١ و٩: ٣١ وص ٩: ٢٢
    قَائِلاً ص ٩: ٢٢ و١٨: ٣٢. يظهر من قول المسيح هنا أن ما قاله للاثني عشر قاله أيضاً لسائر التلاميذ وذلك وفق قول مرقس في شأن موته وقيامته «قَالَ ٱلْقَوْلَ عَلاَنِيَةً» (مرقس ٨: ٣١ و٣٢).
    ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ قال الملاك هذا على سبيل الحكاية أي نقله عن فم المسيح نفسه.
    ٨ «فَتَذَكَّرْنَ كَلاَمَهُ».
    يوحنا ٢: ٢٢
    علّة عدم تذكرهنّ ذلك قبلاً أنهن لم يفهمنَ معنى ما قال يوم قاله (ص ١٨: ٣٤ ومرقس ٩: ١٠) ولذلك لم يؤثر فيهن ولم ينتظرن إتمامه. ولكن بعد ما قام يسوع من الموت وضح كل ما قاله. وكذا كل نبوات الكتاب المقدس أنها تكون مبهمة قبل إتمامها وتتضح بعده.
    ٩، ١٠ «٩ وَرَجَعْنَ مِنَ ٱلْقَبْرِ، وَأَخْبَرْنَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ ٱلْبَاقِينَ بِهٰذَا كُلِّهِ. ١٠ وَكَانَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَٱلْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ، ٱللَّوَاتِي قُلْنَ هٰذَا لِلرُّسُلِ».
    متّى ٢٨: ٨ ومرقس ١٦: ١٠، ص ٨: ٣
    جمع لوقا في كلام واحد ما أعلن لمريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ٢ ومتّى ٢٨: ٥ - ١٠) وما قيل لسائر النساء في هذا الحديث. وسمى ثلاثاً منهنّ فقط وهن المشهورات بينهن وعددهن كاف لإثبات الشهادة حسب شريعة موسى (تثنية ١٥: ١٩).
    وَجَمِيعَ ٱلْبَاقِينَ يحتمل أن هؤلاء هم المئة والعشرون الذين ذكرهم لوقا في سفر الأعمال ١: ١٥.
    ١١ «َفَتَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَـهُمْ كَٱلْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنّ».
    مرقس ١٦: ١١ وع ٢٥
    لم يحسب أحد أنهن قصدن الكذب والخداع إنما حسبوا أخبارهن حديث خرافة لا يصدقه عاقل. ورأوا أن علّة تصديقهن ما أنبأن به فرط رغبتهن في صحته بدليل أنهم شكوا أيضاً في شهادة حواسهم (ص ٢٤: ٣٧).
    ١٢ «فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَٱنْحَنَى وَنَظَرَ ٱلأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا، فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ».
    يوحنا ٢٠: ٣ و٦
    قَامَ بُطْرُسُ ذهب بطرس إلى القبر بسبب أنباء مريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ٣) ورافقه يوحنا.
    وَنَظَرَ ٱلأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا ذكر لوقا هذا ما فيه من البرهان على أن جسد المسيح لم يُسرق من القبر.

    ظهورالمسيح للتلميذان وهما ذاهبان إلى عمواس ع ١٣ إلى ٣٥


    ١٣ «وَإِذَا ٱثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً، ٱسْمُهَا «عِمْوَاسُ».
    مرقس ١٦: ١٢
    أشار مرقس إلى هذه الحادثة بالاختصار (مرقس ١٦: ١٢). ولم يذكرها متّى ويوحنا. واستنتج بعضهم من تفصيل لوقا لهذه الحادثة أنه كان أحد الاثنين أو أنه نقل الخبر عنهما.
    ٱثْنَانِ مِنْهُمْ أي من المذكورين في ع ٩ واسم أحدهما كليوباس (ع ١٨) وهما ليسا من الاحد عشر (ع ٣٣).
    فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي مساء يوم الأحد (ع ٢٩).
    سِتِّينَ غَلْوَةً نحو سبعة أميال أو مسافة نحو ساعتين.
    عِمْوَاسُ لم يتحقق موقع هذه القرية والأرجح أنها هي ما تعرف الآن بالقبيبة أو هي قولونية أو قرية العنب وهي غربي أورشليم أو شمالها الغربي. والمرجح أن عمواس كانت موطن ذينك الاثنين رجعا إليه بعد حضورهما عيد الفصح في أورشليم.
    ١٤ «وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هٰذِهِ ٱلْحَوَادِثِ».
    كَانَا يَتَكَلَّمَانِ موضوع كلاههما من ع ١٩ - ٢٤.
    ١٥ «وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ، ٱقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا».
    متّى ١٨: ٢٠ وع ٣٦
    وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ في أنه كيف يمكن أن يكون يسوع هو المسيح وقد مات وهل يمكن أن يوافق موته النبؤات الموضحة أن المسيح يكون ملكاً منتصراً ومخلصاً لشعبه.
    ٱقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ تظاهر بأنه سائر على طريقهما ورافقهما.
    ١٦ «وَلٰكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِه».
