مقدمة لبشارة متّى

الكاتب


كتب هذه البشارة رجل يهودي من الجليل اسمه متّى، وهو لاوي بن حلفي (مرقس ٢: ١٤) استوطن كفرناحوم وكان عشاراً، أي جامع الضرائب للرومان. دعاه المسيح وهو يمارس وظيفته (متّى ٩: ٩) وقصته بعد يوم الخمسين غير أكيدة، تعتمد على التقليد التاريخي فقط.

زمن الكتابة


زمن كتابة بشارة متّى غير معروف بالتحقيق، ويُرجح أنه بين سنة ٦٠ و٦٦م. وبما أنها لا تذكر خراب أورشليم سنة ٦٦ (وهي سنة ٧٠ على الحساب المشهور) فقد استنتج المفسرون أنها كُتبت قبل وقوع تلك الحادثة. وفي قوله «إلى هذا اليوم» (ص ٢٧: ٨ و٣٨: ١٥) إشارة إلى أن التاريخ كُتب بعد حدوث الأمور المذكورة بمدة طويلة.

لغتها الأصلية


بشارة متّى التي عندنا اليوم كُتبت أصلاً باليونانية، ومنها جاءت الترجمة العربية وسائر الترجمات المعروفة. لكن لنا أدلة كثيرة على وجود نسخة عبرانية قديمة فُقدت منذ عهد طويل. ولا مانع من الظن أن هذا البشير كتب بشارته في لغتين. فثبوت النسخة العبرانية لا يناقض قانونية النسخة اليونانية التي عندنا. ولا دليل على أن تلك النسخة اليونانية تُرجمت من نسخة أخرى.

خواصها


كُتبت هذه البشارة في اليهودية لليهود. وهي تُعلن أن يسوع هو أعظم الأنبياء والمشترعين، ومتممٌ بذاته كل نبوات العهد القديم من أنه هو المسيح ملك إسرائيل. وترتيب حوادثها ليس بحسب زمان حدوثها ولكن باعتبار مواضيعها. فإن الكاتب يجمع أعمال المسيح وأقواله المتشابهة، ويروي نبأ المسيح كجزء من تاريخ الأمة اليهودية، إتماماً للبركة التي وعد الله إبراهيم بها.
وتستحق هذه البشارة أن تُسجَّل قبل غيرها في العهد الجديد، لأنها توضح العلاقة بين العهدين القديم والجديد، أي بين الشريعة والإنجيل. وقد كُتبت لليهود لتبرهن لهم أن يسوع هو المسيح، بدليل:

  • أنها اقتبست من العهد القديم نحو خمس وسبعين آية.
  • أنها لا تتعرض لذكر عادات اليهود، بل تحسبها معروفة للقارئ.
  • أنها تعلن إرسالية يسوع الخاصة لليهود.


ومتّى هو الإنجيلي الوحيد الذي يذكر سلسلة نسب يوسف، ومجيء المجوس، وهروب يسوع مع عائلته إلى مصر، وقتل الأطفال في بيت لحم، ومَثل العشر العذارى، وحلم زوجة بيلاطس، وقيامة بعض القديسين، وارتشاء الحراس الرومان، وإرسال المسيح تلاميذه ليذهبوا ويُعمدوا كل من يؤمن بشهادتهم له.

كلمة تمهيدية


الإنجيل أو البشارة تتناول عادة إما عملاً أو حادثة جرت، وهي مفرحة لمن يقولها ولمن يسمعها على السواء. وأي خبر مفرح أكثر من هذه البشارة، لأن الله القدير يريد أن يفتدي شعبه من خطاياهم «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيد» (يوحنا ٣: ١٦). وهذه «بشارة متّى» أي أنه المسؤول عن تنسيق روايتها. وإن كُتبت بالروح القدس فالعامل البشري موجود أيضاً.
لا بد لمن يدخل على الإنجيل المقدس أن يشعر أنه داخل إلى حرمٍ مقدس، فيتساءَل: تُرى هل يحتاج الإنجيل إلى تفسير، وهو البشارة المفرِّحة المعلنة لكل البشر بأبسط عبارة وأوضح أسلوب؟! وهل بعد قصص المسيح وأمثاله الإلهية العجيبة زيادة لمستزيد، فيقف البيان البشري صامتاً أمام الحكمة الإلهية، ويتورع اللسان مهما بلغت فصاحته إلا أن يصت أمام «ابن الله ابن الإنسان» ليقول له: تكلم يا رب لأن عبيدك سامعون.
ولكن القصد من هذا التفسير هو جلاء بعض النقاط بالنسبة للترجمة أولاً، وبالنسبة لِما قد يطرأ على بعض العبارات من إيضاحات تتطلبها عوامل الزمان والمكان واختلاف البيئة والأشخاص عما كان في زمن المسيح. فيقتضي، والحالة هذه، أن نفسر بعض الأشياء، زيادة في روعة الرسالة المسيحية وقدسيتها.

الأصحاح الأول


١ «كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ دَاوُدَ ٱبْنِ إِبْرَاهِيمَ».
لوقا ٣: ٢٣ ومزمور ١٣٢: ١١ وإشعياء ١١: ١ وإرميا ٢٣: ٥ و٢٢: ٤٢ ويوحنا ٧: ٤٢ وأعمال ٢: ٣٠ و١٣: ٢٣ ورومية ١: ٣ وتكوين ١٢: ٣ و٢٢: ١٨ وغلاطية ٣: ١٦
كِتَابُ مِيلاَدِ أي جدول نسب. واستعمال «كتاب ميلاد» بهذا المعنى اصطلاح عبري كما في تكوين ٥: ١. وتاريخ نسب المسيح من جهة ناسوته مجموع في عدد ١ - ١٧ من هذا الأصحاح. وكان اليهود يهتمون للغاية في حفظ كتب مواليدهم. ولا ريب في أن هذا الكتاب نُقِل عن الأنساب العائلية العامة. وبعد نقله بست وستين سنة هُدمت مدينة أورشليم والهيكل، وفُقدت كل كتب المواليد اليهودية. فلو وُلد المسيح بعد ذلك الوقت لكان إثبات تسلسله من داود حسب الوعد في العهد القديم من الأمور المستحيلة. راجع عزرا ٢: ٦٢ من اعتبار اليهود لهذه الجداول.
وفي الإنجيل جدولان لأسلاف المسيح من جهة ناسوته، كتب متّى أحدهما وكتب الآخر لوقا. والأول يبدأ من إبراهيم، لأن متّى كتب لليهود. ويبدأ لوقا من آدم أبي البشر كلهم لأن لوقا كتب للذين هم أمم أصلاً. فيسوع المسيح متسلسل من إبراهيم وداود ومريم بحسب الناسوت، وهو ابن الله الأزلي بحسب اللاهوت. واقتصر يوحنا على ذكر نسبه الإلهي. ومع أن جدولي متّى ولوقا ينتهيان في يوسف، إلا أنهما يختلفان، لأن الواحد يذكر أن يوسف ابن يعقوب، والآخر يذكر أنه ابن هالي.
فمن جهة هذا الخلاف الظاهر نقول إن متّى كتب لليهود الذين كانوا يعتبرون أن جدول الذكور هو الجدول الشرعي، فاضطُر متّى أن يثبت تسلسله الشرعي، وذكر جدول أسلاف يوسف. وبما أن لوقا كتب للأمم فقد ذكر النسب الحقيقي، أي التسلسل من هالي أبي مريم أم يسوع فصاعداً، وهذا هو الأرجح. فجدول متّى هو الشرعي، لأنه اعتمد فيه على الأغلب على الترجمة السبعينية، وجدول لوقا هو الجدول الحقيقي.
ويهمل متّى في جدوله أشخاصاً كانوا في السلسلة، ولا ندري سبب هذا. الأرجح أنه كان مفهوماً في وقته. فنقل متّى هذا الجدول كما وجده في الجداول الشرعية، ولم يعترض عليه أحدٌ من اليهود أو المؤلفين الأوَّلين الذين أنكروا دعوى المسيح بتسلسله من داود. فكانت نسبته إلى داود أمراً مسلَّماً به عند الجميع. ولم يقدر الذين رفضوا الإيمان بالمسيح أن ينكروا نسبته إلى داود بدعوى عدم كمال الجدول. ولو أن هذا كان الحال لما تأخروا عن الطعن فيه.
لقد أكمل متّى غايته تماماً، وقدَّم البينات المقنعة على أن يسوع شرعاً وحقيقة ابن إبراهيم وابن داود. ولم يكن من قصده أن يجاوب كل المسائل المتعلقة بهذا الجدول.
يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ في اجتماع هذين الاسمين فحوى الإنجيل كله، وهو الإعلان أن يسوع هو المسيح الموعود، وإثبات ذلك هو غاية هذه البشارة.
يَسُوعَ الاسم الإنساني للمسيح (انظر ع ٢١). وهي تشبه كلمة يشوع في العبراني، ومعناها مخلِّص.
ٱلْمَسِيحِ أي الممسوح، وهو لقب وظيفته. وكان الذين يُمسحون في النظام الموسوي ثلاثة أنواع: الأنبياء (١ملوك ١٩: ١٦) والكهنة (لاويين ٤: ٣) والملوك (١صموئيل ٢٤: ٧، ١١). وقد اجتمعت هذه الوظائف الثلاث في المسيح، فمُسح نبياً وكاهناً وملكاً لنا. وكانت المسحة رمزاً للتأثير الإلهي الذي جعله استعداداً لإتمام عمله، وعلامة سلطانه على ممارسة وظيفته.
ٱبْنِ دَاوُد أي داود الملك (ع ٦) حسب النبوات. ومن داود تسلسل المولود ملك اليهود (متّى ٢: ٢). وكان هذا الاسم أكثر استعمالاً للدلالة على المسيح المنتظر (متّى ٢٢: ٤٢ و٢١: ٩، ١٥ و٢٢ و٢٠: ٣٠) بناءً على مثل النبوة في إشعياء ٩: ٧ و١١: ١ ومزمور ١٣٣: ١١، ١٧ وإرميا ٢٣: ٥.
ٱبْنِ إِبْرَاهِيم قد اتضحت نسبته إلى إبراهيم لأن المواعيد به كانت لإبراهيم ولنسله تكوين ١٢: ٣ و٢٢: ١٨ وغلاطية ٣: ١٦. وقد تمت كلها جلياً في يسوع.
٢ «إِبْرَاهِيمُ وَلَدَ إِسْحَاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ».
تكوين ٢١: ٢، ٣ و٢٥: ٢٦ و٢٩: ٣٥
تُرك من هذا الجدول اسما إسماعيل وعيسو، لأنه لا دخل لهما في السلسلة المقصودة، وهما خارجان عن العهد مع إبراهيم بدليل قوله «بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» (تكوين ٢١: ١٢). وذكر «إخوة يهوذا» لأن جميع الذين تسلسل منهم المسيح اشتركوا في انتظاره.
٣ «وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارَصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ».
تكوين ٣٨: ٢٧ الخ ، راعوث ٤: ١٨ الخ و١أخبار ٢: ٥، ٩ الخ
زَارَحَ هذا الاسم ليس في سلسلة المسيح وإنما ذُكر وفقاً للجدول الذي في ١أخبار ٢: ٤.
ثَامَار يندر ذكر أسماء النساء في جداول أنساب اليهود، فمثال ذكره في تكوين ٢٥: ١ و٣٦: ١٠، ٢٢ و١أخبار ٢: ١٨، ٤٩. وورود اسم ثامار في الجدول الذي في ١أخبار ٢: ٤، وفي مباركة العرس في راعوث ٤: ١٢. وغاية ذكرها كذكر راحاب وبثشبع المقصودة من قوله «التي لأوريا» هدم كبرياء اليهود، وإظهار استقلال الله في «وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى... لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ» (١كورنثوس ١: ٢٨ و٢٩).
٤ «وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ».
َنَحْشُونَ هو أخو أليشع امرأة هارون، وهو رئيس بيت يهوذا. عدد ١: ٧ و٢: ٣ و١أخبار ٢: ١٠
٥ «وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى».
رَاحَاب ذُكرَت في يشوع ٢: ١ ولم تذكر تواريخ العهد القديم خبر زواجها بسلمون. ويُحتمل أن سبب ذلك هو أنه حين كتابة هذه الجداول كان ذكر امرأة كنعانيَّة بين أسلاف الأمَّة المختارة يُعدُّ عاراً. وقد ظنَّ البعض أن سلمون هو أحد الجاسوسين اللذين خبأتهما على السطح. وفي يعقوب ٢: ٢٥ يُذكر اسمها مقروناً بالاحترام. وذُكرَت بين نسل إبراهيم لسبب إيمانها (عبرانيين ١١: ٣١).
بُوعَزَ السلسلة هنا كما وردت في راعوث ٤: ٢١ ويحتمل أن زواج سلمون من راحاب مهَّد السبيل إلى زواج ابني نعمة من امرأتين موآبيتين، وزواج بوعز من راعوث. ولنا مما ذُكر في أعمال ١٣: ٢٠ أنه مضت ٤٥٠ سنة بين راحاب وداود. ولكن رغم طول هذه المدة لم تُذكر إلا أربعة أجيال، فقال البعض إن بعض الأجيال تُركت لأسباب مجهولة عندنا. ولعلَّ هذا الظن في محلهِ.
٦، ٧ «٦ وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ ٱلْمَلِكَ. وَدَاوُدُ ٱلْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ ٱلَّتِي لأُورِيَّا. ٧ وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحُبْعَامَ. وَرَحُبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا».
١صموئيل ١٦: ١ و١٧: ١٢ ، ٢صموئيل ١٢: ٢٤ ، ١أخبار ٣: ١٠
دَاوُدَ ٱلْمَلِكَ ذُكر لقبه لأنه أعظم ملوك اليهود ورمز للملك يسوع.
ٱلَّتِي لأُورِيَّا لم يكن من العادة أن تُذكر أسماء النساء، فذِكر هذه ومثيلاتها له معنى خاص. وذكر هنا: راحاب وراعوث وبثشبع. وما أعظم التفاوت بينهنَّ. والتي لأوريا تعني بثشبع (٢صموئيل ١١: ١) وهذه كانت شريكة داود في خطيته، ولا بدَّ أنها اشتركت معهُ في توبته. وقصد متّى من ذكر اسمها هنا أنه كما أنها لم تُرفض من سلسلة أسلاف المسيح، كذلك لا تكون مرفوضة من الاشتراك مع المسيح في ملكوته. وكذلك كل من أخطأ مثلها وتاب.
٨ «وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا».
يورام ولد عزيا: استولى على العرش ثلاثة ملوك بين هذين الملكين، هم أخزيا ويوآش وأمصيا. وقد أُهملت أسماؤهم من الجدول، لا سهواً من متّى، ولا لزيادة شرهم، لأن يكنيا الذي ذكره لم يكن أقل شراً منهم. بل أُهملوا لأنهم تُركوا من الجدول الأصلي الذي نُقل عنه، أو لأن أسماءهم كانت معلومة لعامة الناس، وأراد أن يجعل القسم الأول أربعة عشر جيلاً مثل القسمين الأخيرين. فنرى من ذلك أن المقصود بكلمة «ولد» ليس المعنى الحرفي، بل الدلالة على التسلسل.
٩ - ١١ «٩ وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حَزَقِيَّا. ١٠ وَحَزَقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. ١١ وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ».
٢ملوك ٢٠: ٢١ و١أخبار ٣: ١٣، ١٥، ١٦ و٢ملوك ٢٤: ١٤ - ١٦ و٢٥: ١١ و٢أخبار ٣٦: ١٠، ٢٠ وإرميا ٢٧: ٢٠ و٣٩: ٩ و٥٢: ١١، ١٥، ٢٨ - ٣٠ ودانيال ١: ٢
وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا أهمل هنا اسم يهوياقيم ابن يوشيا (١أخبار ٣: ١٥) وهو ابن يهوياكين (٢ملوك ٢٣: ٣٤). ويُسمَّى أيضاً ألياقيم ولعل سبب الإهمال أن بسببه فقدت المملكة استقلالها (٢ملوك ٢٤: ٤، ١٠).
عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ أي قرب ذلك الزمان أي سنة ٥٨٨ ق.م ولا يمكن تعيين الوقت بالتدقيق لأن اليهود سُبوا مرات عديدة، والمدة بين السبي الأول والآخر ليست أقل من عشرين سنة.
١٢ «وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ».
١أخبار ٣: ١٧، ١٩ وعزرا ٣: ٢ و٥: ٢ ونحميا ١٢: ١ وحجّي ١: ١
يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ ويُسمَّى أيضاً كونيا. وأما قول إرميا في ٢٢: ٣٠ «اكْتُبُوا هذَا الرَّجُلَ عَقِيمًا» فمعناه أنه لا يُترَك من نسله من يتولى المُلك، بدليل قوله بعد ذلك «لاَ يَنْجَحُ مِنْ نَسْلِهِ أَحَدٌ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ» ونتحقق ذلك مما جاء في أخبار أيام الأول من أنه «ابْنَا يَكُنْيَا: أَسِّيرُ وَشَأَلْتِئِيلُ ابْنُهُ» (١أيام ٣: ١٧ - ١٩).
وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ جاء في ١أخبار ٣: ١٩ أن زربَّابل هو ابن فدايا أخي شألتئيل، وشرح الأمر أن زربابل هذا هو غير ذاك، أو أن شألتئيل أقام نسلاً شرعياً لأخيه الذي مات بلا نسل.
١٣ - ١٦ «١٣ وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. ١٤ وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. ١٥ وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. ١٦ وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ ٱلَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ».
يوسف هو أبو يسوع الشرعي، وقد قال لوقا إنه ابن هالي (متّى ٣: ٢٣). والمحتمل أنه كان صهر هالي أو ابنهُ بالتبني أو كليهما، وهو الأرجح.
وظل متّى يقول فلان ولد فلان إلى أن وصل إلى يوسف. وحينئذ لم يقل «يوسف ولد يسوع» بل «يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ» (متّى ١: ١٦). وبذلك أثبت أن يسوع من نسل داود ليس بحسب الشريعة فقط (أي بأن يوسف حُسِب أباه في تلك السلسلة) بل بتسلسلهِ الحقيقي من داود بواسطة مريم أمه.
إن سرَّ ولادة فادينا من عذراء لم يُفهَم دفعة واحدة، بل بالتدريج. فكانت الحاجة ماسةً إلى ما يدرأ عنه العار مدة بقاء ذلك السر مكتوماً. فكان الاحتياج شديداً إلى ستر الزواج المكرَّم. ولهذا كان وجود جدول يوسف المحسوب أباه، وهو أبوه الشرعي رجل مريم، ضرورياً جداً. وقد ظنَّ الأكثرون أن مريم كان يتيمة، وكان يوسف وصياً عليها بناءً على عدم ذكر والديها.
١٧ «فَجَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى ٱلْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً».
قسم متّى الأجيال التي بين إبراهيم ويسوع إلى ثلاثة أقسام، في كل قسم منها ١٤ جيلاً، تسهيلاً لتذكُّرها في زمنٍ ندر فيه وجود الكتب والجداول. وليجعل عدد أجيال القسم الثاني ١٤ جيلاً كرَّر اسم داود مرتين. فذكره في آخر القسم الأول وفي بدء القسم الثاني كما ترى في هذا الجدول:
١ إبراهيم ١ داود ١ يكنيا
٢ إسحاق ٢ سليمان ٢ شألتئيل
٣ يعقوب ٣ رحبعام ٣ زربابل
٤ يهوذا ٤ أبيّا ٤ أبيهود
٥ فارض ٥ آسا ٥ ألياقيم
٦ حضرون ٦ يهوشافاط ٦ عازور
٧ آرام ٧ يوررام ٧ صادوق
٨ عميناداب ٨ عزيا ٨ أخيم
٩ نحشون ٩ يوئام ٩ أليهود
١٠ سلمون ١٠ آحاز ١٠ أليعازر
١١ يوعز ١١ حزقيا ١١ متّان
١٢ عوبيد ١٢ منسى ١٢ يعقوب
١٣ يسى ١٣ أمون ١٣ يوسف
١٤ داود ١٤ يوشيا ١٤ يسوع



وظنَّ البعض أن متّى قسم الجدول إلى أقسام كل منها أربعة عشر لأن الأربعة عشر ضعفي السبعة، والسبعة عدد مقدَّس. وقد أهمل بعض الأسماء ليتمكن من هذا التقسيم. وليست الغاية من الجدول ذكر كل حلقات السلسلة، بل ذكر ما يكفي منها ليبرهن أن يسوع بحسب ناسوته ابن داود شرعاً وحقيقة. وانتظار اليهود أن المسيح يولد من بينهم كان السبب الوحيد لذلك الأمر الغريب، وهو حفظ الجداول تماماً نحو ألفي سنة.
والأقسام الثلاثة التي ذكرها متّى من الأسماء تقترن بالأقسام الثلاثة العظمى في تاريخ الأُمَّة اليهودية. ففي مدة الأربعة عشر جيلاً الأولى كانت الأمة تحت حكم القضاة والأنبياء، وفي الثانية كانت تحت حكم الملوك، وفي الثالثة تحت حكم الولاة المكابيين. وقد بلغت الأمة ذروة مجدها في نهاية المدة الأولى تحت رئاسة داود، وانحطت إلى درجة دنيئة بالسبي إلى بابل في نهاية المدة الثانية، ثم عادت فبلغت مجدها السابق في نهاية المدة الثالثة بمجيء المسيح. وابتدأت المدة الأولى من إبراهيم صاحب الوعد وانتهت بداود الذي كرر الوعد له بأشد وضوح. وابتدأت الثانية ببناء الهيكل وانتهت بهدمه. وابتدأت الثالثة بنجاة الأُمَّة من السبي الزمني وانتهت بظهور من ينجيها وينجي كل البشر من السبي الروحي.
ملاحظات على نسب المسيح



  • نرى مما تقدَّم صِدق الله في حفظ وعده، فقد وعد قبل ذلك بألفي سنة أَنَّه بنسل إبراهيم تتبارك كل قبائل الأرض. وهذا يتضمَّن قيام مخلِّص من بيت داود. وقد تبرهن مما سبق أن يسوع كان ابن داود وابن إبراهيم، فيكون قد تم وعد الله، ولم تعقه شيخوخة إبراهيم ولا عقم سارة، ولا عبودية نسله في مصر، ولا كفرهم في البريَّة، ولا خطية داود ولا خطايا الملوك الذين خلفوه، ولا سبي الشعب بعد انحطاط مملكتهم. فالله يتمم وعده ووعيده، وإن أبطأ. فقد قصد وامتحن إيمان شعبهِ اليوم كما امتحن إيمان شعبه اليهود في أمر مجيء المسيح.
  • تنازل ربنا ورحمتُه، فعندما نقرأ أسماء أسلاف المسيح نجد بينهم من ارتكب خطايا فظيعة، ولا تنازل مثل تنازل من رضي أن يولد وهو ابن الله من امرأة، متخذاً صورة جسد خاطئ (رومية ٨: ٣).
  • شفقة يسوع واستعدادهُ لقبول التائبين مهما كانت خطاياهم، لأنه إن كان لم يستحِ أن يُحسب من نسل خطاة كبعض هؤلاء، فلا يستحي أن يعترف أنه أخ ومخلِّص لمذنبين آخرين، إن رجعوا إليه تائبين.
  • وجود مثل راحاب وراعوث اللتين ليستا من نسل إسرائيل في نسب المسيح، يبين أنه مخلِّصٌ لليهود والأمم معاً.
  • عدم تعرُّض متّى ولوقا لبيان سبب الفرق بين جدوليهما، يبرهن أنه لم يقف أحدهما على كتابة الآخر، ولا على إنجيل آخر أقدم مما كتباه، ليكونا قد اقتبسا منه.
  • هذا الجدول الذي نُقل عن كتب اليهود بأمر الروح القدس يثبت لنا حقائق واجبة التصديق، فهو يثبت حقيقة جوهرية تقدمت في افتتاح الإنجيل، وهي تجسد المسيح، أي اتحاد طبيعته الإلهية والبشرية وسلطانه بالوراثة عن داود. فلا يظن أحد أن لا قيمة لهذا الجزء من الإنجيل.


١٨ «أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَكَانَتْ هٰكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
لوقا ١: ٢٧، ٣٥
كان يسوع آدم الثاني ومخلص العالم، فوجب ألاَّ يولد كما يولد بقيَّة الناس، فلذلك وُلد من عذراء بقوة الروح القدس (لوقا ١: ٣٥). ووُلد من عذراء ليولد بلا خطية، ومن مخطوبة ليكون اسمها محفوظاً من التهم إذ تجد الحماية من خطيبها، وليكون الزواج مكرَّماً.
مَخْطُوبَةً كانت المدَّة بين الخطبة والزواج وقتئذٍ سنةً على الأغلب، ولكن كان يمكن تطويلها أو تقصيرها كما تقتضي الأحوال. وكانت هذه المدة تمر على البنت وهي في بيت أبيها (تثنية ٢٠: ٧). وكان عدم أمانتها في خلال تلك المدة يُعد زناً يوجب القصاص. وإذا أبى خطيبها أن يُتمم وعدهُ كان عليه أن يسلمها كتاب طلاق حسب سنَّة الطلاق بعد الزواج.
وُجِدَتْ حُبْلَى يُرجح أن يكون ذلك بعد رجوعها من زيارتها لأليصابات بنحو ثلاثة أشهر (لوقا ١: ٣٩). ومعنى ذلك أن أمرها ظهر لها وليوسف، ويُحتمل أن آخرين عرفوا ذلك، أخبرتهم هي به.
مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ هذا هو الحق، ولكن يوسف وأصحابه لم يعرفوه وقتئذٍ.
١٩ «فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارّاً، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً».
تثنية ٢٤: ١
رَجُلُهَا أي خطيبها حسب اصطلاح اليهود زمن الخطبة، لأن الخطيب كان يُحسب عندهم كالزوج.
بَارّاً أي عادلاً يعمل ما هو مستقيم. لأنه لو حكم بظاهر الأمر لكان ظالماً. لكنه كان باراً فلم يحكم عليها بدون أن يعطيها فرصة لتبرر نفسها، دون أن يغض الطرف عن ظواهر الأمر.
وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا أي أنه لم يرد أن يشتكي عليها للحكام ويعرضها للاحتقار والرجم كزانية (تثنية ٢٢: ٢٣، ٢٤) مع احتمال براءتها.
تخليتها: كان له حق بذلك بإعطائه إياها كتاب طلاقٍ حسب ما قيل في تثنية ٢٤: ١.
٢٠ «وَلٰكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هٰذِهِ ٱلأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: يَا يُوسُفُ ٱبْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتَكَ، لأَنَّ ٱلَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
لوقا ١: ٣٥
وفِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ لم يفعل شيئاً بالطيش والغضب بل فكر بتؤدة كيف يتصرَّف. والله ينير عقول جميع الذين يحبون معرفة واجباتهم.
مَلاَكُ ذُكر اسم الملاك الذي أُرسل إلى مريم وهو جبرائيل، ولم يُذكر اسم الذي ظهر ليوسف. وكان الملائكة الذين هم أرواح للخدمة يظهرون قبل المسيح للناس ليعلنوا إرادة الله.
فِي حُلْمٍ ظهر الملاك لمريم في اليقظة، لأن تسليم إرادتها وإظهار إيمانها كانا ضروريين في الأمر المُعلن لها. وظهر ليوسف في الحلم، لأنه كان محتاجاً لقبول الإعلان بالإيمان. وهذه هي الطريقة المعتادة التي عليها كان الله يُظهر إرادته للأنبياء الأقدمين ولشعبه. ولكن بعد ما أتى المسيح وحلَّ الروح القدس لم يبقَ احتياج إلى ظهور الملائكة. ولا نستطيع أن نعرف بأي طريقة كانوا يميزون بين الأحلام التي من الله والأحلام المعتادة. والقول بأن الله يُعلن إرادته الآن في الأحلام وهمٌ محض.
يُوسُفُ ٱبْنَ دَاوُدَ بتسميته «ابن داود» تذكيرٌ بمواعيد الله لداود من جهة المسيح، وتهيئة لقلبه لينتظر إتمامها بواسطة خطيبته، وتأكيد له أن ما يأمره به لا يخالف هذا الانتظار.
لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ أي لا تشكّ. وهذا يعلمنا أن الله لا يأتي بشعبه إلى الضيق والشك إلا بعد أن يجهز لهم باب الفرج. فمن تبرير مريم نتعلم أن ذوي الضمائر الصالحة يجب ألا يخافوا، بل يجب أن يتكلوا على الله، وهو يبررهم من كل تهمة باطلة.
مريم امرأتك: تسمية الملاك لها بذلك دلالة على استحقاقها له، وأنها لم تقترف ذنباً يحرمها تلك النسبة.
مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ولادته كانت بقوة الله، فقد صار ابنُ الله ابنَ الإنسان حقيقةً، إلا أنه لم يشترك في الطبيعة الفاسدة التي تعم كل من تسلسل من آدم تسلسلاً طبيعياً. وهكذا صار حَمل الله المُنزَّه عن العيب والدنس ذبيحة لائقة بأن تتقدم عن خطايا الناس.
٢١ «فَسَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ».
لوقا ١: ٣١، أعمال ٤: ١٢ و٥: ٣١ و١٣: ٢٣، ٣٨
يَسُوع أي مخلِّص. لُقِّب المسيح في العهد القديم بألقاب كثيرة، ولكنه لم يلقَّب بيسوع إلا من الملاك جبرائيل عندما بَشَّر أمه به قبلما حبلت به (لوقا ١: ٣١). وهو اسم كان مألوفاً بين اليهود.
يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُم انتظر اليهود مسيحاً ينقذهم من نير استعمار الرومان. أما الملاك فأخبر يوسف بمخلص روحاني ينجيهم من عبودية الخطية وسلطتها ودنسها وقصاصها الهائل، وذلك ببذل حياته فداءً عنهم، وإعطاء روحه لتقديسهم (يوحنا ١٦: ٧، ٨). ولم يقل الملاك إنه «يخلص شعبه وهم في خطاياهم» بل «من خطاياهم». فما دام الإنسان تحت سلطة الخطية لا يمكن أن يكون من شعب المسيح.
يخلص: وحده، بسلطانه المطلق، دون معونة من أحد غيره.
شَعْبَهُ اليهود أولاً (١بطرس ٢: ٩) وبعد ذلك كل من يؤمنون به من كل أمةٍ (أعمال ١٣: ٤٧).
٢٢ «وَهٰذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ».
إشعياء ٧: ١٤
هذه الآية ليست من قول الملاك، بل ملاحظة أضافها متَّى. وقد صار ميلاد المسيح بموجب قصد إلهي أُعلن في نبوَّة، تمَّ بعضها جزئياً في أيام إشعياء، وتمت كلها في أيام المسيح.
٢٣ «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: ٱللّٰهُ مَعَنَا)».
وردت هذه النبوة في إشعياء ٧: ١٤ وأُوحي بها نحو سنة ٧٤٠ ق. م والعبارة منقولة عن الترجمة السبعينية (وهي ترجمة نقلها من العبرانية إلى اليونانية بعض علماء اليهود في الإسكندرية بين سنة ٢٠٠ و٣٠٠ ق.م، وهي النسخة التي غلب استعمال اليهود لها في أيام المسيح، وفي القرون الأولى للكنيسة المسيحية). وظن البعض أن هذه النبوة تمت أولاً في أيام آحاز الملك في ولادة ولد من فتاة كانت حينئذ عذراء لكنها تزوجت فيما بعد، ثم تمَّت ثانياً بأسمى معنى بولادة المسيح. وظنَّ آخرون أن إشعياء لم يُشر إلا إلى يسوع ابن مريم. والرأي الأول هو الأرجح، لأننا رأينا كثيراً أن النبوة الواحدة تمت مرات عديدة.
عِمَّانُوئِيلَ معنى هذا الاسم «الله معنا» وهو يناسب طبيعة المسيح، الذي في شخصه يقف الله مع شعبه، يحميهم ويهديهم ويسوسهم. والأسماء الثلاثة التي هي: «المسيح» أي الكاهن الممسوح، و «عمانوئيل» أي الله معنا، و «يسوع» أي المخلص. وهي تشتمل على التعاليم العظمى في الإنجيل المتعلقة بربنا. فإنه كفارة عن خطايانا في الماضي، ورفيقنا في الحاضر، ومنقذنا من سلطة الخطية وعقابها في المستقبل. ونحن محتاجون إلى مخلِّص يكون إلهاً تاماً وإنساناً تاماً. ولا نجد ذلك إلا في شخص يسوع المسيح، الذي هو الله معنا.
٢٤ «فَلَمَّا ٱسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ ٱلنَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ، وَأَخَذَ ٱمْرَأَتَهُ».
ثبَّت حلمُ يوسف بشارةَ الملاك لمريم، وجعله يتيقَّن عفتها، فذهب شكُّه وتردده في أن يأخذها إلى بيته ويقوم باحتفال العرس العادي، يقدم لها العناية والحماية الواجبة حفظاً لصيتها. ونحن، لننال الاطمئنان الحق في زمن التجربة يجب أن نسلم أنفسنا إلى الله، وهو يقودنا إلى ما به كل خير.
٢٥ «وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ٱبْنَهَا ٱلْبِكْرَ. وَدَعَا ٱسْمَهُ يَسُوعَ».
خروج ١٣: ٢ ولوقا ٢: ٧، ٢١
وَلَمْ يَعْرِفْهَا أي لم يعش معها كزوج. والأمر الجوهري الذي يجب ملاحظته في هذه الآية هو أن مريم بقيت عذراء حتى ولدت ابنها البكر.
وَدَعَا ٱسْمَهُ يَسُوع تعيَّن له هذا الاسم بأمر إلهي (ع ٢١) وسُمي به يوم الختان الذي هو اليوم الثامن من ميلاده.


