المقدمة وفيها ستة فصول

الفصل الأول: في الكاتب


كاتب هذه البشارة لوقا واسمه هذا مختصر لوقانوس أو لوسليوس. ذُكر في الرسائل ثلاث مرات (كولوسي ٤: ١٤ و٢تيموثاوس ٤: ١١ وفليمون ٢٤). وهو كاتب سفر أعمال الرسل. قال بعضهم أنه لم يكن يهودياً أصيلاً بل ممن هادوا من الأمم وسُموا دخلاء لأن بولس عندما ذكر أصحابه في رومية الذين من الختان أصلاً والذين ليسوا من الختان كذلك لم يذكر لوقا مع الأولين بل ذكره مع الآخرين (قابل كولوسي ٤: ١١ مع كولوسي ٤: ١٤). ولنا عدة أدلة على أنه كان دخيلاً. منها أنه كان عالماً بكل عوائد اليهود وطقوسهم. ومنها أن اليهود عندما هيّجوا الشعب على بولس في أورشليم إنما أتوا ذلك لأنه أدخل معه واحداً من الأمم وهو تروفيموس الأفسسي (أعمال ٢١: ٢٧). ولكن لوقا كان معه ولم يعترض أحد عليه بشيء من شأنه ولو لم يكن دخيلاً مختتناً لم يسكتوا عنه.
وكان طبيباً كما ظهر من قول بولس لأهل كولوسي (كولوسي ٤: ١٤) ولم يكن شاهد عين بما ذكره في إنجيله ولا خادماً للإنجيل من أول انتشاره بدليل ما جاء في كلامه (لوقا ١: ٢) وإلا كان قد بنى ما ذكره على مشاهدته.
ولم يُعلم متى تنصّر ولا على يد من تنصّر. وأول ذكره في الكتاب كان عند اجتماعه ببولس في ترواس (أعمال ١٦: ١٠). ومن ثم رافقه إلى مكدونية. ولم يُصرّح هنالك باسمه بل بضمير المتكلم خلافاً لما في إنبائه قبلاً كقوله «طلبنا أن نخرج إلى مكدونية». وظن بعضهم أن بولس أرسله قبلاً إلى ترواس للتبشير لأنه لم يذكر نبأ تنصره هنالك ولأنه كان يعتمده كسائر رفقائه المؤمنين. بقي لوقا مع بولس كل مدة إقامته بفيلبي ولم يزل باقياً في فيلبي مدة سفر بولس عنها بدليل أنه عدل في كلامه على ذلك السفر عن صيغة التكلم إلى صيغة الغيبة خلافاً لما سبق من كلامه في ترواس إلى بلوغه فيلبي (أعمال ١٧: ١).
ثم رافق بولس عند خروجه من فيلبي بعد رجوع بولس إليها في سفره الثالث (أعمال ٢٠: ٥). فالظاهر أن لوقا بقي مبشراً في فيلبي من سفر بولس الثاني إلى سفره الثالث وذلك نحو سبع سنين أي من ٥١ - ٥٨ م.
ورافق بولس إلى ميليتس وصور وقيصرية وأورشليم (أعمال ٢٠: ٥ و٢١: ١٧ و١٨).
قال بولس في ما كتبه إلى أهل كورنثوس «أَرْسَلْنَا مَعَهُ ٱلأَخَ ٱلَّذِي مَدْحُهُ فِي ٱلإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ ٱلْكَنَائِسِ. وَلَيْسَ ذٰلِكَ فَقَطْ، بَلْ هُوَ مُنْتَخَبٌ أَيْضاً مِنَ ٱلْكَنَائِسِ رَفِيقاً لَنَا فِي ٱلسَّفَرِ» (٢كورنثوس ٨: ١٦ - ١٩). وفي ملحق هذه الرسالة في اليونانية ما ترجمته «أرسلت من فيلبي على يد تيطس ولوقا» فيكون لوقا هو الأخ المشار إليه. وكان مع بولس مدة سجنه في قيصرية وهي نحو سنتين (أعمال ٢٤: ٢٣). ورافق بولس وهو منطلق أسيراً إلى رومية (أعمال ٢٧: ١ و٢٨: ١٦). وبقي معه كل مدة سجنه الأول (كولوسي ٤: ١٤ وفليمون ٢٤). وإذا حسبنا أن بولس كتب رسالته الثانية إلى تيموثاوس في مدة سجنه الثاني في رومية كما هو المرجح نتج أن لوقا بقي مع بولس إلى نهاية جهاده (٢تيموثاوس ٤: ١١). وليس لنا اليقين من خبره بعد موت بولس.
وخلاصة معرفتنا من جهته أنه هو «الطبيب الحبيب» (كولوسي ٤: ١١). وأنه الصديق المخلص لبولس وشريكه في أتعابه وآلامه. وكاتب البشارة الثالثة وسفر أعمال الرسل. وأما قول بعضهم أنه وُلد في أنطاكية وأنه أحد السبعين الذين أرسلهم المسيح للتبشير وأنه كان أحد التلميذين اللذين رافقهما يسوع بعد قيامته إلى عمواس وأنه كان مصوراً علاوة على ما ذُكر وأنه مات شهيداً في بلاد اليونان فلا دليل عليه.

الفصل الثاني: في زمن كتابتها


كُتبت هذه البشارة قبل خراب أورشليم لأن الأصحاح الحادي والعشرين منها كُتب نبوءة بخراب أورشليم لا تاريخ أمر مضى. وكُتبت قبل سفر أعمال الرسل (أعمال ١: ١). والأرجح أن سفر الأعمال كُتب مدة سجن بولس في رومية لأن تاريخ بولس ينتهي بذكر نهاية ذلك السجن (أعمال ٢٨: ٣٠ و٣١) وكان ذلك سنة ٦٣ م. والنتجية أن هذه البشارة كُتبت بين سنة ٥٨ و٦٠ م.

الفصل الثالث: في موضع كتابتها


لنا مما قيل في زمن كتابتها أن موضع تلك الكتابة هو قيصرية حيث سجن بولس. ويتضح من كلام البشير أنه كان له عند كتابته كل الوسائط للبحث عن كل ما يتعلق بحياة المسيح الأرضية ولمواجهة الناس الذين شاهدوا واختبروا.

الفصل الرابع: في مصادر علم لوقا بما كتبه في بشارته


قال لوقا في مقدمة بشارته ما خلاصته أنه كان مؤلفات كثيرة في سيرة المسيح ويظهر من كلامه أن تلك المؤلفات كانت ناقصة غير موثوق بها وأنه استفرغ المجهود في الوقوف على حقيقة الأمر وكمال الحوادث. وهذا يدلنا على أنه لم يقف على بشارتي متّى ومرقس وإلا كان أدخل في بشارته الحوادث التي ذكراها لأن ذلك وفق قصده الذي أعلنه. ولا يمكنه أن يكون قد أخذ عما كتبه يوحنا لأن يوحنا كتب بعده. ولم يدّع أنه شاهد عين بما أنبأ به من الحوادث لكنه صرّح بأنه بحث عن ذلك ممن كانوا شهود عين ووقفوا على اليقين.
واتفق المؤرخون المسيحيون الأولون أن لوقا كتب بإرشاد بولس الرسول وتعليمه ولا ريب في أنه استفاد كثيراً من تعاليم بولس لأنه كان رفيقاً له وأن في بشارته خلاصة تعاليم ذلك الرسول فإذاً هي مبنيّة على أساس رسولي. ولكن لا سبيل إلى الحكم بأن معرفته كانت مقصورة على ما أخذه عن بولس وحده. ومقدمة بشارته تحقق لنا أنه أخذ عن شهود كثيرين. ولا عجب من أنه أخذ ما أنبأ به في الأصحاحات الثلاثة الأولى عن مريم أم يسوع نفسها أو عن الذين سمعوه منها والأرجح أنه كتب هذه البشارة في قيصرية كما ذكرناه. والمسافة بين هذه المدينة وأورشليم قريبة فلم تكن مما يمنعه من أنه يذهب إلى أورشليم ويخاطب مريم في أثناء السنتين اللتين كان يقيم فيهما بقيصرية.
وأكثر ما تظهر المشابهة بين تعليم لوقا وتعليم بولس في الكلام على العشاء الرباني (قابل لوقا ٢٢: ١٩ و٢٠ مع ١كورنثوس ١١: ٢٣ - ٢٥ وقابل أيضاً لوقا ٢٤: ٢٦ و٢٧ مع ١كورنثوس ١٥: ٣).
وكل ما ذكرناه من مصادر بشارته لا يقدح في أنه كان ملهماً بالروح القدس ولا يغنيه عن الإلهام.

الفصل الخامس: في غاية لوقا من هذه البشارة


يظهر من مقدمة هذه البشارة أنها كُتبت لإفادة رجل اسمه ثاوفيلس. وظن بعضهم أن ثاوفيلس اسم عام لكل مسيحي لأن معناه في اليونانية محب الله ولكن ينافي هذا الظن نعته بالعزيز فإن هذا النعت كان يختص بأرباب الرتب السياسية كما يظهر من سفر الأعمال (أعمال ٢٤: ٣). فإذاً ثاوفيلس شخص بعينه ويتبين أنه لم يكن من أهل اليهودية لما فسره له لوقا من الأماكن المذكورة في بشارته ولو كان من أهل تلك الأرض ما احتاج إلى ذلك. وأمثال ما ذُكر ما أبانه له من أمر الناصرة (ص ١: ٢٦) وكفرناحوم (ص ٤: ٣١) والرامة (ص ٢٣: ٥١) وكورة الجدريين (ص ٨: ٢٦) والمسافة بين عمواس وأورشليم وبين جبل الزيتون وأورشليم (ص ٢٤: ١٣ وأعمال ١: ١٢).
واسم ثاوفيلس يوناني وهو من الأمم لا من اليهود. وذكر لوقا بعض الأماكن في إيطاليا كأنها معلومة حمل البعض على الظن أنه من سكان تلك البلاد. والمرجح أنه كان ممن آمنوا بالمسيح من الأمم وأن لوقا كتب إنجيله أولاً لمنفعة غيره من أمثاله لا له وحده. وهذه البشارة موافقة جداً للأمم وهي تتضمن تعليم بولس الذي هو رسول الأمم وتعاليم غيره ممن بشروهم. ومما يبين أنها كُتبت للأمم خاصة أن لوقا لم يبتدئ نسب المسيح بذكر إبراهيم أبي العبرانيين كما فعل متّى بل ابتدأ بآدم ليظهر أن يسوع مخلص لكل البشر لا لليهود وحدهم. وعبّر في كل بشارته عن ملكوت المسيح أنه يعم كل أولاد آدم. ومما يقوي الظن أنه كتب لليونانيين تعبيره عن صفات المسيح وتعليمه بالأسلوب الذي يرغب اليونانيون فيه. وهو قد بين كمال ناسوت المسيح بأنه بلغ كل ما هو سام وعزيز عند اليونانيين مما دلوا عليه بتماثيلهم وصورهم وفلسفتهم من جودة العقل وقوة الاستدلال وصفات القلب من البرّ والحق والرحمة.
ومع أن لوقا لم يهمل بيان لاهوت المسيح كان أكثر كلامه على ناسوته إذ ذكر كل ما يتعلق به من الحبل به وطفولته وصبوته وشبيبته. فكانت غاية متّى أن يظهر لليهود كون يسوع هو المسيح الموعود به لآبائهم وغاية مرقس أن يظهر للرومانيين أن يسوع ابن الله وأنه ملك مقتدر ومنتصر وغاية لوقا أن يبين لليونانيين أن يسوع ابن الإنسان وأنه كامل الصفات ومخلص لكل البشر.

الفصل السادس: في خواص بشارة لوقا


ذكرنا أن متّى امتاز بذكر مواعظ المسيح ومرقس امتاز بذكر أعمال المسيح وامتاز لوقا بذكر مخاطبات المسيح لأفراد الناس وأجوبته لهم. ومما امتاز به عن سائر البشيرين ذكره صلوات يسوع ومنها ما ذكره وقت معموديته (ص ٣: ٢١) وفي وقت تجليه (ص ٩: ٢٩). ولما سأله تلاميذه أن يعلّمهم الصلاة (ص ١١: ١) وما ذكره من أنه صلّى من أجل بطرس لكي لا يتلاشى إيمانه (ص ٢٢: ٣٢). ومما يمتاز به عن سائرهم فصاحته وبلاغته في اللغة اليونانية وهذا دليل على أنه كان من العلماء.
ومن الحوادث التي لم يذكرها غير لوقا من البشيرين رؤيا زكريا. وبشارة مريم العذراء. وولادة يسوع وتقديمه في الهيكل. وصيد السمك الكثير. وإقامة ابن الأرملة في نايين من الموت. وإرسال السبعين مبشرين. والمغفرة للمرأة الخاطئة. ودعوة زكا العشار. والعشاء في بيت عنيا الذي خدمت فيه مرثا وكانت مريم جالسة عند قدمي يسوع تصغي إلى كلماته. ومسير التلميذين إلى عمواس. والكلام على الصعود. ومما يستحق الذكر خاصة أنه وحده ذكر خدمة المسيح في بيرية بالتفصيل. وبيرية بلاد سكانها من الوثنيين واليهود أقام بها المسيح نحو ستة أشهر. ومن الأمثال التي لم يذكرها غير لوقا مثل التينة العقيم. ومثل الأرملة الملحة. ومثل الفريسي والعشار في الهيكل. ومثل الغني الجاهل ولعازر. ومثل الخروف الضال. ومثل الدرهم المفقود. ومثل الابن الشاطر. ومثل الوكيل الظالم. ومثل السامري المتحنن. ومثل العشرة الأمناء. ومثل عرس ابن الملك.

الأصحاح الأول


مقدمة لوقا ع ١ إلى ٤


١ «إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا».
الآيات الأربع الأولى من هذا الأصحاح مقدمة للبشارة كلها وفيها بيان الغاية من كتابتها.
كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ الكثيرون هنا لم يكونوا شهود عين بل نقله عن غيرهم وعلى هذا لم يشر بهم إلى سائر البشيرين لأن متّى ويوحنا كانا شاهدي عين. ولم يشر إلى مرقس لأنه لم يقف على ما كتبه ولو وقف عليه ما خلت بشارته من بعض الحوادث التي ذكرها مرقس لكي يكتب بالتدقيق على التوالي كل الأشياء المتعلقة بيسوع. فالأرجح أن أولئك الكثيرين هم معلمو الإنجيل والمبشرون به الذين كتبوا أخباراً مختصرة مما سمعوه من الرسل وغيرهم من وقت إلى وقت. ولعلّ منهم بعض المؤمنين الذين كانوا يكتبون ما يبقى في حافظتهم من مواعظ الرسل.
ولم يصل إلينا شيء مما كتبه أولئك الكثيرون وعلّة ذلك أن الروح القدس اعتنى بحفظ البشائر الأربع دون غيرها مما كُتب في وقتها لأنها تشمل على كل الأمور الجوهرية ولأنها كُتبت بإلهامه.
ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ هذا تعريف حسن لما في الإنجيل أي حوادث حياة المسيح فهي ليست من المظنونات بل من الواقعات المحقة التي اتفق كل المسيحيين على صحتها. وقد رتبت على طريق يسهل فيه إدراكها وذكرها والتعبير عنها. ويتبين من هذا أنه استفاد مما كتبه الكثيرون ومما سمعه من غيرهم وهذا هو المصدر الأول لما كتبه في إنجيله.
عِنْدَنَا نحن المسيحيين.
٢ «كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ».
عبرانيين ٢: ٣ و١بطرس ٥: ١ و٢بطرس ١: ١٦ و١يوحنا ١: ١، مرقس ١: ١ ويوحنا ١٥: ٢٧
سَلَّمَهَا إِلَيْنَا أي أنبأنا بها شفاهاً لأنه كانت أكثر التعاليم في عصور الكنيسة الأولى باللسان لا بالقلم.
كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ أي من أول خدمة المسيح.
مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ شهادة هؤلاء هي المصدر الثاني الذي أخذ لوقا إنجيله منه وهم الرسل وغيرهم ممن شاهدوا يسوع وأعماله وسمعوا أقواله وبشروا بكلمته وبذلوا الجهد في خدمته.
٣ «رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى ٱلتَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ».
أعمال ١: ١
أَنَا أَيْضاً حسب نفسه واحداً من الكثيرين الذين أخذوا في التأليف. وهذا دليل على أنه لم يتهمهم بالغلط ولم يستخف بما كتبوه بل أظهر قصده أن يكتب أكثر مما كتبوه ليكون النبأ كاملاً.
ويظهر مما كتب لوقا في هذه المقدمة أن وحي الروح القدس أو إلهامه بكتابة سفر من الأسفار الإلهية لا يجعل شهادة الناس غير نافعة وبلا قيمة ولا يرفع عن الكاتب المسؤولية باجتهاده في جمع الشهادات البشرية والتدقيق في التمييز بين صحيحها وفاسدها.
تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ يتبين من هذا أن لوقا استفرغ المجهود في الحصول على كمال المعرفة بكل الحوادث المتعلقة بحياة المسيح الأرضية. وقوله «من الأول» يدل على أن ما كتبه الكثيرون كان ناقصاً لا يشتمل على سوى أجزاء صغيرة من سيرة المسيح وقصد هو أن يكتب الحوادث من أول حياته الأرضية إلى آخرها.
عَلَى ٱلتَّوَالِي لا يلزم من ذلك أن كل ما كُتب في إنجيل لوقا رُتب حسب وقت حدوثه فمعناه أنه قصد أن يكون تاريخه على الترتيب الذي عينه قبل أن يبتدئ الكتابة. فجمعه أحياناً الحوادث المتشابهة بقطع النظر عن أوقات حدوثها لا يخرجها من أن تكون على التوالي.
أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ لم يعرف شيء من أمره على اليقين. واسمه يوناني لا يهودي والأرجح أنه من اليونان. ووصف لوقا ما يذكره من المواضع في اليهودية والجليل يدل على أن ثاوفيلس ليس من سكان فلسطين. وعدم وصفه ما يذكره من الأماكن الإيطالية يحمل على الظن أن ثاوفيلس من سكان إيطاليا. ويقوي القول بأنه ليس بيهودي تبيين لوقا له اعتقاد الصدوقيين (أعمال ٢٣: ٨). وتلقيبه إياه بالعزيز يدل على أنه من أرباب الرتب السياسية لأن ذلك مما كان يُلقب به الحكام كما لُقب به فيلكس الوالي (أعمال ٢٤: ٣). وكما لُقب به فستس الوالي (أعمال ٢٦: ٢٥) وهذا يدفع القول بأنه صورة خيالية أُريد بها كل مسيحي لأن معنى اسمه محب الله. والأرجح أنه ممن آمنوا بالمسيح من الأمم.
٤ «لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ».
يوحنا ٢٠: ٣١
لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلاَمِ أي لتكون على ثقة مما كتبته إليك لعهدك أني صادق بحثت عن الأمور بالتدقيق.
ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ هذا دليل على أن ثاوفيلس قد تعلّم قبل ذلك بعض ما علمه الناس من أمر المسيح. فأراد لوقا أن يحصل صاحبه هذا على كمال الخبر مما جمعه هو من مصادر مختلفة.
ولنا مما ذُكر في مقدمة هذه البشارة معرفة كيف أن الله يتخذ خدمة البشر لإعلان كلامه وهذا الكلام يشتمل على ما وعظ به الرسل شفاهاً وما أخبر به غيرهم من شهود العين وعلى ما كتبه البشيرون نقلاً عن المشاهدين ورتبوه على أسلوب حسن. وكل ذلك لا ينفي كون ما كتب موحى به من الروح القدس لأن الروح ألهم الرسل بما تكملوا وحفظ البشيرين من الغلط في كتابة ما سمعوه وشاهدوه. وذلك من جملة ما يقوي ثقتنا بالإنجيل وأنه لا ريب في اشتماله على جوهر سيرة المسيح وتعاليمه.

الأنباء بميلاد يوحنا سابق المسيح ع ٥ إلى ٢٥


٥ «كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ ٱلْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ ٱسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ وَٱسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ».
متّى ٢: ١، ١أيام ٢٤: ١٠ و١٩ ونحميا ١٢: ٤ و١٧
فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ابتدأ لوقا بذكر ولادة يوحنا سابق المسيح إتماماً لوعده أنه يذكر كل شيء من الأول. وهيرودس المذكور هنا هو هيرودس الكبير (انظر الشرح متّى ٢: ١). والأيام المذكورة هنا نحو ستة أشهر قبلما حُبل بيسوع.
زَكَرِيَّا اسم شائع بين اليهود (٢أيام ٢٤: ٢٠) ومعناه الرب يذكر.
فِرْقَةِ أَبِيَّا قسم داود الكهنة فجعلهم أربع وعشرين فرقة يخدم كل منها أسبوعاً وله صباح يوم السبت وكانوا يلقون القرعة لترتيب الخدمة. وكانت فرقة أبيّا الثامنة من أولئك الفرق (١أيام ٢٤: ٧ - ١٨ و٢أيام ٨: ١٤) وسُمي رؤساؤها «رؤساء الكهنة».
ٱمْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ أي من السبط الكهنوتي. فجعل سابق المسيح من السلالة الكهنوتية ليكون لكلامه تأثير عظيم في الشعب. ولم يكن من الضروري أن يتزوج الكاهن من سبط لاوي. وشروط زواج الكهنة في سفر اللاويين (لاويين ٢١: ٧).
أَلِيصَابَاتُ هي أليشابع في العبرانية كاسم امرأة هارون (خروج ٦: ٢٣) ومعناه في تلك اللغة «قسم إلهي».
وهي نسيبة مريم (ع ٣٦) ولعلّ أمها من سبط يهوذا. ولم يُذكر اسمها في الإنجيل إلا في هذا الأصحاح.
٦ «وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ ٱللّٰهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا ٱلرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ».
تكوين ٧: ١ و١٧: ١ و١ملوك ٩: ٤ و٢ملوك ٢٠: ٣ وأيام ١: ١ وأعمال ٢٣: ١ و٢٤: ١٦ وفيلبي ٣: ٦
كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أي صالحين غيورين في طاعة الله وبيان برهما في سائر هذه الآية.
وَصَايَا ٱلرَّبِّ يراد غالباً بالوصايا في الإنجيل الواجبات الأدبية.
وَأَحْكَامِهِ يراد غالباً بالأحكام الواجبات الطقسية وهي في الأصل مثل الكلمة المترجمة في رسالة العبرانيين بالفرائض (عبرانيين ٩: ١ و١٠) فوصايا الرب وأحكامه يشتملان على كل الواجبات الدينية.
بِلاَ لَوْمٍ أي في عيون الناس لا في عيني الله وهذا شهادة صريحة بتقوى والدي يوحنا. وليس المعنى أنهما بلا خطية لأن زكريا وقع تحت لوم الملاك (ع ٢٠) فهو مثل قول بولس في نفسه «مِنْ جِهَةِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي فِي ٱلنَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ» (فيلبي ٣: ٦). وينتج من ذلك أن زكريا أفضل من أكثر كهنة زمانه لأن أكثرهم كانوا فاسدين.
٧ «وَلَمْ يَكُنْ لَـهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِراً. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا».
وَلَمْ يَكُنْ لَـهُمَا وَلَدٌ كان ذلك يُحسب مصاباً عظيماً في تلك الأيام بناء على رجاء كل عائلة يهودية أن يولد المسيح منها (١صموئيل ١: ١).
٨ «فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ ٱللّٰهِ».
١أيام ٢٤: ١٩ و٢أيام ٨: ١٤ و٣١: ٢
يَكْهَنُ أي يأتي خدمة الكهنوت من ذبح حيوانات التقدمة ورش دمائها وإحراق الذبائح والتبخير وغيره.
أَمَامَ ٱللّٰهِ أي في هيكله لأن الهيكل كان يُحسب بيت الله لأنه تعالى كان يظهر مجده في قدس الأقداس في الهيكل الأول.
٩ «حَسَبَ عَادَةِ ٱلْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ ٱلْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ وَيُبَخِّرَ».
خروج ٣٠: ٧ و٨ و١صموئيل ٢: ٢٨ و١أيام ٢٣: ١٣ و٢أيام ٢٩: ١١
أَصَابَتْهُ ٱلْقُرْعَةُ كان رؤساء الكهنة يلقون القرعة لتعيين الفرقة التي تخدم وأصابت القرعة حينئذ فرقة أبيّا. ثم أنه كانت الفرقة التي تصيبها القرعة تقترع لتعيّن نوع الخدمة الذي لكل منها. وأصابت القرعة يومئذ زكريا فعينته للتبخير مدة الأسبوع.
هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ أي القدس حيث لا يدخل أحد غير الكهنة.
يُبَخِّرَ الأرجح أن مذبح البخور كان في ذلك الهيكل كما كان في هيكل سليمان وكان من خشب الأرز مغشى بالذهب وكان طوله ذراعاً وعرضه ذراعاً وعلوه ذراعين (١ملوك ٦: ٢٠ و١أيام ٢٨: ١٨). وكان موضعه في القدس قدام الحجاب الفاصل بين القدس وقدس الأقداس. وكان البخور مزيجاً من أجزاء عُينت في سفر الخروج (خروج ٣٠: ٣٤ إلى ٣٨). وكانوا يوقدونه مرتين في النهار في الساعة الثالثة والساعة التاسعة منه (خروج ٣٠: ٧ و٨) في مجامر من المعدن كهيئة صحون عميقة صاغها سليمان من الذهب الخالص (١ملوك ٧: ٥٠).
وكانت نار الإيقاد تؤخذ من مذبح المحرقات وجوباً (قابل لاويين ٦: ٩ - ١٢ مع لاويين ١٠: ١ و٢).
وكانت تقدمة البخور رمزاً إلى الصلاة (مزمور ١٤١: ٢ ورؤيا ٥: ٨ و٨: ٣ و٤).
١٠ «وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجاً وَقْتَ ٱلْبَخُورِ».
لاويين ١٦: ١٧ ورؤيا ٨: ٣ و٤
جُمْهُورِ ٱلشَّعْبِ لا بد من أنه كان بين هؤلاء عُباد مخلصون كسمعان الشيخ وحنة النبية طلبوا في ذلك الوقت إعلان ملكوت الله الموعود به.
يُصَلُّونَ بدون صوت.
خَارِجاً أي في غير دار الكهنة من ديار الهيكل.
١١ «فَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ ٱلْبَخُورِ».
خروج ٣٠: ١
فَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكُ هذا أول ملاك ظهر لخدمة المسيح وظهر بعد ذلك الملاك لمريم مبشراً لها بأن يولد المسيح منها (ع ٢٠). وظهر ليوسف لكي يأخذها امرأته (متّى ١: ٢٠) وللرعاة (ص ٢: ٩) وليوسف لكي يذهب إلى مصر (متّى ٢: ١٣). ثم ظهر له ليخبره بموت هيرودس (متّى ٢: ١٩).
١٢ «فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا ٱضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ».
قضاة ٦: ٢٢ و١٣: ٢٢ ودانيال ١٠: ٨ وع ٢٩ وص ٢: ٩ وأعمال ١٠: ٤ ورؤيا ١: ١٧
كان كل من الاضطراب والخوف نتيجة غرابة منظر الملاك وظهوره على غير انتظار وما في هيئته من دواعي الوقار والهيبة والعظمة والطهارة ومن توهم الإنسان أن الملاك لم يظهر لإنسان إلا لتبكيته وعقابه. كذا خاف دانيال عند ظهور الملاك له (دانيال ٨: ١٧). وكذلك خافت النساء عند قبر المسيح (متّى ٢٨: ٥). وكذلك رهب يوحنا الرسول في بطمس (رؤيا ١: ١٧). ولعلّ الملاك ظهر لزكريا بهيئة شاب كما ظهر عند قبر المسيح (مرقس ١٦: ١٥). ولا عجب من أن رهب زكريا من مشاهدة الملاك لأنه لم يشاهد ملاكاً قبل ذلك في كل مدته الكهنوتية.
١٣ «فَقَالَ لَـهُ ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَٱمْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ٱبْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا».
ع ٦٠ و٦٣
لاَ تَخَفْ اعتاد الملائكة أن يقولوا ذلك للناس تسكيناً لخوفهم (ع ٣٠ وص ٢: ١٠ ومرقس ١٦: ٦).
طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ أي قبلها الله واستجابها. ومن استجابة الصلاة نعرف ما طُلبت فيها وهي أن يكون له ابن. فلم يقتصر زكريا أن يسأل الله البركة العامة على شعب إسرائيل كما أوجبت عليه وظيفته لكنه سأله ايضاً بركة مخصوصة. ونستنتج من وعد الملاك أنه كان يطلب مجيء المسيح في أيامه وأن يكون له ابن سابق له. ولعلّ تلك طلبته منذ زمان طويل فالله لا ينسى الصلاة مهما مرّ عليها من الزمان.
يُوحَنَّا هو في العبرانية يوحنان (١أيام ٣: ٢٤ و٢أيام ٢٨: ١٢) ومعناه الله حنّان. فكما عيّن اسم يسوع قبل ولادته (متّى ١: ٢١) كذلك عيّن اسم سابقه قبل ولادته.
١٤ «وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَٱبْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ».
ع ٥٨
لَكَ فَرَحٌ وَٱبْتِهَاجٌ ولادة ابن أمر سار للوالد ولا سيما إذا كان بلا ولد ولا يرجو أن يولد له وكان المولود جواباً لصلاته وعلامة مسرة الله به. والذي زاد فرح زكريا أن ذلك الولد كان سابقاً لمن هو أعظم منه وهو المسيح المنتظر. وليس كل ولد فرحاً لوالديه لأن «اَلابْنُ ٱلْحَكِيمُ يَسُرُّ أَبَاهُ، وَٱلابْنُ ٱلْجَاهِلُ حُزْنُ أُمِّهِ» (أمثال ١٠: ١). لكن زكريا وُعد بأن يكون ابنه مملوءاً من الروح القدس من بدء حياته وهذا حقق له أن يكون من الصالحين.
كَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ لا الوالدون والأصدقاء وحدهم بل الألوف الذين سمعوا وعظه وانتفعوا به (متّى ٣: ٥) فالفرح لا يكون مقصوراً على وقت ولادته بل يبقى ما بقي حياً.
١٥ «لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
عدد ٦: ٣ وقضاة ١٣: ٤ وص ٧: ٢٣، إرميا ١: ٥ وغلاطية ١: ١٥
لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً هذا علّة فرح الكثيرين به على ما ذُكر. والعظمة المنبإ بها هنا روحية لا تقوم بالغنى والحكمة العالمية.
وخلاصة عظمة يوحنا في الأمور الآتية:

  • كونه نذيراً كما سيُذكر فغلب بذلك الشهوات البشرية.
  • تقواه وصلاحه وأمانته لله.
  • كونه ممتلئاً من الروح القدس.
  • كونه مهيئاً الطريق أمام المسيح. ونسبة هذا العمل إلى عمل المسيح من أجل أسباب عظمته.


أَمَامَ ٱلرَّبِّ أي في عيني من «لا ينظر إلى العينين لكنه ينظر إلى القلب» (١صموئيل ١٦: ٧). فملوك الأرض وأرباب الفتوحات والفلاسفة والأغنياء عظماء أمام الناس ولكنهم أمام الله بخلاف ما كان يوحنا صغار.
خَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ المراد بذلك الانباء بأنه يكون نذيراً (عدد ٦: ٣ و٤) أي مفرزاً لخدمة الله طول حياته. ومثله كان شمشون (قضاة ١٣: ٢ - ٥ و١٢ - ٢٣). والأرجح أن صموئيل أيضاً كان كذلك (١صموئيل ١: ١١). والمقصود بالخمر هنا ما يسكر من عصير العنب وبالمسكر الخمر وغيرها من المشروبات المختمرة المغيبة العقل سواء كانت من الحبوب كالمِزر والجعة أم من الفواكه والعسل وغير ذلك. وكانت المسكرات كلها محرمة على الكهنة في وقت ممارسة الخدمة (لاويين ١٠: ٩) وعلى النذر أي المنذورين دائماً (عدد ٦: ٣).
يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي أن الروح القدس يمنحه من أول نشأته كل المواهب العقلية والروحية التي تؤهله للقيام بواجبات وظيفته كما ينبغي. ويجب على كل مسيحي أن يرغب في مثل صفات يوحنا وفق قول الرسول «وَلاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ، بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ» (أفسس ٥: ١٨).
ونفهم مما ذكر أن قلب يوحنا كان متجدداً منذ الطفولية. وليس من الضرورة أن ينفرد يوحنا بذلك ولعلّ كثيرين من الأطفال جُددت قلوبهم قبل يوحنا وبعده. فيجب على الوالدين أنهم يرجون ذلك ويسألون الله إياه. فمن الخطإ الظن أن الأولاد الصغار لا يقبلون التأثيرات الروحية ولا يستفيدون من التعاليم الدينية. قال الله لإرميا النبي «قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ» (إرميا ١: ٥).
ويفيدنا أن نعرف الأحوال المقترنة بتجديد يوحنا منذ الطفولية وهي ثلاث الأولى أن والديه كانا تقيين مؤمنين والثانية أنه مُنح لهما إجابة لصلاتهما. والثالثة أنه كُرس لخدمة الله تعالى.
١٦ «وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ إِلٰهِهِمْ».
ملاخي ٤: ٥ و٦
وَيَرُدُّ من نسيان الله والضلال والبرّ الذاتي والعالم والشهوات والشيطان. وثبت هذا النبأ بنجاح يوحنا في خدمته كما يتبين من الآيات الآتية (متّى ٣: ٥ و٦ ومرقس ١: ٥ ولوقا ٣: ٧ و١٠). وثبت أيضاً بشهادة يسوع له (متّى ١١: ٧ - ١٤) وخوف الفريسيين من الاستخفاف به قدام الشعب (متّى ٢١: ٢٥ و٢٦). ونال يوحنا المعمدان بما أتاه العظمة التي في قول دانيال «ٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال ١٢: ٣).
١٧ «وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ، وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً».
ملاخي ٤: ٥ ومتّى ١١: ١٤ ومرقس ٩: ١٢
يَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ أي أمام الرب إلههم (ع ١٦) وهو المسيح الذي هو «ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦). و «يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي ٢: ٩). وهو «اَللّٰهُ مَعَنَا» (متّى ١: ٢٨). وقوله «يتقدّم أمامه» مجاز مبني على عادة الملوك قديماً وهي أنهم كانوا يرسلون أمامهم في أسفارهم من يهيء لهم الطريق وينبئ الناس بقدومه ليستعدوا لاستبقاله. والأصل مقتبس معنى من نبؤة ملاخي ٤: ٥ و٦.
بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ (انظر الشرح متّى ١١: ١٤). هذا إنباء بأن يوحنا يتم غاية نبوءة ملاخي وتفسير أن المراد بإيليا فيها رجل يشبهه وهو يوحنا المعمدان. وكذا فسر المسيح تلك النبوءة. ووجه الشبه بين إيليا ويوحنا الغيرة والشجاعة وتوبيخ الخطأة من الشرفاء والأدنياء وهداية الضالين إلى سبل الحق.
لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ مضمون هذه الآية كلها إصلاح عظيم في السيرة والسريرة. وأول أثمار هذا الإصلاح تحسين الألفة العائلية لأنه من أول ظواهر فساد الدين انقطاع رُبط الالتئام العائلي. وثانيها رد الوالدين إلى الاعتناء بنفوس الأولاد وهدايتهم إلى عبادة الله لأنه من علامات ذلك الفساد أن يهمل الوالدون الاعتناء بنفوس أولادهم ولا يعلّموهم مخافة الرب. ونتيجة ذلك رد قلوب الجميع والدين وأولاداً إلى الله سبحانه وتعالى.
وظن البعض أن الآباء المذكورين هنا هم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأن النبي شخّصهم كأنهم أحياء آسفون من ضلال أولادهم الإسرائيليين ولذلك أعرضوا عنهم وأنه للتغير العظيم الذي يحدث في قلوب الأولاد بتبشير يوحنا ترجع قلوب أولئك الآباء إليهم بالمحبة والرضى.
وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ معنى ذلك أن الذين تمردوا على الله وزاغوا عن الدين الحق يرجعون بمناداة يوحنا إلى الطاعة والقداسة والإيمان وذلك الرجوع هو الحكمة الحقيقية المشار إليها بقوله فكر الأبرار لأن «بَدْءُ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ» (أمثال ٩: ١٠). ولأن مسالك القداسة هي مسالك الحكمة الحقيقية وقول ملاخي أن يرد «قلب الأبناء على آبائهم» (ملاخي ٤: ٦). وذكر الملاك معنى هذه الجملة لا لفظها لأن رجوع الأبناء الضالين إلى إيمان آبائهم الأتقياء هو الحكمة الحقيقية (أي فكر الأبرار). والعصاة المشار إليهم هنا هم يهود عصر يوحنا المعمدان والمسيح. والمراد بالآباء هنا في إما الأتقياء ذلك العصر وإما الآباء الأولون الذين ذكرناهم آنفاً.
لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً هذه العبارة مبنية على ما قيل في إشعياء ٤٣: ٢١. ومعناها بيان وظيفة يوحنا وهي أن يعد الناس لقبول المسيح في قلوبهم وذلك بإظهاره لهم خطاياهم واحتياجهم إلى مخلص. فنسبة خدمة يوحنا إلى خدمة المسيح كنسبة الناموس إلى الإنجيل فإنه دعا الناس إلى التوبة لكي يقبلوا المخلص الذي ينقذهم من خطاياهم. وأكمل يوحنا ما كان عليه مع أن النجاح لم يبلغ الكمال وقتئذ وإلى الآن لم يكمل في اليهود لكنه لا بد من أن يكمل بعد.
وما ذكره الملاك من صفات يوحنا يجب أن يكون لكل مبشر بالإنجيل وهو أن «يتقدّم أمام الرب» أي أن يبتهج بكونه رسولاً للمسيح ومبشراً بخلاصه وأن يرد قلوب الناس عن الخطيئة إلى الله. وأن يهيء شعباً من المؤمنين الحقيقيين المستعدين لأن يخدموا الرب على الأرض ثم أن يسبحوه في السماء.
١٨ «فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هٰذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَٱمْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟».
تكوين ١٧: ١٧
كَيْفَ أَعْلَمُ هٰذَا أي ما العلامة التي تبين لي صدق وعدك. ويظهر من هذا أن زكريا كان في ريب من قول الملاك. ويوضح ذلك جواب الملاك له والقصاص الذي وقع عليه فإنه نظر بعين الجسد إلى الموانع من إتمام ذلك الوعد ولم ينظر بعين الإيمان إلى قوة الله. وكان يجب عليه أن يتيقن وعد الله على يد الملاك بلا طلب علامة ظاهرة. نعم إنّ إبراهيم سأل الله علامة ولكنه سأله بالإيمان ولذلك لم يلمه (تكوين ١٥: ٦ و٨ ورومية ٤: ١٩). وكذلك طلب جدعون وحزقيا (قضاة ٦: ١٧ و٣٦ و٣٧ و٣٩ و٢ملوك ٢٠: ٨) والله لم يلمهما. وأعطى الله موسى علامات لصدق قوله من دون طلبه (خروج ٤: ٢ - ٤ و٦ و٧). فالذي جعل طلب زكريا خطيئة ما عراه من الشك.
لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ الخ هذا يدل على أنه شك في كلام الله عينه لا في كون المُرسل ملاك الله.
عيّنت الشريعة الموسوية أن لا يخدم اللاويون بعد سن الخسمين (عدد ٤: ٣ و٨: ٢٤). ولكنها لم تقع على الكهنة مثل زكريا. فمهما طعن في السن فما كان يقتضي أن يشك في صدق وعد الله بأن يكون له ولد إذ كان يستطيع أن يذكر أن إبراهيم وُلد له إسحاق وهو شيخ وامرأته عقيم ومثل ذلك كان والدا شمشون.
سأل الله زكريا ولداً (ع ١٣) ثم سأله بركة لم يصدق أنها ممكنة النوال لما وُعد بها.
١٩ «فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: أَنَا جِبْرَائِيلُ ٱلْوَاقِفُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهٰذَا».
دانيال ٨: ١٦ و٩: ٢١ و٢٢ و٢٣ ومتّى ١٨: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤
أَنَا جِبْرَائِيلُ أي جبار الله. كان زكريا متعلماً العهد القديم فعرف حالاً من اسمه أنه هو الملاك الذي ظهر لدانيال من ٤٩٠ سنة قبل ذلك وأنبأه بالسبعين أسبوعاً وبمجيء المسيح وبأنه «يُقطَع» (دانيال ٨: ١٦ و٩: ٢١ و٢٤ - ٢٦). ولم يذكر في الكتاب المقدس من أسماء الملائكة سوى جبرائيل وميخائيل (دانيال ١٠: ٢١ و١٢: ١) وذكر جبرائيل غالباً بشيراً أي منبئاً بالأخبار السارة (دانيال ٨: ١٥ - ١٨ و٩: ٢١ - ٢٣ ولوقا ١: ٢٦ - ٢٩). وذكر ميخائيل غالباً يجري الأحكام الإلهية (دانيال ١٢: ١ ويهوذا ٩ ورؤيا ١٢: ٧).
ٱلْوَاقِفُ قُدَّامَ ٱللّٰه هذا مجاز مبني على عوائد دار الملك وذلك أن بعض خدمه يقفون أمامه وهم أعلى شرفاً ورتبة عند الملك من سائر خدمه (متّى ١٨: ١٠ وإشعياء ٦٣: ٩). وظن البعض أن ملائكة الحضرة سبعة بناء على قول صاحب الرؤيا «وَرَأَيْتُ ٱلسَّبْعَةَ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ يَقِفُونَ أَمَامَ ٱللّٰهِ» (رؤيا ٨: ٢).
أُرْسِلْتُ هذا موافق لمعنى الملاك وهو رسول أو مرسل. وقال ذلك بياناً أنه لم يأت من تلقاء نفسه بل بأمر الله وإظهاراً لأهمية أنبائه وصدقه. وهو الملاك الذي ظهر لمريم بعد ذلك (ع ٢٦). وكون هذا الملاك مرسلاً من الله من أشرف الملائكة عظّم خطية زكريا بشكه في كلامه.
وَأُبَشِّرَكَ كان الإنباء بميلاد يوحنا جزءاً من الإنجيل كما أن الفجر جزء من النهار.
٢٠ «وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتاً وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَكُونُ فِيهِ هٰذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي ٱلَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ».
حزقيال ٣: ٢٦ و٢٤: ٢٧
صَامِتاً أي أخرس والأرجح أنه طرش أيضاً لأنه غلب أن يصحب الطرش الخرس. ويؤكد ذلك ما ذُكر في ع ٦٢ من أن الناس حين أرادوا أن يسألوه بماذا يريد أن يسمي ابنه أومأوا إليه ولم يكلموه لفظاً كما كان لو بقي يسمع. وكان ذلك من تأديب الله له لإهانته إياه تعالى بعدم إيمانه بصدق رسوله. فعوقب على خطاء شفتيه بأن خُتم عليهما مدة. وكان أيضاً علامة له إجابة لقوله «كيف أعلم هذا» واختار الله له هذه العلامة التي هي من صنوف القصاص تأديباً له على عدم إيمانه بنوال ما طلبه.
فلو عاقب الله الناس الذين شكوا في قدرته على الوفاء بمواعيده وإرادته ذلك وأعلنوا شكوكهم بأفواههم بما عاقب به زكريا فما كان أكثر البكم في هذه الأرض. وعدم إجراء الله هذا القصاص اليوم ليس بدليل على أنه لا يغتاظ من كل فكر وكلمة من أفكار الشك وكلماته (عبرانيين ٣: ١٢ و١٩).
إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَكُونُ فِيهِ هٰذَا اليوم هنا الوقت التقريبي لا يوم ميلاد يوحنا عينه لأنه بقي أخرس إلى اليوم الثامن بعد ذلك الميلاد.
لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ بيّن الملاك جلياً أن خطية زكريا ليست طلبه العلامة بل شكه الذي حمله على ذلك الطلب.
كَلاَمِي ٱلَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ أي كل ما قاله الملاك يجري في حينه على الترتيب من ولادة يوحنا وتسميته وتربيته ونذره ووظيفته ونجاح عمله.
٢١ «وَكَانَ ٱلشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي ٱلْهَيْكَلِ».
يظهر من هذه الآية أن الكاهن الذي يبخر في القدس لم يكن يبقى هناك إلا وقتاً قصيراً للقيام بخدمته وأن الشعب يتوقع رجوعه قبل الانصراف وأن زكريا أبطأ أكثر من مقتضى العادة في ذلك المكان فتعجب الناس لجهلهم علّة إبطائه.
٢٢ «فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي ٱلْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتاً».
رُؤْيَا تمتاز الرؤيا عن الحلم غير المعتاد بأنها إعلان إلهي للمستيقظ وهو إعلان للنائم. وفهم الشعب أنه رأى رؤيا من إمارات الخوف والرهبة على وجهه ومن سكوته الذي ظهر لهم أنه اضطراري ومن إشارات يديه ولا ريب في أن بعضهم سأله عن علّة إبطائه إما بإشارات إو بكتابة أو بصوت إن كان لم يطرش.
٢٣ «وَلَمَّا كَمَلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ.
٢ملوك ١١: ٥ و١أيام ٩: ٢٥
كَمَلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ أي الأيام السبعة المعيّنة للكاهن للتبخير في الهيكل (٢ملوك ١١: ٥). لم يتخذ زكريا مصابه عذراً لترك عمله مع أنه كان عرضة للوقوع في تلك التجربة لرغبته في أن يبشر امرأته وغيرها من أقربائه وأصحابه بما قاله الملاك له.
ولنا من ذلك أنه خير لنا أن نستمر على القيام بواجباتنا ولو وقعت علينا المصائب لأنّ هذا من أحسن الوسائل التي تجعل الله يرفع المصائب عنا أو يجعلها بركة لنا.
إِلَى بَيْتِهِ كان هذا البيت بين الجبال المختصة بسبط يهوذا (ع ٣٩ و٤٠). ولم يذكر موضعه والأرجح أنه قرب حبرون التي هي الجليل. والذي حمله على الإسراع إلى بيته على أثر تكميل خدمته مصابه ورغبته في إنباء أهل بيته بما كان.
٢٤ «وَبَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ ٱمْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً».
أَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أي بقيت منفردة عن الناس كل تلك المدة وعلّة ذلك لم تُذكر. ولعلها أتت ذلك تواضعاً دفعاً لإظهار افتخارها بما أنعم الله عليها به. ولعلها لم ترد أن تعرض نفسها للعار لكونهم كانوا يدعونها عاقراً (ع ٣٦) فبقيت في البيت حتى يتضح أنها ليست كذلك. والأرجح أن الأخير هو السبب الصحيح لأنها لم تخفِ نفسها سوى خمسة أشهر.
٢٥ «هٰكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ ٱلرَّبُّ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي فِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ، لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ ٱلنَّاسِ».
تكوين ٣٠: ٢٣ وإشعياء ٤: ١ و٥٤: ١ و٤
هٰكَذَا قَدْ فَعَلَ أي رحمني بأن وعدني بابنٍ يزيل عاري.
نَظَرَ إِلَيَّ أي نظر المحبة والشفقة.
لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ ٱلنَّاسِ أي عار العقم لأنهم كانوا يحسبون العقم علامة غضب الله فيعيرون العقيم (تكوين ٣٠: ٢ و٢٣ و١صموئيل ١: ٦ و٧). وحسبوا الولادة علامة رضى الله (لاويين ٢٦: ٩ ومزمور ١١٣: ٩ و١٢٧: ٣ و١٢٨: ٣ وإشعياء ٤٤: ٣ و٤). وتظهر شدة تأثر أليصابات من ذلك من موضوع فرحها ليس أن يكون لها ابن تحبه ولا أن يكون ذلك الولد ذائع الصيت بل كان موضوع ذلك الفرح مجرد نزع العار. وبما أن الله أراد نزع ذلك العار عنها لم يبقَ من الاضطرار أن تتعرض له من جيرانها ولذلك أخفت نفسها تخلصاً منه إلى وقت ظهور حبلها.
وكانت ولادة يوحنا مثل ولادة إسحاق بقوة إلهية خاصة وليس في ذلك ما هو خارق الطبيعة. وهو خلاف ولادة يسوع فإنها معجزة وتشبه إنشاء آدم من تراب الأرض أكثر مما تشبه ولادة يوحنا أو ولادة إسحاق لكي يكون هو بداءة خليقة جديدة. وجعل الله يسوع مولوداً من امرأة ليقترن بها الجنس البشري ويكون ابن إنسان وجعله يولد من عذارء ليكون طاهراً بلا دنس.

تبشير الملاك لمريم بأنها تلد المسيح ع ٢٦ إلى ٣٨


٢٦ «وَفِي ٱلشَّهْرِ ٱلسَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ ٱلْمَلاَكُ مِنَ ٱللّٰهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ ٱسْمُهَا نَاصِرَةُ».
فِي ٱلشَّهْرِ ٱلسَّادِسِ أي من وقت حبلت إليصابات (كالخمسة الأشهر المذكورة آنفاً) وذلك شهر بعد إظهارها نفسها للناس. وبما أن لوقا صرّح أنه كتب ما رواه عن شهود العين يرجح أنه نقل ما كتبه هنا من شفتي مريم أم يسوع نفسها.
جِبْرَائِيلُ أي الملاك الذي ظهر لزكريا (ع ١٩).
مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ هذا يدل على أن لوقا لم يكتب بشارته إلى اليهود لأنهم ما كانوا في حاجة إلى هذا البيان بل كتبها للقراء من الأمم.
نَاصِرَةُ هي المعروفة بالناصرة اليوم (متّى ٢: ٢٢ و٢٣ ومرقس ١: ٩). وكانت مسكن يوسف ومريم قبل ميلاد يسوع (متّى ٢: ٢٣). وهي واقعة بين الجبال شمالي مرج ابن عامر وترتفع نحو ٥٠٠ قدم فوق سطح البحر وعلى مسافة نحو ثلاثة أيام من أورشليم ونحو ساعة ونصف ساعة من جبل تابور.
٢٧ «إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ ٱسْمُهُ يُوسُفُ. وَٱسْمُ ٱلْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ».
متّى ١: ١٨ وص ٢: ٤ و٥
عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ انظر الشرح متّى ١: ١٨ و١٩. وإذا اعتبرنا جدول نسب المسيح في الأصحاح الثالث من هذه البشارة جدول نسب مريم كان أبوها هالي وهي نسيبة إليصابات بالزيجة (ع ٣٦).
ووُلد المسيح من امرأة لكي يشترك في الطبيعة البشرية (غلاطية ٤: ٤). ووُلد من عذراء لكي يكون ممتازاً على غيره من الناس بولادته كما يليق بمقامه. ولكي لا يكون شريكاً في طبيعة آدم الخاطئة كما وجب أن يكون لو وُلد ولادة طبيعية. ووُلد من مخطوبة دفعاً للأوهام وحفظاً لشرفها ولكي يكون لها من يعتني بها بعد.
مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ أي رجل من نسل داود. وكان يوسف الذي حُسب أبا يسوع كذلك كما ثبت مما ذكره متّى في الأصحاح الأول من بشارته. وكانت مريم نفسها من نسل داود كما يتضح من ع ٣٢ و٦٩. ومن قول النبي «أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ لِدَاوُدَ بِٱلْحَقِّ، لاَ يَرْجِعُ عَنْهُ: مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ» (مزمور ١٣٢: ١١). ولا تصح هذه النبوءة إلا بأن تكون مريم من نسل داود (وانظر أيضاً ص ٣: ٢٣ - ٣٨ والشرح هناك وأعمال ٢: ٣٠ ورومية ١: ٣ و١١ وعبرانيين ٧: ١٤).
٢٨ «فَدَخَلَ إِلَيْهَا ٱلْمَلاَكُ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ».
دانيال ٩: ٢١ و١٠: ١٩، قضاة ٦: ١٢ وراعوث ٢: ٤
فَدَخَلَ إِلَيْهَا أي إلى البيت الذي كانت مريم فيه وهذا من الحوادث الحقيقية لا من الرؤى. ونستنتج مما قيل هنا أن الملاك ظهر في هيئة إنسان. ودخل البيت كأحد الناس وخاطب مريم كمخاطبة سائر الناس ويحقق لنا ذلك أنها لم تخف من مشاهدته بل من كلامه وأنبائه. وظهر الملائكة كالناس لجدعون ومنوح وقضاة (ص ٦ و١٣).
وَقَالَ سَلاَمٌ كان هذا تحية عاديّة للمحبين والمكرمين وحيّا الملاك دانيال بمثلها (دانيال ١٠: ١٨ و١٩).
أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا لم يعنِ بالإنعام عليها هنا ما كان لها من الصفات الحسنة بل النعمة التي وهبها الله لها باختياره إياها أمّاً للمسيح المخلص. ووصف الرسول غيرها من المؤمنين بمثل ما وصفها الملاك به (أفسس ١: ٦).
اَلرَّبُّ مَعَكِ هذا إما خبرٌ بما حدث وإما دعاء وهو مثل خطاب الملاك لجدعون (قضاة ٦: ١٢). ومثل خطاب بوعز للحصادين في حقله (راعوث ٢: ٤). وهذا يتضمن كل البركات لأن كون الرب مع أحد من الناس يحقق له الحماية والنجاح والسعادة والقداسة كما كان لإبراهيم ويوسف ودانيال.
إذا كـان عـــون الله للـمـرء مســـعفاً تأتى لـه من كــل أمر مراده
وإن لم يكن عونٌ من الله للتقى فأول ما يجني عليه اجتهاده



مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ اختارها الله أُماً للمسيح فباركها بذلك أكثر مما بارك غيرها من النساء. وكانت من المباركات في النساء أم إبراهيم وأم داود أبوي المسيح بالجسد فبالحري أن تكون أم المسيح عينهِ مباركة كذلك. ولا دليل من هذه التهنئة على أن مريم كانت ممتازة بالطبيعة على غيرها من النساء التقيات ولا على أنها وُلدت بلا خطيئة والملاك لم يقدّم لها شيئاً من العبادة بل أكرمها إكرام الناس الأتقياء العادي.
٢٩ «فَلَمَّا رَأَتْهُ ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ!».
ع ١٢
ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ نشأ اضطرابها من ريبها في معنى الملاك ومن امتزاج خوفها برجائها ولم يظهر أنها اضطربت من منظره وهذا يدل على أن جبرائيل ظهر لها مبشراً لكن كلامه أنشأ اضطراب أفكارها لأنه كان مبهماً عندها وغريباً عن سمعها.
مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ قالت ذلك لأن الملاك هنأها ببركة عظيمة ولم يبيّن لها موضوع التهنئة وهي لم تكن تعهد شيئاً في ماضيها يوجب ذلك ولم تتوقع شيئاً عظيماً في مستقبلها.
٣٠ «فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ».
كلمها الملاك بذلك بياناً أنه أُرسل إليها بشيراً لا نذيراً فأزال به خوفها وسكّن اضطرابها.
٣١ «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ».
إشعياء ٧: ١٤ ومتّى ١: ٢١ ص ٢: ٢١
وعد الملاك لمريم بابنٍ كوعده لزكريا بابنه لكنّ وعده لمريم امتاز عنه كل الامتياز لأن ما كان لزكريا إنما تم بواسطة طبيعية. وأما ما كان لمريم فتم بوسائط خارقة الطبيعة وكان ابن زكريا إنساناً كسائر الناس. وأما ابن مريم فكان ابن الإنسان وابن الله.
وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ أي مخلصاً كما وعد الملاك يوسف بعد ذلك (متّى ١: ٢٠). وتقدّم معنى هذا الاسم في الشرح هناك (ع ٣٢ و٣٣).
٣٢، ٣٣ «٣٢ هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، ٣٣ وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».
مرقس ٥: ٧، ٢صموئيل ٧: ١١ و١٢ ومزمور ١٣٢: ١١ وإشعياء ٩: ٦ و٧ و١٦: ٥ وإرميا ٢٣: ٥ ورومية ٣: ٧، دانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤ و٢٧ وعوبديا ٢١ وميخا ٤: ٧ ويوحنا ١٢: ٣٤ وعبرانيين ١: ٨
هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً هذا وفق الأنباء به في إشعياء ٥: ٦ و٧. وأنبأ الملاك بمثل ذلك في شأن يوحنا (ع ١٥) ولكن عظمة يسوع فاقت عظمة يوحنا كما تفوق عظمة الملك عظمة سابقه وعظمة السيد عظمة عبده. وعظمة يوحنا كانت هبة من الله وعظمة المسيح كانت ذاتية.
وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ أي ابن الله (عدد ٢٤: ١٦ و٢صموئيل ٢٢: ١٤ ومزمور ٧: ١٧ و٥٧: ٢). ومما تقوم به عظمة المسيح أربعة أمور:

  • الأول: طبيعته الإلهية كما تدل عليه تسميته «ابن العلي».
  • الثاني: تسلسل طبيعته البشرية من أعظم الملوك كما يظهر من قوله «داود أبيه» لأنه نسله بحسب الجسد (٢صموئيل ٧: ١٣ ومزمور ٨٩: ٣ و٤ وإشعياء ٩: ٧ وإرميا ٣٣: ١٥ ومتّى ١: ١ ولوقا ٣: ٣١). فاتضح من قول الملاك «داود أبيه» أن مريم من بيت داود. ومريم لم تتعجب من قوله هذا مع أنه ظهر من سؤالها للملاك على أثر ذلك أنها لم تتوقع أن يكون الولد الذي بُشرت به نتيجة اقترانها بيوسف.
  • الثالث: اتساع مملكته ودوامها كما دل عليه قول الملاك يَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. وليس المراد بيت يعقوب نسل إسرائيل الجسدي بل كل نسل إسرائيل الروحي وهو كل أولاد إبراهيم بالإيمان وهذا يشتمل على اليهود والأمم أيضاً وهو عبارة عن شعب الله في كل مكان وزمان. ويملك يسوع عليهم بإعطائه إياهم شريعته وجذبه إياهم إلى طاعتها وبحمايته لهم وإرشاده إياهم في هذا العالم الزائل إلى عالم السعادة الابدي.
  • الرابع: صفاته الشخصية كالحكمة والجودة والرحمة والحلم والقداسة وغيرها. ووظائفه الثلاث وهي كونه كاهناً ونبياً وملكاً. وسمو البركات التي حصّلها لشعبه.


لاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ وعد الله داود بتثبيت كرسي مملكته إلى الأبد (٢صموئيل ٧: ١٣ و١٦). وتم هذا الوعد بيسوع المسيح إذ «رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ بِيَمِينِهِ رَئِيساً وَمُخَلِّصاً» (أعمال ٥: ٣١) فهو يملك إلى الأبد سائداً على قلوب شعبه. ومملكته هي المملكة الوحيدة التي لا تنقرض لأن المسيح لا يضطر إلى ترك مملكته بالموت كملوك البشر.
ولا مناقضة بين قول الملاك هنا وقول بولس الرسول في ١كورنثوس ١٥: ٢٤ - ٢٨. لأن كلام بولس يشير إلى نهاية بعض أعراض ملكوت المسيح لا جوهره، ومن ذلك محاربته للممالك المقاومة له. فإن هذه المحاربة تنتهي بغلبة المسيح حيئنذ على أعدائه. ومنه ممارسة المسيح وظيفته باعتبار كونه وسيطاً لشعبه وهم على الأرض ليحفظهم ويرشدهم ويؤدبهم ويشفع فيهم عند الآب فهذه تنتهي لأن كل شعبه يكون معه حيئنذ في السماء في الأمن والطهارة والسعادة. فيكون الذي ينتهي ما كان موقوتاً من متعلقات ذلك الملكوت ويُكمل بالاتحاد بملكوت الله العام فالنهاية في كلام بولس كالفجر في النهار الكامل.
وحاصل ما في كلام الملاك أربعة أمور تسكين اضطراب مريم ووعدها بابن وتسميته والإنباء بعظمته.
والأرجح أن مريم لم تفهم كل معنى كلام الملاك. والذي فهمته أن ابنها يكون المسيح المنتظر. ولا ريب في أنها توقعت أن يكون ملكاً زمنياً كما كان اليهود يتوقعون أن يكون المسيح. ولو عرفت مريم وعرف يوسف كل ما يختص بجلال طبيعة يسوع لاستحال عليهما أن يخدماه الخدمة التي يقتضيها جلاله طفلاً وولداً.
٣٤ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟».
لم يكن سؤال مريم كسؤال زكريا نتيجة الريب (ع ١٨) فإنها لم تسأل علامة كما سأل لتكون برهاناً على صحة الوعد لكنها فهمت أنها تلد ولداً بلا زواج فسألت بكل احترام كيف يجب أن تتوقع إتمام هذا الوعد. ولعلّ غايتها من ذلك معرفة ما يجب أن تفعله لئلا تقصر بجهلها عن القيام بواجباتها. وهذا السؤال لا بد منه طبعاً من عذراء عفيفة لم تسمع بأنه وُلد ولدٌ بلا زواج منذ خلق الله آدم وحواء بقوته الإلهية بلا واسطة.
٣٥ «فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ».
متّى ١: ٢٠ و٤: ٣٣ و٢٦: ٦٣ و٦٤ ومرقس ١: ١ ويوحنا ١: ٣٤ و٢٠: ٣١ وأعمال ٨: ٣٧ ورومية ١: ٤
انظر الشرح متّى ١: ١٨ و٢٠.
اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كثيراً ما عبّر الكتاب المقدس عن قدرة الله على الخلق بالروح (تكوين ١: ٢ ومزمور ١٠٤: ٣٠). فمعنى الملاك أن الولد يُخلق بقدرة الله رأساً وأن حبلها به معجزة.
قُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ هذا شرح للقول السابق أنه ليس المراد بالروح القدس مجرد الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس.
يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ لأن له الحق بهذا الاسم فليست ولادته الخارقة الطبيعة علّة تسميته بابن الله لأنه كان ابن الله قبل أن يتجسد لكونه أزلياً (يوحنا ١: ١ و٨: ٥٨ و١٧: ٥). ولأنه ابن كذلك منذ الأزل. وابن الله الأزلي حلّ في جسد بشري وولادته الخارقة دليل للناس على أنه ليس إنساناً مجرداً بل هو ابن الله العلي أيضاً.
٣٦ «وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُوَّةِ عَاقِراً».
لم تطلب مريم علامة لكن الملاك أعطاها علامة من تلقاء نفسه وهي أن أليصابات حبلى. فأراد الملاك انها تتحقق صحة كلامه مما تقف عليه من أمر أليصابات.
نَسِيبَتُكِ لم يظهر لنا ما هذه النسبة. وكون أليصابات من سبط لاوي لا ينفي كون مريم من سبط يهوذا لأن الكهنة لم يكونوا ممنوعين من أن يتزوجوا نساء من غير سبطهم بدليل أن امرأة هارون كانت من سبط يهوذا (خروج ٦: ٢٣). أو لعلّ هالي أبا مريم الذي هو من سبط يهوذا أخذ امرأة من سبط لاوي. وعلى الاحتمالين يصح أن تكون أليصابات نسيبة لمريم.
ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ وهذه المدة هي الفرق بين عمر يوحنا المعمدان وعمر يسوع.
٣٧ «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى ٱللّٰهِ».
تكوين ١٨: ١٤ وإرميا ٣٢: ١٧ وزكريا ٨: ٦ ومتّى ١٩: ٢٦ ومرقس ١٠: ٢٧ وص ١٨: ٢٧ ورومية ٤: ٢١
قول جبرائيل ذلك كان جواباً كافياً لسؤال مريم وأزال كل اضطرابها. وهو كاف لنفي كل ريب من أفكار الناس في شأن سر التجسد وكل شك في أمر إتمام الله مواعيده لأن الله غير المحدود في قدرته يجري كل ما يشاء. وما نسميها بالنواميس الطبيعية ليست بقيود ربط الله بها نفسه فمنعته عن اختياره المطلق إنما هي أمثال الحبال في يده تعالى يطوّلها أو يقصّرها كما يقتضيه إجراء مقاصده.
٣٨ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ ٱلرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا ٱلْمَلاَكُ».
أعلنت مريم بهذا الكلام تسليمها إلى إرادة الله وإيمانها بما وُعدت به و بعناية الله بها وتواضعها بتسمية نفسها أَمة الرب. وقد تركت أمر صيتها في يدي الله بلا سؤال.

زيارة مريم لأليصابات ع ٣٩ إلى ٥٦


٣٩، ٤٠ «٣٩ فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى ٱلْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، ٤٠ وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ».
يشوع ٢١: ١١ و١٣
فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي في أثر وقت البشارة حالما استطاعت التأهب للسفر مسافة أربعة أيام.
وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ هذا يدل على أنها لم تمكث في الناصرة بعد البشارة إلا قليلاً. وأنه ألجأتها إلى الإسراع إلى السفر رغبتها في تهنئة أليصابات بما أعلمها الملاك وفي أن تجد بمشاهدتها ما يحقق بشارة الملاك لها. ولم تكن تلك الرغبة دلالة على ريبها في كلام الملاك لكنه لتبرعه بتلك العلامة لاق بها أن تستفيد منها. ولعله لم يكن في الناصرة من يليق أن تنبئها بوعد الملاك لها.
إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا هي مدينة في الأرض الجبلية المختصة بقسم يهوذا. والمظنون أنها كانت قرب مدينة حبرون (التي هي مدينة الخليل) لأن تلك الأرض وُهبت لهرون (يشوع ٢١: ١١). وهي مسكن زكريا وأليصابات.
وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ الأرجح أنها سلمت عليها السلام المعتاد وهنأتها بما رفع العار عنها.
٤١ «فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَٱمْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
ٱرْتَكَضَ أي تحرك. والارتكاض خاص بحركة الجنين. والحركة المذكورة هنا إما أول حركة للجنين وإما حركة غير عادية حتى نسبتها أليصابات إلى مجيء مريم وعدّتها علّة لها. ولو لم تكن تلك الحركة غير عادية لم تُذكر في هذا المقام.
ٱمْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ تم لأليصابات مثلما وُعد به لابنها (ع ١٥) ومعنى ذلك أنه حل عليها روح النبوءة أو ارتفاع النفس غير المعتاد إلى التسبيح لله كما كان للأنبياء القدماء ولمريم أخت موسى (خروج ١٥: ٢٠) ولشيوخ إسرائيل (عدد ١١: ٢٧). ولشاول الملك (١صموئيل ١٠: ٦). ولرسله (١صموئيل ١٩: ٢٠ و٢١). وبواسطة حلول الروح القدس عليها فهمت المراد من ارتكاض الجنين وأن التي أتت إليها هي التي تلد المسيح. ولا دليل على أنه كان بين أليصابات ومريم أدنى مراسلة أو مكالمة قبل أن رأت مريم وابتدأت تتنبأ بالكلام المذكور هنا.
٤٢ «وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ».
قضاة ٥: ٢٤ وع ٢٨
مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ كان مثل هذه البركة لياعيل امرأة حابر القيني (قضاة ٥: ٢٤). ونرى كثيراً أن الذين تعلّموا أقوال الأسفار الإلهية متى حل عليهم الروح القدس وتنبأوا اقتبسوا في نبوءاتهم بعض الآيات الشعرية من تلك الأسفار وأليصابات أتت مثل ذلك.
وقول أليصابات لمريم «مباركة أنت في النساء» إما خبر بإنعام الله عليها بالبركة التي لم يهبها لغيرها من النساء أو دعاء لها بأن تحسبها النساء كلها مباركة وتدعوها كذلك.
مُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ هذه العبارة تعليل لقولها مباركة أنت في النساء. لأن أليصابات عرفت بروح النبوءة أن مريم ستلد المسيح الذي هو المراد بثمرة بطنها. وليس في كلام أليصابات شيء من الحسد لحصول مريم على بركة أعظم من بركتها بل كلامها كله دالٌّ على التواضع والشكر لله والفرح والإيمان والرجاء.
٤٣ «فَمِنْ أَيْنَ لِي هٰذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟».
فَمِنْ أَيْنَ لِي هٰذَا هذا إقرار من أليصابات بأن زيارة مريم لها تنازل عظيم وتعجب من غرابته. ومثل هذا قول ابنها يوحنا ليسوع عندما أتى ليعتمد منه «وأنت تأتي إليّ» (متّى ٣: ١٤). ولعلّ في ذلك السؤال إقرار بنعمة إلهية لها وأن جوابه كان مضمراً في قلبها وهو أن تلك الزيارة ليست من بشر بل من عنايته تعالى.
أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ ألهمها الروح القدس أن تعلم ان الذي سيولد من مريم هو ابن العلي. نعم إنها علمت أن ابنها يكون عظيماً (ع ١٥) لكنها علمت أن ابن مريم يكون أعظم منه.
٤٤ «فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ بِٱبْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي».
ذكرت ذلك علامة من الروح القدس حققت لها ما علمته في العدد السابق (أي أنّ مريم أم ربها). فروح النبوءة هو الذي قدرها على إدراك الغرض من تلك العلامة. ولا بد من أن في كلام أليصابات ما قوّى إيمان مريم وزادها ابتهاجاً.
٤٥ «فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَـهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ».
فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أي لمريم لأن علامات إيمانها وابتهاجها ظهرت على وجهها حتى تحققت أليصابات أنها واثقة بوعد الله وأنّها شريكة للمؤمنين في فوائد مواعيده تعالى.
ولعلّ في قولها هذا تلميحاً إلى الفرق بين إيمان مريم بوعد الله وعدم إيمان زوجها زكريا بما وعده تعالى حتى أُدّبَ. وكان إيمان مريم من أمثلة الإيمان الذي ذكره بولس «أَمَّا ٱلإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عبرانيين ١١: ١) وهي لم تلتفت إلى الموانع من إكمال الوعد بل نظرت إلى قوة الواعد. ولنا من ذلك أن الإيمان مصدر كل سعادة حقيقية. وهذا مثل قول المسيح لتوما «طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا ٢٠: ٢٩).
مَا قِيلَ لَـهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ عرفت إليصابات من زوجها زكريا ما قاله الملاك له من أمر المسيح ولكن ما قيل لمريم لم تعرفه إلا بوحي الروح القدس.
٤٦ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ».
١صموئيل ٢: ١ ومزمور ٣٤: ٢ و٣ و٣٥: ٩
تسبيحة مريم من ع ٤٦ إلى ٥٦ شعر مقدس من أعلى مراتب الأشعار ويذكرنا بعض عباراتها كلام حنة في سفر صموئيل الأول ٢: ١ - ١١ وكلام داود في سفر صموئيل الثاني ٧: ١٨ - ٢١ وبعض جمل المزمور ٣١ والمزمور ١١٢ والمزمور ١٢٦. ولم يقل البشير أن روح الله حل على مريم حين سبّحت كما قيل أنه حل على أليصابات (ع ٤١) وعلى زكريا (ع ٦٧) ولكن لا ريب في أنه حل عليها ولكنه حل عليها طويلاً وحل عل أليصابات وقتاً قصيراً (ع ٣٥). ولا عجب من أن اقتبست مريم في تسبيحها كثيراً من آيات العهد القديم لأن أولاد اليهود الصبيان والصبايا كانوا يحفظون كثيراً من تلك الآيات على ظهور قلوبهم كقصيدة دبورة وقصيدة حنة ومزامير داود واعتادوا أن يترنموا بها في العبادة لله كل يوم عند تقديم ذبيحة الصباح وفي ذبيحة المساء وفي الاحتفالات السنوية أيضاً. وبداءة تسبيحة مريم التعظيم للرب لأنه هو علّة سرورها باختياره إياها واسطة مكرمة لإجراء مقاصده العظمى. ولم تقتصر على التسبيح لله بشفتيها بل اشتركت في ذلك نفسها أي قواها الباطنة. وقولها هنا مثل قول داود «أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ لأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي» (مزمور ٣١: ٧).
٤٧ «وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي».
رُوحِي أي كل قواي الباطنة. والروح هي التي تدرك ما لا يدرك بالحواس الظاهرة وهي التي تؤمن وترجو وتحب.
بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي الله مخلص لأنه يفدي شعبه من الخطيئة والموت ويعطيهم نصيباً في الحياة الأبدية. وفي قول مريم هنا إقرار بأنها محتاجة إلى مخلص وأنها نالت من الله الخلاص الذي هو أتى به لشعبه. فإذاً في قول مريم نفسها رد كاف على دعوة بعضهم أن مريم ليست كسائر البشر في الطبيعة. فإنها كانت كسائر المؤمنات في إسرائيل تتوقع الخلاص من الله وقد كُرر الوعد لها بذلك باسم المولود منها الذي هو يسوع أي مخلص (ع ٣١). فابتهجت بأن الله مخلص لها أكثر مما ابتهجت بأن يسوع مولود منها.
٤٨ «لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ ٱلآنَ جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي».
١صموئيل ١: ١ و١١ ومزمور ١٣٨: ٦، ملاخي ٣: ١٢ وص ١١: ٢٧
نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ نظر الحنو بغية أن يرفعها من ذلها وأكرمها على حقارتها بين الناس بما أنعم به عليها فتيقنت أن ذلك تنازل ولطف من الله فأظهرت تواضعها بإقرارها أنها ليست مستحقة ذلك الإكرام.
جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي أي أن أهل كل عصر تقتدي بأليصابات في غبطتها لي. ومعنى قوله «تطوبني» تحسبني سعيدة. فمعنى مريم أنه كما أن النساء كلها في العصور الماضية قبلها كانت ترغب في أن يولد المسيح منها ستكون النساء بعدها في كل عصر حاسبة إياها سعيدة على ولادته منها. نعم إنّها حصلت على ما تنبأت لكن بقي غبطة أكثر من غبطتها بتلك الولادة وهي ما أبانها المسيح عندما قال له بعضهم «طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما» بقوله «بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه».
وعلمت مريم بروح النبوءة عظمة يسوع وأن تلك العظمة تدوم إلى الأبد وتيقنت أن اسمها يُذكر بين الناس باعتبار أنها مختارة أُماً للمسيح في الجسد.
نعم إنّ مريم كانت مغبوطة حقاً ولا تزال كذلك إلى الأبد لكنّ هذه الغبطة لا تجيز أن تكون مريم معبودة، فغبط إيراهيم بكونه أبا المؤمنين ويوحنا الرسول بأن كان التلميذ المحبوب وبطرس بكونه رسول اليهود وبولس بكونه رسول الأمم ولكنه لم يلزم مما ذكر أن يُعبدوا.
٤٩ «لأَنَّ ٱلْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَٱسْمُهُ قُدُّوسٌ».
مزمور ٧١: ١٩ و١٢٦: ٢، مزمور ١١١: ٩
ٱلْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ هذه العلامة الثانية لنظر الله بحنوه إلى ذلها. ومرادها بالقدير هنا هو الله سبحانه وتعالى وأشارت بذلك القول إلى ما ذكره الملاك لها بقوله «قوة العلي تظللك» الخ (ع ٣٥). وعبّرت عن البركة التي وهبها الله بالعظائم لأنها رأتها عظيمة وعجيبة جداً.
وَٱسْمُهُ قُدُّوسٌ مجّدت مريم الباري تعالى بكونه قديراً ومجّدته هنا بكونه قدوساً أي ذا قداسة أي طهارة أسمى من كل قداسة وأنه منزّه عن كل خطيئة وظلم. والمراد باسمه هنا ذاته العلية. وهذا وفق قول الكتاب «لَيْسَ قُدُّوسٌ مِثْلَ ٱلرَّبِّ» (١صموئيل ٢: ٢).
وأظهر الله قدرته بأنه أنشأ جسد المسيح بأسلوب خارق الطبيعة وأظهر قداسته بالفداء الذي أكمله بيسوع المسيح لأنه أعلن بغضه الشديد للخطيئة ببذله ابنه كفارة عن الخطاة.
٥٠ «وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ ٱلأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ».
تكوين ١٧: ٧ وخروج ٢٠: ٦ ومزمور ١٠٣: ١٧
وَرَحْمَتُهُ مجدت مريم الله قبلاً بقدرته وقداسته ومجدته هنا برحمته. وتجلت رحمة الله للعالمين بالمسيح لأن غاية الفداء به خلاص الهالكين.
إِلَى جِيلِ ٱلأَجْيَالِ سبّحت مريم الله ومجدته في ما سبق لإنعامه عليها بولادة يسوع منها وأخذت هنا تسبّحه وتمجده لإنعامه على غيرها من الناس بميلاد يسوع وملكه. ومرادها «بجيل الأجيال» آخر صنف من الناس. ولعلّ مرادها أن رحمة الله تدوم للأتقياء ميراثاً من الوالدين إلى أولادهم وأولاد أولادهم إلى نهاية العالم كما جاء في سفر الخروج ٢٠: ٦.
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ أي الذين هم أهل لتلك الرحمة لا المتكبرين والعصاة. ولعلها قصدت «بالذين يتقونه» أمثال زكريا وأليصابات وغيرهما ممن كانوا ينتظرون خلاص إسرائيل.
٥١ «صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ».
مزمور ٩٨: ١ و١١٨: ١٥ وإشعياء ٤٠: ١٠، مزمور ٣٣: ١٠ و١بطرس ٥: ٥
صَنَعَ قُوَّةً مجّدت هنا مريم قدرة الله وبأنه أذل العصاة المتمردين.
بِذِرَاعِهِ الذراع هنا مجاز حقيقته القدرة عند العمل.
ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ نعتت مريم الأثمة بالكبرياء لأنه يتميزون عن غيرهم بهذه الصفة كما أن الصالحين يمتازون بالتواضع. والكبرياء من أعظم المهيجات لغضب الله ومما يقود الناس إلى عصيانه تعالى.
بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ أشارت بهذا إلى علّة الكبرياء ومصدرها. فالناس يحسبون أنهم عظماء مقتدرون وبذلك يتجاسرون على الله. والذين قصدتهم مريم بهذا الكلام هم أناس كفرعون وسيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان وسنحاريب ملك الأشوريين وأنطيوخوس ملك سورية وغيرهم من الملوك القساة الذين قاوموا الله والله نزع قوتهم منهم. وقولها هنا مثل قول حنة «لاَ تُكَثِّرُوا ٱلْكَلاَمَ ٱلْعَالِيَ ٱلْمُسْتَعْلِيَ، وَلْتَبْرَحْ وَقَاحَةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ» (١صموئيل ٢: ٣).
٥٢ «أَنْزَلَ ٱلأَعِزَّاءَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِينَ».
١صموئيل ٢: ٦ الخ وأيوب ٥: ١١ ومزمور١١٣: ٦
ٱلأَعِزَّاءَ أشارت بهؤلاء إلى ملوك الأرض وعظمائها عند أنفسهم وأمثالهم كقيصر وهيرودس ووزرائهما والفريسيين والصدوقيين في أيامهما.
أَنْزَلَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ أي عن مناصبهم ومراتبهم حيث يجرون أعمال قوتهم وسلطتهم ويظهرون ثروتهم وعظمتهم. فإن الله بواسطة مجيء المسيح وقيام ملكوته في العالم يقلب كل كراسي الإثم والكبرياء. ومعنى هذه الآية كمعنى الآية التي قبلها والفرق بينهما لفظي. فإنها ذُكرت في تلك أفكار قلوبهم الكبريّة وفي هذه أحوال عظمتهم.
وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِينَ هذا مقابل لقولها «أنزل الأعزاء». إن الله يُجري التقلبات في ممالك الأرض يُجلس الأدنياء على عروش العظماء كما فعل بشاول الملك فإنه رفضه واختار داود راعي الغنم رئيساً على شعبه (٢صموئيل ٧: ٨). وذلك مثل قوله «ٱنْزِعِ ٱلْعِمَامَةَ. ٱرْفَعِ ٱلتَّاجَ. هٰذِهِ لاَ تِلْكَ. ٱرْفَعِ ٱلْوَضِيعَ، وَضَعِ ٱلرَّفِيعَ» (حزقيال ٢١: ٢٦ و٢٧).
ولعلّ مريم نظرت في رفض الله لهيرودس ملك شعبه يومئذ واختياره بدلاً منه طفلاً وُلد من عذراء الناصرة البائسة. ولا ريب في أنها كانت كسائر اليهود تتوقع أن المسيح يملك على الأرض ملكاً زمنياً لينقذ إسرائيل من نير الرومانيين الظالمين ونير بيت هيرودس الآدومي ويرد الملك إلى الوارث الحقيقي من بيت داود.
٥٣ «أَشْبَعَ ٱلْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ ٱلأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ».
١صموئيل ٢: ٥
هذا بيان لعمل الله احياناً حقيقة. ولكن أكثر ما يراد هنا إشباع جياع النفوس خيرات روحية. وهؤلاء هم الذين يتقونه (ع ٥٠). ولا ريب في أن مريم أدخلت نفسها وأليصابات وزكريا بين أولئك الجياع. والمقصود بالأغنياء الذين اكتفوا بخيراتهم الزمنية ولم يشعروا باحتياجهم إلى البركات الروحية. ومثل الفريقين العشار والفريسي لأن العشار نزل إلى بيته مبرراً دون الفريسي (ص ١٨: ٩ - ١٤ وانظر أيضاً ١صموئيل ٢: ٤ - ٧ ومزمور ١٠٧: ٣٣ - ٤١ و١١٣: ٧ - ٩).
٥٤، ٥٥ «٥٤ عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، ٥٥ كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى ٱلأَبَدِ».
مزمور ٩٨: ٣ وإرميا ٣١: ٣، تكوين ١٧: ١٩ ومزمور ١٣٢: ١١ ورومية ١: ٢٨ وغلاطية ٣: ١٦
في هذين العددين مجّدت مريم الله واثقةً لأمانته في وفاء مواعيده. وأشارت بذلك إلى ما فعله تعالى سابقاً برحمته لشعبه المختار بمقتضى مواعيده لآبائهم ولما أزمع أن يفعله من مثل ذلك في إعطائه ذلك الشعب ملكاً ومخلصاً. ففرحها بالعظائم التي وُعدت بها (ع ٤٩) لم يكن لنفعها الذاتي إلا أقل مما كان لنفع شعبها.
فَتَاهُ أي عبده (إشعياء ٤١: ٨).
لِيَذْكُرَ رَحْمَةً أي مواعيد سببها رحمته (ع ٧٢) ولا سيما المواعيد المتعلقة بالمسيح (تكوين ١٢: ٣ و١٥: ١٨ و٢٢: ١٨). وعضد الله شعبه هنا إما نتيجة ذكره عهد الرحمة وإما برهان على ذلك.
كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا أي أن الرحمة التي أظهرها الله في أيام مريم هي عين الرحمة التي وعد بها إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فمواعيد الفريقين أنهار من ينبوع واحد. وجوهر تلك الرحمة المسيح (تكوين ١٧: ١٩ وإشيعاء ٥٤: ١٠ و٥٥: ٣ ورومية ١١: ٢٩).
إِلَى ٱلأَبَدِ هذا متعلق «بيذكر» في قوله «ليذكر رحمة» لأن الله يذكر عهده إلى الأبد.
٥٦ «فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا».
نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ أي أقامت مريم في بيت زكريا إلى قرب ولادة أليصابات.
إِلَى بَيْتِهَا أي مسكنها في الناصرة (ع ٢٦). والأرجح أنه حدث بعد رجوعها ما ذُكر في (متّى ١: ١٨ - ٢٤).

ميلاد يوحنا المعمدان ع ٥٧ إلى ٦٦


٥٧، ٥٨ «٥٧ وَأَمَّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ٱبْناً. ٥٨ وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ ٱلرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا».
ع ١٤
عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَـهَا ذلك بإعطائه إياها ابناً.
فَفَرِحُوا مَعَهَا ذُكر فرحهم هنا لأن المولود كان علّة فرح بنفسه ولأن ولادته كانت غير عادية لأنه يندر أن يُولد للشيوخ كزكريا وأليصابات ولأنهم سمعوا (كما هو الأرجح) بالرؤيا التي كانت لزكريا في الهيكل والوعد بعظمة المولود له. وهذا الفرح بداءة إنجاز الوعد في الآية ١٤ وهو قوله «وكثيرون سيفرحون بولادته».
٥٩ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِٱسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا».
تكوين ١٧: ١٢ ولاويين ١٢: ٣
فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ أي اليوم المعيّن للختان في الشريعة الموسوية (خروج ٢١: ٤ ولاويين ١٢: ٣ وص ٢: ٢١ وفيلبي ٣: ٥).
جَاءُوا أي الأقرباء.
وَسَمَّوْهُ هذا يدلنا على أن المولود كان يسمى عند اختتانه ولعلّ سبب ذلك تسمية أبرام بإبراهيم عند ختانه (تكوين ١٧: ٥) ثم ان الولد بواسطة الختان يدخل تحت العهد الذي عاهد الله إبراهيم (عدد ١٧: ٩ - ١٣).
ِبِٱسْمِ أَبِيه أي أرادوا تسميته زكريا وكانوا على وشك أن يسموه بذلك. ولعلّ سبب ذلك اعتبارهم لزكريا ولحفظ اسمه بين الناس.
٦٠ «فَقَالَتْ أُمُّهُ: لاَ بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا».
ع ١٣
لا ريب أن أليصابات عرفت ذلك من زكريا بواسطة كتابته الاسم الذي عيّنه الملاك فلذلك قالت بأن يُسمى بيوحنا (ع ١٣) ومعنى يوحنا الرب حنّان.
٦١ «فَقَالُوا لَـهَا: لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهٰذَا ٱلاسْمِ».
اجتهد اليهود في حفظ جداول الأنساب لكل سبط ولكل بيت على حدته لبيان حقوق الوراثة ولذلك حفظوا أسماء أفراد كل بيت اتقاء من الغلط والريب ولذلك اعترض الأقرباء على ذلك الاسم الذي لم يسم به أحد من عشيرتهم في تلك الأيام منذ زمن طويل. ولكن اسم يوحنا استعمل كثيراً في أسباط مختلفة قبل يوحنا المعمدان حتى بين الذين من سبط لاوي (نحميا ١٢: ٢٢ و٢٣). وكثيراً ما سموا الأولاد قديماً بأسماء بعض أسلافهم الذين اشتهروا بالفضائل رغبة في أن يكون المولود مثل المسمى باسمه في فضائله. وكانت تسمية الولد باسم لم يسم به أحد من أقربائه عرضة للظن أنه لم يكن منهم من يستحق أن يتمثل به.
٦٢ «ثُمَّ أَوْمَأُوا إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُسَمَّى».
يُستنتج من إيمائهم له أنه صمّ فوق بكمه وإلا لم يحتاجوا إلى الإيماء للاستفهام منه بل كانوا استغنوا عنه بالكلام.
٦٣ «فَطَلَبَ لَوْحاً وَكَتَبَ: ٱسْمُهُ يُوحَنَّا. فَتَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ».
ع ١٣
لَوْحاً غلب في تلك الأيام أن يتخذوا للكتابة لوحاً رقيقاً من الخشب مائل الحواشي قليلاً مغشى الوجه بشمع. وكان القلم لذلك من حديد أحد طرفيه محدد للكتابة وطرفه الآخر مسطح للمحو (أيوب ١٩: ٢٤ وإرميا ١٧: ١).
ٱسْمُهُ يُوحَنَّا أي أن الأمر مقضى من رب الأمر فلا محل للاختيار (ع ١٣). ولا ريب في أن زكريا رضي ما كان قد قاله ملاك الرب. ومعنى «يوحنا» الرب حنان (انظر ع ١٣).
تَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ علّة تعجبهم تسميته باسم لم يعهد في تلك العائلة واتفاق الوالدين عليه والقضاء به سابقاً. ويحتمل أن علّة تعجبهم أيضاً تكلُم زكريا بعد سكوته عدة أشهر بعد ظنهم أنه مصاب بشلل دائم.
٦٤ «وَفِي ٱلْحَالِ ٱنْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ».
ع ٢٠
ٱنْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ أي وانطلق لسانه وذلك نتيجة انفتاح فمه. والقوة الإلهية التي أغلقت فاه هي التي فتحته. والوقت الذي حُكم عليه بالصمت فيه كان قد انتهى (انظر ع ١٣ و٢٠ معاً).
وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ الأرجح أن الذي تكلم به حينئذ هو ما في العدد الثامن والستين وما بعده إلى التاسع والسبعين.
وابتداء زكريا في التكلم بعد ربط لسانه تلك المدة الطويلة لم يكن في مخاطبة امرأته أو أحد أقربائه أو في الكلمات المعربة عن ابتهاجه بانطلاق لسانه أو ألفاظ التذمر على الله لإنزاله ذلك المصاب بل كان تسبيحاً له تعالى. فعلى كل مسيحي برئ من مرض ونجا من مصيبة أن يشغل لسانه بتسبيح الله (مزمور ٦٦: ١٠ و١١ مع ١٦).
٦٥ «فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ ٱلْيَهُودِيَّةِ».
ع ٣٩
وَقَعَ خَوْفٌ سبب هذا الخوف جميع الحوادث التي اقترنت بميلاد يوحنا وتسميته وهي ظهور الملاك وإنباؤه وقصاص زكريا المشاهد وولادة يوحنا من والدين طاعنين في السن وانطلاق لسان زكريا عند اختتان ولده.
وقد اعتاد لوقا عند ذكره بعض المعلنات السماوية الغريبة تبيين أن أول تأثير تلك المعلنات هو خوف الذين شاهدوها (ع ١٢ و٢٩ و٣٠ وص ٢: ٩ و٢٤: ٢٥) وكان ذلك الخوف خشوعاً دينياً ناتجاً عن الشعور بالقرب من الله جل وعلا.
جِبَالِ ٱلْيَهُودِيَّةِ هي البلاد من جنوبي أورشليم إلى حبرون (التي هي الخليل). وكلام البشير هنا يدل على أن خبر الحوادث في ولادة يوحنا انتشر شيئاً فشيئاً من بيت ميلاده إلى كل تلك الكورة.
٦٦ «فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ ٱلسَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ: أتُرَى مَاذَا يَكُونُ هٰذَا ٱلصَّبِيُّ؟ وَكَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُ».
ص ٢: ١٩ و٥١، تكوين ٣٩: ٢ ومزمور ٨٠: ١٧ و٨٩: ٢١ وأعمال ١١: ٢١
فَأَوْدَعَهَا... فِي قُلُوبِهِمْ أي تأملوا فيها وبحثوا عن غايتها وانتظروا نتائجها.
مَاذَا يَكُونُ هٰذَا ٱلصَّبِيُّ أي متى كبر. وعنوا بذلك الأمور التي قصد الله إجراءها بعد حين على يد الصبي لأنه إذا كانت هذه الغرائب مقترنة بميلاده فماذا يكون منه عند بلوغه.
يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُ استعار «يد الرب» لقوة الرب (قضاة ٢: ١٥ و١٣: ٢٥ و٢أيام ٣٠: ١٢ وعزرا ٧: ٩). وهي هنا تتضمن عناية الله به ومنحه إياه كل بركة ضرورية لجسده وعقله وروحه. وهذا وفق النبوءة التي في الآية الخامسة عشرة. وهذا مختصر تاريخ صبوة يوحنا.

تسبيحة زكريا ع ٦٧ إلى ٨٠


٦٧ «وَٱمْتَلأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلاً».
يوئيل ٢: ٢٨
هذه الآية متعلقة بالآية الرابعة والستين ولعلّ زكريا تأمل مدة أشهر صمته في الحقائق التي تكلم الآن عليها بوحي الروح القدس.
تَنَبَّأَ أي سبّح الله بإلهام الروح كما في سفر صموئيل الأول (١صموئيل ١٩: ٢٠). ويطلق التنبوء على كل تكلم في مواضيع دينية بالوحي (١كورنثوس ١٤: ٢٤ و٢٥) ونستدل من إحساسات زكريا التي ظهرت في هذا الخطاب على ماهية تعليمه لابنه يوحنا فيما بعد.
٦٨ «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ».
١ملوك ١: ٤٨ ومزمور ٤١: ١٣ و٧٢: ١٨ و١٠٦: ٤٨، خروج ٣: ١٦ و٤: ٣١ ومزمور ١١١: ٩ وص ٧: ١٦
مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ أي الآب الذي أرسل ابنه لكي يكون «قرن خلاص» و «المشرق من العلى». فزكريا بارك الله من ع ٦٨ إلى ع ٧٠ على إرساله المسيح. وذكر من ع ٧١ إلى ع ٧٥ النجاة العظيمة الناتجة من مجيئه المبارك.
لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ أي افتقد شعبه لأجل المساعدة كما في بشارة متّى (متّى ٢٥: ٣٦). وسفر الأعمال (أعمال ٧: ٢٣) ورسالة يعقوب (يعقوب ١: ٢٧). واعتبر زكريا إلغاء النبوءة منذ أربع مئة سنة ابتعاداً بين الله وبني إسرائيل وحسب علامات نعمته عليهم يومئذ كرجوعه إليهم ثانية.
ِوَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِه أنزل زكريا هنا إعداد مجيء الفادي منزلة المجيء عينه. وعبّر بالفداء عن كل عمل المسيح وهو يتضمن التحرير من كل عبودية الخطية (يوحنا ٨: ٣٤ - ٣٦) أما اليهود فحصروا معنى الفداء بالمسيح في التحرير من عبوديتهم للرومانيين. ولعلّ زكريا لم يدرك كل معنى ما تفوه به هنا.
٦٩ «وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ».
مزمور ٣٢: ١٧
في هذه الآية تفصيل ما سبق.
قَرْنَ خَلاَصٍ أراد «بقرن الخلاص» المسيح. وبنى كلامه في ذلك على قول النبي «هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْناً لِدَاوُدَ» (مزمور ١٣٢: ١٧). ويستعار قرن الحيوان لقوته كما تستعار يد الإنسان لقوته (تثنية ٣٣: ١٧ ومزمور ٧٥: ١٠ وإرميا ٤٨: ٢٥ وحزقيال ٢٩: ٣١ ودانيال ٧: ٧ و٨ و٨: ٣ - ١٢) معناه هنا أن المسيح يكون مخلصاً قديراً وأن له قوة الله (رومية ١: ١٦ ورؤيا ٥: ١٢).
فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ هذا دليل على أن زكريا اعتقد أن مريم هي من نسل داود.
٧٠ «كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلَّذِينَ هُمْ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ».
إرميا ٢٣: ٥ و٦ و٣٠: ١٠ ودانيال ٩: ٢٤ وأعمال ٣: ٢١ ورومية ١: ٢
أَنْبِيَائِهِ أشار زكريا بهذا إلى أنّه يتم بالمسيح كل ما تعلق به من النبوات منذ سقوط آدم إلى نهاية عمله الفداء. وذلك يشتمل على ولادته وحوادث حياته وآلامه وموته وانتصاره وتكليله رباً على الجميع. وأخص أولئك الأنبياء يعقوب (تكوين ٤٩: ١٠) وموسى (تثنية ١٨: ١٥) وإشعياء (إشعياء ٩: ٦ و٧ وص ٥٣). ومن النبوءات ما أعلنه الله لإبراهيم (تكوين ١٢: ٣ و٢٢: ١٨) ولإسحاق (تكوين ٢٦: ٤) وليعقوب (تكوين ٢٨: ١٤).
ومما يستحق الملاحظة هنا أن زكريا لم يقل كما تكلم الأنبياء بل «كما تكلم الله بفم الأنبياء» فإذاً كلما قرأنا النبوءات نكون قد قرأنا كلمات الله.
مُنْذُ ٱلدَّهْرِ أي منذ ما تكلم أول الأنبياء. وهنا ذكر زكريا أربعة أمور بارك الله من أجلها:

  • عود الله إلى إسرائيل بالرحمة.
  • إرساله مخلصاً قديراً.
  • أن ذلك المخلص يكون من نسل داود ووارث مجده.
  • أن كل النبوءات المجيدة تتم به.


٧١ «خَلاَصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا».
في هذا العدد وما بعده إلى العدد الخامس والسبعين ذكر الفوائد الناتجة من مجيء المسيح. وأول تلك الفوائد «الخلاص من أعدائنا» وهم:

  • ظالموهم الأجنبيون أي الرومانيون.
  • ظالموهم الوطنيون وهم هيرودس وجماعته الآدومّيون الذين وإن كانوا دخلاء ليسوا بإسرائيليين.
  • أعداؤهم الروحية أي الشيطان وشهواتهم (تكوين ٣: ١٥ ومتّى ١: ١٢). وهذا الخلاص بيان للخلاص المذكور في الآية ٦٩ وغلط اليهود العظيم أنهم توقعوا من المسيح الخلاص الزمني فقط.


٧٢ «لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ ٱلْمُقَدَّسَ».
لاويين ٢٦: ٤٢ ومزمور ٩٨: ٣ و١٠٥: ٨ و٩ و١٠٦: ٤٥ وحزقيال ١٦: ٦ وع ٥٤
رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا لم يحسب زكريا مجيء المسيح رحمة للأحياء فقط بل للموتى أيضاً لأن آباء اليهود كانوا يتوقعون منذ قرون كثيرة إتيان المخلص فجعلهم زكريا شركاء أولادهم في تلك الرحمة. «والموتى عند الناس أحياء عند الله».
وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ أي وعده بإرسال المسيح. والمراد بقوله «يذكر» ينجز كمن نسي وعده ثم ذكره ووفى به. وهذا هنا من باب الكتابة لأنه سبحانه تعالى لا ينسى بل يجري كل مقاصده في أوقاتها المعينة.
٧٣ «ٱلْقَسَمَ ٱلَّذِي حَلَفَ لإبْرَاهِيمَ أَبِينَا».
تكوين ١٢: ٣ و١٧: ٤ و٢٢: ١٦ و١٧ وعبرانيين ٦: ١٣ و١٧
ٱلْقَسَمَ هنا بدل من العهد في الآية السابقة وتوكيد له. وهذا القسم ذُكر في سفر التكوين (تكوين ٢٢: ١٦ و١٧ و٢٤: ١٦ - ١٨) وهو موافق لقول بولس في الرسالة إلى (غلاطية ٣: ١٣ - ١٧) ولما قيل في رسالة العبرانيين (عبرانيين ٦: ١٣ و١٤). فكل شيء في عهد الله به وأثبته بقسمٍ تمّ بالمسيح.
٧٤ «أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ».
رومية ٦: ١٨ و٢٢ وعبرانيين ٩: ١٤
هذا نتيجة إنجاز الوعد.
بِلاَ خَوْفٍ أي من الأعداء. والذي يعطيه هو الأمن التام لأجل العبادة بالسكينة والاطمئنان أي هبة الراحة الجسدية وسيلة إلى الخير الروحي لا لمجد الأمة أو انتصارها على غيرها من الأمم أو الانتقام منهم.
تبيّن مما ذُكر أن الحرّية الدينية من البركات التي وهبها المسيح.
٧٥ «بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا».
إرميا ٣٢: ٣٩ و٤٠ وأفسس ٤: ٢٤ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ و٢تيموثاوس ١: ٩ وتيطس ٢: ١٢ و١بطرس ١: ١٥ و٢بطرس ١: ٤
بِقَدَاسَةٍ لأفراد الأمة ولجميعها.
وَبِرٍّ الفرق بين القداسة والبرّ أن القداسة هي الطهارة الداخلية والبرّ ظهور تلك الطهارة في الخارج.
قُدَّامَهُ أي قدام الله وذلك يستلزم كمال البرّ والقداسة.
جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا أي ما دامت الأمة الإسرائيلية على الأرض. ولكن الإسرائيليين لم يحصلوا على ذلك لعدم إيمانهم على أنهم لا بد من أن يحصلوا عليه أخيراً والفوائد من مجيء المسيح على ما ذُكرت هنا خمس:

  • الأولى: التحرير من العبودية.
  • الثانية: إنجاز عهد الله الذي أثبته بالقَسم.
  • الثالثة: الأمن.
  • الرابعة: العبادة بلا معارض.
  • الخامسة: القداسة.


٧٦ «وَأَنْتَ أَيُّهَا ٱلصَّبِيُّ نَبِيَّ ٱلْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ ٱلرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ».
إشعياء ٤٠: ٣ وملاخي ٣: ١ و٤: ٥ ومتّى ١١: ١٠ وع ١٧
وَأَنْتَ أَيُّهَا ٱلصَّبِيُّ التفت زكريا في هذه الآية والتي تليها إلى الطفل يوحنا الذي كان أمامه وذكر العمل الذي سيجريه يوحنا في سبيل الفداء الإلهي. ولم يذكر أن ذاك الصبي سيكون علّة تعزية له في شيخوخته إنما افتكر في خدمته للمسيح.
نَبِيَّ ٱلْعَلِيِّ أنزل زكريا ابنه منزلة واحد من أنبياء العهد القديم الذين ذكرهم في الآية السبعين لكن المسيح قال بعد ذلك أنه أعظم من جميع الأنبياء السالفين (ص ٧: ٢٨).
والمراد «بالعلي» هنا هو الله والمسيح «ابن العلي» (ع ٣٢). وأما يوحنا فهو «نبي العلي».
تَتَقَدَّمُ الخ الكلام هنا مبنيٌّ على ما قيل في نبوءة إشعياء (إشعياء ٤٠: ٣ و٤) وسبق تفسيره في شرح بشارة متّى (متّى ٣: ٣).
٧٧ «لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ ٱلْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ».
مرقس ١: ٤ وص ٣: ٣
مَعْرِفَةَ ٱلْخَلاَصِ هذه العبارة مظهرة علّة حاجة المسيح إلى سابق لأن بني إسرائيل جهلوا حقيقة الخلاص الذي يحتاجون إليه فظنوه النجاة من نير الرومانيين. والحق أنهم كانوا في شديد الحاجة إلى الخلاص من نير الخطية والدينونة عليها. وخلاصة جهلهم أنهم بدلوا النجاة الروحية بالنجاة السياسية.
والفرق بين المسيح وسابقه أن المسيح يعطي الخلاص (متّى ١: ٢١) وأن سابقه يعطي معرفة الخلاص.
بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ وهي أعظم ما يفتقر إليه الإسرائيليون لكنهم جهلوا هذا الافتقار وظنوا أنه لا يفتقر إلى تلك المغفرة إلا الأمم. وقد أتى المسيح ليمنح تلك البركة للجميع. وأتى يوحنا ليخبرهم بها دفعاً للوهم والغلط ولذلك نادى «بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا» (مرقس ١: ٤).
أما المغفرة فهي أعظم حاجات الإنسان وأعظم مواهب الله في المسيح. وفي هذا الخبر مختصر الإنجيل لأنه ذُكر فيه أربع حقائق عظيمة.

  • الأولى: الخلاص الذي هو موضوع الإنجيل.
  • الثانية: أن الخلاص بمغفرة الخطايا.
  • الثالثة: أن علّة منح الخلاص رحمة الله (يوحنا ٣: ١٦ وأفسس ٢: ٤ - ٨).
  • الرابعة: نتائج الخلاص. وخلاصتها نور الضالين وسلام للمضطربين. فما أعظم البركات الثلاث المذكورة هنا وهي المغفرة والنور والسلام. فيجب على كل منا أن يسأل نفسه هل حصلت على تلك البركات العظمى.


٧٨، ٧٩ «٧٨ بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلٰهِنَا ٱلَّتِي بِهَا ٱفْتَقَدَنَا ٱلْمُشْرَقُ مِنَ ٱلْعَلاَءِ. ٧٩ لِيُضِيءَ عَلَى ٱلْجَالِسِينَ فِي ٱلظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ ٱلسَّلاَمِ».
عدد ٢٤: ١٧ وإشعياء ١١: ١ وزكريا ٣: ٨ و٦: ١٢ وملاخي ٤: ٢، إشعياء ٩: ٢ و٤٢: ٧ و٤٩: ٩ ومتّى ٤: ١٦ وأعمال ٢٦: ١٨
ذكر زكريا في العددين السابقين ما يتعلق بيوحنا على وجه الاختصار ثم عاد إلى موضوعه الأول وهو مجد إتيان المسيح وخلاصه.
بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلٰهِنَا ذكر أولاً مصدر كل البركات المتوقعة على مجيء المخلص «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ» الخ (يوحنا ٣: ١٦).
ٱلْمُشْرَقُ المراد بهذا المشرق المسيح على سبيل المجاز. وقد تنبأ ملاخي عنه بقوله «تُشْرِقُ شَمْسُ ٱلْبِرِّ» (ملاخي ٤: ٢) واستعار له بطرس ويوحنا «كَوْكَبُ ٱلصُّبْحِ ٱلْمُنِيرُ» (٢بطرس ١: ١٩ ورؤيا ٢٢: ١٦). وأشار إليه زكريا بالشمس في أول طلوعها. فالمسيح لقلوب الناس بمنزلة الشمس للعالم الطبيعي. وغاية كل ذلك أن يسوع هو «نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢).
ِمِنَ ٱلْعَلاَء أي من السماء التي منها يأتي المسيح لا كالشمس الطبيعية التي تظهر عند طلوعها كأنها تصعد من تحت الأفق.
ِلِيُضِيءَ عَلَى ٱلْجَالِسِينَ فِي ٱلظُّلْمَة (انظر شرح بشارة متّى ٤: ١٦).
لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا هذا مجاز بيانه أنه كما أن الجالسين في الظلمة لا يستطيعون أن ينقلوا أقدامهم في طريق مجهولة ما لم يطلع الصباح كذلك الخطأة الجاهلون لا يقدرون أن يسيروا إلى السماء ما لم يضيء لهم المشرق من العلاء أي المسيح. فبهِ يذهبون بأمان إلى موطن السعادة الأبدي.
فِي طَرِيقِ ٱلسَّلاَمِ عبّر بلفظة السلام عن كل بركة وسعادة.
٨٠ «أَمَّا ٱلصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإسْرَائِيلَ».
ص ٢: ٤٠، متّى ٣: ١ و١١: ٧
يَنْمُو أي نمواً جسدياً.
يَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ أي يزيد معرفة وشجاعة وسائر الأخلاق الحسنة. واقتصر لوقا في هذا العدد والعدد السادس والستين على خلاصة ما يتعلق بصبوة يوحنا وحداثته.
وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي أي كان هنالك وقتاً معيناً. وغاية البشير بهذا أن يبيّن انفراد يوحنا عن الناس مدة. ولا ريب أن يوحنا صرف زمن صبوته في بيت والديه في جبال اليهودية قرب حبرون (التي هي مدينة الخليل). وأنه تعلّم منهما ما استطاع أن يعلمه أتقياء اليهود يومئذ من العهد القديم ونبوءاته عن نفسه وعن المسيح. وأنهما ماتا وهو صغير لأنهما كانا قد طعنا في السن عند ولادته. وأن يوحنا انتقل حينئذ إلى براري اليهودية غربي الأردن (متّى ٢: ١) حيث انفرد عن الناس لكي يدرس الأسفار الإلهية ويعاهد الله على الصلاة ويستعد لعمله المعيّن من الله. وكذا فعل موسى فإنه صرف مدة في البرية قبل أن بلغ درجة النبوة وتبليغ شريعة الله وإرشاد الإسرائيليين. وقرن يوحنا انفراده بالقشف والزهد كما يليق بالنذير وبخليفة إيليا في وظيفته. وأن يوحنا مع كونه لاوياً لم يظهر انه تعلّم من الكتبة أو أنه مارس شيئاً من خدمة اللاويين في الهيكل وذلك لأن يوحنا حسب وظيفة النبي أعظم من وظيفة اللاويين وهو الحق.
إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإسْرَائِيلَ أي إلى حين ابتدائه الخدمة العلنية. وبداءة تلك الخدمة حسب شريعة موسى تكون عند بلوغ الخادم سن الثلاثين (عدد ٤: ٣ ولوقا ٣: ٢ و٢٣). وما ذُكر هنا يدل على أنه لم تقع المعرفة الشخصية بين يوحنا والمسيح إلى هذا الوقت لئلا يظن أحد أن شهادة يوحنا للمسيح نتيجة اتفاق سابق بينهما أو صداقة.


الأصحاح الثاني


ميلاد المسيح في بيت لحم ع ١ إلى ٧


١ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ ٱلْمَسْكُونَةِ».
فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي في قرب الزمان الذي وُلد فيه يوحنا المعمدان.
صَدَرَ أَمْرٌ أي أمر ملكي من رومية عاصة مملكة الرومانيين. وكان ميلاد يسوع المسيح على أثر إنفاذ ذلك الأمر في سورية.
أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ وهو أكتافيوس أمبراطور المملكة الرومانية ملك أربعين سنة ومات في سن السادسة والسبعين. وكان يجمع في كل عشر سنين من ملكه بيان أحوال مملكته في قائمة تشتمل على عدد سكان المملكة وثروتهم. ومن مقاصده في ذلك ضرب الجزية عليهم ومعرفة قوة المملكة واقتدارها.
وسبقه عمه الأمبراطور يوليوس قيصر إلى مثل ذلك الاكتتاب والظاهر أنه كان مجرد إحصاء النفوس. وكان هيرودس قد عيّنه أوغسطس ملكاً على سورية فلا بد من أنه بذل الجهد في إرضائه بإنفاذ ذلك الأمر.
كُلُّ ٱلْمَسْكُونَةِ أي كل المملكة الرومانية. وهذا من مصطلح الكتّاب في ذلك العصر لأن أكثر المسكونة المعروفة يومئذ كانت تحت سلطة الرومانيين. واستيلاء الرومانيين على اليهودية حتى عدهم إياهم للجزية برهان على أنه قد حان الوقت المعين لميلاد المسيح حسب نبوءة يعقوب وهي قوله «لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ» (تكوين ٤٩: ١٠).
٢ «وَهٰذَا ٱلاكْتِتَابُ ٱلأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ».
أعمال ٥: ٣٧
كِيرِينِيُوسُ ذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن كيرينوس كان والياً على اليهودية من السنة السادسة للميلاد إلى السنة الحادية عشرة وأنه حصل سجس في الشعب من الاكتتاب الذي أجراه. وأشار لوقا إلى هذا السجس في سفر الأعمال (أعمال ٥: ٣٧). فظن البعض أن لوقا أخطأ بما قيل في كيرينيوس هنا إذ ذكر ممارسة أعماله في سورية قبل أن استولى بست سنين. لكن يظهر جلياً من شهادة مؤرخي ذلك العصر أن كيرينيوس تولى سورية مرتين. تولى الأولى منذ ثلاث سنين قبل الميلاد إلى سنة بعده. ولو لم يكن كيرينيوس تولى سورية مرتين كما ذكر وأجرى الاكتتاب كذلك لم يكن هنا للوقا من حاجة إلى أن يقول «الاكتتاب الأول».
سُورِيَّة كانت تخوم سورية تتغير من وقت إلى وقت والأرجح أنها كانت يومئذ من جبل طورس والفرات شمالاً إلى مصر جنوباً ومن بادية العرب شرقاً إلى بحر الروم غرباً.
٣ «فَذَهَبَ ٱلْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ».
لو كانت سورية ولاية رومانية أصلية لاكتتب كل في مسكنه بلا التفات إلى مكان ميلاده ولكن لكونها كانت خاضعة للدولة الرومانية في بعض الأمور ومستقلة في البعض جرى الاكتتاب حسب عوائد اليهود بالنظر إلى أسباطهم وقبائلهم. فلزم من ذلك رجوع كل واحد إلى وطن أصله للاكتتاب.
ِإِلَى مَدِينَتِه أي وطن عائلته الأصلي.
٤ «فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ ٱلنَّاصِرَةِ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ ٱلَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ».
١صموئيل ١٦: ١ و٤ ويوحنا ٧: ٤٢، متّى ١: ١٦ وص ١: ٢٧
فَصَعِدَ بيت لحم أعلى من الجليل فالذهاب إليها صعود حقيقة. وغلب أن يسمّوا الذهاب إلى عاصمة البلاد صعوداً.
ٱلْجَلِيلِ... ٱلنَّاصِرَةِ (انظر الشرح ص ١: ٢٦ ومتّى ٢: ٢٢ و٢٣).
مَدِينَةِ دَاوُدَ (١صموئيل ١٦: ١ - ٤).
بَيْتَ لَحْمٍ اسم عبراني معناه بيت الخبز وسُمّيت كذلك لخصب أرضها واسمها الأقدم أفراتة وأفراثة (تكوين ٣٥: ١٩ وراعوث ١: ٢ وميخا ٥: ٢).
وكانت في سهم سبط يهوذا (قضاة ١٧: ٧). ولم يُذكر اسمها بين الأماكن التي عينت لسبط يهوذا في سفر يشوع ولعلّ سبب ذلك حقارتها. وهي واقعة على أمد نحو ستة أميال جنوبي أورشليم.
٥ «لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتِهِ ٱلْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى».
متّى ١: ١٨
ٱلْمَخْطُوبَةِ ص ١: ٢٧ ومتّى ١: ١٨ و١٩ و٢٤. وكان من عوائد الرومانيين أن تُكتتب النساء كالرجال إجباراً وإلا فما اضطرت مريم أن تذهب إلى بيت لحم مسافة أربعة أيام وهي على تلك الحال. وقضى الله ذلك لإتمام مقاصده ولكي لا يولد المسيح في الناصرة حيث سكنت مريم بل ليولد في بيت لحم حسب النبوءة (ميخا ٥: ٢) وذهاب مريم مع يوسف إلى بيت لحم للاكتتاب أحد الأدلة على أنها من نسل داود.
ولنا من هذا أنه اتفق أوغسطس وهيرودس وكيرينيوس على إتمام مقاصد الله ونبوات العهد القديم المتعلقة بالمسيح وذلك بدون أن يقصد أحد منهم سوى إجراء إرادته. ولم يخطر على بالهم أن يكونوا آلات لتأسيس مملكة تدوم بعد اضمحلال المملكة الرومانية وملاشاة عبادتها الوثنية.
٦ «وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ».
لا شيء في كلام لوقا من الأدلة القاطعة على تعيين الشهر الذي وُلد فيه المسيح إلا أنه كان فصل من السنة يمكّن الرعاة فيه أن يحرسوا غنمهم في البرية ليلاً. ولما ذهب المسيح إلى يوحنا ليعتمد منه كان ذلك اليوم أول السنة الثلاثين من ميلاد المسيح وهو وفق اليوم الذي وُلد فيه. وكان الوقت موافقاً لاجتماع جموع كثيرة من أهل اليهودية في البرية ليسمعوا كرازة يوحنا المعمدان. ولو كانت معرفة يوم ميلاد المسيح جوهرية لألهم الروح القدس لوقا البشير أن يعينه جلياً.
٧ «فَوَلَدَتِ ٱبْنَهَا ٱلْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي ٱلْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَوْضِعٌ فِي ٱلْمَنْزِلِ».
متّى ١: ٢٥
قَمَّطَتْهُ اي ربطته بالأقمطة حسب عوائد الشرقيين يومئذ وفي هذا اليوم.
فِي ٱلْمِذْوَدِ معلف الدوابّ.
لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَوْضِعٌ فِي ٱلْمَنْزِلِ ذكر ذلك علّة لولادة مريم ابنها في محل الدواب. اضطر كثيرون ممن أصلهم من بيت لحم إلى المجيء إليها وليس لهم مسكن فيها إجابة لأمر القيصر بالاكتتاب حتى امتلأ المنزل بالمسافرين. ولعلّ يوسف ومريم وصلاه بعد غيرهم فوجدوا منزل المسافرين غاصاً بالناس فاضطرا إلى أن ينزلا حيث يجدان مأوى. والظاهر أنه لم يفتح أحد من سكان بيت لحم باب بيته لقبول يوسف النجار وخطيبته. فكانت حقارة مولد يسوع موافقة لكل تاريخ حياته الأرضية لأنه لم يكن له فيها أين يضع رأسه في مساكن الناس. ولما مات دُفن في قبر ليس له مع أنه خالق العالمين. وهذا كان جزءاً من اتضاعه لفداء البشر وهو مما يحقق لأشد الناس فقراً أن لهم مخلصاً يمكنه أن يشترك معهم في شعورهم إذ لم يولد في قصر بل في اصطبل ولم يُربّ بين الأمراء بل في بيت نجار من الجليل. والحق أن المسيح بعد أن ترك مجد السماء وسكن على الأرض لم يبقَ من فرق عظيم عنده بين قصر وكوخ.
أما سنة ولادة يسوع فنعرف من بشارة متّى أنها كانت من سني حياة هيرودس وقبل موته بزمن قصير والأرجح أنه جزء من تلك السنة عينها (متّى ٢: ١ - ٦ و١٩). قال يوسيفوس أن هيرودس مات سنة ٧٥٠ لتأسيس رومية. وعيّن التاريخ المسيحي الشائع ديونيسيوس أغزغيوس في القرن السادس للميلاد وحسب سنة الميلاد سنة ٧٥٤ لتأسيس رومية فأخطأ بأربع سنين.

الملائكة والرعاة ع ٨ إلى ٢٠


٨ «وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ ٱللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ».
فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ أي في الأرض المجاورة لبيت لحم.
رُعَاةٌ الأرجح أن هؤلاء الرعاة كانوا رجالاً أتقياء انتظروا كسمعان الشيخ «تعزية إسرائيل» وأنهم كانوا وهم يحرسون الغنم ليلاً يتذاكرون بنبوءات العهد القديم المتعلقة بالمسيح وكانوا يصلّون ويشتاقون إلى إتمامها كسمعان نفسه (ع ٣٥). فلم يكن إعلان ولادة المسيح لملوك أو أمراء أو فلاسفة أو كهنة أو كتبه أو فريسيين بل لرعاة بسطاء. وهذا وفق قول الرسول «ٱسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ، أَمَا ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ فُقَرَاءَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي ٱلإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ ٱلْمَلَكُوتِ ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يعقوب ٢: ٥).
مُتَبَدِّينَ أي كائنين في البادية أي البرية كأهل البدو.
٩ «وَإِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَـهُمْ، فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً».
ص ١: ١٢
إِذَا هي إذاً المفاجأة.
مَلاَكُ ٱلرَّبِّ الأرجح أنه كان في هيئة إنسان كما في بشارة مرقس (مرقس ١٦: ٥). وظهر الملائكة لرؤساء الآباء والأنبياء وقواد الجنود وظهروا هنا لرعاة ودعاء وفقاً لقوله «وَٱلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ» (متّى ١١: ٥).
وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أي نور غريب وهو علامة الإعلان الإلهي في خيمة الاجتماع والهيكل (١ملوك ٨: ١٠ و١١ وإشعياء ٦: ١ - ٣ وأعمال ٩: ٣ و٢٢: ١١) (انظر الشرح متّى ١٧: ٥).
فَخَافُوا غلب أن يكون ظهور الملائكة للناس علّة خوف لهم لأنه أول ما يخطر على البال أنهم أتوا للدينونة (متّى ٢٢: ٥ - ٩ ولوقا ١: ١٣ و٣٠).
١٠ «فَقَالَ لَـهُمُ ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ».
تكوين ١٢: ٣ ومتّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١: ١٥ وع ٣١ و٣٢ وص ٢٤: ٤٧ وكولوسي ١: ٢٣
أَنَا أُبَشِّرُكُمْ كان هذا الملاك أول مبشر بالمسيح واشتملت بشارته على أنه رُفعت عن العالم الظلمة الروحية التي غطته نحو أربعة آلاف سنة. وأنه قد تم وعد الله بتمهيد الطريق إلى نوال الخاطئ مغفرة الخطايا والمصالحة لله. وإلى سحق رأس الشيطان. والمناداة بالعتق لأسرى الخطيئة وإلى إظهار أنه كيف يكون الله باراً ويبرر الأثمة.
بِفَرَحٍ... لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ أي لجميع الذين يقبلون البشارة والمسيح المبشَّر به. فيمكن كل خاطئ أن يشترك في ذلك الفرح إن أراد. وعرض على اليهود أولاً ثم على جميع الأمم على اختلاف صنوفهم وألسنتهم (ع ٣٢ وص ١: ٧٩).
١١ «أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ».
إشعياء ٩: ٦، متّى ١: ٢١، متّى ١: ١٦ و١٦: ١٦ وص ١: ٤٣ وأعمال ٢: ٣٦ و١٠: ٣٦ وفيلبي ٢: ١١
وُلِدَ لَكُمُ أي لكم أيها الرعاة باعتبار أنكم أفراد تتوقعون مجيء المسيح وباعتبار أنكم بشر أي من جنس محتاج إلى مخلص أُرسل إليه. وغاية ولادة المسيح ليس لمجده بل لمنفعة الناس بإنقاذهم من الهلاك الأبدي وبمنحهم الحياة الأبدية. فولادة المسيح هي علّة الفرح الذي ذُكر في العدد العاشر وهي موضوع تبشير الملائكة هنا.
فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ أي في بيت لحم.
مُخَلِّصٌ لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم (متّى ١: ٢١)
ٱلْمَسِيحُ أي الممسوح من الله الآب نبياً وكاهناً وملكاً (انظر الشرح متّى ١: ١).
ٱلرَّبُّ هذا اللقب استعمله لوقا دائماً بمعنى يهوه في العهد القديم (ص ١: ٦ و٩ و١١ و١٥ و١٦ وص ٢٣: ٢ وأعمال ٢: ٣٦) والمسيح هو الرب لأنه خالق وملك (كولوسي ١: ١٦ - ١٨). وبهذا الكلام علّم الملاك الرعاة أن ذلك الطفل هو إله متجسد وأنه هو المسيح المنتظر. فكان إعلان الملاك للرعاة أعظم من الإعلان لمريم وليوسف إذ لم يعلن لهما إلا أن يكون اسمه يسوع وأنه يكون عظيماً وأنه ابن العلي ووارث كرسي داود.
١٢ «وَهٰذِهِ لَكُمُ ٱلْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ».
عَلاَمَة هي غرابة أن يوضع الولد عند ولادته في مذود أي معلف دوابّ. وعدم الموافقة بين سمو أصله وعظمة وظيفته ودناءة حاله لأنه لا يتوقع أن يكون سرير الملك معلف دواب. وأُعطيت هذه العلامة للرعاة من دون أن يطلبوها كما أنه أعطيت العلامة لمريم من دون طلبها (ص ١: ٣٦). فاحتاج الرعاة إلى علامة لكي يميزوا الطفل من سائر أطفال بيت لحم. وليس من المرجّح أنه وُلد في تلك الليلة أطفال كثيرون في بيت لحم ويقرب من المحال أن يولد آخر ويوضع في المذود أيضاً.
١٣ «وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ ٱلْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ ٱللّٰهَ وَقَائِلِينَ».
تكوين ٢٨: ١٢ و٣٢: ١ و٢ ومزمور ١٠٣: ٢٠ و٢١ و١٤٨: ٢ ودانيال ٧: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤ ورؤيا ٥: ١١
ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ هم الملائكة ويعبّر عنهم الكتاب غالباً بجيش يحيط عرش الله (١ملوك ٢٢: ١٩ و٢أيام ١٨: ١٨ ومزمور ١٠٣: ٢١ ودانيال ٧: ١٠ ومتّى ٢٦: ٥٣ ورؤيا ١٩: ١٤) فظهر مع الملاك الذي خاطب الرعاة أولاً كثيرون من الملائكة.
مُسَبِّحِينَ الأرجح أنه لم يسمع هذا التسبيح أحد على الأرض سوى الرعاة.
١٤ «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ».
ص ١٩: ٣٨ وأفسس ١: ٦ و٣: ١٠ و٢١ ورؤيا ٥: ١٣، إشعياء ٥٧: ١٩ وص ١: ٧٩ ورومية ٥: ١ وأفسس ٢: ١٧ وكولوسي ١: ٢٠، يوحنا ٣: ١٦ و٢كورنثوس ٥: ١٩ وأفسس ٢: ٤ و٧ و٢تسالونيكي ٢: ١٦ و١يوحنا ٤: ٩ و١٠
كان موضوع ترنم الملائكة ميلاد المسيح ويصح أن تحسبه تسبيحاً ودعاء. وكان لهم في ميلاد المسيح ثلاثة أسباب للفرح:

  • الأول: أنه في السماء يمجد الله.
  • الثاني: أنه على الأرض تأسس ملكوت السلام لكي يبطل الخصام بين الناس.
  • الثالث: أنه كان بين السماء والأرض مصالحة فيرضى الله عن الناس والناس يكرمونه ويحبونه.


ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ إن مجد الله غير محدود فهو لا يقبل الزيادة بشيء من الوسائط لكنه يزيد ظهوراً لمخلوقاته بمعلنات جديدة. وهذا المجد هو ما أظهر بالمسيح للخلائق من صفات الآب كالحكمة والعدل والحق والرحمة والمحبة التي لا يمكن ظهورها بغير المسيح.
والمسيح نفسه مجد الله بقداسته وطاعته وصلواته وما أتاه من أعمال الرحمة وتعاليمه وموته إكراماً لشريعته وإنقاذاً للإنسان الساقط. نعم إن عمل الخليقة أظهر مجد الله وترنم به الملائكة وقتئذ (أيوب ٣٨: ٧) لكن ميلاد المسيح كان أكثر إظهاراً لذلك المجد. والجموع الذين احتفلوا بدخول يسوع إلى أورشليم ترنموا كما ترنم الملائكة بقولهم «مجد في الأعالي» (ص ١٩: ٣٨).
فِي ٱلأَعَالِي أي في أعلى السماوات.
وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ أن المسيح هو رئيس السلام (إشعياء ٩: ٥) وذلك لأربعة أمور:

  • إنّه رسول السلام من السماء إلى الأرض لا رسول النقمة والدينونة.
  • إنّه منشئ السلام بين إنسان وإنسان (أفسس ٢: ١٤).
  • إنّه مانح الضمير سلاماً بتحقيق مغفرة الخطايا.
  • إنّه وسيط السلام بين السماء والأرض أي بين الله والناس. ويشتمل السلام هنا على كل فوائد الفداء.


وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ أي رضى الله عن الناس وهو إظهار محبته لهم بميلاد ابنه (يوحنا ٣: ١٦ وأفسس ١: ٥ و٩ و١٠ وتيطس ٣: ٤). وكانت غاية المسيح من كل أقواله وأفعاله على الأرض إعلان محبة أبيه الفائقة للناس. وأما موته فهو أجلى برهان على تلك المحبة (على أن كل خير في الدنيا نتيجة مسرته تعالى). والمسرة في الجملة الثالثة جزء عظيم من موضحات «السلام» في الجملة السابقة. وكلٌ من السلام والمسرة لا يشين مجد الله بل يوافقه ويؤول إليه.
وترجم بعضهم الجملتين الأخيرتين بجملة واحدة فصارتا و «على الأرض السلام لذوي المسرة» أي مختاري الله.
١٥ «وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، قَالَ ٱلرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لِنَذْهَبِ ٱلآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هٰذَا ٱلأَمْرَ ٱلْوَاقِعَ ٱلَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ ٱلرَّبُّ».
مَضَتْ... إِلَى ٱلسَّمَاءِ لأن السماء مسكنهم وإنما يأتون إلى الأرض رُسلاً.
إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ أي مدينة داود التي قال الملاك أن المسيح يولد فيها.
وَنَنْظُرْ هٰذَا ٱلأَمْرَ لم تكن غايتهم من ذلك تحقيق خبر الملاك لأنهم صدقوه لكنهم أرادوا اغتنام الفرصة لمشاهدة ذلك الأمر العظيم الذي بشرهم الملاك به. وفي قول الملاك تلميح بأمره لهم بالذهاب (ع ١٢). والقرينة تدل على أنهم عزموا على الذهاب حالما ارتفعت الملائكة عنهم مع أنه كان منتصف الليل وذلك يحملهم على أن يتركوا رعيتهم بلا حارس.
أَعْلَمَنَا بِهِ ٱلرَّبُّ أي بلّغنا إياه بواسطة الملاك.
١٦ «فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَٱلطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي ٱلْمِذْوَدِ».
مجيئهم مسرعين يدل على شدة رغبتهم لمشاهدة المسيح. فنستنتج من ذلك أنهم كانوا متوقعين إتيانه ومسرورين بالتبشير به وأقوياء الإيمان ومستعدين للطاعة حالاً فشاهدوا كما قيل لهم في الآية الثانية العشرة. وكانت بيت لحم قرية صغيرة فلم يصعب عليهم أن يجدوا المنزل واصطبله.
١٧ «فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي قِيلَ لَـهُمْ عَنْ هٰذَا ٱلصَّبِيِّ».
أَخْبَرُوا أي يوسف ومريم. والأرجح أنهم لم يقتصروا على إخبارهما بل بشروا بذلك في الصباح غيرهم ممن كانوا يتوقعون المسيح توقُعهم. ولا بد أن مريم ويوسف قد فرحا بما أخبروهما وتقوى إيمانهما.
بِٱلْكَلاَمِ الخ أي خبر الملاك لهم وترنم الجند السماوي. ولعلهم أضافوا إلى ذلك في إنبائهم أهل القرية ما سمعوا من مريم ويوسف من رُؤى الملائكة في شأنه قبل ولادته. فكان الملاك أول المبشرين بذلك من أهل السماء وكان الرعاة أول المبشرين به من أهل الأرض ونقلوا إلى أهل بيت لحم وإلينا نبأ ذلك المشهد العظيم وتلك الترنيمة السماوية.
١٨ «وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَـهُمْ مِنَ ٱلرُّعَاةِ».
كان يجب أن يكون تأثير شهادة الرعاة في سكان بيت لحم عظيماً حتى أنهم يصدقون أن الطفل المولود هو المسيح المنتظر وأن يقبلوه كذلك ولكن لم يكن من تأثير سوى تعجبهم. ولعلّ سبب ذلك دناءة حال هذا المولود بخلاف ما كانوا يتوقعون ولكن إذا جمعنا كل التأثيرات من ولادة المسيح رأيناها خمسة:

  • تسبيح الملائكة.
  • شهادة الرعاة بالتمجيد والتسبيح.
  • حفظ مريم تلك الأمور وتفكرها فيه.
  • تعجب الملائكة.
  • اضطراب هيرودس وعزمه على قتل الصبي (متّى ٢: ١٦).


١٩ «وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذَا ٱلْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا».
تكوين ٣٧: ١١ وص ١: ٦٦ وع ٥١
في هذه الآية مقابلة بين مريم وغيرها ممن ذُكروا في الآية التالية فإن الأولين تعجبوا مما كان ونسوه حالاً وأن الآخرين مجّدوا وسبّحوا جهراً. وأما مريم فكانت تحفظ كل ذلك متفكرة فيه أي أنها كانت تذكر ما قاله الرعاة وما سمعته من زكريا وأليصابات باللفظ الواحد. وربما كانت نتيجة تذكرها هذا وصول هذا الخبر المدقق إلينا مما نقله لوقا عن لسانها بعد ذلك (ص ١: ٢ و٣).
وقوله «في قلبها» متعلق بقوله «تحفظ».
مُتَفَكِّرَةً بِهِ أي متأملة فيه لكي تعلم حقيقة ذلك المولود حق العلم وما يجب عليها له. وتجسد الله في شخص يسوع سر عظيم لم يمكن مريم أن تدركه دفعة بل عرفته بعض المعرفة شيئاً فشيئاً بكل معجزة وشهادة جديدة. والتفكر في الحقائق العظيمة هو أفضل وسيلة إلى حفظها في الذاكرة.
٢٠ «ثُمَّ رَجَعَ ٱلرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَـهُمْ».
رَجَعَ ٱلرُّعَاةُ أي عادوا إلى حيث كانوا.
ُيُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ وَيُسَبِّحُونَه هؤلاء الرعاة مثال لنا في الإيمان والطاعة والشكر لله والتسبيح له والرغبة في أن يسمع غيرهم ما سمعوه من البشارة.
مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ أي ما سمعوا من الملائكة ويوسف ومريم ومما رأوه بأعينهم.

ختان يسوع وتقديمه في الهيكل ع ٢١ إلى ٣٩


٢١ «وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ ٱلْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي ٱلْبَطْنِ».
تكوين ١٧: ١٢ ولاويين ١٢: ٣ وص ١: ٥٩ وفيلبي ٣: ٥ وعبرانيين ٢: ١٧، متّى ١: ٢١ و٢٥ وص ١: ٣١
لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ إطاعة لشريعة موسى وهي أنه «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ يُخْتَنُ لَحْمُ غُرْلَتِهِ» (لاويين ١٢: ٣). والختان كماء المعمودية علامة التطهير وختم أهل الله. وكان ختان المسيح كمعموديته في الغاية أي تكميل كل برّ (متّى ٣: ١٥) ولولا ختانه لم يقبله اليهود كواحد من شعب الله ولم يسمحوا له بالدخول إلى الهيكل ولم يسمعوا له كمعلم فاختتن المسيح لأنه كان «مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية ٤: ٤ و٥).
واختتن لكي «يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين ٢: ١٧) مع أنه كان بلا خطية فلا يحتاج بذاته إلى التطهير ولا إلى علامته (عبرانيين ٤: ١٥ و١يوحنا ٣: ٥).
فالمسيح أكرم بذلك طقوس الديانة الخارجية وكان مثالاً لنا فيه. ومن هنا نستنتج وجوب وقف الأولاد جهاراً لله بالمعمودية ودخولهم كذلك في أول الحياة في التعهد لله وكنيسته. وختان الجسد رمز إلى ختان القلب أي نزع الشهوات الجسدية وهو ضروري لنا بخلاف المسيح لأنه لم يكن في حاجة إليه.
سُمِّيَ يَسُوعَ مرّ تفسير هذا في متّى ١: ٢١ وأظهر يوسف ومريم بتسميته كذلك إيمانهما وطاعتهما (متّى ١: ٢١ و٢٥ ولوقا ١: ٣١).
وليسوع ألقاب كثيرة بالنسبة إلى وظائفه المتنوعة كملك ونبي وكاهن وديّان الخ. وفضل المسيح استعمال يسوع (أي المخلص) منها لأنه يشير إلى عمله على الأرض أكثر مما سواه. والذين سمّوا في الكتاب قبل أن يولدوا ستة إسماعيل (تكوين ١٦: ١١). وإسحاق (تكوين ١٧: ١٩). ويوشيا (١ملوك ١٣: ٢). وكورش (إشعياء ٤٤: ٢٨). ويوحنا المعمدان (لوقا ١: ١٣). ويسوع (ص ١: ٣١).
٢٢، ٢٣ «٢٢ وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ،٢٣ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوساً لِلرَّبِّ».
لاويين ١٢: ٢ إلى ٦، خروج ١٣: ٢ و٢٢: ٢٩ و٣٤: ١٩ وعدد ٣: ١٣ و٨: ١٧ و١٨: ١٥
أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا لاويين ١٢: ١ - ٨.
كانت المدة بين الولادة ويوم التطهير أربعين يوماً أو ثلاثة وثلاثين يوماً بعد الختان (لاويين ١٢: ٤). وكانت الأم تُحسب قبل نهاية تلك المدة نجسة أي غير جائز لها أن تدخل الهيكل. والأرجح أن مريم بقيت في هذه المدة كلها في بيت لحم.
صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ ذهبوا به إلى أورشليم لأن الهيكل هنالك. وكان ذلك قبل مجيء المجوس لا محالة لأنه لو لم يكن كذلك لكان على الصبي خطر عظيم من هيرودس لحسده وقصده قتل يسوع بعد مجيء المجوس ولأن يوسف ذهب بالصبي حالما انصرف المجوس من بيت لحم.
لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ كان ذلك مفروضاً على أبكار الذكور. لأن الله بعد أن ضرب كل أبكار المصريين وجاز عن أبكار الإسرائيليين صرّح بأن كل الأبكار الذكور له أي بوجوب أن يخدموه كهنة (خروج ١٣: ٢ و١٢ وعدد ٣: ١٣). ثم أخذ كل سبط لاوي بدل الأبكار كلهم لكي يكونوا كهنة له (عدد ٣: ١٢). ولأن ذكور اللاويين كانوا دون أبكار إسرائيل عدداً أمر أن يُفدى كل بكر بالدراهم (عدد ٣: ٢٦ و٢٧ و٨: ١٣ و١٨ و١٨: ١٦ و١٧). وكان مبلغ الفداء عن كل بكر خسمة شواقل أي نحو ثمانين غرشاً تجارياً. ووفقاً لذلك الأمر أتوا بيسوع إلى الهيكل في ذلك الوقت. والأرجح أنهم أدوا عنه ذلك المبلغ مع أنه كان رئيس الأحبار والهيكل الحقيقي. وهذا من جملة أمور تنازله. ولم تطالب أبكار المسيحيين بذلك لأنهم بواسطة المسيح صاروا كهنة لله (١بطرس ٢: ٩ ورؤيا ٥: ١٠).
فَاتِحَ رَحِمٍ أي بكراً.
قُدُّوساً لِلرَّبِّ أي مفروزاً لخدمته تعالى (خروج ١٣: ٢).
٢٤ «وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ، زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ».
لاويين ١٢: ٢ و٦ و٨
هذا العدد متعلق بالعدد الثاني والعشرين وما بينهما معترض.
ذَبِيحَةً كانت ذبيحة التطهير للمرأة خروفاً حولياً أي ابن سنة يحرق وفرخ حمامة أو يمامة يذبح عن الخطيئة (لاويين ١٢: ٦). وإذا كان الوالدان فقيرين رُضي منهما بدل ذلك بيمامتين أو فرخي حمام أحدهما محرقة والآخر ذبيحة خطية. وتقدمة مريم تدل على أنها كانت فقيرة لأنها قدّمت ما كان على الفقير. وهذا أيضاً من تنازل المسيح لأجلنا (٢كورنثوس ٨: ٩). فمريم وإن عجزت عن أن تقدّم للرب خروفاً قدّمت في الهيكل أفضل من ذلك أي حمل الله.
٢٥ «وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ ٱسْمُهُ سِمْعَانُ، كَانَ بَارّاً تَقِيّاً يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ».
إشعياء ٤٠: ١ ومرقس ١٥: ٤٣ وع ٣٨
سِمْعَانُ ظن بعضهم أن سمعان هذا ابن هليل الرباني المشهور وأبو غمالائيل معلم بولس (أعمال ٥: ٣٤). ولكن لا دليل على ذلك سوى التسمية والوقت لأنه ذكر في كتاب اليهود أن سمعان بن هليل كان في ذلك الوقت.
بَارّاً تَقِيّاً أي حافظاً شريعة موسى حفظاً تاماً ومجتهداً في القيام بكل واجباته لله وللناس (أعمال ٢: ٥ و٨: ٢).
تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ أي المسيح لأن اليهود انتظروا أنه يعزيهم متى جاء على كل بلاياهم. وهذا وفق تسمية بولس للمسيح بأنه «رجاء إسرائيل» (أعمال ٢٨: ٢٠). وقوله ينتظر تعزية إسرائيل وفق قوله «المنتظرين فداء في أورشليم» (ع ٣٨). ولا ريب في أن المسيح أعظم تعزية لكل الذين يعرفونه ويقبلونه وهو دعا نفسه كذلك ووعدهم بإرساله معزياً آخر هو الروح القدس (يوحنا ١٤: ١٦).
وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ تفسير هذا العدد التالي أي أنه كان ملهماً من الروح القدوس.
٢٦ «وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ ٱلرَّبِّ».
مزمور ٨٩: ٤٨ وعبرانيين ١١: ٥
أُوحِيَ إِلَيْهِ لم يخبر لوقا بأي طريق أوحى إليه الروح أحلماً كان ذلك أم رؤيا أم صوتاً مسموعاً.
لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ أي لا يموت (مزمور ٨٩: ٤٨ ويوحنا ٨: ٥١) ويلزم من هذا أنه كان طاعناً في السن وزاد عمره على الوقت المعين للبشر وأنه يموت على أثر ما يرى المسيح. ولعلّ وعد الله إياه بذلك كان جواباً لصلواته.
مَسِيحَ ٱلرَّبِّ أي الذي وعد الرب به وأرسله ومسحه بروحه.
٢٧ «فَأَتَى بِٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِٱلصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَـهُ حَسَبَ عَادَةِ ٱلنَّامُوسِ».
متّى ٤: ١
فَأَتَى بِٱلرُّوحِ أي أن الروح القدس حمله حينئذ على إتيان الهيكل. وربما أوحى إليه أن إنجاز ما وُعد به يكون في ذلك الوقت.
إِلَى ٱلْهَيْكَلِ أي إلى دار الهيكل التي يقدّم الأولاد فيها وهي دار النساء.
أَبَوَاهُ أي يوسف ومريم وعبّر لوقا عنهما بالأبوين جرياً على ما شاع بين عامة الناس يومئذ بقطع النظر عن الحقيقة.
لِيَصْنَعَا لَـهُ الخ أي أن يقدّماه للرب ويؤديا الفداء عنه.
٢٨ «أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ وَقَالَ».
أَخَذَهُ لم يخبر أحد من الناس سمعان بميلاد ذلك الصبي وما كان من غرائب ذلك الميلاد إنما أنبأه بذلك الروح القدس. ولم يكتف بأن يراه حسب وعد الله بل مسكه بيده وحمله زيادة ليقينه ومحبة له وسروراً به.
وَبَارَكَ ٱللّٰهَ أي سبح الله وشكره.
٢٩ «ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ».
تكوين ٤٦: ٣٠ وفيلبي ١: ٢٣
كان الذين نطقوا بكلمات الوحي الشعرية في أمر ميلاد المسيح خمسة وهم زكريا وأليصابات ومريم وسمعان وحنة.
ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ أشار سمعان بهذا الكلام إلى أن حياته كانت مشقة وعبودية وأن موته راحة وعتق من خدمة عجز عن إتمامها لهرمه. وإلى أنه طال عمره لمجرد مشاهدة المسيح وأجيبت صلاته بتلك المشاهدة وأنجز له وعد الله ونال ما توقعه ولم يبق له شيء من المشتهيات في هذه الحياة ليرغب فيها. فرغب في الرحيل من هذا العالم إلى العالم الأبدي إذا أذن له الرب.
حَسَبَ قَوْلِكَ أي الوحي الذي ذُكر في العدد السادس والعشرين.
بِسَلاَمٍ أي مسرتهِ بمشاهدة المسيح ونوال مشتهاه واتخاذه ذلك علامة رضى الله به والاطمئنان في المستقبل.
ولنا من ذلك أن الله لا يخيّب رجاء من يتكل على وعده. وأنه لا شيء يزيل رعب الموت ويهيء الإنسان للانطلاق من هذه الحياة مثل مشاهدة المسيح بعين الإيمان فادياً ومخلصاً.
٣٠ «لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ».
إشعياء ٥٢: ١٠ وص ٣: ٦
خَلاَصَكَ أي المخلص الذي وعدت به وأرسلته ليمنح الخلاص.
٣١ «ٱلَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ».
جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ أي القسمين المذكورين في العدد الآتي. فعلم سمعان أن خلاص المسيح للبشر عموماً لا لليهود وحدهم.
٣٢ «نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ».
إشعياء ٩: ٢ و٤٢: ٦ و٤٩: ٦ و٦٠: ١ و٢ و٣ ومتّى ٤: ١٦ وأعمال ١٣: ٤٧ و٢٨: ٢٨
إن ما في هذا العدد شرح للخلاص في العدد الثلاثين.
نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ أي أن المسيح يعلن للأمم ما لله وطريق الحياة الأبدية بدم نفسه. ويعبّر الكتاب عن الأمم بالجالسين في ظلمة الجهالة والخطية وأن المسيح هو شمس المعرفة والبرّ لهم (إشعياء ٩: ٢ و٦٠: ١ - ٦ وملاخي ٤: ٢).
وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ كان المجد لإسرائيل لأنهم أعطوا المواعيد بمجيء المسيح أولاً. وأن المسيح وُلد منهم وأنه علّم وعمل بينهم معجزاته وبشرهم أولاً بخلاصه (ص ٢٤: ٤٧ ويوحنا ٤: ٢٢). وحُجب عنهم هذا المجد وقتياً لأنهم رفضوا مسيحهم لكنهم سوف يقبلون المسيح فتكون آخرتهم ممجدة.
٣٣ «وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ».
يُوسُفُ وَأُمُّهُ أظهر لوقا صريحاً أن يوسف ليس بأبيه حقيقة. وهو قرينة جلية على المجاز في قوله «أبوه» في العدد السابع والعشرين.
يَتَعَجَّبَانِ الخ علّة تعجبهما ما قاله سمعان في عظمة ذلك الطفل مع ما هو ظاهر من ضعفه. ويتبين من هذا أن يوسف ومريم لم يدركا كل معنى ما سمعاه من الملاك والرعاة. نعم فهما من ذلك أن الطفل سيكون عظيماً ولكنهما لم يفهما أنّ عظمته تبلغ المبلغ الذي أبانه سمعان. ويحتمل أنهما تعجبا أيضاً من معرفة سمعان الشيخ كل تلك الحقائق المتعلقة بيسوع عند أول مشاهدته إياه مع أنه غريب عنهما. ولعلهما تعجبا أيضاً من قول سمعان أن الأمم يشاركون اليهود في فوائد مجيء المسيح.
٣٤ «وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: هَا إِنَّ هٰذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ».
إشعياء ٨: ١٤ وهوشع ١٤: ٩ ومتّى ٢١: ٤٤ ورومية ٩: ٣٢ و٣٣ و١كورنثوس ١: ٢٣ و٢٤ و٢كورنثوس ٢: ١٦ و١بطرس ٢: ٧ و٨، أعمال ٢٨: ٢٢
وَبَارَكَهُمَا أي طلب بركة الله عليهما.
وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ يظهر من هذا ان سمعان علم بالوحي حقيقة نسبة مريم إلى يسوع وهي أنها أمٌ عذراء له.
وُضِعَ أي عُيّن يعني عيّنه الله.
لِسُقُوطِ أي لأن يكون صخرة عثرة للبعض. وهم الذين لا يؤمنون به فيهلكون لأن آمالهم الدنيوية لا تُبلغ بواسطته. وذلك أن اليهود توقعوا منقذاً دنيوياً فخابوا. ووبخهم يسوع على كبريائهم وريائهم فأبغضوه ورفضوه ولذلك وقع الويل على مدينتهم وأمتهم.
وَقِيَامِ أي لأن يكون على إنهاض للساقطين الذين يتضعون بالتوبة ويؤمنون به. وتبين من هذا ان المسيح «رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولٰئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ» (٢كورنثوس ٢: ١٦). (قابل هذا بما يأتي إشعياء ٨: ١٤ و١٥ ورومية ٩: ٣٣ و١كورنثوس ١: ٢٣ و١بطرس ٢: ٧ و٨).
وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ هذا نبوءة باضطهاد اليهود للمسيح. أُنجزت بما جرى عليه مدة حياته كلها ولا سيما وقت صلبه. ومقاومتهم له اشتملت على شهادات الزور عليه واستهزائهم به وبغضهم له وقتلهم إياه.
وكلما قاله الشيخ سمعان في المسيح تم أولاً في يهود عصره ثم تم في الأرض كلها من ذلك الوقت إلى اليوم أي انه أتى مخلصاً لكل الناس فرفضه بعضهم فهلك وقبله البعض مخلصاً. ولا يزال يقاوم اليوم بمقاومة تلاميذه ودينه.
٣٥ «وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ».
مزمور ٤٢: ١٠ ويوحنا ١٩: ٢٥، يوحنا ٩: ٣٩
يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ هذا مجاز حقيقته أنه يصيب مريم أشد الأحزان. هذا بعد أن سمعت قول الملاك أن مجيء المسيح يكون على فرح عظيم لجميع الشعب (ع ١٠) فلعلها انتظرت بذلك أن نسبتها إلى المسيح لا تكون إلا علّة فرح لها وما سمعته من سمعان هنا خلاف ما انتظرت. أما علّة حزنها الشديد فخيبة أملها أن يقبل اليهود ابنها ورفضهم أنه مسيحهم. وجاز ذلك السيف في نفسها عندما اجتهد رجال الناصرة أن يطرحوه من الجبل (لوقا ٤: ٢٩). وعندما جدف عليه الفريسيون بقولهم أنه يخرج الشياطين ببعلزبول (متّى ١١: ٤٦). وحين قبضوا عليه كمهيج فتنة وكمجدف. ولما حُكم عليه بالموت وعندما وقفت قرب الصليب وسمعت اليهود يهزأون به (يوحنا ١٩: ٢٥). وعندما أسلم الروح ودُفن في القبر.
لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ الخ اللام هنا متعلقة بقوله وُضع في العدد الرابع والثلاثين.
ادعى اليهود أنهم أولاد الله وتظاهروا بالخضوع له تعالى ولكن لما أتى المسيح الذي هو مُعلن صفات الله كُشف بإساءتهم إليه رياءهم وظهرت كبرياؤهم وطمعهم وبغضهم للآب (متّى ٢٣: ٢٥ - ٢٨).
ويوافق هذا قول يسوع في اليهود بعد ذلك «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَـهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا ٱلآنَ فَلَيْسَ لَـهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ» (يوحنا ١٥: ٢٢).
وتمتحن قلوب الناس وتعلن أفكارهم أصالحة هي أم شريرة بهذا السؤال وهو «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي ٱلْمَسِيحِ» (متّى ٢٢: ٤٢). وامتحنت أفكار اليهود بواسطة تعليم المسيح بينهم. فأعلن ما كان من الخير في قلوب العشارين والزناة تحت حجاب سيرتهم الرديئة. وما كان من الشر في قلوب الفريسيين الذين هم كالقبور المكلسة تحت حجاب الرياء وبشارة الصليب اليوم امتحان لكل إنسان تعلن به أفكاره الحقيقية أمتكلٌ على بره الذاتي أم شاعر بأنه خاطئ ومحتاج إلى برّ المسيح «لٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١: ٢٣ و٢٤).
وما يستحق الالتفات إليه عدة الأسماء التي عبّر بها سمعان عن المسيح وهي تعزية إسرائيل (ع ٢٥) ومسيح الرب (ع ٢٦) وخلاص الله (ع ٣٠) ونور ومجد (ع ٣٢) وعلامة تقاوم (ع ٣٤).
٣٦، ٣٧ «٣٦ وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. ٣٧ وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لاَ تُفَارِقُ ٱلْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَاراً».
أعمال ٢٦: ٧ و١تيموثاوس ٥: ٥
ذُكرت حنة هنا لبيان حسن شهادتها إكراماً للمسيح وإثباتاً لدعواه. واسمها كاسم أم صموئيل النبي (١صموئيل ١: ٢).
نَبِيَّةٌ دُعيت كذلك لأنه اتضح أنها كانت ملهمة من الروح القدس.
بِنْتُ فَنُوئِيلَ ذُكر اسم أبيها ولم يذكر اسم زوجها.
مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ هو أحد أسباط إسرائيل العشرة التي أسرها شلمناسر ملك أشور (٢ملوك ١٧: ٣ و٦). وينتج من هذا أن بعض هذا السبط حفظ جدول نسبته منذ السبي.
مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ كما ذكر فيما بعده بالتفصيل وهو أنها عاشت مع زوج سبع سنين وبقيت أرملة أربعاً وثمانين سنة. فإذا أضفنا إلى ذلك ست عشرة سنة قبل زواجها وهو أقل ما يصح فرضه هنا كان عمرها مئة سنة وسبع سنين. وعلى هذا تكون قد ترملت في سن الثالثة والعشرين. فإذن تكون قد شاهدت أخذ بمبيوس القائد الروماني مدينة أورشليم وذلك قبل الميلاد بنحو ثلاث وستين سنة وبداءة حكم بيت هيرودس في اليهودية سنة تسع وثلاثين قبل الميلاد.
لاَ تُفَارِقُ ٱلْهَيْكَلَ إن هذا القول لا يفيد أنها كانت تأكل وتنام في الهيكل بل أنها لم تغب عنه في وقت من أوقات الخدمة الدينية فكانت تحضر تقديم الذبائح صباحاً ومساءً وما فُرض خصوصاً من فروض الديانة في السبوت والأعياد. ويظهر من ذلك أنها لم تكن تبالي بغير أمور الديانة وأنها كانت تفضلها على كل ما سواها.
بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ فُرض كلا هذين الأمرين في شريعة موسى على كل اليهود وقامت بها حنة أحسن قيام. ولا ريب في أنها كانت معروفة ومكرمة من جميع الناس لكبر سنها وتقواها.
٣٨ «فَهِيَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ».
مرقس ١٥: ٤٣ وع ٢٥ وص ٢٤: ٢١
كما شهد ليسوع سمعان من الرجال شهدت له حنة من النساء إذا اعترفت بأنه هو المسيح وسبّحت الله على إرساله إياه وبشرت به غيرها.
ٱلرَّبَّ أي الله الآب.
عَنْهُ أي عن يسوع أنه المسيح.
ٱلْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ هذا يدل على أنه كان في أورشليم أناس أتقياء درسوا النبؤات وفهموا منها أنه قد اقترب وقت إتمامها بإتيان الفادي إلى أورشليم. والأرجح أن هؤلاء كانوا يأتون الهيكل في أوقات الصلاة فكان بذلك لحنة فرصة أن تكلمهم وتبشرهم بالمسيح.
٣٩ «وَلَمَّا أَكْمَلُوا كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ نَامُوسِ ٱلرَّبِّ، رَجَعُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ إِلَى مَدِينَتِهِمُ ٱلنَّاصِرَةِ».
كُلَّ شَيْءٍ أي كل ما تطلبه شريعة موسى في مثل هذا الأمر وهي ثلاثة:

  • الأول: ختان الولد.
  • الثاني: تطهير الأم مع تقديمها التقدمة المعينة.
  • الثالث: تقديم الصبي في الهيكل مع فداء البكر وهو الشواقل المعينة كما ذكرنا آنفاً.


رَجَعُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ هذا لا ينفي مضي مدة بين إتيانهم إلى الهيكل وذهابهم إلى الجليل. والأرجح أن ذلك لم يقع إلا بعد رجوعهم إلى بيت لحم وزيارة المجوس لهم وهربهم إلى مصر (متّى ٢: ١ - ١٢). وكل تلك الحوادث لم ير لوقا أن ذكرها من ضروريات قصده. وما ذكره يوافق ما قاله متّى (متّى ٢: ٢٢ و٢٣). ومثل ذلك ما جاء في خبر بولس في موضع من أنه أتى من دمشق إلى أورشليم (أعمال ٩: ٢٦) وجاء في موضع آخر أنه مرّ عليه ثلاث سنين منذ فارق دمشق إلى أن بلغ أورشليم (غلاطية ١: ١٧ و١٨). فلم يلهم لوقا الروح القدس أن يذكر حوادث مجيء المجوس وظهور النجم وقتل الأطفال والهرب إلى مصر.
إِلَى مَدِينَتِهِمُ أي محل سكناهم قبل ميلاد المسيح (ص ٢٦: ٢٦ و٢٧). وأبان لوقا بقوله أن الناصرة مدينتهم علّة رجوعهم إليها. وهذا لم يظهر من قول متّى ولعلّ يوسف قصد أن يرجع إلى بيت لحم من مصر لكن منعه من ذلك خوفه من أرخيلاوس.
ٱلنَّاصِرَةِ (انظر الشرح متّى ٢: ٢٣ ومرقس ١: ٩). وبقيت الناصرة وطن المسيح إلى أن بلغ سن الثلاثين وكانت نسبة المسيح إليها في عنوان صليبه (يوحنا ١٩: ١٩) ونسب يسوع نفسه إليها يوم كلم شاول المضطهد (أعمال ٢٢: ٨).

حداثة يسوع ع ٤٠ إلى ٥٢


٤٠ «وَكَانَ ٱلصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ عَلَيْهِ».
ص ١: ٨٠ وع ٥٢
يتضح من هذه الآية أن ليسوع نفساً بشرية كما أن له جسداً بشرياً. وهذا خلاف ما ذهب إليه أبوليانوس من أنه لم يكن للمسيح نفس بشرية بل أن روحه الكلمة الأزلي أخذ محل النفس في جسده.
يَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ أي أن عقله كان يتسع في المعرفة والعلم مع نمو جسده.
واتساع عقله تدرجاً لا ينفي لاهوته كما أنه لا ينفيه نموه في القامة والقوة. فاختبر يسوع في حياته كل أحوال الإنسان إذ كان طفلاً ثم صبياً ثم شاباً ثم رجلاً كامل السن لكي يشعر مع جميع الناس صغاراً وكباراً. ولم يكن بين يسوع وأترابه فرق إلا بأنه كان كامل القداسة.
نِعْمَةُ ٱللّٰهِ عَلَيْهِ أي رضى الآب به وبركته عليه.
٤١ «وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ».
خروج ٢٣: ١٥ و١٧ و٣٤: ٢٣ وتثنية ١٦: ١ و١٦
كان على ذكور اليهود شرعاً أن يأتوا أورشليم ثلاث مرات كل سنة في عيد الفصح وعيد الخمسين وعيد المظال (خروج ٢٣: ١٤ - ١٧ وتثنية ١٦: ١٦). ولم يكن ذلك مشروعاً على النساء ولا ممنوعاً والأرجح أن النساء التقيات كثيراً ما رافقن أزواجهن إلى هنالك (١صموئيل ١: ٧ و٢٢ و٢٤). وقال هليل الرباني المشهور بوجوب أن تحضر النساء في أورشليم عيد الفصح كل سنة. والأرجح أن مريم قصدت أورشليم حباً لله ولبيته لا طوعاً لأمر ذلك المعلم اليهودي. فإن كان يسوع قد تربى تربية أولاد عصره من اليهود كما يُتوقع فلا بد من أنه لبس عندما بلغ سن الثلاث ثوباً على هدب ذيله عصابة من أسمانجوني حسبما أمر الله (عدد ١٥: ٣٨ - ٤١ وتثنية ٢٢: ١٢) وتعلّم أولاً من أمه.
ولما بلغ سن الخمس استظهر بعض أجزاء الناموس «كالشمعة» (تثنية ٢: ٤) و «الهليل» (مزمور ١١٤ - ١١٨ ومزمور ١٣٦).
ولما بلغ سن الثانية عشرة مارس كل طقوس الشريعة الموسوية كإتيان أورشليم في الأعياد وما شاكل ذلك وأخذ يتعلّم صناعة كسائر أولاد اليهود من أغنياء وفقراء وحُسب من ذلك الوقت «ابن الناموس».
أما كيفية حفظ عيد الفصح فقد سبق الكلام عليها في شرح بشارة متّى (متّى ٢٦: ٢).
٤٢ «وَلَمَّا كَانَتْ لَـهُ ٱثْنَتَا عَشَرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ ٱلْعِيدِ».
صَعِدُوا أي يوسف ومريم ويسوع. ويستنتج من هذا أن يسوع لم يصعد إلى أورشليم منذ ختانه وتقديمه للفداء. وكان في ذلك الوقت قد بلغ السن الذي اعتاد اليهود أن يأخذوا من بلغه من أولادهم إلى العيد في أورشليم ليشاركوهم في إتمام الفروض.
وكانت المسافة بين الناصرة وأورشليم نحو ثمانين ميلاً وكان يقطعها الفارس في ثلاثة أيام أو أربعة. وكان المسافرون في مثل ذلك الوقت ألوفاً. والحادثة الآتية هي الحادثة الوحيدة التي ذُكرت منذ إتيانهم من مصر إلى الناصرة إلى أن بلغ سن الثلاثين وابتدأ يبشر.
٤٣ «وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا ٱلأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا ٱلصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا».
كَعَادَةِ ٱلْعِيدِ أي ممارسة العيد في أورشليم.
أَكْمَلُوا ٱلأَيَّامَ هي سبعة دون يوم الاستعداد وبه ثمانية كما كانت تُحسب أحياناً. وكانوا يأكلون خروف الفصح في اليوم الأول وخبز الفطير في الأيام السبعة ولذلك سُمي عيد الفصح أحياناً بعيد الفطير (خروج ١٢: ١٥ و١٧ ولاويين ٢٣: ٥ و٦ وتثنية ١٦: ٢).
بَقِيَ... ٱلصَّبِيُّ يَسُوعُ لم يذكر لوقا كيف كان ذلك. ولا يلزم من هذا أن يوسف ومريم لم يعتنيا به الاعتناء الواجب. والأرجح أنه كان معهم جماعة من أقربائهم وأصحابهم الذين أتوا معهم من الناصرة هم وأولادهم فكان يوسف ومريم يتركان يسوع بينهم. ولا ريب في أن يسوع كان أكثر إدراكاً ونباهة من سائر أترابه حتى لم يكن محتاجاً إلى من يعتني به كغيره.
٤٤، ٤٥ «٤٤ وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ ٱلرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ ٱلأَقْرِبَاءِ وَٱلْمَعَارِفِ. ٤٥ وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ».
لا بد من أنه كان الراجعون من أورشليم إلى الناصرة قافلة كبيرة ولذلك لم يستطيعا في أول يوم وهما مسافران في الطريق أن يتحققا أن يسوع ليس معهم ولكن عند نزول القافلة مساء واجتماع كل عائلة على حدتها اتضح لهما أنه ليس في القافلة. فرجعا في الغد يسألان عنه كل من رأياه في الطريق وفحصا عنه في أورشليم يوم وصولهما ولم يجداه إلا صباح غده وهو اليوم الثالث فيتضح من ذلك أنه ليس لواحد منهما قوة إدراك غير عادي وإلا لم يتعبا هكذا.
٤٦ «وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي ٱلْهَيْكَلِ، جَالِساً فِي وَسْطِ ٱلْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ».
فِي ٱلْهَيْكَلِ أي في أحد أروقة دار النساء حيث اعتاد علماء اليهود أن يعلّموا الناس مجاناً ويفسروا الشريعة ويتباحثوا في المسائل الدينية.
ٱلْمُعَلِّمِينَ وهم الربانيون من كتبة وفريسيين مثل غمالائيل «معلم الناموس» (أعمال ٥: ٣٤). وكانوا «يجلسون على كرسي موسى» كأنهم خلفاؤه (متّى ٢٣: ٢) ويجلس التلاميذ عند أقدامهم (أعمال ٢٢: ٣).
وأظهر يسوع بذهابه إلى الهيكل عندما تُرك لنفسه وحضوره مكان التعاليم الدينية أي المواضيع التي تلذ له أعظم اللذة.
يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ كان طريق السؤال والجواب مما اختاره المعلمون للتعليم في تلك الأيام فكان التلميذ يسأل عما يجهل والمعلم يسأل ليعرف قدر ما عند التلميذ ويبني كلامه على الجواب فيزيل الخطأ ويجبر النقصان. ولا بد من أنه كان يعرض في مثل تلك المباحثة مسئلة المسيح المنتظر وماهية مملكته وتفسير النبوّات المتلعقة به. ولا ريب في أن يسوع أظهر حينئذ كل ما يليق من التواضع والإكرام لمن هم أكبر منه سناً وعلماً.
٤٧ «وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ».
متّى ٧: ٢٨ ومرقس ١: ٢٢ وص ٤: ٢٢ و٣٢ ويوحنا ٧: ١٥ و٤٦
لا ريب في أن المسيح أظهر بأسئلته وأجوبته قوة عقل وصحة علم لم يشاهد الناس نظيرها من أولاد مثل سنه. وكان ذلك شعة من النور العظيم الذي بدأ به في تعليمه الشعب فيما بعد (متّى ١٣: ٥٤ ويوحنا ٧: ٤٦).
٤٨ «فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ ٱنْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَـهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!».
ٱنْدَهَشَا لعلّ سبب ذلك أنهما لم يتوقعا أن يجداه مطمئناً بل انتظروا أن يجداه قلقاً خائفاً من بقائه منفرداً عن أهله لكنهما رأياه هادئاً مسروراً بمعاشرة من هم أكبر منه خلافاً لما يتوقع من ابن اثنتي عشرة سنة. ويحتمل أنهما أصغيا إلى كلماته في خطاب المعلمين وتعجبا من حكمته التي لم يعهدا مثلها منه وإن كانا قد اختبرا قبل ذلك أنه حكيم.
لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا أي لماذا بقيت ونحن قد ذهبنا. ولم يكن من عجب بأن تسأل مريم ابنها هذا لو كان كسائر الأولاد لكنها غفلت عن كل ما اوحي إليها به في شأن يسوع. ولا بد من أنه كان في سؤالها إياه شيء من التوبيخ بناء على ظنها أنه كان يجب عليه أن يلازمهما ولا يفتكر إلا فيهما.
أَبُوكَ هذا يدل على أن مريم اعتادت في مخاطتبها يسوع أن تسمي يوسف أباه. وأتت ذلك جرياً على عادة الناس لأنهم لم يعلموا حينئذ أن الله أبوه.
مُعَذَّبَيْنِ كانا معذبين لأنهما جهلا أين هو وخافا من أن يعرض له سوء أو أنه في حاجة أو ضيق.
٤٩ «فَقَالَ لَـهُمَا: لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟».
يوحنا ٢: ١٦
لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي هذا السؤال رد على ما في سؤال مريم من التوبيخ. ولم يرد الاستفهام عن مطلق طلبهما إياه بل عن طلبه معذبين وأنها لو تأملت عرفت أن لا داعي لذلك أي أنها لو ذكرت كل حوادث ميلاده لفطنت أنه لا بد من أن الله أباه يعتني به وأنه يكون في بيت أبيه.
أَلَمْ تَعْلَمَا هذه العبارة أول كلام نقله الكتاب عن لسان يسوع. ومن الغريب أن أبويه لم يفهما معناها (ع ٥٠). وكان ما سمعاه من كلام الإعلان الإلهي كافياً ليمكنهما من فهمه وفي هذا السؤال أربعة مقاصد:

  • الأول: أنه كان يجب على أمه ان تعرف أين يوجد لأنه كان لها وسائط كافية لذلك بما عهدته من الوحي.
  • الثاني: التصريح بنسبته إلى الله أي بيان أنه أبوه مقابلة لقول مريم «أبوك». فعلم أن يوسف ليس بأبيه وأن أباه هو الله وأنه أتى من السماء وأراد أن تذكر أمه هذا الأمر.
  • الثالث: أنه أظهر وقتئذ علمه العمل الذي أتى العالم ليتممه وأنه يجب عليه أن يهتم به ويستعد له مع أنه بقي بعد ذلك ثماني عشرة سنة قبل أن يبتدئه جهاراً.
  • الرابع: أنه حسب بيت الله بيت أبيه (يوحنا ٢: ١٦) ومباحثته هناك في كلام الله عمل «ما هو لأبيه».


ومعنى قوله «في ما لأبي» العمل الذي أرسله الآب ليتممه. وهذا وفق قوله بعد ذلك «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَـهُ» (يوحنا ٤: ٣٤).
٥٠ «فَلَمْ يَفْهَمَا ٱلْكَلاَمَ ٱلَّذِي قَالَـهُ لَـهُمَا».
ص ٩: ٤٥ و١٨: ٣٤
نستغرب عدم فهم يوسف ومريم معنى يسوع بعد ما عرفاه من الإعلان الإلهي (انظر ص ١: ٣٢ و٣٥ ومتّى ١: ٢). وإذا كان أبواه مع ذلك لم يفهما مراده فلا عجب من أن تلاميذه لم يدركوا معاني تعاليمه.
٥١ «ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعاً لَـهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ فِي قَلْبِهَا».
دانيال ٧: ٢٨ وع ١٩
ثُمَّ نَزَلَ... وَكَانَ خَاضِعاً لَـهُمَا هذا مثال لكل الأولاد في وجوب الطاعة لوالديهم. وذُكر خضوعه لأبويه الأرضيين دفعاً لما يتوهم من بيانه أن الله أبوه الوحيد أنه أنكر نسبته إلى أنسبائه في الجسد لأن اعتباره لتلك النسبة جزء من «تكميل كل بر». قال بولس «لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْوَاحِدِ جُعِلَ ٱلْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هٰكَذَا أَيْضاً بِإِطَاعَةِ ٱلْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ ٱلْكَثِيرُونَ أَبْرَاراً» (رومية ٥: ١٩). فالمسيح بإطاعته للآب السماوي وإطاعته لأبويه الأرضيين مدة ثلاث وثلاثين سنة قام بالطاعة التي ذكرها بولس. وأتى كل ذلك لأجلنا.
وهذا آخر ذكر ليوسف في بشارة لوقا ونعرف من بشارتي متّى ومرقس أنه كان نجاراً وأن يسوع عمل معه (متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣). والمظنون أنه مات قبل أن ابتدأ يسوع يبشر لأنه بعد ذلك لم يُذكر من عائلته سوى أمه وإخوته (يوحنا ٢: ١٢).
تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذِهِ الخ وهذا كقوله في الآية التاسعة عشرة أي أنها كانت تذكرها جميعاً وتقابلها بما سبق لها من الإعلانات والأنباء بيسوع من الملاك وأليصابات وزكريا والرعاة والمجوس والشيخ سمعان وحنة النبية وتتأمل فيها كلها. وهذا مما يقوي ثقتنا بأن لوقا نقل هذا الخبر عن لسان مريم نفسها.
٥٢ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ».
هذه الآية تابعة للآية الأربعين التي تشتمل على أنباء اثنتي عشرة سنة من حياة يسوع على الأرض. والآية التي هنا تشتمل على أنباء ثماني عشرة سنة منها.
فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ أي أن ابن الله يسوع المسيح كان باعتبار أنه إنسان يتقدم جسداً وعقلاً كسائر الناس.
وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ أي أنه كان يظهر من الأخلاق الجميلة والصفات الحسنة والأعمال الصالحة ما جعل الله يسر به ويمنح له علامات المسرة بما وهبه له من المواهب الجسدية والعقلية والروحية كما شهد له عند معموديته (ص ٣: ٢٢). وما ذُكر جعله محبوباً إلى الناس لأنه لم يبتدئ حينئذ يوبخ الناس على خطاياهم ليهيج غضبهم عليه كما وقع بعد ذلك (يوحنا ٧: ٧). وانتظار يسوع وصبره ثلاثين سنة قبل ان ابتدأ التبشير مثال لنا في التوقع والصبر. وكان في تلك المدة يعمل مشيئة الله لأجلنا بإطاعته شريعة الله (غلاطية ٤: ٤) وتنازله (فيلبي ٢: ٧) وافتقاره (٢كورنثوس ٨: ٩ ومتّى ٨: ٢٠) وطاعته لأبويه (ع ٥١) وطهارته (١بطرس ٢: ٢٢).


الأصحاح الثالث


خدمة يوحنا المعمدان ع ١ إلى ١٤


١ «وَفِي ٱلسَّنَةِ ٱلْخَامِسَةِ عَشَرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ، إِذْ كَانَ بِيلاَطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ وَالِياً عَلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى ٱلْجَلِيلِ، وَفِيلُبُّسُ أَخُوهُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى إِيطُورِيَّةَ وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ، وَلِيسَانِيُوسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى ٱلأَبِلِيَّة».
طِيبَارِيُوسَ قَيْصَر هو أمبرطور الرومانيين كان شريكاً لعمه أوغسطس قيصر في الملك سنتين قبل موت أوغسطس أي ابتدأ يملك سنة ٧٦٥ من تأسيس رومية وابتدأ يملك وحده سنة ٧٦٧. والأرجح أن لوقا يذكره في الوقت الذي كان فيه شريكاً لأغسطس الذي كان ملكاً يوم ميلاد المسيح (ص ٢: ١). ومات هيرودس سنة ٧٥٠ لتأسيس رومية والأرجح أن ذلك كان في آخر السنة التي ولد فيها المسيح. وكان يسوع في سن الخامسة عشرة حين ابتدأ طيباريوس يملك. وكان سن المسيح في المدة التي أشار إليها لوقا في هذا الأصحاح نحو ثلاثين سنة (ع ٢٣). وكانت مدة ملك طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة وكان خبيثاً ظالماً وسُميت مدينة طبرية من اسمه. إكراماً له.
بِيلاَطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ هو والي سورية تولاها منذ بداءة سنة ٢٧ ب. م إلى نهاية سنة ٣٦ ب . م. وعُزل أرخيلاوس بعد أن ملك عشر سنين على اليهودية (متّى ٢: ٢٢). فأرسل أوغسطس والياً رومانياً على اليهودية بدلاً من أرخيلاوس. وكان بيلاطس الوالي السادس على سورية (انظر الشرح متّى ٢٧: ٢).
وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ وهو هيرودس أنتيباس بن هيرودس الكبير وملثاسي (متّى ١٤: ١). وهو قاتل يوحنا المعمدان. وهو الذي سخر هو وعسكره بالمسيح عندما أرسله إليه بيلاطس وقت محاكمته (لوقا ٢٣: ٦ - ١١). وكان رئيساً على الجليل اثنتين وأربعين سنة.
فِيلُبُّسُ أَخُوهُ هو فيلبس الثاني ابن هيرودس الكبير وامرأته كليوبترا (وهي يهودية من أورشليم). تزوج سالومي بنت فيلبس الأول وهيروديا. وسالومي هي التي رقصت وأخذت رأس يوحنا المعمدان أجرة رقصها. وتولى الرئاسة ستاً وثلاثين سنة. وحُسب أفضل أولاد هيرودس وهو الذي بنى قيصرية فيلبس التي اسمها اليوم بانياس وجدد بناء بيت صيدا وسماها يولياس.
إِيطُورِيَّةَ هي البلاد المحيطة بجبل حرمون أي جبل الشيخ وسمّيت أيطورية نسبة إلى يطور بن إسماعيل بن إبراهيم (تكوين ٢٥: ١٥).
وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ هي البلاد التي على الجنوب الشرقي من جبل الشيخ وأيطورية وكانت تسمى قبلاً أرجوب (تثنية ٣: ١٣ و١٤) واسمها اليوم اللجا وهي جزء من حوران.
وَلِيسَانِيُوسُ الأرجح أنه كان ابن ليسانيوس ملك خلخيس أو حفيده. وهذا الملك ملك ستين سنة قبل الوقت المشار إليه هنا وقتله أنطونيوس منذ أربع وثلاثين سنة ق.م وكان أوغسطس قيصر يحب أن يأخذ أولاد الذين عزلهم خصماه أنطونيوس وكراسوس وقتلاهم ويوليهم ولايات والديهم.
ٱلأَبِلِيَّةِ هي كورة صغيرة شمالي دمشق على جانبي نهر بردى وعلى أمد سبع ساعات منها فهي بين تلك المدينة وبعلبك. والمرجح أنها كانت جزءاً من خلخيس.
٢ «فِي أَيَّامِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا، كَانَتْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ».
يوحنا ١١: ٤٩ و٥١ و١٨: ١٣ وأعمال ٤: ٦
رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا (انظر الشرح متّى ٢٦: ٢).
لم تكن شريعة موسى تسمح بسوى رئيس كهنة واحد في وقت واحد. وكان حنان حما قيافا وتولى رئاسة الكهنة قبله فعزله الرومانيون بعد أن ولوا غيره وعزلوه مراراً ثم ولوا قيافا (يوحنا ١٨: ١٣). وكان حنان أعظم من قيافا سناً وحكمة وتأثيراً فلذلك اعتبره اليهود رئيس كهنة حقاً واعتبر الرومانيون قيافا كذلك شرعاً. وبقيت القوة لحنان وكان له أحياناً الاسم (كما هنا وفي أعمال ٤: ٦) ولم يكن لقيافا سوى الاسم وبعض القوة.
كَانَتْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ عَلَى كان ذلك في العهد القديم إشارة إلى إلهام الروح القدس (١ملوك ١٢: ٢٢ و١أيام ١٧: ٣ وإرميا ١: ١ وحزقيال ٦: ١ وهوشع ١: ٢ ويونان ١: ١). وغاية كون كلمة الله على يوحنا أخباره بأن يبتدئ في خدمته جهاراً.
يُوحَنَّا (انظر الشرح متّى ٣: ١).
زَكَرِيَّا (ص ١: ٥).
فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أي برية اليهودية (ص ١: ٨٠).
٣ «فَجَاءَ إِلَى جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنِّ يَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا».
متّى ٣: ١ ومرقس ١: ٤، ص ١: ٧٧
فَجَاءَ أي من منفرده في البرية.
ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنِّ على جانبي نهر الأردن قرب مصبه في بحيرة لوط. والكلام هنا يدل على أن يوحنا كان يجول للكرازة في تلك الكورة غير مقيم بمكان واحد.
بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ أي المعمودية التي هي علامة التوبة ورمز الطهارة. والمراد بها الإشارة إلى أن الذين اعتمدوا تطهروا من الخطايا والضلالات السالفة وأخذوا يحيون حياة جديدة (متّى ٣: ١ - ١١ ومرقس ١: ٤ - ٦). ولم تكن المعمودية الخارجية ذات قيمة إلا بما سبقها واقترن بها من التوبة الحقيقية القلبية. وكانت مقترنة بالاعتراف كما أبان متّى ومرقس.
لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا أي أن المعمودية كانت علامة المغفرة بالنظر إلى الله كما أنها كانت علامة التوبة بالنظر إلى الإنسان.
٤ - ٦ «٤ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ إِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، ٱصْنَعُوا سُبُلَـهُ مُسْتَقِيمَةً. ٥ كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ، وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَتَصِيرُ ٱلْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً، وَٱلشِّعَابُ طُرُقاً سَهْلَةً، ٦ وَيُبْصِرُ كُلُّ بَشَرٍ خَلاَصَ ٱللّٰهِ».
إشعياء ٤٠: ٣ ومتّى ٣: ٣ ومرقس ١: ٣ ويوحنا ١: ٢٣، مزمور ٩٨: ٢ وإشعياء ٥٢: ١٠ وص ٢: ١٠
سبق شرح مثل ذلك في بشارة متّى (متّى ٣: ٣). وبيان التشبيه في هذه الآيات هو أن يوحنا يهيء الطريق لإتيان المسيح بمناداته لليهود ان ينزعوا من قلوبهم المعاصي والكبرياء والعناد والكفر كما أن رُسل الملوك يسيرون أمامهم ليأمروا الشعب بتمهيد الطرق بإزالة ما فيها من موانع المرور. والكلام هنا مقتبس من نبوءة إشعياء (إشعياء ٤٠: ٣ - ٥). والعدد مقتبس معنىً لا لفظاً وهو أكثر موافقة للآية ١٠ من ص ٥٢ من تلك النبوءة. وقوله «خلاص الله» في العدد السادس وفق قوله «خلاصك» في ع ٣٠ من ص ٢ من هذه البشارة.
٧ - ٩ «٧ وَكَانَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ خَرَجُوا لِيَعْتَمِدُوا مِنْهُ: يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟ ٨ فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ. وَلاَ تَبْتَدِئُوا تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإبْرَاهِيمَ. ٩ وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ».
متّى ٣: ٧، متّى ٧: ١٩
(انظر الشرح متّى ٣: ٧ - ١٠). ولا فرق بين كلام البشيرين إلا أن الذين أشار إليهم لوقا بقوله «للجموع» أشار إليهم متّى بقوله «للفريسيين والصدوقيين». ولم يحتج لوقا إلى ذلك التفصيل لأنه كتب إلى الأمم. وخص يوحنا خطابه بالفريسيين والصدوقيين لأنهم كانوا أكثر ميلاً إلى قبول الطقس الجديد أي المعمودية دون السيرة الجديدة المطلوبة. وأشار بقوله «اصنعوا أثماراً تليق بالتوبة» إلى أن إصلاح السيرة هو البرهان الوحيد على التوبة الحقيقية وذلك وفق قول إشعياء (إشعياء ١: ١٠ - ٢٠).
١٠ «وَسَأَلَـهُ ٱلْجُمُوعُ: فَمَاذَا نَفْعَلُ؟».
أعمال ٢: ٣٧
أي ماذا يجب أن نفعل لكي نهرب من غضب الله الآتي. وهذه مثل ما جاء في سفر الأعمال (أعمال ٢: ٣٧). أو ما هي الأثمار التي ينبغي أن نصنعها (ع ٨).
١١ «فَأَجَابَ: مَنْ لَـهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَـهُ، وَمَنْ لَـهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هٰكَذَا».
ص ١١: ٤١ و٢كورنثوس ٨: ١٤ ويعقوب ٢: ١٥ و١٦ و١يوحنا ٣: ١٧ و٤: ٢٠
ذكر يوحنا هنا من علامات التوبة الحقيقية إنكار الذات وعمل الخير للغير. ولعله ذكر ذلك دون غيره لأن محبة الذات والطمع خطيئتان مال إليها اليهود أكثر من ميلهم إلى سواهما. وعبّر بالثياب والطعام عن كل احتياجات الإنسان الجسدية (انظر متّى ٥: ٤٢). ويظهر من هذا الكلام أن يوحنا لم يكتف بممارسة طقس المعمودية واستماع اعتراف الشعب جهاراً فأوصاهم بالأعمال الضرورية للبرهان على صحة توبتهم.
١٢ «وَجَاءَ عَشَّارُونَ أَيْضاً لِيَعْتَمِدُوا وَسَأَلُوهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا نَفْعَلُ؟».
متّى ٢١: ٣٢ وص ٧: ٢٩
العشارون هم جباة الجزية للرومانيين (متّى ٥: ٤٦). ولم يقبل وظيفتهم أحد من اليهود إلا أدناهم فكانوا محتقرين مبغضين وكانت أسماؤهم تُذكر غالباً مع الخطأة لكراهة وظيفتهم وظلم أعمالهم.
١٣ «فَأَجَابَ: لاَ تَسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ».
ص ١٩: ٨
لم يأمرهم يوحنا أو ينصحهم أن يتركوا تلك الوظيفة مع أنها مما كرهه الشعب لأنه حيثما تكن حكومة فلا بدّ من وجود جباة الجزية اللازم لنفقاتها. فنهاهم أن يطلبوا من الناس شيئاً فوق ما عينه الحاكم. وفي هذا ما يدل على أنهم كانوا قد اعتادوا ما نهاهم عنه.
١٤ «وَسَأَلَـهُ جُنْدِيُّونَ أَيْضاً: وَمَاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟ فَأجَابَ: لاَ تَظْلِمُوا أَحَداً، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَٱكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ».
خروج ٢٣: ١ ولاويين ١٩: ١١
جُنْدِيُّونَ هم ليسوا من الرومانيين لأن الرومانيين لا يأتون ليسمعوا كرازة المعمدان ولا يرغبون في معموديته. فإذاً كانوا إما من جند هيرودس أنتيباس رئيس الجليل أو شرطاً من اليهود يحافظون على الكورة التي كان يوحنا فيها. ونعرف مما نهاهم يوحنا عنه الخطايا التي كانوا يرتكبونها. ولم يقل ما يستدل منه على أن وظيفة العسكر محرمة.
لاَ تَظْلِمُوا أَحَداً نهاهم عن الظلم لأنهم كانوا بسبب وظيفتهم عرضة لأن يأخذوا من الرعية أكثر مما فُرض عليها أو أن يسلبوا شيئاً من أموالها فيثقلوا بذلك عليها وقت السلم.
وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ أي لا تنمّوا على أحد وتسعوا به أو تشتكوا عليه للحاكم بما لم يرتكبه. وكانوا عرضة لذلك بغية أن يأخذوا من المتهمين رشوة لإطلاقهم أو ثواباً من الحاكم كأنهم جواسيس له.
ٱكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ أي اقتنعوا بأجركم. وكانت أجرة الجندي وقتئذ نحو دينار في اليوم أي نحو ٤ غروش. وكان عليهم أن ينفقوا منها على طعامهم. وكثيراً ما كان الجنود يعصون حينئذ على رؤسائهم من قلة أجرهم وعدم تأديتها لهم في أوقاتها.
وأمر يوحنا كل صنف من الناس بإصلاح سيرته بياناً لخلوص توبته.