    يوحنا ٢٠: ١٤ و٢١: ٤
    يظهر علّة ذلك قول مرقس «وَبَعْدَ ذٰلِكَ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لاثْنَيْنِ مِنْهُمْ» (مرقس ١٦: ١٢) ولمثل هذا السبب لم تعرفه مريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ١٤) ونستنتج من ذلك أن منظر المسيح تغيّر قليلاً عما كان قبل صلبه فكان ذلك مانعاً لمن لم ينتظروا وجوده من معرفتهم إياه. والأرجح أن هنالك علّة أخرى وهي أن المسيح بقوته الإلهية منعهم من معرفته في أول الأمر ليكون له أحسن الفرص لتفسير النبوات المختصة به. ولو عرفاه في الحال لملأ قلبيهما الخوف والفرح والشك ومنعهما ذلك عن إدراك البراهين التي أقامها لهما. ومما يثبت أن المسيح منعهما من معرفته ما جاء في الآية الحادية والثلاثين وهو قوله «فانفتحت أعينهما وعرفاه».
    ١٧ «فَقَالَ لَـهُمَا: مَا هٰذَا ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟».
    عرف المسيح موضوع كلامهما بلا سؤال ولكن سألهما تذرّعاً إلى محادثتهما.
    عَابِسَيْنِ ظهر ذلك من إمارات وجهيهما وكلامهما.
    ١٨ «فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، ٱلَّذِي ٱسْمُهُ كِلْيُوبَاسُ: هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ؟».
    يوحنا ١٩: ٢٥
    كِلْيُوبَاسُ مختصر كليوباترس وليس هو كلوبا المذكور في يوحنا ١٩: ٢٥ واسمه لم يُذكر في سوى هذا من الإنجيل.
    هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ ظناه أجنبياً حضر العيد في أورشليم وأخذ في الرجوع إلى وطنه وعجبا من أنه لم يعرف موضوع كلامهما في يسوع المصلوب مع أن حديث كل أهل أورشليم كان حينئذ في ذلك الشأن.
    وَحْدَكَ أي منفرداً عن الناس فإنك لو عاشرت أحداً لعرفت الأمر الذي نخوض فيه.
    ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا أي صلب يسوع والظلمة والزلزلة.
    ١٩ «فَقَالَ لَـهُمَا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالاَ: ٱلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي ٱلْفِعْلِ وَٱلْقَوْلِ أَمَامَ ٱللّٰهِ وَجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ».
    متّى ٢١: ١١ وص ٧: ١٦ ويوحنا ٣: ٢ و٤: ١٩ و٦: ١٤ وأعمال ٢: ٢٢ أعمال ٧: ٢٢
    وَمَا هِيَ اتخذ المسيح هذا السؤال ذريعة إلى أن ينبئاه بعلّة مخاوفهما وآمالهما وشكوكهما وبمعرفتهما وجهلهما ومحبتهما له وحزنهما لموته. وأظهر بذلك يسوع حكمة المعلم النبيه إذ جعل سؤاله تمهيداً لتعليمهما.
    يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ هو أشهر أسمائه.
    ٱلَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً تكلما فيه كأنه لم يكن وقد انتهى كل أمره وأنهما كانا يعتبرانه معلماً دينياً مرسلاً من الله ولكن موته أزال من أنفسهما ذلك الاعتبار. وووصفا يسوع بأنه نبي وذلك دون وصف المسيح.
    مُقْتَدِراً فِي ٱلْفِعْلِ وَٱلْقَوْلِ لم ينسيا ولم ينكرا أعماله الغريبة وأقواله الحكيمة التي شاهداها وسمعاها.
    أَمَامَ ٱللّٰه (أعمال ٢: ٢٢) لأن الله شهد له أنه نبي بما صنع على يديه من الآيات.
    وَجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ أي سكان كل بلاد اليهود الذين نظروه وسمعوه (يوحنا ١٢: ١٧).
    وشهادة هذين الرجلين ليسوع بما ذكراه تبين نقص معرفتهما ذلك الشخص العجيب الذي هو إله وإنسان فادي الخطاة والوسيط بين الله والناس.
    ٢٠ «كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ ٱلْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ».
    ص ٢٣: ١ وأعمال ١٣: ٢٧ و٢٨
    كَيْفَ أَسْلَمَهُ هذا متعلق بالسؤال الذي في الآية الثامنة عشرة وهو قول الرجلين «هل أنت متغرب... ولم تعلم... كيف الخ» أي كيف أمكنك أن لا تعلم ما فعل رؤساء الكهنة والحكام به.
    وَصَلَبُوهُ أعمال ٢: ٢٥ و٤: ١٠ و٥: ٣٠. نسبا صلب المسيح إلى الرؤساء لأنهم شكوه إلى بيلاطس وأجبروه على الحكم بصلبه.
    ٢١ «وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلٰكِنْ، مَعَ هٰذَا كُلِّهِ، ٱلْيَوْمَ لَـهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذٰلِك».
    ص ١: ٦٨ و٢: ٣٨ وأعمال ١: ٦
    أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ معظم ما قصدوا بالفداء النجاة من نير الرومانيين مع شيء من رجاء النجاة من عبودية الخطيئة. وكلامهما هنا يدل على أنهما لم يوافقا الرؤساء والحكام في بغضهم ليسوع بل أبانا أنهما علقا رجاءهما عليه لكن ذلك الرجاء انقطع عند موته لأنهما لم يستطيعا أن يتصورا إنساناً صُلب ومات يكون المسيح ملك المجد.