الأصحاح الثاني


١ «وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ٱلْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ».
لوقا ٢: ٤ - ٧ ، تكوين ١٠: ٣٠ و٢٥: ٦ و١ملوك ٤: ٣٠
وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ حدثت الحوادث المذكورة هنا بعد زيارة الرعاة، والإتيان بالطفل إلى الهيكل، لأنه بعدما هاجت وساوس هيرودس لم يعد ممكناً ليوسف ومريم أن يأتيا به إلى الهيكل آمنين. وكانت نتيجة هذه الوساوس أن أمر هيرودس بقتل أطفال بيت لحم، فهربت العائلة المقدسة إلى مصر. ثم ذكر متّى الرجوع إلى الناصرة بدلاً من الرجوع إلى بيت لحم، وقصَّ بالاختصار حوادث أخرى تتعلق بميلاد المسيح (ذُكرت مفصلة في لوقا ٢: ١ - ٢١) منها خبر ولادته، وسكنى مريم ويوسف قبلاً في الناصرة. فإن متّى اقتصر على توضيح يُثبت أن يسوع هو المسيح. من ذلك إتيان نوَّاب من العالم الوثني ليؤدّوا له السجود باعتباره ملك اليهود. وقد ذكر الرحالة «ماركو بولو» عن قرية فارسية يدَّعي أهلُها أن المجوس خرجوا منها وجاءوا إلى اليهودية.
بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّة ضيعة صغيرة في الجنوب الغربي من أورشليم، وتبعد عنها نحو ثمانية كيلومترات. ظنَّ بعضهم أنها سُمِّيت بذلك لخصب أرضها. وأُضيفت إلى اليهودية تمييزاً بينها وبين بيت لحم أُخرى في الجليل (يشوع ١٩: ١٥). وسُميت بيت لحم اليهودية أفراتة (تكوين ٣٥: ٩، ميخا ٥: ٢) وسميت مدينة داود (لوقا ٢: ٤) لأن داود وُلد فيها (راعوث ١: ١ - ١٩). وقد أشار النبي ميخا إلى الفرق بين حقارتها وعظمتها (ميخا ٥: ٢) وهو ما اقتبسه الكتبة في جوابهم على هيرودس (متّى ٢: ٦).
وقد جاء يوسف ومريم إلى بيت لحم وقت الاكتتاب طاعةً لأمر أوغسطس قيصر (لوقا ٢: ٢ - ٧).
مَجُوس ويمكن إبدالها بالمنجِّمين. أُطلِق هذا الاسم أولاً على بعض كهنة بين مادي وفارس كانوا قد عكفوا على درس الفلك والطب وعلوم أخرى طبيعية، ثم أُطلق على كل العلماء والفلاسفة في الشرق. وكان دانيال ورفقاؤه منهم (دانيال ٢: ٤٨). وقصد الله بمجيء المجوس تنبيه أفكار اليهود وتهيئة عقولهم لقبول المسيح، وتقوية إيمان ورجاء يوسف ومريم مع أتقياء آخرين بالملك المولود جديداً، وتقديم وسائط النعمة لأولئك المجوس، ولأمم أُخرى تؤمن بالمسيح بمجرد شهادتهم له.
وخبر زيارة المجوس واسطة نعرف به وقت ولادة يسوع، لأنها حدثت قبل موت هيرودس الكبير سنة ٧٥٠ لتأسيس رومية، أي قبل بدء التاريخ المسيحي بأربع سنين. والمرجَّح أن النجم ظهر للمجوس في الوقت الذي وُلد فيه المسيح. وإن كان المقصود من «المشرق» أرض الكلدانيين يكون سفرهم نحو أربعة أشهر (عزرا ٧: ٩). وإن كان من بلاد الفرس فأكثر من ذلك.
هِيرُودُس ويُلقَّب غالباً في التاريخ بـ «الكبير» وهو ابن أنتيباتر الأدومي. كانت عائلته يهوداً دُخلاء، وعُيّن بأمر السناتوس الروماني ملكاً على اليهودية، فملك ٣٧ سنة. كان شجاعاً قوياً مولعاً بإقامة الأبنية الفاخرة، قاسياً غيوراً كثير الوساوس والهواجس، قتل امرأته مريمني وابنيه إسكندر وأرستوبوليس. وقبل وفاته بخمسة أيام قتل ابنه أنتيباتر، وتوفي في سن السبعين. وقبل وفاة هذا الذي عيَّنه الرومان ملكاً وُلد آخر عيَّنه الله ملك اليهود وفقاً للقول «لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (تكوين ٤٩: ١٠). فقد زال حينئذ قضيب السلطة من يهوذا، وصار الوقت لإتيان «شيلون» إذ ملك أوغسطس قيصر إمبراطور روما وخضع له أكثر العالم. وكان الناس وقتها في غاية الأمن والراحة، وامتدَّت اللغة اليونانية حتى صارت لغة الجميع. وصار كل شيء مناسباً لدخول الإنجيل وامتداده.
مِنَ ٱلْمَشْرِقِ قد تعني بلاد العرب أو الفرس أو الكلدانيين، لأنه في كل هذه الأماكن كان مجوس وأُناس ينتظرون مجيء رئيس عظيم أو منقذ.
إِلَى أُورُشَلِيمَ أتوا أورشليم لأنها عاصمة اليهودية والمكان الذي فيه يمكن لهم أن يفحصوا بأكثر تدقيق عن مطلوبهم، أو لأنهم ظنوا أنه فيها يولد المسيح ملك اليهود.
٢ «قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ».
لوقا ٢: ١١ ، عدد ٢٤: ١٧ وإشعياء ٦٠: ٣
قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ؟ يدل قولهم على انتظارهم ملكاً، وهو انتظار مبني إما على نبوَّة دانيال الذائعة بينهم (دانيال ٧: ١٤) وتعليمه الذي كان أثرهُ باقياً بينهم، أو على تعليم اليهود الباقين بينهم منذ سبيهم، أو على نبوَّة بلعام (عدد ٢٤: ١٧) لأن هذا النبي كان من بلاد الشرق (تثنية ٢٣: ٤).
ويظهر من سؤالهم أنه كانوا واثقين بميلاد المسيح، فتجشموا مشاق السفر الطويل. ولا بد أن اعتقادهم لم يكن عن حدس أو ظن، والأغلب أنه كان إلهاماً إلهياً. لأن الذي ألهم بلعام أن ينطق بهذه النبوة الغريبة يقدر أن يلهم هؤلاء المجوس أن يأتوا ويسجدوا له عند ظهوره.
ولا دليل لنا على تعيين عددهم أو أسماءهم أو أنهم ملوك. ولكن نستنتج من هداياهم أنهم كانوا أثرياء. وسهَّلت وفرة معارفهم لهم أن يتكلموا بلغة اليهود، مع أنها تختلف عن لغتهم.
ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ توصَّل كثيرون من الملوك إلى عروشهم بفتوحاتهم وخداعهم ومكرهم، وأما هذا الملك فقد عيَّنه الله ملكاً منذ ولادته.
فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ أي رأوا نجمه وهم في المشرق، فهداهم. ولا نعلم ما هو ذلك النجم، هل سياران مقترنان، أم نجم من ذوات الأذناب، أم نيزك؟ والذي نعلمه أنه كان علامة معينة من الله كالنجم منظراً ليدلهم إلى حيث يولد المسيح. وقد يكون نوراً غير عادي. ولا شكَّ أنهم انتظروا أن يجدوا أهل أورشليم عارفين بولادة المسيح ومسرورين بها.
و من هذا نرى أن الله يهدي الناس إليه بما اعتادوه أو بما يحتاجون إليه، فهدى المجوس بواسطة نجم، وبطرس بصيد السمك، والمرضى بشفاء أمراضهم.
وَأَتَيْنَا لِنَسْجُد لا يدل هذا التعبير دلالة قاطعة على تقديم عبادة دينية، فقد يُقصَد به إكرام سامٍ لملك أو لذي مكانة، بالركوع أو الانطراح على الأرض. ولكن القرينة تدل على أن السجود الذي قدمه المجوس كان أسمى من السجود الذي يقدَّم لملك من البشر. ومنه نرى أن الله يهدي الذين يريدون أن يجدوا المسيح ولو كانوا بعيدين عنه، وكانت معرفته به قليلة. وأن أقرب الناس إلى المسيح قد يجهلونه، وأن البعيدين عنه يطلبونه ويكرمونه ويخدمونه. وعمل المجوس هذا مثال واضح لنا في الاجتهاد الروحي لنقتدي بهم، فما كان أطول سفرهم، وما كان أشد الأتعاب والأخطار التي قاسوها. فعلى المسيحي أن يظهر الغيرة وإنكار الذات في اتباع المسيح كما أظهر هؤلاء.
٣ «فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ ٱضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ».
لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ ٱلْمَلِكُ ٱضْطَرَب بلغ هيرودس في الحال خبر المجوس وسؤالهم، فاضطرب وهو في السبعين من عمره من ولادة طفل. لا بد أنه ظنَّ ذلك الطفل سيكون ملكاً زمنياً. ولعل ضميره بكَّته لأنه قتل امرأته وبعض أولاده، وحصل على المُلك بالظلم وسفك الدماء، فخاف جداً. ونبأ ظهور النجم واعتبار الناس ظهوره علامة لولادة ملك جديد لليهود والاعتقاد أنه حان زمن ظهور المسيح، جعله يخاف من أن ملكه على وشك الانقراض.. ويُحتمل أنه خاف من أن يثور اليهود عليه، رغبةً في ملكهم الجديد، وكرهاً له لأنه أجنبي لا حقَّ له في ميراث الملك.
وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَه ولا سيما أصحابه الملازمون له المشاركون له في الانفعالات. وخاف كل الشعب لأنهم كانوا قد تعبوا من الحروب والفتن وقتل بعضهم ومظالم هيرودس العديدة، وخافوا تولُّد حركات ومذابح جديدة ناتجة عن وساوس الملك. والقول إن «جميع أورشليم» اضطربت لا ينفي وجود مَن فرح بعلامات مجيء المسيح في أورشليم. فقد كان مجيء المسيح الأول لاضطراب الأشرار وفرح الأبرار. وهكذا سيكون مجيئه الثاني.
٤ «فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ ٱلشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ: أَيْنَ يُولَدُ ٱلْمَسِيحُ؟».
٢أخبار ٣٦: ١٤ ، ٢أخبار ٣٤: ١٣ ، ملاخي ٢: ٧
رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ هذا يشمل رئيس الكهنة حينئذ، وجميع الذين بلغوا هذه الرتبة قبله ثم عُزلوا، وكل رؤساء فرق الكهنة وعددها أربع وعشرون ( انظر ٢أخبار ٢٣: ٨ ولوقا ١: ٥).
وَكَتَبَةِ ٱلشَّعْبِ هم خلفاء عزرا، ووظيفتهم نسخ الكتب المقدسة وتفسيرها، وجمع تقاليد اليهود وهم علماء الشعب، ولم يكن غيرهم وغير رؤساء الكهنة أكثر أهلية لإجابة سؤال هيرودس. وكان أكثرهم من حزب الفريسيين، وليس واضحاً إن كانوا من أعضاء مجلس السبعين (السنهدريم).
أَيْنَ يُولَدُ ٱلْمَسِيحُ؟ اتخذ هيرودس سؤال المجوس سؤالاً له. وبهذا أقرَّ أن المسيح موعود به من الله، وتظاهر بالاشتراك مع الآخرين في الرجاء. والظاهر من سؤاله أنه كان يجهل كتب اليهود الدينية. فقد جمع هذا الحشد العظيم ليسألهم سؤالاً يستطيع كلٌّ منهم أن يجيبه عليه. وكانت غايته العظمى من السؤال معرفة المكان الذي عيَّنه الأنبياء مولداً للمسيح لكي يقتله ويطمئن.
٥ «فَقَالُوا لَهُ: فِي بَيْتِ لَحْمِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، لأَنَّهُ هٰكَذَا مَكْتُوبٌ بِٱلنَّبِيِّ».
ميخا ٥: ٢ ويوحنا ٧: ٤٢
فِي بَيْتِ لَحْم وهي قرية جنوب أورشليم وتبعد عنها نحو ثمانية كيلو مترات. ويدل قول اليهود في يوحنا ٧: ٤٢ بعد ذلك بثلاثين سنة أنهم بقوا على هذا الاعتقاد من حيث مكان مولد المسيح. ولا شكَّ أن اليهودية كانت سعيدة بأن يولد المسيح فيها. وأسعد منها القلب الذي يولد هو فيه. ومع أن شرف ولادته الجسدية انحصر في مكان واحد، إلا أن كل نفس تقدر أن تحصل على هذا الشرف روحياً.
لأَنَّهُ هٰكَذَا مَكْتُوبٌ بهذا أظهروا أن كلام النبوة فصل الخطاب الذي ينفي كل شك. وقد عرف هؤلاء الرؤساء حرفية النبوة، ولكنهم جهلوا روحها. فاجتهاد المجوس كان توبيخاً لهم على توانيهم. فقارن جوابهم الآن مع قولهم بعد ذلك «وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (يوحنا ٧: ٢٧).
ٱلنَّبِيِّ هو ميخا، ولم يُذكر متّى اسمه لأنه معلوم للجميع (ميخا ٥: ١، ٢). ونرى مما قيل هنا أنه يمكن أن يعرف العقل الكتاب المقدس معرفة دقيقة، بينما يخلو القلب من النعمة. فما أسرع رؤساء الكهنة في جواب سؤال هيرودس، وما أحسن معرفتهم بالنبوات. ولكن لم يطلبوه في بيت لحم وقتئذٍ، ولم يؤمنوا به بعدئذٍ لما علَّم في أورشليم وصنع عجائب هناك. فما أعظم دينونة الذين يعلمون ولا يعملون!
٦ «وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ ٱلصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ».
رؤيا ٢: ٢٧
ما كُتب هنا هو معنى النبوَّة لا لفظها، وذكر متّى جواب المجلس، ولا يقول إنه نقل كلام النبوة تماماً، فإن فيها نقابل بساطة المكان مع عظمة ما جرى فيه. فولادة المسيح جعلت له إكراماً لم تحصل عليه المدن العظيمة بسلطتها وغناها وبهائها وكثرة سكانها. وولادة عظيم في مكان تجعله شهيراً. ولذلك تخاصمت سبع مدن في آسيا بأن ادَّعى كل منها أن هوميروس وُلد فيها.
ذكر الكتبة جزءاً من نبوءة ميخا، وتركوا جزءاً، هو قوله «ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل». لم يذكروه إما لعدم رغبتهم في أن يوجِّهوا أفكار هيرودس نحو صفة من صفات المسيح المنتظر، أو لأنهم لم يريدوا أن يتأملوا فيه. وقد أوحى الله بهذه النبوة لدينونة عظماء الكهنة بعد ذلك، ولتعزية أتقياء بني إسرائيل، ولتعليم المجوس وبقية الأمم.
٧ «حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ ٱلْمَجُوسَ سِرّاً، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ ٱلنَّجْمِ ٱلَّذِي ظَهَرَ».
حِينَئِذٍ أي حين حصل على الجواب من العلماء. والمرَّجح أنه من حين سمع سؤال المجوس عزم على قتل الولد.
سِرّاً لأنه خجل من أن يظهر مخاوفه علانية، أو لخوفه من أن يحدث شيءٌ يمنع إنجاز قصده الخبيث، أو لظنه أنه إذا أظهر اجتهاداً زائداً في الوقوف على المسألة تتولد الشكوك في أحد منهم فينذر المجوس أقرباء الولد بالخطر. إن الأشرار يحبون كتمان أعمالهم لأن ضمائرهم تجعلهم جبناء.
وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ ٱلنَّجْمِ ليعرف عمر الولد على فرض أن ولادته صارت وقت ظهور النجم، فينفذ قصده الرديء. لقد عرف من علماء اليهود المكان، فأراد أن يعرف من المجوس الزمان.
٨ «ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: ٱذْهَبُوا وَٱفْحَصُوا بِٱلتَّدْقِيقِ عَنِ ٱلصَّبِيِّ، وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ».
أَرْسَلَهُمْ عرف المكان من جواب العلماء فوجه المجوس وأرسلهم ليشاهدوا المسيح عياناً، ويرجعوا ليخبروه، فيحصل على الخبر اليقين بالمسيح الذي هو سبب خوفه. ولكنه تظاهر بالاشتراك معهم في غاية زيارتهم.
ٱفْحَصُوا بِٱلتَّدْقِيق أظهر رغبة كأنه أراد أن يكرم الطفل.
فَأَخْبِرُونِي كانت كل تحرياته ليخدع المجوس الذين كانوا يجهلون هدفه. ولكن خداعه لم يخفَ على الله. وكثيراً ما يتخذ الأشرار الدين ستراً لهم لإجراء مقاصدهم الشريرة، ولكن مهما أظهروا من الحكمة في تدبير الوسائل للحصول على غاياتهم فالله يعرف نواياهم ويحبط مساعيهم.
٩ «فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ ٱلْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا ٱلنَّجْمُ ٱلَّذِي رَأَوْهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ ٱلصَّبِيُّ».
يظهر أن هيرودس دعاهم ليلاً ليكون الأمر مخفيَّاً، وأنهم سافروا بعد مقابلتهم له لأن المسافة لم تكن أكثر من ساعتين. من الغريب أنه لم يرافقهم أحدٌ من بلاط الملك، ولا من الهيكل، ولا من المدينة.
وَإِذَا ٱلنَّجْم إذا حسبناه نوراً عجيباً أي غير عادي بهيئة نجم، سهُل علينا فهم هذا القول. ووقوفه يحتمل أن يكون فوق القرية، أو فوق نفس البيت حيث كان الطفل مضطجعاً. ولا يهدينا اليوم إلى المسيح نجمٌ ماديٌ أبكم بل كلامه (٢بطرس ١: ٩). وكل من يطلب المسيح، الذي هو الطريق والحق والحياة بكل قلبه، يجدهُ. فكان نجم بيت لحم رمزاً للمسيح «كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ» (رؤيا ٢٢: ١٦).
وليس جميع الذين امتازوا بنوال الوسائط الدينيَّة يسبقون غيرهم في تقديم الإكرام للمسيح، فكنا ننتظر أن رؤساء اليهود الدينيين يسبقون الكل إلى بيت لحم عند سماعهم خبر ولادة المسيح. ولكن العكس حدث، فقد أتى الغرباء من بلاد بعيدة لاستقباله، وأولئك لم يذهبوا. فمن هذا نتعلم أنه يجب أن نطلب المسيح ونتبعه ولو كنا وحدنا ولم يتبعنا أحد.
١٠ «فَلَمَّا رَأَوُا ٱلنَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً».
فَلَمَّا رَأَوُا ٱلنَّجْم يظهر من هذا أنهم لم يروه مدَّة، ويحتمل أنه ظهر لهم في بدء سفرهم ليوجِّههم إلى أورشليم، ثم اختفى عنهم.
فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّا هذا يُظهر فرط اجتهادهم في أن يجدوا الولد. وظهور النجم ثانيةً فرَّحهم لأنه كان علامة صدق انتظاراتهم وبلوغ غايتهم، وبرهاناً على الإرشاد الإلهي لهم، علاوة على الإرشاد البشري. وإذا كان فرحهم بالنجم الهادي عظيماً، فكم كان فرحهم أعظم عندما رأوا الطفل الملكي نفسه. فكل علامة إرشاد إلهي فرح للذين يحبون الله، ولا سيما العلامة التي تأتي بهم إلى المسيح. فيجب أن تمتلئ قلوبنا فرحاً عظيماً باهتدائنا إلى المسيح، إذ ليس بدونه طريق إلى الحياة.
١١ «وَأَتَوْا إِلَى ٱلْبَيْتِ، وَرَأَوُا ٱلصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ، فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ، ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً».
مزمور ٧٢: ١٠، إشعياء ٦٠: ٦
ٱلْبَيْت الأرجح أن ذلك ليس المذود الذي وُلد فيه المسيح بل منزلٌ استأجره يوسف ومريم بعد انصراف الجموع التي أتت للاكتتاب.
فَخَرُّوا وَسَجَدُوا يُرجَّح أن ذلك السجود كان أسمى من السجود الذي يقدَّم عادة للملوك. فإنهم لم يقدموا مثل هذا السجود لهيرودس في أورشليم، مع أن جلالته الملكية كانت في غاية العظمة. ولم تجعلهم حالة يوسف ومريم الفقيرة يشكُّون في أهليته لسجودهم، ولم يرتابوا قط مع أنهم شاهدوا فتوراً زائداً في الكتبة ورؤساء الكهنة.
َسَجَدُوا لَه لأنه هو وحده موضوع سجودهم. ولو كان سجودهم للمولود خطأً لكان الله أرشدهم إلى الصواب، كما أرشدهم في أمور أخرى.
فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ أي الصناديق أو الأكياس الحاوية كنوزهم
ذَهَباً يُقدَّم غالباً للملوك وللآلهة.
َلُبَانا صمغ عطر الرائحة يستخرج من شجرة في بلاد العرب والهند، ويستعمل غالباً وقت الذبائح والعبادة الهيكلية (خروج ٣٠: ٨ ولاويين ١٦: ١٢ ورؤيا ١٨: ١٣).
وَمُرّاً صمغ آخر عطر الرائحة مر الطعم، يستخرج من بعض مناجم بلاد العرب والحبش (إشعياء ٢: ١٢ ومزمور ٤٥: ٨)، ويستعمل بخوراً، ويُتخذ منه شراب مسكن للوجع (مرقس ١٥: ٢٣)، ومُصلح لطعم الخمر، ويدخل في مواد تحنيط الموتى (يوحنا ١٩: ٣٩) وفي تركيب نوع من المراهم. وهو غالي الثمن (خروج ٣٠: ٢٣).
فهذه الهدايا كلها ثمينة يليق أن تُهدى إلى الملوك على يد السفراء، فقد قدَّمت ملكة سبا مثل هذه الهدايا لسليمان. وتنبأ إشعياء (٦٠: ٦) بتقديم الذهب واللبان للمسيح. وكان إيمان المجوس عظيماً لأنه قدَّرهم أن يروا مجداً إلهياً في ذلك الطفل وهو على ذراعي مريم في منزلها الفقير. لقد حصلت هذه العائلة المقدسة بعناية الله على لوازم السفر إلى مصر، إذ أرسل الله أجانب وثنيين من بعيد ليقدموها. فعلينا أن نقدم للمسيح أفضل الهدايا: قلوبنا وكل ما لنا.
١٢ «ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، ٱنْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ».
ما أحسن القدوة التي نراها في إيمان المجوس. لقد آمنوا به أولاً قبلما رأوه (والكتبة والفريسيون لم يؤمنوا). وآمنوا به ثانية وهو طفل على ذراعي أمه لا يلوح على وجهه شيءٌ من علامات السلطة الملكية، وسجدوا له كملك وإله. فباتِّباعهم النجم وجدوا المسيح شمس البر ونور العالم. والله يقود جميع الذين يتبعون أقل أشعة من النور الروحاني ليوصِّلهم إلى النور الكامل.
إذ أوحي إليهم في حلم: هذا الحلم كان لجميعهم، أو لواحد منهم أفاد به الآخرَيْن.
أَنْ لاَ يَرْجِعُوا لم تخطر مقاصد هيرودس الخبيثة على بالهم، ولم يكن لهم أدنى معرفة بها حتى أفادهم هذا الحلم. فلولاه لرجعوا وأخبروه بما رأوا، وأرسل حالاً من يقتل الولد. ولا يظهر أنهم وعدوه بالرجوع. ويُرجَّح أن الله حذرهم بهذا الحلم ليلة وصولهم إلى بيت لحم وسجودهم فيها. وفي صباح الغد رجعوا في طريقهم. والموجب لهذه السرعة نجاة الولد من يدي هيرودس الذي كان يشتعل حسداً.
فِي طَرِيقٍ أُخْرَى رجعوا إلى وطنهم بغير مرورٍ بأورشليم. وبعد انصرافهم لا نسمع من أمرهم شيئاً في الإنجيل. ولكن من يقول إن الإله الذي هداهم إلى بيت لحم ليسجدوا للمخلص الطفل في اتضاعه لم يهدِ نفوسهم إلى المدينة السماوية لكي يسجدوا له في مجده وارتفاعه؟
١٣ «َبَعْدَمَا ٱنْصَرَفُوا، إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: قُمْ وَخُذِ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَٱهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ ٱلصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ».
متّى ١: ٢
ذكر متّى وحده حادثة الهروب إلى مصر، لأنه أراد أن يثبت تحقيق إحدى النبوات عن بالمسيح.
إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ لأن يوسف رأس العائلة. وظهوره في الحلم كما سبق وظهر. ولا شك أن المجوس أخبروه بحلمهم، فاستعدَّ ولم يتعجب عندما بلغه الخبر.
ٱهْرُب في هذا إشارة إلى الخطر ووجوب السرعة. إن الله يعرف كل مكر أعدائه وأعداء كنيسته، فقال لسنحاريب «ولكنني عالم بجلوسك وخروجك ودخولك وهيجانك عليَّ» (إشعياء ٣٧: ٢٨). لقد ابتدأت ضيقات المسيح وهو في سريره بعد زمن قصير من ولادته.
إِلَى مِصْرَ لأنها قريبة إليهم، فلا تزيد المسافة إليها عن سفر ثلاثة أيام (نحو ٦٠ ميلاً). ولأنها لم تكن تحت سلطة هيرودس بل تابعة للرومان، ولأن عدداً كبيراً من اليهود كانوا يسكنونها وكان لهم هيكل في مدينة ليونتوبوليس بُني قبل ذلك بنحو ١٦٠ سنة. وفي الإسكندرية التي هي من أمهات مدن مصر تُرجم العهد القديم من العبرانية إلى اليونانية. وكانت مصر ملجأ للناس في ضيقاتهم، فلجأ إليها إبراهيم ثم يعقوب وبنوه، ثم يربعام (١ملوك ١١: ٤٠) ويوحانان ورفقاؤه (إرميا ٤٣: ٧). ولا شك أن يهوداً كثيرين هربوا إليها في زمن هيرودس خوفاً من مظالمه. ولا نعرف المكان الذي استوطنت فيه العائلة المقدسة. ويُظن من التقاليد أنه كان قرب القاهرة.
١٤ « فَقَامَ وَأَخَذَ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَٱنْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ».
فَقَامَ وَأَخَذَ هذا يبرهن ثقة يوسف الكاملة بإعلان الله، وسرعة طاعته، لأنه حالما استيقظ تهيأ للسفر.
ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ ذكر الصبي أولاً إجلالاً له.
لَيْلاً المرجَّح أنه ليلة الرؤيا ذاتها، وكان السفر ليلاً لكيلا يعلم هيرودس. وبما أن يوسف ومريم كانا غريبين في بيت لحم لم يحتاجا إلا إلى استعداد زهيد للسفر.
وَٱنْصَرَف هي نفس الكلمة التي أُسندت إلى المجوس. ولم تُذكر مدَّة سفرهم لأنه لم يكونوا محتاجين إلا لاجتياز الحدود بين اليهودية ومصر فيبلغوا محل الأمان.
١٥ «وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ ٱلرَّبِّ بِٱلنَّبِيِّ: مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ٱبْنِ».
هو ١١: ١
وَكَانَ هُنَاكَ ظهرت طاعة يوسف حينئذ بمكثه في مصر كما ظهرت قبلاً في سفره إليها.
ٱلنَّبِيِّ هوشع ١١: ١. كان هذا القول (١) إشارة إلى بني إسرائيل الذي كان بمنزلة ابن الله (خروج ٤: ٢٢، ٢٣). و(٢) إشارة رمزية إلى المسيح. وبقاء ذلك الشعب مدة في مصر كان رمزاً إلى مكث المسيح هناك، وبه جعل حياته مطابقة لحياة شعبه.
ينسب كتبة العهد الجديد إلى المسيح أكثر نبوات العهد القديم كأنها تمَّت به أكمل إتمام. فإن إسرائيل كان جسداً رأسه المسيح. وكما أن وجود إسرائيل كأُمةٍ ابتدأ وقت الخروج من مصر، هكذا كانت أوائل المسيح الذي كان إسرائيل رمزاً له. إلاَّ أن الأرض التي كانت لليهود أرض تنهُّد وعبودية صارت لملك اليهود المولود جديداً أرض ملجإٍ وراحة. وعين المحبة التي جعلت الله يُخرج إسرائيل من مصر جعلته أيضاً يُخرج يسوع من ذلك المكان. والكلمات التي نطق بها هوشع يصح أن تستعمل من جهة كلٍّ من الحادثتين.
مِنْ مِصْرَ إن لتلك البلاد مقاماً عظيماً في تاريخ شعب الله، فمنها خرج بنو إسرائيل وذلك المخلص الذي كانوا رمزاً إليه. ومنها نشأ التمدن والعلوم، واستعدَّ العالم بها لقبول الإنجيل.
مؤامرة الأشرار باطلة! فعلى قدر ما اجتهد هيرودس في أن يحصل على غايته كانت زيادة العقاب الشديد عليه, ولم تنفعه تلك المؤامرة. إن عناية الله في حفظ محبيه تملأ قلوب المؤمنين فرحاً وتعزية عظيمة، فانظر كيف كانت حال كلٍّ من هيرودس والطفل في بدء هذا الأصحاح، وتأمل كيف بدل الله حال كلِّ من المرتفعين والمتضعين بسرعة.
١٦ «حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ ٱلْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدّاً، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ ٱلصِّبْيَانِ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ٱبْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَبِ ٱلزَّمَانِ ٱلَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ ٱلْمَجُوسِ».
ما ذُكر هنا بدء اضطهادات المسيح التي انتهت بتعليقه على الصليب.
لَمَّا رَأَى رأى عدم رجوعهم إليه.
سَخِرُوا بِه هذا ما اعتبره هيرودس، لا المجوس. وبعدما أكمل متّى نبأ الهرب إلى مصر والبقاء هناك عاد يخبر بأحوال هيرودس بعد رجوع المجوس إلى وطنهم بدون أن يخبروه.
غَضِب لأنه لم يجد الولد، ولأنه أُهين بعدم طاعة المجوس له. وكانت بعض أسباب غضبه سياسية، وبعضها شخصية، وكلها نتيجة شدَّة غيرتِه.
وَقَتَلَ جَمِيعَ ٱلصِّبْيَان فالذي قتل امرأته وبعض أولاده لا يصعب عليه أن يقتل أولاد الآخرين عند احتدام غضبه. وروى عنه يوسيفوس المؤرخ أنه عندما مرض مرضه الأخير جمع إليه كثيرين من وجوه اليهود وأعيانهم وسجنهم في مكان واحد، وأمر بقتلهم ساعة موته لكي تكون مناحة في كل أنحاء المملكة بدل الفرح. ولا يذكر يوسيفوس مذبحة بيت لحم: إما لأن الأمر بها كان سراً لم يبلغ مسامعه، أو لأنه عدَّ ذلك قطرة من بحر أعمال هيرودس الشنيعة. فإن فرضنا عدد سكان بيت لحم ألفين فلا يزيد عدد الذكور الذين لهم من العمر سنتان فما دون عن الثلاثين طفلاً. فلا عجب إذا لم يشر يوسيفوس إلى هذه الحادثة التي جرت قبل كتابة تاريخه بثمانين أو تسعين سنة.
تُخُومِهَا ادخل التخوم تحت الأمر الذي أصدره لكي يوصد كل باب دون نجاة المسيح.
مِنِ ٱبْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ لا نستنتج من هذا أنه قد مضى سنتان من ظهور النجم للمجوس، بل أن هيرودس زاد على الزمان كما زاد على المكان (بقوله تخومها) حتى لا يمكن أن ينجو يسوع بطريقة من الطُرق. وذلك لأنه خاف أن المجوس لم يدققوا في الحساب، أو أن عساكره يخطئون في تقدير عمر الأولاد. وكان يفضِّل خطأه في تكثير عدد القتلى على تقليله.
لاحظ قوة سلطة الغضب، فلا يشفق الغضوب على الأطفال الأبرياء، ولا يهمه حزن أمهاتهم، ولا يبالي بصوت ضميره. وهكذا كل من سلَّم نفسه إلى سلطان الغضب لا يعلم أين مصيره. ويسوع كان رجل الأوجاع منذ طفولته، فهو المخلص الذي نحتاج إليه في ضيقاتنا.
١٧ «حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ».
إرميا ٣١: ١٥
إِرْمِيَا ٣١: ١٥. هذه النبوة منقولة عن الترجمة السبعينية، وهي وفق الأصل معنىً لا لفظاً، أُريد بها أولاً الإشارة إلى سبي بابل، لأن اتخاذ نبوَّة واحدة للدلالة على حادثتين أو أكثر هو وفق عادة العلماء اليهود وكتبة العهد الجديد.
١٨ «صَوْتٌ سُمِعَ فِي ٱلرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ».
ٱلرَّامَةِ قرية على الحدود بين سبطي بنيامين ويهوذا، شمال أورشليم، على بعد ساعتين منها (قضاة ١٩: ١٣). وهي المكان الذي أَخذ إليه نبوزردان الأسرى وقت سبي بابل، وقتل الذين تعينوا للموت، ونقل الباقين للسبي (إرميا ٤٠: ١). وكان ذلك وقت ضيقة عظيمة وحزن شديد للأسرى. فتصوَّر النبي أن راحيل إحدى أمهات إسرائيل التي دفنت بالقرب من بيت لحم (تكوين ٣٥: ١٩) اضطربت في قبرها، وقامت واشتركت في الحزن. فمتَّى يشير إلى حوادث السبي كأنها تكرَّرت ثانية، وكأن راحيل جدَّدت حزنها وبكاءها على الأولاد المقتولين، كما حزنت على الأسرى قبل ذلك بنحو ٦٠٠ سنة. وقد تكون الرامة وطن يوسف الرامي الذي طلب جسد المسيح ليدفنه (متّى ٢٧: ٥٧).
لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ يعني ليسوا أحياء. مات أطفال بيت لحم بضربة كان الغرض منها قتل المسيح، فهم الشهداء الأولون. ولا شكَّ أنه ليست مسرَّة المسيح أن تهلك نفس أحد منهم، فما خسروه على الأرض ربحوه في السماء. وقد مات لأجله في زمن الاضطهاد ألوف من أولاد المسيحيين. ولا نشك في رحمة الله بالمسيح في أن جميع الذين يموتون في الطفولية يخلصون.
١٩ «فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ».
لَمَّا مَاتَ هِيرُودُس المرَّجح أنه مات في أريحا بعد المذبحة بأشهر قليلة، في ربيع سنة ٧٥٠ لبناء رومية، أي ٤ ق م، لأن الناس كانوا يؤرخون من يوم تأسيس رومية ولم يبدأوا الحساب المسيحي إلا بعد المسيح بخمس مئة سنة، فجعلوا السنة الأولى للميلاد سنة ٧٥٤ لتأسيس رومية. فلا عجب إذا وقع خطأ أربع سنين مع طول المدَّة. وملك هيرودس ٣٧ سنة ومات في سن السبعين.
فِي مِصْر حيث قيل له أن يبقى حتى يبلغهُ خبر. فظهور الملاك كان إتماماً للوعد (ع ١٣). ولا نعلم كم بقوا في مصر، والأغلب أن بقاءهم لم يزد عن السنتين، وقد يكون أقل.
٢٠ «قَائِلاً: قُمْ وَخُذِ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ ٱلصَّبِيِّ».
الأمر هنا كالمذكور في ع ١٣ سوى أنه قيل هناك «اهرب» وقيل هنا «اذهب» لأن السفر هنا ليس هرباً بل رجوعاً إلى الوطن.
أَرْضِ إِسْرَائِيلَ إشارة إلى الأرض المقدسة بجملتها.
ٱلَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ ٱلصَّبِيِّ قيل هذا بصيغة الجمع، بمعنى هيرودس ومشيروه الذين رغبوا في مرضاته، أو هيرودس وابنه أنتباتر الذي كان في مثل أخلاق أبيه الفاسدة ومشاركاً في طلب قتل من يدَّعي حق المُلك على إسرائيل، وهو الذي قتله أبوه قبل وفاته بخمسة أيام. أو أن متّى كتب بصيغة الجمع بقصد التعظيم كالعادة في ذكر الملوك.
مات جميع هؤلاء وبقي الصبي حيّاً. وكثيراً ما يبقى المسيحيون المضطهدون ليدوسوا قبور مضطهديهم، فإن للموت سلطاناً على الملوك كما على غيرهم.
قاتل الأطفال مات، وغلبة الأشرار وقتيَّة. أما الرب فباقٍ إلى الأبد. فقد صحَّ القول قديماً «مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيِّ» (متّى ٢: ٢٠) وسيبقى صحيحاً إلى النهاية. تآمر كثيرون على المسيح وديانته ولكن كان كل ذلك عبثاً (مزمور ٢). قوة الأشرار للضرر لا بد أن تنتهي مع نهاية حياتهم القصيرة (أمثال ١٤: ٢٢).
٢١ «فَقَامَ وَأَخَذَ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ».
فَقَام إشارة إلى طاعته للأمر.
٢٢ «وَلٰكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُسَ يَمْلِكُ عَلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ عِوَضاً عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، ٱنْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي ٱلْجَلِيل».
ص ٣: ١٣ ولوقا ٢: ٣٩
لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُس سمع الخبر وهو في الطريق، أو عندما وصل اليهودية. وأرخيلاوس هذا ابن هيرودس الأكبر من امرأته السامرية ملثاسي. وهبه أبوه مملكته ولقبه، ولكن أوغسطس قيصر لم يعترف بذلك إلاَّ جزئياً، فأعطاهُ اليهودية وأدومية والسامرة فقط، وأبى أن يلقبه بملك قبل أن يُظهر ما يجعله مستحقاً لذلك. وانقسمت بقيَّة المملكة بين أخويه فيلبس وأنتيباس. وملك أرخيلاوس سنتين على رأي البعض وتسع سنين على رأي آخرين، ثم دُعي إلى رومية للمحاكمة بسبب قساوته، ونُفي إلى فيان في بلاد الغال حيث مات. فتولى شئون الحكم على اليهودية والٍ روماني.
خَافَ يعني خاف أن أرخيلاوس ينفذ مقاصد أبيه الشريرة، لأنه كان قاسياً مكاراً مثله. وأرسل عساكره في الفصح الأول بعد جلوسه لكي يشتت الجموع في أورشليم، وقتل منهم عدداً لا يقل عن ثلاثة آلاف نفس.
أوحي إليه في حلمٍ: هذه مرة رابعة علَّمه الله بالحلم. وسياق القصة يدل على أن هذا الكلام جواب سؤال.
ٱنْصَرَفَ أي حاد عن الخطأ. فإنه كان يقصد الرجوع إلى اليهودية إلى بيت لحم أو المرور بها. ولعلهُ ظنَّ أن المسيح الذي من سبط يهوذا يسكن في أرض يهوذا، للاعتقاد أنها أكثر قداسة من غيرها ولقربها من الهيكل، فيقدر أن يخالط الكهنة وعلماء الدين.
نَوَاحِي ٱلْجَلِيل هي القسم الشمالي من أرض إسرائيل التي كانت تنقسم إلى ثلاثة أقسام: اليهودية جنوباً، والجليل شمالاً، والسامرة بينهما. فنظراً لبُعد الجليل عن أورشليم، ولكونها تحت رياسة أنتيباس ظهرت ليوسف أنها أكثر أمناً، لأن أخلاق أنتيباس كانت ألطف من أخلاق أرخيلاوس، ولأنه كان بينهما اختلاف فلا خوف أن يسلم أحدهما بطلب الآخر.
وكان سكان الجليل يهوداً مختلطين بالأمم، فحسبهم سائر اليهود أقل شرفاً وطهارة منهم.
٢٣ «وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَـهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلأَنْبِيَاءِ: إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيّاً».
مزمور ٢٢: ٦ و٦٩: ٩ وإشعياء ٥٢: ١٤ و٥٣: ١، ٢ وزكريا ١١: ١٢، ١٣ ويوحنا ١: ٤٥، ٤٦ وأعمال ٢٤: ٥
أَتَى وَسَكَنَ النَاصِرَةُ أي استقر في سكنه السابق. والناصرة بلدة في الجليل قرب سهل يزرعيل (أي مرج ابن عامر). فلا يذكر متّى ما ذكرهُ لوقا من أنها كانت مسكناً لمريم ويوسف سابقاً. ولكن عدم ذكر ذلك لا يبرهن عدمه، لأن تاريخه بدأ بولادة يسوع في بيت لحم، فلم تكن هناك حاجة إلى ذكر ما حدث قبل ذلك. فيسمي متّى الناصرة وطن يسوع (متّى ١٣: ٥٤ و٥٧).
لِكَيْ يَتِمَّ إشارة إلى قصد الله في إتمام النبوة وليس إلى قصد يوسف. وهذه هي النبوة الخامسة التي ذكر متّى أنها تمت بالمسيح.
ٱلأَنْبِيَاءِ بصيغة الجمع لأن الكلام إتمام نبوات كثيرة، وليس كلام نبي واحد.
سَيُدْعَى نَاصِرِيّا هكذا دُعي في أعمال ٢٤: ٦ وفي العنوان على الصليب. وهذه الكلمات ليست بحروفها في نبوات العهد القديم، بل في ما يتضمن معناها، وهو أن المسيح يكون مهاناً ومحتقراً مثل أهل الناصرة. ومن هذه النبوات إشعياء ٥٣ وزكريا ١٢: ١٠ ومما يدل على أن أهل الجليل كانوا محتقرين ما ورد في يوحنا ١: ٤٧ و٤: ٤٦ و٧: ٥٢. فالناصرة لم تكن مشهورة، وكان سكانها أشراراً جهلاء.
ظنَّ البعض النبوءة المذكورة في سفر إشعياء ١١: ١ وهي قوله «ويُخرج قضيب من جذع يسَّى وينبت غصن من أصوله» قد تمت حرفياً بأن تسمَّى المسيح «غصناً» أي «ناصراً» في الأصل العبراني. فيحتمل أن متّى لاحظ الأمرين (أي اسم المكان وحقارته في عيون الجميع) مطابقة النبوءة. ورأى أن كل النبوات التي تشير إلى المسيح كناصري تمت حقيقة ومجازاً.
ع ٢٣: سيرة المسيح في الناصرة مثالٌ لنا في التواضع، فلم يطلب المدن الكبيرة لتكون مسكناً له، بل سكن تلك القرية الحقيرة حيث شبَّ وبقي حتى بلغ الثلاثين من عمره. ولا نعرف إلا القليل من أخبار حياته في هذه المدة. والمرجح أنه اشتغل بالنجارة، وصرف خمسة أسداس حياته في الانفراد ومسكن الفقر. وهذا يعلمنا التواضع والقناعة. فلا يحسن أن يستحي شعب المسيح بالفقر ولا يصعب عليهم تعيير الناس ما دام معلمهم صرف حياته فقيراً وسُمي ناصرياً.
قائمة بأسماء عائلة هيرودس الكبير