إنباء يوحنا بمجيء المسيح ع ١٥ إلى ١٨


١٥ «وَإِذْ كَانَ ٱلشَّعْبُ يَنْتَظِرُ، وَٱلْجَمِيعُ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ ٱلْمَسِيحُ».
كان الناس يومئذ متوقعين مجيء المسيح فجراءة يوحنا وسلطانه على قلوب الناس حملا كثيرين منهم على أن يقولوا أليس هو المسيح المنتظر أي أليس أعماله وفق النبوءات المتعلقة بالمسيح. وما قيل هنا يوافق ما قيل في بشارة يوحنا عن مجيء لجنة من أورشليم لتسأل يوحنا «من أنت» (يوحنا ١: ١٩).
١٦ - ١٨ «١٦ قَالَ يُوحَنَّا لِلْجَمِيعِ: أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ، وَلٰكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ. ١٧ ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ ٱلْقَمْحَ إِلَى مَخْزَنِهِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ. ١٨ وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَانَ يَعِظُ ٱلشَّعْبَ وَيُبَشِّرُهُمْ».
متّى ٣: ١١، ميخا ٤: ١٢ ومتّى ١٣: ٣٠
سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ٣: ١١ و١٢). وخلاصة جواب يوحنا ثلاثة أشياء:

  • الأول: أنه ليس هو المسيح.
  • الثاني: قرب مجيء المسيح وظهوره.
  • الثالث: شرح عمل المسيح. ومن ذلك فصل الأخيار عن الأشرار وخلاص الأولين وهلاك الآخرين.


والفرق بين عمل المسيح وعمل يوحنا هو أن عمل الأول عمل السيد وعمل الثاني عمل العبد وأن معمودية الأول التي هي معمودية الروح أعظم من معمودية الثاني التي هي معمودية الجسد كما أن قوة النار على التطهير أعظم من قوة الماء عليه.

سجن يوحنا المعمدان ع ١٩ و٢٠


١٩، ٢٠ «١٩ أَمَّا هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ فَإِذْ تَوَبَّخَ مِنْهُ لِسَبَبِ هِيرُودِيَّا ٱمْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، وَلِسَبَبِ جَمِيعِ ٱلشُّرُورِ ٱلَّتِي كَانَ هِيرُودُسُ يَفْعَلُهَا، ٢٠ زَادَ هٰذَا أَيْضاً عَلَى ٱلْجَمِيعِ أَنَّهُ حَبَسَ يُوحَنَّا فِي ٱلسِّجْنِ».
متّى ١٤: ٣ ومرقس ٦: ١٧
هِيرُودُسُ هو أنتيباس رئيس الجليل (ع ١).
كان سجن يوحنا بعد تعميد يسوع ولكن استحسن لوقا ذكره قبل ذلك ليقرن نبأ السجن بنبإ علته التي هي توبيخ يوحنا لهيرودس.
زَادَ هٰذَا أَيْضاً عَلَى ٱلْجَمِيعِ أشار بقوله الجميع إلى عدة حوادث لم يذكرها مثل استماع هيرودس ليوحنا في أول أمره بالسرور وفعله أموراً كثيرة بمقتضى نصح يوحنا وأن هيروديا هيجت قساوته على يوحنا إلى غير ذلك مما ذُكر في بشارة مرقس (مرقس ٦: ١٧ - ٢٠).
وأما قتل يوحنا فذكره لوقا في ص ٩: ٩.

معمودية يسوع ع ٢١ و٢٢


٢١، ٢٢ «٢١ وَلَمَّا ٱعْتَمَدَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضاً. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي ٱنْفَتَحَتِ ٱلسَّمَاءُ، ٢٢ وَنَزَلَ عَلَيْهِ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَائِلاً: أَنْتَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ!».
متّى ٣: ١٧ ويوحنا ١: ٣٢
(انظر الشرح متّى ٣: ١٣ - ١٧ ومرقس ١: ٩ - ١١)
جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ أي الجماعات التي كانت تأتي على التوالي كل يوم.
إِذْ كَانَ يُصَلِّي لم يذكر أحد من البشيرين سوى لوقا أن يسوع صلّى قبل أن اعتمد وحل الروح القدس عليه. ومما اختص به لوقا محبته أن يذكر في بشارته صلوات يسوع كثيراً (ص ٦: ١٢ و٩: ١٨ و١٩ و٢٢: ٣٢ و٤١ و٢٣: ٢٦)،
بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ أي بصورة حمامة منظورة. والأرجح أنه شاهدها كل من كان هنالك. وكانت الحمامة إشارة إلى الطهارة ولذلك اتخذ الروح هيئتها علامة لحضوره إشارة إلى أن الطهارة من صفات المسيح الخاصة وأنها تظهر في أعماله (انظر الشرح في ذلك متّى ٣: ١٦).

نسب يسوع ع ٢٣ إلى ٣٨


٢٣ «وَلَمَّا ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَـهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ بْنِ هَالِي».
عدد ٤: ٣ و٣٥ و٣٩ و٤٣ و٤٧، متّى ١٣: ٥٥ ويوحنا ٦: ٤٢
نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً في مثل هذا السن ابتدأ اللاويون يمارسون وظيفتهم لأنه حُسب سن الكمال جسداً وعقلاً (عدد ٤: ٣ و٢٣ و٣٠ و٣٥).
عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ الخ (انظر الشرح متّى ١: ١ - ١٣ وكتاب اتفاق البشيرين فصل ١٣). وكُتب في علّة الفرق بين نسب يسوع في بشارة متّى ونسبه في بشارة لوقا مجلدات كثيرة. ولا حاجة لنا هنا إلى سوى القول بأن الأرجح أن نسبه في بشارة متّى من جهة يوسف الذي حسبه اليهود أباً ليسوع. وأن نسبه في بشارة لوقا من جهة أمه. وعلّة ذلك أن متّى كتب إنجيله لإفادة اليهود فأراد أن يثبت لهم حق يسوع شرعاً في أن يدعى ابن داود وأن لوقا كتب للأمم فأراد أن يبرهن لهم أن يسوع من نسل داود بواسطة أمه وأنه إنسان تام لاتصال نسبه بآدم. والذي يؤيد ذلك ثلاثة أمور:

  • الأول: قول لوقا «عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ» وهذا دليل على أن يسوع ليس ابن يوسف حقيقة. فلا يتوقع أن يبين لوقا بعد ذلك نسب يوسف ويتتبعه إلى اثنين وسبعين سلفاً من الناس وينتهي بالنسبة إلى الله وذلك بعد أن بيّن في أول كلامه أن لا صحة لكون يسوع ابن يوسف وأن ذلك ليس إلا ظناً. فإن قيل لماذا لم يقل لوقا أن يسوع ابن مريم بنت هالي الخ. قلنا لم تجر العادة في جداول أنساب اليهود ولا في جداول أنساب اليونان أن يُنسب الإنسان إلى أمه ولكنها جرت بين العرب.
  • الثاني: أنه مما نتوقع طبعاً أن نجد في كتاب الله (علاوة على ما يقنع اليهود أن ليسوع الحق الشرعي في أن يُدعى ابن داود) دليلاً قاطعاً أن يسوع حسب الجسد من نسل داود ومن نسل إبراهيم حقيقة كما وعد الله. فمجرد نسبته إلى يوسف لا تثبت ذلك لأن يسوع ليس ابن يوسف حقيقة. فنحتاج لإثبات ذلك إلى نسب مريم. على أن لنا برهاناً آخر على أن يسوع من نسل داود وهو قول الملاك (ص ١: ٣٢ و٣٥).
  • الثالث: إن غاية لوقا في جدوله خلاف غاية متّى فإن لوقا انتهى في نسب يسوع بآدم من الناس ليظهر أن المسيح هو آدم الثاني وأن آدم الأول رمز له وأن المسيح يشترك باعتبار ناسوته في كل نسل آدم خلافاً لغرض متّى فإنه بيان كون يسوع من نسل إبراهيم. وهاتان الغايتان تقتضيان جدولين أحدهما ليوسف والآخر لمريم حقيقة.


بْنِ هَالِي الابن هنا بمعنى صهر كما جاء في سفر صموئيل الأول (١صموئيل ٢٤: ١٦ و٢٦: ٢١ و٢٥) ولا مانع من أن يكون يوسف ابن هالي بالتبني. وعلى ذلك يكون بمنزلة ابنه في الشريعة. ولو كان معنى لوقا أن يوسف ابن هالي حقيقة لوقع التناقض بين قوله وقول متّى لأن متّى قال أن يوسف ابن يعقوب.
فإن قيل لماذا ذكر لوقا نسب المسيح بين ذكر معموديته وبداءة مناداته. قلنا أن يسوع عاش قبل سن الثلاثين دون المناداة بدعواه أنه المسيح ورضي أن يُحسب في كل تلك المدة ابن يوسف. ولكن لما حان وقت إظهار تلك الدعوى اقتضى أن يُرفع الحجاب عن نسبه الحقيقي ويبين بالقول والفعل أنه ليس ابن يوسف بل ابن الله.
٢٤ - ٢٧ «٢٤ بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاَوِي بْنِ مَلْكِي بْنِ يَنَّا بْنِ يُوسُفَ، ٢٥ بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ عَامُوصَ بْنِ نَاحُومَ بْنِ حَسْلِي بْنِ نَجَّايِ، ٢٦ بْنِ مَآثَ بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ شَمْعِي بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَهُوذَا، ٢٧ بْنِ يُوحَنَّا بْنِ رِيسَا بْنِ زَرُبَّابِلَ بْنِ شَأَلْتِئِيلَ بْنِ نِيرِي».
هذا جدول أسماء آباء هالي إلى وقت سبي بابل وفيه أربعة وعشرون اسماً وفي جدول متّى من يوسف إلى ذلك السبي أربعة عشر وترك متّى من جدوله سبعة يبقى الثلث الأول من الأسماء أربعة عشر ككل من الثلثين الآخيرين. فأربعة من السبعة ملوك معروفون ولعلّ الثلاثة الباقين كانوا كذلك في ذلك الوقت فاستغنى عن ذكرهم.
شَأَلْتِئِيلَ بْنِ نِيرِي ظن بعضهم في هذا مناقضة لقول متّى «يكنيا ولد شألتئيل» (متّى ١: ١٢). ولكن لا شيء من الدليل على أن شألتئيل الذي ذكره متّى هو شألتئيل الذي ذكره لوقا.
٢٨ - ٣١ «٢٨ بْنِ مَلْكِي بْنِ أَدِّي بْنِ قُصَمَ بْنِ أَلْمُودَامَ بْنِ عِيرِ، ٢٩ بْنِ يُوسِي بْنِ أَلِيعَازَرَ بْنِ يُورِيمَ بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاَوِي، ٣٠ بْنِ شَمْعُونَ بْنِ يَهُوذَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يُونَانَ بْنِ أَلِيَاقِيمَ، ٣١ بْنِ مَلَيَا بْنِ مَيْنَانَ بْنِ مَتَّاثَا بْنِ نَاثَانَ بْنِ دَاوُدَ».
زكريا ١٢: ١٢، ٢صموئيل ٥: ١٤ و١أيام ٣: ٥
هنا عشرون اسماً لمن كانوا بين داود والسبي. والذين ذكرهم متّى بين الاثنين أربعة عشر وممن تركهم متّى أربعة مشهورون وهم أحزيا ويوآش وأمصيا ويهوياقيم.
نَاثَانَ بْنِ دَاوُدَ (انظر ٢صموئيل ٥: ١٤ و١أيام ٣: ٥).
٣٢ - ٣٤ «٣٢ بْنِ يَسَّى بْنِ عُوبِيدَ بْنِ بُوعَزَ بْنِ سَلْمُونَ بْنِ نَحْشُونَ، ٣٣ بْنِ عَمِّينَادَابَ بْنِ آرَامَ بْنِ حَصْرُونَ بْنِ فَارَصَ بْنِ يَهُوذَا، ٣٤ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ».
راعوت ٤: ١٨ الخ و١أيام ٢: ١٠ الخ، تكوين ١١: ٢٤ و٢٦
الأسماء هنا وفق الأسماء في جدول متّى.
٣٥ - ٣٨ «٣٥ بْنِ سَرُوجَ بْنِ رَعُو بْنِ فَالَجَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالَحَ، ٣٦ بْنِ قِينَانَ بْنِ أَرْفَكْشَادَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لاَمَكَ، ٣٧ بْنِ مَتُوشَالَحَ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ يَارِدَ بْنِ مَهْلَلْئِيلَ بْنِ قِينَانَ، ٣٨ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ٱبْنِ ٱللّٰهِ».
تكوين ١١: ١٢، تكوين ٥: ٦ الخ و١١: ١٠ الخ، تكوين ٥: ١ و٢
الأسماء في هذه الأعداد مع اسمين في العدد الرابع والثلاثين لم يذكرها متّى. وأخذ لوقا هذه الأسماء من ترجمة السبعين المشهورة لا من التوراة العبرانية ولا فرق بينها في التوراتين سوى أنه ذُكر في العدد السابع والثلاثين اسم قينان وهو ليس في العبرانية والأرجح أن السبعين ترجمت عن نسخة عبرانية غير النسخة التي عندنا اليوم ولا أهمية لذلك الفرق البتة.
بْنِ آدَمَ (ع ٣٨) المراد بذلك بيان كون المسيح من نسل آدم. وأن كل الناس إخوة كقول بولس لأهل أثينا «وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (أعمال ١٧: ٢٦). وأن آدم الأول مخلوق الله ورأس الخليقة الأولى هو رمز إلى آدم الثاني ابن الله الأزلي ورأس الخليقة الثانية الروحية.
ٱبْنِ ٱللّٰهِ أي أن الله خلقه بدءا لا بالولادة كسائر البشر.


الأصحاح الرابع


تجربة يسوع ع ١ إلى ١٣


١، ٢ «١ أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ ٱلأُرْدُنِّ مُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِٱلرُّوحِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ ٢ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئاً فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيراً».
متّى ٤: ١ الخ ومرقس ١: ١٢، ص ٢: ٢٧ وع ١٤، خروج ٣٤: ٢٨ و١ملوك ١٩: ٨
مرّ الكلام على هذه التجربة في شرح بشارة متّى (متّى ٤: ١ - ١١) ونبأ لوقا هنا أكمل من نبأ متّى ومرقس.
رَجَعَ مِنَ ٱلأُرْدُنِّ الظاهر من هنا أن التجربة وقعت على أثر المعمودية. وهذا وفق ما جاء في كل من بشارتي متّى ومرقس. وهذان العددان في التجربة إجمالاً. وما بعدهما إلى العدد الرابع عشر بيان ثلاث تجارب خاصة وقعت في نهاية الامتحان.
والأرجح أن يسوع كان في الصبوة والشبيبة عرضة للتجارب كسائر الناس فقاومها وغلبها دائماً ولكن لما عزم على الدخول علانية في فداء البشر من الخطيئة التي وقعوا فيها بسقوط آدم الأول نائب البشر اقتضى أن يجرّب المسيح نائب البشر الثاني بتجربة عظيمة لتظهر غلبته عليها.
مُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ حلّ عليه هذا الروح وقت المعمودية (ص ٣: ٢٢).
يُقْتَادُ بِٱلرُّوحِ أي لم يذهب من تلقاء نفسه بل بفعل الروح القدس. واقتاده الروح الصالح ليحارب الروح الشرير.
فِي ٱلْبَرِّيَّةِ (انظر الشرح متّى ٤: ١ ومرقس ١: ١٣). وزاد مرقس على ما هنا أن يسوع كان مع الوحوش.
أَرْبَعِينَ يَوْماً يتضح من قول كل من مرقس ولوقا أن التجارب كانت تتوالى على المسيح كل تلك المدة.
وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئاً هذا واضح من قول متّى أنه صام ومرقس لم يتعرض لذكر شيء من هذا. ولا ريب في أن جسد يسوع حُفظ من الموت جوعاً بقوة إلهية.
٣، ٤ «٣ وَقَالَ لَـهُ إِبْلِيسُ: إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ، فَقُلْ لِهٰذَا ٱلْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزاً. ٤ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: مَكْتُوبٌ أَنْ لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ».
تثنية ٨: ٣
هذه هي التجربة الأولى كما ذكر متّى (متّى ٤: ٣ و٤) لكن متّى قال «هذه الحجارة» بالجمع ولوقا قال «هذا الحجر» باسم الجنس.
قبل المسيح على نفسه لإجراء عمل الفداء أن يكون إنساناً مفتقراً إلى الله كسائر أولاد آدم فجربه إبليس هنا لكي يرفض الاتكال على الله والخضوع له كالإنسان ويستقل بلاهوته.
٥ - ٨ «٥ ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ ٱلزَّمَانِ. ٦ وَقَالَ لَـهُ إِبْلِيسُ: لَكَ أُعْطِي هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ، لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ، وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ. ٧ فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ ٱلْجَمِيعُ. ٨ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! إِنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ».
يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠ ورؤيا ١٣: ٢ و٧، تثنية ٦: ١٣ و١٠: ٢٠
ما ذُكر من التجارب هنا ثانياً ذُكر في بشارة متّى ثالثاً (متّى ٤: ٨ - ١٠). فانظر الكلام على هذه التجربة في الشرح هنالك. ولا أهمية للتقديم والتأخير في هذا الأمر. وقصد الشيطان في هذه التجربة أن يثني يسوع عن الملكوت الروحي إلى الملك العالمي كما ابتغت اليهود ليكون بمنزلة داود قديماً وبمنزلة قيصر وقتئذ وذلك خلاف ما قصد الله.
مَمَالِكِ ٱلْمَسْكُونَةِ (ع ٥) الشيطان لا يستطيع أن يُري المسيح حقيقة سوى جزء من مملكة اليهودية ولكنه أراه سائر الممالك تصوراً أو تخيلاً بمجرد وصفه إياها وكان كل ذلك في مثل طرفة عين بدليل قوله «في لحظة من الزمان» وهذا مما لم يذكره متّى.
لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ الخ لم يذكر قول الشيطان هذا إلا لوقا وهو دعوى ذُكرت أيضاً في غير هذا الموضع (يوحنا ١٢: ٣١ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٢: ٢). وهذه دعوى كاذبة لأن الله لم يدفع إلى الشيطان مثل ذلك السلطان وهي مما ينتظر ممن هو «أبو الكذاب» (يوحنا ٨: ٤٤). وكذبه على آدم الثاني ككذبه على آدم الأول وزوجته بقوله «لن تموتا» (تكوين ٣: ٤).
٩ - ١٢ «٩ ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَقَامَهُ عَلَى جَنَاحِ ٱلْهَيْكَلِ وَقَالَ لَـهُ: إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱطْرَحْ نَفْسَكَ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلَ، ١٠ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ، ١١ وَأَنَّهُمْ عَلَى أَيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ. ١٢ فَأَجَابَ يَسُوعُ: إِنَّهُ قِيلَ: لاَ تُجَرِّبِ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ».
متّى ٤: ٥، مزمور ٩١: ١١، تثنية ٦: ١٦
(انظر الشرح متّى ٤: ٥ - ٧) ما جاء ثالثاً في لوقا جاء ثانياً في متّى. وخلاصة هذه التجربة حمل الشيطان ليسوع على الطمع في عناية الله ومحبته لأنه ابنه. وذلك بأن يعرض نفسه للخطر بلا داع. فلو فعل يسوع كما ابتغى الشيطان لأجبر الله على أنه إما أن ينكر ابنه ويسمح بقتله وإما يخالف قضاءه بأنه لا يفعل معجزة لغير موجب من نعمة أو نقمة فيخرج المسيح بتجربته لأبيه من دائرة الخضوع البنوي.
وفحوى الكلام على التجارب الثلاث ما يأتي:

  • حمل المسيح على أن يعدل عن عمل الفداء باعتبار كونه إنساناً كما عيّن الله.
  • حمله على العدول عن أن يكون ملكاً روحياً على مملكة روحية.
  • حمله على العدول عن الثقة بمحبة الآب له كابنه وعلى أن يلزمه ليصرّح بأنه ابنه بمعجزة.
    فالتجربة الأولى وقعت عليه باعتبار كونه ابن الإنسان. والثانية باعتبار أنه المسيح أي الممسوح ملكاً روحياً. والثالثة باعتبار كونه ابن الله.


وكانت سيرة المسيح في كل حياته الأرضية وفق مقاومته لتلك التجارب الثلاث فرضي أن تُقضى حاجاته الجسدية بصدقات الناس (ص ٨: ٣) وأبى أن يكون ملكاً أرضياً (يوحنا ٦: ١٥). ولم يفعل معجزة لنفع نفسه فكانت كل معجزاته لمجد الله ولإفادة الناس (ص ١١: ٢٩).
١٣ «وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ».
يوحنا ١٤: ٣٠ وعبرانيين ٤: ١٥
كُلَّ تَجْرِبَةٍ أي جميع ما وقع عليه مدة أيام التجريب الأربعين.
فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ في هذا دليل على أن الشيطان رجع إلى تجربة يسوع بعد ذلك. والأرجح أنه جربه وهو في بستان جثسيماني المعروف عند العامة اليوم بالجسمانية (متّى ٢٦: ٣٨). وعلى الصليب. ويشير إلى ذلك قول المسيح قُبيل اكتئابه في البستان وآلامه على الصليب.
«رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَأْتِي» (يوحنا ١٤: ٣٠). وهو مثل قوله لليهود «هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ» (ص ٢٢: ٥٣).
ولم يذكر لوقا هنا ما ذكره متّى من خدمة الملائكة للمسيح بعد التجربة.

ذهاب يسوع إلى الجليل ع ١٤ و١٥


١٤ «وَرَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، وَخَرَجَ خَبَرٌ عَنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ».
متّى ٤: ١٢ وع ١ ويوحنا ٤: ٤٣ وأعمال ١٠: ٣٧
وَرَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ هذا يظهر أن يسوع لم يعمل شيئاً ليرضي نفسه كإنسان بل عمل كل ما عمله إطاعة للروح القدس.
إِلَى ٱلْجَلِيلِ ذكر لوقا رجوع يسوع إلى الجليل على أثر تجربته وذكره متّى ومرقس على أثر سجن يوحنا المعمدان (متّى ٤: ١٢ ومرقس ١: ١٤). وما ذكره يوحنا في بشارته بيّن علّة ظاهر الاختلاف المذكور وهو أن يسوع ذهب إلى الجليل مرتين الأولى على أثر معموديته وتجربته (يوحنا ١: ٤٤). والثانية بعد ذلك بوقت (يوحنا ٤: ١). فذكر لوقا الأولى وذكر متّى ومرقس الثانية. والأرجح أن المدة بين المرتين نحو سنة تقضّى أكثرها على يسوع وهو يبشر في اليهودية. وهذه الخدمة لم يفصّل حوادثها إلا يوحنا.
وَخَرَجَ خَبَرٌ عَنْهُ المرجح أن الجليليين الذين حضروا تبشير يوحنا المعمدان سمعوا نبأ يسوع في البرية وشاهد بعضهم ما كان عند اعتماد يسوع وسمعوا شهادة يوحنا فأنبأوا بذلك بعد رجوعهم.
وصنع المسيح بعض معجزاته في قانا الجليل (يوحنا ٢: ١ - ١١).
١٥ «وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ مُمَجَّداً مِنَ ٱلْجَمِيعِ».
وَكَانَ يُعَلِّمُ ذاع خبر يسوع بما أظهره من الحكمة بتعليمه في المجامع لا بمجرد شهادة الناس له بما سمعوا وشاهدوا. وقد سبق الكلام على مجامع اليهود والتعليم فيها في شرح بشارة متّى (متّى ٤: ٢٣).
مُمَجَّداً أي ممدوحاً ومعظماً لجودة تعليمه لأن نجاحه إلى ذلك الوقت لم يكن قد هيج حسد رؤساء الكهنة وتعليمه لم يكن قد أوقد بغضهم كما كان بعد ذلك.

رفض أهل الناصرة يسوع ع ١٦ إلى ٣٠


١٦ «وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ».
متّى ٢: ٢٣ و١٣: ٥٤ ومرقس ٦: ١، أعمال ١٣: ١٤ و١٧: ٢
وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ هذا المجيء غير الذي ذُكر في متّى ١٣: ٥٤ - ٥٨ ومرقس ٦: ١ - ٦. فهذا قام به وحده وذاك مع تلاميذه. وفي هذا لم يصنع معجزة وفي ذاك صنع بعض المعجزات (مرقس ٦: ٥). وفي هذا جار اليهود عليه وأرادوا قتله وفي ذاك لم يكن منهم شيء من ذلك.
حَسَبَ عَادَتِهِ أي اعتياده من صغره أن يحضر المجمع للعبادة وأن يحضر المجمع في كل مكان دخله للعبادة والتعليم. وفي هذا مثال لكل مسيحي في المواظبة على المجيء إلى أماكن العبادة الصحيحة. ولا ريب أنه كان بين معموديته ومجيئه إلى الناصرة وقت كاف لأن يبلغ خبر شهرته أهل وطنه الناصرة بدليل قولهم «كَمْ سَمِعْنَا أَنَّهُ جَرَى فِي كَفْرَنَاحُومَ» (ع ٢٣).
وَقَامَ لِيَقْرَأَ كانت تلك القراءة اختيارية ولعلّ المسيح أظهر بوقوفه استعداده للقراءة.
١٧ «فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ ٱلسِّفْرَ وَجَدَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ».
إشعياء ٦١: ١ و٢
فَدُفِعَ إِلَيْهِ الذي دفع إما رئيس المجمع وإما صائن الكتب المقدسة.
سِفْرُ أي كتاب. وكانت الكتب يومئذ رقوقاً أي جلوداً رقيقة في كل من طرفي الرق اسطوانة صغيرة من الخشب. ففي وقت القراءة ينشر من إحدى الاسطوانتين ويلف على الأخرى. واعتاد اليهود أن يقرأوا في المجمع على التوالي أيام السنة كل أسفار موسى وبعض نبوءات الأنبياء (أعمال ١٣: ١٥).
وَجَدَ ٱلْمَوْضِعَ الأرجح أن ذلك لم يكن اتفاقاً بل قصداً ليكون موضوع خطابه.
١٨ «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ وَلِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ».
إشعياء ٥٨: ٦
هذا الكلام مقتبس من نبوءة إشعياء (إشعياء ٦١: ١ و٢) على ما في ترجمة السبعين مع جملة من إشعياء ٥٨: ٦. فاعتبر اليهود هذه النبوءة بياناً لعمل المسيح واختارها يسوع لأنها توضح روحانية الخدمة التي أتى للقيام بها.
رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ نسب يسوع هذا القول إلى نفسه بياناً أنه لم يصنع شيئاً من تلقاء نفسه بل أن كل ما صنعه هو بأمر الله. والحق أن روح الله كان عليه دائماً لكنه أشار خاصة إلى حلول الروح القدس عليه علانية عند معموديته مقدمة لخدمته وإعلاناً لتكريسه (ص ٣: ٢٢ و٤: ١ و١٤). وتأهيلاً له في إنجاز المواعيد التي ذُكرت في تلك النبوءة.
مَسَحَنِي كما مُسح الملوك والأنبياء والكهنة قديماً (١صموئيل ١٦: ٦ ومزمور ٨٤: ٩ وإشعياء ٤٥: ١). ولذلك سُمي يسوع بالمسيح أي الممسوح ليس لأنه مُسح بالزيت كالملوك والأنبياء والكهنة فعلاً بل لأنه مُسح بروح الله.
لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ أي لأخبر الخبر المبهج بالخلاص الذي هم في حاجة إليه وقد شعروا بتلك الحاجة وهم المساكين بالروح (متّى ٥: ٣). والبركات الموعود بها هنا كالتي ذكرها المسيح في أول وعظه على الجبل (متّى ٥: ١ - ١٢).
لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ في إنجيل يسوع تعزية للحزانى على كل أحزانهم ولا سيما الذين يحزنون على خطاياهم وبشارة للمؤمن التائب بالغفران والمصالحة (إشعياء ٦٦: ٢).
لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ كان ذلك في أول الأمر نبوءة برجوع اليهود الأسرى من بابل إلى وطنهم اليهودية ورمزاً إلى إطلاق النفوس من عبودية الشيطان والخطيئة (يوحنا ٨: ٣٤ - ٣٦).
وَلِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ وهب المسيح البصر للعمي حقيقة (متّى ١١: ٥ ويوحنا ٩: ١١ و٣٩ - ٤١). ولكن عمله لم ينحصر في ذلك فإنه وهب البصر لعمي البصيرة «الذين إله هذا الدهر قد أعمى أذهانهم» (٢كورنثوس ٤: ٤ ويوحنا ١٢: ٤٠ و١يوحنا ٢: ١١).
وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ أي ينقذ من شر تأثير الخطية الذين هم من شدتها صاروا كأنهم تحت حمل ثقيل وقع عليهم. وقوله «في الحرية» متعلق بقوله «أرسل» واقتبس يسوع هذه الجملة من إشعياء ٥٨: ٦. ولعله أتى بها في قراءته إشعياء ٦١: ١ و٢ بياناً لمعنى قوله «للمأسورين بالإطلاق» (انظر غلاطية ٥: ١).
١٩ «وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ ٱلرَّبِّ ٱلْمَقْبُولَةِ».
لاويين ٢٥: ٨ إلى ١٧
شبه المسيح هنا بركات ملكوته بالبركات التي تمتع اليهود بها في سنة يوبيل وهي كل سنة تكمل الخمسين ينفخ فيها بالأبواق في كل البلاد اليهودية وينادي بأن كل يهودي استُعبد لدين أو غيره يحرر وكل قطعة أرض انتقلت من مُلك صاحبها الأصلي ترجع إلى ربها ليملك كل بيت من إسرائيل ما قسم الله له بيد موسى ويشوع (لاويين ٢٥: ٨ - ١٦ و٢٣ - ٥٥). وهذا يحسن أن يكون رمزاً إلى عمل المسيح الذي يهب للناس الحرية الروحية لينقذهم من جرم الخطية وعقابها ويرجع لهم ما فقدوا من ميراث البرّ ورضى الله والفردوس السماوي.
٢٠ «ثُمَّ طَوَى ٱلسِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى ٱلْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ».
ٱلْخَادِمِ هو الذي عمله في المجمع اليهودي كالقندلفت في الكنيسة المسيحية وهو أن يعطي القارئ الكتاب ثم يأخذه منه بعد القراءة ويصونه.
وَجَلَسَ اعتاد المعلمون أن يقرأوا وقوفاً ويعلّموا جلوساً.
عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ يستنتج من ذلك أنه لم تسبق عادة أن يعلّم في مجمع الناصرة فتعجبوا ممن كان سابقاً تلميذاً جالساً مجلس المعلم. وتوقعوا أن يسمعوه يدعي أنه نبي كما بلغهم أنه أتى ذلك في أماكن أُخر. ويحتمل أنهم تعجبوا لتأثرهم من هيئته غير العادية ووقع كلامه في النفوس ووقاره.
٢١ «فَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لَـهُمْ: إِنَّهُ ٱلْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ».
الكلام هنا بداءة خطاب لم يُذكر كله وعلمنا منه أن خلاصة ذلك الخطاب هي إظهار يسوع أن غاية مجيئه تكميل تلك النبوءة. ولا نستطيع أن نتصور مقدمة لتعليم المسيح أفضل من هذه المقدمة أنه أتى لكي يكمل مقاصد الله الخيرية المذكورة في هذه النبوءة. ويسوع صرّح هنا بكل وضوح أنه هو المسيح المنتظر وأن النبوءات عن المسيح تكمل به وحده.
٢٢ «وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَـهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ هٰذَا ٱبْنَ يُوسُفَ؟».
مزمور ٤٥: ٢ ومتّى ١٣: ٥٤ ومرقس ٦: ٢ وص ٢: ٤٧، يوحنا ٦: ٤٢
يَشْهَدُونَ لَـهُ اضطروا أن يسلموا بأن المسيح تكلم بقوة لم يتكلم بها أحد سواه وحكمت ضمائرهم بصحة ما قاله. وكانت طريق شهادتهم له إصغاءهم إليه وإيماء بعضهم إلى بعض وكلامهم كذلك. ومثل هذا كانت شهادة خدام الهيكل له بقولهم «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هٰكَذَا مِثْلَ هٰذَا ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا ٧: ٤٦).
وَيَتَعَجَّبُونَ كان موضوع تعجبهم ما ظهر منه مع معرفتهم أنه ابن النجار.
كَلِمَاتِ ٱلنِّعْمَةِ أُضيفت كلمات المسيح إلى النعمة لأن مواضيعها محبة الله للناس ورحمته ومقاصده الخيرية. واتضح مما كان من أهل الناصرة بعد ذلك أن التعجب من فصاحة كلام المسيح والشهادة بجودته شيء وقبول دعواه شيء آخر. وكثيرون اليوم مثل أهل الناصرة القدماء يمدحون الواعظ ويغفلون عن المقصود بوعظه.
أَلَيْسَ هٰذَا ٱبْنَ يُوسُفَ يدل هذا السؤال على شيء من الحسد للمسيح والاستخفاف به وعدم الإيمان لأنهم اعتقدوا أنه ابن يوسف منذ خمس وعشرين سنة على الأقل وهي مدة سكنه بينهم وأنه فقير ابن نجار ورأوا ذلك سبباً كافياً لإنكارهم دعواه.
٢٣ «فَقَالَ لَـهُمْ: عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُونَ لِي هٰذَا ٱلْمَثَلَ: أَيُّهَا ٱلطَّبِيبُ ٱشْفِ نَفْسَكَ. كَمْ سَمِعْنَا أَنَّهُ جَرَى فِي كَفْرَنَاحُومَ، فَٱفْعَلْ ذٰلِكَ هُنَا أَيْضاً فِي وَطَنِكَ».
متّى ٤: ١٣ و١١: ٢٣، متّى ١٣: ٥٤ ومرقس ٦: ١
عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُونَ أبان يسوع أنه عارف أفكار الحاضرين وذلك بإجابته عنها قبل أن أظهروها بالكلام.
أَيُّهَا ٱلطَّبِيبُ ٱشْفِ نَفْسَكَ أي عالج مرضك قبل أن تدعي شفاء غيرك. لأنه لا أحد يدعو طبيباً مريضاً لشفائه. لأن مثل هذا الطبيب يحمل إعلان بطلان دعواه على وجهه. فأنا مدع أني نبي وأنتم تشكون فيّ لاعتقادكم أني كسائر الناس بما سبق لكم من معرفتي. وشككم يمنعكم من قبولكم أياي نبياً كما أن مرض الطبيب يمنع الناس من قبولهم إياه طبيباً فلذلك تقولون يا نبي اصنع معجزات أي أزل بذلك شكوكنا في دعواك وأظهر بأعمالك أنك أعظم من أن تكون ابن يوسف النجار الفقير.
جَرَى فِي كَفْرَنَاحُومَ يبين من ذلك أن يسوع كان قد ذهب إلى كفرناحوم وفعل عجائب هنالك وهذا الذهاب لم يذكره لوقا.
٢٤ «وَقَالَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ مَقْبُولاً فِي وَطَنِهِ».
متّى ١٣: ٥٧ ومرقس ٦: ٤ ويوحنا ٤: ٤٤
جاوب المسيح على مَثل بمثَل وتكلم بهذا المثل ثلاث مرات. وما جاء هنا هو المرة الأولى. والثانية في زيارته الثانية للناصرة (متّى ١٣: ٥٧ فانظر شرح المثل هنالك) والثالثة في الجليل على ما ذكر يوحنا (يوحنا ٤: ٤٤). ومعنى المسيح بإيراد هذا المثل هنا أنه قبل على نفسه ما وقع على سائر الأنبياء وهو أن لا إكرام له في وطنه وأنه لا يجتهد أن يقنعهم بالمعجزات لأنه لو صنعها وقتئذ لا يقتنعون كما كان الأمر في سائر الأنبياء.
٢٥، ٢٦ «٢٥ وَبِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ أَرَامِلَ كَثِيرَةً كُنَّ فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ إِيلِيَّا حِينَ أُغْلِقَتِ ٱلسَّمَاءُ مُدَّةَ ثَلاَثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمَّا كَانَ جُوعٌ عَظِيمٌ فِي ٱلأَرْضِ كُلِّهَا، ٢٦ وَلَمْ يُرْسَلْ إِيلِيَّا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا، إِلاَّ إِلَى أَرْمَلَةٍ، إِلَى صِرْفَةِ صَيْدَاءَ».
١ملوك ١٧: ٩ و١٨: ١ ويعقوب ٥: ١٧، دانيال ٧: ٢٥ و١٢: ٧ ورؤيا ١١: ٢ و٣ و١٢: ٦ و١٤
أشار هنا إلى الحادثة في ١ملوك ١٧: ٨ - ٢٤
ثَلاَثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ جاء مثل ذلك في رسالة يعقوب ٥: ١٧. ولكن الذي في ١ملوك ١٨: ١ أن الله ظهر لإيليا في السنة الثالثة وقال فأعطي مطراً على وجه الأرض. ولعلّ سبب ما يظهر من الاختلاف في المدة أن المراد في سفر الملوك كون المطر أمسك ثلاث سنين بعد وقته أي ثلاثة أشتاء فيكون القحط دام مدة الربيع والصيف أيضاً وجملة ذلك ثلاث سنين ونصف سنة أو لعلّ المعنى في ذلك السفر أن بداءة السنين الثلاث من وقت هرب إيليا فتكون بداءة القحط قبل ذلك.
صِرْفَةِ صَيْدَاءَ (ع ٢٦) وهي اليوم قرية اسمها صرفند وكانت مدينة كنعانية واقعة بين صور وصيدا ونُسبت إلى صيدا دون صور إما لأنها أقرب إلى صيدا وإما لأنها كانت تابعة لحكومتها. بُنيت أولاً على شاطئ البحر لكن منذ القرن الحادي عشر نقلها أهلها إلى أكمة على أمد نحو نصف ساعة من البحر خيفة من لصوص البحر. ولم تزل آثار المدينة القديمة على الشاطئ.
٢٧ «وَبُرْصٌ كَثِيرُونَ كَانُوا فِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ أَلِيشَعَ ٱلنَّبِيِّ، وَلَمْ يُطَهَّرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ نُعْمَانُ ٱلسُّرْيَانِيُّ».
٢ملوك ٥: ١٤
الحادثة هنا هي المذكورة في ٢ملوك ٥: ١ - ١٤
نُعْمَانُ هو قائد عسكر وثني في دمشق. ومراد المسيح مما قيل في العدد الرابع والعشرين إلى هنا أنه يفعل مثل ما فعل كل من إيليا وأليشع في أنهما أهملا اليهود وصنعا معجزاتهما بين الأمم لأنهما وجدا الأمم أحق فيها من اليهود فهكذا فعل هو بإهماله أهل وطنه وعمل المعجزات بين الغرباء.
٢٨ «فَٱمْتَلأَ غَضَباً جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ حِينَ سَمِعُوا هٰذَا».
علّة غضبهم مقابلته إياهم بالإسرائيليين غير المؤمنين الذين عبدوا البعل في أيام إيليا وإظهاره عدم إرادته صنع معجزة عندهم لأنهم لا يستحقون ذلك وأنه فضل إعلان نعمته للأمم على إعلانه إياها لهم.
٢٩ «فَقَامُوا وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، وَجَاءُوا بِهِ إِلَى حَافَّةَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي كَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَطْرَحُوهُ إِلَى أَسْفَلُ».
الناصرة مبنية على سفح أكمة أقرب إلى حضيضها من قنتها يحيط بتلك الأكمة آكام أرفع منها. والذي يقصد الناصرة اليوم ويشاهد الأكمة التي بُنيت عليها يحكم بأن أهلها صعدوا بيسوع إلى قنة تلك الأكمة وهنالك شُفُر علو كل شفير منها نحو ثلاثين أو أربعين قدماً فقصدوا أن يطرحوه من أحدها إلى الحضيض فيميتوه. وكان مثل هذا من عوائد الرومانيين في إهلاك الناس. وكان اليهود يفعلون كذلك أحياناً فإن أمصيا قتل عشرة آلاف من الآدوميين في تلك الطريق (٢أيام ٢٥: ١٢). فمعاملة أهل الناصرة ليسوع مصداق لقول البشير «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا ١: ١١).
٣٠ «أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى».
يوحنا ٨: ٥٩ و١٠: ٣٩
لا يلزم من هذا الكلام أن المسيح صنع معجزة لنجاته منهم. فلعلهم هابوه لما شاهدوا من إمارات وجهه أو هدوءه وسكوته أو لعلهم اختلفوا في طريق طرحه فاجتاز بينهم ولم يعترضه أحد لأن ساعة موته لم تكن قد أتت. ومثل هذه الهيبة وقعت على الذين قبضوا عليه ليأتوا به إلى الصلب (يوحنا ١٨: ٦) وذكر مثل هذه النجاة في يوحنا ١٠: ١٨.

معجزات يسوع في كفرناحوم ع ٣١ إلى ٤١


٣١ «وَٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ، مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي ٱلسُّبُوتِ».
متّى ٤: ١٣ ومرقس ١: ٢١
كَفْرَنَاحُومَ (انظر الشرح متّى ٤: ١٣). وهي أوطأ من الناصرة ولذلك يصح القول أنه انحدر إليها. اقتصر متّى ومرقس على ذكر ذهاب المسيح إليها لكن لوقا زاد على ذلك ذكر سبب انتقاله من الناصرة إليها.
يُعَلِّمُهُمْ فِي ٱلسُّبُوتِ كان المسيح في أول تبشيره يعلّم الناس في المجامع أيام اجتماعهم فيها للعبادة (وهي السبوت) لأن الناس كانوا يجتمعون فيها جماعات كثيرة وكانت أذهانهم فارغة من الافتكار في الأعمال الدنيوية فكان له فيها أحسن الفرص للتعليم. ولكنه بعد أن ذاع صيته كانت الجموع تتبعه حيث ذهب فكانت له فرصة أن يخاطبهم كل يوم.
٣٢ «فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّ كَلاَمَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ».
متّى ٧: ٢٨ و٢٩ وتيطس ٢: ١٥
فَبُهِتُوا أي حاروا وتعجبوا. وعلّة ذلك جودة تعليمه وأسلوب بيانه (انظر الشرح متّى ٧: ٢٨ و٢٩).
بِسُلْطَانٍ كملك أو نبي وكمن لكلامه تأثير في الضمير والقلب وذلك من غيرته ويقينه صحة ما يتكلم به والشعور بأهميته ولأن قوة الروح القدس رافقت كلامه.
٣٣ - ٣٦ «٣٣ وَكَانَ فِي ٱلْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: ٣٤ آهِ مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ ٱللّٰهِ. ٣٥ فَٱنْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: ٱخْرَسْ وَٱخْرُجْ مِنْهُ. فَصَرَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فِي ٱلْوَسَطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً. ٣٦ فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى ٱلْجَمِيعِ، وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: مَا هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةُ! لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ ٱلأَرْوَاحَ ٱلنَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ».
مرقس ١: ٢٣، ع ٤١، مزمور ١٦: ١٠ ودانيال ٩: ٢٤ وص ١: ٣٥
انظر الشرح مرقس ١: ٢٣ - ٢٦ فإن الخبر واحد في البشارتين.
وَكَانَ فِي ٱلْمَجْمَعِ أي كان حاضراً فيه في أحد الأيام التي كان يتكلم فيها يسوع هنالك.
فَصَرَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ (ع ٣٥) زاد لوقا هذه الجملة على ما قاله مرقس. كان للشيطان قوة على جسد ذلك الرجل حتى أنه طرحه في وسط المجمع يتشنج كالمصاب بالصرع.
وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً لأن قوة يسوع منعت الشيطان من أذاه.
فأول المعجزات التي ذكرها مرقس ولوقا من معجزات المسيح تسلط يسوع على الأرواح النجسة. وأول ما ذكره متّى سلطانه على أمراض الناس. وأول ما ذكره يوحنا قوته على عالم المادة بتحويل بعض العناصر إلى بعض.
٣٧ «وَخَرَجَ صِيتٌ عَنْهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ».
انظر الشرح مرقس ١: ٢٨. انتشر صيته في أحكام التعليم وفي صنع المعجزات فكان موضوع حديث الجموع اينما ذهبوا هذين الأمرين.
٣٨، ٣٩ «٣٨ وَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ دَخَلَ بَيْتَ سِمْعَانَ. وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ قَدْ أَخَذَتْهَا حُمَّى شَدِيدَةٌ. فَسَأَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا. ٣٩ فَوَقَفَ فَوْقَهَا وَٱنْتَهَرَ ٱلْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا! وَفِي ٱلْحَالِ قَامَتْ وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ».
متّى ٨: ١٤ ومرقس ١: ٢٦
انظر الشرح متّى ٨: ١٤ - ١٥ ومرقس ١: ٢٩ - ٣١.
قَامَ لأنه كان يعلّم الشعب جالساً.
بَيْتَ سِمْعَانَ أي بيت بطرس. وقال مرقس أنه بيت سمعان وأندراوس وهما أخوان شريكان في الصيد (متّى ٤: ١٨).
حُمَّى شَدِيدَةٌ أي عظيمة الالتهاب كثيرة الخطر. وذكر لوقا بعد وصفه حماها بالشدة أن يسوع انتهر تلك الحمى كأنها ذات إدراك. ومعنى ذلك أنه أزالها وأن المحمومة قامت حالاً وخدمت الحاضرين خلافاً للناقهين من الحمى فإنهم يكونون حينئذ ضعفاء.
٤٠، ٤١ «٤٠ وَعِنْدَ غُرُوبِ ٱلشَّمْسِ، جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ. ٤١ وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضاً تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ: أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! فَٱنْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ ٱلْمَسِيحُ».
متّى ٨: ١٦ ومرقس ١: ٣٢، مرقس ١: ٣٤ و٣: ١١، مرقس ١: ٢٥ و٣٤ وع ٣٤ و٣٥
انظر الشرح متّى ٨: ١٦ و١٧ ومرقس ١: ٣٢ - ٣٤. زاد لوقا على كلام متّى ومرقس قول الشياطين «أنت المسيح ابن الله الحي» «وأنهم عرفوه أنه المسيح».

انفراد يسوع وتبشيره بعد ذلك ع ٤٢ إلى ٤٤


٤٢ - ٤٤ «٤٢ وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ خَرَجَ وَذَهَبَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ ٱلْجُمُوعُ يُفَتِّشُونَ عَلَيْهِ. فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ لِئَلاَّ يَذْهَبَ عَنْهُمْ. ٤٣ فَقَالَ لَـهُمْ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ ٱلْمُدُنَ ٱلأُخَرَ أَيْضاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، لأَنِّي لِهٰذَا قَدْ أُرْسِلْتُ. ٤٤ فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِ ٱلْجَلِيل».
الخبر هنا كالخبر في إنجيل متّى ٤: ٢٣. وإنجيل مرقس ١: ٣٥ - ٣٩. فانظر الشرح في الموضعين. ومعنى قوله أمسكوه أنهم أرادوا أن يبقوه عندهم في كفرناحوم للتعليم والشفاء.


الأصحاح الخامس


معجزة صيد السمك ودعوة الصيادين ع ١ إلى ١١


١ «وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، كَانَ وَاقِفاً عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ».
متّى ٤: ١٨ ومرقس ١: ١٦
ٱلْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ هذا إحدى الحوادث التي وقعت بعدما طُرد المسيح من الناصرة وأتى إلى كفرناحوم وذاع صيته بما صنع من المعجزات.
٢ «فَرَأَى سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ ٱلْبُحَيْرَةِ، وَٱلصَّيَّادُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُمَا وَغَسَلُوا ٱلشِّبَاكَ».
سبق الكلام على دعوة يسوع الرسل الأربعة في هذا الفصل في بشارة متّى ٤: ١٨ - ٢٢. وفي بشارة مرقس ١: ١٦ - ٢٠. ولا فرق بين الروايات إلا أن لوقا ذكر تلك الدعوة بعد شفاء يسوع المرضى في كفرناحوم وأما متّى ومرقس فذكراها قبل ذلك وخبر لوقا أطول من خبر كل منهما.
كَلِمَةَ ٱللّٰهِ أي بيان معنى ما أعلنه الله سابقاً وما أضافه المسيح من التعاليم الجديدة باعتبار أنه نبي الله.
عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ واسمها أيضاً بحر طبرية وبحر الجليل. وطلب المسيح الانفراد عن الجموع الذين زحموه في المدن بسيره على شاطئ البحيرة ولكنهم تبعوه بكثرة.
سَفِينَتَيْنِ كانت إحداهما لبطرس وأندراوس والأخرى لابني زبدي.
وَغَسَلُوا ٱلشِّبَاكَ أي نقوها مما تعلق بها من الأعشاب والطين والحصى وما شاكل ذلك من سحبها على قعر البحيرة في مدة الليلة البارحة. والظاهر مما قال متّى ومرقس أن بعض الشباك تمزق فأصلحوه.
٣ «فَدَخَلَ إِحْدَى ٱلسَّفِينَتَيْنِ ٱلَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَـهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلاً عَنِ ٱلْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ ٱلْجُمُوعَ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ».
دخل يسوع سفينة سمعان بطرس لأنه عرفه سابقاً على شاطئ الأردن (يوحنا ١: ٤٢). ويحتمل أنه كان يرافقه أحياناً ليستفيد منه معرفة لكنه إلى ذلك الوقت لم يكن قد ترك كل شيء وتبعه. فكان يسوع ضيف سمعان في كفرناحوم (ص ٤: ٣٨).
٤ «وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ: ٱبْعُدْ إِلَى ٱلْعُمْقِ وَأَلْقَوْا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ».
يوحنا ٢١: ٦
هذه المعجزة لم يذكرها متّى ومرقس واكتفيا بذكر دخول يسوع إلى سفينة خاطب الشعب منها.
إِلَى ٱلْعُمْقِ كانوا قرب الشاطئ حيث الماء رقيق فلا يجتمع السمك فيه بكثرة.
٥ «فَأَجَابَ سِمْعَانُ: يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلٰكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي ٱلشَّبَكَةَ».
تَعِبْنَا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ أشار بذلك إلى أن أنسب أوقات الصيد المعتادة هو الليل (ونستنتج هذا أيضاً من بشارة يوحنا ٢١: ٣ و٤). وذكر بطرس أنهم تعبوا كثيراً وأن تعبهم كان عبثاً وأظهر أنه قلما يرجو نجاحاً من الصيد وقتئذ لما اختبروه من عوائد السمك لكنه مع ذلك مستعد لإطاعة أمر الرب وإن كان في ذلك تعب.
٦ «وَلَمَّا فَعَلُوا ذٰلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكاً كَثِيراً جِدّاً، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ».
وَلَمَّا فَعَلُوا أي حالما أطاعوا كانت تلك النتيجة الغريبة.
سَمَكاً كَثِيراً جِدّاً المعجزة هنا كثرة السمك المصيد وإتيان الأسماك جماعات كثيرة إلى الشبكة وكان ذلك على أثر بذل كل جهدهم في الصيد عبثاً. وهذا برهان على أنّ سمك البحر كان خاضعاً ليسوع المسيح فتم بالمسيح آدم الثاني قوله تعالى بلسان داود النبي «تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَطُيُورَ ٱلسَّمَاءِ، وَسَمَكَ ٱلْبَحْرِ ٱلسَّالِكَ فِي سُبُلِ ٱلْمِيَاهِ» (مزمور ٨: ٦ و٨).
تَتَخَرَّقُ أي كادت تتمزق أو تتقطع بعض عيونها الدقيقة الخيوط لكن لا إلى حد يمكن السمك عنده أن يفلت منها.
٧ «فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّفِينَةِ ٱلأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا ٱلسَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي ٱلْغَرَقِ».
إِلَى شُرَكَائِهِمِ أي ابني زبدي ومن معهما (ع ١٠). وهذان صارا بعد ذلك شريكي سمعان وأندراوس في عمل أعظم وهو صيد النفوس.
فِي ٱلسَّفِينَةِ ٱلأُخْرَى يظهر من هذا أنهم فرغوا من غسل الشباك وإصلاحها ودخلوا السفينة. والظاهر أن مسافة ما بين السفينتين كانت قصيرة أمكن من في الواحدة أن يروا إشارات من في الأخرى.
أَخَذَتَا فِي ٱلْغَرَقِ أي قربتا من الغرق حتى أنهم لو زادوا على كل منهما ثقلاً قليلاً لغرقت.
٨ «فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذٰلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً: ٱخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ».
٢صموئيل ٦: ٩ و١ملوك ١٧: ١٨
كان أول تأثير المعجزة في بطرس أنه شعر بعدم استحقاقه أن يقترب ممن أظهر بفعله أنه ذو قوة إلهية. وكان مثل هذا شعور إشعياء النبي عندما رأى رؤيا في الهيكل فقال «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ ٱلشَّفَتَيْنِ... لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا ٱلْمَلِكَ رَبَّ ٱلْجُنُودِ» (إشعياء ٦: ٥). ومثله شعور أيوب الذي أبانه بقوله «ٱلآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذٰلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي ٱلتُّرَابِ وَٱلرَّمَادِ» (أيوب ٤٢: ٥ و٦) (انظر أيضاً خروج ٢٠: ١٨ و١٩ وقضاة ١٣: ٢٢ و١ملوك ١٧: ١٨ ودانيال ١٠: ١٧). فلا ريب أن بطرس كان قد تأثر قبلاً من شفاء حماته في كفرناحوم ومن وعظ المسيح في السفينة وتأكد من معجزة السمك أن المسيح ليس مجرد إنسان.
ٱخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي ظاهر هذا الكلام ليس مراد بطرس الحقيقي فإنه لم يرد أن يظهر به إلا عدم استحقاقه لاقتراب المسيح منه. فهو كمعنى قول قائد العسكر ليسوع «يا سيد لست مستحقاً إن تدخل تحت سقفي». وكل إنسان يشعر طبعاً بخطاياه وعدم استحقاقه عند قرب الرب منه وإظهار قدرته. وأتى المسيح إلينا في الأرض لكي يجعلنا أهلاً للاقتراب إليه ويأحذنا إليه في السماء.
٩ «إِذِ ٱعْتَرَتْهُ وَجمِيعَ ٱلَّذِينَ مَعَهُ دَهْشَةٌ عَلَى صَيْدِ ٱلسَّمَكِ ٱلَّذِي أَخَذُوهُ».
ذُكر هنا سجود بطرس ليسوع واعترافه بأنه خاطئ بدلاً من أن يفرح بكثرة ما صادروا وبالربح منه.
وَجمِيعَ ٱلَّذِينَ مَعَهُ الأرجح أنهم أخوه أندراوس والخدام في سفينته (متّى ٤: ٨ ومرقس ١: ١٦).
١٠ «وَكَذٰلِكَ أَيْضاً يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ٱبْنَا زَبْدِي ٱللَّذَانِ كَانَا شَرِيكَيْ سِمْعَانَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ: لاَ تَخَفْ! مِنَ ٱلآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ ٱلنَّاسَ!».
متّى ٤: ١٩ ومرقس ١: ١٧
كان تأثير المعجزة في صيادي سفينة زبدي كما كان في صيادي سفينة سمعان.
لاَ تَخَفْ اعتقد اليهود أنه لا أحد يرى الله ويعيش (انظر الشرح لوقا ١: ١٢) فسكّن المسيح خوف بطرس أول كل شيء.
تَصْطَادُ ٱلنَّاسَ أي تنادي بالإنجيل لكي تجذب الناس إلى معرفة الحق وقبولهم إياه لخلاص نفوسهم. وهذه دعوة لبطرس ليكون مع المسيح دائماً وأن يكون رسولاً له. ولم يكن قبل ذلك سوى تلميذ (انظر الشرح متّى ٤: ٢٠). والأرجح أنه دعا حيئنذ يوحنا ويعقوب أيضاً (متّى ٤: ٢١).
وقد مرّ الكلام على وجه الشبه بين صياد السمك والمبشر بالإنجيل في شرح إنجيل متّى (متّى ٤: ١٨) وفي شرح بشارة مرقس (مرقس ١: ١٦).
١١ «وَلَمَّا جَاءُوا بِٱلسَّفِينَتَيْنِ إِلَى ٱلْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ».
متّى ٤: ٢٠ و١٩: ٢٧ ومرقس ١: ١٨ و١٨: ٢٨
معنى ذلك أنهم لم يجعلوا صيد السمك مهنتهم بعد ذلك. وهذا لا يمنع أنهم كانوا يصيدون أحياناً (يوحنا ٢١: ١). وأظهر هؤلاء الصيادون محبتهم للمسيح وإنكار ذواتهم لأجله بترك شباكهم وسفنهم. وكان ذلك بمثابة ترك الأغنياء والملوك قصورهم وعروشهم وأملاكهم الواسعة. ويطلب المسيح من تلاميذه الآن الاستعداد لمثل ذلك أي لترك كل شيء لأجله وحسبان كل خسارة من أجله ربحاً ومحبته فوق كل الأهل والأصدقاء والمقتنيات.
وقد رأينا في ما مرّ أربع علامات على أن بطرس تلميذ حقيقي. الأولى إصغاؤه إلى تعليم المسيح. والثانية طاعته لأمره. والثالثة تصديقه ما قال. والرابعة اتباعه إياه عندما ناداه.

شفاء الأبرص ع ١٢ إلى ١٦


١٢، ١٣ «١٢ وَكَانَ فِي إِحْدَى ٱلْمُدُنِ. فَإِذَا رَجُلٌ مَمْلُوءٌ بَرَصاً. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي. ١٣ فَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً: أُرِيدُ فَٱطْهُرْ. وَلِلْوَقْتِ ذَهَبَ عَنْهُ ٱلْبَرَصُ».
متّى ٨: ٢ ومرقس ١: ٤
سبق الكلام على هذه المعجزة في شرح إنجيل متّى (متّى ٨: ٢ - ٤). وذكر متّى هذه المعجزة على أثر الوعظ على الجبل ولم يذكر مرقس ولوقا وقت فعلها ولم يشيرا إليه.
فِي إِحْدَى ٱلْمُدُنِ أي مدن الجليل.
مَمْلُوءٌ بَرَصاً أي كان برصه شديداً عاماً كل جسده.
خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ أتى ذلك علامة لتواضعه واحترامه ليسوع والتضرع إليه.
١٤ «فَأَوْصَاهُ أَنْ لاَ يَقُولَ لأَحَدٍ. بَلِ ٱمْضِ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ، وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ كَمَا أَمَرَ مُوسَى شَهَادَةً لَـهُمْ».
متّى ٨: ٤، لاويين ١٤: ٤ و١٠ و٢١ و٢٢
في هذا العدد التفات من الغيبة إلى الخطاب. وهذا كثر في كل اللغات.
١٥ «فَذَاعَ ٱلْخَبَرُ عَنْهُ أَكْثَرَ. فَٱجْتَمَعَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ لِكَيْ يَسْمَعُوا وَيُشْفَوْا بِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِمْ».
متّى ٤: ٢٥ ومرقس ٣: ٧ ويوحنا ٦: ٢
نتج انتشار خبر المسيح من عدم إطاعة الأبرص الذي شفي للمسيح (مرقس ١: ٤٥) حتى أنه لم يمكنه أن يدخل مدينة ما لئلا يمسكه أرباب الحكومة بدعوى أنه مهيج للشعب.
١٦ «وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي ٱلْبَرَارِي وَيُصَلِّي».
متّى ١٤: ٢٣ ومرقس ٦: ٤٦
انظر الشرح مرقس ١: ٣٥.