    ٱلْيَوْمَ لَـهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ ذكرا هذا علّة جديدة لحزنهما وبياناً أنه لم يحدث شيء في كل تلك المدة يحيي رجاءهما.
    ٢٢ - ٢٤ «٢٢ بَلْ بَعْضُ ٱلنِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْقَبْرِ، ٢٣ وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. ٢٤ وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هٰكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً ٱلنِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ».
    متّى ٢٨: ٨ ومرقس ١٦: ١٠ وع ٩ و١٠ ويوحنا ٢٠: ١٨ ع ١٢
    ذكرا تلك الحوادث كأنها لم تحدث إلا لتزيدهم حيرة فلم تكن بشارة ولا أساساً لشيء من الرجاء.
    قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا (ع ٢٣) أشارا بذلك إلى بطرس ويوحنا (ع ١٢ ويوحنا ٢٠: ٢ - ١٠).
    أَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ أي أنهم لم يجدوا إلا قبراً فارغاً فحسبا ذلك كافياً لقطع كل رجاء.
    ويظهر من هذا أنهما تركا أورشليم قبل أن رجعت النساء وأنبأت بأنهنّ شاهدن يسوع.
    ٢٥ «فَقَالَ لَـهُمَا: أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ».
    أخذ يسوع يوبّخهما في بدء الكلام لعدم استعمالهما عقليهما في تفسير نبوات الكتاب في شأن المسيح وتبعا رأي العامة بلا انتباه ووبخهما أيضاً على عدم إيمانهما بأنه لا بد من أن يتم كل ما تفوه به الأنبياء في شأن المسيح لأنهما صدقا بعضها وهو ما يشير إلى نصرته ومجده ولم يلتفتا إلى ما قيل في آلامه وهوانه استعداداً لذلك المجد.
    ٢٦ «أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهٰذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟».
    ع ٤٦ وأعمال ١٧: ٣ و١بطرس ١: ١١
    أَمَا كَانَ يَنْبَغِي بمقتضى نبوات الكتاب وتحصيل خلاص الناس.
    أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ كان يجب عليهما أن يتيقنا من شهادة الأنبياء أن المسيح يدخل المجد بعد احتماله آلام الموت وفقاً لقول بطرس (١بطرس ١: ١١). وأن يتوقعا بموته الذي هو إتمام بعض تلك النبوات إتمام باقيها أي قيامته ومجده.
    بِهٰذَا أي بما جعلكما تشكان في أن يسوع هو المسيح كرفض اليهود إياه وتسليم يهوذا إياه والحكم عليه بالموت وصلبه.
    ٢٧ «ثُمَّ ٱبْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَـهُمَا ٱلأُمُورَ ٱلْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ ٱلْكُتُبِ».
    تكوين ٣: ١٥ و٢٢: ١٨ و٢٦: ٤ و٤٩: ١٠ وعدد ٢١: ٩ وتثنية ١٨: ١٥ ومزمور ١٦: ٩ و١٠ ومزمور ٢٢ و١٣٢: ١١ وإشعياء ٧: ١٤ و٩: ٦ و٤٠: ١٠ و١١ و٥٠: ٦ وإشعياء ٥٣ وإرميا ٢٣: ٥ و٢٣: ١٤ و١٥ وحزقيال ٣٤: ٢٣ و٣٧: ٢٥ ودانيال ٩: ٢٤ وميخا ٧: ٢٠ وملاخي ٣: ١ و٤: ٢
    ثُمَّ ٱبْتَدَأَ مِنْ مُوسَى أي بالنبوات التي في كتب موسى وأولها في تكوين ٣: ١٥ وفي ذلك إشارة إلى الرموز والذبائح التي عيّنها الله على يد موسى وكانت كلها تشير إلى المسيح. ويدخل في ذلك الحيّة النحاسية وعيد الفصح. وهذا وفق قول يسوع «فَتِّشُوا ٱلْكُتُبَ... وَهِيَ ٱلَّتِي تَشْهَدُ لِي» (يوحنا ٥: ٣٩).
    جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ أي أسفار الأنبياء من داود إلى ملاخي ولا سيما المزمور ١٦ والمزمور ٢٢ والأصحاح ٥٣ من نبوءة إشعياء.
    ٱلأُمُورَ ٱلْمُخْتَصَّةَ بِهِ أي بالمسيح نفسه. فإن قيل ليت لنا ما سمعه ذانك التلميذان من تفسير المسيح قلنا إنّا وجدناه في سفر أعمال الرسل والرسائل.
    ٢٨ «ثُمَّ ٱقْتَرَبُوا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ».
    تكوين ٤٢: ٧ ومرقس ٦: ٤٨
    تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ ليس في ذلك شيء مخالف للحق لأنه لولا لجاجتهما كان ظل سائراً ولو اكتفيا بما سمعا منه ما حصلا على معلنات أخرى أعظم من تلك.
    ٢٩ «فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: ٱمْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ ٱلْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ ٱلنَّهَارُ. فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا».
    تكوين ١٩: ٣
    فَأَلْزَمَاهُ أي لم يسلم بالبقاء معهما إلا بعد ان امتحن رغبتهما في كلامه.