الأصحاح الثالث


١ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ».
مرقس ١: ٤، ١٥ ولوقا ٣: ٢، ٣ ويوحنا ١: ٢٨ ويشوع ١٥: ٦١، ٦٢
وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ الأيام التي كان يسوع ساكناً في الناصرة. وهذا لا يدل على مدة معينة لكن المدة بعد الحوادث المذكورة في الأصحاح السابق نحو خمس وعشرين سنة، ولم يحدث أثناءها تغيير في الأحوال، ولم يحفظ من حوادثها إلا واحدة جرت قبل ذلك بثماني عشرة سنة (ذُكرت في لوقا ٢: ٤٢ - ٥٢). وأراد متّى بتلك «الأيام» وقت كان طيباريوس قيصر امبراطوراً في رومية، وبيلاطس والياً خامساً على اليهودية. وسكوت الكتاب عن حوادث هذه المدة يُعلّم الأولاد مُثل الطاعة والإكرام لوالديهم، ويعلمنا جميعاً الصبر والمواظبة على الدرس في استعدادنا لأعمال الحياة.
جَاء أو ظهر. يرجح أنّه حينئذ كان قد بلغ سن الثلاثين. وهو الوقت الشرعي لممارسة الكاهن وظيفته (عد ٤: ٣، ٤٧).
يُوحَنَّا في العبراني «يوحنان» أي عطية الله. ذُكر نبأ ولادته في لوقا ١.ولم يذكر متّى ترجمة يوحنا قبل كرازته، إما لأن ذلك كان معروفاً جيداً عند الذين كتب لهم بشارته، أو لأنه كان غير ضروري للقصد من كتابته. وهو يوحنا ابن زكريا وأليصابات، أكبر من المسيح بستة أشهر، صرف كل زمن حداثته بالسكوت، ولم يُذكر من أمره شيء إلا ما ورد في لوقا ١: ٨٠ «وكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ». فالظاهر أنه صرف وقته بالانفراد ودرس الكتاب المقدس والصلاة والتأمل استعداداً للقيام بأمر وظيفته. وكان من أنسباء أم يسوع (لوقا ١: ٣٦) وذُكرت شهادته ليسوع في يوحنا ١: ٦ - ٨ و١٩ - ٣٧.
ٱلْمَعْمَدَان ذِكر متّى هذا اللقب لأنه كتب للذين يعرفونه به، واعتادوا مشاهدة المعمودية التي كانت مقترنة بكرازته على نوع خاص. ويبين مما ورد في خروج ٢٩: ٤ ولاويين ٨: ٦ و١٤: ٨ و١٥: ٣١، ٣٢ أن التطهيرات بالماء كانت شائعة في النظام الموسوي وعند الأسينيين. وكان اليهود يعمدون المتهودين من الأمم، ولكن كان لمعمودية يوحنا معنى أعظم مما سبقها. فكانت إشارة إلى التوبة ورجاء الغفران. وهي تختلف عن المعمودية المسيحية، لأن تلاميذ يوحنا تعمدوا ثانية عندما آمنوا بالمسيح (أعمال ١٩: ٥). وسؤال الكهنة واللاويين ليوحنا يوحنا ١: ٢٥ يشير إلى أن المعمودية من علامات مجيء المسيح.
يَكْرِزُ ينادي كرسول. كان يوحنا أحد أنبياء العهد القديم. ومضت ٤٠٠ سنة لم يظهر فيها نبي غيره. وهو نبيٌ جمع صفات موسى وإشعياء كناية عن الشريعة والموعد. وهو آخر أنبياء لعهد القديم والأقرب إلى المسيح الذي هو خاتم الشريعة والأنبياء، ولذلك قيل إنه أعظم المولودين من النساء. وهذه المقارنة ليست مبنيَّة على صفات خاصة بل على درجة وظيفته، إذ قد أتى بروح إيليا (لوقا ١: ١٧) فهو سابق المسيح الذي فاقت كرازته كرازة جميع الذين سبقوه. وكانت غايتها تجهيز الناس لقبول المسيح كمخلص لهم من خطاياهم.
فِي البَرِّيَّةِ هذه البرية شرقي أورشليم قرب بحر لوط، تربى فيها يوحنا (لوقا ١: ٨٠). والمشار إليها في لوقا ٣: ٣ بالمنطقة المحيطة بالأردن، وكانت قليلة السكان وأكثرها مراعٍ للمواشي.
ولا نستنتج من عمل يوحنا وجوب التنسك، لأن هذا كان بأمر الله ليوحنا لا من استحسانه. وقد مارس يوحنا الكرازة في البرية ولم يلازم الصمت والبطالة.
٢ «قَائِلاً: تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ».
دانيال ٢: ٤٤
تُوبُوا هذا جوهر كرازته التي كانت تتنوع كتنوع الأحوال والناس الذين يخاطبهم، ولم تكن بتكرار كلمة «توبوا». والتوبة التي أشار إليها لم تكن مجرد الحزن والندامة، بل مع الحزن إصلاح السيرة، وتجديد القلب بالرجوع عن الخطية إلى الله. ومعنى الكلمة في الأصل اليوناني «تغيير الفكر أو القلب» فهي تدل على الإصلاح الكلي للقلب والسلوك. وقد نادى يوحنا بمغفرة الخطايا بواسطة المسيح الآتي قائلاً: قد اقترب الوقت، وأتى زمان التوبة، لأن الفادي مزمع أن يحضر، وبه وحده غفران الخطايا.
كانت مناداته ضرورية لأن بني إسرائيل كانوا قد توغلوا في الفساد، وفي شعائر وعوائد وتقاليد كثيرة، ونسوا وجوب الطاعة الروحية لله. ونادى قبله هذه المناداة عينها ملاخي، آخر الأنبياء (ص ٤، ٥، ٦) وابتدأ يسوع وعظه بها (متّى ٤: ١٧).
ولو أمر يوحنا اليهود بجمع الجيوش والاستعدادات الحربية لاتَّفق تعليمه مع آرائهم وانتظاراتهم في تعليم «سابق المسيح» لأنهم كانوا ينتظرون منقذاً سياسياً يبدد أعداءهم ويرفعهم إلى ذروة الفخار.. ومع أن هذا كان الرأي الغالب بينهم، جاء في أحد كتبهم «إن تاب إسرائيل يوماً واحداً فقط، ففي ساعة يحضر المسيح».
لم يقُل يوحنا، هذا المصلح اليهودي العظيم، شيئاً عن تقديم الذبائح التي تطلبها الشريعة، ولا عن ممارسة الشعائر اليهودية، بل نادى بوجوب عمل روحي قلبي. فالتوبة استعداد ضروري لإتيان المسيح شخصياً، كما أنها استعداد ضروري لإتيانه روحياً إلينا ومكثه في قلوبنا وسكنه فينا.
ٱقْتَرَب اقترب زمن ظهوره، وذلك بناءً على ما حدث، من ولادة يسوع، وقرب زمن إعلان ذاته، وإتمام كل نبوة من نبوات هذا الملكوت.
مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَات أي ملكوت المسيح الروحاني، الذي يُسمى أيضاً ملكوت الله. ويكرر متّى هذه اللفظة ثلاثين مرة في بشارته. ويحتمل أنه نقلها من دانيال ٧: ١٣، ١٤، ٢٧ و٢: ٤٤. ويُسمى ملكوت السماوات لأنه ليس من العالم، فمصدره وصفاته ونتائجه كلها سماوية، ولأن المسيح الملك فيه أتى من السماء. ولكن اليهود ظنوا أنه يكون ملكوتاً أرضياً، ولذلك رفضوا مخلِّصاً متواضعاً. فسمّاه متّى سماوياً ليصلح هذا الخطأ. ولم يسلم الرسل من هذا الخطأ إلا بعد يوم الخمسين.
ولم يقصد يوحنا بذلك ملكوتاً مستقبلياً محضاً، بل ملك المسيح من بدء مجيئه إلى هذه الأرض إلى مجيئه الثاني، وتكميله ملكوته في السماء. فالمقصود به هنا بدء الملكوت، وفي أماكن أخرى نهايته المجيدة. وكانت أكثر آراء يوحنا في هذا الملكوت روحية، ولكن أفكاره لم تخْلُ من آراء اليهود الشائعة في أمر المسيح.
وقد أُقيم هذا الملكوت وبُشِّر به منذ أيام يوحنا إلى الآن، وكل واحد يغتصب نفسه إليه (لوقا ١٦: ١٦). فعلينا أن نصلي «ليأتِ ملكوتك» ليتقدم ملكوت النعمة ويأتي ملكوت المجد.
٣ «فَإِنَّ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ. ٱصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».
إشعياء ٤٠: ٣ ومرقس ١: ٣ ولوقا ٣: ٤ ويوحنا ١: ٢٣ ، لوقا ١: ٧٦
فَإِنَّ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قِيلَ هذه شهادة متّى لكرازة يوحنا الذي أُرسل ليتمم هذه النبوة التي تُنبِّئ بها قبل ذلك بسبع مئة سنة، وهكذا فسرها البشيرون الأربعة، ويوحنا نفسه، وهي مذكورة في إشعياء ٤٠: ٣. فإن كانت تشير جزئياً إلى رجوع بني إسرائيل فقد تمت أعظم إتمام بشخص يوحنا.
صَوْتُ ظن البعض أن يوحنا تسمى بهذا الاسم تمييزاً بينه وبين المسيح الذي هو الكلمة، وظنَّ آخرون أن هذه التسمية تدل على أن حياته كلها صُرفت في المناداة بعد صمت الأنبياء منذ زمن ملاخي.
أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ الرب هنا هو المسيح الآتي وهو إله. وقوله «أعدوا طريق الرب» ترديد للعادة القديمة عند إتيان ملك، فكان يُرسل منادٍ أمامه، يدعو الشعب للاستعداد لقدومه بأن يزيلوا الموانع من الطرق. فمعنى هذه النبوة الروحية: تهيئة قلوب الناس لقبول الملك يسوع، بتوبتهم وتواضعهم وشعورهم بالاحتياج إلى مخلِّص، وبتركهم الخطية والعصيان. فإعداد طريق الرب الآن يكون بإزالة الكبرياء والاتكال على الذات والكفر واليأس. فإن لم تزُل هذه من قلوبنا لا يمكن حلول المسيح فيها.
٤ «وَيُوحَنَّا هٰذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ ٱلإِبِلِ، وَعَلَى حَقَوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً».
٢ملوك ١: ٨ وزكريا ١٣: ٤ ومرقس ١: ٦ ، لاويين ١١: ٢٢، ١صموئيل ١٤: ٢٥، ٢٦
يوحنا يشبه إيليا في ملابسه وعاداته، وكان ذلك موافقاً لوظيفته.
وَبَرِ ٱلإِبِلِ نستنتج من سفر زكريا (١٣: ٤) أن ذلك كان لبس الأنبياء الخاص في العهد القديم، وكانت الثياب المصنوعة منه خشنة ورخيصة يلبسها الفقراء وأهل الحِداد. وكان النبي إيليا يلبس منها (٢ملوك ١: ٨). ويحتمل أن قصد يوحنا بهذا الملبس الإشارة إلى التبكيت والحداد على خطايا إسرائيل، ليرجع ذلك الشعب إلى بساطة الأزمنة القديمة التي كان لبسه وأكله يشيران إليها.
مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْد أي كمنطقة (حزام) إيليا، واختلفت بأنها من جلد، ومناطق غيره التي يرجح أنها كانت ثمينة لدقة صنعها ونفاسة مادتها.
جَرَاداً وهو المعروف لنا، وأجازت الشريعة الموسوية أكله (لاويين ١١: ٢٢). ويأكله الفقراء الآن في بعض البلدان. وأما شراب يوحنا فيُعلم من بشارة لوقا (١: ١٥).
عَسَلاً بَرِّيّا يكثر العسل البري في شقوق الصخور في البرية حيث كان يوحنا مقيماً. فعلى هذا أتى يوحنا «لا يأكل ولا يشرب» أي نذيراً. فلا يكلف غيره بأن يعمل عمله، لأنه كان يعيش بمقتضى وظيفته، وكان كله مثالاً للتوبة.
٥ «حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنِّ».
مرقس ١: ٥ ولوقا ٣: ٧
خَرَج تركوا بيوتهم ليذهبوا إليه في البرية، أي إلى شاطئ الأردن.
أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ ٱلْيَهُودِيَّة أي سكانها. وسمحت له كثرة عددهم أن يقول «كلهم».
ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنّ لعل المقصود السامرة والجليل وعبر الأردن مع اليهودية، لأن اشتهار اسمه كنبي جعل الناس يُقبلون إليه من الأماكن القريبة والبعيدة. وذلك دليل واضح على الانتباه الشديد، والتأثير العظيم الذي أحدثه ظهور يوحنا. وأتى إليه كثيرون من سكان تلك البلدان من أنباء حياته وحال معيشته وتوجيهه الكلام إلى الضمير.
وكان انتباه أفكار الشعب يومئذ عظيماً، وقلوبهم تتأثر من كل شيء غريب وجديد، فلا ريب أن روح الرب أغراهم لسماع هذا الرسول. فكان لهم بذلك دعوتان: دعوة داخلية، ودعوة بفم يوحنا. ودام تيقُّظ الناس وخروجهم إلى البرية مدة لا نعرف مداها.
٦ «وَٱعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي ٱلأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ».
أعمال ١٩: ٤، ١٨
وَٱعْتَمَدُوا كانت هذه المعمودية رمزية تشير إلى التطهير الأخلاقي، واستُعملت قديماً مقرونة بتقديم الذبائح، برهاناً على ارتباط عمل الفداء بعمل التقديس. وقد مارسها يوحنا بأمر إلهي (يوحنا ١: ٣٣) وبذلك لُقب بالمعمدان. وقيل إن اليهود كانوا يمارسونها وقت قبول المتهودين. وفي ممارستهم لهم إشارة إلى عدم طهارة الأُمة اليهودية واحتياجها إلى التطهير بواسطة التوبة، وكانت المعمودية إشارة إليه.
فِي ٱلأُرْدُنّ لا يدل هذا الكلام على كيفية العماد، فلا يظهر منه أن العماد كان بالرش أو بالسكب على الواقف عند ضفتي النهر، أو بتغطيسهم فيه. ولا نجد في كل الإنجيل شيئاً يدل على مقدار الماء المستعمل، أو على كيفية استعماله. والكلمات اليونانية المترجم عنها معناها «غسل رمزي». واجتماع الناس عند الأردن بقصد الاعتماد من يوحنا ليس دليلاً على التغطيس في النهر، فمن الضروري أن يكون ألوف الناس معهم كثير من الماشية بالقرب من نهر، نظراً لقلَّة الينابيع والسواقي في تلك الأماكن. والأمر معلوم أن معموديته ليست المعمودية المسيحية، ولم تكن بدلاً من الختان.
مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ لم تكن معموديتهم مجرد رسم ذي بركة من ذاته أو من قداسة النبي الذي مارسه، بل كانت مقترنة باعتراف عام بالزيغان عن الديانة الأصلية، كأفراد وكأمة، والإقرار بأنهم يستحقون الدينونة التي أعلنها النبي. ويُفهم من قول متّى أن هذا الاعتراف كان علناً لا سراً. ولا حاجة إلى بيان أنه في وقت كهذا تزدحم الجموع فيه لم تكن فرصة للاعتراف الانفرادي. وهذا الاعتراف كان (١) اختياراً لا اضطراراً (٢) لله لا ليوحنا (٣) إجمالاً لا مفصَّلاً (٤) جهاراً لا سراً (٥) اعترافاً بالخطايا التي ارتكبوها قبل المعمودية.
وجوهر الفرق بين معمودية يوحنا والمعمودية المسيحية، هي أن الأولى علامة التوبة على الخطايا، والثانية الإقرار بالمسيح والاعتراف به مخلصاً.
٧ «فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟».
متّى ١٢: ٣٤ و٢٣: ٣٣ ولوقا ٣: ٧ - ٩ ، رومية ٥: ٩ و١تسالونيكي ١: ١٠
فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ رآهم المعمدان يطلبون المعمودية بدون الاستعداد اللازم. فالانتباه الديني لا ينحصر في طائفة واحدة لأنه كان يعمُّ أناساً مختلفين. ومن هذا تظهر شدة تأثير تعليم يوحنا، فإنه وفَّق بين المتخالفين الذين أتوا لمجرد التفرج، أو اقتداءً بغيرهم، أو ليكونوا زعماء هذه الحركة الجديدة إذا نجحت. وعلى كل حال فإنهم أتوا بلا ميل إلى التوبة.
ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ طائفتان كانتا غالب الأحيان في خصام، ولكنهما اتفقتا حينئذ وبعدئذ على مقاومة المسيح. قال يوسيفوس إنهما نشأتا نحو سنة ١٥٠ ق.م. وكان الفريسيون غيورين على حفظ الطقوس اليهودية أحسن حفظ، مع التمسك بتقاليد رؤساء اليهود. ومعنى اسمهم المفروزون. وهو لا يشير إلى أن غايتهم فرز أنفسهم عن بقية اليهود بل عن بقية الشعوب. وكانت ضلالتهم الدينية الاعتبار الفائق لحرف الناموس وإهمال روحه، واحترام للتقاليد وتسليم أنفسهم بذلك للأوهام وللبر الذاتي والرياء وصورة الدين لا حقيقته. وحين كان المسيح على الأرض كان هؤلاء أشد خصومه.
وسُمي الصدوقيون كذلك نسبة إلى صدُّوق رئيسهم. وكانت ديانتهم ديانة الشكوك والكفر واعتماد المبادئ العقلية، ولذلك رفضوا التقاليد. والأرجح أنهم رفضوا بعض أسفار العهد القديم الأخيرة، وأنكروا القيامة وخلود النفس ووجود الملائكة، وتبعوا بعض العوائد الوثنية.
وكان هناك غير هاتين الفرقتين فرقة أخرى غير مذكورة في الإنجيل، وهي جماعة الأسينيين. وكانوا بين اليهود بمثابة الباطنيين في بعض الأديان. مارسوا التطهيرات اليهودية، واعتنقوا الفلسفة اليونانية، وكثيراً ما تمسكوا بالتقشُّفات الجسدية، وتجنبوا مخالطة الناس، وكانوا قليلي العدد والأهمية. وهذا هو سبب عدم ذكرهم في الإنجيل.
أما الفرقتان الأوليان فأظهرتا في بادئ الأمر احتراماً ليوحنا كنبي، ولكن قلَّ اعتبارهم له بعد قليل بسبب مواعظه. ولما نادى بأن يسوع هو المسيح أنكروا نبوَّته وسلطانه فعلاً إن لم يكن قولاً (لوقا ٧: ٣٠ ومتّى ٢١: ٢٥ - ٢٧). والأرجح أن قليلين منهم استفادوا من مجيء المسيح (لوقا ٧: ٣٠ ومتّى ١١: ١٨). وكان بينهم بعض الأتقياء (يوحنا ٣: ١ وأعمال ٥: ٣٥).
أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي نوع من الحيات شديدة الاحتيال والضرر. ولم يستعمل يوحنا هذا الوصف للفريسيين والصدوقيين كراهية واحتقاراً، بل توبيخاً لهم على صفاتهم العامة وعدم إخلاص نواياهم في مجيئهم إليه، وإشارة إلى ضرر تعليمهم الذي هو كالسم الناقع. واستعمل سيدنا هذا الوصف عينه في متّى ٢٣: ٣٣. فالأرجح أن كلامه كان مبنياً على ما قيل في «نسل الحية» (تكوين ٣: ١٥). فمع أنهم أبناء إبراهيم أشبهوا نسل الحية في مقاومتهم «نسل المرأة».
مَنْ أَرَاكُمْ تعجب يوحنا من أن أناساً قساة القلوب مثلهم مرائين، يخافون حتى يتظاهروا بالتوبة ويرغبوا في أن يتَّصفوا بصفاتها.
أَنْ تَهْرُبُوا أي تجتهدوا في أن تهربوا. فبسؤاله هذا يظهر الشكَّ في صدق مقاصدهم، فإن كان ما يدَّعونه صحيحاً فهو يبيِّن لهم أنهم يحتاجون إلى وسائط أكثر فاعلية لنوال غايتهم. فكأنه قال: أي رجاء لمن كان مثلكم؟
ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي أي غضب الله وقصاصه على الخطية. تنبأ ملاخي (٣: ٢ و٤: ٥) بإظهار غضب الله عند إتيان «سابق المسيح» ولذلك انتظر الناس أياماً مضطربة. فسبب خوف الفريسيين والصدوقيين هو من هذه الحركات المنتظرة، لا القصاص على خطاياهم الخاصة. وبولس يستعمل هذه العبارة في ١تسالونيكي ١: ١٠. ومعنى غضب الله هذا نجده في خراب أورشليم، وفي قصاص الخطاة يوم الدين.
٨ « فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ».
فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً أي إن كنتم بالحقيقة هاربين، كما ادَّعيتم، فاعملوا أعمالاً تطابق ذلك. أي توبوا التوبة الحقيقية واتَّقوا الله وانفعوا الناس، ولا تظنوا المعمودية بالماء والإقرار باللسان يجديان نفعاً. فإن العلامة الحقيقية للتوبة هي حياة التقوى، والثمار الجيدة تستلزم شجرة جيدة. لقد كانوا محتاجين إلى ولادة جديدة، لأن تسلسلهم الطبيعي من إبراهيم لا يكفيهم.
٩ «وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْراهِيمَ».
وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُم أي لا تقولوا ولا تظنوا في قلوبكم أن مجرد كون إبراهيم أباكم يفيدكم شيئاً عند الله.
لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبا أي أننا نخلص طبعاً لأننا ورثة حقيقيون لذاك الذي كان له الوعد. هذا كان افتخارهم (يوحنا ٨: ٣٣، ٣٧، ٣٩). فيوحنا لم ينكر نسبتهم إلى إبراهيم، بل أنكر أنها تكفيهم لنوال رضى الله بغضّ النظر عن صفاتهم. وقد تبيَّن استنادهم على هذه النسبة في أحد تقاليدهم وهو أن إبراهيم جالس أمام الباب المؤدي إلى الجحيم فلا يسمح بانحدار أحد نسله المختونين إلى هناك.
ولنا من ذلك أن فضائل الوالدين الأتقياء لا تنفع أولادهم، إلا بشرط أن يقتفي هؤلاء خطوات والديهم. فاستناد البعض الآن على عضويتهم في الكنيسة عبث، كما كان استناد الناس قديماً على عضويتهم في الكنيسة اليهودية. فيجب على كل إنسان بمفرده أن يتوب ويؤمن.
لأَنِّي أَقُولُ لَكُم كان فكر اليهود أن الله ملتزم بتخليص شعبه المختار. ولو أراد رفضهم ما أمكنه ذلك. فقال يوحنا: ولو هلكوا جميعاً لا يكون الله بلا شعب، إذ يمكنه أن يقيم له شعباً مما لا يخطر على بال إنسان أن يكون ذلك منه.
يُقِيمَ أي ينقل من عدم الحياة إلى الحياة بنفس السهولة التي بها صنع آدم من التراب.
مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَة إشارة إلى حجارة حقيقية كانت على الأرض قريبة منه. والمعنى أن الله لا يحتاج إلى اليهود، فيمكنه أن يجدد النسل إذا هلك الأفراد، أو يتخذ أمة أخرى بدلاً من أمتهم. وهنا تلميح إلى إمكانية دعوة الأمم التي صارت فيما بعد بالفعل. فتسلسلنا من الأتقياء لا يفيدنا شيئاً بل يزيد دينونتنا إذا لم تنتج منه طهارة الحياة.
أَوْلاَداً لإِبْراهِيم أعني مستحقين أن يأخذوا اسمه وميراثه والمواعيد المعطاة له ومشابهين إياه روحا (غلاطية ٣: ٢٩).
١٠ «وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّار».
متّى ٧: ١٩ ولوقا ١٣: ٧، ٩ ويوحنا ١٥: ٦
وَٱلآنَ أي ليس في وقت مستقبل أو بعيد، بل في نفس الساعة التي أكلمكم فيها.
وُضِعَتِ ٱلْفَأْس اتخذ اسم آلة معتادة كناية عن الدينونة الإلهية. وقوله «وُضعت» إشارة لقصد الواضع أن يقطع الشجرة فيما بعد. ويحتمل أن يكون المعنى أنه قد بوشر قطعها، أي ابتدأت الدينونة. أو أنها وُضعت بدون استعمال استعداداً لرفعها واستعمالها في أي دقيقة كانت. وفي كل ذلك دلالة على قُرب الخطر منهم لأن الشجرة بلا ثمر. ولا رجاء إلا بالتوبة السريعة.
عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَر يعني بالشجر الناس الذين ينتظر الله منهم ثمراً وهم كل الأمة اليهودية، ولا سيما الذين كان يخاطبهم، أي الفريسيون والصدوقيون ورؤساء الشعب والجماعات التي أتت إلى يوحنا للمعمودية. وقال «أصل الشجر» لأن الأصل المحل الأنسب لقطع الشجرة وملاشاتها بالكلية. فليس المقصود إذاً تهذيب الشجرة، أي قطع بعض أغصانها، إشارة إلى إصلاح بعض العوائد الرديئة والأعمال الخارجية ووقوع القصاص على البعض من الأفراد، بل الشجرة برمتها أي الأمة بأسرها.
ثَمَراً جَيِّدا أي ثمار تليق بالتوبة (ع ٨) «وجيداً» أي صالحاً ومقبولاً لدى الله، ومفيداً لمن يصنعه وللآخرين.
تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّار تُقطع من أصلها حتى لا يبقى منها شيء. وزيدَ «تُلْقَى فِي النَّارِ» (لوقا ٣: ٩) دلالة على هلاك الأشرار، بسبب غضب الله عليهم (ع ٧) وبسبب ضرر الخطية للخاطئ (عبرانيين ١٢: ٢٩).
١١ «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَار».
مرقس ١: ٨ ولوقا ٣: ١٦ ويوحنا ١: ١٥ وأعمال ١: ٥ وإشعياء٤: ٤ و٤٤: ٣ وملاخي ٣: ٢ وأعمال ٢: ٣، ٤ و١كورنثوس ١٢: ١٣
أَنَا أُعَمِّدُكُمْ لم يكن قول يوحنا تهديداً لهم من عنده، ولا بسلطانه، فهو مجرد «سابق للمسيح». إنما الذي سيعاقبهم هو السيد الآتي. وهنا يقارن يوحنا بين خدمته وخدمة المسيح، فيُظهر أنها أقل من خدمة المسيح وأن شخصه دون شخصه في الاعتبار. فمعمودية يوحنا للتوبة كانت خارجية، بينما معمودية المسيح داخلية. ومعمودية يوحنا كانت بالماء إشارة إلى تلك التوبة التي لا يمكنه أن يمنحها، بينما معمودية المسيح كانت بقوة الروح القدس الفعالة المجددة.
ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِ عرف الجميع أن غيره آتٍ بعده، ولو أنهم كانوا يجهلون العلاقة بينهما، وأن ذلك الآتي هو ملاك العهد (ملاخي ٣: ٣).
أَقْوَى مِنِّ أي أقدر منه فعلاً، وأعظم منه شرفاً.
لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَه العلاقة بينهما ليست مجرد علاقة سابق بلاحق أو عبد بسيده، لأن أدنى عبد يمكنه أن يحمل حذاء سيده. وهو يحسب هذه الخدمة التي هي أدنى الخدمات شرفاً لا يستحقه!
فاعتراف يوحنا جهاراً ومراراً بأنه أصغر من المسيح، يرينا أنه كان يقنع سامعيه بأنه ليس المسيح الآتي، وأنه كان يعرف العلاقة الصحيحة بينه وبين المسيح وأنه يعترف بها دوماً، وأنه انتصر على تجربة الافتخار الناتجة عن مدح الناس له. فهو الشخص المناسب ليكون سابقاً للمسيح الوديع والمتواضع القلب. وتواضع يوحنا مثال لكل من يخدمون المسيح. فكلما رفعوا شأن سيدهم يرفعهم سيدهم. والذين يكرمهم الله ليكونوا وسائط لعمل خير جزيل يكونون صغاراً في عيون أنفسهم. والعظمة الحقيقية مقرونة بالتواضع دائماً.
هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ هناك فرق بين أعمالها كما كان بين شخصيهما. وليس الفرق بين المعموديتين في كيفية ممارستهما، بل في أن معمودية المسيح هي معمودية النفوس بقوة روحية وحلول الروح القدس، وليس نتيجتها التوبة وحدها بل أنها مصحوبة بالخلاص. فالتأثير الذي يترتب على مجيء المسيح أعظم من التأثير الذي صار بوعظ يوحنا، وهذا ما حدث يوم الخمسين، واستمر بعد ذلك إلى الآن بأعدادٍ أكبر جداً.
بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُس أي الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس.
وَنَار ليست نار غضب الله (ع ١٢) بل إشارة إلى قوة فاعلية النار في التطهير (إشعياء ٤: ٤ وإرميا ٥: ١٤ وملاخي ٣: ٢). وقد ظهر تأثيرها في أعمال ٢: ١٣. وقد ذكر يوحنا الماء والنار كعلامتين لفعل الروح القدس في النفس.
١٢ «ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى ٱلْمَخْزَنِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأ».
ملاخي ٣: ٣، ٤: ١
ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ الرفش هو الآلة التي يُذرَّى بها الحَبُّ في الهواء لفصله عن التبن. شبَّه يوحنا أمة اليهود بالشجرة التي تُقطع وتُلقى في النار (ع ١٠). وهنا يشبِّههم بتبن أُتلف بنفس الطريقة. إلا أنه لم يقتصر على ذكر الهالكين المعبر عنها بالتبن، فذكر المخلَّصين الذين شبَّههم بالقمح.
وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَه تشير الكلمة اليونانية إلى تنقية البيدر تنقية تامة لا يترك معها شيء منه غير مذرَّى، كناية عن نهاية العمل كله. ويمكن أن يكون القصد من هذا التشبيه الإشارة إلى تأديب الله الناس وقصاصه لهم في هذه الحياة وفي نهاية العالم. ولكنه يشير بالأكثر إلى تعليمه الذي يمتحن به القلوب، وإرسال روحه القدوس ليوقظ الضمائر ويقودها إلى سُبُل التوبة والإصلاح، وإرسال الضيقات، وأخيراً الدينونة. فبكل هذا ينقي الله بيدره تمام التنقية.
يَجْمَع بواسطة ملائكته متّى ٢٥: ٣٢، ٣٣.
قَمْحَهُ دلالة على قيمته، وإشارة إلى المخلَّصين. وإضافة القمح إلى الضمير يشير إلى أنهم خاصته، وثمر تعبه. وأما التبن فلم يقُل إنه تبنُه لأنه بلا قيمة.
إِلَى ٱلْمَخْزَن وهذا يحتمل معنيين: (١) كنيسة المسيح على الأرض (١بطرس ١: ٥). و(٢) السماء.
وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأ التبن هو الأشرار، وإحراقهم أي هلاكهم كلي، ونارهم لا يمكن إطفاؤها. وهذا مجاز يشير إلى حقيقة مخيفة، لأن نيران غضب الله التي تظهر في الدينونة الزمنية هنا لا تزال تحتدم إلى الأبد في جهنم الأبدية (متّى ٢٥: ٤١ و٢تسالونيكي ١: ٨، ٩). ويظهر مما ذُكر أن إرسال المسيح هو للرحمة وللدينونة. فالرحمة للذين يقبلونه، والدينونة للذين يرفضونه.
ومن وعظ يوحنا هنا نرى رداءة الخطية، وضرورية التوبة لخلاص. وتُعرَف التوبة الحقيقية من أثمارها. وعظَّم يوحنا شخص المسيح وعمله كمخلص، ونادى بالروح القدس، وباحتياجنا إلى المعمودية به، وأنذر الأشرار بنهايتهم الرهيبة، وبشَّر المؤمنين الحقيقيين بحسن العاقبة. ويوحنا مثال حسن لنا، لأنه واعظ أمين أنبأ سامعيه بالحق، وبيَّن لهم حقيقتهم، ولم يلتفت إلى شيء من غناهم أو شرفهم أو سطوتهم، وكشف الحجاب عن خطاياهم ونتائجها الهائلة. كما أن يوحنا مثال لنا في التواضع، فلم يفتخر بأن الجماهير أقبلت إليه، بل سُرَّ بأن يعظم شأن المسيح، وبأن يضع كل ما أحرزه من الإكرام عند قدميه.
١٣ «حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى ٱلأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ».
متّى ٢: ٢٢
حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ معمودية يسوع كانت أهم الحوادث التي جرت في خدمة يوحنا، وكانت استعداداً لبدء خدمة المسيح، الذي اعتمد وهو بلا خطية، وبلا حاجة إلى التوبة، ليُظهر خضوعه التام للشريعة، وليكرم يوحنا كنبي وسابق له، وليبين أنه مشترك مع شعبه في كل شيء: في معموديته كما في موته. وأشار بقوله «حينئذ» إلى الوقت الذي فيه كان يوحنا يكرز ويعمد أو (وهو الأرجح) إلى المدة التي مرَّت بين ظهور يوحنا وموته، وهي ثلاث سنين، مضى نصفها ويوحنا في السجن. وقوله «جاء» يشير إلى ظهوره جهاراً على غير انتظار وإلى أنه لم يعتمد خفية (لوقا ٣: ٢١).
مِنَ ٱلْجَلِيل من ناصرة الجليل حيث أقام منذ طفولته (مرقس ١: ٩ ومتّى ٢: ٢٩).
إِلَى ٱلأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا ذكر هنا المكان والشخص اللذين أتى إليهما. فالمكان عند نهر الأردن، لأنه كان لا بدَّ لمثل أولئك الجموع الكثيرة من مياه غزيرة تكفيهم وتكفي مواشيهم. ولا مياه غزيرة في تلك الجهات إلا في الأنهار. ومخرج النهر المذكور من سفح جبل الشيخ، وهو يجري جنوباً ويمر أولاً في مياه ميروم (أي بحيرة الحولة) ثم في بحر الجليل. وبعد تعاريج كثيرة يصب في بحر لوط، حيث يصير طوله مئتي ميل.
لِيَعْتَمِدَ مِنْه الغرض من مجيئه أن يعتمد بمعمودية التوبة، وهو البار. فوضع ذاته تحت الشريعة كجزءٍ من اتِّضاعه، باعتباره فادينا. والذي «أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (إشعياء ٥٣: ١٢) «وجَعَلَ خَطِيَّةً لأَجْلِنَا» (٢كورنثوس ٥: ٢١) «وكان في صورة عبد خاطئ» اقتضى أن يمارس الرسوم والتطهيرات المكلف بها الإنسان.
١٤ «وَلٰكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ».
لٰكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ لم يذكر ذلك من البشيرين الأربعة سوى متّى. وكان منعه له قبل أن يقتنع بكلامه. فيوحنا لم يعتبر معموديته نافعة بذاتها، بل علامة لأمر روحي. وقد تحقق أن يسوع كان بلا خطية، فلا يحتاج إلى المعمودية التي هي علامة التوبة عن الخطية والتطهير منها.
أنا محتاج: عرف يوحنا نفسه أنه أقل من المسيح مقاماً، فرأى احتياجه إلى أن يعتمد منه، لأن المسيح أفضل (ع ١١) ولأن يوحنا رأى أنه خاطئ يحتاج إلى غفران من حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يوحنا ١: ٢٩، ٣٦)، ويحتاج إلى المعمودية الروحية ممن شهد هو له أنه يعمد بالروح القدس ونار (ع ١١). فيوحنا الذي سمع الاعتراف من غيره اعترف هنا للمسيح.
وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيّ! قوله هذا يُظهر التعجب من مجيئه. فكأنه يقول: أيأتي الذهب إلى الطين ليكسب بهاء، أم الشمس إلى السراج لتقتبس نوراً، أم السيد إلى العبد لينال شرفاً، أم البار إلى الأثيم ليُعطَى براً؟ ويظهر أيضاً أنه عرف من نبأ يسوع السابق ما هو كافٍ لأن يقنعه أنه هو المسيح، وذلك لا يناقض قوله «وأنا لم أكن أعرفه» (يوحنا ١: ٣٣) لأنه إلى ذلك الحين لم يرَ العلامة الموعود بها من السماء التي تعلن رسمياً أنه المسيح.
١٥ «فَقَالَ يَسُوعُ لَهُ: ٱسْمَحِ ٱلآنَ، لأَنَّهُ هٰكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ. حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ».
ٱسْمَحِ ٱلآن أي سلِّم بذلك. وبهذا لم يشر إلى أن يوحنا لا يحتاج أن يعتمد منه، ولا إلى أن تمنُّع يوحنا بلا سبب كافٍ. ولكن المسيح بيَّن له أنه يجب أن يسلِّم بطلبه ولو كان ذلك غريباً وفوق إدراكه. وقوله «الآن» يدل على أن السبب وقتي، بالنظر إلى مقتضى الحال، وهو اتِّضاع المسيح بدلاً من البشر.
هٰكَذَا يَلِيقُ بِنَا أي بيسوع ويوحنا، بناءً على العلاقة بينهما وعلاقتهما بالله. أي يليق بالمسيح نائباً عن الخطاة، وبيوحنا سابقاً للمسيح، ليتمِّما ما يطلبه الله.
نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ أي كل مطالب الشريعة التي رضي باختياره أن يكملها. وذلك أمر لو رفض القيام به لكان ذلك نقصاناً في ما يجب فعله. فأراد يسوع أن يكرم المعمودية بقبوله إياها. ويحتمل أن كلمة «بر» مأخوذة بمعناها المستعمل في رومية ٣: ٢١، ٢٣ حيث تشير إلى الترتيب الذي نظمه الله لتبرير الخاطئ بواسطة المسيح، وهو يتضمن معمودية المسيح كأحد لوازمه. وهذه المعمودية هي علامة رسمية لابتداء المسيح ممارسة وظيفته. فاستعداده الداخلي لممارسة وظيفته لم يُغن عن استعمال الطقوس الخارجية. فالمعمودية طقس موقَّر تثبت رسوليته، وأشار إلى تكريسه بها. وكما أطاع الشريعة هنا أطاعها في ختانه، والقيام بواجباته في الهيكل والمجمع، وفي إيفاء الجزية، وحفظ عيد الفصح وبقية الأعياد. فعلَّمنا بذلك كيف يجب أن نعم كخدمة أمناء لله. ولنا من ذلك أن الكمال الحقيقي يظهر في الطاعة الكاملة.
حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ ليس فقط أنه عمده، بل أطاع أمره وامتثل لسلطانه وصدَّق ما قاله المسيح بوجوب إجراء العمل برضاه. فالتواضع والشعور بعدم الاستحقاق لا يمنع من إتمام الواجبات.
١٦ «فَلَمَّا ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ ٱلْمَاءِ، وَإِذَا ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ ٱللّٰهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ».
مرقس ١: ١٠ إشعياء ١١: ٢ و٤٢: ١ ولوقا ٣: ٢٢ ويوحنا ١: ٣٢ و٣٣
فَلَمَّا ٱعْتَمَد حالما اعتمد يسوع أعلن الله بعلامة منظورة وبصوت مسموع أنه هو المسيح. وذكر لوقا علاوة على ما ذكره متّى أنه كان يصلي (لوقا ٣: ٢١).
صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ ٱلْمَاء إما من شاطئ النهر أو من النهر ذاته حيث اعتمد. فقوله «من الماء» لا يلزم منه أنه كان تحت الماء. لأن «من» هنا كمن في قوله صعد من الجليل (لوقا ٢: ٤). فلا يدل الكلام على كيفية المعمودية.
وَإِذَا إشارة إلى حادثة فجائية غريبة.
ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ أي لوح السماء المنظور، إشارةً إلى أن الطريق مفتوحة بين الأرض والسماء، وأن هناك سبيلاً لنزول البركات. ومثل هذا ما جاء في أعمال ٧: ٥٦ و١٠: ١١ ورؤيا ١٩: ١١.
لَه أي ليسوع، لأن هذه الرؤية كانت بسببه. وكانت أيضاً شهادة ليوحنا (يوحنا ١: ٣٢، ٣٣) وللشعب (لوقا ٣: ٢١). ولكن مضمونها الخاص كان إكرام يسوع والشهادة له أنه هو المسيح، وأن عمله مقبول.
فَرَأَى أي يسوع. ولكن هذا لا ينافي إن الآخرين رأوا، لأن هذه ليست رؤيا ظهرت ليسوع أو ليوحنا كما في غيبة، بل رؤية حسية ظاهرة لجميع المشاهدين.
رُوحَ ٱللّٰه وهذا أيضاً ليس تأثيراً روحياً إلهياً لا تشعر به الحواس، بل أقنوماً إلهياً هو الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس. فقد مسح الروح يسوع حينئذ لأجل ممارسة وظائفه كنبي وكاهن وملك، كما تنبأ إشعياء (٦١: ١).
نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَة ظنَّ البعض أن الروح نزل كما تنزل الحمامة، إشارة إلى كيفية النزول بالهدوء مثل رفرفته على وجه المياه يوم تكوين العالم (تكوين ١: ٢). وقال آخرون إن الروح أخذ هيئة حمامة كما أخذ هيئة ألسنة النار في يوم الخمسين. وكان قصد الروح بعمله هذا بيان الاتصال الحقيقي بينه وبين المسيح. وقال البعض إن الروح اختار هذه الهيئة لأن الحمامة موصوفة بالطهارة والوداعة والسلام، فيليق أن تكون الحمامة إشارة إلى تأثيرات الروح القدس والروح الذي أظهره المسيح، وإشارة إلى أن النظام الذي وضعه يختلف عن النظام السابق الذي ابتدأ في رعود وبروق.
وكانت العلامة وقتية، لكن حلول الروح القدس عليه كان حلولاً أبدياً.
آتِياً عَلَيْه فالمقصود بهذه الرؤية هو المسيح. والأمر الجوهري في ذلك أن الروح القدس ظهر بهيئة جسدية (لوقا ٣: ٢٢) وإنه نزل من السماء واستقر على يسوع ليدل على أنه هو الشخص المخصص من بين هذا كل الحاضرين، معلناً أنه دخل معه في علاقة جديدة، باعتباره فادياً، مع أنهما واحد منذ الأزل. فحلول الروح القدس على «المولود من الروح» سرٌ عظيم. وهذا الروح كان علامة خارجية للروح الذي كان فيه سابقاً. وبما أنه كان قد أتى الوقت لبدء ممارسة وظيفته أُعطيت له علامة منظورة تدل على أنه ممسوح من الروح القدس.
١٧ «وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ».
يوحنا ١٢: ٢٨ مزمور ٢: ٧ وإشعياء ٤٢: ١ ومتّى ١٢: ١٨ و١٧: ٥ ومرقس ١: ١١ ولوقا ٩: ٣٥ وأفسس ١: ٦ وكولوسي ١: ١٣ و٢بطرس ١: ١٧
صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ لم يكن هذا الصوت تخيُّلياً كما يُسمع أحياناً في الرؤيا ، بل كان حقيقياً، شهادة من الآب. ويرَّجح أن كل الحاضرين سمعوها. ولم يُسمع هذا الصوت منذ إعطاء الشريعة على جبل سيناء حتى ذلك الوقت، أي وقت بداءة الإنجيل. وسُمع مثله وقت التجلي (متّى ١٧: ٥) وقبل موت المخلِّص بقليل (يوحنا ١٢: ٢٨، ٣٠).
قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ابني حبيبي ومختاري.. هو الذي نزل الروح عليه. وقيل في مرقس ولوقا «أنت ابني» فقال البعض إن في هذا تناقضاً يبيِّن خطأ البشيرين. ولكن تفاوت كيفية التعبير عن حادثة ما لا ينفي صدق الشهود، فقد يكون أن الواحد ذكر نبأ الحادثة بلفظها، وآخر ذكره بمعناه، كما يحدث كثيراً في تأدية الشهادات.
ٱبْنِي هذا هو اللقب المنسوب إلى المسيح في الوعد لداود ٢صموئيل ٧: ١٤ ومزمور ٢: ٧. وبناءً على ذلك يُسمى غالباً في الإنجيل «ابن الله». وأما العلاقة بين الآب والمسيح (البنوَّة) فهي أزلية وليست مبنية على ولادة يسوع غير الطبيعية. فلا يدخل تحت هذه التسمية شيءٌ مما يتعلق بالولادة في زمان من الأزمنة. وليس فيها أدنى تشبيه إلى ولادة طبيعية من والدين بشريين. ولكنها إشارة إلى المحبة بين الآب والابن، والقرابة الشديدة، والاتحاد في الجوهر، والمساواة في الرتبة والمقام.
ٱلْحَبِيبُ المحبوب منذ الأزل لأنه ابنٌ منذ الأزل. وهذا ما أشار إليه يوحنا بقوله «في حضن الآب» (يوحنا ١: ١٨)، وما ورد في أمثال ٨: ٣٠ «كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعًا، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِمًا قُدَّامَهُ». وإشعياء ٤٢: ١ ويوحنا ١٠: ١٧. ومع أنه كان دائماً محبوباً إلى الله، زادت محبته ظهوراً حينئذ، بأنه باشر عمل الفداء.
ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْت هذا يوافق ما قيل في إشعياء ٤٢: ١ «الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي» ويشير إلى تمام الرضى به. وهو ليس مجرد تكرار معنى قوله «الحبيب» الدال على الاتفاق الأزلي في الشعور، بل يشير أيضاً إلى مسرة الله بالمسيح عندما ابتدأ عمل الفداء باعتبار أنه ابن الإنسان والوسيط والمسيح (أفسس ١: ٤ ويوحنا ١٧: ٢٤).
ويُسر الآب بنا عندما نقترب إليه بواسطة ابنه يسوع المسيح وسيطنا. وهذه المناداة الإلهية يجب أن تكون عندنا ذات قيمة واعتبار، لأنها تؤكد أن عمل يسوع لأجل خلاصنا قد ثبَّته الآب، وأن ذبيحته لأجلنا قُبلت، وقد صدَّقت السماء على الغفران المنادى به في الفداء.
وقد أعلنت هذه الحادثة علناً العلاقة بين أقانيم الثالوث الثلاثة في جوهر إلهي. فأظهر الآب وجوده بصوت مسموع، وظهر الروح القدس نازلاً بهيئة منظورة على ابن الله المتجسد. ويتبرهن تعليم الثالوث أيضاً من الكلمات المعطاة لنا للاستعمال في رسم المعمودية (متّى ٢٨: ٢٠). ويحق لكل واحد من الأقانيم عبادة أبدية واحدة وإكرام واحد. فنرى من هذه الحادثة أن الأقانيم الثلاثة مشتركون في عمل الفداء متفقون عليه في قصدهم الأزلي ثم على إجرائه في زمان معيَّن.