شفاء المفلوج ع ١٧ إلى ٢٦


١٧ «وَفِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ كَانَ يُعَلِّمُ، وَكَانَ فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ. وَكَانَتْ قُوَّةُ ٱلرَّبِّ لِشِفَائِهِمْ».
وَفِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ أي حينما كان يجول في الجليل يبشر (ص ٤: ٤٤).
كَانَ يُعَلِّمُ أي في كفرناحوم (مرقس ٢: ١). وقد سبق الكلام على شفاء هذا المفلوج في شرح بشارة متّى (متّى ٩: ٢ - ٨) وشرح بشارة مرقس (مرقس ٢: ١ - ١٢).
مُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ أوضح لوقا أكثر من متّى ومرقس أن قد أتى كثيرون من رؤساء اليهود من الأماكن القريبة والأماكن البعيدة ليراقبوا يسوع ويجدوا علّة شكاية عليه للحكومة أو واسطة لحط مقامه عند الشعب. وأتوا ذلك حسداً له على نجاحه وخيفة من زيادة تأثير تعليمه في الناس.
مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ أي من أكثر الأماكن التي في بلاد اليهود.
قُوَّةُ ٱلرَّبِّ أي يسوع. والمعنى أنه ظهرت قوة إلهية عن يد الرب يسوع.
لِشِفَائِهِمْ أي شفاء المرضى منهم الذين أتى بهم الجموع الذين كان يعلّمهم. وأظهر يسوع قوته الإلهية ليثبت صحة دعواه أنه هو المسيح. فلولا بشارة لوقا ما عرفنا أنه شفى حينئذ أحداً غير المفلوج.
١٨ «وَإِذَا بِرِجَالٍ يَحْمِلُونَ عَلَى فِرَاشٍ إِنْسَاناً مَفْلُوجاً، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ وَيَضَعُوهُ أَمَامَهُ».
متّى ٩: ٢ ومرقس ٢: ٣
ذكر متّى أن الذين حملوه أربعة وأنهم لم يستطيعوا الدخول إلى يسوع من باب البيت الذي كان فيه لكثرة المجتمعين.
١٩ «وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُونَ بِهِ لِسَبَبِ ٱلْجَمْعِ، صَعِدُوا عَلَى ٱلسَّطْحِ وَدَلَّوْهُ مَعَ ٱلْفِرَاشِ مِنْ بَيْنِ ٱلأَجُرِّ إِلَى ٱلْوَسَطِ قُدَّامَ يَسُوعَ».
ٱلأَجُرِّ هو ترجمة لفظة كَرَامُن في اليونانية أي قرميد والمعنى هنا أوضح مما هو في كلام مرقس فإنه ذكر السقف ولم يذكر مادته. وظن البعض أن ذلك الأجر وضع على سقف ساحة الدار وكان ذلك السقف وقتياً فعلى ذلك يكون فتح المدخل فيه برفع الآجر وهو أمر سهل. واستدل بعضهم بكثرة كِسر الخزف والأجر في ردم كل المدن الجليلية القديمة على أن كل سقوف البيوت الوقتية والدائمة في تلك المدن كانت وقتئذ من الأجر وكلها يمكن أن يُرفع بسهولة عند الحاجة بخلاف ما كان الأمر لو وُضعت من التراب. وظن بعضهم أن لوقا كتب بشارته في بلدة كان كل سقوفها من الأجر فاصطلح أهلها أن يشيروا إلى السقف بلفظة آجر فاستعمل لوقا ذلك لمطلق السقف بقطع النظر عن مادته.
٢٠ «فَلَمَّا رَأَى إِيمَانَهُمْ قَالَ لَـهُ: أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ».
إِيمَانَهُمْ أي إيمان المفلوج وحامليه.
أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ذكر لوقا بعض ما في نداء المسيح من كلامه للمفلوج. ونقل مرقس آخر وهو قول يسوع للمفلوج «يا بني». وذكر متّى آخر وهو قوله «ثق».
٢١ «فَٱبْتَدَأَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يُفَكِّرُونَ قَائِلِينَ: مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟».
متّى ٩: ٣ ومرقس ٢: ٦ و٧، مزمور ٣٢: ٥ وإشعياء ٤٣: ٢٥
وجد الكتبة والفريسيون في كلام المسيح هنا علّة للشكاية عليه كما كانوا يطلبون. ولا ريب في أنهم فرحوا بذلك كما فرح قيافا عند محاكمة يسوع بإصابته علّة للحكم من فم المسيح (متّى ٢٦: ٦٣ و٦٥).
يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ لو لم يكن المسيح إلهاً لكان ما قاله تجديفاً لا محالة لأنه ادعى قوة على مغفرة الخطايا لكنه أثبت للمشاهدين دعواه أنه إله بالمعجزة التي صنعها أمامهم فأخطأوا بعدم تسليمهم بصحة دعواه بعد البينة الجلية.
٢٢ - ٢٤ «٢٢ فَشَعَرَ يَسُوعُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَقَالَ لَـهُمْ: مَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِكُمْ؟ ٢٣ أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ قُمْ وَٱمْشِ. ٢٤ وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ فِرَاشَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِك».
مرّ تفسير ذلك في شرح إنجيل متّى (متّى ٩: ٤ - ٦).
لِكَيْ تَعْلَمُوا الخ (ع ٢٤) كأن المسيح بذلك يقول أنتم تظنون قولي «مغفورة لك خطاياك» باطلاً. وأنا أبرهن لكم بمعجزة سماوية أن لقولي سلطاناً على الأمراض الجسدية وذلك يثبّت لكم سلطانه على الأمراض الروحية. وهذا مثل البرهان الذي أتاه إيليا على جبل الكرمل على أنه نبي الله (١ملوك ١٨: ٢١ - ٣٩). فصنع المسيح ثلاث معجزات في ذلك الوقت.

  • الأولى: معرفة أفكار قلوب أعدائه.
  • الثانية: شفاء جسد المفلوج.
  • الثالثة: مغفرة خطاياه وهي أعظم الكل.


٢٥ «فَفِي ٱلْحَالِ قَامَ أَمَامَهُمْ، وَحَمَلَ مَا كَانَ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ وَهُوَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ».
قَامَ أَمَامَهُمْ هذا لم يدع لهم سبيلاً إلى إنكار المعجزة. وكان يجب على الفريسيين أن يعترفوا لما شاهدوا ذلك بأن يسوع هو المسيح كما فعل الناس في زمان إيليا فلما نزلت النار من السماء على المحرقة بصلاته سقط جميع الشعب على وجوههم قائلين بفم واحد «الرب هو الله الرب هو الله». ولكن الفريسيين لم يعترفوا بيسوع إنما تأثر بعض الشعب كثيراً.
وَهُوَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ هذا لم يذكره متّى ولا مرقس. ومعناه أن المفلوج شكر الله وحمده عندما خرج حاملاً الفراش الذي كان محمولاً عليه.
٢٦ «فَأَخَذَتِ ٱلْجَمِيعَ حَيْرَةٌ وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ، وَٱمْتَلأُوا خَوْفاً قَائِلِينَ: إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱلْيَوْمَ عَجَائِبَ!».
كان الجمع كثيراً فلا بد من أن كانت الأقوال متنوعة في إظهار التعجب فنقل متّى شيئاً منها ونقل مرقس شيئاً آخر ونقل لوقا غيره ممن أخذ عنهم. ولم تكن علّة حيرتهم المعجزة وحدها بل صنع المسيح إياها إثباتاً لادعائه سلطاناً أعظم من سلطان شفاء الأمراض وهو القدرة على مغفرة الخطايا.

دعوة لاوي والمخاطبة في بيته ع ٢٧ إلى ٣٩


٢٧، ٢٨ «٢٧ وَبَعْدَ هٰذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّاراً ٱسْمُهُ لاَوِي جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَـهُ: ٱتْبَعْنِي. ٢٨ فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ».
متّى ٩: ٩ ومرقس ٢: ١٣ و١٤
سبق الكلام على ذلك في الشرح متّى ٩: ٩ ومرقس ٢: ١٣ و١٤.
عَشَّاراً تقدم بيان ماهية العشار ومقامه عند اليهود في شرح بشارة متّى (متّى ٥: ٤٦).
لاَوِي هو متّى الرسول الإنجيلي (متّى ٩: ٩ و١٠: ٣). وكان جليلياً وطناً ويهودياً ديناً وعشاراً عملاً ورسولاً وكاتب بشارة بدعوة إلهية. ويحتمل أن يسوع سماه متّى عندما دعاه ليكون رسولاً كما سمى سمعان بطرس. ومتّى كلمة عبرانية مختصر متّاثيا ومعناه هبة الله.
ٍفَتَرَكَ كُلَّ شَيْء هذا علاوة على ما قال متّى ومرقس ومعناه أنه اعتزل باطناً كل رجائه المكاسب المالية والمقاصد الدنيوية واعتزل ظاهراً جميع الأعشار لكي يكون تلميذاً للمسيح.
٢٩ - ٣٢ «٢٩ وَصَنَعَ لَـهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَٱلَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعاً كَثِيراً مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. ٣٠ فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟ ٣١ فَأَجَابَ يَسُوعُ: لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. ٣٢ لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ».
متّى ٩: ١٠ ومرقس ٢: ١٥، ص ١٥: ١، متّى ٩: ١٣ و١تيموثاوس ١: ١٥
ضِيَافَةً كَبِيرَةً (انظر الشرح متّى ٩: ١٠ - ١٧ ومرقس ٢: ١٥ - ٢٢).
ذكر لوقا أن هذه الضيافة كانت في بيت متّى ولكن متّى لم يذكر ذلك تواضعاً. ونص على أنها كانت كبيرة أي المعدات كثيرة الصنوف. والأرجح أن متّى أولم تلك الوليمة إكراماً للمسيح وليجعل لأقاربه وأصحابه فرصة أن يسمعوا كلام يسوع.
جَمْعاً كَثِيراً (ع ٢٩) كان من شأن حرفة متّى أن يتعرف بكثيرين من الناس فكان المدعوين من أصحابه ومعارفه ورصفائه.
خُطَاةٍ (ع ٣٠) لا يلزم من تسمية الفريسيين إياهم بذلك أنهم كانوا أشراراً مشهورين بسوء السيرة. ولكن أولئك المدعين البرّ الذاتي اعتبروا الذين لا يحفطون شريعة موسى مثلهم خطاة. أو لعلهم أضافوا قولهم خطاة إلى قولهم عشارين بياناً لاعتبارهم الأمرين واحداً. ووجهوا اللوم إلى التلاميذ وقصدهم ملامة يسوع معلمهم.
٣٣ - ٣٨ «٣٣ وَقَالُوا لَـهُ: لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً وَيُقَدِّمُونَ طِلْبَاتٍ، وَكَذٰلِكَ تَلاَمِيذُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَيْضاً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ ٣٤ فَقَالَ لَـهُمْ: ٣٥ أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي ٱلْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ. ٣٦ وَقَالَ لَـهُمْ أَيْضاً مَثَلاً: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَٱلْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَٱلْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ ٱلرُّقْعَةُ ٱلَّتِي مِنَ ٱلْجَدِيدِ. ٣٧ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ ٱلْخَمْرُ ٱلْجَدِيدَةُ ٱلزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَٱلزِّقَاقُ تَتْلَفُ. ٣٨ بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعا».
متّى ٩: ١٤ ومرقس ٢: ١٨، متّى ٩: ١٦ و١٧ ومرقس ٢: ٢١ و٢٢
سبق الكلام على تعليم المسيح في حقيقة الصوم في الشرح (متّى ٩: ١٤ - ١٧ ومرقس ٢: ١٨ - ٢٢). ونقل الإنجيليون الثلاثة الأمثال الثلاثة التي أوردها المسيح بياناً لمراده. أخذ أولها من عوائد الأعراس. والثاني من عوائد رقع خروق الثياب. والثالث من عوائد حفظ الخمر الجديدة.
وَقَالُوا لَـهُ (ع ٣٣) نفهم من القرينة هنا أن القائلين هم الفريسيون ومن الذي في بشارة متّى أن القائلين هم تلاميذ يوحنا المعمدان ومن الذي في بشارة مرقس أن القائلين هم تلاميذ يوحنا والفريسيون (مرقس ٢: ١٨). وهو يدفع شبهة الخلاف بين متّى ولوقا.
طِلْبَاتٍ ليس المراد بهذه الطلبات الصلوات المرتجلة التي يصلّيها الأتقياء بغية ما يحتاجون إليه من البركات بل تلاوة صلوات مكتوبة فُرضت عليهم كسائر الطقوس.
زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ (ع ٣٧) أشار بهذه الزقاق إلى النظام الموسوي الطقسي.
زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ أي نظام المسيحي الروحي. وأشار بالخمر العتيقة إلى الديانة اليهودية وبالخمر الجديدة إلى الديانة المسيحية. وكل ما ذُكر من كلام المسيح في هذا بيان تعذر الاتفاق بين الطقوس اليهودية والحرية المسيحية. وهذا الفصل مختصر الحقائق التي أوضحها بولس في رسالته إلى أهل غلاطية.
٣٩ «وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ ٱلْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ ٱلْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: ٱلْعَتِيقُ أَطْيَبُ».
ليس معنى المسيح في هذا العدد أن يقابل النظام اليهودي بالنظام المسيحي للحكم بأطيبية أحدهما بل إظهار الواقع وهو أنه صعب على الناس أن يتركوا حالاً ما اعتادوه ويتمسكوا بغيره. والكلام هنا متعلق بالآية الثانية والثلاثين وفيه شيء من العذر عن تلاميذ يوحنا المعمدان وأمثالهم الذين لا يسرعون إلى قبول تعليم المسيح الروحي بترك الطقوس القديمة.
لِلْوَقْتِ أي في أول عرض الديانة الروحية عليه قبل أن يقابلها بالطقسية وقبل أن ينير روح الله قلبه ليتحقق فضل النظام الجديد. ومثال ذلك شاول الطرسوسي الذي رُبي في الديانة اليهودية واضطهد تابعي الإيمان الجديد بغية أن يميتهم لكنه بعد هذا صار رسولاً لذلك الإيمان وحامى عنه بكل قوته.


الأصحاح السادس


المناظرة لليهود في أمر حفظ السبت ع ١ إلى ١١


١ - ٥ «١ وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱلثَّانِي بَعْدَ ٱلأَوَّلِ ٱجْتَازَ بَيْنَ ٱلزُّرُوعِ. وَكَانَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ ٱلسَّنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ وَهُمْ يَفْرُكُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ. ٢ فَقَالَ لَـهُمْ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: لِمَاذَا تَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي ٱلسُّبُوتِ؟ ٣ فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ وَلاَ هٰذَا ٱلَّذِي فَعَلَـهُ دَاوُدُ، حِينَ جَاعَ هُوَ وَٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، ٤ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ ٱللّٰهِ وَأَخَذَ خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ وَأَكَلَ، وَأَعْطَى ٱلَّذِينَ مَعَهُ أَيْضاً، ٱلَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ؟ ٥ وَقَالَ لَـهُمْ: إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضا».
متّى ١٢: ١ ومرقس ٢: ٢٣، خروج ٢٠: ١٠ و٢كورنثوس ٣: ٦، ١صموئيل ٢١: ٦، لاويين ٢٤: ٩
فِي ٱلسَّبْتِ ٱلثَّانِي بَعْدَ ٱلأَوَّلِ لم يتضح أي زمان أشار إليه المسيح بهذه الكلمات على أنه ليس من أهمية لذلك. وقد ظن أكثر المفسرين أن المراد بالأول اليوم الأول من الفصح وبالثاني غده وهو يوم السبت وهو عند اليهود السبت الأول من السنة الدينية. وكان اليهود يقدّمون للرب في اليوم الثاني من العيد باكورة الحصاد ولم يكن جائزاً لهم أن يأكلوا من غلالهم الجديدة شيئاً قبل التقديم (لاويين ٢٣: ١٠ و١١ و١٤). وحضر يسوع العيد وأسرع بالرجوع من أورشليم إلى الجليل لعلّة ذُكرت في إنجيل يوحنا (يوحنا ٥: ١٥ و١٦). وظن آخرون أن المراد بالأول السبت الأول من السنة المدنية أو السياسية وهو في نحو أول شهر تشرين الأول وأن المراد بالسبت الثاني السبت الأول من السنة الدينية وهو في نحو أول نيسان. وظن غيرهم أن المراد بالسبت الثاني السبت الواقع في أسبوع عيد الخمسين لأن لليهود ثلاثة سبوت في السنة يعتبرونها أكثر مما سواها الأول السبت الواقع في أسبوع الفصح والثاني السبت الواقع في أسبوع عيد الخمسين والثالث السبت الواقع في أسبوع عيد المظال.
يَقْطِفُونَ ٱلسَّنَابِلَ الخ سبق الكلام على عمل التلاميذ المذكور وشكاية الفريسيين وجواب المسيح في الشرح (متّى ١٢: ١ - ٨ ومرقس ٢: ٢٣ و٢٨). ولا فرق في رواية لوقا عن روايتي متّى ومرقس إلا أن لوقا ذكر شكوى الفريسيين إلى المسيح نفسه وأن متّى ومرقس ذكرا أنهم لاموا التلاميذ. ولعلهم لاموا التلاميذ أولاً ثم شكوهم إلى معلمهم يسوع.
فَأَجَابَ يَسُوعُ (ع ٣) كانت خلاصة جوابه أمرين. الأول أنه تجوز الأعمال الضرورية في يوم الراحة أي يوم الرب. والثاني أنه يجوز في ذلك اليوم عمل ما أمر به هو أو ما سمح به أو كان في سبيل خدمته.
٦ - ١١ «٦ وَفِي سَبْتٍ آخَرَ دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ وَصَارَ يُعَلِّمُ. وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ ٱلْيُمْنَى يَابِسَةٌ، ٧ وَكَانَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِي فِي ٱلسَّبْتِ، لِكَيْ يَجِدُوا عَلَيْهِ شِكَايَةً. ٨ أَمَّا هُوَ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَدُهُ يَابِسَةٌ: قُمْ وَقِفْ فِي ٱلْوَسَطِ. فَقَامَ وَوَقَفَ. ٩ ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ يَسُوعُ: أَسْأَلُكُمْ شَيْئاً: هَلْ يَحِلُّ فِي ٱلسَّبْتِ فِعْلُ ٱلْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ ٱلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ إِهْلاَكُهَا؟. ١٠ ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَـهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ. فَفَعَلَ هٰكَذَا. فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَٱلأُخْرَى. ١١ فَٱمْتَلأُوا حُمْقاً وَصَارُوا يَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ؟».
متّى ١٢: ١٠ ومرقس ٣: ١، ص ١٣: ١٤ و١٤: ٣ ويوحنا ٩: ١٦
فُسر ذلك في ما سبق من الشرح متّى ١٢: ٩ - ١٤ ومرقس ٣: ١ - ٦. والأرجح أن الحادثة المذكورة هنا حدثت في كفرناحوم. وزاد لوقا على ما ذكره متّى ومرقس أن شفاء يسوع ليابس اليد كان في السبت الذي يلي السبت الذي فرك فيه تلاميذه السنابل وأن يسوع كان يعلّم وقتئذ في المجمع. وأن اليد اليابسة كانت اليمنى. وأنه عرف ما في قلوب الفريسيين من الحسد والبغض وأنهم اعتبروه مخالفاً وصية السبت. وأنهم امتلأوا حمقاً. ولم يذكر لوقا ما ذكره مرقس من أن الفريسيين اتفقوا هم والهيروديون على اضرار المسيح.

انتخاب الاثني عشر واجتماع الشعب إلى يسوع ع ١٢ إلى ١٩


١٢ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى ٱلْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى ٱللَّيْلَ كُلَّهُ فِي ٱلصَّلاَةِ لِلّٰهِ».
متّى ١٤: ٢٣
ٱلْجَبَلِ هو جبل قرب بحر الجليل أي بحيرة طبرية حيث كان يسوع يتردد وقتئذ (مرقس ٣: ٧).
لِيُصَلِّيَ مما امتاز به لوقا محبته أن يذكر انفراد يسوع للصلاة مراراً. وكانت غاية المسيح من صلاته يومئذ الاستعداد لانتخاب رُسله. فإن قيل ما حاجة المسيح إلى الصلاة قلنا أنه إنسان كما أنه إله فاحتاج باعتبار كونه إنساناً إلى البركة الإلهية. وحاجته إلى الطعام. ولم يكن يصلّي لأجل نفسه فقط بل لأجل غيره أيضاً بالنظر إلى كونه وسيطاً بين الله والناس كما يُرى من صلاته التي ذكرها يوحنا الإنجيلي (يوحنا ص ١٧). وأنه لا يزال يصلّي كذلك في السماء (عبرانيين ٧: ٢٥).
١٣ «وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ، وَٱخْتَارَ مِنْهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضاً «رُسُلاً».
متّى ١٠: ٢ ومرقس ٣: ١٤ الخ
وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ أي أول الصبح.
تَلاَمِيذَهُ أي المؤمنين به التابعين إياه ليسمعوا تعاليمه.
َٱخْتَار لا يلزم من ذلك أن المسيح لم يكن قد اختارهم في ذهنه قبلاً لأن المراد هنا أن المسيح أظهر علناً الذين اختارهم رُسلاً ليكونوا رُسلاً بعد. وقد سبق الكلام على هذا في ما مرّ من الشرح (متّى ١٠: ٢ - ٤ و١٢: ١٥ - ٢١ ومرقس ٣: ٧ - ١٩).
ولم يذكر متّى في بشارته اختيار الرسل بل إرسال المسيح إياهم للتبشير. والذي قصده لوقا هنا الاختيار فقط. وأما الإرسال فكان بعد ان علّمهم يسوع زماناً.
١٤ - ١٦ «١٤ سِمْعَانَ ٱلَّذِي سَمَّاهُ أَيْضاً بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ. يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ. ١٥ مَتَّى وَتُومَا. يَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَسِمْعَانَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْغَيُورَ. ١٦ يَهُوذَا بْنَ يَعْقُوبَ، وَيَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ ٱلَّذِي صَارَ مُسَلِّماً أَيْضاً».
يوحنا ١: ٤٢، يهوذا ١
مرّ الكلام على ذلك في الشرح متّى ١٠: ١ - ٤.
١٧ - ١٩ «١٧ وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، ٱلَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ، ١٨ وَٱلْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. ١٩ وَكُلُّ ٱلْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ، لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي ٱلْجَمِيعَ».
متّى ٤: ٢٥ ومرقس ٣: ٧، متّى ٢٤: ٣٦، مرقس ٥: ٣٠ وص ٨: ٤٦
وَنَزَلَ أي من قنة الجبل حيث صعد للصلاة ودعا تلاميذه إليه.
فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ ذلك سهل صغير في السفح لا في الحضيض لأن المسيح لم ينحدر إليه كما يظهر من قول متّى (متّى ٥: ١). ولعله نزل أولاً إلى الحضيض وشفى المرضى هناك ولما ازدحم الجموع صعد ثانية إلى الجبل وخاطبهم من هنالك.
جُمْهُورٌ كَثِيرٌ كان هنالك سوى الرسل والتلاميذ قسم ثالث من الناس وهم الذين أتوا ليسمعوا المسيح وينالوا الشفاء منه وهم لم يؤمنوا به إيماناً صحيحاً. وقد مرّ الكلام على هذا الجمهور في الشرح (متّى ٤: ٢٣ - ٢٥ ومرقس ٣: ٧ و٨).
لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ (ع ١٩) أي ظهرت القوة التي فيه بمعجزات الشفاء.

الوعظ على الجبل ع ٢٠ إلى ٤٩


٢٠ «وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
متّى ٥: ٣ و١١: ٥ ويعقوب ٢: ٥
ظن بعضهم أن الوعظ المذكور هنا غير الوعظ على الجبل الذي ذكره متّى في الأصحاحات الثلاثة الخامس والسادس والسابع ولكنه تكرير جزء من ذلك الوعظ في مكان آخر ووقت آخر. والذي حملهم على ذلك هو قول متّى أن يسوع صعد إلى الجبل وجلس (متّى ٦: ١). وقول لوقا أنه نزل ووقف في موضع سهل (ع ١٧) ولكن لوقا قال أن المسيح نزل ولم يبين أبقي في موضعه أم صعد أيضاً وهل وقف عند الوعظ أو جلس. ومما حملهم على ذلك أيضاً أن الخطاب في إنجيل لوقا أقصر من الخطاب في إنجيل متّى. لكن متّى كتب بشارته إلى اليهود ففسر لهم كما يقتضي الطبع ما ذكره المسيح لبيان روحانية ملكوته خلافاً لتعليم الكتبة والفريسيين الناموسي. وكتب لوقا إلى الأمم فلم يحتج إلى أن يحذرهم من تعليم أولئك. ولكن مع هذا الفرق الجزئي اتفق أكثر المفسرين على أن الوعظ الذي ذكره لوقا هو الوعظ الذي ذكره متّى وأن كلا منهم ذكر منه ما يوافق قصده في تسطير بشارته. والذي حملهم على ذلك مماثلة بداءة كل من الوعظين ونهايته ووحدة معنى الاثنين. وذكر كل من البشيرين على أثر فراغ المسيح من الوعظ دخوله إلى كفرناحوم وشفاءه عبد القائد. وقد مرّ تفسير الوعظ على الجبل في الشرح فارجع إليه (متّى ص ٥ وص ٦ وص ٧).
وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ لو لم يكن في نظر يسوع إلى تلاميذه حينئذ أمر غير عادي لم يذكره لوقا في مقدمة نبإ الوعظ. وقال متّى في مقدمته لذلك «فتح فاه». فكلتا العبارتين تدل على أهمية الخطاب على أثر ذلك.
طُوبَاكُمْ ذكر متّى سبع تطويبات خاصة وختمها بثامنة عامة. واقتصر لوقا على ذكر أربع منها هن الأولى والرابعة والثانية والتي هي الخاتمة مما ذكره متّى.
أَيُّهَا ٱلْمَسَاكِينُ أي المساكين بالروح (متّى ٥: ٣). وهم الذين يشعرون بفقرهم الروحي ويأتون إلى المسيح ليغنيهم.
مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ أي ملكوت السماوات والمعنى واحد لأن ملكوت السماء ملكوت الله. فلوقا نسب الملكوت إلى الملك ونسبه متّى إلى مكان عرشه تعالى. وذكر متّى الكلام على سبيل الغيبة بقوله «طوباكم الخ» وذكره لوقا في سبيل الخطاب كما رأيت وجرى كل من البشيرين على سبيله في ذلك الوعظ كله.
والمقصود بالوعد للمساكين أنهم يتمتعون بكل حقوق ملكوت الله وبركاته الروحية.
٢١ «طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْجِيَاعُ ٱلآنَ، لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْبَاكُونَ ٱلآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ».
إشعياء ٥٥: ١ و٦٥: ١٣ ومتّى ٥: ٦، إشعياء ٦١: ٣ ومتّى ٥: ٤
ٱلْجِيَاعُ لم يكن جوع هؤلاء جوع الجسد إلى الخبز بل جوع النفس إلى البرّ (متّى ٥: ٦).
ٱلْبَاكُونَ ٱلآنَ علّة بكائهم الخطية ونتائجها من غضب الله وعقابه كما يتضح مما ذكره متّى (متّى ٥: ٤).
سَتَضْحَكُونَ أي تبتهجون وعلّة ابتهاجهم مغفرة خطاياهم ورضى الله عنهم الآن وإلى الأبد.
٢٢ «طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ ٱلنَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا ٱسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ».
متّى ٥: ١١ و١بطرس ٢: ١٩ و٣: ١٤ و٤: ١٤، يوحنا ١٦: ٢
أَبْغَضَكُمُ لأنكم تلاميذي. وهذا علّة ما ذكره متّى من التعيير والطرد وغيره (متّى ٥: ١٠ و١١).
أَفْرَزُوكُمْ أي طردوكم من المجامع وحرموكم الحقوق التي للشعب اليهودي.
٢٣ «اِفْرَحُوا فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا، فَهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هٰكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِٱلأَنْبِيَاءِ».
متّى ٥: ١٢ وأعمال ٥: ٤١ وكولوسي ١: ٢٤ ويعقوب ١: ٢، أعمال ٧: ٥١ و٥٢
فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي يوم اضطهاد الناس إياكم لأجلي (متّى ٥: ١٢).
٢٤ - ٢٦ «٢٤ وَلٰكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. ٢٥ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلشَّبَاعَى، لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّاحِكُونَ ٱلآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. ٢٦ وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ ٱلنَّاسِ حَسَناً. لأَنَّهُ هٰكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ».
عاموس ٦: ١ وص ١٢: ٢١ ويعقوب ٥: ١، متّى ٦: ٢ و٥ و١٦ وص ١٦: ٢٥، إشعياء ٦٥: ١٣، أمثال ١٤: ١٣، يوحنا ١٥: ١٩ و١يوحنا ٤: ٥
لم يذكر متّى الويلات المذكورة هنا. ولا ريب أنه كان في خطاب المسيح أشياء أُخر لم يذكرها أحد من البشيرين. والأرجح أن تلك الويلات وُجهت إلى الفريسيين الذين كانوا هنالك.
وَيْلٌ معناه عكس معنى طوبى وهو هنا دلالة على الشقاء في الدنيا والآخرة.
أَيُّهَا ٱلأَغْنِيَاءُ أي المكتفون بنصيبهم الدنيوي المتكلون على غناهم كأنه الخير الأعظم فهم لا يشعرون بفقر نفوسهم وليس لهم كنز في السماء (مرقس ١٠: ٢٤ ولوقا ١٢: ١٩ و٢٠ و١تيموثاوس ٦: ٩ و١٠ و١٧). وأوضح يسوع مراده هنا في مثل الغني ولعازر (ص ١٦: ١٩).
نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ أي نلتم ما يكون من مال الأرض من التعزية وهو عزاء قصير ناقص. وقوله «نلتم عزاءكم» دليل على أن ذلك نصيبهم الوحيد الذي لا عزاء لهم بعده لا من الإنجيل ولا من المسيح وفقاً لقول إبراهيم للغني في الجحيم «يَا ٱبْنِي ٱذْكُرْ أَنَّكَ ٱسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ» (ص ١٦: ٢٥).
ٱلشَّبَاعَى (ع ٢٥) ما في هذه الآية عكس ما في الآية ٢١. والمراد بالشباعى هنا المكتفون بالعاجل أي ما لهم من هذه الحياة الدنيا غير جائعين إلى البر.
سَتَجُوعُونَ (ع ٢٥) أي ستشعرون أن لذّات هذه الدنيا لا تشبع النفس الخالدة. وقد يعتري ذلك الجوع النفس في أثناء لذاتها الدنيوية وكثيراً ما يعتريها عند الموت ومفارقة كل نعيم أرضي ومعظم ذلك في الأبدية حيت تكون النفس مفتقرة إلى كل عزاء.
ٱلضَّاحِكُونَ (ع ٢٥) أي المتمتعون بلذّات هذا العالم مفضلين إياها على اللذّات التي هي عند يمين الله بلا حزن على الخطية ولا خوف من العقاب.
سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ في ساعة البلية التي ترون فيها أن لذات العالم لا تستطيع تعزيتكم وفي ساعة تضطرون فيها أن تتركوا كل تلك اللذّات وتقفوا أمام الديّان العادل (أمثال ١٤: ١٣ وجامعة ٧: ٦).
وَيْلٌ لَكُمْ (ع ٢٦) هذا خطاب للتلاميذ لا للدنيويين الذين كان يخاطبهم.
جَمِيعُ ٱلنَّاسِ (ع ٢٦) أي الدنيويين.
قَالَ فِيكُمْ... حَسَناً (ع ٢٦) تفسير هذا قوله «لَوْ كُنْتُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ لَكَانَ ٱلْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلٰكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ... لِذٰلِكَ يُبْغِضُكُمُ ٱلْعَالَمُ» (يوحنا ١٥: ١٩). وقول الرسول «أَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ» (يعقوب ٤: ٤) فلا يمكن أهل العالم أن يقولوا في تلاميذ المسيح حسناً ما لم يكونوا مثلهم مخالفين ضمائرهم عائشين في الرياء والإثم طالبين مجد الناس لا المجد الذي هو من الله وحده. فمدح العالم لأولئك التلاميذ برهان على أن أقوالهم وأعمالهم لا تبكت العالميين ولا تماثل أعمال المسيح التي يبغضها أهل العالم.
لأَنَّهُ هٰكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ الخ أي آباء الدنيويين في أزمنة الأنبياء الكذبة. ولم يرد المسيح الإشارة إلى حادثة معينة بل الإعلان بحقائق عامة وهي أن آباءهم أحبوا خطاياهم ومدحوا الأنبياء الكذبة لأنهم لم يوبخوهم على تلك الخطايا. ومن ذلك أنبياء البعل وأنبياء إسرائيل الذين ذكرهم إشعياء وإرميا (إشعياء ٣٠: ١٠ وإرميا ٥: ٣١).
٢٧، ٢٨ «٢٧ لٰكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلسَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، ٢٨ بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ».
خروج ٢٣: ٤ وأمثال ٢٥: ٢١ ومتّى ٥: ٤٤ وع ٣٥ ورومية ١٢: ٢٠، ص ٢٣: ٢٤ وأعمال ٧: ٦٠
انظر الشرح متّى ٥: ٤٤ و٤٥
٢٩ «مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَٱعْرِضْ لَـهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضاً».
متّى ٥: ٣٩، ١كورنثوس ٦: ٧
ارجع إلى الشرح متّى ٥: ٣٩ و٤٠.
٣٠ «وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ ٱلَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ».
تثنية ١٥: ٧ و٨ و١٠ وأمثال ٢١: ٢٦ ومتّى ٥: ٤٢
تقدم تفسيره متّى ٥: ٤٢.
٣١ «وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هٰكَذَا».
متّى ٧: ١٢
سبق شرحه متّى ٧: ١٢.
٣٢ - ٣٦ «٣٢ وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. ٣٣ وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى ٱلَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هٰكَذَا. ٣٤ وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ ٱلَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ ٱلْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ ٱلْمِثْلَ. ٣٥ بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي ٱلْعَلِيِّ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ ٱلشَّاكِرِينَ وَٱلأَشْرَارِ. ٣٦ فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ».
متّى ٥: ٤٦، متّى ٥: ٤٢ ع ٢٧، مزمور ٣٧: ٢٦ وع ٣٠، متّى ٥: ٤٥، متّى ٥: ٤٨
انظر الشرح متّى ٥: ٤٦ - ٤٨.
والفرق هنا عما ذكره متّى أن لوقا ذكر عمل اللطف والإحسان إلى الأصحاب. ومتّى لم يذكر سوى التحيات التي تدل على المحبة التي هي مصدر اللطف والإحسان.
٣٧، ٣٨ «٣٧ وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. ٣٨ أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جَيِّداً مُلَبَّداً مَهْزُوزاً فَائِضاً يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ ٱلْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ».
متّى ٧: ١، أمثال ١٩: ١٧، مزمور ٧٩: ١٢، متّى ٧: ٢ ومرقس ٤: ٢٤ ويعقوب ٢: ١٣
انظر الشرح متّى ٧: ١ - ٩.
كَيْلاً جَيِّداً مُلَبَّداً مَهْزُوزاً فَائِضاً هذا مجاز مأخوذ مما اعتادوه في كل الحبوب وكل أوصاف الكيل هنا إشارة إلى كماله وكمال الثواب للمحسنين إلى الفقراء والمحتاجين.
فِي أَحْضَانِكُمْ (ع ٣٨) كانت ثياب اليهود يومئذ كثياب كثيرين من أهل الشرق اليوم طويلة واسعة يتنطق عليها حتى يمكن أن يوضع في العب كثير من الحبوب كالقمح والشعير وغيرها (خروج ٤: ٦ و٧ وراعوث ٣: ١٥ و٢ملوك ٤: ٣٩ وأمثال ٦: ٢٧ و١٥: ٣٣). والمعنى أن الناس يعاملوكم بالقول والعمل كما تعاملونهم فإن كنتم بخلاء على غيركم منتقدين أعمالهم كانوا عليكم كذلك وإن كنتم لطفاء بهم مسامحين لهم كرماء عليهم كانوا لكم كذلك. وقال يسوع مثل هذا في بشارة مرقس (مرقس ٤: ٢٤) لكن لغاية أخرى فإن قصده هناك أن يعلّم تلاميذه أنهم إن قبلوا تعاليمه برغبة ونشاط واجتهدوا في إفادة الجهلاء مما تعلّموا زادهم علماً وفائدة.
٣٩ «وَضَرَبَ لَـهُمْ مَثَلاً: هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا يَسْقُطُ ٱلاثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ؟».
متّى ١٥: ١٤
.ارجع إلى الشرح متّى ١٥: ١٤
هذه الآية لم يذكرها متّى في ما نقله من الوعظ على الجبل بل ذكرها في خطاب المسيح للفريسيين وهو يتكلم على سوء تعليمهم في أمر النجاسة. وذكرها لوقا هنا مثلاً سائراً بين اليهود وهي متعلقة بالكلام في ع ٤٠ و٤١.
٤٠ «لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَارَ كَامِلاً يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ».
متّى ١٠: ٢٤ ويوحنا ١٣: ١٦ و١٥: ٢٠
سبق الكلام على هذا في الشرح متّى ١٠: ٢٤. ولكن القرينة والغاية في إنجيل متّى ليستا كالقرينة والغاية هنا فإن الغاية في بشارة متّى بيان أنه يجب على التلميذ أن ينتظر بغض الناس واضطهادهم إياه كما أبغضوا واضطهدوا معلمه. والغاية هنا لا ينتظر من التلميذ أن يعرف أكثر من معلمه فإن كان المعلم أعمى فالتلميذ كذلك. وأشار المسيح بذلك إلى أهمية أن يكون تلاميذه متعلمين كل حقائق الإنجيل لكي لا يكونوا قواداً عمياً للعميان.
كَامِلاً (ع ٤٠) أي متعلماً كل ما قدر معلمه أن يعلّمه إياه حتى صار كالمعلم. فلا يمكنه أن يتعلّم من المعلم ما لا يعلمه. وحث المسيح تلاميذه بهذا الكلام على الرغبة في بلوغ الدرجة العليا من سلم العلم لكي يكونوا قادرين على تبليغ غيرهم إليها.
وكان المسيح مثالاً في ما يجب أن يتصف به المعلم فلم يكن منتقداً ولا متكبراً بل كان لطيفاً متواضعاً حليماً فيجب على كل معلم أن يتمثل به في كل ذلك.
٤١، ٤٢ «٤١ لِمَاذَا تَنْظُرُ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا ٱلْخَشَبَةُ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ ٤٢ أَوْ كَيْفَ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ لأَخِيكَ: يَا أَخِي دَعْنِي أُخْرِجِ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِكَ، وَأَنْتَ لاَ تَنْظُرُ ٱلْخَشَبَةَ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَوَّلاً ٱلْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيك».
متّى ٧: ٣، أمثال ١٨: ١٧
انظر الشرح متّى ٧: ٣ - ٥.
٤٣، ٤٤ «٤٣ لأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً رَدِيّاً، وَلاَ شَجَرَةٍ رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً جَيِّداً. ٤٤ لأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا. فَإِنَّهُمْ لاَ يَجْتَنُونَ مِنَ ٱلشَّوْكِ تِيناً، وَلاَ يَقْطِفُونَ مِنَ ٱلْعُلَّيْقِ عِنَباً».
متّى ٧: ١٦ و١٧، متّى ١٢: ٣٣، متّى ٧: ١٦
انظر الشرح متّى ٧: ١٦ - ١٨.
في هذا الكلام بيان العلاقة الشديدة بين صفات الإنسان وتعليمه. فالإنسان الصالح لا يكون معلم الضلال والإنسان الشرير لا يستطيع أن يكون معلم الحق. وهذا خلاف ما يعتقده البعض من جواز أن تكون سيرة الإنسان رديئة مع صلاحه لأن يكون معلم الشعب الديني.
٤٥ «اَلإِنْسَانُ ٱلصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلصَّالِحِ يُخْرِجُ ٱلصَّلاَحَ، وَٱلإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ».
متّى ١٢: ٣٤ و٣٥
(انظر الشرح متّى ١٢: ٣٥). هذه الآية لم يذكرها متّى في وعظ المسيح على الجبل لكنه ذكرها في موضع آخر ولا عجب من أن المسيح كررها لأهميتها.
٤٦ - ٤٩ «٤٦ وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، وَأَنْتُمْ لاَ تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟ ٤٧ كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلاَمِي وَيَعْمَلُ بِهِ، ٤٨ يُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتاً، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ ٱلأَسَاسَ عَلَى ٱلصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ ٱلنَّهْرُ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى ٱلصَّخْرِ. ٤٩ وَأَمَّا ٱلَّذِي يَسْمَعُ وَلاَ يَعْمَلُ، فَيُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ، فَصَدَمَهُ ٱلنَّهْرُ فَسَقَطَ حَالاً، وَكَانَ خَرَابُ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ عَظِيماً».
ملاخي ١: ٦ ومتّى ٧: ٢١ و٢٥: ١١ وص ١٣: ٢٥، متّى ٧: ٢٤
انظر الشرح متّى ٧: ٢١ - ٢٧.


الأصحاح السابع


شفاء عبد قائد المئة الروماني ع ١ إلى ١٠


١، ٢ «١ وَلَمَّا أَكْمَلَ أَقْوَالَـهُ كُلَّهَا فِي مَسَامِعِ ٱلشَّعْبِ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ. ٢ وَكَانَ عَبْدٌ لِقَائِدِ مِئَةٍ، مَرِيضاً مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ، وَكَانَ عَزِيزاً عِنْدَه».
متّى ٨: ٥ الخ
لا فرق يعتد به بين ما ذكره متّى وما ذكره لوقا في قصة هذا القائد ومن ذلك أن متّى قال أن مرض العبد كان فالجاً. وسبق شرح هاتين الآيتين في بشارة متّى (٨: ٥ - ١٣).
٣، ٤ «٣ فَلَمَّا سَمِعَ عَنْ يَسُوعَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخَ ٱلْيَهُودِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَشْفِيَ عَبْدَهُ. ٤ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَى يَسُوعَ طَلَبُوا إِلَيْهِ بِٱجْتِهَادٍ قَائِلِينَ: إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَـهُ هٰذَا».
قال متّى أن القائد سأل المسيح وأبان لوقا كيف سأله أي أنه لم يسأله رأساً بل بواسطة شيوخ اليهود وهذا مجاز شائع في كل اللغات المشهورة وهو مثل قوله أن سليمان بنى الهيكل وأن بيلاطس جلد المسيح وهذا القائد بنى المجمع (ع ٥).
٥ «لأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا، وَهُوَ بَنَى لَنَا ٱلْمَجْمَعَ».
اعتبر هذا الإنسان مع أنه وثنيٌ ديانة اليهود وأظهر مودته للإسرائيليين بأن قام ببناء معبد لهم. وهذا خلاف أكثر قواد الرومانيين وولاتهم الظالمين المتكبرين المحتقرين لليهود. ويظهر من قول لوقا في الآية التاسعة «ولا في إسرائيل» أن ذلك القائد لم يكن دخيلاً لأن الدخلاء كانوا يُحسبون شركاء الإسرائيليين في الإيمان والحقوق.
٦ «فَذَهَبَ يَسُوعُ مَعَهُمْ. وَإِذْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنِ ٱلْبَيْتِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ أَصْدِقَاءَ يَقُولُ لَـهُ: يَا سَيِّدُ، لاَ تَتْعَبْ. لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي».
أَصْدِقَاءَ أظهر القائد اعتباره للمسيح بأنه لم يرسل إليه بعض عبيده بل أرسل بعض أصدقائه.
لاَ تَتْعَبْ كان القائد وثنياً ولا ريب في أنه كان يعلم أن دخول المسيح إلى بيته يوجب عليه أن يكون نجساً إلى المساء حسب شريعة اليهود فلم يرد أن يكلفه ذلك.
لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقّاً ألخ حسب هذا القائد لتواضعه أن إتيان المسيح إلى بيته شرف لا يستحقه هو. وشهادته على نفسه بعدم الاستحقاق خلاف شهادة الشيوخ له (ع ٤). فالغالب أن الذين يصغرون في عيون أنفسهم يكبرون في عيون غيرهم وبالعكس.
٧ - ١٠ «٧ لِذٰلِكَ لَمْ أَحْسِبْ نَفْسِي أَهْلاً أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ. لٰكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَيَبْرَأَ غُلاَمِي. ٨ لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ مُرَتَّبٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ، لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. وَأَقُولُ لِهٰذَا: ٱذْهَبْ فَيَذْهَبُ، وَلآخَرَ: ٱئْتِ فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِي: ٱفْعَلْ هٰذَا فَيَفْعَلُ. ٩ وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ هٰذَا تَعَجَّبَ مِنْهُ، وَٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْجَمْعِ ٱلَّذِي يَتْبَعُهُ وَقَالَ: أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا. ١٠ وَرَجَعَ ٱلْمُرْسَلُونَ إِلَى ٱلْبَيْتِ، فَوَجَدُوا ٱلْعَبْدَ ٱلْمَرِيضَ قَدْ صَحَّ».
يوحنا ١: ٢٧
تَعَجَّبَ لم يذكر في الإنجيل أن المسيح تعجب سوى مرتين. الأولى من إيمان هذا القائد. والثانية من عدم إيمان أهل الناصرة (مرقس ٦: ٦).
وَقَالَ: أَقُولُ لَكُمْ الخ مدح المسيح القائد كما مدحه شيوخ اليهود ولكن لعلّة غير التي حملتهم على مدحه فهم مدحوه لسخائه ويسوع مدحه لإيمانه. وترك لوقا هنا بعض ما ذكره متّى (متّى ٨: ١١ و١٢) ولكنه ذكره في موضع آخر. وهذا دليل على أن المسيح كرّره (ص ١٣: ٢٨ و٢٩).
وَرَجَعَ ٱلْمُرْسَلُونَ الخ هذا علاوة على ما ذكره متّى فإنه اقتصر على إنبائه بأن العبد شفي.

إقامة ابن الأرملة في نايين ع ١١ إلى ١٧


١١ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ، وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ».
المسافة بين كفرناحوم ونايين نحو مرحلة. وكانت نايين مدينة في الجليل على سفح حرمون الصغير المعروف اليوم بجبل الدوحيّ على أمد ٢٥ ميلاً من كفرناحوم وعلى مسافة ثلاثة أميال من جبل تابور جنوباً وهي في الجنوب الشرقي من الناصرة وعلى الطرف الشرقي من سهل يزرعيل المعروف اليوم بمرج ابن عامر وهي اليوم قرية حقيرة تسمى نين.
جَمْعٌ كَثِيرٌ كان ذلك والمسيح في سمو اعتبار الشعب له لأن اليهود كانوا يتوقعون أن يكون ملكاً زمنياً ومنقذاً دنيوياً. وذكرهم لوقا لأنهم كانوا شهود المعجزة التي فعلها المسيح في نايين.
١٢ «فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْمَدِينَةِ، إِذَا مَيِّتٌ مَحْمُولٌ ٱبْنٌ وَحِيدٌ لِأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ».
لم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين غير لوقا وهذا لا يضعف الثقة بصحة وقوعها.
إِذَا مَيِّتٌ مَحْمُولٌ كانت عادة اليهود أن يدفنوا موتى كل مدينة مسوّرة خارج السور حفظاً للصحة ومنعاً للتنجيس الطقسي من الاقتراب إلى القبور واستثنوا من ذلك بعض الأنبياء وبعض الملوك الإسرائيليين.
ٱبْنٌ وَحِيدٌ ذكر ذلك دليلاً على شدة الحزن. وهذا أمر مسلم به حتى ضربوا بموت الابن الوحيد المثل في الحزن المفرط (إرميا ٦: ٢٦ وزكريا ١٢: ١٠ وعاموس ٨: ١٠).
وَهِيَ أَرْمَلَةٌ كونها أرملة جعل موت وحيدها من أشد النوازل لأنه كان تعزيتها وعمدتها. ولعلّ بعض الجمع المحتفل بجنازة الميت أنبأ يسوع بأمور هذا الميت على أنه لم يكن محتاجاً إلى ذلك لأنه يعلم كل شيء من نفسه. والأرجح أنه قصد نايين والوصول إليها عند بلوغهم بالميت باب المدينة ليقيمه.
وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ اقتضت أحوال تلك الأرملة المحزنة أن تحرك حنو كثيرين من الناس فأظهروا شفقتهم بمرافقتهم إياها. وذكر لوقا ذلك الجمع ليظهر أن المعجزة كانت تجاه كثيرين من الشهود.
١٣ «فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: لاَ تَبْكِي».
تَحَنَّنَ عَلَيْهَا لم يذكر لوقا غير التحنن علّة لفعل المسيح تلك المعجزة ولا دليل على أن الأرملة سألت المسيح إقامة ولدها ولا أن أحد أصدقائها سأله ذلك. ولم يشترط المسيح كعادته إيمان أحد من المشاهدين لإقامته ذلك الميت. والأرجح أن المسيح أقام ذلك الشاب لنفع نفس الشاب ونفع المشاهدين بإثبات دعواه أنه المسيح فضلاً عن تحننه على تلك الأرملة.
لاَ تَبْكِي كثيراً ما يقول الناس للحزانى مثل هذا القول بغية التعزية لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شئاً يزيل علّة بكائهم لكن الذي نهى الأرملة عن البكاء هو الذي «سيمسح كل دمعة من كل عين» (رؤيا ٢١: ٤). وكان فعل المسيح وقتئذ رمزاً إلى فعله أخيراً. ولعلّ ذلك القول أنشأ الإيمان في قلب الأرملة. ولا يزال المسيح إلى الآن ينهي المسيحيين عن ندب الموتى الذين يموتون في الرب كغيرهم من الناس ويبين لهم سبب ذلك بوعده بإقامة الأجساد والاجتماع في السماء والسعادة الأبدية هنالك.
١٤ «ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ، فَوَقَفَ ٱلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: أَيُّهَا ٱلشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ قُمْ».
ص ٨: ٥٤ ويوحنا ١١: ٤٣ وأعمال ٩: ٤٠ ورومية ٤: ١٧
تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ فعل ذلك ليقف الحاملون. أما هم فعلموا مراده وأطاعوه بلا سؤال لتأثرهم من هيئته وكلامه.
لَكَ أَقُولُ قُمْ الذي قال هذا «هو القيامة والحياة» (يوحنا ١١: ٢٥). وقوله ذو سلطان لا بد للموت من أن يطيعه. والصوت الذي ارتفع حينئذ هو الصوت الذي يفتح كل القبور ويقيم جميع الموتى.
ولم يكن إيقاظ المسيح للميت من موته أصعب عليه من إيقاظ غيره للنائم من نومه. وهذا خلاف ما أظهر النبيان إيليا وأليشع من الأتعاب والاستناد على قوة غير قوتهما عند إقامة كل منهما ميتاً.
قال المسيح لابنة يآيرس «طليثا قومي» وقال لابن الأرملة «لك أقول قم» وللعازر «هلم خارجاً» وكانت كل هذه الأقوال فعالة.
١٥ «فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ».
فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ قوله الميت يثبت أنه كان ميتاً حقيقة لا مغشياً عليه. وكان كل من جلوسه وتكلمه برهاناً قاطعاً على حقيقة رجوعه إلى الحياة والصحة والقوة.
فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ التحنن على الأم الذي حمله على إقامة ابنها الميت حمله أيضاً على الابتهاج بأن يقدّمه إليها حياً بياناً على أن قوله «لا تبكي» لم يكن عبثاً. وكما سر المسيح وقتئذ بمشاهدة ابتهاج تلك الأم هكذا يسر الله بأن يجمع كل المؤمنين الذين فرّقهم الموت ليملأ قلوبهم بهجة وحبوراً (١تسالونيكي ٤: ١٤).
١٦ «فَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ».
ص ١: ٦٥، ص ٢٤: ١٩ ويوحنا ٤: ١٩ و٦: ١٤ و٩: ١٧، ص ١: ٦٨
خَوْفٌ مثل هذا الخوف ينتج طبعاً من مشاهدة كل قوة إلهية. فلا عجب من أن المشاهدين لما فعل المسيح خافوا لأنهم لم يألفوا مثل تلك المشاهدة إذ لم يقم ميت منذ ٩٠٠ سنة قبل ذلك الوقت أي منذ أيام أليشع.
وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ هذا دليل على أن خوفهم كان خوفاً صالحاً كخوف الأتقياء. وعلّة تمجيدهم لله أنه تعالى ذكر شعبه وافتقده بالرحمة وأرسل إليه نبياً (ص ١: ٦٨).
نَبِيٌّ عَظِيمٌ ذكر المشاهدون وقتئذ إيليا وأليشع النبيين العظيمين اللذين أقاما بعض الموتى واعتبروا يسوع نبياً مثلهما. واعترافهم بأنه نبي ليس بتمام الإقرار بكل دعواه أنه المسيح. فهؤلاء لم يستنتجوا مما شاهدوا سوى أن يسوع نبي ولكن نحن نستنتج فوق ذلك أن للمسيح قوة فائقة وشفقة لا نظير لها وأنه بالحقيقة ابن الله وابن الإنسان.
١٧ «وَخَرَجَ هٰذَا ٱلْخَبَرُ عَنْهُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَفِي جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ».
هٰذَا ٱلْخَبَرُ أي أنه قد ظهر نبي عظيم يفعل المعجزات العظمى. وكانت تلك المعجزة في الجليل وشاع خبرها في اليهودية وعبر الأردن إلى القلعة التي سجن فيها يوحنا المعمدان على شاطئ بحر لوط.

مجيء رسولين من قبل يوحنا المعمدان إلى يسوع وخطاب يسوع على أثر ذلك ع ١٨ إلى ٣٥


١٨ «فَأَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلاَمِيذُهُ بِهٰذَا كُلِّهِ».
متّى ١١: ٢
(انظر الشرح متّى ١١: ٢ - ٧) ونبأ لوقا بهذا الأمر يفرق قليلاً عن نبإ متّى. ومن ذلك أن متّى ترك ما ذكره لوقا في ع ٢٠ و٢١ وأن لوقا ترك ما ذكره متّى في ع ١٤ و١٥ من ص ١١. ولا فرق بينهما في شيء من المعنى.
أَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلاَمِيذُهُ لم يشر لوقا قبل ذلك إلى أن يوحنا كان في السجن ولا إلى شيء من علّة سجنه. ويظهر من الكلام هنا أنه كان مباحاً لتلاميذه أن يأتوا إليه وهو في السجن.
بِهٰذَا كُلِّهِ أي المعجزات التي صنعها يسوع.
١٩ «فَدَعَا يُوحَنَّا ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟».
إن قيل لماذا حمل يوحنا خبر معجزات المسيح على أن يرسل إليه اثنين من تلاميذه ليسألاه هذا السؤال قلنا أن يوحنا تعجب من أنه كيف الذي فعل بعض الأعمال التي توقعها من المسيح لا يعمل سائر ما كان يتوقع منه هو وسائر اليهود. وذلك أن يملك وينقذ اليهود من ظالميهم ويقضي على الأشرار ويعاقبهم كما أنبأ يوحنا به. فوجد صعوبة في أنه فعل بعض الأعمال وأهمل بعضها. ولا عجب من أن يدخل الشك في نفس يوحنا المعمدان وقد علمنا أن بطرس وسائر الرسل شكّوا فيه مع وفرة الوسائط التي كانت لهم لتحقيق دعواه (متّى ٢٦: ٣١ و٥٦ ولوقا ٢٤: ٢١). على أن الشكوك لا تضرنا إذا قادتنا إلى المسيح لإزالتها.
٢٠، ٢١ «٢٠ فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلرَّجُلاَنِ قَالاَ: يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ ٢١ وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ ٱلْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِين».
فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ أي تلك المدة. والمرجح أن التلميذين بقيا مع المسيح أياماً صنع فيها المسيح كثيراً من معجزاته.
٢٢ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ ٱلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَٱلْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَٱلْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ».
متّى ١١: ٤ و٥، إشعياء ٣٥: ٥ ص ٤: ١٨
ابتدأ المسيح في جوابه بذكر ما أتاه من الفوائد الجسدية وانتهى بما هو أهم منها وهو عمله الروحي لنفع النفوس أي التشبير بالإنجيل. ولا ريب في أنه أشار بهذا الجواب إلى أنه تمم نبوءة إشعياء (إشعياء ٦١: ١).
ٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ يحتمل أن التلميذين وصلا إلى يسوع وهو يقيم ابن الأرملة في نايين. والأرجح أنهما سمعا نبأ ذلك من غيرهما بدليل قوله «اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما».
٢٣ «وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ».
قصد يسوع بهذا الكلام تقوية إيمان يوحنا وإزالة شكه من عدم ممارسته عمله كما تصور يوحنا. ولا ريب في أن يوحنا تشجع بذلك لأنه لما مات يوحنا أتى بعض تلاميذه إلى يسوع (متّى ١٤: ١٢).
٢٤ - ٢٨ «٢٤ فَلَمَّا مَضَى رَسُولاَ يُوحَنَّا، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟ ٢٥ بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا ٱلَّذِينَ فِي ٱللِّبَاسِ ٱلْفَاخِرِ وَٱلتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ ٱلْمُلُوكِ. ٢٦ بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! ٢٧ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! ٢٨ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ، وَلٰكِنَّ ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ مِنْهُ».
متّى ١١: ٧، ملاخي ٣: ١
سبق تفسير ذلك بالتفصيل (انظر الشرح متّى ١١: ٨ - ١٩).
ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ أي ولادة طبيعية فيستثنى من ذلك المتكلم.
لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ لم يفق يوحنا الأنبياء القدماء بالإيمان أو القداسة أو المحبة إنما فاقهم بوظيفته لأنه كان بها أقرب إلى المسيح منهم.
ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ الخ إنما كان التلميذ الأصغر في كنيسة المسيح على الأرض أعظم من يوحنا لأنه يدرك أكثر منه أن ملكوت المسيح روحي وأنه يفدي شعبه بموته.
٢٩، ٣٠ «٢٩ وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَٱلْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا ٱللّٰهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. ٣٠ وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللّٰهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ».
مزمور ٥١: ٤ ومتّى ١١: ١٩ ورومية ٣: ٤، متّى ٣: ٥ وص ٣: ١٢، أعمال ٢٠: ٢٧
لم يذكر متّى هذين العددين ولم يتحقق أنهما جزء من كلام المسيح على خدمة يوحنا أو أنهما من كلام لوقا بياناً لما سبق. فإن كانا من كلام المسيح فالقصد منهما إظهار علّة ما أبانه بعد من ع ٣١ - ٣٤. وإن كانا من كلام لوقا وهو الأرجح فالقصد منها إنباء الأمم الذين يجهلون أحوال اليهود بسبب أن بعض الناس قبل يسوع وأن بعضهم رفضه وهو أن الذين قبلوا شهادة يوحنا واعتمدوا منه آمنوا بالمسيح والذين رفضوا شهادة يوحنا ومعموديته رفضوا المسيح.
بَرَّرُوا ٱللّٰهَ أقروا بجودة قصد الله وأعماله التي ظهرت في كرازة يوحنا وبعدله وحقه أن يحكم عليهم بأنهم خطاة ويدعوهم إلى التوبة وإصلاح السيرة استعداداً لقبولهم المسيح.
مُعْتَمِدِينَ كانت معموديتهم علامة أنهم «برروا الله» في أعماله وأنهم تابوا عن خطاياهم.
فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللّٰهِ (ع ٣٠) أي لم يقبلوا تعليم يوحنا الذي هو إعلان مشورة الله فلم يأتوا إلى التوبة ولم يستعدوا لقبول المسيح بإصلاح سيرتهم.
مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ هذا من صلة مشورة الله. والمعنى أنها كانت لنفع أنفسهم فأضروا تلك الأنفس برفض تلك المشورة.
غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ هذا يصدق على أكثر الفريسيين فإن قليلين منهم اعتمدوا. وليس في ذلك شيء من المنافاة لقول متّى في ص ٣: ٧ إذ الأرجح أن معنى متّى أنه أتى كثيرون من الفريسيين إلى يوحنا في أول تعليمه ثم تركوه لما تحققوا ضيق طريقته وروحية ذلك التعليم. وكان رفض هؤلاء معمودية يوحنا رفض التوبة عينها أن معموديته كانت علامة وختماً لها.
٣١ - ٣٥ «٣١ ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ: فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هٰذَا ٱلْجِيلِ، وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ ٣٢ يُشْبِهُونَ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي ٱلسُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. ٣٣ لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. ٣٤ جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. ٣٥ وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا».
متّى ١١: ١٦، متّى ٣: ٤ ومرقس ١: ٦ وص ١: ١٥، متّى ١١: ١٩
انظر الشرح متّى ١١: ١٦ - ١٩.
فَبِمَنْ أُشَبِّهُ... وَمَاذَا يُشْبِهُونَ تكرير هذا الاستفهام يدل على صعوبة إيجاد مثل يبين حال أناس عنيدين متقلبي الأفكار مثل اليهود في معاملتهم ليوحنا والمسيح. فإن صدقوا بشكواهم على يوحنا كان عليهم أن يمدحوا المسيح بناء على القياس الذي هم وضعوه. لكنهم لاموا يسوع على لطفه ويوحنا على صرامته فدانوا بذلك أنفسهم بأن لاموا كليهما بلا سبب فلم تكن شكواهم سوى عذر باطل عن عدم طاعتهم لقول كل منهما.
بَنِيهَا (ع ٣٥) المراد ببني الحكمة شعب الله الأمين القليل العدد الذي رحب بيوحنا والمسيح كليهما باعتبار أنهما معلنا الحكمة السماوية وتاب بدعوة الأول وآمن بمواعيد الثاني.