    ٱمْكُثْ مَعَنَا قالا ذلك لأن قلبيهما مالا إليه ولذت لهما محادثته الروحية.
    قَدْ مَالَ ٱلنَّهَارُ قال ذلك علّة لدعوتهما إياه والمعنى أنه لم يبقَ من ذلك النهار وقت كاف لبلوغه إلى مبيت آخر.
    ويحسن أن يصلّي كل مسيحي ليسوع بقوله «امكث معي» في مساء كل يوم وفي مساء حياته وفي كل ساعة يعتريه فيها الحزن واليأس فيلتهب قلبه فيه ويكلمه المسيح بكلمات التعزية والرجاء.
    ٣٠ «فَلَمَّا ٱتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَـهُمَا».
    متّى ١٤: ١٩
    هذا العشاء عادي لا العشاء الرباني ففعل ما كان عادته أن يفعله قبل الأكل مع تلاميذه. وأخذ الخبز وكسره وطلب بركة الله عليه مما يتعلق برب البيت لا بالضيف إلا إذا طلب رب البيت ذلك منه إكراماً له وكذا كان أمر المسيح يومئذ مع التلميذين لأنه كان ضيفهما.
    ٣١ «فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ ٱخْتَفَى عَنْهُمَا».
    ص ٤: ٣٠ ويوحنا ٨: ٥٩
    فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا أي زال المانع لهما من معرفة يسوع (ع ١٦) وذلك كان إما بقوة المسيح رأساً وإما باستدلالهما بما شاهداه منه.
    وَعَرَفَاهُ لأن المسيح أراد أنهما يعرفانه ولعلهما عرفاه علاوة على ذلك من كسره للخبز ومباركته إياه بأسلوب عهداه من المسيح ولعلهما نظرا آثار المسامير في يديه عندما رفعهما للبركة.
    ثُمَّ ٱخْتَفَى عَنْهُمَا أي لم يروه بعد. ولا ريب في أنه أخذتهما الحيرة في أول إعلان نفسه لهما حتى لم يستطيعا أن يتكلما أو يعتمدا ما يفعلان ولما رجعا إلى أنفسهما وأرادا أن يسجدا له لم يجداه. ولا شك في أنه كان في طريق اختفائه شيء فوق الطبيعة ولو كان اختفاؤه عادياً لقال لوقا قام عن المائدة وانطلق.
    ٣٢ «فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي ٱلطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا ٱلْكُتُبَ؟».
    أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً هذا دليل على تأثير كلام المسيح فيهما لأنه أنشأ في قلبيهما الفرح والرجاء والشوق إلى سمع كلامه أيضاً كتأثير النار في الوقيد. وفي قولهما شيء من التوبيخ لهما وأنه ان يجب عليهما أن يعرفاه من جودة معرفته الكتب الإلهية وتأثير كلامه فيهما.
    يُوضِحُ لَنَا ٱلْكُتُبَ هذا وصف لتبيينه لهما أنه تمت رموز الكتاب ونبواته بعمله وموته وقيامته.
    ٣٣ «فَقَامَا فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَا ٱلأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ، هُمْ وَٱلَّذِينَ مَعَهُم».
    فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ حملهما فرحهما بمشاهدة الرب ورغبتهما في أن يشاركهما سائر التلاميذ في ذلك الفرح على الرجوع حالاً إلى أورشليم غير مكترثين بتعبهما وخطر سفرهما في الليل.
    ٱلأَحَدَ عَشَرَ أُطلق هذا الاسم على جماعة الرسل بعد هلاك يهوذا الاسخريوطي بقطع النظر عن العدد لأننا نعرف من أنباء يوحنا أن توما لم يكن بينهم في تلك الليلة (يوحنا ٢٠: ٢٤) وعلى هذا الأسلوب عبّر بولس عن الأحد عشر بالاثني عشر (١كورنثوس ١٥: ٥).
    مُجْتَمِعِينَ زاد يوحنا على هذا أن أبواب المكان الذي اجتمعوا فيه كانت مغلقة للخوف من اليهود (يوحنا ٢٠: ١٩).
    وَٱلَّذِينَ مَعَهُمْ (أعمال ١: ١٤).
    ٣٤ «وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ ٱلرَّبَّ قَامَ بِٱلْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!».
    ١كورنثوس ١٥: ٥
    إِنَّ ٱلرَّبَّ قَامَ بِٱلْحَقِيقَةِ الكلمة الجوهرية في هذه العبارة قوله «بالحقيقة» ويظهر منها أن أمر قيامة المسيح صار مرجواً بعد أن كان موضوعاً للجدال والريب وذلك لشهادة بعض التلاميذ. وأتى الاثنان بالبشرى للباقين لكنهما بُشرا قبل أن يُبشِّرا. ومما ذُكر هنا منقول عن بعض التلاميذ لا عن الكل (مرقس ١٦: ١٤ و١٥).
    وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ أي بطرس وهذا وفق قول بولس (١كورنثوس ١٥: ٥) ولم نعرف تفصيل ذلك الظهور والمرجح أنه ظهر لبطرس قبل ظهوره للتلميذين اللذين كانا منطلقين إلى عمواس.
    ٣٥ «وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي ٱلطَّرِيقِ، وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ ٱلْخُبْز».