الأصحاح الرابع


١ «ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ مِنَ ٱلرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ».
مرقس ١: ١٢ ولوقا ٤: ١ و١ملوك ١٨: ١٢ وحزقيال ٣: ١٤ و٨: ٣ و١١: ١، ٢٤ و٤٠: ٢ و٤٣: ٥ وأعمال ٨: ٣٩
ثُمَّ أي بعد المعمودية (مرقس ١: ١٢ ولوقا ٤: ١). فبعدما نتمتع بعلامات رضى الله الفائقة يجب أن نقاسي أشد التجارب.
أُصْعِد طاعة لتأثيرٍ فيه متميِّز عن مشيئته، لكن غير مخالف لها. فلم يدخل في التجربة من تلقاء نفسه. فيجب علينا أن لا نعرِّض ذواتنا للتجارب. فبين اقتياد المسيح إلى البرية ليجرَّب وذهاب لوط إلى سدوم محل التجربة فرقٌ عظيم.
مِنَ ٱلرُّوح ليس من روحه بل من الروح القدس الذي نزل حينئذ واستقرَّ عليه (متّى ٣: ١٧) فهذا أنشأ فيه ذلك التأثير. قد امتلأ من ذلك الروح الذي أشار إليه يوحنا في قوله «كنت في الروح يوم الرب» (رؤيا ١: ١٠) والذي خطف فيلبس (أعمال ٨: ٣٩).
إِلَى ٱلْبَرِّيَّة أي إلى القفر العاري من النبات والخالي من الناس ومسكن الوحوش (مرقس ١: ١٣). ولعلها البرية التي تاه فيها بنو إسرائيل أربعين سنة، أو أنها البرية الواقعة إلى الجنوب الغربي من أريحا. وقد جرت التجربة على نائب الجنس البشري الأول في جنة عدن، وجرت على نائبه الثاني في البرية.
لِيُجَرَّب أي يُمتحَن. وهذه كانت غاية اقتياد الروح القدس له وفقاً لإرادة الله الآب. قد تجرَّب المسيح بدلاً منا، فإن آدم الأول تجرَّب وسقط، وبسقوطه سقط الجنس البشري، فلزم أن آدم الثاني يُجرَّب ليُظهر استحقاق كونه فادياً للبشر، يرفعهم من هاوية ذلك السقوط. فالتجربة حدثت حقيقة، ولم تكن رؤيا أو تمثيل محاربة داخلية في أفكار المسيح. والأرجح أن ما رواه متّى ولوقا من نبأ هذه التجربة نقلاه عن رواية المسيح إياها لتلاميذه.
وقد جعل ناسوت المسيح التجربة ممكنة. وجعلت نيابتهُ عنا ذلك ضرورياً. فليست التجربةُ خطيةً، إنما الخطية هي التسليم لهما. ولا ينتظر أحد أولاد الله العفو من التجربة، لأن المسيح جُرِّب، وليس التلميذ أفضل من المعلم.
مِنْ إِبْلِيس وهو رئيس الشياطين (متّى ٩: ٣٤ و١٢: ٢٤) ورئيس الملائكة الساقطة (متّى ٢٥: ٤١ ورؤيا ١٢: ٩ و٢٠: ١٠) والحية القديمة (رؤيا ١٢: ٩) الشيطان (أي ١: ٦) وبعلزبول (متّى ١٢: ٢٤) ورئيس سلطان الهواء (أفسس ٢: ٢) الذي خدع أبوينا الأوَّلين (٢كورنثوس ١١: ٣) ويُسمى العدو. وهو عدو الله والناس.
كانت تجربة المسيح قسماً ضرورياً من اتِّضاعه في إجرائه عمل الفداء، وجزءاً من محاربته العظيمة التي تنبأ الأنبياء أنها ستكون بين نسل المرأة ونسل الحية، إذ قد برز للمحاربة النائبان عن كل منهما. وبما أن يسوع أتى إلى العالم لينقض أعمال إبليس (١يوحنا ٣: ٨) وجب أن يغلبه أولاً. والمسيح بتجرُّبِه جعل علاقة متينة بينه وبين شعبه المجرَّب، وفيما هو قد تألم يقدر أن يعين المجرَّبين (عبرانيين ٢: ١٨). فإذا تحقق الشعب أنهم يجربون يؤكد لهم أنهم ينتصرون وينجون بواسطته إذ قد انتصر قبلهم.
٢ «فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيراً».
فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً (لوقا ٤: ٢). لم يكن يصوم نصف النهار ويأكل في النصف الآخر كما كان صوم اليهود أحياناً جرياً على تقاليدهم، بل صام الأيام الأربعين كلها. وهذا الصوم كان فوق الطبيعة، فلا يصح أن يكون مثالاً لشعبه. ولم يأمرنا الإنجيل أن نفعل شيئاً سنوياً مثل ذلك. فالمسيح صام مرة في حياته وذلك نيابة عنا. وهذا لا ينافي كون الصوم من الواجبات المسيحية (متّى ٦: ١٦). ولكن لا يتحتم علينا أن نجعل أعجوبة المسيح قياساً لواجباتنا، ولا يستحق تبديل الأطعمة أن يسمى صوماً.
جَاعَ أَخِيراً أي بعد نهاية الأربعين يوماً. ونستنتج من ذلك أنه لم يجُع أثناءها، فانقطاعه عن الطعام كل تلك المدة أمر خارق للطبيعة، لا من باب إنكار الذات المؤلم. فذلك لم يكن لنقتدي به. وعندما صار من تلك الحال إلى حال الطبيعة البشرية جاع. وهذه أول مرة ذكر الإنجيل أن سيدنا شاركنا في الاحتياجات الجسدية، فقد حارب عدوَّه وانتصر عليه، مع أن التجربة كانت في عظيم قوتها وجسده أقل قوة منها. واحتمل الجوع لأجلنا في البرية والعطش على الصليب. وكثيراً ما تأتينا التجارب اليوم من الاحتياج الجسدي، ولكن يمكن أن الإنسان يعوزه الخبز ويكون عزيزاً لدى الله.
٣ «فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ خُبْزاً».
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْمُجَرِّبُ لم يقل إن هذا كان بداءة تجربة المسيح، فلا تناقض بين قوله وقول مرقس في ١: ١٣ وقول لوقا ٤: ٢ إنه تجرَّب أربعين يوماً، لأنه من المحتمل أن التجارب الثلاث التي ذكرها متّى كانت نهاية سلسلة التجارب، أو أنها هي الوحيدة التي فيها ظهر المجرب شخصياً. فالذي سُمي هنا مجرِّباً هو الذي دُعي إبليس في ع ١، فهو المجرِّب الذي جرَّب المسيح، والذي عمله الخاص إلقاء كل البشر في التجارب. لقد تجاسر على ابن الله، فهل ينتظر أحدٌ أن لا يجرَّب؟ قد دخل الشيطان العالم مجرِّباً (تكوين ٣) فلا شك أنه سيجرِّبنا.
وَقَالَ لم يكن صوتاً مسموعاً من متكلم غير منظور، لكن صوت شخص أتى إليه، إما بصورة إنسان أو بصورة ملاك نور (٢كورنثوس ١١: ١٤). ولم يذكر متّى أن الشيطان اتَّخذ جسداً، ولكن القول إنه جرب المسيح كروح لا ينطبق على تفاصيل الخبر.
إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰه في هذا القول تلميحٌ إلى الصوت الذي أتى من السماء وقت المعمودية (متّى ٣: ١٧). وقوله «ان كنت» يدل على تشكيك في الأمر يفتقر إلى برهان ينفيه، فكأنه قال: هل يمكن أن يتعرَّض ابن الله للجوع؟ إن جوعك ينزع حق تسميتك «ابن الله». إن لك سلطاناً على الطبيعة، فلماذا لا تستعمله لتخلُص من جوعك وتحفظ حياتك من الموت القادم عليك بعد هذا الصوم الطويل؟ فمن كان ابن الله يقدر على كل شيء. فإن كنت ابن الله فهينٌ عليك أن تبرهن ذلك وتنجو من الضيق.
فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ خُبْزاً الإشارة إلى حجارة قريبة منهما «تصير خبزاً» أي تتحول إلى خبز. فلم يحثه المجرب على أن يصنع لذاته طعاماً فاخراً، بل خبزاً فقط يشبع جوعه ويصون حياته من الخطر. فالخطية التي أراد الشيطان أن يرتكبها المسيح هي عدم الاتكال على الله وعدم الثقة بعنايته. وهنا تظهر حيلة المجرِّب بأن حثَّ المسيح على أمرٍ ليس إثماً بذاته، لأن مخاطبة الحجارة ليست خطية! نرى من هذا أن الشيطان يغتنم الفرصة ليجرب الناس بما يحتاجون إليه، فيجرب الفقراء والجياع ليتذمروا على الله ويسرقوا، ويظهر أن كلامه مناسب للموقف. وهذا يعلِّمنا أن المناسب للموقف ليس دائماً صحيحاً.. فالذي حوَّل الماء خمراً بعد ذلك كان قادراً على أن يجعل الحجارة خبزاً، ولكن ما كان يصنعه لغيره لم يصنعه لذاته. لقد أشبع ألوف الناس ولم يصنع لنفسه رغيفاً واحداً. فيجب إذن أن نخاف من التجربة التي تظهر كأنها ناتجة عن حب المجرب لنا.
٤ «فَأَجَابَ: مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ».
مَكْتُوبٌ في تثنية ٨: ٣ ولم يزل مكتوباً، فقد شهد المسيح لصدق كُتب موسى باستناده على كلام الله، وهو يعلمنا بذلك كيف يجب أن نقاوم مثل هذه التجارب، بأن نضع الحق مقابل الضلال، وكلمة الله مقابل وساوس المجرب. فالمسيح وهو مكمل الناموس أجاب الشيطان من الناموس، وغلبه في هجومه الثلاثي بتلك الأسلحة التي اتخذها من أدوات الحرب الروحية. وعمله هذا يعلمنا أننا يجب أن نكون عارفين أقوال الكتاب المقدس حسناً لنقدر أن نقاوم إبليس ونغلبه بواسطة تلك الآيات.
لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ معنى هذا الكلام الأصلي أن بني إسرائيل لم يعيشوا بالخبز المعتاد الذي حصلوا عليه بمجهودهم، فطحنوه وعجنوه وخبزوه، بل عاشوا بالقوت الذي أوجدته لهم كلمة الله، وهو المن. فالمقارنة هنا ليست بين خبز مادي وخبز روحي، بل بين قوتٍ عادي كالخبز وقوت آخر يمكن لله أن يقدمه بواسطة أخرى. فلم يقل المسيح في جوابه للشيطان «أنا ابن الله» بل جعل ذاته بمنزلة إنسان. كأنه قال: ليس السؤال عن قوتي كابن الله، بل عن واجباتي كإنسان وقت الاحتياج. فلم يستخدم قوته الإلهية للحصول على ما يحتاج إليه من الضروريات البشرية، بل جعل ذاته إنساناً كباقي الناس، وغلب الشيطان كإنسان لأجل الجنس البشري. لأنه عندما اتخذ طبيعة الإنسان رضي أن يشارك الناس في احتمال احتياجاتهم، وفي الالتجاء إلى الله لسد هذه الاحتياجات مثلهم. فلو خلَّص ذاته من الضيق بمعجزة لارتكب نفس الخطية التي ارتكبها بنو إسرائيل عندما شكوا في قدرة الله وعنايته. وكما كان جواب المسيح هنا كان روح تعليمه فيما بعد (متّى ٦: ٢٥، ٣٢ و١٠: ٣٩).
٥ «ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ ٱلْهَيْكَلِ».
نحميا ١١: ١، ١٨ وإشعياء ٤٨: ٢ و٥٢: ١ ومتّى ٢٧: ٥٣ ورؤيا ١١: ٢
ثُمَّ في ترتيب لوقا التجربة الثانية هي الأخيرة، والأرجح أن متّى تبع الترتيب الذي جرى.
أَخَذَه ليس بالرغم منه، بل كرفيق. فمن اتِّضاعه الاختياري رضي أن يُقاد من مكان إلى آخر، كما رضي بعدئذٍ أن يُقاد للجلد والصلب. وتسليمه بالإهانة الكبرى أن يجرَّب من إبليس تتضمن التسليم بالإهانة الصغرى وهي أن يُقاد منه.
ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَة هي أورشليم، لأنها المركز المقدس ومدينة الملك العظيم (متّى ٥: ٣٥). وسفره إلى أورشليم لم يكن رؤيا بل حقيقة، ولعله أتى من البرية إليها.
أَوْقَفَه ليس بقوة أو بسلطة، بل جعله أن يقبل ذلك بالالتماس، أو بطريقة أخرى لم تُذكر.
جَنَاح ذلك إما جزء ناتئ من سطح الهيكل إلى أمامه، أو من رواق سليمان الذي بُني مشرفاً على وادي يهوشافاط من علوٍ شاهق. قال يوسيفوس كان علو الجناح ٤٠٠ ذراعاً، يعتري الناظر منه إلى أسفل دوار.
ٱلْهَيْكَل حضر الشيطان ليجرِّب المسيح في أقدس موضع من المدينة المقدسة. فإذاً لا نخلو من التجارب ولو في أقدس الأماكن.
٦ «وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ».
مزمور ٩١: ١١، ١٢
ٱطْرَحْ نَفْسَكَ أي من على سطح الهيكل إلى الدار الوسطى، أو من سطح الرواق إلى الوادي العميق دون خوف، طمعاً في الحماية الإلهية وحفظ الملائكة لك. فكانت هذه التجربة عكس الأولى، لأنها للطمع الذي هو الاتكال على الحماية الإلهية في الأحوال التي لم يعِد الله فيها بالحماية. وذلك عندما يدخل الإنسان في الخطر عمداً. فجرَّب إبليس المسيح ليمتحن صدق الوعد، ويبرهن أنه هو المسيح. فإن كان هو حقيقة فلا يحصل له أذية، بل يُقنع جميع الحاضرين بهذا العمل أكثر مما يقنعهم باحتماله الاضطهاد والتعب والفقر سنين عديدة.
لأَنَّهُ مَكْتُوب اقتدى الشيطان بالمسيح، فاقتبس آية من مزمور ٩١: ١١، ١٢ ليغلبه بها، ومضمونها طمأنينة أتقياء الله في كل الضيقات، وهو وعد لجميع المتكلين عليه لا سيما المسيح. لكن ذلك لم يكن وعداً بالوقاية من أخطار نأتيها اختياراً. فهو لا يجعل الأمر الذي جرَّب الشيطان المسيح به جائزاً، لأنه ترك جزءاً جوهرياً منه، وهو في «كل طرقك». فطرح نفسه من جناح الهيكل ليس من طُرق المسيح المعينة له من الله. والشيطان لا يألو جهداً في صيد النفوس بواسطة آيات الكتاب المقدس، كما فعل في تجربته للمسيح.
مَلاَئِكَتَه إشارة إلى وظيفتهم باعتبارهم أرواحاً للخدمة (عبرانيين ١: ١٤). ولا نتعلَّم من هذه الآية أن لكل مؤمن ملاكاً حارساً.
يَحْمِلُونَك كلام مستعار مما نشاهده من اعتناء الأمهات بأطفالهن العاجزين.
لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَك كما يفعل الوالدون بأولادهم في الأماكن الصعبة خشية من عثورهم.
٧ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: مَكْتُوبٌ أَيْضاً: لاَ تُجَرِّبِ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ».
قَالَ لَهُ يَسُوعُ: مَكْتُوبٌ في تثنية ٦: ١٦. دفع سيدنا هذه التجربة كما دفع الأولى بجواب من كتاب الله.
لاَ تُجَرِّبِ أي لا تطلب برهاناً لما لا يحتاج إلى زيادة برهان. لا تطلب من الله أن يبرهن اعتناءه عندما تلقي ذاتك في خطر تُدخِل نفسك فيه. فكأنه قال: لا يجوز لي أن أجرب عناية الله وصدقه بطرح نفسي من فوق إلى أسفل، لأن هذا يكون طمعاً وليس اتكالاً.
وكل من طلب برهان محبة آخر له أظهر الشكَّ في تلك المحبة. فطلب برهان كهذا لا يكرم الله ولا يُظهر الاتكال التام عليه وعلى وعده، بل الشك فيه. ولم يطلب المسيح فيما بعد معونة الملائكة (متّى ٢٦: ٥٣). فلشعب الله الآن حق أن ينتظروا حمايته في كل خطر بأمره، وإلا فلا.
٨ «ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْعَالَمِ وَمَجْدَهَا».
ثُمَّ ترتيب للتجربة الثالثة. والمرجح أنها حدثت بعد الثانية.
أَخَذَهُ إِلَى جَبَل معنى ذلك (كما في ع ٥) أنه أخذه كرفيق. ظنَّ بعض الذين حسبوا التجربتين الأوليين أنهما حدثتا حقيقة وأن هذه حدثت في الرؤيا ، ولكن لا داعي إلى مثل هذا الظن. ويحتمل أن الجبل المذكور هو جبل نبو (تثنية ٣٤: ١) أو جبل تابور أو حرمون (جبل الشيخ) الذي تُرى منه كل الأرض المقدسة وبعض سوريا. أو ربما جبل الزيتون العالي بالنسبة إلى ما حوله من الجبال.
أَرَاهُ ليس في رسم أو رؤيا ، بل جعله يمدُّ نظره باختياره وبطريقة غير طبيعية على كل ممالك الأرض. أو أنه أراه بعضها عياناً وبعضها تخيُّلاً، إذ شخَّصها أمامه بطريقة واضحة ليراها بعين ذهنه، ويرى عظمتها وغناها ومجدها.
جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْعَالَم أي ممالك فلسطين التي كانت أمام عينيه أولاً، وبقية المملكة الرومانية وغيرها من ممالك الأرض التي تصورَّها المسيح أمام عقله بمجرد وصف المجرب لها.
وَمَجْدَهَا بعدد مدنها وقراها وقوّتها ودلائل غناها وفخرها.
٩ «َقَالَ لَهُ: أُعْطِيكَ هٰذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي».
أُعْطِيكَ هٰذِهِ جَمِيعَهَا ادَّعى أن له الحق أن يفعل ذلك (لوقا ٤: ٦). ويظهر أن له شبه الحق في ما قال (يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠ و١٦: ١١ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٦: ١٢) فهذه الآيات تدل على أن له ممالك العالم. ولا نعلم حدود سلطته ولا كيفية ممارستها، إنما نعلم أن العالم لم يكن تحت سلطانه المطلق قط، ولن يكون كذلك أبداً.
إن أفضل أسلحة إبليس خلطه الحق بالباطل، فبعد ما أظهر جودة ممالك العالم وفخرها، عرضها على المسيح عطيَّة له، فكأنه قال له: أنت تنتظر أن تسترد هذه الممالك لسلطانك بواسطة الآلام والموت، ولكني أقدمها لك في هذه الساعة بدون أن تقاسي أية مشقات. فهذه تجربة حقيقية قدَّمها ليوقعه في خطية حب الرئاسة، لأنه عرض عليه هذا وهو بغير أسلحة وجيوش، وفي حالة الفقر، ليس له أين يسند رأسه، فيعرض عليه أن يجعله ملكاً بين ملوك الأرض، أعظم من قياصرة روما، وبذلك يكون قادراً أن ينجي شعبه من ظالميهم، ويعطيهم المجد الموعود لهم بالأنبياء. وجوهر التجربة أن يكون يسوع ذات المسيح الذي انتظره اليهود بدون أن يحتمل الآلام والموت. فوعد الشيطان المسيح بأكثر مما له، وبما ليس له أدنى قصد أن يعطيه إياه.
خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ قال البعض إنه سأله عبادة دينية، لأنه طلب منه أن يقبله مكان الله، ويتكل عليه في تأسيس مملكته. فلو أخذ المسيح ممالك الأرض هبةً منه لوجب عليه أن يؤدي الإكرام اللائق بالآخذ للمعطي. وقال آخرون إنه سأله سجوداً سياسياً كسجود الرعيَّة للملك. والقولان يتفقان في أن من كان على المسيح ملكاً وجب أن يكون له إلهاً. وهنا جرَّب الشيطان المسيح بما كان للشيطان أعظم التجارب، وهو حب الرئاسة الذي أسقطه من كرسيه السماوي. وتلك التجربة ليست سوى عبادة وثن، والزيغان عن الله ملكنا الحقيقي، وإقامة أعظم أعدائه مكانه. وتتضمن علاوة على ذلك محبة الرئاسة العالمية. ولا يزال الشيطان يجعل أمجاد هذا العالم فخاً يصيد به الناس على اختلاف أجناسهم. وهو يطلب جزاءً فاحشاً على ما يعِد به، فيعدنا بربح العالم لخسارة أنفسنا.
١٠ « حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ».
تثنية ٦: ١٣ و١٠: ٢٠ ويشوع ٢٤: ١٤ و١صموئيل ٧: ٣
ٱذْهَبْ دلالة على احتقاره للمجرِّب ومقتهِ له على جسارته بالتجديف في هذه التجربة. وقد جاوب المسيح بطرس بمثل هذا الجواب (متّى ١٦: ٢٣) عندما أراد أن يجدد إبليس التجربة بواسطته، إذ أراد أن يبعده عن طريق الآلام المعيَّنة له.
َيَا شَيْطَانُ معناه المقاوم، وهو اسم يليق بالمسمَّى. وهو عدو الله والإنسان. وبهذه التجربة كشف الشيطان حقيقته، ففي التجربتين السابقتين أظهر صورة التقوى، وأما في الأخيرة فجاء بها مضادة لإرادة الله تماماً.
لأَنَّهُ مَكْتُوب في تثنية ٦: ١٣ على ما في الترجمة السبعينية. فالمسيح مع أنه ذكر اسم المجرب لا يزال يأتي بدفاع الآيات من الكتاب المقدس لدرء سهام الشيطان الخبيثة.
لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ الخ في هذا القول نهي عن كل أنواع العبادة لغير الله حتى العبادة التي هي دون غيرها من العبادات التي زعم البعض أنه يجوز تقديمها للأيقونات والصور، فهي لا تنهي عن «اللاتريا» التي هي العبادة لغير الحق فقط بل أيضاً عن «الذوليا» التي هي روح العبودية. فحين أذن يسوع الناس أن يسجدوا له صرّح بذلك أنه هو الله.
١١ «ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُه».
عبرانيين ١: ١٤
ثمَّ: أي بعد نهاية التجربة الأخيرة ودفعها.
تَرَكَه لينقطع عن التجربة إلى حين (لوقا ٤: ١٣). فإنه جرَّبه بعد ذلك في بستان جثسيماني وعلى الصليب (يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠ ولوقا ٢٢: ٥٣). فالحمد لله أن لكل تجربة حداً ونهاية «فيكون لكم ضيق عشرة أيام».
وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَت كأنهم فارقوه وقت الحرب ليكون مجد الغلبة وفخرها للمسيح وحده. والظاهر أنه حالما طُرد الشيطان حضرت الملائكة.
تَخْدِمُه قدَّموا له كل لوازمه ولا سيما القوت كما فعلوا لإيليا (١ملوك ١٩: ٥). وإذا لم يكن ما قدموه له قوتاً فإنهم بواسطة المخاطبة الروحية كانوا يعززون ويشددون روحه كما في بستان جثسيماني (لوقا ٢٢: ٤٣). فبعد ضيقات البرية وجوعها وإغواء إبليس حصل المسيح على مرافقة الملائكة ومساعدتهم. فقد شبع الذي لم يُرِد أن يحوِّل الحجارة خبزاً، ونال عوناً من ملائكة لم يطلب أن يحملوه. وسجد له خَدَم الله بعد إعلانه أن السجود لله وحده. واليوم يرسل الله لشعبه أفضل علامات محبته بعدما يفتقدهم بضيقاته. ولا تزال حتى الآن مقاومة الشيطان تفتح باباً لخدمة الملائكة.
١٢ «وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ، ٱنْصَرَفَ إِلَى ٱلْجَلِيلِ».
مرقس ١: ١٤ ولوقا ٣: ٢٠ و٤: ١٤، ٣١ ويوحنا ٤: ٤٣
شرع متّى في الكلام عن خدمة المسيح الجهارية منذ أُلقي يوحنا في السجن، فبدأ كلامهُ بذكر الحوادث التي حدثت في الجليل، وترك الأعمال التي عملها في اليهودية، مع أنها شغلت بضعة أشهر. وقد ذكرها يوحنا في بشارته. فترك متّى شهادة المعمدان للمسيح (يوحنا ١: ٢٩، ٣٢) وعرس قانا الجليل (يوحنا ٢: ١٢) وحضوره إلى أورشليم في عيد الفصح وإخراجه الباعة من الهيكل (يوحنا ٢: ١٣ - ١٧) وحديثه مع نيقوديموس (يوحنا ٣: ١ - ١٢) ومع المرأة السامرية (يوحنا ٤: ٤ - ٤٢) وشفاؤه ابن الرئيس (يوحنا ٤: ٤٦ - ٥٤) وإتيانه إلى الناصرة وطرد الشعب إيَّاهُ.
ولعلَّ غاية عمل المسيح في اليهودية كانت إظهار علاقة خدمته بخدمة المعمدان، وإظهار أن النظام الموسوي والمسيحي نظام واحد، وهما متساويان في المصدر والسلطة والغاية، فلا يناقض أحدهما الآخر بل يكمله، ولذلك ظهر يسوع مدة مرافقاً ليوحنا المعمدان، فقبِل شهادةً منه، وأخذ بعض تلاميذه ليكونوا معه (يوحنا ١: ٣٧). وبعدما أُلقي يوحنا في السجن، ولم تبقَ صلة ليشاركه في العمل، ذهب أولاً إلى الناصرة حيث تربى فرفضه أهل وطنه.
وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ اقتصر متّى هنا على ذكر سجن يوحنا، وأما أسبابه فذكرها بعد ذلك (متّى ١٤: ٣ - ٥). ويظهر من هذا الكلام أن يسوع لم يكن قريباً من يوحنا عندما أُسلم مع أنه كان في اليهودية. «أُسلم» أي أسلمه هيرودس إلى السجان (لوقا ٣: ٢٠) وهو الأرجح. لكن يُحتمل أن عناية الله أسلمته إلى هيرودس كدلالة هذه الكلمة في سفر الأعمال (٢: ٢٣).