دهن المسيح في بيت الفريسي ع ٣٦ إلى ٥٠


٣٦ «وَسَأَلَـهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ».
متّى ٢٦: ٦ ومرقس ١٤: ٣ ويوحنا ١١: ٢
لم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين سوى لوقا. ويجب أن نميز بين هذا الدهن ودهن مريم أخت لعازر (متّى ٢٦: ٧ ومرقس ١٤: ٣ وفي يوحنا ١٢: ٣). فإن هذا كان في الجليل والأرجح أنه كان في كفرناحوم وذاك في بيت عنيا في اليهودية. وهذا في بيت سمعان الفريسي وهو رجل متكبر منتقد غير مكترث بواجبات الضيافة وذاك في بيت نُسب إلى سمعان الأبرص كان فيه يسوع مكرماً محبوباً. وهذا كانت الإمرأة التي أتته خاطئة لم نعرف اسمها دهنت يسوع علانية لتوبتها وذاك كانت التي أتته مريم أخت لعازر وهي تقية شُهد لها أنها قد اختارت النصيب الأفضل وكانت تجلس عند قدمي المسيح لتسمع تعليمه وأتت بدهنها استعداداً لتكفين يسوع. وهذا اعترض فيه الفريسي على دنو المرأة الخاطئة من يسوع، وذاك اعترض فيه يهوذا الاسخريوطي وسائر التلاميذ على الإسراف لكثرة ثمن الطيب. وهذا جرت بعده محادثة لا توافق الأحوال بعد ذاك. هذا ويستحيل أن يدعو رجل فريسي في اليهودية يسوع إلى العشاء في بيته حينما دهنت مريم قدميه لأن الاختلاف بينه وبين الفريسيين بلغ حداً يمنع ذلك (يوحنا ١٢: ٤٢).
وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هو رجل اسمه سمعان (ع ٤٠). ولم يكن في هذا الوقت الخلاف بين يسوع والفريسيين قد بلغ حداً بعيداً يلام عنده ذلك الفريسي بدعوته يسوع إلى بيته. ولعلّ غايته بذلك أن يظهر ليسوع بعض الاعتبار لاشتهاره بالتعليم والأعمال.
ولعله رغب فوق ذلك في أن يكون له شيء من المجد الذي حصل عليه يسوع. ويحتمل أنه كان في ريب من دعوى يسوع فدعاه إلى بيته ليسمع بعض تعاليمه قبل الحكم في تلك الدعوى. وربما كانت غايته كغاية هيرودس الملك وهي أن يراه ويرى معجزة تجري على يده. والظاهر أنه ظن قبول يسوع في بيته للطعام إكراماً كافياً دون أن يقوم بكل ما يليق بالضيف (ع ٤٤ - ٤٦). وبهذا أعلن للناس انه ليس بتلميذ للمسيح. وأما يسوع فلم يسأل تلك الدعوة ولم يرفضها إذ كان فرصة للتبشير بالإنجيل.
وَٱتَّكَأَ مرّ بيان كيفية الاتكاء في الشرح (متّى ٢٣: ٦ وصورة الاتكاء في الصفحة المقابلة وجه ٢٩٠ من المجلد الأول).
٣٧ «وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ».
ٱمْرَأَةٌ لم يذكر اسمها ولكن بعضهم ظنها مريم المجدلية وليس من دليل على ذلك لأن تلك لم يقل أنها زانية بل أنه فيها سبعة شياطين (ص ٨: ٢).
فِي ٱلْمَدِينَةِ الأرجح أن هذه المدينة كفرناحوم لأن يسوع سكن هناك أكثر الوقت الذي تقضى عليه في الجليل.
كَانَتْ خَاطِئَةً أي قبل أن تأتي إلى المسيح. والأرجح أن خطيئتها كانت ممن أتى المسيح ليدعوهم إلى التوبة ص ٥: ٣٢. ولأنها شعرت بثقل خطيتها كانت من المتعبين والثقيلي الأحمال الذين دعاهم المسيح إليه ليجدوا راحة لأنفسهم (متّى ١١: ٢٨). ولعلها سمعت قبلاً وعظ المسيح وتأثرت منه وآمنت وتابت وكانت تتوقع فرصة لإظهار شكرها للمسيح ولتحققها مغفرة خطاياها وخلاص نفسها.
جَاءَتْ بِقَارُورَةِ إلى بيت سمعان بلا دعوة. والقارورة هي الوعاء المعتاد للطيب (متّى ٢٧: ٧).
طِيبٍ أو طيب ناردين وهو كثير الثمن (متّى ٢٦: ٧ ومرقس ١٤: ٣).
٣٨ «وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيب».
وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ كان المسيح متكئاً على مرفق يده اليسرى وقدماه ممدودتان وراءه على سرير عريض فكان سهلاً عليها أن تدنو من قدميه.
تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ الخ كانت هذه الدموع دموع الخجل والتوبة عن خطيئتها وتقبيلها قدميه ودهنها إياهما علامة اعتبارها وشكرها له. ولعلها لم تقصد إلا التقبيل والدهن إنما جرت دموعها على رغمها لذكرها خطاياها.
تَمْسَحُهُمَا كانت دموعها تقع على قدمي المسيح حين تنحني لتقبيلهما ولم ترَ لائقاً أن تتركهما مبللتين ولم يكن معها منشفة فحلّت شعرها واتخذته بدلاً من المنشفة لتجفف قدميه. وكان ذلك تواضعاً منها لأن الشعر مجد المرأة (١كورنثوس ١١: ١٥). وكان الطيب أثمن من تلك الدموع عند الناس ولكن الدموع كانت عند الله أثمن من ذلك الطيب.
٣٩ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْفَرِّيسِيُّ ٱلَّذِي دَعَاهُ ذٰلِكَ، قَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ».
ص ١٥: ٢
كانت معرفة صفات الناس وتاريخ حياتهم الماضية غير المعروف بين الناس من الأمور المختصة بالأنبياء (إشعياء ١١: ٣ و٤ ويوحنا ٤: ١٤). وظن سمعان الفريسي أنه وجد دليلاً على بطلان دعوى يسوع النبوءة. وهو أن يسوع إمّا عرف صفات تلك المرأة وإما لم يعرفها فإن كان قد عرفها فسماحه لها بأن تلمسه ينفي أن تكون له قداسة النبي وإن كان لم يعرفها لم تكن له معرفة النبي فهو على زعم سمعان ليس بنبي على الحالين. وذلك لأنه لم يخطر على باله أن النبي يعرف الصفات ويسمح بدنو صاحبها. وجهل ان دنوها من المسيح بالإيمان والتوبة جعلها طاهرة معدة للسماء.
٤٠ «فَقَالَ يَسُوعُ: يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ. فَقَالَ: قُلْ يَا مُعَلِّمُ».
فَقَالَ يَسُوعُ الفريسي لم يتفوه بكلمة ولكن المسيح أجابه على أفكاره وبرهن لسمعان أنه نبي بنفس قياسه أي بمعرفته خفايا القلب (متّى ٩: ٤).
سِمْعَانُ كان كثيرون من اليهود يسمون بذلك فكان من رسل المسيح الاثني عشر اثنان مسميّن بذلك. وذُكر في العهد الجديد خمسة عشر رجلاً كل منهم اسمه سمعان.
عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ هذا تنبيه لطيف للفريسي على أن ما يليه كلام ذو شأن.
٤١ «كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلآخَرِ خَمْسُونَ».
متّى ١٨: ٢٨
لِمُدَايِنٍ أراد المسيح بالمديّن الله وبالدين الخطية.
مَدْيُونَانِ أي خاطئان. ويظهر من آخر هذا المثل أن المسيح عنى بهذين الخاطئين المرأة وسمعان.
خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ أي نحو ٢٢٥٠ قرشاً.
خَمْسُونَ أي نحو ٢٢٥ قرشاً. فإن نسبة دين الأول إلى الثاني كنسبة عشرة إلى واحد. وهذه النسبة تختلف كل الاختلاف عن النسبة بين المديونين المذكورين في بشارة متّى (متّى ١٨: ٢١ - ٣٥) لأن تلك النسبة واحد إلى ألف ألف ومئتي ألف وخمسين ألفاً. وكان الدَين العظيم في بشارة متّى على الإنسان لله والصغير على إنسان لإنسان لكن الدينين كليهما في هذا العدد على الإنسان لله فإذاً لا فرق عظيم بين خاطئ وخاطئ في عيني الله تعالى.
ولم يقصد المسيح هنا أن يصرّح بأن خطايا المرأة أعظم من خطايا سمعان أي أنها عشرة أضعافه بل أن يأتي المقابلة بين ما يشعر به كل منهما ويعترف. فسمعان كان يشعر بأن خطيئته على الله صغيرة كدين خسمين ديناراً لأنه حفظ الشريعة الطقسية ولأن سيرته كانت مستقيمة ولم يشعر بخطايا قلبه أمام الله. وأما المرأة فكانت تشعر بأن خطاياها الظاهرة وخطاياها القلبية كبيرة كدين خمس مئة دينار.
٤٢ «وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبّاً لَـهُ؟».
لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَا يُوفِيَانِ علّمنا يسوع بذلك أن الإنسان عاجز كل العجز عن إيفاء الله ما عليه هو من دين الخطيئة. وقول المسيح عن علم يقين وهو يصدق على كل خاطئ كثير الخطايا أم قليلها فليس لخاطئ ما يوفي.
سَامَحَهُمَا جَمِيعاً يشير صنع هذا الدائن إلى ما يصنعه الله لكل خاطئ يتوب فهو يسامحه وذلك لما فعله المسيح وتألم به لكي يوفي دين الخاطئ. فلو كان الدين مالياً لحق للدائن أن يسامح المديون بلا كفارة ولكن الخطية جرم علاوة على كونها ديناً فهي تقتضي كفارة وتلك الكفارة هي حياة المسيح المقدسة وموته على الصليب.
فَقُلْ الخ سأل الفريسي أن يحكم في تلك المسئلة ليستيقظ ضميره وليؤثر فيه الحق البيّن هنا ولكي يدينه لسانه على تقصيره. ومثل هذا كان سؤال المسيح للناموسي (لوقا ١٠: ٣٠ - ٣٧).
٤٣ «فَأَجَابَ سِمْعَانُ: أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلأَكْثَرِ. فَقَالَ لَـهُ: بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ».
بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ لم يرد المسيح بذلك أنه كلما زادت خطايا الإنسان تزيد محبته لله عند نواله المغفرة وإلا كان اللص الذي صُلب مع المسيح يحبه أكثر مما كان يحبه يوحنا الرسول. إنما مراده أن الخطاة يميلون إلى محبة الله والشكر له على المغفرة بقدر ما يشعرون بذنوبهم واستحقاقهم العقاب وكونهم في خطر الهلاك الأبدي وعجزهم عن إيفاء عدل الله.
٤٤ - ٤٦ «٤٤ ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. ٤٥ قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. ٤٦ بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ».
مزمور ٢٣: ٥
ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ نظر في أول الأمر إلى سمعان والأرجح أنه كان متكئاً تجاهه ثم حوّل وجهه نحو قدميه لكي يعيّن المرأة التي أرادها بقوله.
دَخَلْتُ بَيْتَكَ أي دخله ضيفاً مدعواً فحق له على سمعان كل ما يجب للضيف ومن ذلك ثلاثة أمور:

  • الأول: ماء لقدميه (تكوين ١٨: ٤ و١٩: ٢ و٢٤: ٣٢ وقضاة ١٩: ٢١ ومتّى ٣: ١١ ويوحنا ١٣: ٥ و١تيموثاوس ٥: ١٠).
  • الثاني: قبلة الترحيب (تكوين ٢٢: ٤ و٢٧: ٦ و٧ و٣٣: ٤ وخروج ١٨: ٧ و١صموئيل ٢٠: ٤١ وأعمال ٢٠: ٣٧ ورومية ١٦: ١٦ و١كورنثوس ١٦: ٢٠).
  • الثالث: مسح الرأس بالدهن (راعوث ٣: ٣ و٢صموئيل ١٢: ٢٠ و١٤: ٢ ومزمور ٢٣: ٥ و٤٥: ٧ و١٤١: ٥ وجامعة ٩: ٨ ومتّى ٦: ١٧). ولم يكن سمعان يجهل أنه قصّر بواجباته للمسيح ولعله ظن دعوته ليسوع ابن النجار الناصري إلى تناول الطعام معه إكراماً كافياً له. فاجتهدت تلك المرأة بتقديم الإكرام الزائد للمسيح على قدر ما قصّر سمعان في إكرامه.


٤٧ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً. وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَـهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً».
١تيموثاوس ١: ١٤
مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي لما ذُكر في الآيات الثلاث السابقة فكأن المسيح قال ينتج مما ذُكر ما يأتي.
غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً المعنى أن أعمالها أظهرت محبتها العظيمة وأن تلك المحبة دلت على أنها تحققت نوال غفران عظيم لخطايا كثيرة عظيمة. وكانت تشعر أولاُ بكثرة ديونها فحزنت وخافت ولكنها لما نالت المغفرة فرحت وأَمنت. فلم تكن محبتها علّة الغفران بل نتيجته وبرهانه كما اتضح من الآية الثانية والأربعين. كذلك بولس شعر بأنه أول الخطأة ولكنه بعد ان نال الرحمة برهن شدة محبته للمسيح بما أتاه لأجله من السيرة والتعب.
وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَـهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً أي الذي يرى خطاياه قليلة وصغيرة لا يشعر بشدة الخوف والحزن عند ما يعترف بها ولا يشعر بكثير من المحبة والشكر والفرح حين يحصل على المغفرة. فسمعان لم يأتِ إلا بما يدل على وجه القليل وبذلك شهد على نفسه بأنه لم يشعر إلا باحتياج زهيد للغفران وأن الله لم يغفر له إلا قليلاً. ولم يصرّح المسيح لسمعان بأنه هو الذي أحب قليلاً بل ترك ذلك لشهادة ضميره. وأعلن المسيح بذلك المثل أن سمعان لم يصب بحكمه بنفي النبوءة عن يسوع لأنه سمح لامرأة خاطئة بأن تلمسه لأن أعمالها الحبية أظهرت أنها تابت ونالت المغفرة وقبلها الله ولذلك لم يكن لمسها مدنساً لأحد. وفي هذه الآية جوهر تعليم المثل وهو أن شدة المحبة نتيجة وفرة الشعور بعظمة المغفرة. فيجب أن نحترس من أن نحسب شدة المحبة علّة للمغفرة لأن تلك العلّة ليست سوى نعمة الله المجانية.
٤٨ «ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ».
متّى ٩: ٢ الخ ومرقس ٢: ٥ الخ
صرّح المسيح هنا بأن تلك المرأة نالت المغفرة من الله وبرهن أنه الله بقدرته على أن يغفر الخطايا كما برهن ذلك بمعرفته أفكار سمعان الفريسي وأظهر حنوه على الخطأة.
٤٩ «فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضاً؟».
ٱلْمُتَّكِئُونَ هم سمعان الفريسي وأصدقاؤه الفريسيون.
مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ الخ ليس لهذا السؤال سوى جواب واحد وهو الله. فالذي يدّعي سلطان مغفرة الخطايا غير الله يجدف والمسيح له ذلك السلطان لأنه الله.
٥٠ «فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ! اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ».
متّى ٩: ٢٢ ومرقس ٥: ٣٤ و١٠: ٥٢ وص ٨: ٤٨ و١٨: ٤٢
إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ لم تكن الواسطة لنوالها الغفران دموعها ولا تواضعها ولا هديتها ولا محبتها بل إيمانها بأن ليسوع قوة على مغفرة الخطايا وأنه مستعد لذلك. وكان إيمانها حياً عاملاً بالمحبة وظهرت حقيقته بأعمالها.
اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ صرفها المسيح بكلام حقق لها راحة البال في المستقبل بناء على نوالها الغفران. وبمثل هذا الكلام صرف المرأة التي أبرأها من نزف الدم (مرقس ٥: ٣٤).


الأصحاح الثامن


جولان المسيح للتبشير ع ١ إلى ٣


١ «وَعَلَى أَثَرِ ذٰلِكَ كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَمَعَهُ ٱلاثْنَا عَشَرَ».
عَلَى أَثَرِ ذٰلِكَ أي حال فراغه من العشاء عند سمعان.
كَانَ يَسِيرُ أشار لوقا هنا إلى جولان المسيح الثاني في الجليل. وكان الأول قبل انتخابه الرسل وهو الذي أشار إليه في ص ٤: ١٤ و١٥ وكان جولانه الثالث عندما أرسل تلاميذه أيضاً لينادوا بالإنجيل ويصنعوا المعجزات (ص ٩: ١ - ٦). وكان الوقت المشار إليه هنا أول السنة الثانية من سني تبشريه.
وَمَعَهُ ٱلاثْنَا عَشَرَ أخذهم المسيح معه حينئذ إعداداً لهم ليذهبوا بدونه بعد ذلك فاستفادوا مما علّمهم ومما سمعوا من تعليمه لغيرهم ومن مشاهدتهم أعماله العجيبة وكانوا جماعة واحدة. والأرجح أنهم عندما كانوا يصلون مكاناً ما يجولون بين السكان ويخبرونهم بمجيء المسيح ويدعونهم ليجتمعوا ويسمعوه إما في المجمع وإما في ساحة من ساحات المكان.
٢ «وَبَعْضُ ٱلنِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ ٱلَّتِي تُدْعَى ٱلْمَجْدَلِيَّةَ ٱلَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ».
متّى ٢٧: ٥٥ و٥٦، مرقس ١٦: ٩
وَبَعْضُ ٱلنِّسَاءِ الأرجح أن النساء اللواتي معه كنّ ذوات ثروة ومقام سام رآهن يسوع أنهنّ أهل ليكنّ من جملة تلاميذه. وأشار الإنجيل إلى خدمتهنّ ليسوع في مكان آخر (متّى ٢٧: ٥٥ ولوقا ٢٣: ٤٩). ومما يستحق الاعتبار أنه لم يُذكر في الإنجيل واحد من الرجال قدّم للمسيح شيئاً من حاجاته الجسدية إنما نُسب ذلك إلى النساء فقط.
وجرت العادة في عصر المسيح أن جماعة من النساء اليهوديات يقمن بنفقة بعض من يعتبرنه من الربانيين. وكما خدمت النساء المسيح في حياته الأرضية خدمت كنيسته بعد ذلك كالشماسات وغيرهن. وللنساء في كل عصر محل لخدمتهن الحبية للمسيح في كنيسته وهذه الخدمة ليست بأقل اعتباراً في عيني المسيح من تبشير المبشرين. والمسيح أظهر تواضعه بقبوله الحاجات الجسدية من أيدي الناس فكان يصنع المعجزات لسد احتياجات غيره ولكنه لم يصنع واحدة لسد احتياجات نفسه. أطعم ألوفاً بكلمة قدرته وقبل الخبز من أيدي أصحابه وقدّم القوت الروحي لإحياء نفوس الناس وأخذ القوت الجسدي من البشر. ولاق بالذين أخذوا النعمة من يد الرب أن يكرموه بشيء من أموالهم وهكذا يليق الآن.
قَدْ شُفِينَ بنيت خدمتهنّ للمسيح أولاً على ما صنعه لهن من المراحم الجسدية ولا ريب في أنها بنيت أخيراً على رحمة أعظم من شفاء نفوسهنّ ونوالهنّ الحياة الأبدية.
مَرْيَمُ ٱلَّتِي تُدْعَى ٱلْمَجْدَلِيَّةَ لم نعرف من أمر هذه المرأة سوى ما ذُكر هنا (ومتّى ٢٧: ٥٧ و٦١ ومرقس ١٥: ٤١ و٤٧ و١٦: ٩ وفي لوقا ٢٣: ٤٩ و٥٥ ويوحنا ١٩: ٢٥ و٢٠: ١٤ و١٥). وخلاصة ذلك أنها أُنقذت من قوة شيطانية شديدة عبّر عنها بقوة سبعة شياطين وأنها تبعت المسيح وخدمته في الجليل وأنها رافقته في سفره الأخير إلى أورشليم وأنها شاهدت آلام المسيح على الصليب هي وأم يسوع ويوحنا وأنها شاهدت دفن المسيح وأنها كانت من أول من أتى إلى القبر صباح يوم الأحد حاملة الطيب وأنها لما وجدت القبر فارغاً رجعت وأخبرت بطرس ويوحنا ورجعت معهما إلى القبر وبقيت هنالك بعد انصرافهما وأنها عندما كانت تبكي على القبر رأت المسيح حياً وتكلمت معه.
خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ ذُكر هذا هنا شهادة بعظمة قوة المسيح. والمجدل التي نسبت إليها قرية على الشاطئ الغربي من بحيرة طبرية على أمد نحو ثلاثة أميال أو مسافة ساعة من مدينة طبرية وهي لم تزل قرية حقيرة في موضعها (انظر الشرح متّى ١٥: ٣٩).
٣ «وَيُوَنَّا ٱمْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ، وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ».
يُوَنَّا ذكرت أيضاً في خبر القيامة فإنها كانت من حاملات الأطياب. والأرجح أنها كانت من الغنيات (ص ٢٤: ١٠).
خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ أي وكيل هيرودس أنتيباس والي الجليل. ظنه بعضهم خادم الملك الذي شفى المسيح ابنه «فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ» (يوحنا ٤: ٤٦ - ٥٤). وكان من سكان كفرناحوم
وَسُوسَنَّةُ هذه المرأة لم تُذكر إلا هنا.
وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ فهؤلاء الكثيرات وإن لم تعرف أسماؤهن على الأرض لهن ذكر وثواب في السماء (متّى ٢٧: ٥٥).
كُنَّ يَخْدِمْنَهُ أي ينفقن عليه من طعام وكسوة وغير ذلك من الحاجات الجسدية.

مثل الزارع ع ٤ إلى ١٥


٤ - ١٥ «٤ فَلَمَّا ٱجْتَمَعَ جَمْعٌ كَثِيرٌ أَيْضاً مِنَ ٱلَّذِينَ جَاءُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ، قَالَ بِمَثَلٍ: ٥ خَرَجَ ٱلزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ. وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَٱنْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ. ٦ وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلصَّخْرِ، فَلَمَّا نَبَتَ جَفَّ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَـهُ رُطُوبَةٌ. ٧ وَسَقَطَ آخَرُ فِي وَسَطِ ٱلشَّوْكِ، فَنَبَتَ مَعَهُ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. ٨ وَسَقَطَ آخَرُ فِي ٱلأَرْضِ ٱلصَّالِحَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ صَنَعَ ثَمَراً مِئَةَ ضِعْفٍ. قَالَ هٰذَا وَنَادَى: مَنْ لَـهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!. ٩ فَسَأَلَـهُ تَلاَمِيذُهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا ٱلْمَثَلُ؟. ١٠ فَقَالَ: لَكُمْ قَدْ أُعْطِيَ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَأَمَّا لِلْبَاقِينَ فَبِأَمْثَالٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَفْهَمُونَ. ١١ وَهٰذَا هُوَ ٱلْمَثَلُ: ٱلزَّرْعُ هُوَ كَلاَمُ ٱللّٰهِ، ١٢ وَٱلَّذِين عَلَى ٱلطَّرِيقِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ ٱلْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا. ١٣ وَٱلَّذِينَ عَلَى ٱلصَّخْرِ هُمُ ٱلَّذِينَ مَتَى سَمِعُوا يَقْبَلُونَ ٱلْكَلِمَةَ بِفَرَحٍ. وَهٰؤُلاَءِ لَيْسَ لَـهُمْ أَصْلٌ، فَيُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ، وَفِي وَقْتِ ٱلتَّجْرِبَةِ يَرْتَدُّونَ. ١٤ وَٱلَّذِي سَقَطَ بَيْنَ ٱلشَّوْكِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَخْتَنِقُونَ مِنْ هُمُومِ ٱلْحَيَاةِ وَغِنَاهَا وَلَذَّاتِهَا، وَلاَ يُنْضِجُونَ ثَمَراً. ١٥ وَٱلَّذِي فِي ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ هُوَ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ وَيُثْمِرُونَ بِٱلصَّبْرِ».
متّى ١٣: ٣ ومرقس ٤: ٢، متّى ١٣: ١٠ ومرقس ٤: ١٠، إشعياء ٦: ٩ ومرقس ٤: ١٢، متّى ١٣: ١٨ ومرقس ٤: ١٤
قد سبق الكلام على هذا المثل في الشرح (متّى ١٣: ٣ - ٨ و١٨ - ٢٣ ومرقس ٤: ٣ - ٢٠) وليس من فرق كبير بين كلام متّى وكلام لوقا في هذا المثل لكنه لم يذكر لوقا هنا بقية الأمثال التي ذكرها متّى إنما ذكر اثنين منها في موضع آخر وهما حبة الخردل ومثل الخميرة (ص ١٣: ١٨ - ٢١).
مَنْ لَـهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ الخ (ع ٨) (انظر الشرح متّى ١١: ٥).
زاد لوقا على قول البشيرين الآخرين أنه «انداس» الزرع الذي وقع على الطريق. وما سماه متّى بالأماكن المحجرة سماه لوقا بالصخر (ع ٦) والمعنى واحد خلاصته أن تربة ذلك القمح كانت رقيقة فوق صخر. وزاد لوقا في هذا العدد أن الزرع جفّ «لانه لم يكن له رطوبة». وعبّر متّى ومرقس عن خصب الذي زُرع في الأرض الجيدة بأن صنع بعضه مئة وآخر ستين وآخر ثلاثين أما لوقا فاقتصر على الأكثر (ع ٨). وسمى متّى في تفسير المسيح للمثل الذي خطف ما قد زرع في القلب «الشرير» وسماه مرقس «الشيطان» وسماه لوقا «إبليس». وزاد لوقا على ما قال متّى ومرقس في علّة ذلك الخطف قوله «لئلا يؤمنوا فيخلصوا» (ع ١٢). وقال لوقا في المرتدين «أنهم في وقت التجربة يرتدون» (ع ١٣). وقال متّى بدلاً من ذلك «فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ» (متّى ١٣: ٢١). وزاد لوقا على ما قاله متّى في تفسير ما سقط بين الشوك من أسباب اختناق الزرع «لذات هذه الحياة» (ع ١٤).
في قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ (ع ١٥) ذلك مثل قلب نثنائيل (يوحنا ١: ٤٧) وقلوب البيريين (أعمال ١٧: ٩). والذي جعل ذلك القلب كذلك هو رب الحقل.
بِٱلصَّبْرِ (ع ١٥) هذا يوافق قول المسيح في بشارة متّى «ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ» (متّى ١٠: ٢٢ و٢٤: ١٣).

تنبيه لسامعي الحق ع ١٦ إلى ١٨


١٦ «وَلَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيُغَطِّيهِ بِإِنَاءٍ أَوْ يَضَعُهُ تَحْتَ سَرِيرٍ، بَلْ يَضَعُهُ عَلَى مَنَارَةٍ، لِيَنْظُرَ ٱلدَّاخِلُونَ ٱلنُّورَ».
متّى ٥: ١٥ ومرقس ٤: ٢١ وص ١١: ٣٣
انظر الشرح متّى ٥: ١٥ ومرقس ٤: ٢١ - ٢٥.
١٧ «لأَنَّهُ لَيْسَ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ مَكْتُومٌ لاَ يُعْلَمُ وَيُعْلَنُ».
متّى ١٠: ٢٦ وص ١٢: ٢
هذا من أقوال المسيح التي كررها حسب مقتضى الحال وقصد به أحياناً تعزية الرسل حين كان يعيرهم الناس ويحتقرونهم ويكذبون عليهم (متّى ١٠: ٢٦) وأحياناً التحذير من الرياء (لوقا ١٢: ٢). وأحياناً ما كان يكنزه في قلوب الرسل من الحق الذي أوجب عليهم أن يعلنوه للناس كما هنا. وهذا كان خفياً وقتاً قصيراً للإعلان دائماً. وما أتى به المسيح في العددين ١٦ و١٧ هو نتيجة مثل الزارع وهي أن الله يطالبهم باستعمالهم ما عرفوه من الروحيات وذلك أن يسلكوا بالقداسة في نور تلك المعرفة وأن يضيئوا بذلك النور لإرشاد غيرهم. فلم يقصد المسيح أن يخفي تلاميذه تعليمه عن العالم كما قصد فلاسفة الوثنيين.
١٨ «فَٱنْظُرُوا كَيْفَ تَسْمَعُونَ! لأَنَّ مَنْ لَـهُ سَيُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَـهُ فَٱلَّذِي يَظُنُّهُ لَـهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».
ٱنْظُرُوا كَيْفَ تَسْمَعُونَ لم يقصر المسيح المسؤولية على البشيرين في شأن مناداتهم بالكلمة بل أوقعها على السامعين في كيفية السمع والكيفية المقبولة تقوم بخمسة أمور:

  • أن يسمعوا بالإصغاء والتأمل لكي لا ينسوا.
  • أن يسمعوا بالوقار والتواضع لأن المتكلم الله لا إنسان.
  • أن يسمعوا بالإيمان أي أن يصدقوا كل ما سمعوا تعليماً كان أم وعداً أم وعيداً.
  • أن يسمعوا مع تقديمهم الصلاة للروح القدس.
  • أن يسمعوا قصد أن يطيعوا في كل أمر في الحال.


لأَنَّ مَنْ لَـهُ سَيُعْطَى قال المسيح هذا مراراً فقاله أولاً مع مثل الزارع (متّى ١٣: ١٢) ومرّ تفسيره هنالك. وقاله ثانياً مع مثل الوزنات (متّى ٢٥: ٢٩). وقاله ثالثاً مع مثل الأمناء (لوقا ١٩: ٢٦). ومعنى قوله «من له» الذي سمع التعليم وفهمه وعمل بمقتضاه. ومعنى «من ليس له» الذي لم ينتفع بما سمع حتى كأنه لم يسمع.
فَٱلَّذِي يَظُنُّهُ لَـهُ الخ الكلام هنا على من يخدع نفسه باعتقاده أن مجرد سمع الكلمة كاف له بدون التأثير الروحي. والذي يظنه له هو المعرفة العقلية فهذه إذا لم تفده تعدّ أنها أُخذت منه.

مجيء أم يسوع وإخوته إليه ع ١٩ إلى ٢١


١٩ - ٢١ «١٩ وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ ٱلْجَمْعِ. ٢٠ فَأَخْبَرُوهُ: أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْكَ. ٢١ فَأَجَابَ: أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا».
متّى ١٢: ٤٦ ومرقس ٣: ٣١
سبق الكلام على ذلك في الشرح متّى ١٢: ٤٦ - ٥٠ ومرقس ٣: ٣١ - ٣٥.
أما أسماء إخوة يسوع فذكرها متّى ١٣: ٥٥. وذكر هذه الحادثة متّى ومرقس قبل ذكرهما تعليم يسوع للشعب بالأمثال وذكرها لوقا بعد ذلك. والأرجح أن لوقا لم يذكر الحوادث على ترتيب وقوعها كما ذكرا هما. ولعلّ لوقا ذكر هذه الحادثة هنا تفسيراً لقوله «انظروا كيف تسمعون (ع ١٨) وأبان تلك الكيفية في (ع ٢١) بقوله «يسمعون كلمة الله ويعملون بها». فما سماه المسيح في بشارة لوقا «كلمة الله» سماه في بشارة متّى «مشيئة أبي» وسماه في بشارة مرقس «مشيئة الله» وهذا يدل على أن الروح القدس ألهم البشيرين أن يعتبروا كلمة الله إعلان إرادته.

تسكين يسوع العاصفة والبحر ع ٢٢ إلى ٢٥


٢٢ «وَفِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ دَخَلَ سَفِينَةً هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ، فَقَالَ لَـهُمْ: لِنَعْبُرْ إِلَى عَبْرِ ٱلْبُحَيْرَةِ. فَأَقْلَعُوا».
متّى ٨: ٢٣ ومرقس ٤: ٣٥
فِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ لم يعين لوقا الوقت وكذلك متّى ولكن مرقس صرّح بأنه مساء اليوم الذي تكلم فيه بمثل الزارع وغيره من الأمثال (مرقس ٤: ٣٥).
لِنَعْبُرْ أي لنجز من جانب بحيرة الجليل الغربي إلى الجانب الشرقي.
٢٣ «وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ نَامَ. فَنَزَلَ نَوْءُ رِيحٍ فِي ٱلْبُحَيْرَةِ، وَكَانُوا يَمْتَلِئُونَ مَاءً وَصَارُوا فِي خَطَرٍ».
سبق الكلام على هذه الحادثة كلها في الشرح (متّى ٨: ١٨ و٢٣ - ٢٧ ومرقس ٤: ٣٥ - ٤١). وذكر لوقا قبل هذا معجزات المسيح التي تبين قوته على شفاء المرضى وإخراج الشياطين وإقامة الموتى. وذكر هنا معجزة تبين سلطان المسيح على العالم المادي.
نَامَ زاد مرقس قوله «على وسادة» (مرقس ٤: ٣٨).
نَزَلَ نَوْءُ رِيحٍ أي من الأكمات التي شرقي البحيرة.
كَانُوا يَمْتَلِئُونَ مَاءً المعنى أن الأمواج كانت تقع على السفينة وتجعلها في خطر الغرق من ثقل ما ألفت فيها من الماء.
٢٤، ٢٥ «٢٤ َتَقَدَّمُوا وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، يَا مُعَلِّمُ، إِنَّنَا نَهْلِكُ!. فَقَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ وَتَمَوُّجَ ٱلْمَاءِ، فَٱنْتَهَيَا وَصَارَ هُدُوءٌ. ٢٥ ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ: أَيْنَ إِيمَانُكُمْ؟ فَخَافُوا وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ هُوَ هٰذَا؟ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ ٱلرِّيَاحَ أَيْضاً وَٱلْمَاءَ فَتُطِيعُهُ!».
يَا مُعَلِّمُ، يَا مُعَلِّمُ يدل هذا التكرار مع قولهم أنّا نهلك انهم كانوا في شديد الخوف من الغرق. ولا بد في ذلك الوقت الرهيب من أن أحد التلاميذ قال شيئاً والآخر قال شيئاً آخر ولهذا اختلف ما نقله البشيرون عن ألسنتهم.
فَقَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ ذكر متّى بعض ما قاله المسيح من كلمات التوبيخ والعزاء للتلاميذ قبل أن انتهر الريح واقتصر مرقس ولوقا على ذكر ما قاله للتلاميذ بعد ذلك فالأرجح أنه خاطبهم بذلك قبل الانتهار وبعده.

إخراج اللجيئون من مجنون جدرة ع ٢٦ إلى ٣٩


٢٦ «وَسَارُوا إِلَى كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ ٱلَّتِي هِيَ مُقَابِلَ ٱلْجَلِيلِ».
متّى ٨: ٢٨ ومرقس ٥: ١
كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ أي البلاد التي كانت جدرة أحد مدنها وتسمى أيضاً «العشر المدن».
مُقَابِلَ ٱلْجَلِيلِ يدل هذا التحديد على أن لوقا كتب إنجيله للأجانب لا لليهود. وقد سبق الكلام على هذه المعجزة في الشرح (متّى ٨: ٢٨ - ٣٤ و٩: ١ ومرقس ٥: ١ - ٢٠).
٢٧ «وَلَمَّا خَرَجَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱسْتَقْبَلَـهُ رَجُلٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِ شَيَاطِينُ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَكَانَ لاَ يَلْبَسُ ثَوْباً وَلاَ يُقِيمُ فِي بَيْتٍ بَلْ فِي ٱلْقُبُور».
ٱسْتَقْبَلَـهُ رَجُلٌ اقتصر مرقس ولوقا على ذكر واحد ولكن متّى ذكر اثنين والظاهر أن أحدهما كان مشهوراً أكثر من الثاني.
مِنَ ٱلْمَدِينَةِ إن ذلك الرجل كان من أهل تلك المدينة لكنه حين استقبل المسيح كان ساكناً بين القبور. وهذه المدينة هي جرسة أو جرجسة قرب الشاطئ لا جدرة لأن جدرة كانت على أمد ثلاث ساعات من البحيرة.
مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ ذكر ذلك لوقا دون غيره دلالة على فرط شقاء ذلك الإنسان وعدم أمل أن يبرأ من جنونه.
لاَ يَلْبَسُ ثَوْباً لم يذكر ذلك إلا لوقا وأما مرقس فأشار إلى ذلك بقوله بعد الشفاء كان لابساً (مرقس ٥: ١٥).
٢٨ - ٣١ «٢٨ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ صَرَخَ وَخَرَّ لَـهُ وَقَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ! أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي. ٢٩ لأَنَّهُ أَمَرَ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ ٱلإِنْسَانِ. لأَنَّهُ مُنْذُ زَمَانٍ كَثِيرٍ كَانَ يَخْطَفُهُ، وَقَدْ رُبِطَ بِسَلاَسِلٍ وَقُيُودٍ مَحْرُوساً، وَكَانَ يَقْطَعُ ٱلرُّبُطَ وَيُسَاقُ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱلْبَرَارِي. ٣٠ فَسَأَلَـهُ يَسُوعُ: مَا ٱسْمُكَ؟ فَقَالَ: لَجِئُونُ. لأَنَّ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً دَخَلَتْ فِيهِ. ٣١ وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَأْمُرَهُمْ بِٱلذَّهَابِ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ».
رومية ١٠: ٧ ورؤيا ٢٠: ٣
إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ (ع ٣١) أي سجن الأرواح الهالكة أو جهنم مسكن الشياطين.
٣٢ «وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى فِي ٱلْجَبَلِ، فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَأْذَنُ لَـهُمْ بِٱلدُّخُولِ فِيهَا، فَأَذِنَ لَـهُمْ».
خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ قال مرقس أن تلك الخنازير نحو ألفين.
فِي ٱلْجَبَلِ كل الأرض التي شرقي البحيرة جبلية فالخنازير كانت ترعى إما على سفوحها وإما في الأودية بين رؤوس جبالها.
٣٣ «فَخَرَجَتِ ٱلشَّيَاطِينُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ وَدَخَلَتْ فِي ٱلْخَنَازِيرِ، فَٱنْدَفَعَ ٱلْقَطِيعُ مِنْ عَلَى ٱلْجُرْفِ إِلَى ٱلْبُحَيْرَةِ وَٱخْتَنَقَ».
دَخَلَتْ فِي ٱلْخَنَازِيرِ لا نعلم كيف دخلت في الخنازير لقصر معرفتنا أمور الأرواح إنما نعلم مما قيل هنا أن دخولها كان سبب خوف عظيم للخنازير ومن المعلوم أنه إذا اعترى الخوف جماعة كثيرة من البهائم كالبقر أو الخيل وغيرها لم تدرك ماذا تفعل بل تسرع إلى الهلاك.
وَٱخْتَنَقَ عظمة الضرر التي نتجت من قبل الشياطين تدل على كثرتهم وشراستهم وإنقاذ المسيح رجلاً أو رجلين منهم يدل على رحمته وقوته.
٣٤ - ٣٧ «٣٤ فَلَمَّا رَأَى ٱلرُّعَاةُ مَا كَانَ هَرَبُوا وَذَهَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي ٱلْمَدِينَةِ وَفِي ٱلضِّيَاعِ، ٣٥ فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَوَجَدُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلشَّيَاطِينُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لاَبِساً وَعَاقِلاً جَالِساً عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ، فَخَافُوا. ٣٦ فَأَخْبَرَهُمْ أَيْضاً ٱلَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ خَلَصَ ٱلْمَجْنُونُ. ٣٧ فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ جُمْهُورِ كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ، لأَنَّهُ ٱعْتَرَاهُمْ خَوْفٌ عَظِيمٌ. فَدَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ وَرَجَعَ».
متّى ٨: ٣٤ وأعمال ١٦: ٣٩
لاَبِساً (ع ٣٥) لم يذكر لوقا من أين أتى المجنون بالثياب والأرجح أن الرسل أعطوه إياها.
جَالِساً عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ (ع ٣٥) لم يذكر ذلك إلا لوقا وجلوسه هناك يدل على عظمة تغيره لأنه كان قبل ذلك يهرب من الناس وعلى شكره ومحبته للمسيح ورغبته في تعليمه.
٣٨، ٣٩ «٣٨ أَمَّا ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ، وَلٰكِنَّ يَسُوعَ صَرَفَهُ قَائِلاً: ٣٩ ٱرْجِعْ إِلَى بَيْتِكَ وَحَدِّثْ بِكَمْ صَنَعَ ٱللّٰهُ بِكَ. فَمَضَى وَهُوَ يُنَادِي فِي ٱلْمَدِينَةِ كُلِّهَا بِكَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ».
مرقس ٥: ١٨
لم يذكر متّى طلب المجنون المذكور هنا وعلّة إباء يسوع إجابة طلبه ذُكرت في ما مرّ من الشرح (مرقس ٥: ١٩).
فِي ٱلْمَدِينَةِ كُلِّهَا (ع ٣٩) الأرجح أن تلك المدينة مدينة جرسة قرب البحيرة. وقال مرقس أن ذلك الرجل نادى بالمسيح في كل تلك الكورة أي العشر المدن. فما أعجب صنيع المسيح لذلك المجنون في وقت قصير جداً فإنه نجاه فيه من الشياطين الكثيرة وجدد قلبه وأناره بالروح القدس حتى صار مستعداً للتبشير بالإنجيل.

إقامة ابنة يايرس وشفاء المرأة النازفة الدم ع ٤ لى ٥٦


٤٠ - ٥٦ «٤٠ وَلَمَّا رَجَعَ يَسُوعُ قَبِلَـهُ ٱلْجَمْعُ لأَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعُهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ. ٤١ وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ يَايِرُسُ قَدْ جَاءَ وَكَانَ رَئِيسَ ٱلْمَجْمَعِ فَوَقَعَ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، ٤٢ لأَنَّهُ كَانَ لَـهُ بِنْتٌ وَحِيدَةٌ لَهَا نَحْوُ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ فِي حَالِ ٱلْمَوْتِ. فَفِيمَا هُوَ مُنْطَلِقٌ زَحَمَتْهُ ٱلْجُمُوعُ ٤٣ وَٱمْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً، وَقَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ، وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ، ٤٤ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَلَمَسَتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. فَفِي ٱلْحَالِ وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. ٤٥ فَقَالَ يَسُوعُ: مَنِ ٱلَّذِي لَمَسَنِي! وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يُنْكِرُونَ، قَالَ بُطْرُسُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ: يَا مُعَلِّمُ، ٱلْجُمُوعُ يُضَيِّقُونَ عَلَيْكَ وَيَزْحَمُونَكَ، وَتَقُولُ مَنِ ٱلَّذِي لَمَسَنِي! ٤٦ فَقَالَ يَسُوعُ: قَدْ لَمَسَنِي وَاحِدٌ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي. ٤٧ فَلَمَّا رَأَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَنَّهَا لَمْ تَخْتَفِ جَاءَتْ مُرْتَعِدَةً وَخَرَّتْ لَـهُ، وَأَخْبَرَتْهُ قُدَّامَ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ لأَيِّ سَبَبٍ لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ بَرِئَتْ فِي ٱلْحَالِ. ٤٨ فَقَالَ لَهَا: ثِقِي يَا ٱبْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ. ٤٩ وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، جَاءَ وَاحِدٌ مِنْ دَارِ رَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ قَائِلاً لَـهُ: قَدْ مَاتَتِ ٱبْنَتُكَ. لاَ تُتْعِبِ ٱلْمُعَلِّمَ. ٥٠ فَسَمِعَ يَسُوعُ وَأَجَابَهُ: لاَ تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ، فَهِيَ تُشْفَى. ٥١ فَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْبَيْتِ لَمْ يَدَعْ أَحَداً يَدْخُلُ إِلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَأَبَا ٱلصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا. ٥٢ وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَبْكُونَ عَلَيْهَا وَيَلْطِمُونَ. فَقَالَ: لاَ تَبْكُوا. لَمْ تَمُتْ لٰكِنَّهَا نَائِمَةٌ. ٥٣ فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، عَارِفِينَ أَنَّهَا مَاتَتْ. ٥٤ فَأَخْرَجَ ٱلْجَمِيعَ خَارِجاً، وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا وَنَادَى قَائِلاً: يَا صَبِيَّةُ قُومِي. فَرَجَعَتْ رُوحُهَا وَقَامَتْ فِي ٱلْحَالِ. فَأَمَرَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ. ٥٦ فَبُهِتَ وَالِدَاهَا. فَأَوْصَاهُمَا أَنْ لاَ يَقُولاَ لأَحَدٍ عَمَّا كَانَ».
متّى ٩: ١٨ ومرقس ٥: ٢٢، متّى ٩: ٢٠، مرقس ٥: ٣٠ وص ٦: ١٩، مرقس ٥: ٣٥، يوحنا ١١: ١١ و١٣، ص ٧: ١٤ ويوحنا ١١: ٤٣، متّى ٨: ٤ و٩: ٣٠ ومرقس ٥: ٤٣
مرّ تفسير ذلك كله في ما مرّ من الشرح متّى ٩: ١٨ - ٢٦ ومرقس ٥: ٢٢ - ٤٣. وكانت هاتان الحادثتان في كفرناحوم بعد رجوع المسيح من أرض الجرجسيين. وكان المسيح حين أتى يايرس إليه في وليمة في بيت متّى. وذكر لوقا تلك الوليمة في ص ٥: ٢٩. وزاد لوقا ثلاثة أشياء:
(١) أن بنت يايرس كانت وحيدة لوالديها (ع ٤٢).
(٢) أن الذي أجاب عن قول المسيح «من لمسني» هو بطرس. وهذا كان يتوقع من بطرس لما نعلمه من أخلاقه. ولا يحسن أن نستنتج من قول لوقا أن الجميع أنكروا أنهم لمسوه. (٣) أن المرأة أنكرت ذلك لأن الأرجح أنها رجعت إلى الوراء حالاً وأغلق الحياء والخوف فمها.


الأصحاح التاسع


إرسال يسوع الاثني عشر للتبشير ع ١ إلى ٦


١ «وَدَعَا تَلاَمِيذَهُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ، وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَاناً عَلَى جَمِيعِ ٱلشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاض».
متّى ١٠: ١ ومرقس ٣: ١٣ الخ و٦: ٧
انظر الشرح متّى ٩: ٣٥ - ٣٨ و١٠: ٥ - ٤٢ و١١: ١ ومرقس ٦: ٦ - ١٣. وهذا جولان المسيح الثالث في الجليل وإنباء لوقا به أخصر من إنباء غيره به. ونعلم مما قيل في بشارة متّى (١١: ١) أنه حين جال الرسل في القرى يبشرون كان المسيح يبشر أيضاً في المدن.
أَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَاناً الخ أظهر يسوع قوته الإلهية غير المحدودة بإعطائه غيره قدرة على عمل المعجزات فضلاً على ما أظهر بعملها.
عَلَى جَمِيعِ ٱلشَّيَاطِينِ مهما كانت كثرتهم وقوتهم وشراستهم.
٢ «وَأَرْسَلَـهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ وَيَشْفُوا ٱلْمَرْضَى».
متّى ١٠: ٧ و٨ ومرقس ٦: ١٣ وص ١٠: ١ و٩
لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ كان ذلك عملهم الأهم وإنما كان شفاء المرضى دليلاً على صدق كرازتهم وسلطانها. وأرسل يسوع التلاميذ اثنين اثنين (مرقس ٦: ٧).
٣ «وَقَالَ لَـهُمْ: لاَ تَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ، لاَ عَصاً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ فِضَّةً، وَلاَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ».
متّى ١٠: ٩ ومرقس ٦: ٨ وص ١٠: ٤ و٢٢: ٣٥
لاَ تَحْمِلُوا شَيْئاً الخ قصد المسيح بهذا كله تعليم تلاميذه الاقتناع بضرورياتهم وتجنبهم الجاه الدنيوي والترفّه.
لاَ عَصاً نستنتج من مقابلة هذا بقوله «غير عصا فقط» (مرقس ٦: ٨) أن المسيح قصد أن يذهب تلاميذه بما لهم حينئذ فمن له عصى فليأخذه ومن ليس له فلا يضع الوقت في التفتيش عن عصا ومن له عصا فلا يأخذ اثنين احتياطاً من الحاجة إلى ذلك.
٤ «وَأَيَّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا، وَمِنْ هُنَاكَ ٱخْرُجُوا».
متّى ١٠: ١١ ومرقس ٦: ١٠
هُنَاكَ أَقِيمُوا لم ينه المسيح تلاميذه عن التطويف من بيت إلى آخر بغية التبشير وشفاء المرضى بل نهاهم عن الجولان لأجل الطعام. وذلك منعٌ لهم من إضاعة الوقت بالزيارات الدنيوية واللذات الجسدية.
٥ «وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ فَٱخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ، وَٱنْفُضُوا ٱلْغُبَارَ أَيْضاً عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ».
متّى ١٠: ١٤ وأعمال ١٣: ٥١
مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ علّم يسوع بذلك تلاميذه أن يتوقعوا من الناس تكذيب كلامهم ومقاومتهم،
وَٱنْفُضُوا ٱلْغُبَارَ ذلك مجاز قصد به أن الذين يرفضون كلامهم يُحسبون كالوثنيين ويتركون في قساوة قلوبهم. وأنه لا يبقى على الرسل شيء من المسؤولية من أمرهم إذا هلكوا.
٦ «فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ».
مرقس ٥: ١٣
يُبَشِّرُونَ قال مرقس إنهم كرزوا بالتوبة (مرقس ٦: ١٢) وذلك جزء من التبشير بالإنجيل لأن التوبة شرط ضروري لنوال البركات الإنجيلية.
فِي كُلِّ قَرْيَةٍ... فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أي في كل مكان دخلوه وزاد مرقس على ذلك أنهم كانوا يدهنون المرضى بالزيت عندما قصدوا شفاءهم.

ارتياب هيرودس ع ٧ إلى ٩


٧ - ٩ «٧ فَسَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ، وَٱرْتَابَ لأَنَّ قَوْماً كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. ٨ وَقَوْماً: إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ. وَآخَرِينَ: إِنَّ نَبِيّاً مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ. ٩ فَقَالَ هِيرُودُسُ: يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هٰذَا! وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ».
متّى ١٤: ١ ومرقس ٦: ١٤، ص ٢٣: ٨
انظر الشرح متّى ٤: ١ - ١٢ ومرقس ٦: ١٤ - .٢٩
هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ هو كان كذلك حقيقة ولكن مرقس سماه ملكاً إكراماً جرياً على عادة الناس في مثل ذلك على أنه كان ابن هيرودس الكبير وله سلطان يقرب من سلطان الملك.
لأَنَّ قَوْماً كَانُوا يَقُولُونَ الخ كان أصل هذا القول من هيرودس على ما قال متّى ولوقا ثم تناقلته الألسنة بلا إسناد إليه كعادة الناس في نقل أقوال العظماء وارتياب هيرودس بيان لقوة الضمير على إقلاق قلوب المذنبين وتهييج مخاوفهم.
إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ (ع ٨) ميّز الناس بين إيليا الذي لم يمت إنما نقل حياً إلى السماء (٢ملوك ٢: ١١). ويوحنا المعمدان والأنيباء الذين ماتوا بقولهم أن الأول ظهر وأن الآخرين قاموا من الأموات.
يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ (ع ٩) هذا النبأ الوحيد الذي جاء به لوقا من أنباء موت يوحنا المعمدان. وكنا نتوقع أن يستوفي الكلام على موت يوحنا أكثر من سائر البشيرين لأنه استوفى الكلام على ولادته أكثر منهم. فدل اختصاره في ذلك أنه اعتبر أهمية تاريخ يوحنا من جهة كونه سابق المسيح وشاهده ولم يفه بعد هذا بغيره من أمر يوحنا لأن ما أبانه هو المتعلق بحياة المسيح على الأرض.
مَنْ هُوَ هٰذَا (ع ٩) لعلّ ما قاله القوم كما مرّ كان جواباً لسؤال هيرودس هذا.
مِثْلَ هٰذَا أي ما أتاه المسيح من المعجزات.
كَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ ذلك لرغبته في رؤية شيء من معجزاته ولإزالة ارتيابه وخوفه بمشاهدته فلم يحصل على فرصة لذلك إلا في يوم صلب المسيح (ص ٢٣: ٦ - ١٢).

رجوع التلاميذ وذهاب المسيح معهم إلى البريّة وإشباعه الخمسة الآلاف ع ١٠ إلى ١٧


١٠ - ١٧ «١٠ وَلَمَّا رَجَعَ ٱلرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا، فَأَخَذَهُمْ وَٱنْصَرَفَ مُنْفَرِداً إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صَيْدَا. ١١ فَٱلْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ، فَقَبِلَـهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَٱلْمُحْتَاجُونَ إِلَى ٱلشِّفَاءِ شَفَاهُمْ. ١٢ فَٱبْتَدَأَ ٱلنَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ ٱلاثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَـهُ: ٱصْرِفِ ٱلْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى ٱلْقُرَى وَٱلضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَاماً، لأَنَّنَا هٰهُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاَءٍ. ١٣ فَقَالَ لَـهُمْ: أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا. فَقَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ طَعَاماً لِهٰذَا ٱلشَّعْبِ كُلِّهِ. ١٤ لأَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: أَتْكِئُوهُمْ فِرَقاً خَمْسِينَ خَمْسِينَ. ١٥ فَفَعَلُوا هٰكَذَا وَأَتْكَأُوا ٱلْجَمِيعَ. ١٦ فَأَخَذَ ٱلأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ، ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلتَّلاَمِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ. ١٧ فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعاً. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ ٱلْكِسَرِ: ٱثْنَتَا عَشَرَةَ قُفَّةً».
مرقس ٦: ٣٠، متّى ١٤: ١٣، متّى ١٤: ١٥ ومرقس ٦: ٣٥ الخ ويوحنا ٦: ١ و٥
انظر الشرح متّى ١٤: ١٣ - ٢١ ومرقس ٦: ٣٠ - ٤٤.
فَأَخَذَهُمْ (ع ١٠) أي رفقاء.
وَٱنْصَرَفَ لم يبين لوقا أفي البحر كان ذلك أم في البرّ لكن نعرف من سائر البشائر أنه كان في البحر.
مَوْضِعٍ خَلاَءٍ لِمَدِينَةٍ أي تابع لتلك المدينة. ولا تضادّ بين قول لوقا هنا وقول مرقس أنهم بعدما تركوا الموضع ذهبوا إلى بيت صيدا (مرقس ٦: ٤٥). فالأرجح أن المعجزة المذكورة هنا كانت في سهل شرقي بيت صيدا تابع لها يسمى اليوم سهل البطيحة. وأن التلاميذ دخلوا السفينة بعد المعجزة لكي يعبروا خليجاً صغيراً في بحيرة طبرية قاصدين بيت صيدا.
بَيْتَ صَيْدَا كانت هذه المدينة قرب الشاطئ وعلى الشمال الشرقي من البحيرة وكانت في أول أمرها قرية صغيرة جعلها فيلبس رئيس الربع مدينة لكثرة ما بنى فيها وزينها وسماها جولياس إكراماً لجوليا ابنة الأمبراطور. وقد ذهب البعض ان تلك المدينة بُنيت على جانبي نهر الأردن عند مصبه وعلى هذا المذهب تكون المدينة قسمين أحدها عبر الآخر فالواحد شرقي قرب محل المعجزة والثاني غربي وهو الذي ذُكر في بشارة مرقس (مرقس ٦: ٤٥) وفي بشارة يوحنا (يوحنا ٦: ١٦).
فَقَبِلَـهُمْ (ع ١١) كان يسوع حينئذ قد تعب وطلب الانفراد لكن لما شاهد الجمع الذي سبقه جارياً على البرّ تحنن عليه وعلمه وشفى مرضاه.
ٱلنَّهَارُ يَمِيلُ (ع ١٢) أي تميل الشمس إلى الغروب.
مَوْضِعٍ خَلاَءٍ أي خال من السكان. وكان هناك عشب كثير (يوحنا ٦: ١٠).
أَرْغِفَةٍ (ع ١٣) قال يوحنا إن تلك الأرغفة كانت من الشعير وأن التلاميذ اشتروها من غلام هنالك.
إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ ذكر مرقس ذلك على سبيل الاستفهام والمعنى واحد وهو بيان عدم إمكانهم أن يشبعوا ذلك الجمع العظيم. وزاد مرقس ويوحنا على ذلك قول التلاميذ إنهم يحتاجون إلى مئتي دينار ليعطوا كل واحد شيئاً يسيراً من الطعام.
نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ (ع ١٤) «مَا عَدَا ٱلنِّسَاءَ وَٱلأَوْلاَدَ» (متّى ١٤: ٢١).
وَأَتْكَأُوا قال متّى ومرقس إن المسيح أمر الجمع بالاتكاء فالأمر ظاهر أن المسيح أمر الرسل بأن يأمروا الجميع بذلك ومثل هذا شائع في كل لغة.

اعتراف بطرس بالمسيح ع ١٨ إلى ٢١


١٨ - ٢١ «١٨ وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى ٱنْفِرَادٍ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مَعَهُ. فَسَأَلَـهُمْ: مَنْ تَقُولُ ٱلْجُمُوعُ إِنِّي أَنَا؟ ١٩ فَأَجَابُوا: يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ إِنَّ نَبِيّاً مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ. ٢٠ فَقَالَ لَـهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ بُطْرُسُ: مَسِيحُ ٱللّٰهِ. ٢١ فَٱنْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لاَ يَقُولُوا ذٰلِكَ لأَحَدٍ».
متّى ١٦: ١٣ ومرقس ٨: ٢٧، متّى ١٤: ٢ وع ٧ و٨، متّى ١٦: ١٦ ويوحنا ٦: ٦٩، متّى ١٦: ٢٠
ترك لوقا هنا ما ذكره متّى ومرقس من أمر مشي المسيح على الماء (متّى ١٤: ٢٣ - ٣٦ ومرقس ٦: ٤٥ و٤٦). وإتيان المرأة الكنعانية إليه تسأله شفاء ابنتها وإشباعه الأربعة الآلاف وشفاء الاصم الأخرس (متّى ١٥: ٢١ - ٣٨ ومرقس ٧: ٢٤ - ٣٧). وكلامه على خمير الصدوقيين والفريسيين (متّى ١٦: ٤ - ١٢ ومرقس ٨: ١٣ - ٢١) وإبرائه الأعمى في بيت صيدا (مرقس ٨: ٢٢ - ٢٦).
وقد مرّ الكلام على هذه الآيات في الشرح (متّى ١٦: ١٣ - ٢١ ومرقس ٨: ٢٧ - ٣١).
فِيمَا هُوَ يُصَلِّي (ع ١٨) لم يذكر أحد من الإنجيليين سوى لوقا أن المسيح شغل وقتاً بالصلاة قبل أن سأل تلاميذه عن إيمانهم به وقبل إنبائه إياهم بآلامه وموته وقيامته. ولا ريب في أن تلك الصلاة كانت لأجل التلاميذ لكي لا يتزعزع إيمانهم به إذا سمعوا أنه يأتي عليه خلاف ما كانوا يسمعون ويعتقدون من أمر المسيح.
عَلَى ٱنْفِرَادٍ أي بمعزل عن الجمع المزدحم. ونستنتج مما قاله مرقس أن يسوع كان حينئذ قد استراح قليلاً على الطريق وانتهز فرصة الصلاة والخطاب الروحي مع تلاميذه (مرقس ٨: ٢٧).
مَنْ تَقُولُ ٱلْجُمُوعُ إِنِّي أَنَا غاية المسيح من هذا السؤال حمل التلاميذ على أن يميزوا جلياً بين اعتقاد الشعب فيه والاعتقاد الذي بلغوه في ذلك وأن يستعدوا لتعليم جديد من جهة الطريق التي فيها يكمل عمل الخلاص.
وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ خاطب المسيح بذلك الرسل كلهم وأراد جواب الكل. فأجابه بطرس عن الجميع وقبله يسوع كذلك وكان ما في ذلك الجواب من المعرفة والاعتراف نتيجة إعلان الله (متّى ١٦: ١٦).
مَسِيحُ ٱللّٰهِ هذا مثل قول سمعان الشيخ «مسيح الرب» (ص ٢: ٢٦) أي الذي مسحه الله وأرسله. وعُبر عنه في بشارة متّى بالمسيح ابن الله الحي وفي بشارة مرقس بالمسيح. والمقصود في كل ذلك واحد وهو أن يسوع هو المسيح الموعود به.
أَنْ لاَ يَقُولُوا ذٰلِكَ (ع ٢١) أي أن يسوع هو مسيح الله. وقد مرّ الكلام على سبب تلك الوصية في الشرح (متّى ١٦: ٢٠).