    بعد أن سمعا كلام غيرهما بشرا بما عندهما.
    عِنْدَ كَسْرِ ٱلْخُبْزِ في ذلك إشارة إلى عشائهما في عمواس حين كسر المسيح الخبز وبارك لا إلى العشاء الرباني.

    ظهور المسيح لتلاميذه في أورشليم ع ٣٦ إلى ٤٣


    ٣٦ «وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهٰذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ، وَقَالَ لَـهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ!».
    مرقس ١٦: ١٤ ويوحنا ٢٠: ١٩ و١كورنثوس ١٥: ٥
    ما ذُكر هنا هو ظهور المسيح الخامس في يوم قيامته فهو ظهر (١) لمريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ١١ - ١٨) و(٢) لبقية النساء وهن راجعات من القبر (متّى ٢٨: ٩ و١٠) و(٣) لبطرس (ع ٣٤ و١كورنثوس ١٥: ٥) و(٤) للتلميذين (ع ١٣) و(٥) للتلاميذ وهو المذكور هنا وحُسب عندهم الأهم لأن البشيرين كلهم ذكروه. وقد مرّ الكلام على سائر مرات ظهوره في الشرح (متّى ٢٨: ١٧).
    وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ هذا يدل على أنه ظهر لهم بغتة. وقال يوحنا أن الأبواب كانت مغلقة (يوحنا ٢٠: ١٩) واستنتج البعض مما قيل هنا أن الابواب لم تفتح له وأنه دخل وهي لم تُفتح لكن لا يلزم ذلك من الكلام فلعله قرع الباب وفتحوا له ودخل أو لعله فتحها بقوته الإلهية. وكان مراده أن يقنعهم أنه قام بالحقيقة وأن جسده لحم ودم لا خيال فكيف يمكن أن يقنعهم بذلك وهم يرون الأبواب المغلقة لم تمنعه من الدخول. فمثل ذلك لا يصدق على جسده كما عرفوا ولا على جسد بشري مما اختبروه.
    وعلينا أن نلاحظ هنا أن الكتاب المقدس لم يوضح لنا أحوال جسد المسيح في المدة التي بين قيامته وصعوده ولم يخبرنا هل احتاج إلى الطعام والنوم. نعم نعتقد أنه بقي إنساناً وهو يمشي على ماء بحر طبرية وحين صام أربعين يوماً في البرية وكذلك نعتقد أنه بقي إنساناً بعد قيامته وإن لم نعلم أين بات وأين صرف معظم الوقت وهل قيت بشيء أو لا. ومعلوم أنه لم يحصل حينئذ على المجد الذي حصل عليه بعد صعوده.
    سَلاَمٌ هذا لفظ التحية التي اعتاد التلاميذ أن يسمعوها منه فعرفوه بها وتحققوا منها محبته لهم ومغفرته لهم على تركهم إياه وأنه لهم بواسطته سلام مع الله.
    ٣٧ «فَجَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحا».
    مرقس ٦: ٤٩
    فَجَزِعُوا ولا عجب من أن خافوا من نظرهم إياه واقفاً حياً بينهم بعد علمهم أنه مات ودُفن لان ذلك مخالف لكل ما اختبروه في الماضي وما توقعوه في المستقبل.
    رُوحاً أي خيالاً كما يزعم الناس من أن الموتى يظهرون أحياناً وظنوا نفس المسيح أخذت شبه الجسد وظهرت لهم. ومثل ذلك كان زعمهم يوم رأوه ماشياً على ماء البحر (متّى ١٤: ٢٦) وزعمهم في أمر بطرس ليلة عاد من السجن (أعمال ١٢: ١٥) وحسب الناس ظهور الأخيلة دليل على حدوث البلايا والنوازل.
    ٣٨ «فَقَالَ لَـهُمْ: مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟».
    غاية المسيح في هذين السؤالين تسكين خوف التلاميذ وبيان أن لا علّة لاضطراب قلوبهم وأن ذلك الاضطراب لم يمنعهم عن تحقيق صحة البراهين على قيامته.
    ٣٩، ٤٠ «٣٩ اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَٱنْظُرُوا، فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَـهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي. ٤٠ وَحِينَ قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ».
    يوحنا ٢٠: ٢٠ و٢٧
    اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ كانت مكشوفة فأمنكهم أن يروها ويلمسوها وكان فيها آثار المسامير التي سُمر بها على الصليب فاستطاعوا أن يتيقنوا أنه يسوع وأنّ جسده هو الجسد الذي صُلب به واستنتجوا يقيناً أنه قام وأنهم شاهدوه حقاً لا روحه.
    فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَـهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ ذكرهم بصفات الروح المعلومة المخالفة لصفات المادة ليبرهن لهم أن أفكارهم فيه أوهام وأن جسده جسد حقيقي. وأشار يوحنا إلى ما كان من يسوع هنا بقوله «ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ، ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ» (١يوحنا ١: ١).
    ولا ريب في أن جسد المسيح تغيّر عند صعوده عما كان عليه قبله وفقاً لقول الرسول في ١كورنثوس ١٥: ٥.
    ٤١ «وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ ٱلْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ، قَالَ لَـهُمْ: أَعِنْدَكُمْ هٰهُنَا طَعَامٌ؟».