ٱنْصَرَف لا خوفاً من هيرودس، لأنه دخل حكمه هناك. ولا أن الخطر في اليهودية زاد عليه بعد سجن يوحنا، بل لمقاومة الفريسيين (يوحنا ٤: ١). وكون أرض الجليل بعيدة عن اليهودية حيث يقيم الفريسيون جعلها أنسب مكان للتبشير ولعمل الخير.
ٱلْجَلِيل هو القسم الشمالي من الأرض المقدسة، ويمتدُّ من نهر الأردن شرقاً إلى سهل عكا غرباً، ومن دان (بانياس) شمالاً إلى جبال السامرة والكرمل جنوباً، وينقسم إلى قسمين شمالي وجنوبي، وحدوده تشتمل على أنصبة أربعة أسباط من بني إسرائيل، هي يساكر وزبولون وأشير ونفتالي. وأعظم مدنه الناصرة وقانا وطبرية. فهذه البلاد كانت مسكن المسيح ومحل أكثر أعماله. وقلما ذكرت البشائر الثلاث من الحوادث غير ما صُنع فيها.
١٣ «وَتَرَكَ ٱلنَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُومَ ٱلَّتِي عِنْدَ ٱلْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ».
تَرَكَ ٱلنَّاصِرَة هي وطنه منذ رجوعه من مصر. وبيَّن لوقا أسباب تركه إياها (لوقا ٢: ٢١ - ٢٣).
أَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُوم أي جعلها مسكنه منذ ذلك الوقت. فاتخذ هذه المدينة مركزاً لخدمته بدل الناصرة، ومكاناً يعود إليه بعد انقضاء سفراته.
كفرناحوم: اختلف الناس في موقع هذه المدينة القديم لأنها هُدمت منذ قرون عديدة. والأرجح أن موقعها مكان يُسمى الآن «خربة تل حوم» وهو شمالي سهل جنيسارت وبحيرة طبرية وعلى الجانب الغربي من نهر الأردن بالقرب من مصبهِ في البحيرة. وكانت محل سكن ابني زبدي، وأندراوس وبطرس (مع أنهما وُلدا في بيت صيدا). وسُميت في متّى ٩: ١ «مدينة المسيح» وقد تمت نبوته عليها في متّى ١١: ٢٣.
ٱلَّتِي عِنْدَ ٱلْبَحْرِ أي بحر طبرية، ويسمى أيضاً بحر الجليل، وبحيرة جنيسارت.
فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيم لا يمكننا الآن أن نقف على حدود هذين السبطين تماماً. لكن ما قيل هنا يوافق ما قيل في يشوع ١٩: ١٠ - ١٢ و٣٢ - ٣٩، أي أنهما متلاصقان.
١٤ «لكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ».
إشعياء ٩: ١، ٢ و٤٢: ٧ ولوقا ٢: ٣٢
هذا القول مقتبس من إشعياء ٩: ١، ٢ وهي النبوءة السادسة التي ذكر متّى أنها تمَّت في المسيح، فأهمل ذكر حوادث أخرى ليبادر إلى ذكر ما يثبت إتمام النبوات. وقوله لكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ يتضمن أن النبوَّة تمت كل التمام، وتم ما هو أعظم من ذلك، أي مقاصد الله في النبوة. وأشار إشعياء بهذه النبوة أولاً إلى الضيقة الجزئية التي حدثت لليهود من بنهدد، ثمَّ إلى ضيقة أشد منها من الأشوريين، أتى بعدها الفرج. فدلَّ متّى بكلمات هذه النبوة على البركات العظمى الناتجة من مجيء المسيح.
١٥ «أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ ٱلْبَحْرِ، عَبْرُ ٱلأُرْدُنِّ، جَلِيلُ ٱلأُمَمِ».
زَبُولُونَ، وَنَفْتَالِيم الابنان العاشر والخامس من أولاد يعقوب، وأرضهما غرب الأردن وشمال بحر طبرية.
طَرِيقُ ٱلْبَحْر أي مجاور للبحر، بحر الجليل لا البحر المتوسط.
عَبْرُ ٱلأُرْدُنّ تشير غالباً إلى الجانب الغربي بحسب موقف الكاتب من النهر. فالظاهر أن النبي كتب ما كُتب هنا وهو شرقي الأردن. وبقوله عبر الأردن يشير إلى الجانب الغربي.
جَلِيلُ ٱلأُمَم سُمي بهذا الاسم لأنه قريب إلى أراضي الأمم، ولوجود بعض الأمم بين سكانه. وهذه البلاد تشتمل على المدن العشرين التي وهبها سليمان لحيرام ملك صور، مكافأة له على إسعافاته في بناء الهيكل (يشوع ٢٠: ٧ و١ملوك ٩: ١١) فسكنها الأمم منذ وُهبت ولذلك أُضيفت إلى الأمم (إشعياء ٩: ١). والأرجح أن الأمم كثروا هناك مدة السبي.
١٦ «ٱلشَّعْبُ ٱلْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً، وَٱلْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ ٱلْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ».
ٱلشَّعْبُ أي يهود الجليل.
ٱلْجَالِس هذا إشارة إلى أنهم ماكثون في الظلمة وراضون بها. وقال إشعياء «السالك في ظلمة» فمتّى ذكر أن حالهم أردأ من ذلك.
ظُلْمَة هذه الكلمة تُستعار في الكتاب المقدس للجهل والضلال والخطية والشقاء.
نُوراً يُستعار في الكتاب المقدس للمعرفة والهدى والطهارة والسعادة. فقد أبصر هذا الشعب نوراً عظيماً لأنه أبصر يسوع نور العالم (يوحنا ١: ٩ و٨: ١٢).
عَظِيماً أي كافياً لتبديد الظلمة الكثيفة عقلياً وروحياً، ممتداً من قطر إلى قطر، دائماً إلى الأبد.
أَشْرَق كالشمس عند طلوعها لا كإضاءة السراج.
كُورَةِ ٱلْمَوْتِ وَظِلاَلِه هذا زيادة على قوله الأول، مع الإشارة إلى مصدر هذه الظلمة ونتيجتها. فتلك المنطقة حيث يستقر الموت ويكون كل شيء مظللاً بظلاله. وعلى هذا القول لا يُعدُّ الظلام أقل من موت روحي. وهذا حال جميع الأراضي التي هي بدون الإنجيل. وأول ما قيلت هذه النبوة كان إشارة إلى انحطاط الجليليين من خارج، ومخالطة الأمم من داخل. فقصد متّى أن يشير بها إلى ظلمتهم الروحية التي شاركهم فيها جميع اليهود، وإلى جهالتهم الخاصة التي عيرهم بها بقية اليهود (يوحنا ٧: ٤١، ٤٩) ففي وسط هذا الشعب الغبي المهان أظهر أعظم الأنبياء مجده، وحصل بينهم على نجاح. فاحتقرهم أهل اليهودية أولاً لسبب جهالتهم، وثانياً لسبب لغتهم (متّى ٢٦: ٧٣) ومخالطتهم للأمم. ولما تنبأ إشعياء ببزوغ هذا النور تنبأ بأنه مستقبل، ولما تكلم به متّى نظره كأنه أشرق.
١٧ «مِنْ ذٰلِكَ ٱلزَّمَانِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ».
متّى ٣: ٢ و١٠: ٧، مرقس ١: ١٤، ١٥
مِنْ ذٰلِكَ ٱلزَّمَانِ أي من الزمان المذكور في ع ١٢ حين أُلقي يوحنا في السجن. وهذا لا يحدد الوقت بالضبط، بل يُظهر علاقة خدمة يوحنا المعمدان، إذ بدأت الواحدة حين انتهت الأخرى، كما قيل أيضاً في أعمال ١: ٢٢ و١٠: ٣٧ و١٨: ٢٥.
ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِز بدأ يسوع باستعمال كلمات يوحنا ٣: ٢ وكان هذا جزءاً من تعليمه أو افتتاحه، كأن كل تعليم يوحنا كان مقدمة لتعليم المسيح، ولذلك تابع الموضوع من حيث تركه يوحنا وتقدم به. وبعد ذلك أرسل يسوع تلاميذه ينادون بنفس هذه الكلمات (متّى ١٠: ٧) مناداة يجب على كل خدام المسيح اليوم أن ينادوا بها، غير قاصدين بث تعاليم جديدة يُدهش الناس بها، لأن التوبة هي الخطوة الأولى نحو الإيمان الذي به نوال التبرير. وكلاهما هبة الله.
قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوت وضع يسوع أساس هذه المملكة حينئذ، ولكن لم تثبت للناس حتى قام من الموت وأُقيم ملكاً حقيقياً لكل العالم، يسود عليه بالروح والحق.
١٨ «وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِياً عِنْدَ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي ٱلْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ».
مرقس ١: ١٦ - ١٨ ولوقا ٥: ٢ ويوحنا ١: ٤٢
لم ينظم المسيح كنيسته في حياته على الأرض، لكنه علَّم أناساً استخدمهم بعد موته لتنظيم الكنيسة. أولاً تعرَّف بهم، ثم دعاهم ليتبعوه، وأخيراً عينهم رسلاً. وأنبأ يوحنا البشير بالوقت الذي فيه تعرَّف بهم (يوحنا ١: ٣٥ - ٤٢). وأما البشيرون الثلاثة الآخرون فغضوا النظر عن تلك المدة، وبدأوا بالمدة التي فيها جعلهم رفقاءه وتابعيه.
مَاشِياً ليس بلا قصد بل منادياً بملكوته.
بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ هو البحر الذي يمر فيه نهر الأردن، وهو الحد الشرقي لبلاد الجليل، ويسمى أيضاً «جنيسارت» (لوقا ٥: ٤) وكنارة (عدد ٣٤: ١١ وتثنية ٣: ١٧) وكنروت (١ملوك ١٥: ٢٠) وبحر طبرية (يوحنا ٦: ١). طوله نحو ١٣ ميلاً وعرضه ٦ أميال ومعظم عمقه ١٦٥ قدماً، وسطحه أوطأ من سطح البحر الأبيض المتوسط بنحو ٦٥٣ قدماً. وقامت على شاطئه تسع مدن. قال يوسيفوس إنه في أيامه لم يكن فيه أقل من أربعة آلاف سفينة من أنواع مختلفة. ولا يزال هذا البحر شهيراً حتى اليوم لوفرة سمكه وتعرضه للاضطرابات الشديدة الفجائية. ومن صياديه اختار المسيح بعض تلاميذه الذين ذُكر أربعة منهم هنا.
سِمْعَانَ كان يُعرف بهذا الاسم عندما كتبت هذه البشارة، ومعناه «سامع». ولقبَّه يسوع ببطرس حينما أحضره إليه أندراوس أخوه (يوحنا ١: ٣٧). ومعنى بطرس كمعنى صفاً في السريانية مشتق من «بتروس» وهي كلمة يونانية معناها «صخرة» إشارة إلى مكانته في الكنيسة التي بُنيت على المسيح أساسها الأصلي (أفسس ٢: ٢٠) ثم على الاثني عشر رسولاً، ثم على جمهور المؤمنين. ولأن بطرس أحد هؤلاء الاثني عشر ومن الذين دُعوا أولاً، لاق أن يكون السابق بينهم، بسبب غيرته وشجاعته، ولذلك لقَّبه بهذا الاسم. ولم يكن مستحقاً أن يُسمى بالصخرة بالنظر إلى طبيعته، كما يظهر من أخبار حياته، ولم ينل من هذا اللقب سلطة على سائر الرسل كما يظهر من التاريخ التالي، ولم يكن له وظيفة متعلقة به ليمارسها ويورثها لغيره بعد موته.
لقد جعل يسوع أمام هؤلاء التلاميذ هدفاً أعظم جداً من مجرد تحصيل الرزق، مع أن من أهم واجبات الإنسان أن يحصل على رزقه بعرق جبينه (تكوين ٢: ١٧). ولكنه قرن هذا العمل بالملكوت الذي يؤسسه على الأرض، فليصطادوا الناس، مثلما الحقول قد ابيضت للحصاد. فالجوهر يبقى واحداً.
وَأَنْدَرَاوُسَ اسم يوناني، وهو الذي عرَّف بطرس أخاه بالمسيح. ولا نعرف من كان أكبرهما سناً. واسم أبيهما يونا (يوحنا ٢١: ١٥ - ١٧) وُلد في بيت صيدا (يوحنا ١: ٤٤) وكانا من تلاميذ المعمدان سابقاً. فتبارك هذا الإخاء الذي لم ينتج عن قرابة جسدية فقط، بل عن ولادة روحية أيضاً.
شَبَكَة يظهر أنها كانت كبيرة، لأن الكلمة اليونانية التي تُرجمت منها كلمة «يلقيان» تشير إلى أن الشبكة كانت ملقاة في دائرة.
صَيَّادَيْن أن صيد السمك كان عملها الخاص. وربما تعرَّف المسيح على هذين الشخصين قبلاً وعلمهما شيئاً، ثم أخبرهما أن يرجعا إلى عملهما مدة حتى يدعوهما. وأنهما كانا حينئذ ينتظران تلك الدعوة. ويزيد لوقا على ما ذكره متّى وعظ المسيح في سفينتهما وصيد السمك العجيب (لوقا ٥: ١ - ١١).
١٩ «فَقَالَ لَــهُمَا: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ».
هَلُمَّ وَرَائِي أي لازماني وتعلما مني وأطيعاني وكونا تلميذين لي. كأنه قال: أنصتا لتعاليمي واهتديا بنصيحتي وتمثلا بقدوتي وتجندا معي للحق على الشيطان. ونتائج هذه الدعوة كانت أعظم من نتائج دعوة إبراهيم أو دعوة موسى.
صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ أشار بألفاظ مأخوذة من مهنتهما العتيقة نظراً للمشابهة بينهما في كيفية العمل، إلا أن الجديدة كانت أرفع شأناً من العتيقة، وعندما صارا مبشرين بقيا صيادين، ولكن ليس صيادي سمك بل صيادي الناس، الذين هم غنيمة أعظم من السمك، لأنهما لا يهلكانهم بصيدهم، بل يحييانهم بالخلاص. ووجه الشبه بين عملهما وعمل الصيادين هو الاحتياج إلى التعب والحذق والانتباه وأمل النجاح. وربما لم يفهما كل ما قصده المسيح بهذه التسمية.
وإذا قيل: لماذا لم يدعُ المسيح بعضاً من الكتبة والعلماء ليكونوا أولاً تابعيه وبعدئذ رسله؟ فالجواب لأنهم كانوا أقل تأثراً من تعليمه، وليظهر فيما بعد أن تقدم إنجيله لم ينتج من علمٍ بشري أو فصاحة لسان، بل من قوة الله. فلهذا اختار الله جهال العالم ليخزي حكمة الفهماء.
٢٠ «فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا ٱلشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ».
فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الخ أطاعا هذه الدعوة التي أتتهما بغتة لوجود دعوة إلهية داخل قلبيهما. ويحتمل أنهما كانا مستعدين لكي يقبلاها مما سمعاه من يسوع قبلاً. وهذه الطاعة السريعة من دلائل التقوى الحقيقية (لوقا ٩: ٥٧ - ٦٢). فالذي يدعوه المسيح حقاً يجلبه إليه فعلاً. وقول متّى إنهما تركا شباكهما يعني أنهما تركا كل ما لهما، وتركا مهنة صيد السمك، إذ حسبا ما لهما كلا شيء بالنسبة إلى خدمة سيدهما. ومن ذلك الوقت تبعاه في الاضطهادات والسجون والإهانات حتى الموت.
٢١ «ثُمَّ ٱجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي ٱلسَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا».
ثم اجتاز: أي على شاطئ البحر، وذلك لمسافة قصيرة، لأن ابني زبدي وابني يونا كانوا شركاء. وصيد السمك يحتاج للمشاركة حتى ينجزوا العمل بطريقة أفضل وأربح (لوقا ٥: ١٠). وكانت إحدى السفينتين في ذلك الوقت قريبة من الأخرى (مرقس ١: ١٩).
زَبْدِي معناه هذا الاسم مثل زبدي المذكور في يشوع ٧: ١، ومعناه «الرب أعطى».
يُوحَنَّا أَخَاهُ ظنَّ الكثيرون أنه «التلميذ الآخر» ليوحنا المعمدان الذي تبع المسيح مع أندراوس حينما أشار إليه يوحنا وأنبأ بأنه حمل الله. واسم أمهما سالومة التي تبعت المسيح بعدئذ وخدمته (متّى ٢٧: ٥٦).
يُصْلِحَانِ إما يصلحان ما تمزَّق من الشِّباك أو يجهزانها للعمل، أو أتيا لإسعاف شريكيهما وقت الصيد القريب ثم رجعا إلى عملهما الذي كانا يمارسانه حينما دعاهما.
فَدَعَاهُمَا إن خدمة المسيح أوجب من كل خدمة (متّى ١٩: ٢٩). ومَن جعل الأمانة والاجتهاد ديناً له في خدمته مهما كانت دنيئة، يستحق أن يُرقَّى إلى خدمة أسمى منها.
٢٢ «فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا ٱلسَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاه».
أطاع ابنا زبدي دعوة المسيح بسرعة كما أطاعها ابنا يونا، إلا أن الآخرين لم يتركا فقط سفينتهما وشباكهما كالأولين بل أباهما أيضاً. وليس في ذلك ما يدل على عدم إكرامهما الواجب لوالدهما، لأنه لم يكن عاجزاً محتاجاً إليهما ولأنه يستنتج مما قيل في مرقس ١: ٢٠ أنه كان له عمال، وكان قادراً على ممارسة مهنة الصيد بعد ذهاب ولديه. ويظهر من يوحنا ١٨: ١٥ أنه كان لعائلة زبدي شيءٌ من المقام. وكيفما كانت الأحوال يجب أن يُسمع صوت دعوة المسيح قبل كل دعوة أرضية. ولو عرف المسيح أن زبدي يفتقر إلى مساعدة ولديه لكان أمدَّه بطريقة أخرى. فإذا أردنا أن نتبع المسيح الآن وجب أن نكون مستعدين لأن نترك كل شيء من أجله.
٢٣ «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ ٱلْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي ٱلشَّعْبِ».
متّى ٩: ٣٥ و٢٤: ١٤ ومرقس ١: ١٤، ٢١، ٣٤، ٣٩ ولوقا ٤: ١٥، ٤٤
ما قيل هنا ليس خبراً عن شيء حدث في وقتٍ معين بل قيل شرحاً عاماً لخدمة المسيح في الجليل بعدما دخل إليها (كما في ع ١٢ - ١٧). وذكر متّى أن المسيح لم يُجرِ هذه الخدمة في موضع واحد بل في كل بلاد الجليل التي كان يجول فيها. قال يوسيفوس إنه كان في تلك الأرض ٢٠٤ مدينة كبيرة وصغيرة، أصغرها يسكنها ١٥ ألف نسمة. فإذاً كان في تلك البلاد نحو ثلاثة ألف من السكان.
يَطُوفُ ليس وحده بل مع بعض تلاميذه. كانت خدمة المسيح في الجليل متعبة جداً، لأننا نقرأ أنه في أثناء إقامته فيها ١٨ شهراً خرج من كفر ناحوم للتبشير تسع مرات، وأنه سافر ثلاث سفرات طويلة، وخمساً أو ستاً قصيرة ليجول ويعلم.
يُعَلِّم كان التعليم الجزء الأول من خدمة المسيح كنبي، وكان تعليماً دينياً فيما هو ضروري للخلاص وأساساً لتعليم الرسل الشفاهي والكتابي في رسائلهم.
فِي مَجَامِعِهِم أماكن العبادة. ابتدأ اليهود باستعمالها على ما هو المرجح من سبي بابل، واستمروا على ذلك بعد رجوعهم. وفي مدة وجود المسيح هنا وُجدَت مجامع في كل المدن والقرى التي لليهود. قال يوسيفوس: انه وقت خراب أورشليم كان في تلك المدينة وحدها ٤٨٠ مجمعاً. وكان للمجامع شيوخ (لوقا ٧: ٣) ورؤساء (لوقا ٨: ٤١، ٤٩). وكيفية العبادة فيها كانت بسيطة تشتمل على الصلاة وقراءة التوراة وبعض الإنذارات. وربما رُخص لسيدنا بأن يكرز في المجامع، إما لأن الحرية كانت معطاة لكل إنسان، أو لأن صيته ذاع بأنه معلم ماهر وصانع عجائب (لوقا ٤: ٤٦ وأعمال ١٣: ١٥).
يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوت أي بالخبر المفرح بأن المسيح قد أسس ملكوته الروحي وأبان حقيقته وشرائعه. فالإنجيل هو العهد الملكي الذي به أعلن ملك الملوك ما يمنحه لشعبه وما ينتظره منهم، فلا وظيفة أشرف من الوظيفة التي مارسها ابن الله في كرازته، والتي خلفها للمبشرين بالإنجيل.
وَيَشْفِي كان الشفاء الجزء الثاني من خدمة المسيح، وهو يساعد الجزء الأول الذي هو التعليم. ومارسه المسيح لإثبات سلطانه كمعلم إلهي، وإشارة إلى وظيفته العظمى كطبيب النفوس، وليجذب إليه قلوب الناس بالشكر والمحبة ويفتحها لقبول كلامه. ولم يقتصر على إجراء المعجزات لتكون دلائل قدرته، بل أظهر بها رقة قلبه وشفقته ومحبته واشتراكه مع الناس، وأنه لم يأت ليُهلك بل ليخلص. ولا يزال المسيح حتى الآن مخلصاً شفوقاً مقتدراً كما كان منذ نحو ١٩٠٠ سنة.
ٍكُلَّ مَرَض أي كل الأسقام التي تعتري البشر. شفى المسيح جميع الذين أتوا، وجميع الذين أتى بهم أصحابهم. ولم نسمع قط أنه طرد أحداً من بين الذين أتوا إليه بغية الشفاء.
وَكُلَّ ضَعْفٍ يحتمل أن الضعف يشير إلى الأمراض الخفيفة والحديثة. والمرض إلى ما هو مزمن ومؤلم.
٢٤ «فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ ٱلسُّقَمَاءِ ٱلْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَٱلْمَجَانِينَ وَٱلْمَصْرُوعِينَ وَٱلْمَفْلُوجِينَ، فَشَفَاهُمْ».
ذَاعَ خَبَرُهُ بأن المسيح معلم وشافٍ ليس في الجليل وأرض إسرائيل فقط بل في الخارج أيضاً شمالاً وشرقاً.
سُورِيَّةَ كانت ولاية كبيرة رومانية في ذلك الوقت، وكانت أرض إسرائيل جزءاً منها. ولا يمكننا معرفة حدودها تماماً، لأن الذين يستعملون هذه الكلمة لا يستخدمونها لشيء واحد. وكانت غاية متّى أن يخبر أنه بلغ صيت المسيح كل دانٍ وقاص، حتى اجتمع إليه كثيرون طالبين الشفاء لهم ولأصحابهم.
وَأَوْجَاعٍ تختلف عن الأمراض آنفاً بكونها مؤلمة جداً.
وَٱلْمَجَانِينَ وَٱلْمَصْرُوعِينَ وَٱلْمَفْلُوجِينَ من بين المرضى الذين شفاهم المسيح ذكر متّى هذه الأنواع الثلاثة، لأن مرضهم أكثر تأثيراً وأكثر شيوعاً. وذكر المجانين أولاً لأن الجنون كان آخذاً في الامتداد الغريب في ذلك الوقت. وكان يعد من شر الأمراض لأنه يشتمل على شرين: أخلاقي وجسدي، ولأنه متعلق بعالم آخر وجنس آخر من الخلائق الروحية التي تسمَّت أحياناً «أرواحاً نجسة» بمعنى روحي، لأنهم فاسدون ومفسدون. وهم يخدمون إبليس الذين سقطوا بسقوطه، وهم يجربون البشر، وبوسعهم أن يصلوا إلى الناس دائماً. وكانت معاملتهم للناس في أيام المسيح أكثر ظهوراً وأشد فعلاً ممتدة إلى العقل والجسد. فالشياطين ليسوا هم الأمراض بل علتها، وحركاتهم الزائدة في مدة خدمة المسيح مع قلة ذكرهم قبلها وبعدها ناتجة عن أن تلك المدة هي مدة الحرب الشديدة بين نسل المرأة ونسل الحية (تكوين ٣: ١٥).
فاستعمل الشيطان كل ما في طاقته من فعل الشر ليقاوم المسيح، وأذن له الله بذلك ليجعل انتصار المسيح أشد وضوحاً. فإخراج الشياطين من الناس كان انتصاراً على الشيطان (لوقا ١٠: ١٧، ١٨ ويوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١) وأعجب أعمال الشفاء، وبرهان أن يسوع مسيح وإله.
٢٥ «فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُنِ وَأُورُشَلِيمَ وَٱلْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ».
مرقس ٣: ٧، ٨
ليس المقصود في هذه الآية مجرد تكرار معنى الآية السابقة، أي أن الناس أتوا لكي يشفوا، ففيها زيادة على ذلك أنه بقي معه كثيرون يجولون من موضع إلى آخر لينظروا ويسمعوا.
جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ كان هؤلاء بين ذهاب وإياب، فلم يكونوا جيوشاً منظمة. ولذلك لم يكن للمسيح فرصة للانفراد. ولم يكونوا كلهم تلاميذ حقيقيين له، بل تبعه كثيرون منهم للتفرج ومشاهدة شيء جديد غريب.
وَٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُن هذا اسم بلاد وُجد فيها عشر مدن، حصلت على امتيازات من الرومان، وموقعها شرقي الأردن واسمها الآن «الجولان» وكان أكثر سكانها وثنيين. روى بعض المؤرخين أن عساكر الإسكندر الكبير سكنتها بعد نهاية خدمتهم العسكرية، ثم سكنها خلفاؤهم بعدهم.
وَمِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ أي شرقه، جنوب العشر المدن، وتسمى اليوم «السلط». وذُكرت كل هذه الأماكن دلالة على كون تلك الجموع مؤلفة من يهود وأمم.