إنباء يسوع بموته وقيامته ع ٢٢ إلى ٢٧


٢٢ - ٢٧ «٢٢ قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ ٢٣ وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. ٢٤ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهٰذَا يُخَلِّصُهَا. ٢٥ لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ ٢٦ لأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي، فَبِهٰذَا يَسْتَحِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ ٱلآبِ وَٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ. ٢٧ حَقّاً أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ و٢٣، متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤ ومرقس ٨: ٣٤ وص ١٤: ٢٧، متّى ١٦: ٢٦ ومرقس ٨: ٣٦، متّى ١٠: ٣٣ ومرقس ٨: ٣٨ و٢تيموثاوس ٢: ١٢، متّى ١٦: ١٨ ومرقس ٩: ١
انظر الشرح متّى ١٦: ٢١ - ٢٨ ومرقس ٨: ٣١ - ٣٨.
أخذ المسيح من ذلك الوقت يكرر على التلاميذ أنه يتألم ويموت من أجل خطايا العالم ليعوّد أسماعهم ما يخالف كل آرائهم السابقة في شأن المسيح. ولم يذكر لوقا توبيخ المسيح لبطرس لاعتراضه على قوله هنا (متّى ١٦: ٢٢ و٢٣). كما لم يذكر وعده لبطرس على أثر اعترافه به (متّى ١٦: ١٧ - ١٩).
لِلْجَمِيعِ (ع ٢٣) نعلم من هذا ومن قول مرقس أنه دعا الجمع مع تلاميذه أنهم بلغوا في الطريق إحدى القرى حيث اجتمع الناس ليسمعوا تعليمه (مرقس ٨: ٣٤).
فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ (ع ٢٣) يميل قلب الإنسان طبعاً إلى الراحة الجسدية واللذات الدنيوية والمجد العالي فيجب على كل إنسان قبل أن يقيم المسيح ملكاً عليه أن ينزع من قلبه كل تلك الغايات الشخصية الدنيوية.
وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ أي يقاوم العالم والشيطان وهذه المقاومة علّة العار والبلية في هذه الدنيا. ويُفهم من قوله «صليبه» أن الله عين لكل إنسان ما يحتمله لأجل اسمه وليس عليه أن يحمل صليب غيره. فحمل الصليب فرض على كل مسيحي فيستحيل أن يكون الدين المسيحي بلا صليب كما يستحيل أن يكون بلا مسيح.
كُلَّ يَوْمٍ إنكار الذات وحمل الصليب فُرضا على كل مسيحي كل يوم من أيام حياته وكل ساعة من ساعات كل يوم وهذا يقرب من قول بولس الرسول عن نفسه «أَمُوتُ كُلَّ يَوْمٍ» (١كورنثوس ١٥: ٣١).
يُخَلِّصَ نَفْسَهُ (ع ٢٤) أي حياته الجسدية بإنكاره المسيح وقت الاضطهاد.
يُهْلِكُهَا أي يهلك حياته الروحية السامية الحقيقية. فللنفس هنا معنيان الحياة الطبيعية والحياة الروحية. وكذلك جاء للموت معنيان في قوله تعالى «دَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ» (متّى ٨: ٢٢) أي موتى الروح يدفنون موتى الجسد.
مَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي أي من يبذل حياته الجسدية لا يستحق الذكر بالنسبة إلى عظمة الخسارة بهلاك النفس.
مَاذَا يَنْتَفِعُ (ع ٢٥) أي لا ينتفع شيئاً لأن ربح العالم كله زهيد لا يستحق الذكر بالنسبة إلى عظمة الخسارة بهلاك النفس.
خَسِرَهَا أي خسر حياته السماوية وذلك لنفيه من حضرة الله وحبسه بين الهالكين في جهنم.
مَنِ ٱسْتَحَى بِي (ع ٢٦) أي من أظهر الحياء بأن أنكر المسيح لينقذ جسده من الموت.
بِهٰذَا يَسْتَحِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يفعل به فعل من استحى بغيره. فلا يعترف بأنه من أتباعه ويرفضه وينفيه من حضرته في يوم الدين.
مَتَى جَاءَ (ع ٢٦) صرّح المسيح هنا بمجيئه ثانية وسيكون ذلك المجيء بمجد عظيم. ولذلك المجد ثلاث صفات:

  • الأولى: أنه «مجده» أي المجد الذي لابن الله منذ الأزل.
  • الثانية: أنه مجد الآب أي المجد الذي منحه الآب إياه جزاء على أتضاعه وآلامه لأجل عمل الفداء.
  • الثالثة: أنه مقترن بمجد الملائكة الذين يرافقونه يومئذ خداماً له.


ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا (ع ٢٧) أي الرسل وغيرهم ع ٢٣.
يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ شبه الموت هنا كأس مرّة.
يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ فسر هذا القول متّى بقوله «يَرَوُا ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ» (متّى ١٦: ٢٨) ومرقس بقوله «يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ» (مرقس ٩: ١) وقصد يسوع بكل ذلك أن بعض الذين كان يكلمهم ينظرون من قبل موتهم ما يحقق لهم أن المسيح أتى وأسس ملكوته على الأرض.
ولعلّ هذه النبوءة لم تتم دفعة بحادث واحد وقد تمت جزئياً في ثلاثة أوقات.

  • الأول: وقت تجلّيه. وشاهد ذلك ثلاثة من أولئك القيام.
  • الثاني: يوم الخمسين. ففيه أسس ملكوت المسيح علناً بانسكاب الروح القدس وموهبة الألسنة وإنشاء الكنيسة المسيحية وانتصارها على المقاومين وشاهد ذلك كل الرسل من أولئك القيام سوى يهوذا الاسخريوطي.
  • الثالث: يوم خراب أورشليم الذي زالت به الهيئة الخارجية للنظام القديم. وشاهد ذلك الخراب يوحنا الرسول وهو أحد أولئك القيام.



التجلي ع ٢٨ إلى ٣٦


٢٨ - ٣٦ «٢٨ وَبَعْدَ هٰذَا ٱلْكَلاَمِ بِنَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، أَخَذَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ إِلَى جَبَلٍ لِيُصَلِّيَ. ٢٩ وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضّاً لاَمِعاً. ٣٠ وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا، ٣١ ٱَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ، وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ ٱلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَـهُ فِي أُورُشَلِيمَ. ٣٢ وَأَمَّا بُطْرُسُ وَٱللَّذَانِ مَعَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِٱلنَّوْمِ. فَلَمَّا ٱسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ، وَٱلرَّجُلَيْنِ ٱلْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ. ٣٣ وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ قَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ: يَا مُعَلِّمُ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هٰهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلِإِيلِيَّا وَاحِدَةً. وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ. ٣٤ وَفِيمَا هُوَ يَقُولُ ذٰلِكَ كَانَتْ سَحَابَةٌ فَظَلَّلَتْهُمْ. فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي ٱلسَّحَابَةِ. ٣٥ وَصَارَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ. لَـهُ ٱسْمَعُوا. ٣٦ وَلَمَّا كَانَ ٱلصَّوْتُ وُجِدَ يَسُوعُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا هُمْ فَسَكَتُوا وَلَمْ يُخْبِرُوا أَحَداً فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْصَرُوهُ»
متّى ١٧: ١ ومرقس ٩: ٢، ٢ بطرس ١: ١٥، دانيال ٨: ١٨ و١٠: ٩، متّى ٣: ١٧، أعمال ٢: ٢٣، متّى ١٧: ٩
قد مرّ الكلام على ذلك في الشرح متّى ١٧: ١ - ٨ ومرقس ٩: ٢ - ٨.
بِنَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ (ع ٢٨) حسب لوقا اليوم الذي أنبأ المسيح فيه بذلك واليوم الذي جرى فيه. وأما متّى ومرقس فحسبا الأيام الستة التي بين ذينك اليومين.
بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ كان يسوع يعزّ هؤلاء الثلاثة كثيراً وأخذهم معه شهوداً بمجده. فإن شهادة الثلاثة في الشريعة اليهودية تثبت كل حادثة.
جَبَلٍ الأرجح أن هذا الجبل هو حرمون أي جبل الشيخ.
لِيُصَلِّيَ لم يذكر أن هذا علّة صعوده على الجبل إلا لوقا. وكان المسيح يبتدئ كل أعماله العظمى بالصلاة كما فعل يوم اعتماده ووقت انتخابه الرسل وحين تجليه وزمن صلبه.
مُتَغَيِّرَةً (ع ٢٩) أي ممجدة. لم يزل المسيح معروفاً بها كما كان من ذي قبل.
رَجُلاَنِ (ع ٣٠) ذكر متّى ومرقس ظهور موسى وإيليا ولم يذكرا في أي الصور ظهرا لكن لوقا عيّن أنهما ظهرا رجلين.
ظَهَرَا بِمَجْدٍ (ع ٣١) أي بنور وبهاء كالسماويين.
خُرُوجِهِ أي موته وذلك كتعبير بطرس عن موته هو (٢ بطرس ١: ١٥). ذكر متّى ومرقس ان موسى وإيليا تكلما معه ولم يذكرا موضوع الكلام. ولكن لوقا أبان ان ذلك الموضوع هو الموت الذي عزم يسوع أن يموته في أورشليم لأجل خطايا العالم. وإنما كان ذلك سبب إتيانه إلى العالم ليبذل نفسه فدية عن العالم الخاطئ. والذي هو موضوع تأمل القديسين الممجدين في السماء وكلامهم يليق أن يكون موضوع تأمل قديسي المسيح الأحياء على الأرض وكلامهم فإنما هو تعزيتهم في الحياة والوفاة وفرحهم في الأبدية.
يُكَمِّلَـهُ أي يجريه إتماماً للقضاء الإلهي وللنبؤات المتعلقة به ولعمل الفداء.
تَثَقَّلُوا بِٱلنَّوْمِ كان ليل وقد تعب الرسل بالصعود على الجبل. والأرجح أنهم ناموا أكثر مدة المخاطبة واستيقظوا وقد قربت من النهاية فلم يسمعوا سوى قليل منها. وهذا يتبين من قوله فلما «استيقظوا» الخ.
مَجْدَهُ، وَٱلرَّجُلَيْنِ أي مجد المسيح وكان ذلك المجد عظيماً حتى لم ينتبه الرسل الثلاثة لمجد موسى وإيليا. وقد سبق الكلام على غاية التجلي في الشرح (متّى ١٧: ٨).
فَسَكَتُوا (ع ٣٦) أتوا ذلك إطاعة لأمر المسيح (متّى ١٧: ٩) والأرجح أنهم ظلوا ساكتين إلى بعد القيامة. ولم يذكر لوقا في بشارته سؤال الرسل عن مجيء إيليا قبل مجيء المسيح المنتظر كما كان يتوقع اليهود فلم يكن من حاجة إلى أن يبين لهم أن النبؤة بسبق إيليا قد تمت بمجيء يوحنا المعمدان.

شفاء الولد المجنون ع ٣٧ إلى ٤٣


٣٧ - ٤٣ «٣٧ وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي إِذْ نَزَلُوا مِنَ ٱلْجَبَلِ، ٱسْتَقْبَلَـهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ. ٣٨ وَإِذَا رَجُلٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ صَرَخَ: يَا مُعَلِّمُ، أَطْلُبُ إِلَيْكَ. اُنْظُرْ إِلَى ٱبْنِي، فَإِنَّهُ وَحِيدٌ لِي. ٣٩ وَهَا رُوحٌ يَأْخُذُهُ فَيَصْرُخُ بَغْتَةً، فَيَصْرَعُهُ مُزْبِداً، وَبِٱلْجَهْدِ يُفَارِقُهُ مُرَضِّضاً إِيَّاهُ. ٤٠ وَطَلَبْتُ مِنْ تَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا. ٤١ فَأَجَابَ يَسُوعُ: أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ وَٱلْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمِ ٱبْنَكَ إِلَى هُنَا. ٤٢ وَبَيْنَمَا هُوَ آتٍ مَزَّقَهُ ٱلشَّيْطَانُ وَصَرَعَهُ، فَٱنْتَهَرَ يَسُوعُ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ، وَشَفَى ٱلصَّبِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلَى أَبِيهِ. ٤٣ فَبُهِتَ ٱلْجَمِيعُ مِنْ عَظَمَةِ ٱللّٰهِ. وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ، قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ».
متّى ١٧: ١٤ ومرقس ٩: ١٤ و١٧
انظر الشرح متّى ١٧: ١٤ - ٢١ ومرقس ٩: ١٤ - ٢٩ ونبأ مرقس بهذا واف أكثر من غيره.
فِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي (ع ٣٧) تقضّى عليهم الليل وهم على الجبل ورجعوا صباحاً إلى قيصرية فيلبي حيث بقي الرسل التسعة.
فَإِنَّهُ وَحِيدٌ لِي (ع ٣٨) لم يذكر هذا إلا لوقا وهذا مما زاد حزن أبيه بمصابه.
مِنْ عَظَمَةِ ٱللّٰهِ يريد ظهور تلك العظمة في شفاء المجنون فذلك كتعجب الناس اليوم بقولهم «سبحان الله» وأكثر الذين بهتوا من الجمع الكثير الذي كان هنالك (ع ٣٧).

إنباء يسوع بموته ثانية ع ٤٤ و٤٥


٤٤، ٤٥ «٤٤ ضَعُوا أَنْتُمْ هٰذَا ٱلْكَلاَمَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ». ٤٥ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا هٰذَا ٱلْقَوْلَ، وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ لِكَيْ لاَ يَفْهَمُوهُ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ هٰذَا ٱلْقَوْلِ».
متّى ١٧: ٢٢، مرقس ٩: ٣٢ وص ٢: ٥٠ و١٨: ٣٤
كان يجب أن يكون أول هذا الفصل بعد العدد الثالث والأربعين لأن أول ذلك العدد يتعلق بحادث قيصرية فيلبس وباقيه بالخطاب بين المسيح وتلاميذه وهم على الطريق من تلك المدينة إلى كفرناحوم كما يظهر من بشارة مرقس (مرقس ٩: ٣٠ و٣١).
سبق الكلام على هذا في الشرح (متّى ١٧: ٢٢ و٢٣ ومرقس ٣٠ - ٣٢). ولعلّ تعجب الجمع من عمل المسيح وتمجيدهم إياه جعلا التلاميذ يتوقعون إتيان ملكوت المسيح بالقوة حالاً وينسون ما أنبأهم به سابقاً من آلامه وموته ولذلك أنبأهم به ثانية.
هٰذَا ٱلْكَلاَمَ (ع ٤٤) أي ما تفوه به على توالي الأوقات في شأن اتضاعه حتى الموت قبل أن يملك.
فَلَمْ يَفْهَمُوا (ع ٤٥) لعلهم ظنوا لكلامه معنى سرياً وأنه لم يرد ظاهره لأن الظاهر يخالف كل آراء الأمة اليهودية في شأن المسيح ملك اليهود.
وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ كان علّة إخفائه آراءهم السابقة في حقيقة ملك المسيح وإباءهم تصديق ما يخالف مشتهياتهم.
وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ علّة ذلك أنهم لم يستطيعوا سؤاله ما لم يظهروا عدم رضاهم به وقد سمعوا توبيخ المسيح لبطرس عندما أظهر مثل ما في قلوبهم.

توبيخ المسيح تلاميذه على حب الرئاسة وتعليمه إياهم التواضع ع ٤٦ إلى ٤٨


٤٦ - ٤٨ «٤٦ وَدَاخَلَـهُمْ فِكْرٌ: مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟ ٤٧ فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ، ٤٨ وَقَالَ لَـهُمْ: مَنْ قَبِلَ هٰذَا ٱلْوَلَدَ بِٱسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي، لأَنَّ ٱلأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعاً هُوَ يَكُونُ عَظِيماً»
متّى ١٨: ١ ومرقس ٩: ٣٤، متّى ١٠: ٤٠ و١٨: ٥ ومرقس ٩: ٣٧ ويوحنا ١٢: ٤٤ و١٣: ٢٠، متّى ٢٣: ١١ و١٢
انظر الشرح متّى ١٨: ١ - ٥ ومرقس ٩: ٣٣ - ٣٧.
حدثت المشاجرة هنا بين التلاميذ وهم سائرون في الطريق ولم يلتفت يسوع إلى ذلك إلا بعد وصولهم إلى كفرناحوم (مرقس ٩: ٣٣ و٣٤).
عَلِمَ يَسُوعُ الظاهر أنهم كانوا بعيدين حين المشاجرة عن يسوع فسألهم في كفرناحوم عن موضوع مشاجرتهم فاستحوا أن يخبروه (مرقس ٩: ٣٣ و٣٤). فينتج أنه علم بقوته الإلهية أفكار قلوبهم أي محبتهم للذات والرئاسة والسلطان والشرف التي كانت علّة تلك المشاجرة. ولنا من كلام المسيح هنا ووضعه الولد مثلاً لتلاميذه دليل قاطع على مساواة الرسل ومساواة كل من يرسله المسيح للتبشير في المقام وإن كان أحدهم أعظم لذلك نتيجة تواضعه وإنكاره لذاته.

غيرة يوحنا ع ٤٩ و٥٠


٤٩، ٥٠ «٤٩ فَقَالَ يُوحَنَّا: يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ بِٱسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُ مَعَنَا. ٥٠ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا».
عدد ١١: ٢٨ الخ ومرقس ٩: ٣٨، متّى ١٢: ٣٠ وص ١١: ٢٣
سبق الكلام على ذلك في الشرح مرقس ٩: ٣٨ و٣٩.
يظهر من كلام يوحنا هنا أنه ظن مراد المسيح أن الرسل الاثني عشر مستثنون مما قال في مساواة تلاميذه وأن لهم حقوقاً خاصة وسلطاناً سامياً وذكر للمسيح فعلاً أتاه هو يستدل منه دعواه أنه أدرك أنه يكون للاثني عشر تلك الحقوق. وعلى ذلك يكون قد ذكر ما فعله مدحاً لنفسه. أو لعله شعر من إقامة الولد الصغير في وسطهم مثلاً للتواضع بشيء من التوبيخ له على منعه الإنسان الذي كان يخرج الشياطين باسم المسيح فسأل المسيح ليعلم أأخطأ أم أصاب بذلك.

ذهاب المسيح الأخير من الجليل ع ٥١ إلى ٥٦ (سنة ٢٩ ب. م)


٥١ «وَحِينَ تَمَّتِ ٱلأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
مرقس ١٦: ١٩ وأعمال ١: ٣ و١١
في هذا العدد نهاية خدمة المسيح في الجليل وذكر حوادث آخر حياته على الأرض. وكان تركه الجليل وقتئذ بداءة صعوده إلى أورشليم لكي يموت ولكنه لم يذهب إلى هنالك على خط مستقيم بل دار في بيرية (Perea) شرقي الأردن وتقضت عليه عدة أشهر هنالك (ص ١٠: ١ و١٣: ٢٢ و٣١ و١٧: ١١ و١٨: ٣١).
امتازت بشارة لوقا عن بشارتي متّى ومرقس بأنها اشتملت على تفصيل أعمال المسيح في مدة جولاته في بيرية (Perea) وأما متّى ومرقس فاقتصروا على مجرد ذكر ذهابه إليها (متّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١ - ٣١ ويوحنا ٧: ٢ و١٤).
وهذا العدد مقدمة عشرة أصحاحات من هذه البشارة وهي من ع ٥١ من هذا الأصحاح إلى ع ٢٨ من ص ١٩. وتشتمل على حوادث صعود المسيح الأخير إلى أورشليم.
حِينَ تَمَّتِ ٱلأَيَّامُ أي قربت من النهاية لأنها أيام السنة الأخيرة من حياة المسيح على الأرض.
لارْتِفَاعِهِ أشار بهذه الكلمة عن موته وقيامته وصعوده. فتكون بقية بشارة لوقا تاريخ سفر المسيح ليموت ويمجد.
ثَبَّتَ وَجْهَهُ الخ أي عزم عزماً ثابتاً أن يذهب إلى أورشليم مع أن فيها أشد أعدائه ولم يكن الذهاب إليها إلا ذهاباً إلى الآلام والموت. ولعله ظهرت على وجهه إمارات ذلك العزم.
٥٢ «وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَـهُ».
وَأَرْسَلَ... رُسُلاً كان أول حادث من حوادث سفره من الجليل مروره بالسامرة وغاية إرساله الرسل إعداد الحاجات الجسدية من مأوى وطعام للمسيح وأصحابه. ولعله قصد أيضاً أن ينبئ الرسل بمجيئه إليهم مسيحاً لأنه لم يخفِ دعواه هنالك كما فعل في اليهودية (يوحنا ٤: ٢٦).
لِلسَّامِرِيِّينَ سبق الكلام على السامريين في الشرح متّى ١٠: ٥ و٦ وذُكرت أسباب الخلاف بينهم وبين اليهود في سفر الملوك الثاني (ص ١٧) وعزرا (ص ٤).
٥٣ «فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ».
يوحنا ٤: ٤ و٩
فَلَمْ يَقْبَلُوهُ أي لم يسمحوا له بمأوى وطعام. والأرجح أنها أبانوا عدم قبولهم إياه بواسطة الرسل.
لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً الخ كانت عداوة السامريين لليهود دائمة لكنها كانت تشتد كلما مرّ اليهود في السامرة وهم صاعدون إلى أورشليم ليحضروا الأعياد هنالك ويكرموا الهيكل والعبادة فيه مع أن السامريين اعتبروا جبل جرزيم فوق مدينة السامرة موضع العبادة الحقيقية. فإذاً لم يرفض السامريون المسيح كراهة لشخصه أو تعليمه بل لكونه أحد الأمة التي كانوا يكرهونها. وقد صعد للعيد في أورشليم لأنه كان حينئذ وقت عيد المظال (يوحنا ٧: ١٤).
وزار المسيح السامرة قبل ذلك بسنتين ورحب السامريون به لكنه لم يكن يومئذ متوجهاً إلى أورشليم كما هنا ولم يكن معه حيئنذ سوى قليلين من تلاميذه (يوحنا ٤: ٤٠) لكن هنا كان معه جماعة كثيرة متوجهة إلى الهيكل.
ولعلّ السامريين سمعوا دعوى يسوع أنه المسيح ولو حكم بأن جرزيم موضع العبادة الحقيقي لرحبوا به لكن لما رأوه حكم (بتوجهه إلى أورشليم للعبادة) عليهم ولليهود رفضوا أنه المسيح وأبوا قبوله ضيفاً.
وكان من غريب التنازل أن يرضى ملك السماء أن يكون ضيفاً في أفخر قصور الملوك فكم يكون تنازله واتضاعه برضاه أن يكون ضيفاً في بيت قرية سامرية حقيرة رفض أهلها أن يبيت ضيفاً عندهم ليلة واحدة.
٥٤ «فَلَمَّا رَأَى ذٰلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالاَ: يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟».
٢ملوك ١: ١٠ و١٢
رَأَى ذٰلِكَ تِلْمِيذَاهُ أي علما ممن أرسلهم المسيح أو مما شاهداه من إمارات العداوة التي أظهرها أهل القرية حين قربا منها.
أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ الخ رأيا أن معلمهما أُهين بتلك المعاملة فحملتهما محبتهما له إرادة قصاص أهل تلك القرية فاعتبروا أن عقاب إيليا لرسل الملك أخزيا كان عدلاً (٢ملوك ١: ١٢ - ١٤) فأرادا أن يقتديا به في الانتقام.
٥٥ «فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا!».
فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا لم يسر المسيح بغيظ التلميذين وإن كانت علته جيدة وهي محبتهما له فإنه وإن لم يستحسن عبادة السامريين ولا رفضهم إياه لم يرض إضرار أجسادهم ولا الانتقام منهم. وقد أوضح بذلك الانتهار تحريم الاضطهاد الديني أبداً.
لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا ظن التلميذان ما أتياه هو من محبتهما للمسيح وغيرتهما لمجده لكن المسيح حكم أنه من باب القسوة والانتقام طلبهما خراب قرية لقلة أدب أهلها في شأن الضيافة. فنسيا أنه يجب على التلميذ أن يكون كمعلمه ويظهر ما أظهره من اللطف والحلم والعفو والمحبة ونسيا قوله «لا تقاوموا الشر الخ» (متّى ٥: ٣٩ - ٤٤).
ونتعلّم من قول المسيح هنا أن الميل إلى القسوة والانتقام مضاد لروح الدين المسيحي وأنه يمكن أن يشغل الإنسان وقتاً طويلاً في مدرسة المسيح ولا يتعلّم أن يعرف نفسه. فيظن رذائله فضائل فإذا غلط تلميذان من تلاميذ المسيح الاثني عشر هكذا فكم يكون سائر الناس عرضة لمثل ذلك الغلط. وأنه يجب على من يخدمون المسيح وإنجيله بين أعداء الحق أن يمتحنوا أنفسهم لئلا يدخل قلوبهم من جهة خصومهم ما لا يرضي المسيح ويحسبوا أن اجتهادهم في الظفر بمقاومتهم غيرة للرب كما فعل ياهو (٢ملوك ١٠: ١٦).
ومما يستحق الاعتبار هنا أن أحد ذينك التلميذين وهو يوحنا رجع إلى السامرة بعد مدة وأظهر روحاً خلاف ذلك الروح إذ قصد أن يمنح السامريين البركات الروحية (أعمال ٨: ٢٥).
٥٦ «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ ٱلنَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ. فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى».
يوحنا ٣: ١٧ و١٢: ٤٧
لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ... بَلْ لِيُخَلِّصَ هذا وفق ما قيل في بشارة متّى (متّى ١٨: ١١) وبشارة يوحنا (يوحنا ٣: ٧ و٥: ٤٥). فلو أجاب المسيح ابني زبدي على طلبهما لناقض ما قاله في غاية مجيئه إلى العالم. فلا يجوز لتلاميذ المسيح أن يرغبوا في هلاك الذين أتى المسيح ليخلّصهم. فوظيفة المسيح غير وظيفة إيليا فإن الله أرسل إيليا ليجري قضاءه على عشرة أسباط إسرائيل عقاباً لهم على تركهم عبادته تعالى والتمسك بعبادة بعل. ولأن المسيح أتى للخلاص لا للانتقام وجب أن يظهر كل تلاميذه ما أظهره هو من الصبر والاحتمال والوداعة والمغفرة والشفقة والرغبة في خلاص الناس.
فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى هذا وفق أمره لتلاميذه في مثل هذا الحال (متّى ١٠: ١٤ و٢٣). ولم يذكر لوقا أللسامريين كانت تلك القرية الأخرى أم لليهود. والأرجح أنها يهودية لأن علّة رفضهم من إحدى قرى السامرة تكون علّة رفضهم من سائر قراها. ولا نستطيع أن نتحقق إلى أين سافر المسيح وقتئذ فظن البعض أنه عدل عن المرور بالسامرة وعبر الأردن إلى بيرية. وذهب أكثر المفسرين أنه ذهب رأساً إلى أورشليم وحضر عيد المظال (يوحنا ٧: ١٠) وكان ذلك العيد في تشرين الأول وأنه رجع حالاً من هنالك إلى الجليل لا للتعليم بل ليسير إلى بيرية. وذهب آخرون أنه بقي في أورشليم ثلاثة أشهر وذلك من عيد المظال إلى عيد التجديد (يوحنا ١٠: ٢٢ و٤٠) وأنه ذهب بعد ذلك إلى بيرية أي عبر الأردن.

طلب ثلاثة أن يتبعوا المسيح وجوابه لكل منهم ع ٥٧ إلى ٦٢


٥٧، ٥٨ «وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ قَالَ لَـهُ وَاحِدٌ: يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي. ٥٨ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَـهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ».
متّى ٨: ١٩
لم يتحقق أفي أزمنتها ذُكرت الحوادث من هذا العدد إلى العدد ٦٢ أم في غير أزمنتها والأرجح أنها في غيرها لأن لوقا لم يلتفت إلى أزمنة الحوادث كما التفت إليها متّى.
قَالَ لَـهُ وَاحِدٌ الخ هو كاتب (انظر الشرح متّى ٨: ١٨ - ٢٠).
قَالَ لَـهُ يَسُوعُ الخ أمره يسوع في هذا الجواب أن ينظر في الأسباب التي حملته على طلبه اتباعه فأبان له أنه إذا كانت غايته دنيوية لم يحصل عليها بذلك الاتباع.
٥٩ - ٦٠ «٥٩ وَقَالَ لآخَرَ: ٱتْبَعْنِي. فَقَالَ: يَا سَيِّدُ، ٱئْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي. ٦٠ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: دَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَٱذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰه».
متّى ٨: ٢١
لآخَرَ هو أحد التلاميذ أي المعترفين بأن يسوع نبي (انظر الشرح متّى ٨: ٢١ و٢٢). ويظهر من قول متّى أنه سأل المسيح من تلقاء نفسه. ولوقا هنا يقول أن المسيح دعاه ولكن هذا لا يمنع أنه سأل المسيح فأجابه بقوله اتبعني وأمره في هذا الجواب أن يختار أفضل الأمرين وهما الدعوة الطبيعية والدعوة الإلهية.
وَنَادِ لم يذكر هذا الأمر غير لوقا.
٦١، ٦٢ «٦١ وَقَالَ آخَرُ أَيْضاً: أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلٰكِنِ ٱئْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِي. ٦٢ فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
١ملوك ١٩: ٢٠
وَقَالَ آخَرُ لم يذكر نبأ هذا الآخر أحد من البشيرين غير لوقا.
ٱئْذَنْ لِي أَوَّلاً الخ هذا الرجل قدّم نفسه تلميذاً ليسوع كالأول لكنه توقف كالثاني بين ما يجب عليه للمسيح وما يجب عليه لأهل بيته. والظاهر ان ما طلبه من المسيح وفق الطبع البشري وغير مخالف لشيء من الواجبات الدينية ولكن نستنتج من جواب المسيح إما أنه رأى ذلك ولم يعزم العزم على اتباعه فامتحنه كما امتحن الشاب الغني بأمره إياه بأن يبيع كل ما له ويوزعه على الفقراء (متّى ١٩: ٢١) وإما أنه علم أن أصحابه يبذلون ما في وسعهم في تغيير مقاصده ويدركون مرادهم فمنعه من الذهاب إلى بيته. وضرب له مثل الفلاح الذي لم ينجح لجريه على غير سنن الواجبات فإنه من واجبات الفلاح أن ينظر وهو يحرث إلى تلمه ليكون مستقيماً عميقاً كما يلزم ولكن ذلك الفلاح التفت إلى ما يشغل باله من الوراء فلم يحسن عمله لأن يديه كانتا في العمل وأفكاره في موضع آخر ومثل هذا لا يحسن أن يحرث حقلاً.
يَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ هذا كناية عن عدم الانتباه للعمل وتفضيل شيء آخر عليه.
وغاية المسيح من هذا المثل حمل الإنسان الذي طلب أن يتبعه على أن يمتحن نفسه وينظر في قصده من ذلك وأن يحثه أن يعزم كل العزم على ترك كل شيء لأجل ملكوت الله. فكأنه قال له لا يقدر أحد أن يخدم سيدين (متّى ٦: ٢٤).
لَيْس...َ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي لا يصلح أن يكون شريكاً للمسيح ورسله والشهداء في بناء الملكوت الجديد الذي ابتدأ يسوع يؤسسه. فالذي يهتم بهموم هذه الدنيا أو يخاف من الاضطهاد أو خسران المال لا يستطيع أن يتبع المسيح كما يجب لأن المسيح لا يقبل من قلبه منقسم بين الله والعالم تلميذاً. فالنظر إلى الوراء في الروحيات ليس سوى استعداد للرجوع أي العود إلى العالميات. ومثل من لا يصلح للملكوت السماوي امرأة لوط (تكوين ١٩: ٢٦). ومثل من يصلح لذلك إبراهيم الذي ترك وطنه وبيت أبيه طوعاً لأمر الله (تكوين ١٢: ٤ قابل بذلك ٢بطرس ٢: ٢١ و٢٢).
وفي هذه الحوادث الثلاث من ع ٥٧ - ٦٢ ثلاثة موانع من اتباع المسيح. الأول حب الربح الدنيوي. والثاني الحزن. والثالث المحبة العائلية. لكن الثاني والثالث لم يكونا مانعين إلا لأنهما وُضعا في المقام الأول ووضع اتباع المسيح في المقام الثاني. وتبين لنا أن الشخص الأول من الطلبة الثالثة كان عجولاً يفعل حالاً غير ناظر إلى العاقبة وأن الثاني كان متباطئاً أي متوانياً عن الأخذ في ما عزم عليه وأن الثالث كان متردداً أي لم يعتمد أحد الأمرين فكان مضمون ما قاله المسيح للأول أن أحسب ما يكلفك اتباعي ثم اعتمد. ومضمون قوله للثاني أن لا عذر للمتواني. ومضمون قوله للثالث أن اختر ما شئت في الحال واعزم عليه كل العزم.


الأصحاح العاشر


إرسال يسوع السبعين للتبشير ع ١ إلى ١٦


١ «وَبَعْدَ ذٰلِكَ عَيَّنَ ٱلرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضاً، وَأَرْسَلَـهُمُ ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعاً أَنْ يَأْتِيَ».
متّى ١٠: ١ ومرقس ٦: ٧
بَعْدَ ذٰلِكَ أي بعد الحوادث المذكورة في الأصحاح السابق.
لم يذكر أحد من البشيرين إرسال السبعين إلا لوقا ولا نعلم علّة أن متّى ومرقس لم يذكراه إلا أن يكون ذلك الإرسال كان في أثناء خدمة المسيح الأخيرة في بيرية فإن إنباؤهما بحوادث تلك المدة كانت على غاية الاختصار.
سَبْعِينَ هذا وفق عدد الشيوخ الذين اختارهم موسى لسياسة بني إسرائيل (خروج ٢٤: ١ وعدد ١١: ١٦ و١٧) وكثر المسيح عدد المرسلين لأن بلاد بيرية التي أرسلهم إليها واسعة ولأن الوقت الباقي للتبشير كان قصيراً.
آخَرِينَ أي غير الاثني عشر الذين ذُكروا في العدد الأول من الأصحاح التاسع. وكانت وظيفة السبعين تختلف عن وظيفة الاثني عشر في أن وظيفة السبعين كانت وقتيه ووظيفة الاثني عشر كانت دائمة. وأن الاثني عشر أرسلوا خاصة إلى خراف إسرائيل الضالة لجعل الاثني عشر سبطاً ملكوتاً جديداً (متّى ١٠: ٥ و٦). لكن إرسال السبعين كان عاماً لليهود والوثنيين الساكنين معاً. وفي ذلك إشارة إلى أن بركات الإنجيل عامة معدة لكل من يقبلها من أمم الأرض. وبما أن إنجيل لوقا كُتب لفائدة الأمم وافق مقصده ذكر إرسال أولئك السبعين. ومن تقاليد اليهود أن أصل عدد أمم الأرض سبعون بناء على ما جاء في سفر التكوين (تكوين ص ١٠) ولا نعلم هل التفت المسيح إلى ذلك أو لا والظن الراجح أنه لم يلتفت إليه.
أَمَامَ وَجْهِهِ لما أراد المسيح أن يجول في الجليل أرسل الاثني عشر أمام وجهه (متّى ١٠: ١) ولما قصد أن يجول في بيرية أرسل التلاميذ قدامه ليمهدوا الطريق لقبوله.
وسميت البلاد شرقي الأردن بيرية «περεα» من «περα» وهي كلمة يونانية معناها عبر أي عبر الأردن وعبر بحر طبرية وتشتمل تلك الأرض على بلاد باشان وجلعاد وهي التي كانت لسبطين ونصف سبط من بني إسرائيل وهم رأوبين وجاد ونصف سبط منسى. وكانت تلك البلاد في عصر المسيح كثيرة السكان وكان بعضهم يهوداً وبعضهم من الأمم. وكتب لوقا عشرة أصحاحات في جولان المسيح في تلك البلاد ولكن متّى لم يكتب في ذلك سوى الأصحاح التاسع عشر وستة عشر عدداً من الأصحاح العشرين ولم يكتب مرقس في ذلك سوى جزء من الأصحاح العاشر وهو من ع ١ - ٣١.
إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ لم ينههم المسيح كما نهى الاثني عشر بقوله «إلى طريق أمم لا تمضوا» لأن اليهود والأمم كانوا ساكنين معاً في بيرية.
٢ «فَقَالَ لَـهُمْ: إِنَّ ٱلْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ».
متّى ٩: ٣٧ و٣٨ ويوحنا ٤: ٣٥ و٢تسالونيكي ٣: ١
أكثر الأوامر التي أمر بها المسيح السبعين كالأوامر التي أمر بها الاثني عشر وقد مرّ الكلام على ذلك في الشرح (متّى ١٠: ٧ - ١٥).
ٱلْحَصَادَ كَثِيرٌ ذكر المسيح مثل هذا قبل أن أرسل الاثني عشر وسبق تفسيره في الشرح (متّى ٩: ٣٧ و٣٨).
فَٱطْلُبُوا الخ في ما قاله المسيح للرسل السبعين ثمانية أمور ذات شأن الأول وجوب الصلاة وقد أمر المسيح التلاميذ بالصلاة قبل كل الأوامر إشارة إلى أنها خير الوسائط لانتشار إنجيله.
٣ «اِذْهَبُوا. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ».
متّى ١٠: ١٦
بيّن المسيح هنا للسبعين الأخطار المتعلقة بالمناداة بالإنجيل وكذا كان في كل عصور الكنيسة المسيحية (١يوحنا ٣: ١٣ و١بطرس ٣: ٨). ولنا من هذا الأمر الثاني الذي قصد المسيح أن ينتبه التلاميذ له هو أن يتوقعوا الاضطهاد والضيقات في تبشيرهم.
٤ «لاَ تَحْمِلُوا كِيساً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ أَحْذِيَةً، وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي ٱلطَّرِيقِ».
متّى ١٠: ٩ و١٠ ومرقس ٦: ٨ وص ٩: ٣، ٢ملوك ٤: ٢٩
(انظر الشرح متّى ١٠: ٩ و١٠) في هذا العدد الأمر الثالث وهو وجوب أن يعتزلوا كل ما يعيقهم عن التبشير من الرفاهية والأُلفة.
وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي ٱلطَّرِيقِ لم يجئ هذا النهي في سوى بشارة لوقا. وكانت التحيات اليهودية كثيرة ظاهرة قليلة المعنى تشغل وقتاً طويلاً فمنع يسوع أولئك عن مثل ذلك تنبيهاً على أن وقتهم قصير وعملهم مهم يحتاج إلى السرعة وانتهاز كل فرصة لنشر بشارتهم وأن لا وقت لهم يشغلونه بالاحتفالات العادية وهذا كتوصية أليشع النبي خادمه جيحزي (٢ملوك ٤: ٢٩). وليس في ذلك من منافاة لقول الرسول «كونوا لطفاء» (١بطرس ٣: ٨).
٥ - ٨ «٥ وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ. ٦ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ٱبْنُ ٱلسَّلاَمِ يَحِلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. ٧ وَأَقِيمُوا فِي ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لأَنَّ ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. ٨ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ».
متّى ١٠: ١٢، متّى ١٠: ١٠ و١١ و١كورنثوس ٩: ٤ الخ و١٠: ٢٧ و١تيموثاوس ٥: ١٨ ص ٩: ٢، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧ و١٠: ٧ وع ١١
انظر الشرح (متّى ١٠: ١١ - ١٣). هنا الأمر الرابع وهو وجوب القناعة.
سَلاَمٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ (ع ٥) هذا تحية عادية ١(صموئيل ٢٥: ٦ ومزمور ١٢٢: ٧ و٨).
ٱبْنُ ٱلسَّلاَمِ اي المستحق أن يبشر بالسلام.
ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ (ع ٧) هذه العبارة هي القول الوحيد الذي اقتبس في الرسائل من أقوال المسيح في البشائر.
لاَ تَنْتَقِلُوا (ع ٧) بغية الطعام الطيب والإكرام الزائد فإن الولائم الكثيرة تشغل الأوقات الثمينة.
فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ (ع ٨) أي اكتفوا به.
٩ «وَٱشْفُوا ٱلْمَرْضَى ٱلَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَـهُمْ: قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ»
ص ٩: ٢، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧ و١٠: ٧ وع ١١
ٱشْفُوا ٱلْمَرْضَى هنا الأمر الخامس وهو وجوب إقامة براهين مرسليتهم بالعجائب النافعة.
وَقُولُوا لَـهُمْ الخ هنا الأمر السادس وهو موضوع تبشيرهم وذلك أنه قد تمت المواعيد بمجيء المسيح.
١٠ - ١٢ «١٠ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَٱخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: ١١ حَتَّى ٱلْغُبَارُ ٱلَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا هٰذَا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. ١٢ وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَة».
متّى ١٠: ١٤ وص ٩: ٥ وأعمال ١٣: ٥١ و١٨: ٦، متّى ١٠: ١٥ ومرقس ٦: ١١
مرّ الكلام على ذلك في شرح متّى ١٠: ١٤ و١٥ وفيه الأمر السابع وهو الإنباء بإثم الذين يرفضون شهادتهم.
وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا الخ اقترب ملكوت الله من الناس بواسطة المرسلين قبلوا شهادتهم أم رفضوها فالدينونة يوم الدين تبنى على رفضهم تلك البشارة بعد تقديمها لهم فإعلان الله إن قُبل كان بشارة وإلا فهو إنذار وعلّة دينونة.
١٣ - ١٥ «١٣ وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ ٱلْقُوَّاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيماً جَالِسَتَيْنِ فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَادِ. ١٤ وَلٰكِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ يَكُونُ لَـهُمَا فِي ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لَكُمَا. ١٥ وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومُ ٱلْمُرْتَفِعَةُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، سَتُهْبَطِينَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ».
متّى ١١: ٢١، حزقيال ٣: ٦، متّى ١١: ٢٣، تكوين ١١: ٤ وتثنية ١: ٢٨ وإشعياء ١٤: ١٣ وإرميا ٥١: ٥٣، حزقيال ٢٦: ٢٠ و٣٢: ١٨
انظر الشرح متّى ١١: ٢١ - ٢٣). ذكر المسيح نبأ هاتين المدينتين صور وصيدا عبرة للأشرار. وكانت كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم مشابهات لهما في الشر لأنها قاومت الإنجيل. نعم إن شر هذه الثلاث أعظم من شر صور وصيدا فتكون عاقبتها أردأ. والأرجح أن المسيح قال هذا الكلام مرتين الأولى في الجليل وهو يبشر فيها ويصنع المعجزات. والثانية عند تركه للجليل أخيراً.
١٦ «اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي، وَٱلَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي، وَٱلَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي».
متّى ١٠: ٤٠ ومرقس ٩: ٣٩ ويوحنا ١٣: ٢٠، ١تسالونيكي ٤: ٨، يوحنا ٥: ٢٣
راجع الشرح متّى ١٠: ١٤. في هذا العدد الأمر الثامن وهو الأخير في خطاب المسيح للسبعين وهو الشرف الذي يكون لهم من الله باعتبار أنهم سفراء المسيح لأنهم يكونون شركاء المسيح في الكرامة مقابلة لإهانة الناس لهم كما ذُكر في ع ٣.

رجوع السبعين ع ١٧ إلى ٢١


١٧ «فَرَجَعَ ٱلسَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، حَتَّى ٱلشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِٱسْمِكَ».
ع ١
فَرَجَعَ ٱلسَّبْعُونَ الأرجح أنه لم يكن سوى زمن قصير بين ذهاب السبعين للتبشير ورجوعهم فإن كثرتهم سهلت لهم أن يزوروا أماكن كثيرة في وقت واحد لأنهم ذهبوا اثنين اثنين فأمكنهم أن يبشروا في ٣٥ مكاناً في حين واحد. ولعلّ المسيح توقع رجوعهم وهو في بيرية في المكان الذي أرسلهم منه. ولا يلزم من النبإ أن السبعين رجعوا معاً بل يحتمل أنهم رجعوا على التوالي حسب المسافة التي انتهوا إليها.
بِفَرَحٍ هذا الفرح هو الكلمة ذات الشأن في هذه الآية فإن كل فرقة منهم عادت مسرورة تعجب من نجاح مرسليتها.
حَتَّى ٱلشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا كان ذلك الخضوع أنهم كانوا يخرجون من الناس بأمر التلاميذ. وحسب السبعون ذلك من أعظم المعجزات. ولم يذكروا هل قبل الناس تبشيرهم أولاً ويحتمل أنهم ذكروا شيئاً من ذلك لم ير لوقا ذكره ضرورياً لمقصده. وكان نجاحهم دليلاً على قوة إيمانهم لأن بعض الاثني عشر عجز عن مثل ذلك لضعف إيمانه (متّى ١٧: ٢١). وكان المسيح قد أوصاهم عند إرساله إياهم أن يشفوا المرضى (ع ٩) وهذا يتضمن الوعد بقوة على ذلك ولما استعملوا تلك القوة واختبروا نتائجها قوي إيمانهم حتى أنهم تجرأوا على عمل ما هو أعظم من شفاء المرضى وقدروا لأن المسيح وهب لهم سلطاناً على قدر الإيمان. ولا موجب للظن أنهم فرحوا بمجد أنفسهم لحصولهم على ذلك السلطان وأن المسيح اعتبرهم نواباً عنه. فالأولى أن تحكم أنهم فرحوا به لنفعهم الناس بتحريرهم من رق الشيطان الهائل ولتمجيدهم المسيح لأنهم فعلوا المعجزات باسمه فتبين أن سيدهم ابن الله المسيح الحق.
بِٱسْمِكَ اعطوا كل المجد للمسيح باعتبار أنه مصدر كل سلطانهم.
١٨ «فَقَالَ لَـهُمْ: رَأَيْتُ ٱلشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ ٱلْبَرْقِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
إشعياء ١٤: ٩ إلى ١٥ ويوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١ ورؤيا ٩: ١ و١٢: ٧ إلى ١٢
رَأَيْتُ رأى المسيح لكونه هو الله تأثير تبشير السبعين ونتيجة أعمالهم في عالم الأرواح التي لم يروها هم. وهو رأى تلك النتيجة قبل أن أتوا وأخبروه بأعمالهم. وهم شاهدوا أعمال متفرقة وهو نظر نتيجة واحدة عظيمة من تلك الأعمال.
ٱلشَّيْطَانَ هو رئيس الشياطين الذين أخرج السبعون بعضهم من الناس.
سَاقِطاً... مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي هابطاً من مقام الكرامة والسلطان إلى هاوية الهوان والهلاك. لأن الشيطان كان بواسطة انتصاره على البشر وقوده إياهم إلى حب العالم والإثم كأنه ارتفع إلى عرش عالٍ من السلطان. وذلك وفق قول الرسول على الشيطان وجنوده «أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس ٦: ١٢). فكأن المسيح قال للسبعين أنتم مصيبون بأنكم فرحتم بإخضاع الشياطين لأن نتائج ذلك الإخضاع أعظم مما ظننتم وموضوع الفرح كذلك لأنكم ظننتم أن أفراد الأبالسة خضعوا وأن أفراد النفوس البشرية عتقت من عبوديتهم والحق أنه قد هُدم جزء من ملكوت الظلمة وابتدأت شوكة رئيس تلك المملكة تنكسر. فانتصاركم دائم لا وقتي وهو بداءة سقوط مملكة الشيطان كلها. فالمسيح أتى لكي ينقض أعمال الشيطان (١يوحنا ٣: ٨) ورأى عمل السبعين جزءاً من ذلك النقض وعربون إتمامها فجمع نتيجة أعمالهم إلى كل نتائج أعماله في هذا العالم واحتماله تجربة إبليس في البرية وتبشيره ومعجزاته وموته وقيامته وإرساله الروح القدس ومقاومته للشيطان بواسطة كنيسته وغاية ذلك كله هدم ملكوت الشيطان وبنيان ملكوته.
و «سقوط الشيطان من السماء» كناية عن هدم كل مملكة الشر (إشعياء ١٤: ١٢ ورؤيا ٩: ١ انظر أيضاً يوحنا ١٢: ٣١ ورؤيا ١٢: ٧ - ٩ و٢٠: ٢ و٣ و٧ - ١٠).
مِثْلَ ٱلْبَرْقِ في السرعة.
١٩ «هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ ٱلْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ».
تكوين ٣: ١٥ ومزمور ٩١: ١٣ ومرقس ١٦: ١٨ وأعمال ٢٨: ٥
أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً وعد المسيح السبعين بدوام السلطان الذي منحهم إياه وتوسيع نطاقه لكي يعزيهم في أتعابهم المستقبلة ومقاساتهم المقاومة والاضطهاد.
لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ لعلّ المسيح قصد أن يفهموا هذا الكلام حقيقة كقوله في بشارة مرقس «يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ» (مرقس ١٦: ١٨) وتم ذلك فعلاً (أعمال ٢٨: ٣). والأرجح أنه أشار بالحيات والعقارب إلى أعدائهم الروحية وقوات الشر الضارة المكروهة. فوعدهم أنه يحميهم منها ومن الأضرار الجسدية التي يستطيعها الشياطين. ومثل هذا قوله تعالى «هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ» (تكوين ٣: ١٥). وقول المرنم «عَلَى ٱلأَسَدِ وَٱلصِّلِّ تَطَأُ» (مزمور ٩١: ١٣) وعلى ذلك يكون دوس الحيات والعقارب كسقوط الشيطان من السماء مثل البرق.
وَكُلَّ قُوَّةِ ٱلْعَدُوِّ العدو هنا الشيطان وهو رئيس كل المقاومين ولذلك ذُكر مفرداً وهو تفسير للحيات والعقارب فهي مجاز وهو حقيقة. ومن فعل قوة العدو الإضرار الجسدي والنوازل الطبيعية كالزلازل والأنواء وما شاكلها وتهييج الأشرار وتجارب إبليس الهائلة.
لاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ تم هذا الوعد مراراً بأن أنقذ المسيح عبيده من أيدي أعدائهم ووقاهم الأضرار الطبيعية. فإن سمح ربنا بنزول شيء من المصائب الجسدية لا يسمح بشيء من الأذى الروحي فما يكون ضرراً لأجساد تلاميذه يكون ربحاً لنفوسهم.
٢٠ «وَلٰكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهٰذَا أَنَّ ٱلأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
خروج ٣٢: ٣٢ ومزمور ٦٩: ٢٨ وإشعياء ٤: ٣ ودانيال ١٢: ١ ورومية ٨: ١٦ وفيلبي ٤: ٣ وعبرانيين ١٢: ٢٣ ورؤيا ١٣: ٨ و٢٠: ١٢ و٢١: ٢٧
لاَ تَفْرَحُوا بِهٰذَا أَنَّ ٱلأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لا تتخذوا قوتكم على صنع أعظم المعجزات معظم فرحكم أو علته الوحيدة لأن كثيرين من فعلة الإثم صنعوا مثل تلك المعجزات (متّى ٧: ٢٢). وكان ليهوذا الاسخريوطي مثل تلك القوة. ولا بد من أن يكون من حصل على مثل تلك القوة عرضة للافتخار والكبرياء.
بَلِ ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ ذكر لهم يسوع علّة فرح حقيقي لائق بهم لا خطر لصاحبه من أن يتعرض للكبرياء.
أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هذا مجاز وهو أن أسماء عبيد الله سُطرت في سفر ومعنى ذلك أنه تعالى يعترف بأنهم أولاده وورثته لأنهم من أهل المدينة السماوية وكثيراً ما جاء مثل هذا المجاز في الكتاب المقدس ومنه ما جاء في سفر الخروج ٣٢: ٣٢ و٣٣ ودانيال ٢١: ١ وملاخي ٣: ١٦ وفيلبي ٤: ٣ وعبرانيين ١٢: ٢٣ ورؤيا ٣: ٥ و١٣: ٨ و٢٠: ١٢ و٢١: ٢٧. فتكون علّة فرح التلاميذ أنهم نالوا الرحمة والمغفرة بواسطة المسيح وأن خلاصهم الأبدي لا ريب فيه. ونتيجة ذاك أن هبة النعمة أفضل من هبة القوة وأن المواهب السماوية أفضل من المواهب الأرضية مهما عظمت. وأي علّة فرح لمن ينقذ أجساد الناس من سلطة الشيطان الوقتية وتبقى نفسه في قيود الشيطان ويكون شريكاً له في العذاب الأبدي.
وعلّة الفرح المشار إليه هنا ليست القداسة الشخصية ولا حسن المعرفة ولا الأعمال الصالحة بل وعد المسيح بالحياة الأبدية لكل من يؤمن به وشهادة الإنسان لنفسه بالإيمان.

فرح يسوع ٢١ إلى ٢٤


٢١ «وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِٱلرُّوحِ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ، رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ».
متّى ١١: ٢٥
تَهَلَّلَ يَسُوعُ أي فرح فرحاً عظيماً أظهر بالكلام ولا ريب في أنه ظهر من الإمارات على وجهه وهو عربون الفرح الذي وعد الله المسيح به في قوله «مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ» (إشعياء ٥٣: ١١). وليس في الإنجيل غير هذا الموضع ذكر فيه أن المسيح تهلل.
أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ ذُكر مثل هذه الآية في بشارة متّى ١١: ٢٥ و٢٦. وكانت الأحوال هناك مختلفة عن الأحوال هنا ولا عجب من أن المسيح ذكره مرتين.
لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ... وَأَعْلَنْتَهَا ذكر المسيح هنا عملين من أعمال الآب وهما الإخفاء والإعلان واتخذ كلاً منهما موضوعاً للشكر. فالأول إجراء العدل في حجب نور الحق عن الذين أغمضوا عيونهم ورفضوا الحق وأبغضوه واحتقروه. والثاني إجراء الرحمة في إيضاح الحق لبسطاء القلوب الذين يحبونه وقد فتحوا قلوبهم لقبول التعليم الإلهي. والإشارة بقوله «هذه» في هذه الجملة إلى ما آمن به السبعون وبشروا به مع إتيان المسيح والخلاص به. والمراد بالحكماء والفهماء هنا أرباب الحكمة والفهم حقاً في الدنيويات وأرباب ذلك على وهمهم في الروحيات وهم ممن اشتهروا بالحكمة والفهم عند أكثر العالم ولكنهم ليسوا كذلك في عيني الله. وأمثال هؤلاء الفريسيون. وقول المسيح هنا وفق قول الرسول (١كورنثوس ١: ٢٧ - ٣١).
لِلأَطْفَالِ أي للسبعين وأمثالهم الذين حسبهم العالميون أطفالاً في الحكمة والفهم وهم ليسوا أقوياء في أنفسهم بل متواضعين قابلين للتعليم مستعدين للطاعة وقد اختارهم الله آلات لأعظم أعماله. وشهد المسيح لتلاميذه لما أظهروه من الإيمان والغيرة والإدراك الروحي.
نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ أظهر المسيح مسرته بمقاصد الله وأعماله واعتبر أنها عادلة مقدسة صالحة وإن كانت مخالفة للحكمة البشرية باختيار البسطاء لنشر تعاليم دين جديد.
٢٢ «وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ ٱلابْنُ إِلاَّ ٱلآبُ، وَلاَ مَنْ هُوَ ٱلآبُ إِلاَّ ٱلابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَـهُ».
متّى ٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ و٥: ٢٧ و١٧: ٢، يوحنا ١: ١٨ و٦: ٤٤ و٤٦
جاء مثل هذا الكلام في بشارة متّى ١١: ٢٧ فراجع الشرح هناك.
كُلُّ شَيْءٍ أي كل ما في السماء وعلى الأرض من ضروريات عمل الفداء.
وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الخ صرّح المسيح هنا بأمرين:
(١) أن الله وحده يعلم سر تجسد المسيح تمام العلم وأن لا أحد يستطيع أن يدرك حقيقة المسيح أي أنه ابن الله وابن الإنسان ما لم يعلّمه الآب.
(٢) أن لا أحد يعرف الآب تمام المعرفة إلا بواسطة الابن الذي أتى إلى العالم ليخبر بذلك (يوحنا ١: ١٨).
فالتلاميذ السبعون الذين عرفوا أن يسوع هو المسيح ابن الله هم من «الأطفال» الذين أعلن لهم الآب الحق المخفي عن الفريسيين المتكبرين الحكماء والفهماء في عيون أنفسهم.
٢٣، ٢٤ «٢٣ وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى ٱنْفِرَادٍ وَقَالَ: طُوبَى لِلْعُيُونِ ٱلَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ، ٢٤ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا».
متّى ١٣: ١٦، تكوين ٤٩: ١٨ و٢صموئيل ٢٣: ١ إلى ٥ و١بطرس ١: ١٠
هذا مثل ما ذكر في بشارة متّى ١٣: ١٦ و١٧ والاختلاف في الحال والزمن. وتكرار هذا الوعد حسن.
ٍإِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى ٱنْفِرَاد كلام المسيح هنا موجه للمؤمنين به دون غيرهم ولعلهم كانوا يشتملون على الاثني عشر والسبعين وغيرهم.
طُوبَى لِلْعُيُونِ الخ هذا التطويب ليس لمن نظروا المسيح بالعيون الجسدية لأن الفريسيين غير المؤمنين نظروه كذلك بل لمن نظروه بعيون الإيمان ورأوه المسيح ابن الله مخلص العالم.
مُلُوكاً عبّر عنهم متّى بالأبرار وهم أبرار الملوك كداود وسليمان وحزقيا. وزاد حظ تلاميذ المسيح كثيراً على حظ إبراهيم وموسى وداود وسليمان وإشيعاء ودانيال من معرفة صفات الله ومقاصد رحمته بواسطة ابنه يسوع المسيح. ويتضمن ما مرّ من التطويب على تلك المعرفة السماوية النصح أن يعتبروها ويتمسكوا بها ويجتهدوا أن يتقدّموا فيها.