    تكوين ٤٥: ٢٦، يوحنا ٢١: ٥
    غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ ٱلْفَرَحِ عرفوا من اختبارهم أن الناس يميلون حالاً إلى تصديق ما يوافق إرادتهم دون براهين كافية فخافوا أن إرادتهم كون يسوع حياً تكون علّة تصديقهم قيامته كما أن سرور يعقوب بنبإ أن يوسف حي جعله يشك في صدق ذلك (تكوين ٤٥: ٢٦).
    مُتَعَجِّبُونَ لأنهم انتقلوا حالاً من أعماق اليأس والحزن إلى أعالي الرجاء والمسرة لأنهم رأوا أنه قد حدث أعظم المعجزات وهو أن الميت قام وظهر والمصلوب والمدفون وقف أمامهم يخاطبهم وهم لا ينتظرون شيئاً من ذلك.
    ٤٢، ٤٣ «٤٢ فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ، وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. ٤٣ فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ».
    أعمال ١٠: ٤١
    طلب المسيح طعاماً وأكل أمامهم ليرفع كل شك من قلوبهم وليقيم لهم أوضح برهان على أنه قام وأن جسده جسد حقيقي. وأسند بطرس كلامه لكرنيليوس على قيامة المسيح إلى فعل يسوع هنا (أعمال ١٠: ٤١).
    سَمَكٍ مَشْوِيٍّ... وَعَسَلٍ أي طعامهم الذي كان عندهم في البيت.

    خطاب المسيح بعد قيامته وصعوده ع ٤٤ إلى ٤٩


    ٤٤ «وَقَالَ لَـهُمْ: هٰذَا هُوَ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ، أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِير».
    متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٠: ١٨ ومرقس ٨: ٣١ وص ٩: ٢٢ و١٨: ٣١
    وَقَالَ لَـهُمْ المرجح أن ما ذُكر هنا هو من خطاب المسيح مساء يوم قيامته ولكن ذهب البعض ان لوقا جمع في كلامه هنا مضمون ما علّمه المسيح تلاميذه في الأربعين يوماً التي انقضت عليه قبل صعوده. وبنى رأيه على ما قال في أعمال الرسل ١: ٨ قبل صعوده بقليل وهو وفق ما قيل هنا في ع ٤٨ و٤٩ ولكن لا مانع من أن المسيح قاله مرتين مساء يوم قيامته وقرب صعوده لأهميته.
    وَقَالَ لَـهُمْ هٰذَا هُوَ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ أي ما قاله قبل موته في شأن موته وقيامته وأشار بذلك إلى أقواله المكتوبة في (متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٠: ١٨ ومرقس ٨: ٣١ ولوقا ٩: ٢٢ و١٨: ٣١ و٢٤: ٦ و٧).
    نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِيرِ جمع اليهود كل أسفار العهد القديم في هذه الأقسام الثلاثة حاسبين الأسفار التاريخية مع «الأنبياء» ولا ريب في أن المسيح أوضح لتلاميذه علاوة على تفسيره النبوات معنى الطقوس والرموز وأنه علّم العشرة حينئذٍ ما علمه الاثنين وهما منطلقان إلى عمواس.
    ٤٥ «حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا ٱلْكُتُب».
    أعمال ١٦: ١٤
    فَتَحَ ذِهْنَهُمْ أي أنار عقولهم بفعل روحه لكي يدركوا المعنى الروحي لِما كُتب في العهد القديم في شأنه وشأن ملكوته وكان التلاميذ قبل أن فتح ذهنهم يعتقدون أن تلك الإشارت والنبوات كانت متعلقة بملك أرضي وملكوت منظور زمني عالمي. وما نالوه من التنوير يومئذ كان عربون التنوير الأعظم والأكمل الذي نالوه في اليوم الخمسين حين حل عليهم الروح القدس (أعمال ٢: ٢ - ٤).
    ومما يثبت لنا جودة تعليم الكتاب المقدس ان المسيح لما أراد أن يبلغ تلاميذه أعظم تعاليم ملكوته قبل صعوده لم يأت بإعلان جديد مما عرفه من أسرار السماء بل اكتفى بفتح أذهانهم لإدراك الكتب المنزلة التي بين أيديهم.
    ٤٦ «وَقَالَ لَـهُمْ: هٰكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهٰكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ».
    مزمور ٢٢ وإشعياء ٥٠: ٦ و٥٣: ٢ الخ وع ٢٦
    هٰكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ أي أن الاتفاق تام بين حوادث حياة المسيح وموته والنبوات المكتوبة وذلك خلاف ما افتكروا قبلاً لأنهم ظنوا موت يسوع أبطل كل دعواه أنه المسيح الذي وعد الله به بألسنة الأنبياء.
    هٰكَذَا كَانَ يَنْبَغِي لتتم مقاصد الله والنبوات. وفي ذلك بيان لضرورية موت المسيح لإيفاء عدل الله وحقه ولتحصيل خلاص العالم وذلك وفق قول الرسول «لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية ٣: ٢٦).
    ٤٧ «وَأَنْ يُكْرَزَ بِٱسْمِهِ بِٱلتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيم».