الأصحاح الخامس


يشتمل هذا الأصحاح مع الأصحاحين التاليين على الموعظة المعروفة بالموعظة على الجبل، والكلام في الأصحاحات الثلاثة حول ملكوت المسيح الجديد. فأصحاح ٥ يُظهِر من هم أصحاب هذا الملكوت وعلاقتهم بالعالم. ونسبة المسيح إلى الناموس، مبيِّناً أن شريعة هذا الملكوت أرفع شأناً من تلك التي بها علَّم الفريسيون والكتبة. وما يبينه أصحاح ٥ من شريعة هذا الملكوت يبينه أصحاح ٦ من جهة الواجبات الدينية، ووجوب القيام بها أمام الله لا أمام الناس، وكيفية معالجة الهموم الدنيوية المقلقة. وأصحاح ٧ يتضمن توبيخاً للفريسيين لقساوة حكمهم على الآخرين، وشرحاً للصلاة، وخلاصة ما تقدم من جهة الناموس، وإنذاراً لإنكار الذات، وتحذيراً من المعلمين المضلين، ومن إهمال تعاليمه. وهذا الوعظ كان أحد المواعظ الكثيرة التي كرز بها المسيح في الجليل أشار إليها متّى (٤: ١٧، ٢٣).
ولا شك أن المسيح كرر جوهر هذا الوعظ مرات كثيرة، مغيِّراً الكلام بحسب الأحوال ومعرفة السامعين. وغايته منه أن يفسر ماهية ملكوت السماوات، وعلاقته بالنظام الموسوي، لا كناقضٍ له بل مكملاً إياه، بإظهار معناه الروحي. وفي أثناء كلامه على ذلك يبين الفرق بين تعليم هذا الملكوت وتعليم اليهود التقليدي الملتوي. وأما بيان علاقة هذا الكلام بما قيل في لوقا ٦: ٢ - ٤٩، فنبقيه إلى شرح إنجيل لوقا.
١ «وَلَمَّا رَأَى ٱلْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى ٱلْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ».
مرقس ٣: ١٣، ٢٠
ٱلْجُمُوع هم الذين ذكرهم في متّى ٤: ٢٤، ٢٥.
ٱلْجَبَل الأرجح أنه جبل بالقرب من كفر ناحوم. وظن البعض أنه جبل «قرن حطين» غرب طبرية، ولا يعرف من أمره شيء بالتأكيد. ولم يكن قصد المسيح من صعوده على الجبل الاعتزال عن الشعب، بل أن يجمع إليه الراغبين في سماع أقواله.
جَلَس الجلوس هي عادة المعلم وقت التعليم.
تَقَدَّمَ إِلَيْه لا يفهم من ذلك أنهم كانوا غائبين، لكنهم دنوا منه ليسمعوا. ويصدق هذا على التلاميذ وغيرهم.
تَلاَمِيذُه خطابه لتلاميذه خصوصاً لم يمنع غيرهم من الجموع أن يسمعوا أقواله.
٢ «فَفَتَحَ فَاهُ وَعَلَّمَهُمْ قَائِلاً».
فَفَتَحَ فَاهُ تعبير يُستعمل في استهلال خطاب ذي شأن. وحينما يفتح سيدنا فاه ليتكلم ينبغي أن نفتح آذاننا لنسمع.
وَعَلَّمَهُم يشير هذا إلى كلام متتابع متميزاً عن الحديث المعتاد الذي هو حوار المتحدثين، وعن الخطاب المتقطع.
٣ «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لأَنَّ لَـهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ».
مزمور ١٥: ٢ و٣ وأمثال ٢٩: ٢٣ وإشعياء ٥٧: ١٥ و٦٦: ٢ ولوقا ٦: ٢٠
طُوبَى هذه الكلمة هي استهلال سفر المزامير. والتطويبات المذكورة في الأعداد العشرة الأولى من هذا الأصحاح لا تشير إلى امتياز لأشخاص مخصوصين، بل تتضمن ما يجب أن يكونه كل مؤمن، مع ذكر البركات المتعلقة طبعاً بتلك الصفات. فعلينا أن نجتهد في إحراز كل هذه الصفات التي لا تكمل الفضيلة المسيحية إلا بمجموعها، فإن نقص واحدة منها يبطل أن يكون الإنسان كاملاً.
يعلن المسيح هنا صفات الذين لهم حق أن يفرحوا بإتيان ملكوته. فليس الذين يحسبهم العالم سعداء هم السعداء، كالأغنياء الدنيويين، أو القائمين بشعائر الدين الظاهرة، الأبرار في عيون نفوسهم. وليست الصفات الممدوحة من الناس هي التي تستحق المدح الحقيقي، كالحكمة والشجاعة والقوة، بل الصفات التي يمدحها المسيح هي التواضع وانسحاق القلب والحلم والعواطف الروحية والطهارة ومحبة السلام والصبر. فالذين يباركهم المسيح هم السعداء حقاً، فلا يفيدهم تصريح العالم بهذه الغبطة التي لا يؤكد حصولهم عليها إلا تصريح المسيح. وهى تفوق السعادة، لأنه يمكن أن يكون الإنسان سعيداً بحصوله على جانب من خيرات هذه الدنيا. ولا يمنحها إلا الله مقترنة برضاه. والمسيح لا يضع شروطاً لإدراك السعادة، بل يذكر صفات الذين يستحقون أن يحسبوا سعداء.
ويظن البعض أن في جعل التطويبات سبعاً معنى روحياً لاعتبار هذا العدد في التوراة مقدساً، لأنه يدل على الكمال.
لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوح يشعرون بحاجتهم الروحية ولا يكتفون بحالتهم. بدأ بهؤلاء أولاً لينفي زعم البعض أن ملكوت السماوات مختص بالأغنياء ووجوه القوم. وليس المراد بالمساكين فقراء المال أو المواهب العقلية، بل الذين يشعرون باحتياجات نفوسهم وفقرهم إلى الصلاح الأخلاقي والقوة الروحية والغذاء الروحاني. وهم المساكين روحاً، سواء أكانوا مساكين في هذا العالم أم لا. فطوبى لهم لأن هذا الملكوت جاء ليسدَّ أعوازهم.
وروح هؤلاء «المساكين» غير روح الفريسيين المتكبرين «الأصحّاء» الذين لم يأتِ المسيح ليدعوهم، والذين روحهم كروح بولس قبل تجديده (كما وصفه في فيلبي ٣: ٦) روح الاكتفاء بخيرات هذا العالم وحكمته، وبأنهم أولاد إبراهيم. وهذا روح كنيسة لاودكية (رؤيا ٣: ١٧) التي ظنت أنها غنية وليس لها شيء.
وأما العشار الذي وقف بعيداً في الهيكل، وقرع على صدره قائلاً «اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ» (لوقا ١٨: ١٣). فهو من المساكين بالروح المذكورين هنا. فيشترط على الذين يأتون إلى الله يبتغون نعمة أن يشعروا بشدة الحاجة.
لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَات أي أن الملكوت معيَّن ومناسب لهم ومختصٌ بهم وجميل في عيونهم، وبه يحصلون على ما يحتاجون إليه. وأما للفريسيين، الأبرياء في عيون أنفسهم، فليس فيه شيء يُحبّ، لأنهم أحبوا ملكوتاً ذا مجد خارجي وخير زمني. وملكوت السماوات مثل ملكوت الله (متّى ٣: ٢) وسُمى ملكوت السماوات لأنه هو النازل من السماء، وروحه كروح السماء، ويحبه كل الذين في السماء، ولأن وقايته ووسائط نجاحه من السماء، ولأنه الملكوت الذي يقود إلى السماء.
٤ «طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ».
إشعياء ٦١: ٢، ٣ ولوقا ٦: ٢١ ويوحنا ١٦: ٢٩ و٢كورنثوس ١: ٧ ورؤيا ٢١: ٤
لِلْحَزَانَى أي الذين يحزنون على الخطية والشرور الناتجة عنها، وعلى فقرهم الروحي المذكور في ع ٣. فلمثل هؤلاء الطوبى والسعادة، لأن هذا الملكوت ينجيهم من جرم الخطية وسلطتها. فليس كل الحزانى مغبوطين، لأنه يوجد حزن يؤدي إلى الموت (٢كورنثوس ٧: ١٠) فالمغبوطون لحقاً هم منسحقو القلب على خطيتهم إلى الله، الذين يحزنون على خطايا غيرهم، وعلى خراب صهيون الروحي (إرميا ٩: ١).
يحزن الناس أحياناً لعدم حصولهم على ما يشتهونه من مطالب محبة الذات والكبرياء والطمع، ولكن الله لا يمسح إلا دموع التوبة والتواضع. فبعض أنواع الحزن شر لمجاوزتها الحدود، أو لأنها ناتجة عن عدم إمكاننا أن نتمم مقاصدنا الشريرة. وبعضها طبيعي كحزننا على فقدنا بعض الأصحاب، وهذا قد يعود علينا بالنفع أو بالضرر. أما الحزن المذكور هنا فهو الحزن على الخطية (زكريا ١٢: ١٠).
لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ يتعزون الآن لشعورهم بالمغفرة (مزمور ٣٢) وسيتعزون في السماء (رؤيا ٧: ١٣ - ١٧) لأن أسباب حزنهم تكون قد زالت، ولأن الله يعزيهم، لا أفكارهم ولا كلام الناس. فإذاً طوبى لهم.
٥ «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ».
مزمور ٣٧: ١١ ورومية ٤: ١٣
لِلْوُدَعَاءِ بركات ملكوت المسيح ليست للذين يدَّعون أن لهم حقاً فيها، ولا الذين يتقاتلون عليها كالشجعان والطماعين الذين يغتصبون فوائد الممالك الأرضية، بل هي للودعاء الهادئين (١بطرس ٣: ٤) لأن هذه صفات ملكهم (زكريا ٩: ٩).
والودعاء هم الذين لا يطلبون الرياسة والتسلط على الأرض، وروحهم كروح المسيح خالية من روح الانتقام من الذين يؤذونهم (١بطرس ٢: ٢٣) ومن روح الضجر ومحبة الخصام. وأعظم نصرة هي نصرة الإنسان على نفسه.
يَرِثُونَ ٱلأَرْض يرثون من أبيهم ما يحصله غيرهم بقوة أيديهم، فاستعار المسيح مواعيد العهد القديم ليعبر بها عن مواعيد العهد الجديد. فقد عبر بإرث اليهود أرض كنعان عما يشتمل على البركات الزمنية (إشعياء ٦٠: ٢١). ولكن كان الوعد لهؤلاء بجزء من الأرض، وأما للودعاء فبالكل. ونتعلم من هذا أن القوة التي ستغلب الأرض هي قوة الوداعة والمحبة، التي تتقدم رويداً رويداً في العالم، وتغيِّر صورة الهيئة الاجتماعية. وأما روح الخصومات فيهيج الغضب، ويكلف صاحبه تضحية ماله ووقته وراحة باله بدون أن يبلغ مقصده. ويحتمل أن الوعد بالأرض يتضمن أيضاً الوعد بكنعان السماوية، التي كانت كنعان الأرضية رمزاً لها.
٦ «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ».
إشعياء ٥٥: ١ و٦٥: ١٣
لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاش كناية عن الأشواق الشديدة (مزمور ٤٣: ١، ٢ و٦٣: ١، ٢). إن الاحتياج إلى الطعام والشراب أشد من غيره، ويسبِّب ألماً قوياً إذا طالت مدته.
كان الكلام في ع٣ على الذين يشعرون بفقرهم الروحي، ويزيد هذا العدد على ما ذُكر هناك أنهم يشتاقون كل الاشتياق إلى الموهبة الإلهية. وعندما يرون أنفسهم خالية من البر أمام الله يشتاقون إليه. فلو قال المسيح «طوبى للأبرار» لما وُجد من يتقدم لنوال البركة الموعودة، ولذلك قال «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ» لأنه كما أن الذي يتعرض للجوع والعطش لا يفتكر بشي. غيرهما، هكذا الجياع والعطاش إلى البر لا يبالون بالأمور الدنيوية. وهذان الشعوران علامة الحياة الروحية التي لا تكون إلا في الذين وُلدوا ثانية من الروح القدس (يوحنا ٣: ٣، ٥).
إن الجياع والعطاش إلى العلوم ومقتضيات الحياة الدنيا وحشد الأموال وإحراز الشرف الرفيع كثيرون، ولكن الجياع والعطاش إلى البر قليلون.
ٱلْبِرِّ ليس المقصود هنا بر الناموس، بل بر الله (إشعياء ٥١: ٥ ودانيال ٩: ٢٤) وهو يتضمن الديانة القلبية والقداسة والتسليم التام لإرادة الله.
يُشْبَعُون لا قيمة في عيون الجياع والعطاش إلا لما يشبعهم ويرويهم. ولذلك وعدهم بمقتضيات الحياة الروحية، ليشبعوا مما كانوا يتوقون إليه ويحتاجونه.
٧ «طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ».
مزمور ٤١: ١ وص ٦: ١٤ ومرقس ١١: ٢٥ و٢تيموثاوس ١: ١٦ وعبرانيين ٦: ١٠ ويعقوب ٢: ١٣
لِلرُّحَمَاء هذا وصف آخر للذين لهم شركة في ملكوت المسيح الجديد. إن الذين ينجحون غالباً في الممالك الأرضية هم أهل البأس المنتقمون، وأما شركاء المملكة السماوية فهم الرحماء المساكين الذين يحبون الغير، ويشاركون الناس في أحزانهم، وهم الذين يشعرون معهم بالاحتياجات الروحية والجسدية. ورحمتهم فعالة (أيوب ٢٩: ١١ - ١٦ ومتّى ٥: ٤٤ - ٤٧ و١٠: ٤٢) ومصدر هذه الرحمة قلب الله، ورحمتنا قطرة من بحرها. وما نفعله من الرحمة نحو البشر لنطيعه ونرضيه يحسبه كأننا عملناه معه.
يُرْحَمُون الرحمة التي يرحمون الغير بها يرحمهم الله بها، ليس على سبيل الأجرة، لأن للمستحقين لهم أجرة لا رحمة. فالله يحبهم ويرحمهم مجاناً، وهم يرحمون دائماً، ويرحمهم الناس غالباً. ولا رحمة لمن لا يرحم ولا يغفر للمذنبين إليه.
٨ «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ».
مزمور ١٥: ٢ و٢٤: ٤ وعبرانيين ١٢: ١٤ و١كورنثوس ١٣: ١٢ و١يوحنا ٣: ٢، ٣
لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ ادَّعى اليهود أنهم أنقياء لأنهم منفصلون عن الأمم الذين تدنسوا بعبادة الأوثان، ولكنهم ليسوا أنقياء القلب (لوقا ١١: ٣٩).
إن لشركاء المسيح طهارة أعظم من الطهارة الطقسية الجنسية، وهى طهارة القلب التي لا تنتج عن غسل الجسد حسب شريعة موسى، بل عن تطهير القلب بواسطة التوبة والإيمان وفعل الروح القدس (عبرانيين ٩: ١٣، ١٤ وأفسس ٥: ٢، ١ و١يوحنا ٣: ٩). قديماً كان في مملكة مادي وفارس سبعة أشخاص مقرَّبون، يحق لهم وحدهم أن يروا الملك وجهاً لوجه (أستير ١: ١٤). و نقاوة القلب هذه تتضمن البساطة والصدق، وعكسها يتضمن الغش والرياء. وأفكار أهلها وغاياتهم ومبادئهم طاهرة. والله ينظر إلى القلب بينما ينظر الإنسان إلى الخارج (١صموئيل ١٥: ٧).
لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰه أي سيقفون أمامه كأصدقائه وأصفيائه، ويدركون صفاته تماماً، وينالون القرب إليه. وكما أن الذين ليسوا أطهاراً حسب الشريعة الطقسية لا يمكنهم أن يدخلوا هيكل الله على الأرض، هكذا القلب غير الطاهر من الداخل لا يدخل هيكله السماوي ليتمتع بحضرته الإلهية.
يحسب الناس المثول بحضرة الملوك الأرضيين من أعظم الإنعام، فكم تكون نعمة الذين في حضرة ملك الملوك إلى الأبد! (٢ملوك ٢٥: ١٨).
قال الحكيم: «أَرَأَيْتَ رَجُلاً مُجْتَهِدًا فِي عَمَلِهِ؟ أَمَامَ الْمُلُوكِ يَقِفُ. لاَ يَقِفُ أَمَامَ الرَّعَاعِ!» (أمثال ٢٢: ٢٩) وقال صاحب الرؤيا «وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَاسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ» (رؤيا ٢٢: ٤) فهم يبتدئون «يُعَايِنُونَ اللهَ» هنا (أفسس ١: ١٨) ويعاينون في ما بعد «وَجْهًا لِوَجْهٍ» (١كورنثوس ١٣: ١٢).
٩ «طُوبَى لِصَانِعِي ٱلسَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ يُدْعَوْنَ».
لِصَانِعِي ٱلسَّلاَمِ ظنَّ اليهود أن ملكوت المسيح ملكوت الحرب والفتوحات، وأن الذين يحرزون قصب السبق في الجهاد والانتقام من الأمم بسبب تعدياتهم على إسرائيل يجازون خير جزاء. ولكن المسيح يقول إن الإكرام الأعظم هو لمجيء السلام. وليس لهم فقط، بل لصانعيه الذين يبذلون كل جهدهم في إخماد الخصومات ومصالحة المتخاصمين. وعلى ذلك فالذين يبشرون بإنجيل السلام ويجتهدون في المصالحة بين الله والإنسان هم صانعو السلام، لأن هذه المصالحة استعداد لمصالحة الناس بعضهم بعضاً.
أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ يُدْعَوْن ذكرنا أن أتقياء القلب يعاينون الله، أي يدخلون إلى حضرته. فكذلك صانعو السلام هم أبناؤه وورثته. فليسوا في الملكوت الجديد عبيداً مجهولين محتقرين، لأنه يقول عنهم إنهم عملوا عمله، وإنهم مشابهون له ومستحقون أن يدعوا بنيه. فإذن أولاد مَن الذين يهيجون الخصومات بين العائلات وفي الكنيسة؟ وقوله «يدعون» يشير إلى أنه يصرح بهم علانية كأولاده.
١٠ «طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ، لأَنَّ لَـهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ».
٢ كولوسي ٤: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ و١بطرس ٣: ١٤
لِلْمَطْرُودِينَ انتظر اليهود أن كل أمتهم تتمتع ببركات ملكوت المسيح التي تتضمن النجاة التامة من الظلم. وأما المسيح فيقول إن نصيب شعبه تحمُّل المظالم. والمطرودون هنا هم المضطهدون بسبب ديانتهم. وقد يقع الاضطهاد تارة على صيتهم ومالهم، وطوراً على حياتهم. وقول المسيح يشير إلى أن شعبه يكونون محرومين من شرف الممالك الأرضية، وليس ذلك فقط بل إن قوات هذه الممالك تكون عليهم، ويكونون مبغَضين وعرضة للأذى. لأن الطرد ليس من المساوين لهم في المقام والرتبة، بل من الكبراء والأعيان. وجميع الذين ذكروا سابقاً في التطويبات هم عرضة لهذا الاضطهاد، ولا سيما صانعو السلام الذين يبشرون بإنجيل السلام فكل «الذين يعيشون بالتقوى يُضطهدون».
مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ لا يطوِّب المسيح المطرودين لأي سبب، لكن بل المطرودين من أجل تمسكهم بالحق وأمانتهم لله ولواجباتهم. فليس كل من قتل شهيداً لمجرد القتل، بل من قتل لأجل الدين الحق.
لا يكلفنا المسيح أن نعرِّض أنفسنا للاضطهاد، ونهيِّج عليها مقاومة أعدائنا، بل يقول إنه إذا وقع علينا الاضطهاد ونحن مجتهدون في أن نعيش كمسيحيين، يجب أن نحسبه بركة.
لَـهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَات ومعناه (كما في ع ٣) أي أنهم يكونون مميَّزين في ملكوت السماء، فمطرودو الأرض لأجل الله يلقون الترحيب في السماء. والذين احتملوا المظالم لأجل الإنجيل برهنوا أنهم مسيحيون حقيقيون. فما أعظم الفرق بين تطويبات المسيح (ولا سيما الأخيرة منها) وما انتظره اليهود، فقد توقَّعوا الغلبة والمجد، ووعدهم المسيح بالعار والاضطهاد. والمسيح لا يخدع تابعيه بمواعيد فارغة.
١١ «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِين».
لوقا ٦: ٢٢ و١بطرس ٤: ١٣، ١٤
طُوبَى لَكُمْ بعدما وجَّه المسيح كلامه إلى عموم التلاميذ، قال إن ذلك يطلق على سامعيه فرداً فرداً. وهذا التصريح وإن لم يذكر إلا في التطويبة الأخيرة فهو مقصود في كل التطويبات، ويطلق على كل السامعين. وكلامه يدل على أنه لا بد من أنهم يعرفون ذلك بالاختبار. والمضطهدون الأولون كانوا اليهود غير المؤمنين. وفي هذا القول نبوة ووعد.
عَيَّرُوكُمْ أي شتموكم على مسمع منكم، ودعوكم بألقاب مهينة وشريرة. كل ذلك لكونكم مسيحيين.
كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ أي أنهم يقيمون عليكم الدعاوى الكاذبة، وينسبون إليكم كل أنواع الشر. وقد تمت نبوة المسيح كما يُعرف من تاريخ الكنيسة، إذ لم يبق نوع من الشرور إلا واتُّهم المسيحيون به.
مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِين أي لأنكم تلاميذي، ولأنكم تؤمنون بأني المسيح الموعود به. فيجب أن تتوقعوا هذه المعاملة، ومع ذلك تحسبون أنفسكم مطوبين في قبولكم إياها. ومعنى «من أجلي» كما في العدد السابق. ولا نحسب مطوبين إذا انتقدنا الناس باستحقاق (١بطرس ٣: ١٣ - ١٨). ولكن إن كنا نتحمل الآلام من أجل البر فذلك يُحسب من أجل المسيح. وبمجرد صبر المسيحيين المضطهَدين وحِلمهم صدَّق كثيرون من المقاومين صحة الديانة المسيحية.
١٢ «اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هٰكَذَا طَرَدُوا ٱلأَنْبِيَاءَ ٱلَّذِينَ قَبْلَكُم».
لوقا ٦: ٢٣ وأعمال ٥: ٤١ ورومية ٥: ٣ ويعقوب ١: ٢ و١بطرس ٤: ١٣ و٢أخبار ٣٦: ١٦ ونحميا ٩: ٢٦ ومتّى ٢٣: ٣٤، ٣٧ وأعمال ٧: ٥٢ و١تسالونيكي ٢: ١٥
يتضمن هذا العدد نصحا مبيناً على ما قيل في ع ١١، فضيقاتهم لا تستوجب الحزن والاحتمال بالصبر فقط، بل تستوجب الفرح والتهلل، لأن المسيح يأمرهم بذلك.
تَهَلَّلُوا دلالة على أقصى درجات الفرح بدلاً من الخوف والكآبة التي تنتج طبعاً من معاملة كهذه. وهذه الكلمات شجَّعت ألوفاً في ضيقاتهم.
لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيم إن الاضطهادات بذاتها ليست سبباً للفرح، ولكن نتيجتها الموعود بها تسبب ذلك، وتُسمَّى هذه النتيجة أجراً، ليس كأنهم استحقوها، ولكن كأنها ربح يقابل ما خسروه.
فِي ٱلسَّمَاوَات إن أكثر الثواب هناك، لأن الأرض مكان التعب والضيق. وأما السماء فمحل خير الجزاء. وقوله هذا لا يقتصر على أن هذا الأجر سيُعطى في مستقبل ما، بل يبين أنه يُعطى في دار الملك العظيم، وفي حضرته علامة لرضاه. فيجب أن يفرحوا في ضيقاتهم بسبب الأجر الجزيل المعيَّن لهم والمحفوظ لأجلهم. ومن وصفه بالعظمة يظهر أنه يفوق ضيقاتهم واستحقاقهم جداً.
فَإِنَّهُمْ هٰكَذَا طَرَدُوا الطاردون هنا هم اليهود الذين لم يؤمنوا.
ٱلأَنْبِيَاءَ ٱلَّذِينَ قَبْلَكُم كان هؤلاء نواب جميع اليهود الأتقياء، وقد احتملوا نفس هذه الضيقات (عبرانيين ١١: ٣٥ - ٣٨). وبقوله هذا جعل المسيح مؤمني العهد الجديد خلفاء أنبياء العهد القديم في آلامهم ومجازاتهم. ولا شيء يقوي المؤمنين وقت الاضطهاد إلا شعورهم بأنهم أبرياء، وأن المسيح معهم، وأنه هو الذي يعزيهم. وقد جعل هذا التشجيع ألوفاً ينتصرون على الآلام والموت. فما حصلوا عليه في الماضي يجب أن يشجعنا حينما يهددنا الناس بالاضطهادات.
إن المسيحيين يشاركون في الآلام الأنبياء والرسل بل المسيح نفسه، لأنهم يشربون من الكأس التي شربها.
١٣ «أَنْتُمْ مِلْحُ ٱلأَرْضِ، وَلٰكِنْ إِنْ فَسَدَ ٱلْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ ٱلنَّاسِ».
مرقس ٩: ٥٠ ولوقا ١٤: ٣٤، ٣٥
يبين المسيح هنا علاقة تلاميذه بالعالم.
أَنْتُمْ أي تلاميذي عموماً وليس الرسل فقط. أنتم الذين تؤمنون بي. فما أنتم عليه ليس من تلقاء ذواتكم أو من نظامكم، ولكن من قوتي العاملة فيكم.
مِلْحُ ٱلأَرْض ذلك ليس في المستقبل بل الآن، كأن الانفصال بين العالم وأتباعه قد بدأ. ولا بد أن في هذا إشارة إلى تأثير كنيسته في المستقبل.
وللملح فائدتان: (١) أنه يطيب الطعام به. و(٢) أنه يحفظ من الفساد ما هو قابل الفساد. والمقصود هنا بالأكثر الثانية، ويصح قصد الاثنين من جهة تأثير الكنيسة التي تهب الجمال حيثما حلَّت، فتعطي العلم رونقاً جديداً، وترقّي كل أعمال الناس. وأفضل تأثير لها توقيف ميل الناس إلى السقوط في هاوية الفساد. وما شاهدناه من منفعة الملح واحتياجنا إليه دليل على الفائدة العظمى للكنيسة في العالم. ولا يصح هذا التشبيه إلا بشرط أن تكون الكنيسة في العالم لنفعه، فإن الملح لا يفيد الطعام شيئاً ما لم يخالطه.
وَلٰكِنْ إِنْ فَسَدَ بُني الجزء الأول من هذا العدد على أن يقوم الملح بالفائدة المقصودة منه. والجزء الثاني على فرض عدم حدوث هذا، مع ذكر نتيجة ذلك. وفي قوله «إن فسد» فرض غير الواقع، لأن الملح الخالص لا يفسد. ولكن لو صح أنه فسد تكون النتيجة كما ذكر. على أن الملح المجموع على وجه الأرض كثيراً ما يكون مخلوطاً بمواد تشبه الملح في الهيئة، فإذا ذاب الملح بالرطوبة بقيت تلك المواد كأنها الملح، ولكن لا ملوحة لها. ويُظهِر هذا التشبيه ما يترتب على عدم قيام المؤمنين بحفظ من حولهم من الفساد.
بِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ فأي مادة أخرى تقوم مقامه؟ وماذا يحفظ ذلك الملح الذي فقد ملوحته من الفساد؟ ولوضوح الجواب لم يذكره المسيح، فمضمون سؤاله هذا أنه قد ضل معلمو الشعب ومرشدوه، فمن ذا الذي يهديهم؟ قال هذا ليُنهض ضمائر تلاميذه ليسهروا لئلا يضلوا (عبرانيين ٦: ١ - ٦).
يُطْرَحَ خَارِجاً عندما تتوقف الكنيسة أو بعض أعضائها عن أن تؤثر التأثير الذي أراده الله من وجودها لا تكون بلا نفع فقط، بل موضوع ازدراء الناس أيضاً.
١٤ «أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ».
أمثال ٤: ١٨ وفيلبي ٢: ١٥
أَنْتُمْ نُورُ هذا تشبيه ثان لبيان وظيفة الكنيسة. يؤثر الملح داخلياً، ويؤثر النور خارجياً. وهو بركة أعظم من الملح، ومثل للحق والقداسة. فالكنيسة نور لأنها تمنح العالم علماً، وتنفي الضلالة، وتمزق الجهالة الروحية، وتستمد نورها من الله فتشبه القمر الذي يستمد نوره من الشمس ويعكسه إلى الأرض (يعقوب ١: ١٧) وتبعث نوراً لأنها تتمسك بكلمة الحياة التي هي نور (مزمور ١١٩: ١٠٥، ١٣٠ وفيلبي ٢: ١٥ و١٦ و١بطرس ١: ١٩). وترسل نوراً بتعليمها وقدوتها. وأما النور الحقيقي فهو المسيح (يوحنا ١: ٩ و٨: ١٢). والمسيحيون شركاء نوره (أفسس ٥: ٨) فيطلق هذا الكلام على الكنيسة بأسرها، وعلى أفراد المسيحيين. ولا ينفع النور ما لم يكن ظاهراً. فعلى المسيحيين أن يُظهروا تأثيرهم وقدوتهم للعالم ليرى ذلك ويستفيد، وإلا فلا نفع من نورها أكثر من نفع الملح إن فسد.
مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل قصد الله أن تكون كنيسته في تاريخ العالم بمنزلة مدينة على جبل، لأنها منارة العالم العظيمة.
١٥ «وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبَيْتِ».
مرقس ٤: ٢١ ولوقا ٨: ١٦ و١١: ٣٣
القصد من السراج أن يُرى وإلا فلا فائدة منه. وإضاءته ووضعه تحت مكيال عبث، فكذلك إخفاء تلاميذ المسيح ما قبلوه منه، لأن الله قصد أن يكونوا واسطة نشر العلم الإلهي للعالم.
١٦ «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
١بطرس ٢: ١٢ ويوحنا ١٥: ٨ و١كورنثوس ١٤: ٢٥
يجب أن يتخذ المسيحيون نور الحق في هذا العالم المظلم كما يتخذ الناس السُّرج في بيوتهم فيضيئوا للناس باعترافهم وفضائلهم.
قُدَّامَ ٱلنَّاس أي أمام عيونهم لا خفية عنهم.
لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ أي ليكون عملكم الحسن ظاهراً لا خفياً. فالمسيحيون مجبورون أن يحفظوا صيتهم من العار بين الناس.
وَيُمَجِّدُوا يجب أن يكون هدفهم بذلك ليس كهدف الفريسيين أن يمدحهم الناس، بل أن يتمجد الله بهم، أي أن ينشروا معرفته وحمده بين خلائقه. ففي البيت المنير ليس المجد للأضواء بل لصاحب البيت، وفي المدينة العامرة ليس المجد للبنّاء بل للباني.
أَبَاكُم يعلمنا المسيح ابن الله الوحيد الذي بواسطته وحده صرنا أبناء الله أن ندعو الله أبانا. وهذه هي المرة الأولى التي فيها علَّم هذا التعليم، فهو يقوي ثقتنا بالصلاة وينشطنا في طاعته.