سؤال الناموسي وجواب المسيح له وقصة السامري الحنون ع ٢٥ إلى ٣٧


٢٥ «وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟».
متّى ١٩: ١٦ و٢٢: ٣٥ ومرقس ١٢: ٢٨ الخ
نَامُوسِيٌّ هو إنسان عالم في شريعة موسى. والناموسيين فرقة من الكتبة. والحادثة هنا لم يذكرها أحد من الإنجيليين سوى لوقا. فيجب أن نميز بينها وبين حادثة الرئيس الغني المذكورة في هذه البشارة (ص ١٨: ١٨ - ٣٠ وبشارة متّى ١٩: ١٦ - ٢٤ وبشارة مرقس ١٠: ١٧ - ٣١). فالسؤال فيهما واحد وأول الجواب كذلك ويجب أن نميز أيضاً بينها وبين الحادثة التي ذُكرت في بشارة متّى ٢٢: ٣٥ - ٤٠ وبشارة مرقس ١٢: ٢٨ - ٣٤.
يُجَرِّبُهُ لا يلزم من هذا أن الناموسي أراد أن يصطاد المسيح بكلمة. فيحتمل أنه قصد امتحان معرفته باعتبار أنه معلم وكشف ما في تعليمه ليرى هل فيه شيء يخالف شريعة موسى. ولعله سأله ذلك وهو يعتقد برّ ذاته (كما يظهر من ع ٢٩) منتظراً أن جواب المسيح يثبت مدحه لنفسه بأنه عمل كل ما يقتضيه ميراث الحياة الأبدية.
مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ هذه المسئلة من أهم المسائل يجب على كل إنسان أن يسألها. ووجّهها الناموسي إلى أفضل من يستطيعون جوابها وهي عين المسئلة التي سألها الرئيس (ص ١٨: ١٨ ومتّى ١٩: ٢٦). والأرجح أن الناموسي توقع أن المسيح يأمره بعمل من الأعمال الخيرية فوق ما فعل منها وبنكران الذات أو الزهد.
٢٦ «فَقَالَ لَـهُ: مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟».
مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عرف المسيح غاية الناموسي من سؤاله أي أن «يجربه» وجاوبه بما لا وجه فيه للاعتراض. وخلاصة جوابه أن مطلوبك أيها الناموسي في الناموس الذي قد درسته وعلمته.
كَيْفَ تَقْرَأُ اصطلح الربانيون على هذا السؤال عندما كانوا يسألون تلاميذهم عما قرأوه من كلمات التوراة بحروفه.
٢٧ «فَأَجَابَ: تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ».
تثنية ٦: ٥، لاويين ١٩: ١٨
أظهر الناموسي بهذا الجواب قوة إدراكه خلاصة الشريعة وبلاغته في الإيجاز بدلاً من أن يذكر الأوامر والمناهي تفصيلاً. واقتبس جوابه من (تثنية ٦: ٥ ولاويين ١٩: ١٨).
والذي عرفه هذا الناموسي من تلقاء نفسه التزم يسوع أن يعلمه ناموسياً آخر في أورشليم (متّى ٢٢: ٣٧ - ٣٩). فظهر أن معرفته الشريعة أعظم من معرفته نفسه.
٢٨ «فَقَالَ لَـهُ: بِٱلصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هٰذَا فَتَحْيَا».
لاويين ١٨: ٥ ونحميا ٩: ٢٩ وحزقيال ٢٠: ١١ و١٣ و٢١ ورومية ١٠: ٥
اِفْعَلْ هٰذَا فَتَحْيَا سبق تفسير هذا في الشرح (متّى ٢٢: ٣٧ - ٤٠). ومعنى المسيح أن فعل الناموس على هذا الأسلوب علامة أن الفاعل وارث الحياة الأبدية لأن الذي يحب الله فوق كل شيء ويحب قريبه كنفسه يكون ممن نشأت في قلبه الحياة الأبدية. ولكن لا أحد من البشر فعل ذلك على الأرض أو سيفعله عليها. وخاطب يسوع الناموسي بكلمات الشريعة تمهيداً لكلمات الإنجيل وتنبيهاً له على أنه لم يحفظ الناموس كما يجب ولم يكن وارث الحياة الأبدية وهذا وفق قول الرسول «كَانَ ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٣: ٢٤). ولم يكن الناموسي مستعداً لكلام الإنجيل لأنه لم يشعر بعجزه عن حفظ كل وصايا الناموس وبأنه مفتقر إلى برّ المسيح بالإيمان. فالذين استعدوا لقبول الإنجيل جاوبهم المسيح بغير ذلك (يوحنا ٦: ٢٨ و٢٩).
٢٩ «وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، سَأَلَ يَسُوعَ: وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟».
ص ١٦: ١٥ و٢كورنثوس ١٠: ١٨
أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ إما أن يبرئ نفسه من عدم حفظ شريعة المحبة على اختلاف مطاليبها بناء على أن قول المسيح «افعل هذا» يستلزم أنّه لم يحفظ تلك الشريعة وإمّا أن يبرّئ نفسه من الجهل اللازم من سؤاله مسئلة بسيطة جوابها واضح.
مَنْ هُوَ قَرِيبِي على فرض أنه أراد تبرئة نفسه من عدم حفظ الجزء الثاني من شريعة المحبة واعتقد أنه يحب الله كما يجب حتى لم يتصور أن المسيح يتهمه بعدم حفظه الجزء الأول من تلك الشريعة يكون كأنه قال للمسيح لا بد من أن تكون علّة ظنك عدم حفظي الجزء الثاني أنك فهمت أنت من «قريبي» معنى غير المعنى الذي فهمته أنا منه. لأني أعتقد أن قريبي هو اليهودي لا السامري ولا الوثني أفلستَ تعتقد هكذا؟ فإن كان قد قصد تبرير نفسه بهذا فقد دانها بتضييق دائرة المحبة فكان يجب أن يتركها على ما هي عليه دون تحديده. وقد أخطأ كما أخطأ بطرس بسؤاله الرب «كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَـهُ» (متّى ١٨: ٢١). وعلى فرض أنه أراد تبرئة نفسه من الجهالة لإتيانه ذلك السؤال البسيط يكون كأنه قال لم يهُن أن نعرف من هو القريب لأن آراء العلماء في ذلك تختلف كثيراً.
٣٠ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ».
أَجَابَ يَسُوعُ كان جوابه المثل المعروف بمثل السامري الصالح وهو ليس جواب سؤال الناموسي «من قريبي» على خط مستقيم لكن جواب سائل يقول من يحفظ الجزء الثاني من شريعة المحبة حفظاً تاماً أي من يحب قريبه كما يجب. فكأن المسيح قال للناموسي لا تنظر إلى صنوف الناس لتتحقق من هو قريبك بل انظر إلى أعمال الذين يدعون أنهم يحبون القريب وعواطفهم لتتحقق من هو قريبك الذي يحبه حباً صحيحاً.
إِنْسَانٌ نعلم من القرينة أن هذا الإنسان يهودي وإلا لم يصدق أنه نازل من أورشليم.
مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا بين أورشليم وأريحا مسافة نحو سبع ساعات أي عشرين ميلاً وكانت أورشليم أعلى من أريحا بنحو ٣٤٠٠ قدم لأن أورشليم تعلو سطح البحر بنحو ٢٥٠٠ قدم واريحا أوطأ منه بنحو ٩٠٠ قدم ولهذا قال «كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا». وضرب المسيح تلك القصة مثلاً لبيان تعليمه لا يمنع من أنها كانت من الواقعات.
فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ معظم الأرض بين أورشليم وأريحا صخري جديب لا يحسن للحراثة فلذلك خلا من السكان وفيه أودية عميقة تكثر الكهوف في صخورها يكمن بها اللصوص للمسافرين. وكانت أريحا يومئذ مدينة كبيرة غنية فكان المسافرون إليها والطريق بين المدينتين اشتهرت منذ العصور الخالية بكثرة اللصوص حتى سُميت «بالطريق الحمراء» أو الدموية.
فَعَرَّوْهُ أظهر اللصوص قساوتهم بعد اكتفائهم بأخذ نقوده وبضاعته بأن نزعوا عنه ثيابه وأخذوها.
وَجَرَّحُوهُ ربما فعلوا ذلك في أول هجومهم عليه ليمنعوه من المقاومة أو لأنه أخذ يدفع عن نفسه وعن ماله أو ليمنعوه عن أن يتتبع آثارهم ويجد من يساعدونه على رد ما سلبوه ولعلهم جرحوه لمجرد قساوة قلوبهم وحبهم أذى الغير.
وَمَضَوْا غير مكترثين بموته أو حياته.
بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ فكان عاجزاً عن أن يسير إلى حيث يجد من يعتني به وفي حال توجب له شفقة كل من يمر به.
٣١ «فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ ٱلطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَـهُ».
خروج ٢٣: ٤ و٥ وتثنية ٢٢: ١ إلى ٤ ومزمور ٣٨: ١١ وإشعياء ٥٨: ٧
فَعَرَضَ أي اتفق أو كان بلا قصد سابق للاعتناء بذلك الجريح.
كَاهِناً أحد أبناء هارون. وكانت أريحا مقام كثيرين من الكهنة واللاويين حين فراغهم من خدمة الهيكل. قيل أن عددهم هنالك بلغ في أيام المسيح نحو ١٢٠٠٠ فلزم طبعاً أن يمرّوا كثيراً بين المدينتين ذهاباً وإياباً.
فَرَآهُ على البعد.
وَجَازَ مُقَابِلَـهُ أي لم يقترب منه ليقف على أمره أو ليساعده أو ليسمع استغاثة الجريح. وعلّة ذلك إما أنه لم يرد أن يُعاق ويكلف نفسه نفقة وتعباً وإما أنه خاف من نجاسة طقسية إن كان هو ميتاً ودنا من جثته وإما أنه خاف من أن يتهمه أحد بقتله إذا رآه قريباً منه.
وهذا الكاهن خالف بما أتاه شريعة المحبة. وكان عليه لكونه خادماً لله ونائبه على الأرض أن يتمثل به تعالى لقوله «إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً» (هوشع ٦: ٦) ولكونه معلماً تلك الشريعة أن يكون قدوة في إظهار المحبة والشفقة لكنه خالف شريعة المحبة التي أمرت بالشفقة على العدو وبرد بهائمه أو إقامتها (خروج ٢٣: ٤ و٥) فهي بالأولى أن تأمر بالشفقة على حياة إنسان ليس بعدو له.
٣٢ «وَكَذٰلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضاً، إِذْ صَارَ عِنْدَ ٱلْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَـهُ».
لاَوِيٌّ أحد أبناء لاوي وهم مساعدو بني هارون في خدمة الهيكل (عدد ٨: ٥ - ٢٢). وهذا الموضع الوحيد في البشائر الذي ذُكر فيه لاوي. واللاويين كانوا موقوفين لخدمة الله كالكهنة ومجبرين على أن يظهروا الشفقة على الناس أكثر ممن سواهم.
جَاءَ وَنَظَرَ رغبة في الوقوف على الواقع. ولا بد من أنه عرف شدة احتياج ذلك الجريح إلى المساعدة لأن حياته كادت تنتهي من كثرة ما سال من دمه فأذنب بعدم عنايته به أكثر من الكاهن لأنه قسى قلبه بمخالفته الشريعة والطبيعة والأول لم يخالف سوى الشريعة.
وَجَازَ مُقَابِلَـهُ كما فعل الكاهن، فلو لم يكن الجريح يهودياً لصرّح بذلك بياناً لتركه من كل من الكاهن واللاوي. وكانا كلاهما من علماء الشريعة ومفسريها ومدعي حفظها. فلا يقام بالناموس بمجرد العلم والادعاء.
٣٣ «وَلٰكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ».
يوحنا ٤: ٩
سَامِرِيّاً كان السامريون وثنيين آمنوا بشريعة موسى وقاموا ببعض رسوم الشريعة (انظر الشرح متّى ١٠: ٥) ولم يُذكر أن هذا السامري أتى من أورشليم. ويحتمل أنه كان آتياً من بيت إيل أو جرزيم فمرّ في بعض الطريق بين أورشليم وأريحا وهو مسافر للتجارة. وذكر المسيح هذا السامري لكي يعلم أن الأجنبي الذي يطيع شريعة المحبة خير من خادم الدين الحق الذي يخالفها لا ليكرم السامريين ولا ليهزأ بالكهنة واللاويين.
جَاءَ إِلَيْهِ كان يمكن السامري ان يعتذر بما لا بد من أن اللاوي والكاهن اعتذرا به لكونه كان مجبراً على الإسراع وخائفاً من رجوع اللصوص وسلبهم إياه والتهمة بقتل ذلك الإنسان إن مات لكنه احتمل كل تلك الأخطار ولم يبال بها طوعاً لشريعة المحبة.
تَحَنَّنَ أي رقّ له وكان ذلك علّة صنيعه من أعمال إنكار الذات والتعب والنفقة كما أن عدم رقة الكاهن اللاوي سبب عدم الاكتراث بذلك الجريح. ومما يحقق لنا أن الجريح كان يهودياً أنه لو كان سامرياً لذكر ذلك بياناً لاعتناء السامري به دون غيره. وكان من عوائد السامريين وممّا ربوا عليه أن يبغضوا اليهود. ولكن هذا السامري لم يسمح أن تكون عوائده وما رُبي عليه علّة ليقسّي قلبه على يهودي مفتقر إلى شفقته وعنايته.
٣٤ «فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَٱعْتَنَى بِه».
ضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ لعله فعل ذلك برُبُط فصّلها من ثيابه.
زَيْتاً وَخَمْراً كانوا قد اعتادوا يومئذ أن يعالجوا الجراح بالزيت والخمر (إشعياء ١: ٦) والمقصود من المعالجة بهما قطع جريان الدم وتسكين الألم بمنع الهواء عن الجراح. فالظاهر أن السامري كان قد حمل الزيت والخمر استعداداً لنفعه الخاص فأنفقه على الجريح إحساناً.
وَأَرْكَبَهُ بعد أن عالجه وقطع جريان دمه حتى لا تؤذيه الحركة.
عَلَى دَابَّتِهِ فاضطر أن يمشي ويقاسي تعباً شديداً ليمسكه وقاية له من السقوط في تلك الأرض الصخرية المنحدرة.
فُنْدُقٍ أي خان.
وَٱعْتَنَى بِهِ لم يكتف بأن أوصله إلى هناك بل زاد على ذلك أنه خدمه على قدر الاقتضاء.
٣٥ «وَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ ٱلْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَـهُ: ٱعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ».
متّى ٢٠: ٢
أَخْذَ دِينَارَيْنِ أي نحو تسعة غروش ولكن قيمة النقود يومئذ كانت أعظم من قيمتها اليوم وكان ذلك أجرة فاعلين على عمل يومين (متّى ٢٠: ٢ و٩). وكان ثمن طعام يكفي خمسين نفساً دفعة على قياس ما في الآية ٣٧ من ص ٦ من بشارة مرقس. فقام ذلك السامري بالنفقة على الجريح في الحال وبعض المستقبل.
فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ توقع السامري أن يرجع في تلك الطريق ولم يكتف بما أنفق على الجريح فوعد الفندقي أنه يحاسبه بما ينفقه فوق ذلك فاعتنى به في الحضور والغيبة.
٣٦ «فَأَيُّ هٰؤُلاَءِ ٱلثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ ٱللُّصُوصِ؟».
أَيُّ هٰؤُلاَءِ ٱلثَّلاَثَةِ المراد بهؤلاء الثلاثة الكاهن واللاوي والسامري فالأولان عرفا شريعة المحبة وعلّماها الناس ولم يعملا بمقتضاها ولكن الآخر أي السامري جرى بمقتضاها سواء كان يعرف لفظها أم لا. والناموسي سأل عن أنه «من هو قريبي» الذي أنا ملزوم أن أظهر له المحبة أليس هو الذي مثلي في الاعتقاد ونسيبي في الدم وصاحبي الذي يستطيع أن ينفعني إذا نفعته فلم يجبه المسيح على ذلك رأساً بل ضرب له مثل ذلك السامري الذي لم يقل «من هو قريبي» بل أظهر المحبة تبرعاً لإنسان وليس بقريب له على مذهب الناموسي في معنى القريب.
صَارَ قَرِيباً الخ كنا نتوقع أن يقول المسيح من حسب السامري قريبه. وأن يجاب بأنه هو الجريح. ولكنه قلب السؤال حتى كان الجواب أنه السامري لا الجريح وعلّة ذلك القلب صدق القرابة على كل منهما وإرادة المسيح بيان أن السامري اعتبر حقيقة تلك القرابة بما فعله.
فإن قيل لماذا أجاب المسيح سؤال الناموسي أي قوله «من هو قريبي» بسؤال آخر وهو قوله «أي هؤلاء الثلاثة ترى الخ» قلنا إرادته أن ينبه ضمير السائل ليحكم بالصواب وليقتنع الناس من شهادة وجدانه لا من جواب المسيح.
٣٧ «فَقَالَ: ٱلَّذِي صَنَعَ مَعَهُ ٱلرَّحْمَةَ. فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَٱصْنَعْ هٰكَذَا».
ٱلَّذِي صَنَعَ مَعَهُ ٱلرَّحْمَةَ لم يرد الناموسي أن يصرّح بمدح السامري فأشار إليه معنى لا لفظاً. وهذا جواب نقله عن ضميره يضاد مبادئه اليهودية التي رُبي عليها. والأرجح أنه لولا هذا المثل لم يسلم بأن السامري قريب الجريح.
وَٱصْنَعْ هٰكَذَا هذا هو غاية المسيح من المثل. أمر الناموسي أن يصنع كما صنع السامري للجريح لأنه بذلك يعمل بمقتضى شريعة المحبة.
ولنا من هذا المثل وجوب أن نحسب كل الناس أقرباء بقطع النظر عن الأمة أو الملة وأن نحب الجميع وأن نظهر محبتنا بأعمالنا وقت الحاجة. والذي فسر هذا المثل بفعله أكثر ممن سواه هو المسيح. ولا أحد يقدر أن يعمل بمقتضاه ما لم يتعلّم من المسيح.
إن الكنيسة المسيحية بطاعتها لهذا المثل ولأمر المسيح ولمثاله صارت ملاك رحمة للعالم وحملت له البركات الجسدية والروحية كإبطال النخاسة (أي الاتجار بالعبيد) ومنع القساوة على المسجونين وأسرى الحرب وتوزيع الطعام على الجياع من كل ملة ولسان وتشييد المستشفيات للمرضى وبث بشرى الخلاص في كل أرض.

يسوع في بيت مريم ومرثا ع ٣٨ إلى ٤٢


٣٨ «وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا».
يوحنا ١١: ١ و١٢: ٢ و٣
سَائِرُونَ أي مسافرون إلى أورشليم السفر الذي ذُكرت بداءته في ص ٩: ٥١.
قَرْيَةً لا ريب أن هذه القرية بيت عنيا وهي على سفح جبل الزيتون الشرقي بينها وبين أورشليم مسافة نحو ثلاثة أرباع الساعة (متّى ٢٦: ٦ ومرقس ١٤: ٣ ويوحنا ١١: ١ و١٢: ١ و٢). وتسمى اليوم بالعازارية. ولم يتحقق زمان الحادثة المذكورة هنا. كان يسوع في أورشليم في عيد المظال في تشرين الأول من السنة الأخيرة من حياته على الأرض (يوحنا ٧: ١٠) وكان أيضاً في عيد التجديد في كانون الأول من تلك السنة (يوحنا ١٠: ٢٢). فتلك الحادثة إما في الزيارة الأولى أو الزيارة الثانية فهي لم تُذكر باعتبار زمانها لأن الكلام هنا على خدمة المسيح في بيرية.
ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا مَرْثَا هي أخت مريم ولعازر والأرجح أنها أكبر من كل منهما. ويحتمل أن سمعان الأبرص (متّى ٢٦: ٦) أبوهم أو زوج إحدى الأختين. والأرجح أنه كان في أيام تبشير المسيح ميتاً أو غائباً لأنه لم يُذكر من أمره سوى اسمه. ولأسباب لم نعلمها كان كلام كل من متّى ومرقس ولوقا على تلك العائلة في بيت عنيا تلميحاً لا تصريحاً وأما يوحنا الذي كتب بعدهم فذكر اسم لعازر واسم القرية التي هو فيها وهذا لم يذكره غيره من البشيرين.
مَرْثَا لم يذُكر مثل هذا الاسم في العهد القديم وهو سرياني معناه سيدة وهي تلميذة مؤمنة اعتبرها المسيح (يوحنا ١١: ٥).
فِي بَيْتِهَا أي قبلته فيه ضيفاً احتراماً له وكذا فعلت في آخر أسبوع من حياته الأرضية.
٣٩ «وَكَانَتْ لِهٰذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، ٱلَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ».
ص ٨: ٣٥ وأعمال ٢٢: ٣ و١كورنثوس ٧: ٣٢ الخ
مَرْيَمَ اسم عبراني معناه مرارة أو مرُّ البحر وكذا كان اسم أم يسوع واسم أخت موسى.
جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ الخ أي جلوس التلاميذ لدى المعلم. وأظهرت إكرامها للمسيح بترك كل أعمال البيت وأصغت إلى تعليمه. والأرجح أن موضوع ذلك التعليم كان الملكوت الذي أتى يسوع ليؤسسه في قلوب الناس وكان جلوسها المذكور قبل العشاء لأن أختها مرثا كانت قد أخذت في إعداده.
٤٠ «وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ، فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!».
مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ اعتبرت مرثا يسوع علاوة عن اعتبارها إياه صديقاً أنه رباني مشهور ونبي الله. واختارت الطريق لإظهار إكرامها إياه إعداد مأدبة فاخرة. وهي خلاف الطريق التي اختارتها مريم لذلك. فكانت غاية كلتيهما واحدة وهي احترام المسيح. ولعلّ مرثا ظنت أن الطعام البسيط دون قدر يسوع. وارتبكت بتلك الخدمة العظيمة لتعد مائدة تليق بضيفها الجليل.
وَقَفَتْ وَقَالَتْ كانت علّة ذلك أنها رأت أختها جالسة مستريحة بلا هم من جهة أتعاب البيت وقد أعيت هي من مشقة الخدمة. والمرجح أنها تكلمت بسرعة وحدّة.
يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي في هذا شيء من اللوم ليسوع بأنه لم ينتبه لكثرة ارتباكها ولم يسأل مريم مساعدتها. ولمرثا شيء من العذر بجراءتها على هذا الكلام لأن غايتها من ذلك كله الاهتمام بإعداد ما يليق بربها.
أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي يدل هذا على أن مريم كانت تعمل مع مرثا في أول الأمر ثم سمعت بعض حديث المسيح وهي مارة فلذّ لها فجلست تصغي إليه ونسيت أعمالها وأختها وما يجب عليها للضيف.
فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي كأن مريم لا يحسن أن ترجع إلى العمل إلا بإذن يسوع وأمره.
٤١ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: مَرْثَا مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ».
مَرْثَا مَرْثَا تكرير المسيح اسمها يجعل لها توبيخ الصديق لا توبيخ الديّان فهذا مثل قوله «سمعان سمعان» (ص ٢٢: ٣١) و «شاول شاول» (أعمال ٩: ٤). ولا شيء يسكّن المضطرب مثل مناداته باسمه. ولا بد من أن يكون في ذلك التكرير تنبيهاً على أهمية الكلام.
أَنْتِ تَهْتَمِّينَ الخ لم يوبخها المسيح على خدمتها بل على زيادة اهتمامها بها وارتباكها فيها. ولم يقل ذلك إلا بعد أن سألته أن يلوم أختها. وقوله هنا كقوله للتلاميذ سابقاً «لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ الخ» (متّى ٦: ٢٥). وكان خطأوها أنها اهتمت اهتماماً زائداً بالواجبات الدنيوية ولكنها أصابت بذكر همومها للمسيح وفقاً لقول الرسول «مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ» (١بطرس ٥: ٧).
٤٢ «وَلٰكِنَّ ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَٱخْتَارَتْ مَرْيَمُ ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا».
مزمور ٢٧: ٤
ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ يحتمل هذا الكلام معنيين الأول الحرفي وهو أنك تعدّين أشياء كثيرة لخدمتي ضيفاً ولكني لا أحتاج إلا إلى قليل أو صنف واحد من الأطعمة. والثاني المعنى الروحي وهو العناية بالنفس. أو الإصغاء لصوت المسيح الذي هو الوسيلة إلى ذلك. أو قبول المسيح نفسه في القلب بالإيمان بدلاً من قبوله ضيفاً يُخدم «بأمور كثيرة». فمن الخطأ أن نقصر مراد المسيح على الأول لأنه لا بد من أن يكون قد قصد الثاني فتكلم بما يصدق على الاثنين لكي ينبه بالمعنى الحرفي على المعنى الروحي.
ثم إن استماع مريم للمسيح كان نفعاً لها لا له وخدمة مرثا كانت نفعاً له ففضل المسيح العطاء على الأخذ وفقاً لقوله «أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ» (متّى ٢٠: ٢٨). فهو يؤثر محبة القلوب على ربوات الذبائح.
ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ هذا مجاز بُني على تقسيم الميراث على الورثة الذين خُيروا في أخذ النقود أو الحقول أو الآثاث أو البيوت. والمعنى هنا كمعنى قوله «الحاجة إلى واحد» وهو الحياة الأبدية التي هي موهبة الله والميراث السماوي. وهذا النصيب خير من الأنصبة وهو صالح في الصحة وفي المرض وفي الشبيبة وفي الشيخوخة وفي الراحة وفي المشقة وفي الحياة وفي الموت وفي هذا الزمان وفي الأبدية.
لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا لأن الحياة الأبدية نصيب لا يزول وميراث لا يفنى. وسمع مريم لكلام المسيح وإيمانها به هما شربها من ماء الحياة وأكلها من خبز الحياة بدليل قول المسيح «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَـهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا ٦: ٥٤). وصرّح المسيح لمرثا أنه لا يفعل شيئاً يصرف أختها عن طلب ذلك الخير الأعظم الذي اختارته نصيباً وأخذت تجتهد في إصابته. والنصيب الذي لا ينزع ممن يقتنيه وهو المشار إليه هنا يختلف عن كل الأنصبة الدنيوية أنها تنزع من أربابها عند موتهم فيفارق الملوك قصورهم والأغنياء أموالهم ويقفون عراة أمام الله.
وفي ما قاله المسيح لمريم ومرثا فوائد جزيلة لكل مسيحي:

  • الأولى: أنه لا يحسن أن نعتني كل الاعتناء بواجبات الدين الخارجية ولو كانت من أعمال الإحسان إلى المساكين ونهمل الواجبات الروحية من تلاوة كتاب الله والتأمل والصلاة مع أن الواجبات الثانية أصل الواجبات الأولى ومصدرها. فيحب أن نقتدي بالمسيح في أنه اعتنى بعض الاعتناء بأجساد الناس بشفاء أمراضهم وإطعامه لكنه اهتم أكثر بتعليمهم الدين لخلاص نفوسهم.
  • الثانية: أنه لا يجوز للمسيحيين أن يسمحوا ان يمنعهم الاعتناء بالحاجات الزمنية عن الاهتمام بخلاص نفوسهم.
  • الثالثة: أن الجلوس عند أقدام المسيح أفضل طريق لشغل الوقت وذلك أن نكون من طلبة كلامه ونصغي إلى صوته القدوس في قلوبنا.
  • الرابعة: أنه يجب على الوالدين أن يجتهدوا في أن يحببوا إلى أولادهم أن يختاروا النصيب الصالح أكثر مما يحبّبون إليهم تحصيل العلوم والمناصب والثروة وأن يحذروا من تعريضهم للتجربة أن يهملوا خير نفوسهم باهتمامهم بمجرد خير أجسادهم وعقولهم. فإن كان كلام المسيح هنا تنبيهاً لكل المسيحيين فهو أجدر أن يكون كذلك للدنيويين لكي لا يكتفوا بأن يطلبوا لأجسادهم «أموراً كثيرة» من العالميات التي تفنى ونحن نستعملها بل لكي يطلبوا الحياة الأبدية لنفوسهم بالمسيح.




الأصحاح الحادي عشر


إنباء يسوع الثاني بالصلاة الربانية ع ١ إلى ٤


١ «وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضاً تَلاَمِيذَهُ».
إِذْ كَانَ يُصَلِّي كثيراً ما ذكر لوقا صلوات المسيح ومن ذلك ذكره صلاته عند معموديته (ص ٣: ٢١). وفي البرية (ص ٥: ١٦) وقبل تعيينه الاثني عشر رسولاً (ص ٦: ١٢) وفي انفراده (ص ٩: ١٨) وعند تجليه (ص ٩: ٢٨ و٢٩).
فِي مَوْضِع لا نعلم اسم هذا الموضع ولا موقعه والذي نعلمه أنه كان في بيرية بلغه يسوع مدة سفره الأخير من الجليل إلى أورشليم.
وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وهذا كان نائباً عن الباقين لأنه قال «علمنا» لا علمني.
عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ الأرجح أن التلاميذ شاهدوا حرارة المسيح في الصلاة فأثر فيهم ذلك ورغبوا في أن يصلّوا مثله. وكان الربانيون يعلّمون اليهود أن يصلّوا ثلاث مرات في النهار وكان الفريسيون يصلّون صلوات طويلة معينة وتحقق التلاميذ أن صلاة المسيح خلاف الصلوات التي علمها الربانيون والصلوات التي مارسها الفريسيون في زوايا الأزقة والشوارع. فطوبى لمن يشاركون التلاميذ في ذلك الشعور ويقولون للمسيح «علّمنا أن نصلّي» لأنه لا أحد يستغني عن التعليم في شأن الصلاة. والرب يسوع وحده قادر أن يعلمنا كيف نصلّي ويقدرنا على تقديم الصلاة.
كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا الخ لم يذكر أحد من البشيرين تعليم يوحنا الصلاة لتلاميذه سوى لوقا. وأشار لوقا قبل ذلك إلى أن يوحنا علم تلاميذه حفظ أصوام وتقديم طلبات كسائر الربانيين.
٢ - ٤ «٢ فَقَالَ لَـهُمْ: مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. ٣ خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، ٤ وَٱغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّير».
متّى ٦: ٩
أجاب المسيح هذا الطلب في الحال لأنه موافق لإرادته. وهذه مرة ثانية علّم تلاميذه الصلاة الربانية. والمرة الأولى كانت قبل هذه بنحو سنتين وهو يعظ على الجبل (متّى ٦: ٩ - ١٣). وتكريرها دليل على أهميتها. وكذا كررت الشريعة مرتين على مسامع الإسرائيليين (تثنية ٩: ١٠ و١٠: ٤). والفرق بين ألفاظ تلك الصلاة في المرة الأولى وألفاظها في الثاني زهيد. وسيأتي ذكره. ويعلّمنا ذلك الفرق أن المسيح لم يقصد تقييدنا ألفاظ معينة بل أراد أن يوجب علينا المعنى.
(راجع تفسير الصلاة الربانية في الشرح متّى ٦: ١ - ١٣. وقد وضعنا هنا صورتها في كل من المرتين).

الصلاة الربانية كما هي في بشارة متى


«أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ. وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ، وَٱلْقُوَّةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ».

الصلاة الربانية كما هي في بشارة لوقا


«أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، وَٱغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ».
وخلاصة تلك الصلاة الاقتراب إلى الله أباً وطلب ثلاثة أشياء عظيمة وهي تمهيد اسم أبينا وإتيان ملكوته وتكميل إرادته. ثم طلب ثلاثة أشياء لنا وهي طعامنا اليومي والمغفرة التي نحتاج إليها كل يوم والنجاة من الشيطان كذلك وتقترن إحدى هذه الطلبات بشرط وهو أن نغفر لغيرنا.
كُلَّ يَوْمٍ (ع ٣) في متّى «اليوم» والمعنى واحد وهو طلب ما تحتاج أجسادنا إليه في كل وقت حاضر.
خَطَايَانَا (ع ٤) أي «ذنوبنا» كما في متّى والمظنون أن لوقا عبّر عن الآثام بالكلمة الشائعة بين الأمم ومتّى عبّر عنها باللفظة الشائعة عند العبرانيين والفرق بين الكلمتين في اليونانية زهيد. ولعلّ اللفظة التي استعملها متّى أعم قليلاً.
لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ في بشارة متّى «كما نغفر نحن» ومعنى العبارتين واحد وهو لا حق لنا أن نتوقع مغفرة الله لتعدينا على شريعته إذا لم نغفر لإخوتنا البشر تعدياتهم علينا. ومغفرتنا لإخوتنا لا تجعل لنا حقاً في أن يغفر لنا بل هي علامة أننا قمنا بالشرط الذي لا بد منه. ولا يمكن الإنسان أن يغفر كما يغفر الله لأنه ينزع جرم الخطية من قلب الإنسان. وأما الإنسان فمغفرته أن لا يبغض المسيء إليه ولا يطلب الانتقام منه بل يرغب في خيره.
والخاتمة المذكورة لم يذكرها لوقا.

مثل الصديق الذي أتى في منتصف الليل ع ٥ إلى ٨


٥، ٦ «٥ ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ: مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَـهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ ٱللَّيْلِ وَيَقُولُ لَـهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ، ٦ لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَه».
علّم المسيح كيف يُصلَّى (ع ١ - ٤) ثم علّم أيضاً فاعلية الصلاة بمثل (ع ٥ - ٩). وباختبار الذين صلّوا (ع ٩ و١٠) ومن براهين مبنية على أبوية الله (ع ١١ - ١٣).
مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَـهُ صَدِيقٌ لم يذكر هذا المثل أحد من كتبة البشائر سوى لوقا. وغايته تعليمنا وجوب المواظبة والإلحاح. وبنى كلامه هنا على تأثير اللجاجة في إنسان محب الذات كسلان يكره أن يجيب طلبة صاحبه لأحوال لا توافقه ومع ذلك حملته اللجاجة على إجابته فبالأولى أن تؤثر الصلاة في الله المحب الجواد الذي يرغب أبداً في إجابة الطالبين ولا مانع له من ذلك. ومثله الكلام على القاضي الظالم.
نِصْفَ ٱللَّيْلِ ذكر الوقت ليبين على كره الصديق إجابة طلبة صديقه.
لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ لا عجب من وصول الضيف في مثل تلك الساعة لأنه إن كان الوقت صيفاً كان السفر ليلاً خيراً من السفر نهاراً. وذكر ذلك عذر للطالب على إيقاظه في ذلك الوقت غير المناسب وبيان أنه لم يأته لجوعه بل لقيامه بواجبات الضيافة وذاك عذر مقبول.
ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ ليس لهذا معنى روحي ولكن ذكره لأنه هو القدر الكافي لرجلٍ.
٧ «فَيُجِيبَ ذٰلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لاَ تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ ٱلآنَ، وَأَوْلاَدِي مَعِي فِي ٱلْفِرَاشِ. لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ».
مِنْ دَاخِلٍ لم يتكلف القيام لفتح الباب بل جاوبه وهو في مضجعه.
لاَ تُزْعِجْنِي الخ قال ذلك عذراً على رفضه طلبه لأن فتح الباب يكلفه مشقة وينزع راحته وراحة أهل بيته. والكلام هنا يدل على أن المسؤول كان فقيراً إذ لا خادم عنده وليس له سوى مخدع واحد لكل عائلته وكان ذلك المخدع مفروشاً على أسلوب لا يمكنه معه أن يقوم دون أن يزعج أولاده أيضاً.
لاَ أَقْدِرُ الخ أي أن الصعوبات التي ذكرتها لك تمنعني من إجابة طلبك ما لم أظلم نفسي وأهل بيتي.
٨ «أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لاَ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ».
ص ١٨: ١ الخ
ِمِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِه يظهر من ذلك أن الصديق الطالب لم ييأس باعتذار صديقه ورفضه لكنه لبث يقرع الباب ويلح عليه فبلغ بذلك مراده أخيراً. فظهر مما ذُكر أن اللجاجة أشد تأثيراً من علاقات الصداقة ومن حقوق الضيافة وكسل المسؤول ومحبته لذاته ومراعاته راحة عائلته.
قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ أي أنه حصل بواسطة لجاجته على تمام مراده من كاره كل ما اقتضاه طلبه. وغاية المثل بيان أنه إذا نجح الإنسان بمواظبة السؤال والإلحاح في نوال مطلوبه في مثل تلك الأحوال فكم ينجح بذلك في خطاب الله الذي يدعونا إلى الطلب وقد وعدنا بالإجابة وهو يحب العطاء والليل والنهار لديه سيّان ويستطيع أن يجيب طلباتنا وهو لا يكلف بذلك نفسه ولا غيره شيئاً من المشقة.
فإن ظهر أن الله مبطئ عن إجابة طلباتنا فذلك ليس لعدم إرادته الإجابة كالصديق المسؤول في هذا المثل بل لأجل فائدتنا وأنه كثيراً ما يمتحن إيمان شعبه بذلك ويتأخر أن يجيبنا أحياناً لكوننا غير مستعدين لقبول البركة التي نطلبها بأننا لم نشعر بافتقارنا إليها كما يجب أو لأننا لم نطلبها بالتواضع اللائق والرغبة في نوالها. وليس في ما مرّ ما ينافي قوله تعالى في بشارة متّى «حينما تصلّون».

فاعلية الصلاة ع ٩ إلى ١٣


٩ - ١٣ «٩ وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. ١٠ لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَـهُ. ١١ فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ ٱلسَّمَكَةِ؟ ١٢ أَوْ إِذَا سَأَلَـهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ ١٣ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يُعْطِي ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَه».
متّى ٧: ٧ و٢١: ٢٢ ومرقس ١١: ٢٤ ويوحنا ١٥: ٧ ويعقوب ١: ٥ و٦ و٧ و١يوحنا ٣: ٢٢، متّى ٧: ٩، متّى ٧: ١١
مرّ تفسير ذلك في الشرح متّى ٧: ٧ - ١١. وبين الكلامين فرق زهيد في اللفظ لا في المعنى. وفي الخطاب الذي رواه متّى «حجر» بدل «العقرب» هنا. وعلّة ذلك أن المسيح ذكر المثل مرتين على صورتين نقله متّى على إحداهما ولوقا على الأخرى. ويقال في مثل هذا على نقل متّى «عطايا صالحة» ونقل لوقا «الروح القدس» وهو أفضل النعم بعد هبة المسيح لنا.
ولنا مما جاء في الكلام على الصلاة من ع ١ - ١٣ سبع فوائد:

  • الأولى: فائدة المواظبة واللجاجة في الصلاة وذلك وفق قول النبي «يَا ذَاكِرِي ٱلرَّبِّ لاَ تَسْكُتُوا وَلاَ تَدَعُوهُ يَسْكُتُ، حَتَّى يُثَبِّتَ وَيَجْعَلَ أُورُشَلِيمَ تَسْبِيحَةً فِي ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٦٢: ٦ و٧).
  • الثانية: إنه إن كان للصديق حق أن يتوقع المعروف من صديقه وللابن أن ينتظر ذلك من أبيه فالأولى أن يتوقع ذلك أولاد الله منه تعالى.
  • الثالثة: إنه إن كان الآباء الأرضيون وهم أشرار ضعفاء يحبون ذواتهم يعطون أولادهم عطايا صالحة فالأولى أن الآب السماوي الصالح الغني الرحيم غير المحدود في القدرة يعطي أولاده كذلك.
  • الرابعة: إنه تعالى لا يعطينا إجابة لطلباتنا عطايا غير نافعة كحجر أو مضرة كعقرب بل يهب لنا أفضل المواهب وأشدنا حاجة إليها.
  • الخامسة: وجوب أن لا نغلط بأن نحسب تباطؤه عن إجابة طلباتنا رفضه إياها.
  • السادسة: وجوب الثقة بمحبة الله وحكمته وأن لا نحسب لعنة ما يرسله بركة وأن لا نظن خبزه حجراً وسمكته حية.
  • السابعة: إن عطية الروح القدس هي أشد ما نحتاج إليه. وهي أحب شيء إلى الله أن يعطينا إياه فإن لم نحصل على تلك البركة فالعلّة الوحيدة لذلك عدم مواظبتنا على الصلاة وقلة حرارتنا وإيماننا.



معجزة المسيح وتجديف الفريسيين ع ١٤ إلى ٢٦


١٤ - ٢٣ «١٤ وَكَانَ يُخْرِجُ شَيْطَاناً، وَكَانَ ذٰلِكَ أَخْرَسَ. فَلَمَّا أُخْرِجَ ٱلشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ ٱلأَخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ. ١٥ وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ. ١٦ وَآخَرُونَ طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ يُجَرِّبُونَهُ. ١٧ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لَـهُمْ: كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تَخْرَبُ، وَبَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى بَيْتٍ يَسْقُطُ. ١٨ فَإِنْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ أَيْضاً يَنْقَسِمُ عَلَى ذَاتِهِ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ لأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ. ١٩ فَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذٰلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ. ٢٠ وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. ٢١ حِينَمَا يَحْفَظُ ٱلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً، تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. ٢٢ وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ ٱلْكَامِلَ ٱلَّذِي ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ. ٢٣ مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّق».
متّى ٩: ٣٢ و١٢: ٢٢، متّى ٩: ٣٤ و١٢: ٢٤، متّى ١٢: ٣٨ و١٦: ١، يوحنا ٢: ٢٥، متّى ١٢: ٢٥، مرقس ٣: ٢٤، خروج ٨: ١٩، متّى ١٢: ٢٩، مرقس ٣: ٢٧، إشعياء ٤٩: ٢٤ و٢٥ و٥٣: ١٢، كولوسي ٢: ١٥، متّى ١٢: ٣٠، متّى ١٢: ٤٣
انظر الشرح متّى ١٢: ٢٢ - ٣٠.
أَخْرَسَ (ع ١٤) لم يذكر لوقا هذه المعجزة في زمان حدوثها كما فعل متّى واقتصر على أن المجنون كان أخرس وذكر متّى أنه أعمى أيضاً.
فَتَعَجَّبَ زاد متّى على ذلك قولهم «ألعلّ هذا هو ابن داود».
قَوْمٌ مِنْهُمْ (ع ١٥) هم فريسيون (متّى ١٢: ٢٤).
وكتبة من أورشليم (مرقس ٣: ٢٢).
بَعْلَزَبُولَ انظر الشرح متّى ١٠: ٢٥.
طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً (ع ١٦) جواب هذا الطلب في ع ٢٩ بعد رد المسيح على تجديف الفريسيين (ع ١٥). ولعلّ سبب ذكر لوقا الأمرين معاً أن بعضهم لما قال القوم المذكور «أنه يصنع الآيات برئيس الشياطين» سألوا أن يبطل قولهم بأن يريهم آية من السماء تظهر أنها من الله رأساً.
بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ (ع ٢٠) قال متّى موضع ذلك «بروح الله» فكلام لوقا مجاز وكلام متّى حقيقة وفي هذا المجاز إشارة إلى أن روح الله يصنع المعجزات بغاية السهولة.
٢٤ - ٢٦ «٢٤ مَتَى خَرَجَ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ، يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً، وَإِذْ لاَ يَجِدُ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي ٱلَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ ٢٥ فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ٢٦ ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ!».
يوحنا ٥: ١٤، عبرانيين ٦: ٤ و١٠: ٢٦، ٢بطرس ٢: ٢٠
راجع الشرح متّى ١٢: ٤٣ - ٤٥.

تطويب المرأة ليسوع ع ٢٧ و٢٨


٢٧ «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهٰذَا رَفَعَتِ ٱمْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ ٱلْجَمْعِ وَقَالَتْ لَـهُ: طُوبَى لِلْبَطْنِ ٱلَّذِي حَمَلَكَ وَٱلثَّدْيَيْنِ ٱللَّذَيْنِ رَضَعْتَهُمَا».
ص ١: ٢٨ و٤٨
لم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين سوى لوقا واسم المرأة المذكورة هنا مجهول والظاهر أنها من نساء ذلك الجمع سمعت كلام المسيح وتعجبت من الكلمات الخارجة من فيه ولعلها شاهدت بعض معجزاته فأظهرت تعجبها ومسرتها بما قالت هنا ومعناه طوبى لأم ابنٍ عجيبٍ كهذا.
ولعلّ سبب تطويبها لأمه لا له نفسه أنها ظنت أمراً زهيداً أن تقتصر على مباركة الشفتين اللتين تكلمتا بذلك الكلام واليدين اللتين فعلتا تلك الآيات فباركت علاوة على ذلك البطن الذي حمله والثديين اللذين رضعهما.
أو لعلها رأت أنها لا تستحق أن تبارك المسيح نفسه فباركته بمباركة أمه لأجله.
ولعلها كانت متيقنة كسائر الإسرائيليات أن المسيح يولد من إحداهن وراجية أن تنال هذا الإكرام وحين تحققت أن يسوع هو المسيح حكمت بالبركة والغبطة لأمه وصرخت قائلة طوبى لها لأنها نالت أعظم البركات التي لا يمكن غيرها أن تنال نظيرها.
٢٨ «أَمَّا هُوَ فَقَالَ: بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللّٰهِ وَيَحْفَظُونَهُ».
متّى ٧: ٢١، ص ٨: ٢١، يعقوب ١: ٢٥
لم ينكر يسوع في جوابه أن الله ميّز مريم على غيرها من النساء باختياره إياها والدة للمسيح لكنه لم يسلم بأن ذلك السبب الأعظم للسرور وبأن الغبطة التي نالتها لا ينال أحد مثلها قدراً وبأن النسبة الجسدية بين الأم والابن خير الأنساب بل صرّح بأنه باق لكل إنسان نسبة روحية أعظم من تلك النسبة وهي النسبة الناتجة من المحبة لله والطاعة لأوامره. وهذا وفق قول المسيح «مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟... لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي... هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (متّى ١٢: ٤٨ و٥٠).
وكانت مريم من الذين «سمعوا كلمة الله وحفظوها» وممن آمنوا بالله مخلصهم (ص ١: ٣٨ و٤٧). وشهدت بإيمانها أليصابات بقولها «طُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ» (ص ١: ٤٥).
كَلاَمَ ٱللّٰهِ هو كلام المسيح أيضاً ولكنه نسبه إلى الله تواضعاً لأنه أخلى نفسه من أجلنا وأتى كرسول من الله.

جواب السائلين آية من السماء ع ٢٩ إلى ٣٢


٢٩ - ٣٢ «٢٩ وَفِيمَا كَانَ ٱلْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ: هٰذَا ٱلْجِيلُ شِرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَـهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةُ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. ٣٠ لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، كَذٰلِكَ يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجِيلِ. ٣١ مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي ٱلدِّينِ مَعَ رِجَالِ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هٰهُنَا. ٣٢ رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا!».
متّى ١٢: ٣٨ و٣٩ ويونان ١: ١٧ و٢: ١٠، ١ملوك ١٠: ١، يونان ٣: ٥
هذا جواب السؤال الذي في ع ١٦.
كَانَ ٱلْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ (ع ٢٩) لعلّ سبب ازدحام الناس توقعهم أن يأتي يسوع بآية من السماء كما سُئل.
ٱبْتَدَأَ يَقُولُ سبق الكلام على ما قاله يسوع في هذا الجواب في الشرح (متّى ١٢: ٣٩ - ٤٢). والفرق بين قول لوقا وقول متّى ليس بأكثر مما نتوقعه من مؤرخين مستقلين.
آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى (ع ٣٠) كان يونان آية لأهل نينوى بمعنى وكان لليهود الذين في عصر المسيح آية بمعنى آخر. فكان لأهل نينوى آية بعد أن كان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال ولا بد من أنه أخبرهم بعصيانه لله وقصاص الله له وبصلاته ونجاته. وفي هذا كان آية لهم على أنهم يعاقبون إن بقوا عصاة لله وأنهم ينالون المغفرة إذا تابوا. وكان آية لهم أيضاً لأن نجاته العجيبة شهدت بأنه مرسل من الله إليهم.
لِهٰذَا ٱلْجِيلِ أي يهود ذلك العصر وكان يونان آية لهم بعد قيامة المسيح من الموت لأنه بقي في قلب الأرض ثلاثة أيام كما بقي في جوف الحوت ولم يوضح لوقا هذا كما أوضحه متّى (متّى ١٢: ٤٠).

النور السماوي والعين الروحانية ع ٣٣ إلى ٣٦


٣٣ «لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيَضَعُهُ فِي خُفْيَةٍ، وَلاَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ ٱلدَّاخِلُونَ ٱلنُّورَ».
متّى ٥: ١٥، مرقس ٤: ٢١ ص ٨: ١٦
كل أقوال المسيح في هذا الفصل (أي ع ٣٣ - ٣٧) تكلم بها أولاً في وعظه على الجبل ثم تكلم بها أيضاً في أحوال أخرى قصد غاية أخرى.
يُوقِدُ سِرَاجاً (راجع الشرح متّى ٥: ١٥) المقصود بالسراج في بشارة متّى تعليم الرسل وسيرتهم. وفي ذلك تحذير للرسل من كل شيء يحجب نور تعليمهم عن أعين الناس. والمراد بالسراج هنا تعليم المسيح عينه وفيه مثل ذلك التحذير. وإن كان المسيح قد وجه كلامه هنا إلى الفريسيين فالمقصود منه هنا تبرير نفسه بأنه لم يضع سراج تعليمه تحت المكيال كما اتهموه بطلب آية من السماء كأنه أخفى تعليمه بعدم إيراد البراهين السماوية كما فعل موسى وتخطئتهم بأنهم لم يستفيدوا من السراج الذي أوقده لهم.
٣٤ - ٣٦ «٣٤ سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِماً. ٣٥ اُنْظُرْ إِذاً لِئَلاَّ يَكُونَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً. ٣٦ فَإِنْ كَانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً لَيْسَ فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيِّراً كُلُّهُ، كَمَا حِينَمَا يُضِيءُ لَكَ ٱلسِّرَاجُ بِلَمَعَانِه».
متّى ٦: ٢٢
(راجع الشرح متّى ٦: ٢٢ و٢٣) علّة إيراد المسيح هذا الكلام هنا أن يبيّن سبب ظهور الحق لبعض الناس كأهل نينوى وملكة سبأ وخفائه عن بعضهم كفريسي ذلك الجيل وهو أن الفرق الأول فتح عيني قلبه لدخول النور السماوي إليه وأن الفريق الثاني أغمضهما.
وعلى ذلك تبقى المسؤولية على كل إنسان لأن النور السماوي دخل العالم وأُعد لكل من يفتح عينيه.
ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ (ع ٣٥) أي شهادة الضمير للحق فالله جعل الضمير للنفس بمنزلة العين للجسد. وفيه تحذير من التواء الضمير بالضلال والعوائد الرديئة والتعصب الجهلي فإن الضمير إذا التوى قاد إلى الغواية والهلاك بدلاً من أن يرشد إلى الهدى والحياة.
جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً هذا مجاز معناه أنه إذا كانت النفس خالية من التعصب ومن تسلط الشهوات والكبرياء وشاهدت نور تعليم المسيح ضاءت كلها بذلك التعليم وزاد فيها النور على توالي الأيام إلى أن تبلغ النهار الكامل في السماء.
«إن الله نور» (١يوحنا ١: ٥) والمسيح «هو نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢) و «النور الحقيقي» (يوحنا ١: ٩).

العشاء في بيت الفريسي وتوبيخ المسيح للفريسيين ع ٣٧ إلى ٥٤


٣٧ «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَـهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ، فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ».
سَأَلَـهُ فَرِّيسِيٌّ الأرجح أن قصد هذا الفريسي من دعوة يسوع إلى طعامه كقصد الفريسي المذكور في ص ٧: ٣٦ وذلك الرغبة في أن يرى أو يسمع شيئاً جديداً وتقديم شيء من الإكرام ليسوع باعتبار أنه معلّم مشهور بالقول والفعل وبغية الحصول على شيء من المجد بنزول المسيح عليه ضيفاً.
َفَدَخَل دخل المسيح بيوت العشارين والخطاة ضيفاً لإفادة أنفسهم ودخل بيوت الفريسيين كذلك عند سنوح الفرصة لمثل هذه الإفادة.
وَاتَّكَأَ أي اتكأ عند مائدة الطعام في حال دخوله البيت.
٣٨ «وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذٰلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً قَبْلَ ٱلْغَدَاءِ».
مرقس ٧: ٣
تَعَجَّبَ كان سبب تعجب الفريسي من عمل المسيح مخالفته لعوائد الفريسيين المبنية على تقاليد شيوخهم «لأَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ ٱلْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِٱعْتِنَاءٍ لاَ يَأْكُلُونَ الخ» (مرقس ٧: ٣ و٤). ولا ريب في أن المسيح أتى ذلك عمداً لأنه كان يعلّم بأعماله كما كان يعلّم بأقواله. وقصد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى الكلام على طهارة القلب. ولم يقل هنا أن الفريسي أظهر عجبه بقول أو إشارة والأرجح أنه فعل كذلك لأن المسيح لم يبدأ يوبخ في الحال لو لم يُعترض عليه بالكلام الصريح البيّن أو بالوسوسة أو بإمارات الغيظ.
يَغْتَسِلْ أي الاغتسال الطقسي الذي اعتاده الفريسيون. (من أراد أن يعرف معنى الكلمة اليونانية «βαπτισμα» ليقف على حقيقة معنى المعمودية فعليه أن ينظر إلى معنى «يغتسل» هنا وينظر في نوع الاغتسال الذي توقعه الفريسي من المسيح. فلو ترجمنا تلك الكلمة حرفياً لكانت العبارة «تعجب أنه لم يعتمد أولاً قبل الغداء» فليحكم القارئ هل كان الفريسي ينتظر أن يغطس المسيح كله في الماء قبل الأكل أولا).
٣٩، ٤٠ «٣٩ فَقَالَ لَـهُ ٱلرَّبُّ: أَنْتُمُ ٱلآنَ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ ٱلْكَأْسِ وَٱلْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ ٱخْتِطَافاً وَخُبْثاً. ٤٠ يَا أَغْبِيَاءُ، أَلَيْسَ ٱلَّذِي صَنَعَ ٱلْخَارِجَ صَنَعَ ٱلدَّاخِلَ أَيْضاً؟».
متّى ٢٣: ٢٥، تيطس ١: ١٥
توبيخات المسيح هنا للفريسيين كبعض توبيخاته لهم في هيكل أورشليم في الأسبوع الأخير من حياته الأرضية (متّى ص ٢٣).
إن المسيح فعل كسائر المعلمين الدينيين والعالميين في كل عصر بتكرير بعض التعليم الذي حسبه ذا شأن.
ولا عجب من أن المسيح وهو ضيف في بيت فريسي يوبخ الفريسيين على أعمالهم توبيخاً شديداً لأن المسيح حيث ذهب لم يزل مبشراً ومعلماً وموبخاً على كل الشرور. ولم تكن غاية الفريسي من دعوة المسيح خالصة ليستحق أن يخاطبه المسيح بزيادة اللطف والرقة كما يظهر من ع ٥٣ و٥٤.
يَا أَغْبِيَاءُ (ع ٤٠) أظهر الفريسيون غباوتهم بأنهم مارسوا تطهيراً جزئياً لا كاملاً وأتوا ذلك فرضاً دينياً بغية أن يرضوا الله فإنه سبحانه وتعالى هو الذي صنع الداخل كما صنع الخارج ومن الجهالة ظنهم أنه يرضى التطهير الظاهر بالاغتسال الطقسي دون التطهير الباطن والتقديس القلبي وفقاً لقوله تعالى بلسان داود «هَا قَدْ سُرِرْتَ بِٱلْحَقِّ فِي ٱلْبَاطِنِ» (مزمور ٥١: ٦).
وقد مرّ تفسير هذين العددين في الشرح متّى ٢٣: ٢٥.
٤١ «بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً، فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ».
إشعياء ٥٨: ٧، دانيال ٤: ٢٧، ص ١٢: ٣٣
لا بد من أن المسيح قصد بهذا العدد أن يمارس الفريسيون الصدقات بدلاً من الاختطاف والخبث (ع ٣٩) وذلك يكون ذريعة إلى تطهير أفضل من غسل اليدين. وليس مراد المسيح أن إعطاء الصدقة هو القداسة إنما أراد أنه أفضل من التطهير الطقسي وتمهيداً إلى القداسة وبرهاناً على وجودها.
كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ أي كل مقتنى. فيحق لكم أن تستعملوه وتنتفعوا به بعد أن توزعوا بعضه على المحتاجين إكراماً لله. وفسّر بعضهم قوله «كل شيء» بكل ما هو داخل الكأس والقصعة وأن ذلك الداخل لا يتطهر بغسل خارج الإناء بل بتوزيع بعض ما فيه صدقة. وهو معنى حسن وموافق للأصل.
٤٢ «وَلٰكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ ٱلنَّعْنَعَ وَٱلسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْلٍ، وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ ٱلْحَقِّ وَمَحَبَّةِ ٱللّٰهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هٰذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ!».
متّى ٢٣: ٢٣
انظر الشرح متّى ٢٣: ٢٣
ٱلسَّذَابَ هو نبات صغير مرّ الطعم يتداوى بأوراقه.
٤٣ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ ٱلْمَجْلِسَ ٱلأَوَّلَ فِي ٱلْمَجَامِعِ، وَٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱلأَسْوَاقِ».
متّى ٢٣: ٦، مرقس ١٢: ٣٨ و٣٩
سبق الكلام على مثل هذه الآية في الشرح متّى ٢٣: ٦ و٧
٤٤ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ مِثْلُ ٱلْقُبُورِ ٱلْمُخْتَفِيَةِ، وَٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ!».
مزمور ٥: ٩، متّى ٢٣: ٢٧
(راجع الشرح متّى ٢٣: ٢٧).
ٱلْقُبُورِ ٱلْمُخْتَفِيَةِ، وَٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ ذكر متّى خطاب المسيح للفريسيين في أورشليم وتشبيهه إياهم بقبور مبيّضة إشارة إلى الفرق بين الطهارة الظاهرة والنجاسة الداخلية. وذكر لوقا هنا خطابه لهم في البرية (على الأرجح) حيث لا تميز القبور عن سائر الأرض فيمكن الناس ان يحسبوا الأرض التي يمشون عليها طاهرة كغيرها من الأرضين والواقع أنها تشتمل على جثث الموتى وتدنس المارين عليها (عدد ١٩: ١٦). ومعنى التشبيه هنا أن قلوب الفريسيين مملوءة شراً خفياً عن الناس وأن الذين يعاشرونهم يتدنسون بكبريائهم وطمعهم وهم لا يشعرون كالذين يمشون على القبور المختفية.
٤٥ «فَقَالَ لَـهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِيِّينَ: يَا مُعَلِّمُ، حِينَ تَقُولُ هٰذَا تَشْتِمُنَا نَحْنُ أَيْضاً».
وَاحِدٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِيِّينَ الناموسيون قوم وظيفتهم أن يشرحوا الناموس وأكثرهم من فرقة الفريسيين. وهذا الناموسي اعتقد أن المسيح وبخه بتوبيخ الفريسيين وأن وظيفته تقيه من ذلك التوبيخ فاعترض المسيح بقوله متوقعاً أنه يستثنيه منه.
٤٦ «فَقَالَ: وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلنَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ ٱلنَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ ٱلْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ ٱلأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ».
متّى ٢٣: ٤
انظر الشرح متّى ٢٣: ٤.
٤٧، ٤٨ «وَيْلٌ لَكُمْ، لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. ٤٨ إِذاً تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ، لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ.
متّى ٢٣: ٢٩
(سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متّى ٢٣: ٢٩ - ٣٣). وكلام المسيح هنا يفيد أنه أسهل على الناس أن يحمدوا الصالحين بعد موتهم ويبنوا قبورهم من أن يمارسوا فضائلهم. وأن أعمال الفريسيين برهان على أنهم يشبهون قاتلي الأنبياء أكثر مما يشبهون الأنبياء أنفسهم.
٤٩ - ٥١ «٤٩ لِذٰلِكَ أَيْضاً قَالَتْ حِكْمَةُ ٱللّٰهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ ٥٠ لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ، ٥١ مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا ٱلَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ ٱلْمَذْبَحِ وَٱلْبَيْتِ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ!».
متّى ٢٣: ٣٤، تكوين ٤: ٨، ٢أيام ٢٤: ٢٠ و٢١
انظر شرح بشارة متّى ٢٣: ٣٤ - ٣٦.
قَالَتْ حِكْمَةُ ٱللّٰهِ الأرجح أنه قصد نفسه بهذه الحكمة فكأنه قال «قلت أنا» وذلك وفق ما في بشارة متّى ٢٣: ٣٤. وسمي المسيح حكمة الله في ١كورنثوس ١: ٢٤. وظن بعضهم أن ما قيل هنا مختصر ما جاء في سفر الأيام الثاني ٢٤: ١٨ - ٢٢.
٥٢ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ ٱلْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَٱلدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ».
متّى ٢٣: ١٣
مِفْتَاحَ ٱلْمَعْرِفَةِ كانت عادة اليهود أن يعطوا الناموسي مفتاحاً عند تعيينه للوظيفة في بلوغه سن الثلاثين إشارة إلى أنه ملزوم بفتح كنوز الحكمة الإلهية التي في الناموس والأنبياء لنفسه وللشعب.
مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ الخ أي قصرتم كل التقصير في استعمال مفتاح المعرفة لنفع أنفسكم ونفوس غيركم لأنكم علمتم أن تقاليد الشيوخ أهم من أقوال الله سبحانه وتعالى وحرفتم معاني الأقوال الإلهية ولا سيما معاني ما قيل في المسيح وملكوته وآلامه. ولو علمتم الحق لاستعد الشعب لقبوله.
وقصد الله بتسليم مفتاح المعرفة لمعلمي الدين أن يفتحوا به ملكوت السماء للناس ولكنهم أغلقوه بأعمالهم (متّى ٢٣: ١٣).
٥٣، ٥٤ «٥٣ وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهٰذَا ٱبْتَدَأَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يَحْنَقُونَ جِدّاً، وَيُصَادِرُونَهُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، ٥٤ وَهُمْ يُرَاقِبُونَهُ طَالِبِينَ أَنْ يَصْطَادُوا شَيْئاً مِنْ فَمِهِ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْه».
مرقس ١٢: ١٣
ما ذُكر في هاتين الآيتين بيان لعلّة ما ذُكر من توبيخات المسيح للفريسيين وتهديداته لهم فإن المسيح عرف بغضهم إياه واجتماعهم لكي يقاوموه. وكان هو ضيف واحد منهم فكان عليهم أن يعاملوه باللطف بدلاً من معامتلهم إياه بالخشونه.
يُصَادِرُونَه أي يمتحنونه بمسائل كثيرة سفسطية لا لقصد الاستفادة بل ليعربسوه بها. وأجابهم على مسائلهم الخداعية بالحكمة والصبر والحلم.
يَصْطَادُوا أي يسألوه كمن يرغب في الإفادة وغايتهم من السؤال كغاية الصيادين من إخفاء الفخاح.
لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ إما إلى رؤساء اليهود بدعوى أنه جدّف أو إلى الحكام الرومانيين بدعوى أنّه هيج فتنة.
وكانت أطوار فريسيي أورشليم وأفعالهم في معاملة المسيح كأطوار فريسيي بيرية المذكورين هنا (يوحنا ص ٨ وص ١٠ ومتّى ص ٢٢).