    دانيال ٩: ٢٤ وأعمال ١٣: ٣٨ و٤٦ و١يوحنا ٢: ١٢، تكوين ١٢: ٣ ومزمور ٢٢: ٢٧ وإشعياء ٤٩: ٦ وإرميا ٣١: ٣٤ وميخا ٤: ٢ وملاخي ١: ١١
    بِٱلتَّوْبَةِ بعد ما ذكر المسيح ما فعله لأجل خلاص البشر ذكر ما على الإنسان أن يفعله لكي يفوز بفوائد موته وقيامته. والتوبة مما أوجبه الأنبياء ومن قول يسوع «ينبغي أن يتم» ويظهر أنها شرط ضروري للمغفرة من كرازة يوحنا المعمدان وكرازة المسيح ورسله.
    وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا تتقضي مغفرة الخطايا ثلاثة أشياء على ما قيل هنا.

    • الأول: موت المسيح ليجعل المغفرة ممكنة.
    • والثاني: المناداة بموت المسيح.
    • والثالث: توبة الذين يسمعون. فموت المسيح وحده عن خطايا الإنسان لا يغنيه عن وجوب التوبة والإيمان لمغفرة خطاياه ومناداته ببشرى الخلاص لغيره.


    بِٱسْمِهِ أي يجب على الدعاة أن يدعوا إلى التوبة والإيمان بسلطان المسيح وطوعاً لأمره (ص ٩: ٤٩ وأعمال ٤: ١٢).
    لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ ذكر متّى ومرقس أن المسيح أمر بالكرازة لجميع الأمم وزاد لوقا على ذلك أنها إتمام للنبوات.
    مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ قصد الله أن تعرض بشرى خلاص المسيح على اليهود (رومية ٩: ٤) ثم على سائر أهل الأرض (إشعياء ٢: ٣ ومرقس ١٦: ١٥ وأعمال ١: ٨ ورومية ١٥: ١٩) وأظهر يسوع عظمة حلمه وعفوه بطلبه ان يبشر بإنجيله في مدينة قاتليه. وكان من اللائق أن يُبتدأ التبشير في تلك المدينة لأنها مركز الديانة اليهودية التي هي مقدمة الديانة المسيحية وكان هنالك الهيكل والرموز التي كانت تشير إليه.
    ٤٨ «وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذٰلِكَ».
    يوحنا ١٥: ٢٧ وأعمال ١: ٨ و٢٢ و٢: ٣٢ و٣: ١٥
    اختار المسيح الرسل لكي يكونوا شهود عين للناس بموته وصحة قيامته وبصعوده بعده وبذلك تثبت دعواه وتعليمه وهذا علّة ظهور المسيح لهم وعدم ظهوره لبيلاطس ورؤساء الكهنة وغيرهم من اليهود. ويجب أن يكون المسيحيون كلهم شهوداً للمسيح بسيرتهم وتعليمهم.
    ٤٩ «وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ ٱلأَعَالِي».
    إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨ ويوحنا ١٤: ١٦ و٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧ وأعمال ١: ٤ و٢: ١ الخ
    هَا أَنَا أُرْسِلُ أعلن هنا يسوع مساواته للآب في إرسال الروح القدس.
    مَوْعِدَ أَبِي أي الروح القدس (أعمال ١: ٤ و٥) فإنه وعد به في (إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨) والمسيح أيضاً وعد بإرساله (يوحنا ١٤: ١٦ و٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧).
    أَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ ومعنى ذلك أن لا يخرجوا للمناداة بالإنجيل قبل أن يحل عليهم الروح القدس بنوع معجز. وكان ذلك في اليوم الخمسين (أعمال ١: ٨). وليس في ذلك مانع للرسل من الرجوع إلى أوطانهم في الجليل أو ليلاقوا المسيح هناك كما عين لهم.
    قُوَّةً اي قوة روحية وهي نتيجة حلول الروح (أعمال ١: ٨) وهي تمكنهم من إدراك الحق وتأثير كلامهم في قلوب الناس وضمائرهم والتكلم بألسنة غريبة وصنع المعجزات إثباتاً لتعليمهم.
    مِنَ ٱلأَعَالِي أي السماء مسكن الله ومصدر كل بركة روحية. وتم هذا الوعد بعد خمسين يوماً من قيامة المسيح أعمال ص ٢.

    صعود المسيح ع ٥٠ إلى ٥٢


    ٥٠ «وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُم».
    أعمال ١: ١٢
    وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً أي من مدينة أورشليم وهو منطلق أمامهم كما كان يفعل قبل موته. وحدث ما قيل هنا وفي العددين التاليين بعد القيامة بأربعين يوماً. ولكن حدث في الأيام الثمانية بعد قيامته أنه ظهر أيضاً للتلاميذ في أورشليم وكان توما معهم (يوحنا ٢٠: ٢٤ - ٢٩). ثم بعد ذلك ظهر لسبعة تلاميذ في الجليل (يوحنا ٢١: ١ - ٢٤) وظهر أيضاً في الجليل نحو ٥٠٠ أخ (متّى ٢٨: ١٦ - ٢٤ و١كورنثوس ١٥: ٦) وبعد ذلك لجميع الرسل (أعمال ١: ٣ - ٨) ولعلّ علّة عدم ذكر لوقا تلك الظهورات بالتفصيل قصد أن يكتبها مفصلة كما فعل في مقدمة أعمال الرسل.