١٧ «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ».
رومية ٣: ٣١ و١٠: ٤ وغلاطية ٣: ٢٤
أظهر المسيح في هذا العدد وما يليه علاقته بالناموس والأنبياء، أي بالعهد القديم. وكأنه يجاوب سؤال سائل: ما هي الأعمال الصالحة التي يتمجد بها الله؟ هل ما أمر به العهد القديم هو ما يأمر به العهد الجديد؟
لاَ تَظُنُّوا زعم البعض أن المسيح يرتب قواعد جديدة للاعتقاد والأعمال ويلغي العتيقة. فتوقع الكثيرون التحرر من وجوب طاعة الناموس، فقال: لا تتوقعوا ذلك ولا تخافوا. قد أتى الدين المسيحي إلى العالم ليحفظ كل ما فيه من الصلاح ويوسع دائرته.
أَنِّي جِئْتُ أعني كمعلم من الله يوحنا ٣: ٢
لأَنْقُض أي لأُلغي أو أُبطل.
ٱلنَّامُوس أي ناموس موسى، وهو كل تعاليمه لا رموزه فقط.
أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ المرَّجح أنه قصد كل كتبة العهد القديم الملهمين، لا الذين أنبأوا بالحوادث المستقلة وحدهم. وهاتان الكلمتان «الناموس والأنبياء» تتضمنان كل كلام الله المعلن بالوحي للناس مما أعلن لموسى أولاً إلى ما أعلن لآخر الأنبياء أخيراً.
لقد أبطل الفريسيون الناموس بتقاليدهم، وأبطل الصدوقيون أقوال الأنبياء بإنكارهم ما أوحى إليهم، فلم يعترفوا إلا بالطاعة للناموس.
مَا جِئْتُ أي سواء كان مجيئي للتجسد (يوحنا ١٦: ٢٨) أم للتعليم (يوحنا ٣: ٢).
لأَنْقُض فلم ينقض المسيح شيئاً إلا الخطية.
بَلْ لأُكَمِّل بكلامه وأفعاله، لأن غايته كانت أن يطيع الناموس ويتمم المقصود منه. فلم يقصد أن الناموس ناقص، بل إنه جاء ليتمم بفعله ما لم يكمل، وذلك بتعليمه ومثاله وطاعته وموته عنا، فقال إن اعتبار الناموس لا يقل في ملكوته، بل يبقى له أعظم الإكرام وأفضل الطاعة. وهذا يناقض ما قاله بعضهم إن العهد القديم قد زال، وإنه لذلك ليس دستور إيمان المسيحيين، وإنهم ليسوا مكلَّفين أن يطيعوه. فالكتاب المقدس كتاب واحد، فإن سقط بعضه سقط كله، وإذا ثبت البعض ثبت الكل. وقد كمل المسيح الناموس بخمسة أمور:
الأول طاعته له (غلاطية ٤: ٤) والثاني تتميمه كل رموزه ونبواته، والثالث فداؤه إيانا من قصاص الناموس الذي خالفناه ومن لعنته، فإنه بذلك أكمل الناموس أفضل تكميل، لأن الناموس يقول إن «اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٢٠). فمات المسيح بدل الأثمة. والرابع تفسيره إياه وتوضيحه وإظهار معناه الروحي. والخامس إنه يكتبه على قلوب الناس ويهبهم النعمة ليطيعوه. ولم يأت مقتصراً على تكميل الناموس، بل أزال منه كل ما زيد عليه من التعاليم التي أبطلها.
١٨ «فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلُّ».
لوقا ١٦: ١٧
الناموس لا يتغير لأنه إعلان إرادة الله المنزَّه عن التغير. فلم يكن قصد المسيح أن ينقض الناموس لأن نقضه محال.
ٱلْحَقَّ ومعنى هذه الكلمة في الأصل اليوناني «آمين» وهى المستعملة في خاتمة الصلاة والبركات واللعنات والنذور وسائر الإعلانات الدينية تثبيتاً لها.
أَقُولُ لَكُم أنا ابن الله وابن الإنسان، أقول لكم يا تلاميذي.
إِلَى أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ الخ إذن لا يلغي الناموس إلى الأبد لأنه جزء من تكوين الكون، فيدوم ما دام الكون. وهذا الكلام مثل بين اليهود يدل على عدم إمكان التغيير، وليس معناه أن السماء والأرض تزولان في ما بعد، وبزوالهما يزول الناموس أيضاً. وليس هنا أدنى تلميح إلى نهاية كل شيء، بل إذ لم يكن شيءٌ من المخلوقات أثبت من نظام الكون، اتَّخذه المسيح مثالاً لعدم التغيير.
حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ عبارة مستعارة من مصطلحات الكتابة، تعني أنه لا يبطل من الناموس شيء قبل أن تكمل غايته. والكلمة المترجمة هنا حرفاً هي «يوتا» في اليوناني و «يود» في العبراني و «ياء» في العربية، وهى أصغر حروف اللغة اليونانية والعبرانية.
من الناموس: أي يبقى جزء منه. فلا يمكن أن يزول حرف الناموس بدون أن يكون قد تم بالروح والحق. فإذا نظرنا إلى الناموس الطقسي باعتباره رمزاً وظل الخيرات العتيدة، رأينا أنه زال بالمسيح. وأما جوهره فلأنه جزء من كلام الله يدوم إلى الأبد في السماء (١بطرس ١: ٢٥). فزوال ما يبدو أنه زال من الناموس يشبه زوال البراعم والأزهار عند يكمل الثمر ويحل محل الزهور.
حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلّ حتى يتم فعلاً كل ما وعد به وكل ما أشارت الرموز إليه. وليس لحروف الكتابة ونقطها معان ليتم كل منها بمفرده، ولكن الناموس كله سيبقى كنظام حتى تكمل كل مقاصده.
وإن سُئل: كيف تتَّفق هذه الأقوال القوية مع قصد المسيح أنه بمجيئه يبطل رسوم الناموس الطقسي؟ فالجواب إن الناموس الإلهي الوحيد يتضمن بعض الحوادث الوقتية قصد الله أن يزيلها بعد ما تمت غايتها. فإزالة الجزء الطقسي من الناموس ضروري لإتمام كل الناموس، كما أن إبطال الصك ضروري عند إيفاء الدين المعيّن فيه. والرسول أوضح كيفية تكميل يسوع الناموس الطقسي في عبرانيين أصحاحات ٧ و٨ و١٠. وقصد المسيح بهذا الكلام أن يقينا من الضلالة في أن نستنتج من ذلك أن المسيحيين مكلفون بطاعة الشريعة اليهودية أو جزء منها. وقد فسَّر المسيح في بقية هذا الأصحاح وأصحاحي ٦، ٧ ما هو روح هذه الشريعة، وكم هي أوسع مما ظن الناس. وبذلك علَّم أن حياة كل مسيحي يجب أن تُظهر معنى كل حرف ونقطة منها.
١٩ «فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هٰذِهِ ٱلْوَصَايَا ٱلصُّغْرَى وَعَلَّمَ ٱلنَّاسَ هٰكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهٰذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ».
يعقوب ٢: ١٠
فَمَنْ نَقَض أي ألغى أو أبطل. ومعظم الإشارة هنا إلى روح الناموس (انظر يعقوب ٢: ١٠) فلا يشير إلى قصور في حفظ ناموس الله الأخلاقي، الذي خالفه الجميع، بل إلى مخالفتهم إياه عمداً بحُجَّة أنهم أُعفوا منه.
ٱلصُّغْرَى أعني الأقل قيمة في ذاتها، أو في اعتبار الناس لها. ولأنها جزء من الناموس وجب على الناس طاعتها. ومن خالفها عمداً يكون قد أخطأ في الكل (يعقوب ٢: ١٠).
قسمَّ اليهود الوصايا إلى كبرى وصغرى، وحسبوا أصغر الكل الوصية المتعلقة بأعشاش الطيور (تثنية ٢٢: ٦، ٧) ولا شك أن المسيح لم يشر هنا إلى وصية كهذه، بل إلى الناموس الأخلاقي وإلى كبح الأفكار والشهوات التي يحسبها الناس لا طائل تحتها بالمقابلة مع الأعمال التي وحدها لها الاعتبار عندهم. وهذه الخطايا ليست صغرى في عيني الله، فلا يمكن أن يرتكبها المسيحيون وينالون رضاه.
وَعَلَّمَ ٱلنَّاسَ هٰكَذَ بأقواله أو بقدرته ليستخفوا بالناموس كلياً أو جزئياً.
أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أي في ملكوت المسيح الجديد، لأن الإنسان بتركه أصغر وصية من الناموس ينحط إلى أدنى درجة في ذلك الملكوت، ويصير موضوع الحزن والشفقة. ولا يطرد الجاني إلى الأبد من الملكوت إذا كان تعديه ليس عمداً، أو إذا تاب عن جنايته. فمُكرِّم الناموس مكرَّمٌ من الإنجيل ومهينهُ مهان.
مَنْ عَمِلَ وَعَلَّم الأفضل هو من يقرن المعرفة بالعمل، ولا يكتفي بالتعليم الصحيح. فهذا يعتبر عظيماً عند المسيح. فالعلم والعمل هما الواسطتان العظيمتان اللتان عيَّنهما الله لإصلاح العالم.
٢٠ «فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ».
رومية ٩: ٣١، ٣٢ و١٠: ٣
شرح هذه الآية هو كل موعظة المسيح على الجبل، فالبر المطلوب من أصحاب النظام الجديد يفوق كثيراً بر الكتبة والفريسيين، الذين ألزموا الناس بحفظ حرف الناموس ونسوا روحه. وقد صرح بذلك في تسع قضايا أخطأوا فيها بشرحهم ناموس موسى، وهي: القتل، والزنا، والطلاق، والقسَم، والانتقام، والمحبة الخالصة، والصَّدقة، والصلاة، والصوم.
فَإِنِّي أَقُولُ أي باعتبار إني ابن الله الذي يعلن إرادة الآب. قال هذا ليجعل قوله ثابتاً موقراً.
يَزِدْ إن برَّ أتقى الناس ليس كافياً في عيني الله، فلا يجب أن ننظر إلى أصحاب بر كهذا كنموذج لنا، بل يجب أن تزيد تقوانا على تقواهم. توقع الكثيرون من اليهود أن يسمعوا من المسيح خلاف ذلك، أي أنه يكلفهم في النظام الجديد بأقل مما كلفهم رؤساؤهم سابقاً. وبيان البر المطلوب هو: «الْيَهُودِيُّ فِي الْخَفَاءِ هُوَ الْيَهُودِيُّ، وَخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ لاَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخِتَانُ، الَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللهِ» (رومية ٢: ٢٩).
بِرُّكُمْ البر هو قانون الاعتقاد والعمل، وهو كل ما يكلف الله الإنسان به ليرضيه.
ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم معلمو الناموس، وحافظوه كل الحفظ، ومرشدو الشعب الروحيون الذين كان يعتبرهم الناس أقدس البشر، حتى شاع القول بين اليهود أنه «إذا لم يدخل السماء سوى شخصين فلا بد من أن يكون أحدهما فريسياً». وكان الكتبة في أول أمرهم يكتبون الناموس، وبعد ذلك صاروا مفسريه. وهم من شيعة الفريسيين.
لَنْ تَدْخُلُوا يزيد في هذا على قوله «فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هٰذِهِ ٱلْوَصَايَا ٱلصُّغْرَى وَعَلَّمَ ٱلنَّاسَ هٰكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (ع ١٩) ولن يدخله أبداً.
٢١ «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْمِ».
خروج ٢٠: ١٣ وتثنية ٥: ١٧
قَدْ سَمِعْتُمْ أي تعودتم سمعه من معلميكم الكتبة والفريسيين.
لِلْقُدَمَاءِ هم آباء الأمة الذين قبلوا الناموس على يد موسى. و «قيل للقدماء» أي ما اصطلح عليه الكتبة والفريسيون عند اقتباسهم شيئاً من الشريعة.
لاَ تَقْتُلْ هذه الوصية السادسة (خروج ٢٠: ١٣). وقول موسى لم يتغيَّر، وأما مفسروه فقد غيروا معناه. فلا اختلاف بين موسى والمسيح.
وَمَنْ قَتَلَ هذا شرح الكتبة والفريسيون ما أضافوه إلى الأصل كأنه جزء منه، وفسروا الوصية بأن الذي يقتل فعلاً هو المستوجب الحكم، فضيَّقوا دائرة حكم الوصية.
مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْم هذا عقاب من يخالف هذه الوصية، بغضّ النظر عن كونه في هذا العالم أم في الآتي.
٢٢ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ».
خروج ٢٠: ١٣ وتثنية ٥: ١٧ ويوحنا ٣: ١٥
بعد أن ذكر المسيح تعليم الفريسيين في هذه الوصية شرحها شرحاً أوسع من شرحهم، فإنهم قيّدوا القتل في شرحهم بأنه القتل الفعلي وعمداً. ولم يعتبر المسيح العمل الخارجي فقط قتلاً، بل هو أيضاً النوايا الشريرة التي سببت ذلك. ولأن البغض الذي يتربى في القلب يقود إلى القتل، ويدخل تحت هذا الحكم. فعند الله الانفعال الداخلي يشبه العمل الخارجي.
وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لا يقصد مقارنة قوله بقول موسى «لا تقتل» بل مقارنته بشرح الكتبة الذي قيَّد معنى الوصية بالقتل عمداً وفعلاً.
عَلَى أَخِيهِ أي أحد البشر، لأن الجميع من آدم وجميعهم خليقة الله. فيجب أن نعتبر جميع الناس إخوتنا ونعاملهم كذلك.
بَاطِلاً كما يُدان الناس على القتل عمداً وفعلاً، يُدانون على نواياهم الشريرة التي تقودهم إلى القتل. كما قال يوحنا الرسول «كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ» (١يوحنا ٣: ١٥). والكتاب المقدس لا يدين من يغضب عندما يشاهد عملاً شريراً (أفسس ٤: ٢٦) بشرط أن يكون الغضب على العمل أكثر مما على العامل. والكلمة المترجمة هنا «بالحكم» تشير إلى أصغر محاكم اليهود وهى مؤلفة من سبعة أعضاء (تثنية ١٦: ١٨).
رَقَا ذكر المسيح أولاً الحكم على انفعال البغض، وذكر هنا الحكم على كلام البغض. فمعنى «رقا» باطل أو فارغ، وهي كلمة كانت عندهم للشتيمة والتعيير، فهي علامة الغضب والاحتقار. بها عيَّرت ميكال داود حين رقص أمام التابوت (٢صموئيل ٦: ٢٠). (انظر الأصل العبراني واليوناني).
فنرى أن المسيحية تأمر باللطف والرقة والإنسانية نحو الجميع، وتعلم أن المحبة هي خلاصة جميع الوصايا.
ٱلْمَجْمَعِ يُستعمل غالباً للإشارة إلى المجمع السبعيني الذي هو أعظم مجمع عند اليهود. فهذا الذنب الذي يستخف به الفريسيون يحسبه المسيح مستوجباً حكم هذا المجلس الكبير. فنتعلم من ذلك أن الله يعاقب الشاتمين (متّى ١٢: ٣٦).
يَا أَحْمَقُ هذه الكلمة تستعمل للاحتقار والغضب والاتهام بالشر، وباستعمالها مُنع موسى وهارون من دخول أرض الميعاد (عدد ٢٠: ١٠). (انظر الأصل العبراني واليوناني).
نَارِ جَهَنَّمَ المراد بجهنم هنا إما دار العقاب في الآخرة، أو وادي هنوم قرب أورشليم وعلى الجنوب الغربي منها حيث جرت العادة أن تحرق جثث المذنبين وأوساخ الهيكل (يشوع ١٨: ١٦ وإرميا ٧: ٣١). فهناك كانت النيران مضطرمة دائماً، فكانت رمزاً للعذاب الأبدي. وفي هذا الوادي قدمت الذبائح إلى الإله «مولوك» (٢ملوك ١٦: ٣). وبعد ذلك صار مكان إلقاء كل أقذار المدينة.
هذه الوصية لا تنحصر في القتل فعلاً، بل تفيد أيضاً أن فكر البغض هو قتل يستوجب القصاص. والتلفُّظ بكلمة مثل «رقا» التي تدل على الحقد في الباطن ذنباً يقتضي أن يعاقب مرتكبه في أعظم المجالس. وربما قال أحد لغيره «يا أحمق» بانفعال الغضب الشديد فوجب عليه عذاب جهنم. والنتيجة أن إثم الإنسان يتنوع بحسب حالة قلبه. وعلى هذا القياس يستوجب القصاص هنا وفي المستقبل. وهذه الثلاثة «الغضب على الأخ» واستعمال كلمتي «رقا وأحمق» ليست كناية عن ثلاثة أنواع من الخطية تستوجب ثلاثة أنوع من القصاص «الحكم» «والمجمع» «ونار جهنم»، بل هي إشارة إلى انفعالات النفس المختلفة في قوتها، التي جميعها في عيني الله تستوجب الموت. فلا تمييز هنا بين خطايا عرضية وخطايا مميتة كما يزعم البعض، لأن كل الخطايا مميتة في عيني الله.
وأما كون المسيح قصد بقوله هذا أحوال القلب لا مجرد النطق بالفم، فيظهر من توجيهه مثل هذا الكلام إلى الكتبة والفريسيين (متّى ٢٣: ١٧، ١٩) ومن توجيه بولس مثل ذلك إلى الملحد (١كورنثوس ١٥: ٣٦).
٢٣ «فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى ٱلْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ».
متّى ٨: ٤ و٢٣: ١٩
أتى المسيح في هذا العدد بنتيجة ما تقدم من الواجبات المتضمنة في الوصية السادسة. والتفت من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب، ليجعل كلامه أشد تأثيراً في السامعين. فقد تبين أن هذه الوصية تراعي عواطف الإنسان الداخلية وكلماته الطفيفة، فيجب أن يتصالح المتخاصمون حالاً في كل الاختلافات ذات الشأن. ويجب أن تسبق المصالحة كل الواجبات الدينية الخارجية، لأن تلك شرط لازم لقبول هذه. وهذا الكلام يبين خطر الغضب على الآخرين، ووجوب الاجتهاد في إزالته من قلوبنا ومن قلوب غيرنا من الناس.
فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ أي إذا وصلت إلى المذبح وابتدأت تقدم قربانك.
ٱلْمَذْبَح لا تدل كلمة المذبح هنا على وجوب استعمالها في التعبير عن العبادة المسيحية، لأن الكلام هنا متعلق باليهود. ولا تشير إلا إلى طقوس يهودية، لأن الذين خاطبهم في ذلك الوقت كانوا يهوداً، فشخَّص أمامهم حادثة تجرى في هيكلهم.
وَهُنَاكَ تَذَكَّرْت كأن ذلك لم يخطر على باله قبلاً. هكذا كل من يهيء قلبه لتقديم عبادة مقبولة يتذكر ما غفل عنه من الواجبات.
أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْك لا يُقال فيه إن كان لك شيء على أخيك، وجاء الكلام في هذا الشأن في بشارة مرقس ١١: ٢٥ وكلمة «أخيك» هنا بمعنى صاحبك أو أخيك حقاً. فإذا شهد علينا ضميرنا أننا أسأنا إلى أخينا بشيء، يجب ألا نتأخر حتى يأتي هو ويعاتبنا، بل يجب أن نفعل كل ما يأمرنا به الضمير. فإن كانت دعوى أخينا علينا باطلة ومبنيَّة على الظن، يجب أن نجتهد في إزالة سوء الظن هذا، ونصطلح معه، ولا نبقي بغضة قلبية له.
٢٤ «فَٱتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ ٱلْمَذْبَحِ، وَٱذْهَبْ أَوَّلاً ٱصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ».
أيوب ٤٢: ٨ و١تيموثاوس ٢: ٨ و٥: ١٣ و١بطرس ٣: ٧
إذا تأخرت عن تقديم قربانك ففي وسعك أن تقدمه في وقت آخر، وأما إذا أخَّرت المصالحة فربما لا يكون لك فرصة لإجرائها بعد ذلك.
قُرْبَانَك سمي بهذا الاسم كل ما كان يُقدم على المذبح، سواء كان ذبيحة للكفارة أم تقدمة للشكر.
قُدَّامَ ٱلْمَذْبَحِ ويعني أيضاً قدام الله. ولا يقتصر المسيح هنا على ما يجب علينا إذا حدثت مثل هذه تماماً، بل يريدنا أن نجري المصالحة مع إخوتنا ولو في أصعب الأحوال.
ولابد أن يعلمنا هذا وجوب أن يصطلح المسيحي مع أخيه قبلما يأتي إلى مائدة الرب (العشاء الرباني) أو إلى كل العبادات الدينية، لأن العبادة المتقدمة بالغضب مرفوضة (١تيموثاوس ٢: ٨). وليس المقصود أنه يجوز ترك العبادة إذا لم يوجد روح لائق بها، لأن ذلك يضيف خطية على خطية. يمتنع البعض عن حضور الكنيسة إن حدث خلاف بينهم وبين بعض الإخوة. فيجب عليهم بدل ذلك أن يصالحوهم حالاً ويثابروا على العبادة.
ٱذْهَب ليس بقصد ترك العبادة، بل لإجراء المصالحة. وقوله «اذهب» يتضمن ألا تتوقع مجيء أخيك إليك بل أن تبدأ ذلك أنت.
ٱصْطَلِح إما بطلب المسامحة أو بمنحها، وابذل كل ما في طاقتك لإزالة سبب الاختلاف. فإن كنت قد اختلست حقه فرُدَّه له، وإن كنت مديناً له بشيء أوفِه، وإن كنت قد شتمته اعترِف بذنبك واطلب الغفران. وإن كان متوهماً فاجتهد في إزالة الوهم، لأن الصلاة لا تُقبل ما لم يزُل كدر القلب بالمصالحة. فيجب إجراء هذه أولاً ثم الصلاة.
من الأمور المقصودة في العبادة تصليح حال العابد، فلا يُقبل عند الله قربان المسيء إلى أخيه، ولا يرضى بالعبادة الخارجية ما لم تقدم بروح الوداعة والمحبة. فالحسد والبغض يفسدان أفضل قرابيننا، فمن العبث أن نعبد الله ونحن غافلون عن واجباتنا لإخوتنا. كان الفريسيون ينظرون إلى القربان فقط، وأما الله فينظر إلى روح من يقدمه.
أَخِيك أيُ شخصٍ كان.
وَحِينَئِذٍ تَعَال هذه المصالحة لا تجعل تقديم العبادة غير ضروري، لأن القيام بواجباتنا للناس لا يعفينا من القيام بواجباتنا لله. ويُستنتج من هذا أنه بعد المصالحة يقبل الله قربان العابد لأن الله راضٍ عنه. وخلاصة تعليم الآية كلها أن عبادتنا لله ليست مقبولة أصلاً إن تركنا واجباتنا للناس وعشنا معهم بالخصام.
٢٥ «كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي ٱلطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ ٱلْخَصْمُ إِلَى ٱلْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ ٱلْقَاضِي إِلَى ٱلشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي ٱلسِّجْنِ».
أمثال ٢٥: ٨ ولوقا ١٢: ٥٨، ٥٩ ومزمور ٣٢: ٦ وإشعياء ٥٥: ٦
ذكر الاختلاف مع الأخ وتوصل بذلك إلى ذكر الشكاية إلى الحكومة، فأورد الحوادث المزعجة المتعلقة بتلك الشكاية، وبيَّن أنها من الأسباب التي توجب على الإنسان أن يفضل إيجاد طريقة للاتفاق مع خصمه على انتظار نتيجة المحاكمة المجهولة. وغاية هذه النصيحة كغاية التي قبلها، منع الخصومة والعداوة المخالفة لوصية الله. فكأنه قال: إن كان بينك وبين أخيك دعوى فاتفق معه ولو بترك بعض حقوقك، فهذا خيرٌ لك من بقائك تحت خطر خسارة الدعوى وخسارة المال بذهابك إلى الحكومة ووقوع القضاء عليك أخيراً بالسجن. وكل هذا مع ما لا بد منه من هياج الغضب في قلبك وقلب خصمك.
وليس المقصود أن الله هو الخصم كما توهم البعض، بل بيان دعوى في محكمة سياسية. ويحتمل أن يكون معناه أنه من الحكمة في الأمور الدينية أن يتفق الإنسان مع خصمه قبل خروج الحكم الذي ربما أوقعه في عذاب السجن الطويل. فكذلك من الحكمة أن نصالح أخانا الذي له دعوى علينا لئلا يشتكي ظلمنا إلى الديان العظيم فيلقينا في السجن الأبدي!
كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ هذا شرح لمطالب الوصية السادسة. فالذي يحب الدعاوى السياسية، والذي يلجأ دائماً للمحاكم والقضاء يخالف روح هذه الوصية. والمعنى: أَظهِر استعدادك للاتفاق مع خصمك قبل فوات الوقت، لأن الدعاوى الطفيفة تتجسم كلما طالت مدتها. والخصم هنا هو الشخص المشتكي لا الضمير ولا الشيطان.
فِي ٱلطَّرِيق أي الطريق إلى محل المحاكمة. والمعنى: اغتنم الفرصة الأخيرة للاتفاق والمصالحة قبل المحاكمة. فيذكر المسيح نتائج عدم الاتفاق بألفاظ مأخوذة من اصطلاحات المحاكم. فإن أبى الإنسان المصالحة فالنتيجة خطرٌ عليه، سواء أكانت في محكمة أرضية أم سماوية.
يُسَلِّمَكَ ٱلْخَصْمُ إما بالشكوى أو بطلب إصدار الحكم.
وَيُسَلِّمَكَ ٱلْقَاضِي بإصدار الحكم، وأمر الشرطي بإجرائه.
فَتُلْقَى فِي ٱلسِّجْن عند أمر القاضي بذلك. وهو كلام عن معاملتنا بني جنسنا ومعاملتهم إيانا. والسجن لا للتطهير هنا بل للقصاص.
٢٦ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ ٱلْفَلْسَ ٱلأَخِير».
تُظهر هذه الآية النتائج الجسيمة من الإبطاء في فض الدعاوى. إن طريق الحكمة في الأمور الدينية المشار إليها هنا هي طريق الحكمة في الأمور الروحية. فإذا كان الاتفاق في هذه الحياة مع الأخ الذي أسأنا إليه ضرورياً، فبالأولى أن يكون ضرورياً قبل أن نقف أمام القاضي العظيم في السماء والحكم علينا بالعقاب الأبدي.
حَتَّى تُوفِيَ ٱلْفَلْسَ ٱلأَخِير أي حتى توفي الدَين كلَّه. فهذا ممكن في الديون المالية لا في الديون الروحية، فإنه يتعذر على الإنسان أن يوفي عن خطاياه، فلا يقدر أن يوفي مثل هذا الدَين إلا فادي الخطاة حمل الله رافع خطايا العالم.
وليس في هذه الآية ما يثبت أبدية العذاب الجهنمي أو يناقضه، لأن المقصود هو أن الوقت الحاضر هو الوقت المناسب للاتفاق والمصالحة. وأما بعد ذلك فيجري العدل حقّهُ بكل شدة.
٢٧ «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ».
خروج ٢٠: ١٤ وتثنية ٥: ١٨
يُفسر المسيح هنا الوصية السابعة على منوال تفسيره للوصية السادسة، ويحسب شهوتي الجسد والعين كسراً للوصية، ويعتبر مجرد النظر طاعةً للأفكار والأهواء النجسة. وهذا ذنب داود الذي قاده إلى الزنا والقتل (٢صموئيل ١١). فالرب يقارن تعليمه بتعليم الفريسيين، لا بالوصية عينها، لأنهم علَّموا أنه لا يحسب متعدياً على الوصية إلا من زنى فعلاً. وأما هو فيقول إن معنى الوصية هو أن الطهارة الداخلية واجبة كالخارجية، ويجب أن تحفظ بكل اعتناء، وبإنكار الذات، وبضبط أفكارنا وميولنا.
٢٨ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ».
تكوين ٣٤: ٢ و٢صموئيل ١١: ٢ وأيوب ٣١: ١ وأمثال ٦: ٢٥
مَنْ يَنْظُرُ نظر متعمداً بقصدٍ شرير طاعةً للعواطف الشهوانية، لا النظر بالصدفة (٢بطرس ٢: ١٤).
فَقَدْ زَنَى تنهى هذه الوصية عن الفكر الرديء كما تنهي عن الفعل عينه. فإن زنى الإنسان في قلبه فقط فهو أثيم بمقتضى الشريعة، ومستوجب عقاب الله. فجوهر الخطية في قصد الإنسان، لأن الأفكار الفاسقة تدنسه.
فِي قَلْبِه لأن القلب مركز الحياة ومحور الميول والعواطف. وزناه يدنس هيكل الروح القدس. فمن صرف نظره وأفكاره عن الخطية حفظ نفسه من التجربة والسقوط في حمأة الإثم والموت الأبدي. فإن كانت لمحة من عيوننا وأقل تسليم إلى أهوائنا يوقعنا تحت حكم الزنا في عيني الله، فما أشد احتياجنا إلى دم المسيح وبره للتطهير وغفران الخطايا والتبرير. فما أقدس شريعة الله وأوسع نطاقها. إنها لا تقتصر على عملنا، بل على خفايا قلوبنا.
٢٩ «فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ».
متّى ١٨: ٨، ٩ ومرقس ٩: ٤٣ - ٤٧ ورومية ٨: ١٣ و١كورنثوس ٩: ٢٧ وكولوسي ٣: ٥
عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى الخطاب لكل فردٍ من الحاضرين. وذكر العين دون غيرها من الأعضاء لأنها آلة التجربة، ولتعلقها مع النظر العشقي المذكور في ع ٢٨. وخصَّ العين اليمنى لأنها الفضلى عند سامعيه.
تُعْثِرُك تجذبك للخطية.
فَٱقْلَعْهَا ليس حرفياً، لكن بإنكار الذات، لأنه يمكن أن يقلع الإنسان عينه حرفياً وتبقى الشهوة داخله. فيجب أن نقاوم أول الشهوة الرديئة، ولو كلفنا ذلك خسران الأكثر نفعاً ولذة لنا، وأن نحرم ذواتنا مما هو عزيز عندنا وضروري لنا، حينما يحوجنا إلى ذلك خير نفوسنا. «وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ» (كولوسي ٣: ١٥).
فخيرٌ للإنسان أن يخسر أفضل أعضائه من أن يخسر عفته الأخلاقية. فهذه الآية تقطع أسباب ارتكاب الخطية. وذلك يستلزم إبطال عادات غريزية، إن كانت عثرةً لنا. وهي تحرم علينا تناول المسكرات، والتردد على المراقص ودور اللهو، وقراءة القصص والقصائد العشقية، والنظر إلى الصور التي تهيج الشهوات الردية، والاستماع إلى المحادثات الدنسة والأغاني الغرامية. والخلاصة، أن لا أمان للإنسان إلا بمقاومة التجربة أول ظهورها.
وَأَلْقِهَا عَنْك كأنها مكروهة لأنها تتجه للخطية. وكما أن الجرّاح لا يمتنع عن بتر أحد أعضاء الجسد ليحفظ الحياة، هكذا نحن يجب أن لا نعبأ بخسارة عالمية مهما كانت عظيمة، لكي نخلص حياتنا الأبدية، لأن كل الخسائر العالمية لا تعادل خسارة رضى الله وخسارة النفس.
لأَنَّهُ خَيْرٌ لَك إنكار النفس هو عين المحبة الحقيقية لها، لأنه ينتج خيراً روحياً وجسدياً، زمنياً وأبدياً. فخسارة عضو من أعضائنا برضانا إلى وقت ما، خيرٌ من خسارة الجسد كله بالرغم منا إلى الأبد.
٣٠ «وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّم».
ما قاله المسيح عن العين اليمنى قاله عن اليد اليمنى، فنقطعها إن كنا لا نقدر أن نبقيها بدون أن نخطئ بواسطتها أمام الله. وفي هذا أيضاً ليس المقصود قطعاً حرفياً، بل معناه أن لا نتأخر عن ترك كل شيء يجذبنا إلى الخطية، مهما كان عزيزاً وضرورياً لنا. فاليد التي يجب قطعها هي يد الظلم والانتقام التي تفعل الشر. ويُكنى بها عن عادات ولذات شريرة بذاتها، ولكن تتهيج بها الشهوات التي تؤدي إلى السقوط والتهور في الخطية. فأفضل طريقة لطاعة روح الأمر تشغيل العين واليد بفعل الخير لتكونا آلتين للبر فقط.
٣١ «وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ».
تثنية ٢٤: ١ وإرميا ٣: ١ ومتّى ١٩: ٣ الخ ومرقس ١٠: ٢ الخ
خالف الكتبة والفريسيون روح الوصية السابعة أيضاً بشرائعهم من جهة الطلاق، إذ فسروا ما ورد في تثنية ٢٤: ١ كإذن لتطليق الإنسان امرأته لأقل سبب، بشرط أن يعطيها كتاب طلاق. فالمسيح لا يقارن هنا تعليمه بتعليم موسى، بل بشرح الفريسيين لذلك التعليم. وتظهر عظمة الشرور الناتجة من شرحهم الفاسد مما قيل في ملاخي ٢: ١٤ - ١٦.
خلق الله أولاً رجلاً وامرأة، ورسم أن يدوم اقترانهما حتى موت أحدهما (تكوين ٢: ٢٤). ولكن موسى وجد بني إسرائيل صاروا قساة القلوب، وتعوَّدوا الطلاق كثيراً، فاستحسن كحاكم سياسي أن لا يمنع الطلاق مطلقاً بل أن يضع له حدوداً. وأما المسيح فأرجع الشريعة إلى أصلها. وهي لا تزال إلى يومنا هذا شريعة الله الوحيدة التي تصون راحة العائلة والأخلاق العامة والاعتبار الواجب للمرأة والتربية الحسنة للأولاد.
كِتَابَ طَلاَق أمر موسى بذلك كحاكم سياسي ليمنع الطلاق على الفور، وأذن به دفعاً للشر الأعظم (مرقس ١٠: ٥). ولم يكن إعطاء كتاب الطلاق للمرأة اتهاماً لها بعدم الاستقامة، بل ليكون لها شهادة بعفتها، لأن الشريعة أمرت أن الزانية تعاقب بالموت (عد ٥: ٣١).
٣٢ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ ٱلزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي».
لوقا ١٦: ١٨
ينهى المسيح عن الطلاق مطلقاً إلا عندما ينحل رباط الزواج بزنى أحد الزوجين. وفسر بعضهم قول الرسول في ١كورنثوس ٧: ١٥ إنه يجيز الطلاق أيضاً لعلة الهجر الدائم.
يَجْعَلُهَا تَزْنِي أي بواسطة هذا الطلاق غير الجائز يجعلها تحت تجربة الزواج ثانية بآخر. وهي لا تزال مرتبطة بالأول بحسب شريعة الله.
وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِ لأنه يأخذ امرأة غيره.
٣٣ «أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ».
متّى ٢٣: ١٦ خروج ٢٠: ٧ ولاويين ١٩: ١٢وعدد ٣٠: ٢ وتثنية ٢٣: ٢٣
موضوع كلام المسيح هنا الحلف أو استعمال الأقسام المحرمة. ضلَّ اليهود في هذا الأمر ضلالتين: في الاعتقاد والعمل. (١) أن كل حلف جائز إلا الحلف بالكذب الذي ذكر فيه اسم الله. و(٢) أن كل الأقسام لا تربط الإنسان إذا لم يُلفظ فيها اسم الجلالة. فظنهم هذا كان مناقضاً لتعليم الله في الوصيتين الثالثة والتاسعة.
فالمسيح يعلم هنا أن المخالفة لا تقوم بالألفاظ المستعملة في الحلف، ولا يكون غايته إثبات الكذب، بل باستعماله على أي صورة كانت بدون لزوم. وأن كل الأقسام والنذور تقيد الإنسان، سواءٌ لفظ فيها اسم الله أم لا.
لاَ تَحْنَثْ هذه الكلمة لا توجد لفظاً بين الوصايا العشر ولا في غيرها من ألفاظ التوراة، ولكن مضمونها في لاويين ١٩: ١٢ وهو قوله «لاَ تَحْلِفُوا بِاسْمِي لِلْكَذِبِ، فَتُدَنِّسَ اسْمَ إِلهِكَ» (لاويين ١٩: ١٢). هذا يتضمن النهي عن الحنث، وهو الخلف في اليمين.
بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ هذا مأخوذ معنىً من العدد ٢٠: ٢ والتثنية ٢٣: ٢٣. فاليهود فسروا هذه الأوامر بطريقة أضاعت معناها وقوتها، لزعمهم أن نكث القسم أو النذر الذي لم يُذكر فيه اسم الله ليس حراماً.
٣٤ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا ٱلْبَتَّةَ، لاَ بِٱلسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ ٱللّٰهِ».
متّى ٢٣: ١٦، ١٨، ٢٢ ويعقوب ٥: ١٢ إشعياء ٦٦: ١
ذكر المسيح بعض أمثال ينهى بها عن كل الأقسام غير اللازمة.
لاَ تَحْلِفُوا ٱلْبَتَّة ذلك من جهة أمورنا الشخصية والعامة، فلا تمس واجباتنا للحكومة، فالمحاكم تضطر لكثرة الحنث بين الناس أن تطلب القسَم الشرعي واسطةً لإظهار الحق. فلا ينهي المسيح عن مثل هذه الأقسام، بل عن المستعملة في المحادثات العادية لغير مقتضى.
ويظهر أنه لم يرد بقوله الأقسام الشرعية مما أتاه هو وأتاه الرسل بعده وأتاه الله نفسه (متّى ٣٦: ٦٣، ٦٤ ورومية ١: ٩ وغلاطية ١: ٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٣١ وعبرانيين ٦: ١٣ - ١٧ و٧: ٢١). فإن تلك الأقسام أُمر بها في خروج ٢٢: ١١ ولاويين ٥: ١وعدد ٥: ١٩ وتثنية ٢٩: ١٢، ١٤. والمسيح لم يأت لينقض الشريعة الموسوية.
فمن واجبات المسيحي عندما يؤمر بالقسم شرعاً أن يقسم بكل وقار، لا ليجبر نفسه على الكلام بالصدق بل ليقنع الآخرين أنه يصدق.
لاَ بِٱلسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ ٱللّٰه الحلف بالسماء هو كالحلف بالله ذاته، لأن السماء مقامه ومحل عرشه، فلذلك يرتبط الإنسان بهذا القسَم كما يرتبط بقسمه باسم الجلالة.
٣٥ «وَلاَ بِٱلأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ ٱلْمَلِكِ ٱلْعَظِيمِ».
مزمور ٤٨: ٢ و٨٧: ٣
لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ جاء في إشعياء «هكذا قال الرب: السماوات كرسيي والأرض موطئ قدميَّ» (إشعياء ٦٦: ١). فمن يحلف بالأرض فكأنه حلف بالله، لأن علاقتها به تجعل الحلف ذا قيمة. وسُميت موطئ قدميه لأنها له، ولأنها حقيرة بالنسبة إلى عظمته.
وَلاَ بِأُورُشَلِيم كانت عادة اليهود أن يصلّوا متجهين نحو تلك المدينة (١ملوك ٨: ٣٨، ٤٢، ٤٤ ودانيال ٦: ١٠). وهي عادة قديمة (لم يأمرهم الله بها). فكان لتلك المدينة الوقار الزائد في القَسَم.
مَدِينَةُ ٱلْمَلِكِ ٱلْعَظِيم كانت مركز الهيكل وعاصمة يهوه ملك الشعب المقدس. فنسبتها إليه جعلت للحلف بها معنىً ووقاراً (مزمور ٤٦: ٤ و٤٨: ١، ٢، ٨٧: ٣).
٣٦ «وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ».
بِرَأْسِك لا يجوز القسم بالرأس وإن لم يذكر الله شيئاً من أمره.
لأَنَّكَ لاَ تَقْدِر الذي يحلف برأسه يدَّعي السلطان عليه، وهو لله وحده. فلا حق لنا أن نحلف بما هو له. والحلف بالحياة كالحلف بالرأس لأن الله مصدر الحياة. فإذا حلفنا بها كأننا حلفنا به. ولا يقدر إنسان أن يخلق شعرة واحدة أو أن يغير لونها بمجرد قوة الإرادة، لأن هذا عمل الله وحده. وما قيل عن الرأس يقال عن اللحية والذقن والأولاد وغير ذلك، مما اعتادت العامة أن تحلف به.
٣٧ «بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذٰلِكَ فَهُوَ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ».
كولوسي ٤: ٦ ويعقوب ٥: ١٢
لم ينهَ المسيح عن الأقسام الباطلة، بل نهى عن رفع كل دعوى إلى الله بغير لزوم. فيجب أن نستعمل كلماتنا البسيطة: نعم ولا، كأننا ننطق بهما أمام الله، ونعتبرهما كأعظم الأقسام. فالمقصود أن يكون كلامنا بلا أقسام. فإن أراد الإنسان أن يزيد على قوله «نعم» لم يجُز له سوى تكرارها. والأقسام في أمور صغيرة خطايا كبيرة. فيجب أن نكون دائماً صادقين حتى يثق بنا الناس بدون قَسَم. وكل إنسان ملزم بأن يصدق بقوله سواء أحلف أم لم يحلف.
وما زاد على ذلك فهو من الشرير: إما لأن ذلك مضاد للشريعة الأخلاقية، أو لأن المحرك إليه الشيطان مصدر الشر (رومية ١٢: ٩ و١تسالونيكي ٥: ٢٢ ويوحنا ٨: ٤٤ و١يوحنا ٢: ١٣، ١٤ و٣: ٧، ١٢ و٥: ١٨). ولولا شيوع الكذب في العالم لم تكن حاجة إلى الأقسام الشرعية. فلا يجوز استعمالها إلا دفعاً للشر الأعظم، كما يجوز القتل محاماةً عن الحياة. والمسيحيون بالحق لا يحتاجون إلى الأقسام أبداً. فمتّى زال الخداع والكذب من العالم تزول الأقسام أيضاً. ونستنتج من قول المسيح هذا أن من يتلفظ بالأقسام باطلاً يدل على شر قلبه. فيجب أن لا نثق بصدق من يخاطبنا بناءً على أنه يثبت كلامه بكثرة الأقسام، لأن الذي يخالف الوصية الثالثة لا يصعب عليه أن يخالف التاسعة. ولا ريب في أن الإنسان كثير الأقسام يغضب الله ويجلب على نفسه العقاب.
٣٨ «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ».
خروج ٢١: ٢٤ ولاويين ٢٤: ٢٠ وتثنية ١٩: ٢١
هنا أمر خامس يقارن فيه المسيح تعليمه بتعليم الكتبة والفريسيين، وهو الانتقام. فالمسيح ينهى عن ذلك لأن اليهود احتجوا على جوازه (بما قيل في خروج ٢١: ٢٤ ولاويين ٢٤: ٢٠ وتثنية ١٩: ٢١). قالوا إن الشريعة سمحت لهم أن ينتقموا ممن آذاهم، بشرط ألا يزيدوا على القصاص المعين في الشريعة.
وشريعة الانتقام هذه هي قانون للحاكم لإجراء العدل بين الناس عموماً، وغايتها ردع الشخص عن أن ينتقم لنفسه. كما أنها لا ترخص لجماعة من الناس ذلك، ولكنها تعلن للحاكم الذي تجبره وظيفته أن يعاقب المجرمين.
٣٩ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً».
أمثال ٢٠: ٢٢ و٢٤: ٢٩ ولوقا ٦: ٢٩ ورومية ١٢: ١٧، ١٩ و١كورنثوس ٦: ٧ وإشعياء ٥٠: ٦ ومراثي إرميا ٣: ٣
وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ قوله هنا لا يناقض أن الشريعة قانون للحاكم، بل يناقض سوء استعمالها كحجة للانتقام الشخصي.
لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ إننا مسؤولون أن نترفع عن مقاومة الشر بالشر. والشر هنا ليس شراً أخلاقياً بل شخصياً. فمعنى هذا العدد والعددين التاليين أنه يجب علينا أن نحتمل الأذى والإهانة.
لَطَمَك هذا مثل على الأذى الشخصي، فخيرٌ لك أن تحول الخد الثاني لمَن لطمك مِن أن تنتقم لنفسك، أو أن تربي في قلبك جراثيم الغضب والانتقام. فاترك النقمة لله وللحكام.
ولكن يجب أن لا يُفهم من ذلك تحريم المحاماة عن أنفسنا لأن ذلك يرخص للأردياء أن يفعلوا حسب شهواتهم، ويجعل المظلوم فريسة الظالم. فالمسيح ذاته لم يحتمل الشر بل قاومه بلسانه (يوحنا ١٨: ٢٢، ٢٣) وهكذا فعل بولس (أعمال ٢٣: ٢، ٣) وهكذا فعل الرسل (كولوسي ٤: ٩ - ١٣). وخلاصة ما أراده المسيح تنبأ به إشعياء من أمر المسيح نفسه، وهو قوله «بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ، وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ» (إشعياء ٥٠: ٦). فاستعمل المسيح كلامه هنا كما استعمله في ع ٢٩، ٣٠ ليجعله مؤثراً في السامعين، لا ليؤخذ بالمعنى الحرفي. لأنه كما أننا لا نقلع العين ولا نقطع اليد حرفياً، لا يترتب من ذلك أنه يجب على الإنسان أن يسلم للآخرين أن يسلبوه ويضربوه ولا يعارضهم. وأبلغ من ذلك أنه يدعو الظالم إلى أن يزيد على ظلمه ظلماً. كيف لا، والشريعة الطبيعية وسائر الشرائع الإلهية والبشرية تسمح للإنسان أن يحامي عن شخصه وعن عائلته عندما تكون حياته أو حياتهم في خطر.
فالمسيح يعلمنا هنا مبدأً جوهرياً، وهو أن أفضل طريق لمقاومة شر العالم ليس المدافعة القوية، بل احتماله بالحكمة المسيحية. فإن من يحتمل الظلم إكراماً للمسيح ولأجل غايات روحية يُظهر القوة الحقيقية لا الجبن والضعف. وأما الذي يبادر إلى الانتقام ممن تعدى عليه، والسريع الغضب ومحب الخصام والغيور في طلب كل حقوقه، فروحه مغاير لروح المسيح، ويمدحه العالم لا المسيح، بخلاف ذاك الذي يحتمل الإهانة بالصبر لأجل اسم المسيح، فإنه سيجازى بإكرام أبدي.
٤٠ «وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً».
هذا هو دستور تصرفك عندما يريد أحد أن يؤذيك بالمحاكمة لدى أرباب الحكومة، ويجتهد في أن يسلب منك كل ما لك حتى الثوب الذي عليك. فخير لنا أننا نترك لخصمنا الثوب الذي تحرم الشريعة أخذه لأنه غطاء الفقير في الليل (خروج ٢٢: ٢٦، ٢٧) من أن نربي في قلوبنا الغضب عليه والانتقام منه. والمسيح ينهى عن مخاصمة الآخرين لدى الحكومة عندما تكون الغاية من ذلك الانتقام لا إظهار الحق (١كورنثوس ٦: ٧). فالمسألة هنا عن الخسارة المالية لا عن الديانة أو الحياة. فيجوز رفع الدعاوى إلى الحكومة عندما يكون الأمر مهماً والوسائط الأخرى لا تجدينا نفعاً في الحصول على حقوقنا، بشرط أن نرفعها بغية الإنصاف، وأن نرتضي بالمصالحة على شروط معتدلة. وخيرٌ لنا أن نخسر ما لنا من أن نخسر نفوسنا لعدم محبتنا.
٤١ «وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَٱذْهَبْ مَعَهُ ٱثْنَيْنِ».
مرقس ١٥: ٢١
أورد المسيح هنا مثلاً ثالثاً للأحوال التي يُفضَّل فيها أن يحتمل الإنسان الظلم على المحاماة عن حقه بروح الغضب والانتقام. فعوضاً عن أن نرفض الذهاب مع إنسان ميلاً واحداً بروح الغضب والانتقام، نذهب معه ميلين، محتملين ضعف المشقة. وإذا كان طلب الذهاب من الحكومة وجب التسليم به بالرضى.
مِيلاً الميل الروماني يساوي ٢١٠٠ ذراعاً، أو مسافة نحو ثلث ساعة مشياً.
٤٢ «مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ».
لوقا ٦: ٣٠، ٣٥
يجب أن يكون هذا دستور تصرفنا حين يلح أحد علينا، لأن ذلك وإن كان من أقل مهيجات الغضب إن طال وتكرر أزعج وكدَّر.
مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ يُشار هنا إلى العطايا المجانية. فمهما أعطى الإنسان فهو أفضل من الرفض بروح الغضب.
أَنْ يَقْتَرِض يحتمل أن تكون الإشارة هنا إلى القرض المطلوب بلجاجة زائدة ونحن لا نريد أن نقرض. فالمسيح يقول إنه خير لنا أن نقرض من أن نرفض ذلك بروح الغضب.
ومن المعلوم أنه لا يراد السير على هذه السنن حرفياً وأبداً. فإن المسيح وعد في يوحنا ١٤: ١٤ قائلاً «ان سألتم شيئاً باسمي فإني أفعله». ولكن بما أننا لا نعرف ما هو الأفضل لنا، لا يعطينا كل ما نطلبه. فإن أعطينا مجنوناً سيفاً، أو مخادعاً صدقةً ينفقها على المسكرات، آذيناه وآذينا أنفسنا. فصدقاتنا وقروضنا يجب أن تكون متناسبة مع قدراتنا، ومع خير من يسألنا. وأحياناً يكون امتناعنا عن العطاء أفضل معروف للمقترض أو المستعطي. وكثيراً ما نخطئ في الصدقة، فنعطي من هو قادر على العمل، فنشجعه على الكسل (٢تسالونيكي ٣: ١٠). ولكن من الأفضل أن نعطي غير المستحقين بعض الأحيان من أن نطرد محتاجاً حقيقياً. وما أحسن أن يعتاد الإنسان العطاء، لكن يجب أن ننظر مع ذلك إلى ما علينا لعائلاتنا (١تيموثاوس ٥: ٨)، وما علينا للكنيسة.
وأول من يستحق الصدقة الأرامل واليتامى والعمي والعرج والمرضى (عبرانيين ١٣: ٢ ومتّى ٢٥: ٣٥، ٤٥). وإن احتاج أخ أو صديق لنا وجب أن نقرضه إذا أمكننا ذلك، مع إتمام سائر الواجبات المالية. ومن قواعد الحكمة أن لا يقرض الإنسان أكثر مما يطيق أن يخسره.
٤٣ «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ».
لاويين ١٩: ١٨ وتثنية ٢٣: ٦ ومزمور ٤١: ١٠
هذه القضية السادسة التي فيها يأمر المسيح فيها بأكثر من بر الكتبة والفريسيين. وهي مختصر القول «لاَ تَنْتَقِمْ وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى أَبْنَاءِ شَعْبِكَ، بَلْ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. أَنَا الرَّبُّ» (لاويين ١٩: ١٨). فكانت الغاية من وضع هذه الوصية أن يحب اليهود بعضهم بعضاً، لقوله «أبناء شعبك». فالفريسيون نظراً لسكوت الوصية عن واجباتهم للأمم استنتجوا وجوب أن يعتبروهم أعداء الله وأعداءهم.
قَرِيبَكَ حسب تعليم الفريسيين هو «أحد اليهود» وحسب تعليم المسيح أي شخص قريب منك. فمحبة القريب وصية الله، وبغض العدو نتيجة استنتجها الفريسيون.
وَتُبْغِضُ عَدُوَّك هذه قاعدة أضافها الفريسيون إلى الشريعة، فهي ليست من الأوامر الإلهية. على أن الفريسيين لم يأمروا ببغض الأمم صريحاً، بل حصروا الوصية في محبة اليهود. فكأنهم أباحوا أن يبغضوا الأمم. ويحتمل أن اليهود استنتجوا ذلك من أمر الله لهم بقتل الكنعانيين، ولكن هذا البغض مخالف لروح العهد القديم (انظر خروج ٢٣: ٤، ٥ وأمثال ٣٤: ١٧، ١٨ و٢٥: ٢١).
٤٤ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ».
لوقا ٦: ٢٧، ٣٥ ورومية ١٢: ١٤، ٢٠ ولوقا ٢٣: ٣٤ وأعمال ٧: ٦٠ و١كورنثوس ٤: ١٢، ١٣ و١بطرس ٢: ٢٣ و٣: ٩
وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ يقول هذا دفعاً للنتيجة الفاسدة التي أضافها الفريسيون إلى شريعة المحبة. فتعليم المسيح هو أن شريعة المحبة التي حصروها في أمتهم تعم جميع الناس حتى الأعداء.
أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُم يجب علينا حسب هذا الأمر أن لا نحب الغرباء فقط، بل الذين يشتموننا ويضطهدوننا أيضاً، لأن به يزيد البر المسيحي على بر الكتبة والفريسيين. والمحبة المطلوبة هنا ليست المحبة لصفات الله والصالحين، ولا محبة عداوة أعدائنا وشتائمهم واضطهادهم، لكنها محبة أشخاصهم التي تحملنا على أن نطلب نفعهم ونشفق عليهم لجهالتهم، ونكلمهم باللطف، ونكافئ شرهم بالخير، ونعينهم وقت الضيق، ونسعى في خيرهم الزمني والأبدي. وهذا أفضل برهان على صحة الدين المسيحي مع أنه أصعب جميع واجباته. لأننا عندما نحب أعداءنا نماثل الله الذي أحبنا ونحن أعداؤه.
بَارِكُوا أي لا تقتصروا على الشعور بالحنو عليهم، بل أظهروه قولاً وفعلاً. والصلاة وكلمات اللطف وأعمال المحبة أفضل سلاح للمسيحي في دفع الظلم. فيجب أن نكلمهم باللطف في حضورهم، ونذكرهم بالحسنى في غيبتهم، فنمدحهم على ما يستحقون المدح به، ونسكت عما يوجب الذم لهم. فلا نسأل كيف عاملنا العدو لنعامله بالمثل، بل كيف يريد الله أن نعامله.
يُسِيئُون أي الذين يضرونكم أو يؤذونكم قولاً أو فعلاً. والله يقدِّرنا على المغفرة للذين يسيئون إلينا. وأحسن واسطة إلى ذلك الصوم.
٤٥ «لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ».
أيوب ٢٥: ٣
لِكَيْ تَكُونُوا هذا برهان النبوة لا سببها.
أَبْنَاءَ أَبِيكُم نظهر أننا أبناؤه إن شابهناه في الرأفة وعمل الخير لجميع الناس، لأن الابن يقتدي طبعاً بأبيه. فنثبت بنوَّتنا أن تمثلنا به في نفع الجميع، بغضّ النظر عن أهليتنا، لأننا لا نقدر أن نشابهه في القوة ولا في الحكمة، فذلك أمر عندما حاول الإنسان الحصول عليه سقط من طهارته (تكوين ٣: ٥) ولكن عندما نجتهد في أن نكون مثله في المحبة نقرب منه (أفسس ٥: ١).
لو لم يحبنا الله ونحن أعداؤه ما صرنا أبناءه، ولكن إن ادَّعينا أنا أولاده ونحن غير مشتبِّهين به نفقد كل حقوقنا. فامتياز أولاد الله على من سواهم يظهر في محبتهم وطول أناتهم والشفقة على غيرهم.
فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ لم يقتصر الله على أن يمنح ضوء الشمس وفائدة الأمطار للصالحين، بل كذلك للأشرار. ولذلك لا يجوز أن نقصر محبتنا على الذين يستحقونها، بل يجب أن نحب الجميع.
اختار المسيح ضوء الشمس والمطر في بيان جود أبيه ومحبته، لأنهما على كل أسباب الحياة والنعمة في هذه الدنيا، ولأن نفعهما ظاهر للجميع. فمعاملة الله لأعدائه في مسامحتهم وطلب خيرهم يجب أن يكون نموذجاً لشعورنا وعملنا ومعاملتنا لأعدائنا، لأنه ليس لله إلا عدو واحد يبغضه وهو الخطية. ولا يجوز أن يكون لنا عدو غيرها. ولو سار الناس بموجب قاعدة المسيح هذه لارتفع عنهم جانب عظيم من المشقات من العدوات والحروب والخصومات.
٤٦ «لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذٰلِكَ؟».
لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ ذكر المسيح فيما سبق أن الموجب الأول لمحبتنا للناس هو مَثَل الآب السماوي، ويذكر هنا الموجب الثاني لمعاملة الناس بعضهم لبعض. فالعشارون الذين حُسبوا عند السامعين أردأ الجميع يشعرون بالمحبة لأصدقائهم وأنسبائهم ويعاملونهم بمقتضاها. فكم بالحري يجب أن تكون محبة المسيحي أعظم اتساعاً حتى تعم أعداءه كما أوصانا المسيح!
فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أعني أي حق لكم في المدح والثواب على ذلك من الله؟ وهذا الاستفهام استنكاري، أي لا حق لكم! لأن الذي ليس له إلا فضائل الوثني والعشار لا حقَّ له أن ينتظر إلا ثوابهما.
ٱلْعَشَّارُون هم جباة الضرائب، ويُضرب بهم المثل في دناءة الاسم والمقام بين الناس. كانوا يجمعون الجباية للرومان من اليهود، فأبغضهم اليهود لأنهم حسبوهم آلات لإجراء العبودية الأجنبية الوثنية، ولأنهم كانوا يأخذون من الناس أكثر مما عليهم. فبذلك كانوا مختلسين. ولم يكن يقبل هذه الوظيفة إلا أدنى الناس حتى حُسبت شريرة بذاتها. وعُدَّ العشارون والخطاة أشقى الناس.
فإن كان المسيحيون لا يعملون أكثر من هؤلاء العشارين، يكونون قد قصروا في واجباتهم، لأن دائرة أخلاق الذين تمثلوا بهم كانت ضيقة جداً. أما الفريسيون فلم يطلبوا بتعليمهم زيادة على ذلك.
فمضمون السؤالين في هذه الآية هو أن الذين يحبون محبيهم فقط ليس لهم أجر عند المسيح، لأنه يعتبرهم كما يعتبر العشارين. وتكلم عليهم كذلك جرياً على عادة الناس في أمرهم.
إن مكافآت المحبة عدلٌ بشري. والمحبة للذين يبغضوننا هي محبة إلهية. وأما بُغض الذين يحبوننا فهو عملٌ شيطاني.
٤٧ «وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هٰكَذَا؟».
إن سلمتم: معنى هذه الآية كالآية السابقة، فلا تخالفها إلا بتغيير ألفاظها. فذكر فيها لفظ «سلمتم» بدلاً من «أحببتم». والسلام إحدى طرق إظهار الاعتبار والمحبة. وقد كرر المسيح ذلك المعنى بهذا اللفظ لأن اليهود كانوا لا يسلمون على الأمم، لأنهم لو سلَّموا عليهم لاعتبروهم من إخوتهم.
إِنْ سَلَّمْتُمْ أي اليهود، بني جنسكم.
أَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أي ماذا تصنعون أكثر مما يفعله أشقى الناس؟ فهل يجوز أن يكتفي تلاميذ المسيح بأن يتمثلوا بهؤلاء؟ لا! لأن المسيح ينتظر منهم أكثر مما ينتظر من غيرهم، فقد فعل لأجلهم أكثر مما فعل لغيرهم، ولأن لهم من النور والمعرفة أعظم مما للغير.
أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً؟ يجب أن تكون محبة تلاميذ المسيح لغيرهم أشدَّ من محبة جماعة حُسبت شر الناس عند العامة والخاصة. لا بل ينتظر منا أن نحب أعداءنا كما يحب العشارون أحباءهم.
٤٨ «فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ».
تكوين ١٧: ١ ولاويين ١١: ٤٤ و١٩: ٢ ولوقا ٦: ٣٦ وكولوسي ١: ٢٨ و٤: ١٢ ويعقوب ١: ٤ و١بطرس ١: ١٥، ١٦ وأفسس ٥: ١
رجع المسيح في ختام كلامه عن وجوب المحبة للغير إلى المثل الذي أورده في ع ٤٥. فلم يَدْعُنا إلى الاقتداء بأفضل الناس، بل أمرنا بأن نقتدي بأبينا السماوي، الإله الكامل الذي محبته الكاملة تشمل أعداءهُ حتى جعلته يطلب فداءهم (رومية ٥: ٨، ٩). فإن كنا غير كاملين الآن يجب أن نجعل الكمال غايتنا، عالمين أننا كلما تمثلنا به في المحبة دنونا من الكمال. وعدم استطاعتنا أن نبلغ الكمال لا يسوغ لنا أن نكف عن الاجتهاد في سبيل الحصول عليه. قال بولس «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضًا الْمَسِيحُ يَسُوعُ» (فيلبي ٣: ١٢).
ولا يُفهم من هذا أنه يمكن لأحدٍ أن يبلغ الكمال في هذه الحياة، إنما يبين لنا الشيء الذي يجب أن نجتهد فيه، وماذا يجب أن تكون غايتنا الأخلاقية.
كَامِلِين (١بطرس ١: ١٦) يجب أن تكون مبادئ حياتنا وكل غايتنا كمبادئ الله وغاياته، أي نكون نظيره في الطهارة الداخلية والمحبة والقداسة. ويسوع المسيح وحده المعلم العظيم يقدر أن يعلمنا أن نكون كاملين لأنه تجسد لكي يشخِّص كمال الله أمام الناس في حياته وموته.