    إِلَى بَيْتِ عَنْيَا يظهر من متّى ٢١: ١ ومن أعمال ١: ١٢ أن صعود المسيح لم يحدث في بيت عنيا عينها بل في القرب منها على جبل الزيتون. وبيت عنيا على سفح ذلك الجبل الشرقي واختار الصعود قرب بيت عنيا لكي لا يراه أهل أورشليم.
    وَرَفَعَ يَدَيْهِ علامة للبركة (لاويين ٩: ٢٢). ومضمون تلك البركة وهو منطلق من العالم كمضمون ترنيمة الملائكة وهو آت إلى العالم طفلاً وهو قولهم «على الأرض السلام وفي الناس المسرة».
    ٥١ «وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ».
    ٢ملوك ٢: ١١ ومرقس ١٦: ١٩ ويوحنا ٢٠: ١٧ وأعمال ١: ٩ وأفسس ٤: ٨
    انظر الشرح مرقس ١٦: ١٩.
    وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ما برح يباركهم وهو صاعد.
    ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ بصعوده حتى حجبته السحابة (أعمال ١: ٩).
    وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ أي رُفع جسده إلى حيث يظهر الله مجده ويسكن الملائكة والقديسون وهو محل القداسة والسعادة وهناك يجلس هو على يمين العظمة (عبرانيين ١: ٣ و٨: ١) وعرفوا أنه رُفع إلى السماء بعد احتجابه عنهم من نبإ الملاكين فإنهما أنبأهما أنه سينزل كما صعد (أعمال ١: ٩ - ١١).
    فلو غاب المسيح عن تلاميذه وهم لا يشاهدونه صاعداً لخسروا فوائد كثيرة لأن صعوده أثر كثيراً في ذاكرتهم وقوّى إيمانهم بأنه حي وملك ودفع دعوى كل المقاومين أنه مات كسائر الناس.
    وانتهت بصعود المسيح أنباء حياته الجسدية على الأرض وكل أيام اتضاعه وهذا آخر معجزاته التي تثبت لاهوته. ولم يشاهده صاعداً سوى رسله الذين اختارهم شهوداً له. وحينئذ أجيبت صلاته التي هي قوله «وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٧: ٥) وتنبأ المسيح بهذا الصعود قبل موته (يوحنا ٦: ٦٢ و٢٠: ١٧) وشهد الرسل به (أعمال ٢: ٣٣ و٣٤ وأفسس ٢: ٦ و٤: ١٠ و١تيموثاوس ٣: ١٦ و١بطرس ٣: ٢٢).
    ووجود المسيح في السماء بالجسد لا يمنع حضوره بالروح مع شعبه على الأرض حسب وعده وهو قوله «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (يوحنا ٢٨: ٢٠) فليس صعوده انفصالاً عن شعبه لكنه بداءة ملكه رأساً للكنيسة التي هي جسده (أفسس ١: ٢٢) ودخل السماء «كسابق لأجلنا» (عبرانيين ٦: ٢٠) وليعد لنا مكاناً (متّى ١٤: ٢) ويشفع فينا عند الآب (عبرانيين ٩: ٢٤ و١يوحنا ٢: ١).
    ٥٢ «فَسَجَدُوا لَـهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ».
    متّى ٢٨: ٩ و١٧
    فَسَجَدُوا لَـهُ باعتبار أنه هو الله وأتوا ذلك وهو صاعد وبعد ما غاب عن عيونهم. وهذا الكلام يدل على أنهم اعتبروه اعتباراً أعظم مما سبق وحسبوه مستحقاً أعظم العبادة المختصة بالله وحده.
    بِفَرَحٍ عَظِيمٍ هذا وفق قول المسيح في بشارة يوحنا ١٦: ٢٠ و٢٢ ومواضيع فرحهم أنه ارتفع عنهم منتصراً وهو يباركهم. وفرحوا بارتفاعه ومجده وبوعده بإرسال روحه ودوام حضوره الروحي بينهم ولا سيما انتظارهم مجيئه ثانية بالمجد. ومن جملة ما أفرحهم زوال شكوكهم ورؤيتهم جلياً أن تنازل سيدهم وآلامه وموته جزء من عمله العظيم لفداء العالم.

    حال الرسل بعد صعود المسيح وقبل عيد الخمسين ع ٥٣


    ٥٣ «وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ ٱللّٰهَ. آمِينَ».
    أعمال ٢: ٤٦ و٥: ٤٢
    وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ أي في الساعات المعينة للعبادة صباحاً ومساء (أعمال ٢: ٤٦ و٣: ١ و٥: ٢١) وشغلوا أوقاتهم بالخدمة الدينية استعداداً لما توقعوه من حلول الروح القدس عليهم الذي حل عليهم بعد عشرة أيام للصعود.
    وليس في ما قيل هنا منافاة لما قيل في سفر الأعمال (أعمال ١: ١٣) لأن ذلك كان في سوى الأوقات التي شغلوها بالصلاة في الهيكل.
    يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ ٱللّٰهَ لأنه أرسل يسوع فادياً للعالم ولأجل كل ما صنع به لإتمام الفداء ولأجل الآمال المبنية عليه ومواعيده لهم ولعالم الخطأة.

    Call of Hope
    P.O.Box 10 08 27
    D-70007
    Stuttgart
    Germany

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •