اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْوَاحِدُ

لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ


«١ رَحْمَةً وَحُكْماً أُغَنِّي. لَكَ يَا رَبُّ أُرَنِّمُ. ٢ أَتَعَقَّلُ فِي طَرِيقٍ كَامِلٍ. مَتَى تَأْتِي إِلَيَّ؟ أَسْلُكُ فِي كَمَالِ قَلْبِي فِي وَسَطِ بَيْتِي. ٣ لاَ أَضَعُ قُدَّامَ عَيْنَيَّ أَمْراً رَدِيئاً. عَمَلَ ٱلزَّيَغَانِ أَبْغَضْتُ. لاَ يَلْصَقُ بِي».
(١ - ٦) يحكى عن أحد أمراء الجرمان أن أحد عماله أذنب في القرن السابع عشر فأرسل له نسخة عن هذا المزمور لكي يطالعه ويتعظ حتى ذهب ذلك مثلاً بين الناس فيقولون أرسل له المزمور المئة والواحد. وفي نص التوراة التي ترجمها لوثيروس يسمي هذا المزمور «مرآة داود عن ملك». وقد يكون أنه أي داود يعاهد الله عهوداً عظيمة أن يسلك في فرائضه ولا يرتكب إثماً فيما بعد. وقد يكون في المزمور إشارة لحادث معين (راجع ٢صموئيل ٦: ٨ وما بعده). لم يشأ داود أن يجلب تابوت العهد إلى بيته خوفاً ورهبة مع أنه تيقن أن بركات كثيرة تأتي إليه بواسطته فيتأوه قائلاً «متى تأتي إليّ؟» في العدد الأول يلخص حياة داود كلها الرحمة والحكم فلأن هذه هي من الله لذلك يغنيها أمام الرب. فالرحمة لأن الله صالح وأما الحكم فلأن بيده كل شيء والملك نفسه ليس سوى وكيل على شعب الله ويجب أن يجري حكمه بالواسطة ليس إلا. إن الله يطلب الرحمة والحكم من كل إنسان فكم بالأحرى من الملك (راجع ميخا ٦: ٨ وقابله مع متى ٢٣: ٢٣) والقصد من ذلك أن يطبقه عملياً (راجع دانيال ٩: ١٣). ويطلب أن يتعقل في سلوكه (راجع خروج ١٧: ١٦ و١٩ و٢صموئيل ١٩: ١٢). ويكون قدوة لأهل بيته ويعيش بقلب حر وسلوك حسن. ثم يلتفت في العدد الثالث بلهجته السلبية ويقول إنه لن يزيغ عن الحق فيما بعد ولا يفكر في أمر رديء لأنه قد أبغض كل شر حتى لا يمكن أن يلصق به فيما بعد.
«٤ قَلْبٌ مُعَوَّجٌ يَبْعُدُ عَنِّي. ٱلشِّرِّيرُ لاَ أَعْرِفُهُ. ٥ ٱلَّذِي يَغْتَابُ صَاحِبَهُ سِرّاً هٰذَا أَقْطَعُهُ. مُسْتَكْبِرُ ٱلْعَيْنِ وَمُنْتَفِخُ ٱلْقَلْبِ لاَ أَحْتَمِلُهُ. ٦ عَيْنَايَ عَلَى أُمَنَاءِ ٱلأَرْضِ لِكَيْ أُجْلِسَهُمْ مَعِي. ٱلسَّالِكُ طَرِيقاً كَامِلاً هُوَ يَخْدِمُنِي. ٧ لاَ يَسْكُنُ وَسَطَ بَيْتِي عَامِلُ غِشٍّ. ٱلْمُتَكَلِّمُ بِٱلْكَذِبِ لاَ يَثْبُتُ أَمَامَ عَيْنَيَّ. ٨ بَاكِراً أُبِيدُ جَمِيعَ أَشْرَارِ ٱلأَرْضِ، لأَقْطَعَ مِنْ مَدِينَةِ ٱلرَّبِّ كُلَّ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ».
إن أهم شيء يجب أن ينتبه له الحاكم أن لا يتسرع في أحكامه ولا يجد الظلم إليه سبيلاً. فلا يبالغ ولا يحابي الوجوه ولا يؤثر عليه شيء لئلا يحيد عن الطريق المستقيم وهكذا يبتعد عن الإثم ولا يتعرف بالأشرار. ولأنه ينوي هكذا فإنه سيرفض كل مغتاب والمتكبر المتشامخ والمعتد بذاته فإنه لا يحتملهم قط. إن المرنم يتكلم عن اختبارات شخصية فقد صادف المرتشي والمغتاب والظالم والمتكبر وذا اللسانين وكان له مع كل منهم اختبارات مرة. وإذا استطاع الإنسان أن يحتملهم فإنما ذلك إلى حين وبعد ذلك يطفح الكيل ويخرج الإنسان عن صبره وجلده.
ولكنه في العدد السادس يعاهد نفسه أن يصحب الأمناء والشرفاء هؤلاء الذين يسلكون بالكمال يكون نصيبهم الوقار وبالتالي يخدمون الملك بخدمة رعيته بإخلاص وإنصاف.
(٧ - ٨) في العدد السابع يتناول نوعين من الناس فمنهم الذين يعملون بالغش. هؤلاء لا يجوز أن يكونوا في بيت الملك لأنهم لا يوصلون الأموال المتوجبة ولا يجرون العدالة للناس. ومن جهة ثانية فهو يبغض الكذاب الذي قد يكون له مجال أن يقف بعض الوقت أمام الملك ولكن إلى أن تنكشف حقيقته وإلى أن يُعرف كما هو وحينئذ يجب أن يذهب أيضاً لأن الملك لا يعتمد على عامل كهذا.
وأخيراً في الصباح الباكر سوف ينهض لكي يبيد الأشرار من الأرض - أي أرض الملك التي يحكمها (راجع مزمور ٧٨: ١٤ وإشعياء ٣٣: ٢ ومراثي ٣: ٢٣). والملك في عمله هذا يجري إرادة الرب الساكن في أورشليم التي يريدها مسكناً له مقدساً وكريماً لذلك فالأشرار لا يجوز أن يسودوا ويبقوا هكذا سائدين بل هم كالعشب اليابس يضمحلون.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّانِي


صَلاَةٌ لِمِسْكِينٍ إِذَا أَعْيَا وَسَكَبَ شَكْوَاهُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ


«١ يَا رَبُّ ٱسْتَمِعْ صَلاَتِي، وَلْيَدْخُلْ إِلَيْكَ صُرَاخِي. ٢ لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فِي يَوْمِ ضِيقِي. أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ فِي يَوْمِ أَدْعُوكَ. ٱسْتَجِبْ لِي سَرِيعاً. ٣ لأَنَّ أَيَّامِي قَدْ فَنِيَتْ فِي دُخَانٍ، وَعِظَامِي مِثْلُ وَقِيدٍ قَدْ يَبِسَتْ».
إذا حسبنا المزمور المئة والواحد تنهدة عميقة فإن هذا المزمور هو صلاة كما نجد ذلك في العنوان. وليس من الضروري أن يكون المرنم قد كتب هذا عن اختبارات شخصية أم أنه يكتب بلسان شعب الله. فهو يستعمل لغة التثنية وإشعياء كما أنه مطلع تماماً على المزامير السابقة لأيامه. وهو وإن يكن قادراً أن يحلق الى أجواء عالية من التفكير والاختبار الروحي فهو في الوقت ذاته يأخذ عن السابقين ما يجده مناسباً وجميلاً.
(١ - ٣) موضوع المزمور مما يلفت الأنظار إذ يخبرنا عن مسكين قد ناء بحمله ولم يستطع السير بعد فلم يجد أفضل من الشكوى أمام الله. فإذن صلاته هي شكواه أيضاً. فيبدأ بتعبير مألوف جداً مما يكثر وروده على الذهن وبالتالي يتكلم به الفم بكل جلاء وبيان ولا يشعر المطالع أنه في بيئة غريبة عن بقية المزامير (قابل مع المزمور ٣٩: ١٣ و١٨: ٧ و٨٨: ٣). فيطلب من الله أن يسمع صلاته وهكذا يريد أن يدخل حالاً في حضرته تعالى. ويلتمس من الله أن يسنده في الضيق ويلتفت إليه معيناً ويسمعه مستغيثاً (قابل مع المزمور ٢٧: ٩ و٥٩: ١٧ و٣١: ٣ و٥٦: ١٠ و٦٩: ١٨ و١٤٣: ٧). وهو يطلب أن يستجاب له سريعاً قبل فوات الأوان فهو في حالة لا تسمح له بالانتظار أو إنه في حالة قد انتظر فيها طويلاً ولم يعد من مجال للسكوت بعد. وفي العدد الثالث نرى المرنم يستعمل تعابيره الخاصة فيرينا صورة موقدة وفيها دخان متصاعد وعظامه ذاتها هي الوقيد. ويوجد دخان لأن النار غير مشتعلة جيداً وهو في مصائب كثيرة تكاد تفنيه ولكنه لم يفن تماماً إذ لا يزال فيه بقية وإن يكن في حالة محزنة.
«٤ مَلْفُوحٌ كَٱلْعُشْبِ وَيَابِسٌ قَلْبِي حَتَّى سَهَوْتُ عَنْ أَكْلِ خُبْزِي. ٥ مِنْ صَوْتِ تَنَهُّدِي لَصِقَ عَظْمِي بِلَحْمِي. ٦ أَشْبَهْتُ قُوقَ ٱلْبَرِّيَّةِ. صِرْتُ مِثْلَ بُومَةِ ٱلْخِرَبِ. ٧ سَهِدْتُ وَصِرْتُ كَعُصْفُورٍ مُنْفَرِدٍ عَلَى ٱلسَّطْحِ. ٨ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ عَيَّرَنِي أَعْدَائِيَ. ٱلْحَنِقُونَ عَلَيَّ حَلَفُوا عَلَيَّ. ٩ إِنِّي قَدْ أَكَلْتُ ٱلرَّمَادَ مِثْلَ ٱلْخُبْزِ، وَمَزَجْتُ شَرَابِي بِدُمُوعٍ».
(٤ - ٥) ينتقل بنا المرنم إلى صورة أخرى وهي كثيرة الوجود في بلادنا إذ نرى عشباً ملفوحاً من شدة الحرارة لا سيما إذا تعوّق المطر عن النزول وحينئذ فكثير من المزروعات والأعشاب تتلف بسبب طول الجفاف. وهكذا كان قلبه فقد نضب منه دم الحياة المنعش المحيي (راجع هوشع ٩: ١٦ وقابله مع مزمور ١٢١: ٦) وضربة الشمس موجودة بكثرة في هذه البلاد (راجع ٢ملوك ٤: ١٩). وكانت مصيبة عظيمة هكذا حتى لم ينتبه لنفسه ولم يأكل شيئاً. وإذا به بعد ذلك ينشف ويصبح عظمه ولحمه شيئاً واحداً. وهذه التنهدات الطويلة المستمرة بالفعل تضني الجسم وتورده موارد العطب.
(٦ - ٨) قد يكون «قوق البرية» هو الذي يسميه العامة «القاق» أي نوع من أنواع الغربان الليلية أو أنه البومة الصغرى ذات القرون. وهو يشبّه نفسه هكذا دليل الشؤم من كثرة هذا التنهد الذي طال أمده فأصبح صراخه وتنهده أشبه بهذه الأصوات الحزينة التي تملأ نفوس سامعيها بالتعاسة والشقاء. وكلا البوم والغراب من الطيور النجسة المكروهة من قديم الزمان. بل يشبه نفسه بعصفور والأرجح «دوري» فهو على ما يظهر قديم جداً في هذه البلاد. وهو يراه عصفوراً منفرداً كما يرى على سطوح المنازل ولا سيما في الطقس البارد. ومما زاد في بليته أن أعداءه قد شمتوا به ولا من مشفق بل وجد البعض منهم قد توعده وحلفوا عليه بالهلاك والدمار.
(٩) وهو لفرط بليته قد أكل خبزه مزيجاً بالرماد. والأرجح أنه قد خبز في بيته ولم تكن صنعته جيدة قاصداً أن يأكل خبز ملة أي يحمي الرماد ويلصق العجين عليه حتى يخبز وكانت النتيجة أنه أكل خبزه مملوءاً بالرماد كما أنه شرب دموعه من كثرة ما بكى على نفسه تاعساً شقياً وحيداً منفرداً لا يهتم به أحد سوى الهزء والشماتة والسخرية. أو أنه لكثرة ما جلس في الرماد دليل حزنه وآلامه النفسية المتزايدة.
«١٠ بِسَبَبِ غَضَبِكَ وَسَخَطِكَ، لأَنَّكَ حَمَلْتَنِي وَطَرَحْتَنِي. ١١ أَيَّامِي كَظِلٍّ مَائِلٍ، وَأَنَا مِثْلُ ٱلْعُشْبِ يَبِسْتُ. ١٢ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلَى ٱلدَّهْرِ جَالِسٌ، وَذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ١٣ أَنْتَ تَقُومُ وَتَرْحَمُ صِهْيَوْنَ، لأَنَّهُ وَقْتُ ٱلرَّأْفَةِ، لأَنَّهُ جَاءَ ٱلْمِيعَادُ. ١٤ لأَنَّ عَبِيدَكَ قَدْ سُرُّوا بِحِجَارَتِهَا وَحَنُّوا إِلَى تُرَابِهَا. ١٥ فَتَخْشَى ٱلأُمَمُ ٱسْمَ ٱلرَّبِّ وَكُلُّ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ مَجْدَكَ».
(١ - ١١) ويعزو السبب كله لأن الله غير راض عنه لذلك فهو وحيد حتى أن إلهه نفسه لم يعره أي اهتمام فنبذه خارجاً نبذ النواة فارتمى يئن متأسفاً على نفسه لا شيء يعزيه في حالته السيئة هذه (انظر أيوب ٣٠: ٢٢) فإن الله قد أزال الأرض من تحته فلم يعد واقفاً على أرض راسخة ثابتة وكانت النتيجة أن أصبحت أيامه سريعة الزوال كما هي حالة الظل المائل نحو المغيب فهو لا يكاد يهدأ في مكان واحد. بل هو أشبه بالعشب اليابس وقد مر الكلام عن ذلك حتى أنه لم يعد ينفع لشيء سوى أن يطرح للنار فيحترق. فهو مثل العشب الذي اقتلع من جذوره فيبس من شدة الحرارة وهو كذلك بحرارة زفيره الملتهب.
(١٢ - ١٤) ولكنه يعود بالإيمان إلى الله ويراه جالساً على عرشه وهو راي المرنم - لا يفتأ يذكره كما فعل آباؤه وجدوده من قبل. إنه قد خسر الصحة ربما ولكنه لم يخسر الإيمان. وهنا يجد مجالاً للكلام عن آلامه وليس عن نفسه فقط فيطلب لها الرحمة والرضا. ذلك لأنه يرى أن الوقت قد حان. يوجد زمان معيّن برحمة الله لا يمكن إلا أن يتم وحيئنذ يعود الرب فيرضى ويشفق (انظر مزمور ٧٥: ٣ وحبقوق ٢: ٣). وهو وقت الفداء بعد وقت الافتقاد فإذن الله يؤدب ولا ينسى ويهدي ولا يترك نفوسنا في الأحزان.
(١٤ - ١٥) حينما يقرأ الإنسان هذا العدد الرابع عشر تتحرك عواطفه ويرى أن هذا الشعب المبعد الغريب الديار يلتمس رجوعاً لأنه يفرح بحجارة أورشليم ويحن إلى التراب نفسه الذي تدوسه الأقدام. فإذن عبيد الرب لا يحبون بابل ولا ينعمون فيها أبداً بل يتمنون الرجوع (نحميا ٣: ٢٤ و٤: ٢). وحينئذ يكتشفون الحجارة من بين المزابل ليرجعوها إلى أماكنها على قدر الإمكان. ولكنه في الوقت نفسه يمد بصره بالإيمان إلى زمان أفضل حينما يعرف اسم الرب لدى الناس جميعاً فيخشاه الملوك وتتعبد له الشعوب.
«١٦ إِذَا بَنَى ٱلرَّبُّ صِهْيَوْنَ يُرَى بِمَجْدِهِ. ١٧ ٱلْتَفَتَ إِلَى صَلاَةِ ٱلْمُضْطَرِّ، وَلَمْ يَرْذُلْ دُعَاءَهُمْ. ١٨ يُكْتَبُ هٰذَا لِلدَّوْرِ ٱلآخِرِ، وَشَعْبٌ سَوْفَ يُخْلَقُ يُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ. ١٩ لأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ. ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ إِلَى ٱلأَرْضِ نَظَرَ ٢٠ لِيَسْمَعَ أَنِينَ ٱلأَسِيرِ، لِيُطْلِقَ بَنِي ٱلْمَوْتِ، ٢١ لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ وَبِتَسْبِيحِهِ فِي أُورُشَلِيمَ ٢٢ عِنْدَ ٱجْتِمَاعِ ٱلشُّعُوبِ مَعاً وَٱلْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ ٱلرَّبِّ».
إن الله يتمم وعده وحينئذ يتحقق حلم المنتظرين. فهم يصبرون على شيء ثم يحصلون عليه بوجه التحقيق (راجع إشعياء ٤٠ - ٤٦ وقابل ذلك مع (إشعياء ٥٩: ١٩ و٦٠: ٢). كذلك انظر إشعياء ٤٠: ١ - ٥).
(١٦) يضع هنا أمامنا لماذا يمتد اسمه بين الشعوب فالسبب هو لأنه يبني صهيون ويضع مجده فيها. لذلك فليس المجد من البشر مهما عظموا بل الرب نفسه هو الذي يعيدهم ويثبتهم ولا يتركهم فيما بعد. وقوله في (العدد ١٧) صلاة المضطر أي صلاة العائدين من السبي منهم في حالة العري والضعف والغربة والمذلة وهكذا هم في نظر الناس لا يرجى منهم أي خير ولا يكتب لهم أي نجاح. ولكن الله لا يرذلهم ولو كانوا في هذه الحالة المرذولة لأن شفقته أعظم من بؤسهم فيستطيع أن يصل إليهم ولو كانوا في الأعماق.
(١٨ - ٢٢) وهذا وعد الحاضر للمستقبل. ولأنه قد تمت مواعيد سابقة فهكذا ستتم مواعيد لاحقة. حتى أن الأحفاد يعرفون أن دور الأجداد يتحقق فيهم أيضاً. سيكتب الله لهم المواعيد تترى بحيث لا يتم الواحد حتى يبدأ الآخر. ذلك لأن هذا الإله ليس بعيداً بل قد التفت من السماء ونظر بؤس البائسين فتحنن عليهم وأشفق على المصابين فسندهم في ضيقاتهم وقواهم للصمود بعد. فهو الذي يسمع الأسير - لأن هؤلاء المسبيين هم في حالة أشبه ما يكون بحالة الأسر لا يستطيعون الذهاب أو الحراك. بل هم قد حكم عليهم بالموت بالنسبة لسوء الحالة التي هم فيها. ولكنه يعود فيلتفت إلى رحمة الرب مرة أخرى فيجد فيها عزاء وقوة ويذيع تسبيح الإله العظيم في أورشليم مكان قدسه. فتكون أورشليم حينئذ ملتقى جميع الشعوب ومجتمع الممالك (انظر إشعياء ٦٠: ٤) إنه لزمان مجيد عظيم يتم فيه ذلك الخلاص الموعود والفداء الذي يعم البشر بواسطة أورشليم ومبتدءاً من أورشليم ذاتها.
«٢٣ ضَعَّفَ فِي ٱلطَّرِيقِ قُوَّتِي. قَصَّرَ أَيَّامِي. ٢٤ أَقُولُ: يَا إِلٰهِي لاَ تَقْبِضْنِي فِي نِصْفِ أَيَّامِي. إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ سِنُوكَ. ٢٥ مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. ٢٦ هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ. ٢٧ وَأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ. ٢٨ أَبْنَاءُ عَبِيدِكَ يَسْكُنُونَ، وَذُرِّيَّتُهُمْ تُثَبَّتُ أَمَامَكَ».
(٢٣ - ٢٨) نعجب كيف يعود المرنم إلى نفسه ويخبرنا عن أشياء شخصية أصابته هو نفسه. فيقول إنه ضعيف العزيمة خائر القوى. فقد كانت طريقه متعبة شاقة (انظر تثنية ٨: ٢). بل يرى أن هذه المصائب قد قصرت حياته فهو في هم مقيم لذلك فهو يخاف أن يموت قبل أن يبلغ آخر الشوط. ويرجو الله أن يطيل عمره بعد حتى ينهي سيرته ويتمم رسالته. وكان الأوفق له أن يموت مبكراً في أول الطريق ولا يموت الآن في نصفها. فإن الذي ينقطع كان الأوفق له أن لا يسافر بدلاً من أن لا يتم سفرته ولا يصل إلى مبتغاه. ويلتفت إلى الله فيجده هو الباقي وحده بينما البشر زائلون وإذا كان يأسف لشيء فهو أن يُقبض إلى خالقه قبل أن يرى تمام الخلاص. ذلك الإله الذي بيده الأرض والسموات وقد أسس الأولى ثابتة وصنع الثانية بيديه ولكن هذه الأرض ذاتها متغيرة وهذه السموات متقلبة دائرة مثل ثوب يبلى ومثل رداء سريع التحول والتغير ولكن الله الخالق العظيم هو وحده الحي الباقي إلى أبد الآبدين.
وثم يلتفت إلى عبيد الله المؤمنين فيرى أنهم ولو ذهبوا هم فإن أبناءهم يسكنون الأرض ويثبتون فيها بواسطة ذراريهم. إذن فوعد الله صادق وأمين لا بد أن يتم إن لم يكن مع الآباء فهو سيتم مع الأبناء. ويستعمل كاتب سفر العبرانيين (الأعداد ٢٥ - ٢٧). ويمجد بها المسيح. فهو الذي يأتي أيضاً ليدين العالمين لأنه جاء أولاً لكي يفديهم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّالِثُ


لِدَاوُدَ


«١ بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ ٱسْمَهُ ٱلْقُدُّوسَ. ٢ بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ. ٣ ٱلَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ. ٱلَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ».
وضع كلمة «لداود» لا يدل دلالة قاطعة أن داود هو صاحب المزمور إذ لا اللغة ولا ترتيب الأفكار مما يساعد على هذا الزعم. فهذا المزمور المملوء بالتفكير العميق واللهجة القديمة له تلوين آرامي مثل (المزامير ١٠٦ و١٢٤ و١٣٩). وهي شبيهة اللغة بـِ (٢ملوك ٤: ١ - ٧ وكذلك إرميا ١١: ١٥). وهذا المزمور ينقسم إلى أربعة أقسام وهي من (الأعداد ١ - ٥ وثم ٦ - ١٠ و١١ - ١٤ و١٥ - ١٨ و١٩ - ٢٢).
(١ - ٣) يلتفت المرنم إلى نفسه ويخاطبها لكي تبارك الرب لأن منه النعمة التي تفتدي وتخلص وتعزي وترفع للأعالي. وهذا الالتفات البياني مؤثر جداً فهو لا يخاطب نفسه فقط بل يجعلها تتكلم كأنه غريب عنها وهو يلتفت إلى باطنه أيضاً من قبيل التوكيد. ويكرر هذه العبارة «باركي يا نفسي الرب». من قبيل التوكيد أيضاً. فيذكر أولاً حسنات الرب. لأن كل ما يفعله الرب هو حسن في حد ذاته (راجع تكوين ١) فإن أعمال الخلق كلها حسنة فلم ينته نهار إلا ويكون ختامه حسناً مثل بداءته. ولكن الإنسان ينسى هذه الحسنات المتكررة ولا يفطن لها بالنسبة لاعتياده عليها حتى لا يحسبها حسنات وأما النسيان فهو رذيلة بحد ذاته في الأمور البسيطة المتداولة بين الناس فكم بالأحرى حينما ننسى ما يفعله الله نحونا من خيرات. ويبدأ بتعداد هذه الحسنات فيذكر الغفران لأن الرب لا يحاسبنا على ما نستحق بل على نسبة محبته العظيمة الفائقة. ثم يذكر أنه يشفي أمراضنا فهو طبيبنا الشافي الحقيقي وحده. وليس من الضروري أن يعني شفاء الأمراض الجسدية فقط بل قد تتناول الأمراض العقلية والروحية على السواء (راجع تثنية ٢٩: ٢١ وقابل مع ١أخبار ٢١: ١٩).
«٤ ٱلَّذِي يَفْدِي مِنَ ٱلْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. ٱلَّذِي يُكَلِّلُكِ بِٱلرَّحْمَةِ وَٱلرَّأْفَةِ. ٥ ٱلَّذِي يُشْبِعُ بِٱلْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ ٱلنَّسْرِ شَبَابُكِ. ٦ اَلرَّبُّ مُجْرِي ٱلْعَدْلَ وَٱلْقَضَاءَ لِجَمِيعِ ٱلْمَظْلُومِينَ. ٧ عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ. ٨ ٱلرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ. ٩ لاَ يُحَاكِمُ إِلَى ٱلأَبَدِ وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى ٱلدَّهْرِ».
(٤ - ٥) يقصد بالحفرة هنا أي الهاوية «شيأول» فإن الإنسان عندما يفقد الحياة ينزل إلى هناك لأنها مسكن الأموات وحينئذ يضع الله على رأس الإنسان إكليلاً من الرحمة والرأفة. إذن لنا من هذا أن الإنسان يحيا برحمة الله ورأفته وبدونهما لا حياة فيه ولا صحة. وليس ذلك فقط بل يستمر خيره على طول العمر فنشبع منه وهكذا تمر بنا الحياة كريمة قوية صالحة. ويقول إن النسر هو عنوان تجدد الشباب وطول العمر فبعد أن يبلغ من العمر عدداً من السنين إذا به يظهر بمظهر القوة والسطوة لأنه ملك الهواء.
(٦ - ٩) بل هو الله الذي يقضي بالعدل والإنصاف للجميع ولا سيما للمظلومين الذين لا يعترف البشر بحقوقهم فإن الله ذاته يعترف بها ويجريها. هو إله حنون ورحيم فكيف تغفل عينه عن أي المكروبين. وبعد ذلك يراجع التاريخ فيذكر موسى وأيامه الأول كيف استطاع أن يقود شعب الله لأن الله نفسه أرشده بعمود السحاب وخلص شعبه بواسطته بيد قديرة وحكمة مدبرة. ذلك الإله الرحيم الرؤوف يكرر هاتين الصفتين ويؤكدهما في القسم الثاني من العدد ذاته. وحينما يقول عرف موسى طرقه يشير المرنم إلى صلاة موسى (راجع خروج ٣٣: ١٣). وهو لا يحاكم إلى الأبد أي أنه لا يحاسب الناس على أغلاطهم ويحفظها ضدهم لئلا ييئسوا بل يفسح لهم مجال التوبة والرجوع إليه. ومع أنه إله قدوس ولا يرضى الشر فهو غير حقود على أحد لأنه يريد جميع البشر يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.
«١٠ لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا. ١١ لأَنَّهُ مِثْلُ ٱرْتِفَاعِ ٱلسَّمَاوَاتِ فَوْقَ ٱلأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. ١٢ كَبُعْدِ ٱلْمَشْرِقِ مِنَ ٱلْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. ١٣ كَمَا يَتَرَأَّفُ ٱلأَبُ عَلَى ٱلْبَنِينَ يَتَرَأَّفُ ٱلرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ. ١٤ لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ. ١٥ ٱلإِنْسَانُ مِثْلُ ٱلْعُشْبِ أَيَّامُهُ. كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ كَذٰلِكَ يُزْهِرُ».
(١٠) وهو رحيم رؤوف لأنه لا يعمل حسب الاستحقاق ولا يغضب طويلاً وإذا غضب فغضبه فقط على الخطيئة لا على الخاطئ بل يطلب من الخاطئ أن يعود عن غيه وعن آثامه لأن لا حياة فيه بدون ذلك. فرحمته إذن هي النهر الجاري وخطايانا هي التحولات في مجرى النهر فنمنع عنا ماءه الذي يروي العطشان ويسقي الأراضي. إذا جازى الله الإنسان كفعله يصبح شبيهاً بالإنسان بينما الله هو شبيه بذاته فقط وعلينا أن نعمل مشيئته لننال بركته ليس إلا.
(١١ - ١٤) في هذه الأعداد يقدم لنا المرنم تشابيه مختلفة لكي تقرب المعاني إلى أفهامنا فكما ترتفع السماء عن الأرض هكذا ترتفع رحمته على خائفيه الحافظين شهاداته السائرين في طريقه المستقيم. وهو من فرط محبته قد أبعد عنا المعاصي لكي لا نتذكرها فيما بعد بل يتوجب علينا أن ننساها أي لا نعود إليها قط. وفي قوله كما يترأف الأب يوجد مسحة من العهد الجديد إذ يشبه محبة الله بمحبة الآب لبنيه. هو الله الذي يعرف الإنسان لأنه خلقه وجبله من تراب الأرض لذلك يشفق عليه وعلى ضعفه وخطيئته ويريده أن يعود إليه بالتوبة وطلب الغفران (راجع أيوب ١١: ١١ و٢٨: ٢٣ وقابل ذلك مع أيوب ٧: ٧ وأيضاً مزمور ٧٨: ٣٩ و٨٩: ٤٨).
(١٥) والتشبيه بأن الإنسان كالعشب هو شيء قديم جداً (راجع مزمور ١٥: ٥ وما بعده وقابله مع إشعياء ٤٠: ٦ - ٨ و٥١: ١٢). فما هي مدة حياة الإنسان بالنسبة للأرض والجبال والبحار. فهو سريع الزوال كالعشب وله أيضاً مجد وجمال كالعشب بما فيه من زهور جميلة واخضرار خلاب (انظر إشعياء ٤٠: ٧ وما بعده).
«١٦ لأَنَّ رِيحاً تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ. ١٧ أَمَّا رَحْمَةُ ٱلرَّبِّ فَإِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ عَلَى خَائِفِيهِ، وَعَدْلُهُ عَلَى بَنِي ٱلْبَنِينَ، ١٨ لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَذَاكِرِي وَصَايَاهُ لِيَعْمَلُوهَا. ١٩ اَلرَّبُّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ثَبَّتَ كُرْسِيَّهُ وَمَمْلَكَتُهُ عَلَى ٱلْكُلِّ تَسُودُ. ٢٠ بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا مَلاَئِكَتَهُ ٱلْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً، ٱلْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ. ٢١ بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ جُنُودِهِ، خُدَّامَهُ ٱلْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ. ٢٢ بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ. فِي كُلِّ مَوَاضِعِ سُلْطَانِهِ بَارِكِي يَا نَفْسِيَ ٱلرَّبَّ».
(١٦ - ١٨) إذا هبّ ريح حار جاف فإنه حالاً يذوي العشب وييبسه وهكذا الإنسان فإنه إذا مر عليه بعض المصائب القاسية فتتركه في حالة اليأس مقترباً إلى الموت. وكما تنثر الريح هذه الأعشاب اليابسة إلى كل مكان هكذا تذهب حياة الإنسان حتى لا يعود يعرفه أقرب الناس إليه ويصبح نسياً منسياً. وكما أن الريح تشير إلى أي نوع من أنواع المخاطر هكذا فإن رحمة الرب لا تتركنا بل تنجينا من هذه المخاطر جميعها ولا سيما أولئك الخائفين الله وحينئذ يجري عدله حتى يصل إلى بني البنين - فكما أنه يفتقد ذنوب الآباء بالأبناء حسب الوصية الثالثة هكذا فإن رحمته تصل إلى الأبناء كما الآباء فهو معنا في كل حين. ولكن هذه لمن يحفظون عهود الله ويمشون حسب وصاياه. فيعملون الأفضل لأنهم يعرفونه كذلك.
(١٩ - ٢٢) والآن يرتفع المرنم للأعالي فيصور لنا السماء وما فيها من ملائكة وأجناد وقوات وخدام. هناك كرسي الرب كما أن الأرض هي موطئ قدميه فهو الملك الحاكم على كل مخلوقاته السماوية أولاً والأرضية أيضاً. وهو يدعو هذه الأجناد كلها لكي تشترك في التسبيح ولا مثيل لذلك سوى المزمور ٢٩) ويظهر أنه يوجد رتب في السماويين (راجع لوقا ٢: ١٣ ومزمور ١٠٤: ٤ ودانيال ٧: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤). ومن السماويين حسب رتبهم يتدرج إلى الأرضيين إلى جميع الذين يعملون مرضاته ويتممون أوامره ثم إلى أعماله العجيبة في المخلوقات الطبيعية فهي نفسها تشترك في تسبيح الله وحمده وتمجيده وأخيراً يعود إلى نفسه كما افتتح المزمور لأنه لو بارك الله كل هؤلاء ولم يشترك الإنسان في ذلك فباطلة كل عبادة وباطل كل تسبيح.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلرَّابِعُ


«١ بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ. يَا رَبُّ إِلٰهِي قَدْ عَظُمْتَ جِدّاً. مَجْداً وَجَلاَلاً لَبِسْتَ. ٢ ٱللَّابِسُ ٱلنُّورَ كَثَوْبٍ ٱلْبَاسِطُ ٱلسَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ. ٣ ٱلْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِٱلْمِيَاهِ. ٱلْجَاعِلُ ٱلسَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ. ٱلْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ ٱلرِّيحِ».
هذا المزمور أيضاً يبدأ بالعبارة «باركي يا نفسي الرب». وهو غير معروف من مؤلفه ويرينا أن الله حاكم في مملكة الطبيعية فيذكر الحيوانات الكثيرة بأسمائها وطرق معيشتها حتى يكاد يكون هذا المزمور فصلاً في علم الحيوان. بينما المزمور السابق يتكلم عن نعمة الله ولذلك يبحث عن الملائكة والقوات والأجناد السماوية. وغاية المرنم أن يرينا إن عمل الخليقة حسن جداً كما ورد في سفر التكوين الأصحاح الأول. ويتمنى أن يطرد الشر من الأرض طالما خلائق الله كلها حسنة. ذلك لأن الإنسان بفساد طبيعته قد أفسد ما أوجده الله حسناً.
(١ - ٣) يبدأ هذا المزمور متابعاً أعمال الخليقة فيصف النور أولاً وهو بدء خليقة الله. يفعل ذلك بعد أن يعطي المجد لله ويصفه بأنه يلبس المجد والجلال. وهو العظيم في كل شيء المنزه عن كل شيء أرضي لأن ملكه ملك سماوي علوي. ولأن الله قد خلق النور أولاً لذلك يلبسه متسربلاً به كما أنه قد بسط السموات كما تبسط شقة الخيمة لكي تغطيها (راجع عاموس ٤: ١٣ وإشعياء ٤٤: ٢٤ و٤٥: ٧ وإرميا ٢٠: ١٢). في قوله «الباسط السموات كشقة». ينتقل إلى اليوم الثاني من أيام الخليقة حينما خلق الله الجلد فبسط السموات كما تبسط شقة الخيمة وتنشر من جميع الأنحاء (راجع إشعياء ٥٤: ٢). هذا الإله العظيم الذي يجعل المياه سقوفاً لغرفه العالية والذي يركب على السحاب ويمشي على الريح. هو إله مرتفع ويستخدم هذه القوات المختلفة المتعالية فوق الإنسان لأجل إظهار مجده تعالى. وهو يركب مركبته النورانية هذه لكي يحكم في الناس ويريهم مجده وجلاله ويجعلهم خاضعين (إشعياء ١٩: ١).
«٤ ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ نَاراً مُلْتَهِبَةً. ٥ ٱلْمُؤَسِّسُ ٱلأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٦ كَسَوْتَهَا ٱلْغَمْرَ كَثَوْبٍ. فَوْقَ ٱلْجِبَالِ تَقِفُ ٱلْمِيَاهُ. ٧ مِنِ ٱنْتِهَارِكَ تَهْرُبُ مِنْ صَوْتِ رَعْدِكَ تَفِرُّ. ٨ تَصْعَدُ إِلَى ٱلْجِبَالِ. تَنْزِلُ إِلَى ٱلْبِقَاعِ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي أَسَّسْتَهُ لَهَا. ٩ وَضَعْتَ لَهَا تُخُماً لاَ تَتَعَدَّاهُ. لاَ تَرْجِعُ لِتُغَطِّيَ ٱلأَرْضَ».
(٤) يقال إنه كما خلق الله الإنسان من تراب الأرض هكذا خلق ملائكته من النار الملتهبة. وقد يكون المعنى أن الله يستخدم الريح والنار لإتمام مقاصده تعالى وإسماع صوته كما في انتظار إيليا أن يسمع صوت الله في المغارة (راجع ١ملوك ١٩: ١١ وما يليه). ولا شك أن الكروبيم نفسه يجب أن ينقل إلينا الفكرة أن الله كان يستعملهم مثل مركبة لينتقل من مكان إلى آخر (انظر مزمور ٣٥: ٥). ونرى حينئذ أن الرب يمثل لنا قوة الريح التي يستخدمها كرسول عنه.
(٥ - ٩) يرينا الآن أن هذه الأرض ثابتة غير متقلقلة ولا متزعزعة. هوذا الجبال العالية ترتفع متشامخة وهوذا السهول والوديان وينظر إلى البحيرات العالية فيراها في أمكنة عالية بين الجبال. وقد يكون المعنى أن هذه الينابيع المتدفقة الآتية من قمم الجبال كيف وصلت إلى هناك لولا أن الله قد كسا الجبال بها فغارت إلى حين ثم انفجرت ينابيع ماء حية لتروي العطاش. أما أن هذه المياه تهرب وتفر من صوت الرعد فهنا إشارة إلى فكرة قديمة هي أن الرعد يفجر المياه ويجعلها تسيل بشدة. وهذه المياه العالية في الجبال هي من هناك نازلة وفي نزولها تصل إلى الأمكنة المخصصة لها والتي لا تقدر أن تتعداها. فهذه المياه ليست حرة في جريانها بل تسير كما يريد الله لها وتقف حينما يريد فهي تخضع لنظامات معينة فلن يكون طوفان كالذي جرى من قبل فيغمر المعمورة كلها. بل إن هذه البحار هي في أماكنها الخاصة لا تستطيع أن تصعد منها لتغمر الأرض بالمياه لأنه قد وضع لها حدوداً (راجع أمثال ٨: ٢٩ وإرميا ٥: ٢٢) ولم تعد هذه المياه كما كانت عند بدء الخليقة حينما كانت تغمر الأرض (راجع تكوين ١).
«١٠ اَلْمُفَجِّرُ عُيُوناً فِي ٱلأَوْدِيَةِ. بَيْنَ ٱلْجِبَالِ تَجْرِي. ١١ تَسْقِي كُلَّ حَيَوَانِ ٱلْبَرِّ. تَكْسِرُ ٱلْفِرَاءُ ظَمَأَهَا. ١٢ فَوْقَهَا طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ تَسْكُنُ. مِنْ بَيْنِ ٱلأَغْصَانِ تُسَمِّعُ صَوْتاً. ١٣ ٱلسَّاقِي ٱلْجِبَالَ مِنْ عَلاَلِيهِ. مِنْ ثَمَرِ أَعْمَالِكَ تَشْبَعُ ٱلأَرْضُ. ١٤ ٱلْمُنْبِتُ عُشْباً لِلْبَهَائِمِ، وَخُضْرَةً لِخِدْمَةِ ٱلإِنْسَانِ، لإِخْرَاجِ خُبْزٍ مِنَ ٱلأَرْضِ، ١٥ وَخَمْرٍ تُفَرِّحُ قَلْبَ ٱلإِنْسَانِ لإِلْمَاعِ وَجْهِهِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلزَّيْتِ، وَخُبْزٍ يُسْنِدُ قَلْبَ ٱلإِنْسَانِ».
(١٠ - ١٤) يصف هنا تلك الينابيع التي تتفجر في أودية الجبال العالية فهي واطئة بالنسبة للجبال حولها ولكنها عالية بالنسبة للاراضي التي تحتها. وهذه المياه عادة طيبة وباردة ومنعشة وتنحدر بعد ذلك في أودية مختلفة حتى تجتمع لتكون أنهاراً عظيمة. ثم تسقي كل الحيوانات التي تعيش في البراري ولا سيما الفراء أي الحمار الوحش ذو الخطوط المتوازية التي تكسو جلده. وقوله «تكسر ظمأها» هو تعبير مستعمل حتى الأن فنقول «نكسر عطشنا» وهذا التعبير لم يستعمل في أي موضع غير هنا. وفوق هذا الحيوانات تسكن طيور السماء التي تنتقي لنفسها نواتئ الصخور حيث تبني أعشاشها أو أعالي الشجر أو قمم الجبال الشامخة التي لا يقدر أن يصل إلى فراخها أي حيوان. وهذه الطيور تعرف بصوتها فقط إذ ربما تغيب عن العيون أشكالها ويكون صوتها زقزقة أو نعيباً بين أغصان الأشجار. هو الله الذي يسقي الجبال من الأعالي وحينئذ تشبع الأرض من هذا الخير الذي يمنحه الرب للناس. وهكذا ينبت الشجر والخضر وأنواع البقول والحبوب التي تغذي وتحيي الإنسان. فيعطي عشباً للبهائم وخضرة لمأكولات البشر بل ويبنت المزروعات التي منها يؤخذ الخبز.
(١٥) هذا الخبز الذي هو قوت البشر ويستغنون ربما عن كثير من المأكولات وأما عنه فلا يستغنون. بل هذه الأرض التي تنبت الكرمة بعنبها الطيب اللذيذ يضاف إليه صناعة الإنسان فيستخرج منه الخمر الذي عرفه منذ القديم وألمع به وجهه اكثر من إلماع الزيت. ولكن هذا لا يكفي ما لم يكن خبز للإنسان يسند به قلبه. وهو التعبير ذاته الذي نستعمله حتى اليوم في هذه البلاد.
وقد ذهب بعض المترجمين «لإلماع وجهه بالزيت». وليس أكثر من الزيت.
«١٦ تَشْبَعُ أَشْجَارُ ٱلرَّبِّ، أَرْزُ لُبْنَانَ ٱلَّذِي نَصَبَهُ. ١٧ حَيْثُ تُعَشِّشُ هُنَاكَ ٱلْعَصَافِيرُ. أَمَّا ٱللَّقْلَقُ فَٱلسَّرْوُ بَيْتُهُ. ١٨ ٱلْجِبَالُ ٱلْعَالِيَةُ لِلْوُعُولِ. ٱلصُّخُورُ مَلْجَأٌ لِلْوِبَارِ. ١٩ صَنَعَ ٱلْقَمَرَ لِلْمَوَاقِيتِ. ٱلشَّمْسُ تَعْرِفُ مَغْرِبَهَا. ٢٠ تَجْعَلُ ظُلْمَةً فَيَصِيرُ لَيْلٌ. فِيهِ يَدِبُّ كُلُّ حَيَوَانِ ٱلْوَعْرِ. ٢١ ٱلأَشْبَالُ تُزَمْجِرُ لِتَخْطُفَ وَلِتَلْتَمِسَ مِنَ ٱللّٰهِ طَعَامَهَا».
(١٦ - ١٨) وهكذا يكون المرنم قد ذكر المصادر الثلاثة الهامة لقوت الإنسان حسب العرف القديم وهي الخمر والخبز والزيت. أما قوله في العدد ١٦ أشجار الرب فهي تلك الأشجار الباسقة التي تخبر عن قدرة الرب وترينا عظمته بالنسبة لقدمها في السنين وبالنسبة لارتفاعها وثباتها ضد عوادي الأيام. فيذكر نوعين من هذه الأشجار العظيمة أولاً الأرز وثم السرو في هذه الأشجار تجعل العصافير أعشاشها كما أن للقلق - وهو نوع من البجع الذي يأتي في الربيع ويقتات على الحشرات التي تفتك بالمزروعات فمن هذا القبيل هو نافع جداً للفلاح. هذه الطيور التي لا يؤكل لحمها تجعل أعشاشها في السرو وهذا الطير مشهور بإلفته العائلية وكان يحسبه القدماء سعيداً وبركة للبيوت التي ينزل في جوارها ويعشش. ويتابع المرنم تفكيره فيرى أن عناية الله التي تحيط بكل شيء تجعل الوعول مسكنها الجبال والوبار مسكنها الصخور. أما الوعل فهو الماعز البري الذي يسكن الأماكن العالية.
(١٩ - ٢١) والآن ينتقل المرنم إلى اليوم الرابع من أيام الخليقة فيذكر الشمس والقمر. ولكنه يذكر القمر أولاً لكي يتبعه بذكر مليكة النهار وهي الشمس التي تبدد الظلمات. والقمر قد عرف منذ القديم لكي يقسم الأوقات إلى أشهر والأشهر إلى سنوات على التوالي. وهكذا يذكر الليل وما يدب فيه من حيوان. هوذا الظلمة تغشى الأرض وتستر في طياتها تلك الوحوش الضارية التي تطلب قنصها عندئذ. بل هوذا الأشبال ذاتها تزمجر طالبة طعاماً ومن يستطيع أن يعتني بجميع هذه الحيوانات غير الله الذي خلقها فهو وحده قادر أن يقوتها ويحييها.
«٢٢ تُشْرِقُ ٱلشَّمْسُ فَتَجْتَمِعُ، وَفِي مَآوِيهَا تَرْبِضُ. ٢٣ ٱلإِنْسَانُ يَخْرُجُ إِلَى عَمَلِهِ وَإِلَى شُغْلِهِ إِلَى ٱلْمَسَاءِ. ٢٤ مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلآنَةٌ ٱلأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ. ٢٥ هٰذَا ٱلْبَحْرُ ٱلْكَبِيرُ ٱلْوَاسِعُ ٱلأَطْرَافِ. هُنَاكَ دَبَّابَاتٌ بِلاَ عَدَدٍ. صِغَارُ حَيَوَانٍ مَعَ كِبَارٍ. ٢٦ هُنَاكَ تَجْرِي ٱلسُّفُنُ. لَوِيَاثَانُ هٰذَا خَلَقْتَهُ لِيَلْعَبَ فِيهِ. ٢٧ كُلُّهَا إِيَّاكَ تَتَرَجَّى لِتَرْزُقَهَا قُوتَهَا فِي حِينِهِ».
(٢٢ - ٢٣) وهذه الحيوانات التي بعضها ليلية إذا بها عندما تشرق الشمس تعود فتختبئ في مآويها إلى ميعاد آخر. بينما الإنسان يعيش بطريقة معاكسة فهو يشتغل أثناء النهار ولا يبرح يفعل ذلك حتى يكتنفه الظلام وحينئذ يتوقف عن عمله إلى نهار آخر.
(٢٤ - ٢٧) ثم يلخص كلامه السابق كله بتمجيد أعمال الرب التي صُنعت كلها بالحكمة والدراية. وهوذا الأرض كلها تشهد بذلك وترينا غنى الرب الذي لا يستقصى ولا يحدّ. وهذا العدد مناسب جداً لختام الكلام عن المخلوقات البرية كلها ونجده في (العدد ٢٥) ينتقل إلى البحر ويجد فيه الاتساع العظيم فينبهر بصره بهذا الجلال وهذه العظمة ويرى فيه تلك الأسماك الكثيرة بأشكالها المتباينة وأحجامها المختلفة من صغيرة وكبيرة. أيضاً هنا يتابع المرنم ترتيبه السابق من جهة أيام الخليقة ويصل إلى اليوم الخامس. وهنا لا يضع فاصلاً كبيراً بين أي شيء خلق من قبل لذلك نجد الطيور والحيوانات والأسماك كلها متتابعة وهذا دليل أن المرنم لم يلتفت إلى ترتيب الخليقة وتابعها كما هي بل تصرف كما شاء له مجرى الكلام. في هذا البحر يجد السفن التي تمخر عبابه بل يجد لوياثان وهو عادة التمساح ولكنه هذا يعني الأرجح الحوت لأن التمساح لا يسكن البحار بل يعيش على ضفاف الأنهار. وقد يكون لوياثان كناية عن الوحوش البحرية على اختلاف أشكالها دون تمييز. ويلتفت مرة أخرى إلى البر والبحر ويجد أن كل شيء يمجد اسم الله ويذيع حمده وبركته لأنه هو الخالق والمعتني الذي يمنح كل مخلوقاته طعامها في حينه فلا تجوع ولا تعطش بل تسكن آمنة مطمئنة لأن الله يدبر كل شيء بحسب حكمته غير المتناهية.
«٢٨ تُعْطِيهَا فَتَلْتَقِطُ. تَفْتَحُ يَدَكَ فَتَشْبَعُ خَيْراً. ٢٩ تَحْجُبُ وَجْهَكَ فَتَرْتَاعُ. تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا فَتَمُوتُ وَإِلَى تُرَابِهَا تَعُودُ. ٣٠ تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ ٱلأَرْضِ ٣١ يَكُونُ مَجْدُ ٱلرَّبِّ إِلَى ٱلدَّهْرِ. يَفْرَحُ ٱلرَّبُّ بِأَعْمَالِهِ. ٣٢ ٱلنَّاظِرُ إِلَى ٱلأَرْضِ فَتَرْتَعِدُ. يَمَسُّ ٱلْجِبَالَ فَتُدَخِّنُ. ٣٣ أُغَنِّي لِلرَّبِّ فِي حَيَاتِي. أُرَنِّمُ لإِلٰهِي مَا دُمْتُ مَوْجُوداً، ٣٤ فَيَلَذُّ لَهُ نَشِيدِي وَأَنَا أَفْرَحُ بِٱلرَّبِّ. ٣٥ لِتُبَدِ ٱلْخُطَاةُ مِنَ ٱلأَرْضِ وَٱلأَشْرَارُ لاَ يَكُونُوا بَعْدُ. بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ. هَلِّلُويَا».
(٢٨ - ٣٠) ذاك الإله الجواد الذي يعطيها ويفتح يده عليها فإذن كل مساعيها وحدها عبث وإنما تصبح ذات جدوى متى رضي الله عنها فتشبع وتحيا. ومن جهة ثانية إذا حجب الرب وجهه إذا بها تخاف وتتغير وتبدأ بالاضمحلال والزوال «لأن به نحيا ونتحرك ونوجد». وهو الله الذي ينزع أرواحها وتموت بعد ذلك تعود إلى التراب وهكذا تستمر أعمال الله في خليقته أشياء تضمحل وأشياء تتجدد على التوالي ولا سيما حينما يرسل روحه المحيي ذلك النفس الذي ينفخه في الوجود فإذا به يتحرك بمشيئة الله فتعود الأرض إلى حالتها القشيبة وقت الربيع. فما كان موتاً في الشتاء يصبح حياة مرة أخرى وهكذا دواليك على مرور الزمان (راجع ١صموئيل ١٥: ٦ وأيوب ٣٤: ١٤ وما بعده).
(٣١ - ٣٥) أما مجد الرب فلا يتغير ولا يتبدل بل هو هو إلى الأبد ويفرح الرب بأعماله لأنها حسنة وصالحة كلها. هذا الإله العظيم الذي برضاه نحيا وبدون رضاه ترتعد الأرض كلها. إذا لمس الجبال يجعلها تدخن فتبعث الحمم من أفواه براكينها. وهكذا بغضبه يتم الهلاك والدمار. ويلتفت إلى نفسه فيجد أن من الواجب أن يغني في حياته وأن يرنم ترنيمات لائقة بهذا الإله المحب القدير القدوس. وإذا به يتأكد أن الرب يفرح بالنشيد وهو أي المرنم يفرح بهذا الفرح. هو إنسان متعبد لإلهه يرى في هذه المخلوقات جميعها ما يدعوه للتخشع والسجود والتسليم فيزداد تواضعاً كلما عرف عظمة الرب أكثر ويزداد ورعاً كلما رأى آيات الله ماثلة أمام عينيه. وأخيراً ينحي باللائمة على الأشرار الذين لا يرون ما يراه ولا يؤمنون إيمانه ويتمنى لو يبادون من الأرض حتى لا يبقى أحد منكراً لجميل إلهه. ولكنه هو أي المرنم يعود إلى نفسه في الختام ويبارك الرب ويسبحه بكل ما أوتي من قوة وحلاوة نشيد.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْخَامِسُ


«١ اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ. ٱدْعُوا بِٱسْمِهِ. عَرِّفُوا بَيْنَ ٱلأُمَمِ بِأَعْمَالِهِ. ٢ غَنُّوا لَهُ. رَنِّمُوا لَهُ. أَنْشِدُوا بِكُلِّ عَجَائِبِهِ. ٣ ٱفْتَخِرُوا بِٱسْمِهِ ٱلْقُدُّوسِ. لِتَفْرَحْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ ٱلرَّبَّ».
هذا أحد المزامير التي تبدأ بالحمد كما أنه يوجد بعض المزامير الأخرى التي تبدأ هللويا فنسمي المزامير الأول مزامير الحمد مثل المزامير (١٠٥ و١٠٧ و١١٨ و١٣٦). كما أن مزامير هللويا مثل (المزامير ١٠٦ و١١١ و١١٢ و١١٣ و١١٧ و١٣٥ و١٤٦ و١٤٧ و١٤٨ و١٤٩ و١٥٠). ويذكر كلا النوعين من المزامير كل من أسفار أخبار الأيام وعزرا ونحميا. يأخذ المرنم مجمل الحوادث التي جرت في أيام موسى وأوائل أيام يشوع ويلبسها حلى قشيبة من الشعر القصصي الديني. يأخذ زمان التوراة (أي الشريعة الموسوية) ويتوسع فيه سارداً الحوادث ليس بصورة تاريخية بمقدار إلقاء دروس وعبر على الحاضر يستنتجها من الماضي السحيق. والأرجح أنه مزمور كان يرنم في الأعياد (راجع ١أخبار ١٦: ٨ - ٢٢) وقد حسبه بعض المفسرين أنه مجموعة من المزامير أخذت شكلها الأخير على مرور الزمان وتكرار الاستعمال ويرجح الكثيرون أنه كان يستعمل في ابتداء العبادة على جبل صهيون وإنه يتبع النسق الداودي في المزامير. وخلاصة القول أنه مزمور يسرد حوادث التوراة بشكل شعري يقع في النفس موقعاً جميلاً.
(١ - ٣) يبدأ كلامه بحمد الرب والدعوة باسمه إي إذاعة اسمه إلى كل مكان حتى يسمع جميع الأمم ويعترف البشر كلهم بصنائع الرب وعظمته هو دعاء التسبيح والشكران بصوت مسموع مفهوم. يجب أن يغنى له ويرنم ويتذكر العالم أجمع تلك العجائب التي صنعها الرب. بل هو مدعاة الفخر والمباهاة أمام الجميع ولا سيما أن تفرح به قلوب المؤمنين الذين يلتمسون الرب فيجدون فيه صخرة خلاص وملجأ أمان. في هذه الدعوة للتسبيح جدّ وانشغاف أما الجد فلأنه يريد أن ينصرف الناس بالتقوى والورع ولا يصرفون أوقاتهم في التلهي بأمور العالم فقط. وأما الانشغاف فهو يضع الله قبلة الأنظار ويتقدم إليه عن محبة ورغبة قلبية. لذلك هو يدعو للفرح والترنم والابتهاج بالرب وليس مجرد تقديم عبادة خارجية وكفى.
«٤ اُطْلُبُوا ٱلرَّبَّ وَقُدْرَتَهُ. ٱلْتَمِسُوا وَجْهَهُ دَائِماً. ٥ ٱذْكُرُوا عَجَائِبَهُ ٱلَّتِي صَنَعَ، آيَاتِهِ وَأَحْكَامَ فَمِهِ ٦ يَا ذُرِّيَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِهِ، يَا بَنِي يَعْقُوبَ مُخْتَارِيهِ. ٧ هُوَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ أَحْكَامُهُ. ٨ ذَكَرَ إِلَى ٱلدَّهْرِ عَهْدَهُ كَلاَماً أَوْصَى بِهِ إِلَى أَلْفِ دَوْرٍ، ٩ ٱلَّذِي عَاهَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَقَسَمَهُ لإِسْحَاقَ».
(٤ - ٦) يجب على الناس أن يلتفتوا إلى الرب ويهتموا بوصاياه لأنه قدير فيستطيع أن يحضر إلى كل مراكز الخطر ويبددها. وهو يلتمس وجه الله أي حضوره الإلهي لأن بوجهه يتبدد جميع غياهب الظلمات وهكذا يسلك المؤمن بالنور ويعيش موفقاً سعيداً. ويطلب من الناس أن يذكروا عجائب الله والآيات والأحكام التي تخرج من فمه لأن كل أحكامه حق وأمانة وعدل. والأرجح أن المرنم يضع تذكارات مصر وخروج شعب الله منها أمام عينيه فلا يجوز إذن للشعب أن ينسى ما جرى معه من حوادث خطيرة. ويعود بالتذكارات إلى قبل ذلك أيضاً فيذكر الشعب إنهم ذرية يعقوب وإبراهيم وأولئك الآباء الذين اختارهم الله ليكونوا معه وليخبروا الأجيال القادمة.
(٧ - ٩) هذا الرب الإله الذي يملأ الأرض كلها بأحكامه. نعم هو إله إسرائيل ولكنه هو إله الأرض كلها يحكم بالعدل والإنصاف ولكن شعبه المختار هو الذي يعترف بأحكامه هذه ويذكر العهد الذي قطعه ويحفظه إلى كل أدوار التاريخ. ثم يعود فيذكر إبراهيم مرة ثانية ويرى فيه الشخص الأنسب الذي عاهده الله ثم أعطى قسمه لإسحاق ابنه من بعده. لأن الله حي لذلك هو ينقل عهوده المقدسة وأقسامه من والدٍ إلى ولد.
«١٠ فَثَبَّتَهُ لِيَعْقُوبَ فَرِيضَةً وَلإِسْرَائِيلَ عَهْداً أَبَدِيّاً، ١١ قَائِلاً: لَكَ أُعْطِي أَرْضَ كَنْعَانَ حَبْلَ مِيرَاثِكُمْ. ١٢ إِذْ كَانُوا عَدَداً يُحْصَى، قَلِيلِينَ وَغُرَبَاءَ فِيهَا. ١٣ ذَهَبُوا مِنْ أُمَّةٍ إِلَى أُمَّةٍ، مِنْ مَمْلَكَةٍ إِلَى شَعْبٍ آخَرَ. ١٤ فَلَمْ يَدَعْ إِنْسَاناً يَظْلِمُهُمْ، بَلْ وَبَّخَ مُلُوكاً مِنْ أَجْلِهِمْ، ١٥ قَائِلاً: لاَ تَمَسُّوا مُسَحَائِي وَلاَ تُسِيئُوا إِلَى أَنْبِيَائِي».
(١٠ - ١١) وبعد إسحاق يأتي يعقوب أيضاً الذي اسمه إسرائيل لأنه صارع مع الله باقتدار. فهذا العهد دائم لا يتغير بتغير الأشخاص والمهم في ذلك ليس الإنسان بل الله الذي يتكلم لكي يصغي إليه البشر جميعهم. هو الوعد الذي جرى على جبل موريا (انظر تكوين ٢٢: ١٦). وأيضاً (عاموس ٧: ٩ وإرميا ٣٣: ٢٦). هي أرض موروثة ومقيسة بالحبل لأنها مملوكة فقد طرد الله السكان الأصليين وسلم أرضهم إلى شعبه الخاص (انظر مزمور ٧٨: ٥٥).
(١٢ - ١٥) وقد كان هذا الشعب المختار قليل العدد أولاً يحصى على أصابع اليد ربما وكانوا غرباء في البلاد وأما الآن فهم أصحابها الحقيقيون (راجع تكوين ٣٤: ٣٠ وتثنية ٢٦: ٥). كانوا بلا شأن ضعفاء لا يعتد بهم. وقد اضطروا أولاً أن يبقوا متجولين لا يستقرون في مكان واحد معيّن. فذهبوا من مملكة إلى مملكة وتعرفوا بشعب بعد شعب وكان الله معهم وحارسهم على الدوام فلم يدعهم مظلومين لأنه هو الذي حماهم وقواهم وسندهم وهداهم حتى أن الملوك أنفسهم لم يستطيعوا أن يعتدوا عليهم ويسحقوهم. بل عضدهم بيمينه ونجاهم. ذلك لأن منهم خرج المسحاء أي الممسوحين بيد الله القدير ليدعوا شعب الله وليقودوه في طرق الحق والحياة. ومنهم خرج الرؤساء والقادة والأنبياء لذلك احتاجوا إلى القدرة الإلهية حتى لا ينخذلوا في مهمتهم الخطيرة هذه. هم مسحاء لأنهم مختارون وهم أنبياء لكي يتكلموا بعظائم الله ويخبروا عن عجائبه (راجع خروج ٧: ١ وما بعده مع ٤: ١٥ وما بعده).
«١٦ دَعَا بِٱلْجُوعِ عَلَى ٱلأَرْضِ. كَسَرَ قِوَامَ ٱلْخُبْزِ كُلَّهُ. ١٧ أَرْسَلَ أَمَامَهُمْ رَجُلاً. بِيعَ يُوسُفُ عَبْداً. ١٨ آذَوْا بِٱلْقَيْدِ رِجْلَيْهِ. فِي ٱلْحَدِيدِ دَخَلَتْ نَفْسُهُ ١٩ إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ كَلِمَتِهِ. قَوْلُ ٱلرَّبِّ ٱمْتَحَنَهُ. ٢٠ أَرْسَلَ ٱلْمَلِكُ فَحَلَّهُ. أَرْسَلَ سُلْطَانُ ٱلشَّعْبِ فَأَطْلَقَهُ. ٢١ أَقَامَهُ سَيِّداً عَلَى بَيْتِهِ وَمُسَلَّطاً عَلَى كُلِّ مُلْكِهِ».
(١٦ - ٢١) دعا بالجوع أي أوجد جوعاً على الأرض حيثما نزل يعقوب وبنوه وكسر قوام الخبز أي أن الخبز الذي هو قوام الحياة وبدونه لا حياة إذ به يسند قلب الإنسان كما رأينا من قبل (راجع مثلاً لاويين ٢٦: ٢٦). ولأن الله يعتني بهم تلك العناية الكاملة الحنونة لذلك فقد تحوّل إرسال يوسف وبيعه عبداً إلى سبب خلاص وخير لأبيه وإخوته جميعاً (انظر تكوين ٤٥: ٥). وهكذا فإن العناية الإلهية التي لا تدركها الأفهام البشرية تعمل عملها بكل نشاط وقوة وتجعل من الشر خيراً ومن الضيق فرجاً وسلاماً. يوسف هذا أصبح سجيناً مقيد الرجلين. ونفسه مصفدة بالحديد علامة الذل والمسكنة. ولم يطل الوقت حتى تحققت أحلام هذا الفتى يوسف «إلى وقت مجيء كلمته» وقد دخل في امتحانات صعبة مرة ولكنه اجتازها بنشاط وأمن وبرهن عن إيمان وكفاءة (راجع تكوين ٤٢: ٩). ولكن الله نفسه قد استخدم فرعون فأرسل ودعاه إليه لكي يفسر الأحلام التي أزعجته وأقضت مضجعه وكان الله يتكلم لكي يرى عجائبه في المجاعة العظيمة التي ستجتاح أرض مصر كلها. وكانت النتيجة أن هذا السجين يحل وهذا المقيّد يطلق سراحه ليصبح سيداً عظيماً في المملكة كلها. أليس هذا لأن يد الله القديرة تدبر هذه الأشياء كلها وتجعل بعد العسر يسراً وتكون جواً جميلاً صافياً بعد تلك الغيوم المتلبدة التي حجبت شمس السعادة حيناً من الزمن. هذا هو الإله الذي يرفع الناس حسب استحقاقاتهم وتكون المصائب لهؤلاء الناس مثل درجات في سلم النجاح وبالتالي يرتقون إلى حياة الكرامة والأمجاد.
«٢٢ لِيَأْسِرَ رُؤَسَاءَهُ حَسَبَ إِرَادَتِهِ وَيُعَلِّمَ مَشَايِخَهُ حِكْمَةً. ٢٣ فَجَاءَ إِسْرَائِيلُ إِلَى مِصْرَ، وَيَعْقُوبُ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ حَامٍ. ٢٤ جَعَلَ شَعْبَهُ مُثْمِراً جِدّاً وَأَعَزَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ. ٢٥ حَوَّلَ قُلُوبَهُمْ لِيُبْغِضُوا شَعْبَهُ، لِيَحْتَالُوا عَلَى عَبِيدِهِ. ٢٦ أَرْسَلَ مُوسَى عَبْدَهُ وَهَارُونَ ٱلَّذِي ٱخْتَارَهُ. ٢٧ أَقَامَا بَيْنَهُمْ كَلاَمَ آيَاتِهِ وَعَجَائِبَ فِي أَرْضِ حَامٍ».
(٢٢ - ٢٤) وكانت النتيجة أن أصبح يوسف في ذلك المركز الرفيع حتى أن رؤساءه أصبحوا في قبضة يده يتصرف بهم كيفما شاء بل أصبح يعلم الحكماء حكمة ويفوق جميع الفاهمين دراية وحسن تدبير (راجع تكوين ٤١: ١٤ وايضاً ٤١: ٣٩ - ٤١ ثم العدد ٤٤). ويوسف هذا يأسرهم بحسب إرادته أي بحسب ما يرتئيه هو لأجل الخير العام فقد نظر للمستقبل نظراً ثاقباً فصمم على شيء وتابع مسيره حتى النهاية وكان الظفر حليفه حتى البركة الكاملة. وهكذا جاء إسرائيل إلى مصر هرباً من الجوع لكي ينال طعاماً ونزل مع أولاده ليصبح غريباً في أرض غريبة. ولكن هذا النزوح كان سبب بركة عظيمة إذ أصبح الشعب قوياً وكثير العدد حتى نافسوا أسيادهم والذين نزلوا فيما بينهم (راجع خروج ١: ٧ وتثنية ٢٦: ٥). هذه هي عناية الرب التي تستخدم ظروف الشر الطارئة لكي تحولها إلى النفع والخير العميم.
(٢٥ - ٢٧) أما وقد مضى عهد يوسف والعز الذي حازه فقد أصاب الشعب بعده ضيق وشدة لأن المصريين أصبحوا مضطهدين فقد أبغضوا أولاً واحتالوا وبذلوا كل جهد لأجل الإذلال والتضييق. ولكن هذا كان يظهر قدرة الله مرة ثانية فقد كان الشعب ينمو ويزداد رغم الاضطهاد إذا لم نقل بواسطة الاضطهاد أيضاً. ولم يطل الوقت حتى أرسل الله موسى ثم أخاه هارون. وقد أقام الأخوان بين الشعب أياماً طويلة يدعوان الناس لكي ينهضوا نهضة رجل واحد ويتشجعوا لأن الله لن يتخلى عنهم فهو إله آبائهم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. لذلك فالخلاص منتظر ولا يطول الوقت حتى يشاهدوه بعيونهم وما عليهم إلا أن ينتظروا قليلاً ويصبروا.
«٢٨ أَرْسَلَ ظُلْمَةً فَأَظْلَمَتْ، وَلَمْ يَعْصُوا كَلاَمَهُ. ٢٩ حَوَّلَ مِيَاهَهُمْ إِلَى دَمٍ وَقَتَلَ أَسْمَاكَهُمْ. ٣٠ أَفَاضَتْ أَرْضُهُمْ ضَفَادِعَ حَتَّى فِي مَخَادِعِ مُلُوكِهِمْ. ٣١ أَمَرَ فَجَاءَ ٱلذُّبَّانُ وَٱلْبَعُوضُ فِي كُلِّ تُخُومِهِمْ. ٣٢ جَعَلَ أَمْطَارَهُمْ بَرَداً وَنَاراً مُلْتَهِبَةً فِي أَرْضِهِمْ. ٣٣ ضَرَبَ كُرُومَهُمْ وَتِينَهُمْ، وَكَسَّرَ كُلَّ أَشْجَارِ تُخُومِهِمْ. ٣٤ أَمَرَ فَجَاءَ ٱلْجَرَادُ وَغَوْغَاءُ بِلاَ عَدَدٍ».
(٢٨ - ٣٨) يبدأ هنا في تعداد الضربات التي جاءت على المصريين بالترتيب المعروف كما ورد في سفر الخروج بل يظهر أنه يسردها عن ظهر قلبه شفاهاً ولا يراجع الكتب المقدسة حينما يفعل ذلك. كل ما يهمه أن يقوله إن الله أظهر عجائبه وأجرى أحكامه على شعب مصر بيد شديدة وذراع ممدودة. ولم يتوقف عن أن يجري الأنسب في حينه وباستمرار حتى ملّ شعب مصر وطلبوا الخلاص من هذه الضربات الفظيعة وهي الظلمة لأنها ترمز إلى غضب الله وتخليه عن أعداء شعبه لأن وجهه معناه النور ولذلك فالظلمة معناها الغضب وعدم الالتفات (راجع خروج ١٠: ٢١ - ٢٩) وبعد الظلمة يذكر الضربات ويلفت الأنظار للتأمل فيها وتذكرها جيداً فمنها تحويل الماء إلى دم حتى ماتت الأسماك وبعدها جاءت الضفادع حتى ملأت كل مكان ولم تقف حتى عند مخادع الملوك والعظماء. وبعد ذلك الذباب والبعوض وما تكاثر من الهوام المؤذية الناقلة للأوبئة والأمراض وفي السنة ١٩٤٧ حملت إلينا أنباء هائلة عن انتشار الهواء الأصفر في أرض مصر فلا يبعد أن تكون الأوبئة قديمة في تلك الأرجاء. وكان البرد المتلف للمزروعات والصواعق النازلة من السماء لتضرب الكروم على اختلاف أشكالها بل هبت العواصف وكسرت الأشجار. بل بعد ذلك جاء الجراد فأكل ما بقي من الضربات السالفة وهذا كان ثالثة الأثافي وعم البلاء في كل مكان وطلب الناس العون فلم يكن لهم أي مغيث أو معين.
«٣٥ فَأَكَلَ كُلَّ عُشْبٍ فِي بِلاَدِهِمْ. وَأَكَلَ أَثْمَارَ أَرْضِهِمْ. ٣٦ قَتَلَ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِهِمْ، أَوَائِلَ كُلِّ قُوَّتِهِمْ. ٣٧ فَأَخْرَجَهُمْ بِفِضَّةٍ وَذَهَبٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَسْبَاطِهِمْ عَاثِرٌ. ٣٨ فَرِحَتْ مِصْرُ بِخُرُوجِهِمْ لأَنَّ رُعْبَهُمْ سَقَطَ عَلَيْهِمْ. ٣٩ بَسَطَ سَحَاباً سَجْفاً، وَنَاراً لِتُضِيءَ ٱللَّيْلَ. ٤٠ سَأَلُوا فَأَتَاهُمْ بِٱلسَّلْوَى، وَخُبْزَ ٱلسَّمَاءِ أَشْبَعَهُمْ».
وهذا الجراد لم يصب الأشجار فقط حتى نزع منها كل ثمر ولم يبق عليها شيء بل قد هاجم كل عشب فمحا كل خضرة من كل مكان. وضربة الجراد هذه لا تزال تتردد في هذه الأنحاء الشرقية في فترات من السنين ولكن بواسطة طرق المكافحة الحديثة قد حصر شره كثيراً حتى نكاد نقول إنه في حكم العدم في بعض الأمكنة. وأخيراً جاءت الضربة الكبرى فأهلك ملاك الرب كل الأبكار حتى سمع النوح والبكاء في كل بيت ولم ينج أحد. لقد كانت المصيبة الأخيرة أعظم المصائب وأجلها إذ حسب أولئك الضحايا أنه أوائل كل قوة فهم فخر البيوت وزينتها وعزها بلا جدال. وينتقل بعد ذلك إلى خروج شعب إسرائيل من أرض مصر دون أن يذكر شيئاً عن ترتيب الفصح والوصايا والفرائض التي رافقته. ذلك لأنه يهمه الآن أن يتابع ذكر نتائج هذه الضربات وكيف كانت سبب خلاص حتى لم يكن أي عاثر في جميع أولئك الأسباط التي رأت صنائع الرب وشاهدت قواته الطبيعية المتكررة. وهكذا فإن مصر ارتاحت بخروجهم منها ورأت أن نتائج الشر التي حصلوا عليها لن تذهب إلا بذهاب مسببيها وهم الإسرائيليون.
(٣٩ - ٤٠) والآن يبدأ بالقيادة الإلهية العجيبة إذ ما الفائدة من الخروج إذا لم يتمم بالوصول إلى المكان المقصود إلى أرض الموعد من حيث جاءوا لاجئين. إن المهم في الطريق ليس أن نسكن فيها بل أن توصلنا للمكان الذي ننشده. وهكذا كان لهم عمود السحاب الذي يتحول في الليل مناراً لكي ينظروه من بعيد ويتبعوا. وبعد ذلك جاءوا فأرسل لهم المن والسلوى لكي يقتاتوا بها ويشبعوا. هم في البرية ولكنهم في عناية الله. هم في أرض مجدبة قاحلة ولكن قدرة الله تحولها إلى أمكنة سكنى ليعيشوا فيها آمنين.
«٤١ شَقَّ ٱلصَّخْرَةَ فَٱنْفَجَرَتِ ٱلْمِيَاهُ. جَرَتْ فِي ٱلْيَابِسَةِ نَهْراً. ٤٢ لأَنَّهُ ذَكَرَ كَلِمَةَ قُدْسِهِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِهِ ٤٣ فَأَخْرَجَ شَعْبَهُ بِٱبْتِهَاجٍ وَمُخْتَارِيهِ بِتَرَنُّمٍ. ٤٤ وَأَعْطَاهُمْ أَرَاضِيَ ٱلأُمَمِ. وَتَعَبَ ٱلشُّعُوبِ وَرَثُوهُ، ٤٥ لِكَيْ يَحْفَظُوا فَرَائِضَهُ وَيُطِيعُوا شَرَائِعَهُ. هَلِّلُويَا».
(٤١ - ٤٥) وبعد ذلك عطشوا فلم يبخل عليهم بالماء حتى من قلب الصخرة الصماء إن كان في قادش أو في رفيديم. وهكذا فإن كل ما جرى لم يكن سوى إتمام للوعد الإلهي الذي قطعه الله مع عبده إبراهيم. فلم يبقى الشعب مستعبداً وقوله في العدد ٤٣ إن الشعب خرج بابتهاج وترنم قد يشر إلى ترنيمة موسى التي رنمتها مريم مع بقية الشعب لدى خلاصهم من ويلات البحر الأحمر. لقد وصلوا إلى أرض السلامة والأمن وإن يكن سوف يحتملون ويلات كثيرة بعد في تيههم ببرية سيناء مدة أربعين سنة ولكن ما هذه السنين في عمر الشعوب بل ما هي هذه العذابات بالنسبة لما سوف يصادفونه من مجد وسؤدد. لقد دخلوا أرضاً لم يتعبوا فيها بل يرثونها ويستفيدون من هذه العطية السمحاء. وما عليهم الآن إلا أن يحفظوا الفرائض ويتمموا الأحكام الإلهية ويطيعوا الشرائع المقدسة لكي تكون لهم حياة. هذا هو إلههم وإله آبائهم فليسبح اسمه إلى الدهر والأبد وليمتد ذكره على كل شفة ولسان هللويا.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّادِسُ


«١ هَلِّلُويَا. اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِجَبَرُوتِ ٱلرَّبِّ؟ مَنْ يُخْبِرُ بِكُلِّ تَسَابِيحِهِ؟ ٣ طُوبَى لِلْحَافِظِينَ ٱلْحَقَّ وَلِلصَّانِعِ ٱلْبِرَّ فِي كُلِّ حِينٍ. ٤ ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ بِرِضَا شَعْبِكَ. تَعَهَّدْنِي بِخَلاَصِكَ».
يذكر كاتب سفر أخبار الأيام الأول في الأصحاح ١٦: ٨ وما بعده أقساماً من هذا المزمور بل نجده في (الأعداد ٣٤ - ٣٦) يضع العددين الأول والسابع والأربعين من هذا المزمور وأيضاً البركة التي هي ختام هذا المزمور فيختم بها القسم الرابع من المزامير. ونلاحظ أيضاً أن هذا المزمور ١٠٦ مثل مزمور الحمد ١٠٥ وكذلك مزمور آساف ٧٨ كل منها يعطي شيئاً مختصراً عن تاريخ شعب الله إسرائيل. وإن يكن كل واحد مختلفاً في سرده بعض الاختلاف عن الآخر. إنه مزمور اعتراف وطلب التوبة والرجوع إلى الله وكان يقدم بشكل طقسي كما عند تقديم باكورات الأثمار والغلال (راجع تثنية ٢٦) ولدى تدشين هيكل سليمان (راجع ١ملوك ٨).
(١ - ٤) يبدأ المزمور بالتسبحة المعهودة التي استعملت أول مرة في العصر المكابي بشكلها الحالي مع أنها استعملت على ما يظهر في أيام إرميا (راجع إرميا ٣٣: ١١) إن الله صالح ليس فقط بالنسبة لطبيعته في العلاقات البشرية. ورحمته دائمة إلى الأبد. لذلك فحمد اسمه لا يمكن أن يستوفي بالفم واللسان مهما ذكرنا ذلك وأذعناه. هذا الإله الذي يخضع لمشيئته كل الكائنات وهكذا فمن يا ترى يقدر أن يفيه حقه تعالى بالتسبيح. ولكنه يطوب الذين يحفظون الحق ويصنعون البر. إذن هؤلاء هم الذين يذيعون حمد الرب ويقبلهم كأخصاء له ويرضى عنهم. والمرنم يطلب أن ينضم إلى الشعب إجمالاً فيكون خلاصه في جملة من يخلصون. فلا يوجد شعور عنده بالمسؤولية الفردية بل يعتقد يقيناً أن الشعب كله ينال القصاص كما أنه ينال الخلاص إذا عرف أن يتمم وصايا إلهه ويمشي بموجب تعاليمه.
«٥ لأَرَى خَيْرَ مُخْتَارِيكَ. لأَفْرَحَ بِفَرَحِ أُمَّتِكَ. لأَفْتَخِرَ مَعَ مِيرَاثِكَ. ٦ أَخْطَأْنَا مَعَ آبَائِنَا. أَسَأْنَا وَأَذْنَبْنَا. ٧ آبَاؤُنَا فِي مِصْرَ لَمْ يَفْهَمُوا عَجَائِبَكَ. لَمْ يَذْكُرُوا كَثْرَةَ مَرَاحِمِكَ، فَتَمَرَّدُوا عِنْدَ ٱلْبَحْرِ، عِنْدَ بَحْرِ سُوفٍ. ٨ فَخَلَّصَهُمْ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ لِيُعَرِّفَ بِجَبَرُوتِهِ. ٩ وَٱنْتَهَرَ بَحْرَ سُوفٍ فَيَبِسَ، وَسَيَّرَهُمْ فِي ٱللُّجَجِ كَٱلْبَرِّيَّةِ. ١٠ وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ ٱلْمُبْغِضِ، وَفَدَاهُمْ مِنْ يَدِ ٱلْعَدُوِّ».
(٥) فيرى الخير مع أولئك المختارين الذين قد نالوا نعمة الله وعاشوا كما ينبغي على عبيده المقدسين وعندئذ يكون له الفرح الذي لهم. بل ويكون له ذلك الفخر مع المفتخرين الذين يشعرون أنهم ذرية الله وشعب ميراثه ولذلك لهم الحقوق كما عليهم الواجبات والمسؤوليات.
(٦ - ١٠) يرى المرنم أن يتواضع أمام الله لذلك يعترف حالاً بالخطأ الذي ارتكبه مع الآباء الأولين (راجع ١ملوك ٨: ٤٧ وكذلك دانيال ٩: ٥). فما يحتمله الشعب الآن هو نتيجة الشرور التي ارتكبوها لذلك فهو يرى الإساءة وفي الوقت ذاته يشعر بالتأديب الإلهي. فيعود إلى التاريخ القديم ويذكر الآباء في مصر ويرى أنهم لم يفهموا العجائب ولم يقدروا المراحم التي أسبغها عليهم حق قدرها. أولئك الآباء الذين تمردوا وعصوا فبدلاً من أن يكونوا شكورين على أثر ذلك الحدث العظيم إذا بهم قد نسوا حالاً وأخذوا يتذمرون من أمور بسيطة فقدوها. ولكن الله قد خلصهم من يد أعدائهم ليس لأنهم يستحقون بل لأنه يذكر عهوده المقدسة معهم فيعرف بهذه الواسطة جبروته وقدرته حتى يرى الأعداء فلعلهم يعودون إلى الحق والصواب. هوذا البحر ذاته يصبح مكان العجيبة التي جرت وإذا به ييبس حتى يستطيعوا العبور كأنهم على الأرض ذاتها وليس في البحر. وقوله بحر «سوف» كلمة مصرية قديمة معناها عشب البحر. وقد ذهب أحدهم أن كلمة سوف هي في الأصل اسم مدينة على الجهة الشمالية من البحر الأحمر وسمي البحر بها من باب تسمية الكل باسم البعض ولكن هذا الرأي لا تدعمه مستندات تاريخية وعلى كل فهو اسم علم للبحر كان يستعمله المصريون من قديم الزمان فنقله عنهم الإسرائيليون. والمرنم يهتم بأن يرينا كيف أن الله قد خلّص هذا الشعب وافتداهم من العدو المبغض.
«١١ وَغَطَّتِ ٱلْمِيَاهُ مُضَايِقِيهِمْ. وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَبْقَ. ١٢ فَآمَنُوا بِكَلاَمِهِ. غَنُّوا بِتَسْبِيحِهِ. ١٣ أَسْرَعُوا فَنَسَوْا أَعْمَالَهُ. لَمْ يَنْتَظِرُوا مَشُورَتَهُ. ١٤ بَلِ ٱشْتَهَوْا شَهْوَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَجَرَّبُوا ٱللّٰهَ فِي ٱلْقَفْرِ. ١٥ فَأَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ وَأَرْسَلَ هُزَالاً فِي أَنْفُسِهِمْ. ١٦ وَحَسَدُوا مُوسَى فِي ٱلْمَحَلَّةِ وَهَارُونَ قُدُّوسَ ٱلرَّبِّ. ١٧ فَتَحَتِ ٱلأَرْضُ وَٱبْتَلَعَتْ دَاثَانَ، وَطَبَقَتْ عَلَى جَمَاعَةِ أَبِيرَامَ».
(١١ - ١٢) لقد كان هذا الخلاص غالياً وثميناً على الأعداء لأنهم خسروا الكثير من عديدهم فماتوا غرقاً حينما ارتدت عليهم المياه (راجع خروج ١٤: ٣١). وإذا بالشعب عندئذ يؤمن بالله الذي خلصهم فيفرحون ويبدأون بالترنيم. لقد آمنوا بالله وبعبده موسى فرنموا فرحين مبتهجين وإن يكن ذلك إلى حين (خروج ١٥) لأنه لم يطل معهم الزمن حتى كانوا من الكنودين لا يعترفون بأي جميل.
(١٣ - ١٧) كان من أهم شرور بني إسرائيل أنهم ينسون أعمال الله وذلك بسرعة كلية كأن لا معرفة لهم بما جرى من قبل فكان الشعب متقلباً غير شكور وغير ذاكر لما فعله الله معه من عظائم. وشر ما في الأمر أنهم فعلوا ذلك دون أن يطلبوا مشورة الرب أو ينتظروا ماذا ينصح وبالطبع لو فعلوا لكانت النصيحة عكس ما يشتهون. ولقد كانت شهوتهم أن يملأوا بطونهم فقط وتمردوا على الله بأن تساءلوا هل يقدر الله أن يعطينا من الخيرات التي كانت لنا في أرض مصر؟ ولكن الله قد أعطاهم ما سألوه وإذا بنفوسهم المتكبرة المتعظمة تنخذل أمام الله القدير. أما سؤلهم فكان متعدد النواحي (راجع خروج ١٥: ٢٢ - ٢٤) وأيضاً (خروج ١٧: ٢) ثم بعد ذلك (خروج ١٦ وقابله مع سفر العدد ١١).
لم يكن كنودهم هو خطيئتهم الوحيدة بل كانت لهم خطيئة أخرى وهي تمردهم على رؤسائهم وحسدهم لهم فلم يطيعوا الأوامر كما ينبغي وقد احتمل موسى وهارون ذلك الأذى منهم صابرين ولكن الله قد قاصهم قصاصاً شديداً إذ فغرت الأرض فاها وابتلعتهم (راجع سفر العدد ١٦: ١٧). ولا يذكر الكاتب قورح وهذا على ما ورد في (العدد ١٦: ٢٥ وما بعده وكذلك تثنية ١١: ٦ وقابله مع العدد ٢٦: ١٠).
«١٨ وَٱشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي جَمَاعَتِهِمْ. ٱللَّهِيبُ أَحْرَقَ ٱلأَشْرَارَ. ١٩ صَنَعُوا عِجْلاً فِي حُورِيبَ وَسَجَدُوا لِتِمْثَالٍ مَسْبُوكٍ، ٢٠ وَأَبْدَلُوا مَجْدَهُمْ بِمِثَالِ ثَوْرٍ آكِلِ عُشْبٍ. ٢١ نَسَوْا ٱللّٰهَ مُخَلِّصَهُمُ ٱلصَّانِعَ عَظَائِمَ فِي مِصْرَ، ٢٢ وَعَجَائِبَ فِي أَرْضِ حَامٍ، وَمَخَاوِفَ عَلَى بَحْرِ سُوفٍ، ٢٣ فَقَالَ بِإِهْلاَكِهِمْ. لَوْلاَ مُوسَى مُخْتَارُهُ وَقَفَ فِي ٱلثَّغْرِ قُدَّامَهُ لِيَصْرِفَ غَضَبَهُ عَنْ إِتْلاَفِهِمْ. ٢٤ وَرَذَلُوا ٱلأَرْضَ ٱلشَّهِيَّةَ. لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَلِمَتِهِ».
(١٨ - ٢٣) وقد أرسل عليهم الله ناراً ذا لهيب حتى أحرقت الأشرار الذين تمردوا وعصوا على هذه الصورة (راجع العدد ١٦: ٣٢ وأيضاً ٢٦: ١٠).
أما خطيئتهم الثالثة فهي أنهم صنعوا عجلاً من ذهب وخروا له ساجدين وهنا يراجع الكاتب في ذهنه (خروج ٣٢ بل أيضاً تثنية ٩: ٨ - ١٢). وكلمة حوريب مأخوذة من سفر التثنية (راجع تثنية ٤: ١٥ و٥: ٢ وغيرها). ويزيد وصفه لهذا العجل أنه بشكل ثور لا شك فيه لأنه يرعى العشب ويقتات به فهل يصلح أن يكون إلهاً يعبد (راجع تثنية ٤: ٦ - ٨ وقابله مع إرميا ٢: ١١). وهكذا لقد أبدلوا مجدهم بهوان لأنهم يعبدون الحيوانات أو أصنام الحيوانات التي يصنعونها. ومرة أخرى يذكر المرنم أنهم نسوا ما كان يجب أن يفطنوا به. فقد نسوا الرب مخلصهم ذاك الذي صنع عظائم في مصر فأخرجهم منها بيد قديرة وذراع ممدودة. ذلك الإله الذي أجرى عجائبه في مصر فعمل تلك العظائم وضرب تلك الضربات الهائلة بل هو الذي أجرى قدرته على بحر سوف. ويعتمد في (العدد ٢٣ على تثنية ٩: ٢٥ وقابله مع خروج ٣٢: ١٠) لقد غضب الله على الشعب وقصد إهلاكه لولا أن موسى عبد الله وقف في الثغرة لكي يتشفع ويدافع وكانت مهمته أن يصرف الغضب ويعيد الرضا ولو كان في ذلك تعريضاً لحياته نفسها (راجع حزقيال ٢٢: ٣٠ وإرميا ١٨: ٢٠).
(٢٤) في هذا العدد ينتقل الكاتب إلى خطيئة رابعة وهي امتهانهم لما حمله الجواسيس من أخبار عن الأرض التي تجسسوها (راجع سفر العدد ١٣ و١٤). وخطيئتهم هي أنهم لم يؤمنوا بوعد الله وتخوفوا أكثر من اللازم بدلاً من أن يشجعوا إخوانهم.
«٢٥ بَلْ تَمَرْمَرُوا فِي خِيَامِهِمْ. لَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ ٱلرَّبِّ، ٢٦ فَرَفَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ لِيُسْقِطَهُمْ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، ٢٧ وَلِيُسْقِطَ نَسْلَهُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، وَلِيُبَدِّدَهُمْ فِي ٱلأَرَاضِي. ٢٨ وَتَعَلَّقُوا بِبَعْلِ فَغُورَ وَأَكَلُوا ذَبَائِحَ ٱلْمَوْتٰى. ٢٩ وَأَغَاظُوهُ بِأَعْمَالِهِمْ فَٱقْتَحَمَهُمُ ٱلْوَبَأُ. ٣٠ فَوَقَفَ فِينَحَاسُ وَدَانَ، فَٱمْتَنَعَ ٱلْوَبَأُ. ٣١ فَحُسِبَ لَهُ ذٰلِكَ بِرّاً إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ، إِلَى ٱلأَبَدِ».
(٢٥ - ٣١) لقد تذكروا وهم في خيامهم سراً إذ لم يجرؤوا أن يتمادوا في تخاذلهم هذا جهراً (راجع تثنية ١: ٢٧). وقوله رفع يده عليهم أي شرع يضربهم في البرية لأجل التأديب فقد أقسم أنه سيكون قصاصهم شديداً (راجع سفر العدد ١٤: ٢٩ و٢٢). لقد هددهم الله بالفناء في البرية (راجع سفر اللاويين ٢٦ وتثنية ٢٨ وقابلهما معاً ولا سيما العدد ٣٣ من اللاويين ٢٦). بل إن الغضب الإلهي قد رافق البعض منهم حتى نسلهم الذي لم يستحق العيش بكرامة فيتبددون في كل مكان.
وأما خطيئتهم الخامسة فهي أنهم تعلقوا أي ارتبطوا كما بسلسلة متينة الحلقات وأكلوا ذبائح الموتى أي أن هذه الأصنام هي بلا حياة ولا تستطيع أن تنقذ أحداً (راجع سفر العدد ٢٥: ٣ و ٥) وكانت عبادة هذا البعل فاسقة شريرة. فكم كانت هذه الإغاظة غبية إذ أنه علاوة على نكرانهم لجميل الله فإن هذا البعل لا يستطيع مساعدتهم أو تنجيتهم. وكانت النتيجة أن هاجمهم الوباء بشدة وأهلك منهم أنفساً كثيرة. ولكن فينحاس تداخل للتشفع بالشعب لئلا يهلك فأظهر حكمة ودراية وأنقذ الموقف وكان له الوعد من الله أن يكون الكهنوت في نسله لدور فدور (راجع سفر العدد ٢٥: ١٠ - ١٣). وقد حسب الله أن عمل فينحاس كان كريماً وباراً. لأنه بواسطة تضحيته بالرجل الإسرائيلي والمرأة المديانية قد خلّص الله الشعب من الوباء. إذن لقد كان فينحاس ذا إيمان وطيد بإلهه فقد عمل ما حسبه الله شيئاً مرضياً ومقبولاً أمامه. لذلك اعتمد الله على هذه الغيرة وقدّرها قدرها وبرهن فينحاس أنه جدير بوظيفة الكهنوت السامية له ولنسله من بعده إلى جيل فجيل.
«٣٢ وَأَسْخَطُوهُ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ حَتَّى تَأَذَّى مُوسَى بِسَبَبِهِمْ. ٣٣ لأَنَّهُمْ أَمَرُّوا رُوحَهُ حَتَّى فَرَطَ بِشَفَتَيْهِ. ٣٤ لَمْ يَسْتَأْصِلُوا ٱلأُمَمَ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلرَّبُّ عَنْهُمْ، ٣٥ بَلِ ٱخْتَلَطُوا بِٱلأُمَمِ وَتَعَلَّمُوا أَعْمَالَهُمْ ٣٦ وَعَبَدُوا أَصْنَامَهُمْ، فَصَارَتْ لَهُمْ شَرَكاً. ٣٧ وَذَبَحُوا بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ لِلأَوْثَانِ ٣٨ وَأَهْرَقُوا دَماً زَكِيّاً، دَمَ بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمِ ٱلَّذِينَ ذَبَحُوهُمْ لأَصْنَامِ كَنْعَانَ، وَتَدَنَّسَتِ ٱلأَرْضُ بِٱلدِّمَاءِ، ٣٩ وَتَنَجَّسُوا بِأَعْمَالِهِمْ وَزَنَوْا بِأَفْعَالِهِمْ».
(٣٢ و٣٣) وينتقل الآن إلى خطيئة أخرى وهي تلك الحادثة على مار مريبة في السنة الأربعين للتيه في البرية حينما منع موسى من الدخول إلى أرض الموعد (راجع سفر العدد ٢٠: ١١ وما بعده وأيضاً تثنية ١: ٣٧ وتثنية ٣٢: ٥١). لقد تمادى موسى معهم في عصيانه روح الله فقد تبع عنادهم ولأنهم قد مرروا روحه إلى تلك الدرجة البعيدة حتى لم يستطع أن يضبط لسانه ففرط به (انظر إشعياء ٦٣: ١٠). فإن ضرب موسى الصخرة بدلاً من التكلم معها كان دليلاً على حنقه وتضجره وبالتالي كان تماديا مع عدم إيمان الشعب بإلهه (راجع سفر العدد ٢٠).
(٣٤ - ٣٩) وينتقل الآن إلى بعض الشرور التي ارتكبها الشعب في أرض كنعان نفسها فإنهم لم يستأصلوا الأمم حولهم - وهذا لأول وهلة يبدو شاذاً وفظيعاً يرتعب الإنسان من تصوره - ولكن القصد من ذلك هو نتيجة هذا الشعب من الانغماس في العبادة الوثنية لئلا ينجروا مع الأمم الوثنية حولهم وينسوا الرب إلههم ويعبدوا الأوثان وتلك الآلهة الباطلة. فلا يكفي أن يربحوا الأرض بل أن يربحوا السكان أيضاً ويخضعوهم للعبادة الحقيقية بدلاً من أن يخضعوا هم لهم وتكون الضلالة الأخيرة شراً من الأولى فيا ليتهم لم يدخلوا أرض كنعان. ويفسر كلامه بعد ذلك بقوله إنهم اختلطوا بالناس وتعودوا عاداتهم الفاسدة وعملوا أعمالهم الشريرة وعبدوا عبادتهم الوثنية وزاغوا عن طريق الحق إلى طريق الضلال ومما هو شر من ذلك أنهم ذبحوا أولادهم ليقدموها قرابين اتباعاً لتلك العبادات الوثنية الفظيعة. لقد أحجموا عن سفك دم غير زكي ولم يحجموا عن أن يسفكوا دماً زكياً هو دم أولادهم وفلذة أكبادهم فيا لها من ضلالة وغواية ما بعدهما شيء. وانتشر حينئذ الزنى بشكل قبيح للغاية إذ خلطوه بما حسب عندئذ عبادة وهذا منتهى العار.
«٤٠ فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى شَعْبِهِ وَكَرِهَ مِيرَاثَهُ، ٤١ وَأَسْلَمَهُمْ لِيَدِ ٱلأُمَمِ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مُبْغِضُوهُمْ. ٤٢ وَضَغَطَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ فَذَلُّوا تَحْتَ يَدِهِمْ، ٤٣ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً أَنْقَذَهُمْ. أَمَّا هُمْ فَعَصَوْهُ بِمَشُورَتِهِمْ وَٱنْحَطُّوا بِإِثْمِهِمْ. ٤٤ فَنَظَرَ إِلَى ضِيقِهِمْ إِذْ سَمِعَ صُرَاخَهُمْ ٤٥ وَذَكَرَ لَهُمْ عَهْدَهُ، وَنَدِمَ حَسَبَ كَثْرَةِ رَحْمَتِهِ. ٤٦ وَأَعْطَاهُمْ نِعْمَةً قُدَّامَ كُلِّ ٱلَّذِينَ سَبَوْهُمْ. ٤٧ خَلِّصْنَا أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا وَٱجْمَعْنَا مِنْ بَيْنِ ٱلأُمَمِ، لِنَحْمَدَ ٱسْمَ قُدْسِكَ وَنَتَفَاخَرَ بِتَسْبِيحِكَ. ٤٨ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلأَزَلِ وَإِلَى ٱلأَبَدِ. وَيَقُولُ كُلُّ ٱلشَّعْبِ: آمِينَ. هَلِّلُويَا».
(٤٠ - ٤٨) ويسرد الكاتب هنا عدداً كبيراً من الخطايا بالتتابع فقد ارتدوا عن الله لذلك أسلمهم للأمم وأصبحوا تحت سيطرتهم عبيداً بدلاً من أن يكونوا أسياداً. وقد تطاول عليهم أولئك الذين سمحوا لهم بالسكنى بينهم وشددوا أيديهم حتى ذلوا ولم يستطيعوا النهوض؟ لقد أراد الله لهم الرفعة والسؤدد ولكنهم لم يتبعوا طرقها فضلوا سبيلاً وتاهوا في خيلائهم يعمهون (راجع لاويين ٢٦: ٣٩ وحزقيال ٢٤: ٢٣ وحزقيال ٣٣: ١٠).
ولكن الله لم ينس وإن هم نسوا فقد ذكرهم مرات كثيرة وأنقذهم ولكنهم عادوا فعصوا فعاد للتأديب لكي يرجعوا. ولكنهم انحطوا في الإثم إلى أسفل الدركات ولم يستطيعوا النهوض. نظر إليهم وسمع واستجاب وأعان ولكنهم لم يثبتوا طويلاً. والشيء المؤثر أنه ذكر عهده لهم ورحمهم برحمته الواسعة وهكذا لم يرض أن يبقوا ساقطين بل أنهضهم بنعمته ليقفوا أشداء أقوياء بعد. شددهم تجاه اولئك الذين أذلوهم وحررهم من الذين استعبدوهم.
لا يستبعد أن يكون العددان ٤٧ و٤٨ من الإضافات التي زيدت على هذا المزمور. فيصلي المرنم بحرارة لكي يخلّص الرب ويرحم ويجمع الشتات من بين الأمم لكي يحمدوا اسم الرب ويفاخروا هم جميعاً بهذا التسبيح. ويختم المزمور بهذه التسبيحة الجميلة التي تنهي هذا المزمور وتنهي معه القسم الرابع من كتاب المزامير. ونجد في الآخر جملة ملحقة هي قوله «ويقول كل الشعب آمين هللويا». وهذا دليل أنها زيدت لأجل إجراء مراسيم العبادة (راجع ١أخبار ٢٥: ٣ و٢ أخبار ٥: ١٣).

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّابِعُ


«١ اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢ لِيَقُلْ مَفْدِيُّو ٱلرَّبِّ ٱلَّذِينَ فَدَاهُمْ مِنْ يَدِ ٱلْعَدُوِّ، ٣ وَمِنَ ٱلْبُلْدَانِ جَمَعَهُمْ، مِنَ ٱلْمَشْرِقِ وَمِنَ ٱلْمَغْرِبِ مِنَ ٱلشِّمَالِ وَمِنَ ٱلْبَحْرِ. ٤ تَاهُوا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ فِي قَفْرٍ بِلاَ طَرِيقٍ. لَمْ يَجِدُوا مَدِينَةَ سَكَنٍ».
هو مزمور شكر لله لأجل تنجيته لشعبه من شرور وويلات كان بالإمكان أن تكون أعظم وأشد هولاً ولكن الله برحمته التي لا تستقصى وبإحسانه الذي لا يحد قد أوجد خلاصاً وفداء. وهو المزمور الأول من الكتاب الخامس من سفر المزامير وهو القسم الأخير من تلك الترانيم الروحية المملوءة بالاختبار العميق لأعمال الله ومراحمه نحو بني البشر. وقد ذهب بعضهم إلى حسبان المزامير (١٠٤ - ١٠٧) كأنها رباع من المزامير قائم بنفسه. فإن المزمور ١٠٤ يعتمد في كلامه على حوادث الخليقة. والمزمور ١٠٥ يعتمد على حالة الشعب الإسرائيلي الإعدادية وحياته البدائية. والمزمور ١٠٦ يتناول تاريخ الشعب في أرض مصر وخروجه منها وتيهانه في البرية وأما هذا المزمور ١٠٧ فيتناول ما بعد الرجوع من السبي ومما لا شك فيه أن المزامير الثلاثة ١٠٥ - ١٠٧ تظهر تشابهاً كثيراً فيما بينها حتى حسبها بعضهم أنها لمؤلف واحد وإن تكن مجهولة التأليف. وهو مزمور مملوء بالحمد والتسبيح لاسم ذاك الإله المحب الذي وإن سمح في الماضي بتلك الويلات والضربات فما كان القصد منها إلا إنقاذ الشعب وإرجاعه إلى سابق مجده وعهوده معه.
(١ - ٣) يوجه المرنم كلامه لأولئك المسبيين العائدين ويستعمل هذا التعبير «مفديو الرب». كما استعمله إشعياء وكما هو وارد بعد عصر كتابة سفر التثنية مما يدل على أن المرنم مطلع على ما ورد هناك (انظر إشعياء ٦٢: ١٢ و٦٣: ٤ و ٣٥: ٩ وما بعده). هؤلاء المفديون الذين جمعهم الرب من مختلف الأمكنة عليهم أن يقدموا الحمد والشكر للرب لأجل هذا الخلاص الذي منحه وقد دخلت هذه العبارة احمدوا الرب لأنه صالح... بشكل طقسي في العبادة (راجع إرميا ٣٣: ١١).
(٤) يبدأ في هذا العدد بأن يصف بعض المشقات والمتاعب التي صادفها أولئك المسبيون فيذكر أولاً كل شيء التيه في القفر حيث لم يكن مدينة سكن وكانت النتيجة أن كثيرين هلكوا ظماً وجوعاً.
«٥ جِيَاعٌ عِطَاشٌ أَيْضاً أَعْيَتْ أَنْفُسُهُمْ فِيهِمْ. ٦ فَصَرَخُوا إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ، ٧ وَهَدَاهُمْ طَرِيقاً مُسْتَقِيماً لِيَذْهَبُوا إِلَى مَدِينَةِ سَكَنٍ. ٨ فَلْيَحْمَدُوا ٱلرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ٩ لأَنَّهُ أَشْبَعَ نَفْساً مُشْتَهِيَةً وَمَلأَ نَفْساً جَائِعَةً خُبْزاً، ١٠ ٱلْجُلُوسَ فِي ٱلظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ، مُوثَقِينَ بِٱلذُّلِّ وَٱلْحَدِيدِ. ١١ لأَنَّهُمْ عَصَوْا كَلاَمَ ٱللّٰهِ وَأَهَانُوا مَشُورَةَ ٱلْعَلِيِّ».
(٥ - ٩) والحق يقال إن خطر العطش في التيه هو أعظم جميع المخاطر على الإطلاق فهو يفوق خطر الجوع أضعافاً كثيرة بالنسبة لانقطاع المياه في البراري. لقد كانوا على شفير الهاوية وفي أشد الساعات ظلاماً ولكنهم عندئذ صرخوا إلى الرب مستنجدين فأنجدهم واستعانوا به مؤمنين فأعانهم. وكان لهم عندئذ نوراً يشرق عليهم في الظلمات وهكذا استقام سبيلهم واهتدوا ليتمتعوا ببركة العمران بعد ذل التيهان في البراري. لقد كانوا في خطر الاضمحلال بتاتاً ولكنهم أنقذوا إنقاذاً تاماً لذلك عليهم أن يحمدوا الرب ويشكروه فقد أظهر عجيبة في إنقاذهم بعد ان كانوا في خطر محقق أكيد. هذا الإله الرحيم الذي يشبع الإنسان الجائع بل يمنحه سؤل قلبه ويحقق ما يشتهيه من الخير. ونستطيع أن نتصور عظم الحاجة التي كانوا فيها فقد اشتهوا كل شيء فإذا كان الماء مفقوداً فماذا يوجد يا ترى؟ كانت أشباح المخاوف مائلة أمامهم تريهم الموت أشكالاً وألواناً ولكن الله قد ملأ نفوسهم بالطمأنينة فلا خوف عليهم.
(١٠ - ١١) وفي بلاد غربتهم كان البعض منهم مكبلين بالأصفاد والحديد والسبب في ذلك واضح أنهم عصو أمر الله ولم يتمموا شريعته في حياتهم فنالهم هذا الأذى العظيم. مرة أخرى نلاحظ قوله «الظلمة وظلال الموت» وهي من تعابير إشعياء (راجع إشعياء ٩: ١ وأيضاً إشعياء ٤٢: ٧) وقوله «موثقين بالذل والحديد» مأخوذ من (أيوب ٣٦: ٨). أي هم موثقون بالذل قبل أن يوثقوا بالحديد والسبب هو عصيانهم وعدم طاعتهم لما يأمر به الله العلي. هذا هو الشيء الذي جعلهم في حالتهم السيئة هذه.
«١٢ فَأَذَلَّ قُلُوبَهُمْ بِتَعَبٍ. عَثَرُوا وَلاَ مَعِينَ. ١٣ ثُمَّ صَرَخُوا إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ. ١٤ أَخْرَجَهُمْ مِنَ ٱلظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ وَقَطَّعَ قُيُودَهُمْ. ١٥ فَلْيَحْمَدُوا ٱلرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ١٦ لأَنَّهُ كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ. ١٧ وَٱلْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ وَمِنْ آثَامِهِمْ يُذَلُّونَ. ١٨ كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ، وَٱقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ ٱلْمَوْتِ».
(١٢ - ١٦) يأتي الآن إلى ضيقة أخرى فهم قد تعبوا في الطريق حتى سقطوا ولا من يسندهم. وكم يحدث أن بعض المسافرين يسقطون في الطريق حتى لا يستطيع رفاقهم أن يساعدوهم لانهماك كل واحد بنفسه وهكذا يتركون على قارعة الطريق ليموتوا عطشاً وجوعاً وإذا كانوا في أماكن باردة يهلكون من قرّ الليل كما قد يهلكون من الوحوش الضارية التي تجدهم في طريقها غنيمة لا يقوون على الحركة ولا يستطيعون أي دفاع عن أنفسهم. ولكن هؤلاء الذين اتخذوا غنيمة لا يقوون على الحركة ولا يستطيعون أي دفاع عن أنفسهم. ولكن هؤلاء الذين اتخذوا الرب رفيقهم فقد صرخوا إليه في حالتهم هذه فأنقذهم ولم يتركهم في شدائدهم بل أسرع لمعونتهم. حتى ولو كانوا في الظلمة وظلال الموت أو كانوا مكبلين بالسلاسل والقيود فإن الله يفكهم من كل أسر وعذاب ويرسلهم أحراراً مكرمين مرة أخرى. وعليه يعيد المرنم القرار الذي ذكره من قبل فيقول «فليحمدوا الرب على رحمته». إذ أن هذه البركات جميعها تستحق أن يذكرها الإنسان بالشكران ولا ينسى المنعم الذي أعطاها. وهؤلاء المسجونون وراء مصاريع النحاس وعوارض الحديد لم يعودوا أسرى فيما بعد لذلك فليباركوا اسم الرب وليذيعوا حمده وتمجيده على الدوام.
(١٧ - ١٨) ويلتفت المرنم الآن لكي يصف حالة بعض المرضى الذين لا يستطيعون أن يأكلوا ويظهر أنهم قد اقتربوا إلى أبواب الموت ومتى فقد الإنسان القابلية فهو يقترب للموت والاضمحلال خطوة بعد أخرى ولا أمل للنجاة. وينسب المرنم هذه الحالة المؤسفة لأن أصحابها جهال يسيرون في طريق المعاصي لذلك يقاصهم الله بهذه الضربة وهذا الذل فلا يستطيعون أن يأكلوا مع أن الطعام متوفر لديهم.
«١٩ فَصَرَخُوا إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ. ٢٠ أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ وَنَجَّاهُمْ مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ. ٢١ فَلْيَحْمَدُوا ٱلرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ، ٢٢ وَلْيَذْبَحُوا لَهُ ذَبَائِحَ ٱلْحَمْدِ، وَلْيَعُدُّوا أَعْمَالَهُ بِتَرَنُّمٍ. ٢٣ اَلنَّازِلُونَ إِلَى ٱلْبَحْرِ فِي ٱلسُّفُنِ، ٱلْعَامِلُونَ عَمَلاً فِي ٱلْمِيَاهِ ٱلْكَثِيرَةِ، ٢٤ هُمْ رَأَوْا أَعْمَالَ ٱلرَّبِّ وَعَجَائِبَهُ فِي ٱلْعُمْقِ. ٢٥ أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحاً عَاصِفَةً فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ».
(١٩ - ٢٢) ولكن الله في حالة الضيق لا يترك خائفيه بل يأتي للنجدة والإنقاذ. الإله الذي يتداخل في شؤون البشر ولا يترك الأمور تلقى على عواهنها بل أن عنايته الأبوية الحنونة هي التي لا ترضى أن يبقى أتقياؤه في ضيقاتهم وآلامهم ومتاعبهم. لذلك نجده كل شيء يشفي أمراضهم وينقذهم من التهلكات فبعد أن يكون الإنسان في الضيق الشديد يكاد يعدم الرجاء والعون ويدلهم كل حوله إذا به يتأكد أن الطبيب السماوي لا يتخلى بل يسرع بالشفاء وينجي. ومرة أخرى يكرر هذه العبارة «فليحمدوا الرب على رحمته». على الناس أن يحمدوا الله بتقديم ذبائح خاصة فعلينا أن نبذل كل شيء في سبيله لأن الدين الذي لا يكلف شيئاً قلما يفيد شيئاً. وعلينا أن ذاك عربون شكر والترنم على شفاهنا فرحين مبتهجين.
(٢٣ - ٢٥) ويلتفت الآن إلى بعض المتاعب والشدائد الأخرى التي يعانيها البشر. فكما للبر أهواله كذلك للبحر إن لم يكن أهواله أشد وأعظم بما لا يقاس. وقوله «العاملون عملاً في المياه» أي الذين دأبهم العمل في البحار كالبحارة مثلاً فهم مع اعتيادهم ركوب متن البحار لا شك تأتيهم ساعات الخطر والشدة ولكن هؤلاء أيضاً يرون أعمال الرب وعجائبه حتى في وسط هذه المياه وفوق هذه اللجج فهو إله موجود في كل مكان يمد يده وينتشل الغريق كما يمد يده ويخلص الهالك من الظمأ والجوع في البراري. ولكي يبرهن هذا الإله عن قدرته فهو الذي أهاج البحر بكلمة فيه وإذا بالعاصفة الشديدة تهتاج وتزيد الأمواج وتعلو فيجد البحارة أنفسهم في تهلكة أكيدة لولا لطف الله الذي ينجيهم ويعينهم.
«٢٦ يَصْعَدُونَ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ، يَهْبِطُونَ إِلَى ٱلأَعْمَاقِ. ذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِٱلشَّقَاءِ. ٢٧ يَتَمَايَلُونَ وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ ٱلسَّكْرَانِ، وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ٱبْتُلِعَتْ. ٢٨ فَيَصْرُخُونَ إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، وَمِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ. ٢٩ يُهَدِّئُ ٱلْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ، وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا. ٣٠ فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا، فَيَهْدِيهِمْ إِلَى ٱلْمَرْفَإِ ٱلَّذِي يُرِيدُونَهُ. ٣١ فَلْيَحْمَدُوا ٱلرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ٣٢ وَلْيَرْفَعُوهُ فِي مَجْمَعِ ٱلشَّعْبِ، وَلْيُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ ٱلْمَشَايِخِ».
(٢٦ - ٣٢) يصف لنا بشكل رائع حالة تلك السفينة التي تتقاذفها الأمواج فتعلو بها علواً عظيماً كإنما تصعد إلى السماء ثم تهبط حتى إلى الأعماق وبين هذا العلو وذاك الانحدار هلعت نفوسهم من الخوف وذابت من الشقاء. رأوا الموت ماثلاً أمام أعينهم وهكذا أصبحوا في حالتهم هذه مثل السكارى يتمايلون ويترنحون فلا يستطيعون تحريك المجاذيف كما لا يستطيعون أن ينشروا الشراع فقد غلبهم النوء وسطت عليهم الأمواج ولم يروا أي حكمة يستعملون ولا أي سبيل يسلكون. لقد تحققوا الآن الخطر المداهم ومثل الموت بصورته القبيحة أمام أعينهم لا يبرح عنهم دقيقة واحدة. ولكنهم في ساعة الشدة هذه إذا بهم يصرخون إلى الرب وإذا العجيبة تتم فينقذهم الرب ويخلصهم. وحينئذ تهدأ العاصفة وتسكت الأمواج بل قد تتحول الرياح إلى هواء خفيف لطيف ينعشهم ويشددهم على النجاة. وهكذا يجدون طريقهم واضحاً إلى ميناء أمين يقصدونه ولا يضيعون عنه بعد ذلك. هو المكان الذي قصدوه سوف يصلون إليه أخيراً. وهكذا يكرر المرنم القرار ذاته الذي كرره من قبل «فليحمدوا الرب على رحمته» بل عليهم أن يذيعوا هذا الحمد أمام الناس جميعاً. لا فرق أكان في المجتمع حيث يحضر كل أنواع البشر على مختلف طبقاتهم وأفهامهم أم في غيره بل عليهم أن يسبحوه في محضر المشايخ أي أكابر الناس الفاهمين الأمور المملوئين بالحنكة والمعرفة والاختبار. هذا هو الإله المنعم الجواد الذي يستحق أن يحمد على كل إحساناته بعد الاختبارات المريرة التي اختبرها الشعب العائد من السبي. فقد قاسى أهوالاً ولكن الله قد أعانه ليتغلب عليها جميعها فليحمده إذن كل من اختبر هذه العظائم شيوخاً وجهالاً.
«٣٣ يَجْعَلُ ٱلأَنْهَارَ قِفَاراً، وَمَجَارِيَ ٱلْمِيَاهِ مَعْطَشَةً، ٣٤ وَٱلأَرْضَ ٱلْمُثْمِرَةَ سَبِخَةً مِنْ شَرِّ ٱلسَّاكِنِينَ فِيهَا. ٣٥ يَجْعَلُ ٱلْقَفْرَ غَدِيرَ مِيَاهٍ، وَأَرْضاً يَبَساً يَنَابِيعَ مِيَاهٍ. ٣٦ وَيُسْكِنُ هُنَاكَ ٱلْجِيَاعَ فَيُهَيِّئُونَ مَدِينَةَ سَكَنٍ. ٣٧ وَيَزْرَعُونَ حُقُولاً وَيَغْرِسُونَ كُرُوماً فَتَصْنَعُ ثَمَرَ غَلَّةٍ. ٣٨ وَيُبَارِكُهُمْ فَيَكْثُرُونَ جِدّاً، وَلاَ يُقَلِّلُ بَهَائِمَهُمْ. ٣٩ ثُمَّ يَقِلُّونَ وَيَنْحَنُونَ مِنْ ضَغْطِ ٱلشَّرِّ وَٱلْحُزْنِ».
(٣٣ - ٣٨) يعود مرة أخرى لذكر الشدائد في البراري وحالاً نلاحظ الشبه الموجود مع إشعياء (راجع إشعياء ٥٠: ٢ و٣٥: ٧ وأيضاً تثنية ٨: ١٥ وإشعياء ٦١: ٣). تلك الأرض القاحلة الجرداء التي لم يكن يرى فيها سوى آثار الموت تصبح ملأى بمصدر الخير والحياة فيها أنهار ومجاري مياه. وبالتالي فتلك الأرض تصبح سبباً للخصب والغنى والبحبوحة. كما أن الله لكي يظهر قدرته يعكس الأمر فيجعل من الأرض المثمرة أرضاً تنز بالمياه والملح غير عامرة ولا مأهولة قد يعشش فيها البرغش بالنسبة لكثرة المستنقعات. ولكن الله يعود فيقول أنه يجعل القفر مملوءاً بالمياه تنبع فيه وتحييه فلا يكون فيه يبس وجفاف فيما بعد. وحينئذ فأولئك الجياع يشبعون ويعمرون الأرض التي يسكنونها وتتحول الأراضي إلى حقول مزروعة وإلى كروم تعطي غلة وخيرات كثيرة فيأكل كل إنسان ويشبع ناعماً سعيداً. وهكذا ينالون بركة الرب ويتزايد عددهم ويكثر مواشيهم وأغنامهم على نسبة كثرة خيراتهم (راجع ٢ملوك ٤: ٣).
(٣٩) ولكن هذه الحالة الخيرة السعيدة لا تدوم لهم بل تصيبهم القلة والعوز فيذبلون من الهموم وينحنون من الضيقات المتكررة. إذن فحياتهم ليست في يسرٍ دائم كما أنها ليست في عسرٍ دائم بل حالة الانتقال والتغير. وجودة لكي تظهر قدرة الله فيهم على أعظم وأكمل وجه. فلو كانوا في فقر دائم أو غنى دائم لما كان لهم ذلك الاختبار المستمر الذي ينير سبلهم ويرجعهم إلى الله.
«٤٠ يَسْكُبُ هَوَاناً عَلَى رُؤَسَاءَ وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيقٍ، ٤١ وَيُعَلِّي ٱلْمِسْكِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ وَيَجْعَلُ ٱلْقَبَائِلَ مِثْلَ قُطْعَانِ ٱلْغَنَمِ. ٤٢ يَرَى ذٰلِكَ ٱلْمُسْتَقِيمُونَ فَيَفْرَحُونَ، وَكُلُّ إِثْمٍ يَسُدُّ فَاهُ. ٤٣ مَنْ كَانَ حَكِيماً يَحْفَظُ هٰذَا وَيَتَعَقَّلُ مَرَاحِمَ ٱلرَّبِّ».
(٤٠ - ٤٣) نجد العدد ٤٠ مأخوذاً من (أيوب ١٢: ٢١ و٢٤). أما هوان الرؤساء فمعناه هوان كل إنسان لأنه إذا وصلت مياه الطوفان إلى أعالي الأشجار فمعنى ذلك أيضاً أنها وصلت إلى الجذع والأغصان. وحيئنذ فإن أولئك الذين شأنهم الرفعة يصبحون في هوان وضعة وأولئك الذين يطلب منهم أن يقودوا في الطريق المستقيم إذا بهم هم أنفسهم في ضلال مبين. ولكن الله يرفع المسكين ويشدده ويزيد عدد القبائل كما يزيد قطعان الغنم على التلال وهذا دليل الرفاهية والخير. ومرة أخرى يقتبس من أيوب (راجع أيوب ٢١: ١١ وأيضاً ٢٢: ١٩ و١٦).
وهكذا فإن المستقيمين هم الذين ينالهم هذا الخير فلا يكون إثم فيما بعد بل يبتعد عنهم ويهرب ويسد فاه عن أي كلام المعصية والأذى (راجع هوشع ١٤: ١٠ و٩). والحكيم هو ذاك الذي ينتبه لهذه المراحم ويأخذ منها عبراً ودروساً لحياته. هو ذاك الذي يفهم ويتذكر وحينئذ فجميع ما مر عليه يزيده إيماناً بالله وثقة برحمته.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّامِنُ


تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اَللّٰهُ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ. كَذٰلِكَ مَجْدِي. ٢ ٱسْتَيْقِظِي أَيَّتُهَا ٱلرَّبَابُ وَٱلْعُودُ. أَنَا أَسْتَيْقِظُ سَحَراً. ٣ أَحْمَدُكَ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ يَا رَبُّ، وَأُرَنِّمُ لَكَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ».
يحمل هذا المزمور عنوانه أنه تسبيحة وهو لا شك قديم العهد حتى أنه يحمل اسم داود ويرجح أنه مأخوذ من كتابات داودية ولكنه لأنه لا يحمل «لإمام المغنين» فيعني ذلك أن صياغته الأخيرة كانت متأخرة عن العصر الداودي بل يعزى إلى ما بعده. وهذا المزمور مأخوذ من قطعتين قديمتين تنتميان للنسق الألوهيمي ولكنهما أخذتا من قرينتهما التاريخية حتى لا نعرف علاقة الواحدة بالأخرى. ولا يعقل أن شاعراً في طبقة داود يأخذ هاتين القطعتين ليؤلف منهما مزموراً واحداً ينسب إليه لذلك يرجح أنه مزمور حديث العهد.
(١ - ٣) أما القطعة الأولى فهي مأخوذة من (المزمور ٥٧: ٨ - ١٢) ولكنه هنا لا يكرر قوله ثابت قلبي. وقوله كذلك مجدي أي أن مجده أيضاً يغني ويرنم للرب.
وهو يستنجد بآلات الطرب منها الرباب والعود لكي تساعده على هذا الحمد والتسبيح وعليه أن تنهض معه باكراً.
بل هو بهجة بأن يرنم بين الأمم ويحمد الله بين الشعوب. ليس فقط أنه لا يخجل من ذلك بل يجد فيه بهجة وسروراً.
«٤ لأَنَّ رَحْمَتَكَ قَدْ عَظُمَتْ فَوْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَإِلَى ٱلْغَمَامِ حَقُّكَ. ٥ ٱرْتَفِعِ ٱللّٰهُمَّ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ، وَلْيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ مَجْدُكَ. ٦ لِكَيْ يَنْجُوَ أَحِبَّاؤُكَ. خَلِّصْ بِيَمِينِكَ وَٱسْتَجِبْ لِي. ٧ اَللّٰهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِقُدْسِهِ. أَبْتَهِجُ، أَقْسِمُ شَكِيمَ وَأَقِيسُ وَادِيَ سُكُّوتَ. ٨ لِي جِلْعَادُ لِي مَنَسَّى. أَفْرَايِمُ خُوذَةُ رَأْسِي. يَهُوذَا صَوْلَجَانِي».
(٤ - ٥) هوذا الرحمة والحق تظهران عظمة الرب فهوذا الرحمة قد ارتفعت إلى السموات كما أن الحق قد وصل إلى السحاب ولذلك فهو يرى مجد الله فوق السموات كلها كما أنه مرتفع فوق الأرض وجميع ساكنيها (راجع إرميا ٥١: ٩).
(٦ - ٨) والغرض هو التماس من الرب أن ينجي ويخلّص بيمينه ويستجيب لأحبائه وأتقيائه الذين يخشون اسمه ويعملون مرضاته في كل حين. هوذا الله يتكلم ويعدّد أرضه المقدسة من شكيم إلى وادي سكوت إلى جلعاد إلى منسى وحينما يصل إلى أفرايم وهي كناية عن مملكة الشمال يجعلها الخوذة كما لا يقلل من قيمة يهوذا فيجعله الصولجان. فكما أن من أفرايم الرؤساء والعظماء كذلك من يهوذا الملوك حاملو شارات السطوة والسلطان.
«٩ مُوآبُ مِرْحَضَتِي. عَلَى أَدُومَ أَطْرَحُ نَعْلِي. يَا فِلِسْطِينُ ٱهْتِفِي عَلَيَّ. ١٠ مَنْ يَقُودُنِي إِلَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُحَصَّنَةِ؟ مَنْ يَهْدِينِي إِلَى أَدُومَ؟ ١١ أَلَيْسَ أَنْتَ يَا اَللّٰهُ ٱلَّذِي رَفَضْتَنَا، وَلاَ تَخْرُجُ يَا اَللّٰهُ مَعَ جُيُوشِنَا؟ ١٢ أَعْطِنَا عَوْناً فِي ٱلضِّيقِ، فَبَاطِلٌ هُوَ خَلاَصُ ٱلإِنْسَانِ. ١٣ بِٱللّٰهِ نَصْنَعُ بِبَأْسٍ، وَهُوَ يَدُوسُ أَعْدَاءَنَا».
(٩ - ١٣) وأما موآب فهي كناية عن وعاء لغسل الأرجل وهذا دليل على عدم الالتفات إليها والاهتمام بها وكذلك أدوم فهي تزدري أيضاً وأرض الفلسطينيين كلها فلتهتف هتاف المكسور تجاه المنصورين.
ذلك الإله الذي يلتفت إليه المؤمن ويرجو منه العون والهداية حتى ضد ألد الأعداء وهي أدوم. إن الله الذي رفض من قبل يرضى الآن. وهو الذي امتنع عن المساعدة تأديباً لنا إذا به الآن يخرج للإسعاف والنصرة. ويعود إلى نفسه ولا يرى أي خلاص من دون الله. ذلك الإله المحب الذي يعين في الضيق ولولا ذلك لكان خلاص الإنسان باطلاً لا ينفع شيئاً.
إلهنا وحده يصنع كل شيء بقوته وقدرته فهو الذي ينصر متقيه ويسندهم على كل الأشرار وفي الوقت ذاته يدوس الأعداء ويرفضهم إلى التمام بل يدوسهم تحت الأقدام.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلتَّاسِعُ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ


«١ يَا إِلٰهَ تَسْبِيحِي لاَ تَسْكُتْ، ٢ لأَنَّهُ قَدِ ٱنْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ ٱلشِّرِّيرِ وَفَمُ ٱلْغِشِّ. تَكَلَّمُوا مَعِي بِلِسَانِ كَذِبٍ، ٣ بِكَلاَمِ بُغْضٍ أَحَاطُوا بِي وَقَاتَلُونِي بِلاَ سَبَبٍ. ٤ بَدَلَ مَحَبَّتِي يُخَاصِمُونَنِي. أَمَّا أَنَا فَصَلاَةً. ٥ وَضَعُوا عَلَيَّ شَرّاً بَدَلَ خَيْرٍ، وَبُغْضاً بَدَلَ حُبِّي».
هذا المزمور شبيه جداً بالمزمور التاسع والستين من حيث نقمته على الأشرار المتكلمين بالكذب الذين لا يعبدون الله ولا يرعون حرمة إنسان بل يحولون الحق باطلاً والباطل حقاً ويقابلون الجميل بالنكران والبركة باللعنة والمعروف بالإساءة. أولئك هم الذين يضطهدون البريء ويلتذون بسفك الدماء ولا يجدون لشيء أية قيمة. فهذا المزمور صورة طبق الأصل لحالة مجتمع مسرف في البغضاء مقل في المحبة وهكذا يصفه عن اختبار شخصي أليم. وهو مزمور لداود كما هو عنوانه ينطبق على بعض حالاته وقت الاضهاد وحينما هجره أصحابه وخلانه بل هو مزمور نبوي لأنه يشير بطرف خفي إلى المسيح الذي من نسل داود سيحتمل الاضطهاد والعار وخيانة أهله وبني أمته وهكذا يرينا عظم الآلام التي سيحتملها المخلص من أجلنا ولكنه لا يرينا ناحية العهد الجديد من جهة المحبة والمسامحة ومع ذلك فالنبوة التي فيه تنطبق على يهوذا ابن الهلاك (راجع يوحنا ١٧: ١٢) بل إن هذا المزمور سيصور على الدوام مضطهدي ابن الله وأعداء كنيسته (راجع أعمال ١: ٢٠).
(١ - ٥) إله التسبيح أي الإله الذي يستحق التسبيح (راجع إرميا ١٧: ١٤ وقابله تثنية ١٠: ٣٢) ويتقدم حالاً بالشكوى من المتكلمين بالغش والكذب من المبغضين والقتلة بدون سبب سوى لذة سفك الدماء. هم ناكرون للفضل والجميل إذ لا داعي لفعل ما يفعلون مطلقاً إذ هم يقابلون المحبة بالخصومة لا سيما لشخص لا عمل له سوى التضرع لله والصلاة. لذلك فاعتذارهم صريح وجحودهم يؤكد سوء أخلاقهم ولا مبرر لذلك مطلقاً. لا سيما فقد مارسوا الشر والبغضاء نحو إنسان لم يقابلهم بسوى المحبة والحنان وهذا مما يزيد ذنبهم ومسؤوليتهم أضعافاً كثيرة.
«٦ فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيراً، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ. ٧ إِذَا حُوكِمَ فَلْيَخْرُجْ مُذْنِباً، وَصَلاَتُهُ فَلْتَكُنْ خَطِيَّةً. ٨ لِتَكُنْ أَيَّامُهُ قَلِيلَةً وَوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ. ٩ لِيَكُنْ بَنُوهُ أَيْتَاماً وَٱمْرَأَتُهُ أَرْمَلَةً. ١٠ لِيَتِهْ بَنُوهُ تَيَهَاناً وَيَسْتَعْطُوا وَيَلْتَمِسُوا خَيْراً مِنْ خِرَبِهِمْ. ١١ لِيَصْطَدِ ٱلْمُرَابِي كُلَّ مَا لَهُ، وَلْيَنْهَبِ ٱلْغُرَبَاءُ تَعَبَهُ. ١٢ لاَ يَكُنْ لَهُ بَاسِطٌ رَحْمَةً، وَلاَ يَكُنْ مُتَرَئِّفٌ عَلَى يَتَامَاهُ».
(٦ - ١٠) هنا يلتفت إلى واحدٍ من هؤلاء الأعداء المبغضين وبغضب يمازجه الغيرة لله وللفضيلة يريد أن يصب عليهم جاماً من ويلات الله مقابل كل شرورهم. وقوله «اقم عليه» أي ضده لأجل القصاص والتعذيب (راجع إرميا ١٥: ٣ ولاويين ٢٦: ١٦). فهذا الذي اضطهد الأبرياء سيحتمل الآن من يضطهده وهو أقوى منه بل هو شيطان أخبر منه في طرق الرذائل والتعذيب والأذية. وحينئذ هذا القوي الجبار سيحاكمه ويذنبه بل إن أفضل ما يفعله سيكون في عينيه كلا شيء حتى الصلاة نفسها تصبح خطية بدلاً من أن تكون تسبيحاً لله. بل هو يدعو عليه بقصر العمر والتوقف عن العمل النافع المنتج فيكون بدون وظيفة يخدم بها الناس. بل يزيد الدعاء ضده بأن يتمنى له الموت ولأولاده اليتم من بعده ولإمرأته الترمل والمذلة وحيئنذ يذهب هؤلاء البنون ضاربين في الأرض على غير هدف لكي يستعطوا من الناس ويفتشوا في خربهم لعلهم يجدون ما يسدون به الرمق ولا يهلكون جوعاً. وإذا هلكوا جميعاً فلا يهمه أمرهم شيئاً.
(١١ و١٢) ويتحول الآن لكي ينتزع من هذا الإنسان كل خيراته فيتمنى له أن يأخذ المرابي أمواله بالفائدة التي يستغلها منه سنة بعد سنة إذ لا يستطيع أن يفي ديونه فيضطر للتأجيل بالدفع كما اضطر أن يقترض من قبل وهكذا تكون النتيجة أن كل أتعابه تذهب للغريب بدلاً من أن يستفيد هو وعائلته منها.
وفي حالته السيئة هذه يتمنى له أن لا يرحمه أحد لأنه لم يرحم أحداً من قبل. ولا يكون له أي مترأف عطوف عليه لأنه لم يظهر أي عطف على أحد بل تحوّل للعداوة بدلاً من الصداقة وهكذا يجني الآن ما جنته يداه وما ظالم إلا سيبلى بأظلم.
«١٣ لِتَنْقَرِضْ ذُرِّيَّتُهُ. فِي ٱلْجِيلِ ٱلْقَادِمِ لِيُمْحَ ٱسْمُهُمْ. ١٤ لِيُذْكَرْ إِثْمُ آبَائِهِ لَدَى ٱلرَّبِّ، وَلاَ تُمْحَ خَطِيَّةُ أُمِّهِ. ١٥ لِتَكُنْ أَمَامَ ٱلرَّبِّ دَائِماً وَلْيَقْرِضْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذِكْرَهُمْ. ١٦ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنْ يَصْنَعَ رَحْمَةً، بَلْ طَرَدَ إِنْسَاناً مِسْكِيناً وَفَقِيراً وَٱلْمُنْسَحِقَ ٱلْقَلْبِ لِيُمِيتَهُ. ١٧ وَأَحَبَّ ٱللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِٱلْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ. ١٨ وَلَبِسَ ٱللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ».
(١٣ - ١٥) بل يتمنى أن لا يبقى أحد من ذراريه حتى لا يبقى اسمه بل ينقرض إلى الأبد. هو ملعون من ناحيتين من ناحية الأبناء والذراري كما أنه ملعون من ناحية الآباء أيضاً وهكذا يذكر الله لهم ذنوبهم ولا يسامحهم عن معاصيهم بل تبقى عليهم للدينونة جيلاً بعد جيل. وهذا هو غاية ما يدعو عليهم إذ هذه الذنوب تبقى أمام الرب ليحاسبهم عليها ويدينهم بموجبها وهكذا ليس لهم أي ذكر في الأرض فقد مروا عليها منسيين ملعونين.
(١٦ - ١٨) وهنا يذكر لماذا استحق هذه اللعنات كلها فيذكر أولاً لأنه لم يكن رحوماً بل عامل الناس بالقسوة والظلم وحينما كان واجبه أن يساعد إذا به يطرد مسكيناً من باب داره ويحاول أن يميت المنسحق الروح غير مبال بأحد كأن دأبه سفك الدماء وامتهان حقوق الناس الآخرين فلا أحد عزيز في عينيه ولا شيء ذو قيمة طالما لا يعنيه مباشرة. وثانياً هو إنسان أناني منكمش على نفسه فكانت له اللعنة بدل البركة. بل يصور لنا تلبسه باللعنة في مراحلها الثلاث فقد لبسها أولاً كثوب بل قد شربها وتغلغلت إلى أحشائه فلم يعد حسب الظاهر فقط بل ملعوناً في باطنه أيضاً بل إن هذه قد وصلت إلى عظامه ذاتها وأصبحت جزءاً من كيانه (راجع أيوب ١٥: ١٦ و٣٤: ٧). ولكنه هو المسؤول وحده عن كل ذلك فقد اختار طريقاً سلكها وتلبس برذيلة هي منه وفيه وعادى الناس وظلمهم فلا عجب أن يصيبه مما أصباهم به أولاً لأن البادئ بالشر أظلم فليكن له جزاء الظالمين.
«١٩ لِتَكُنْ لَهُ كَثَوْبٍ يَتَعَطَّفُ بِهِ، وَكَمِنْطَقَةٍ يَتَنَطَّقُ بِهَا دَائِماً. ٢٠ هٰذِهِ أُجْرَةُ مُبْغِضِيَّ مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ، وَأُجْرَةُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ شَرّاً عَلَى نَفْسِي. ٢١ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ ٱلسَّيِّدُ فَٱصْنَعْ مَعِي مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ. لأَنَّ رَحْمَتَكَ طَيِّبَةٌ نَجِّنِي. ٢٢ فَإِنِّي فَقِيرٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا، وَقَلْبِي مَجْرُوحٌ فِي دَاخِلِي. ٢٣ كَظِلٍّ عِنْدَ مَيْلِهِ ذَهَبْتُ. ٱنْتَفَضْتُ كَجَرَادَةٍ. ٢٤ رُكْبَتَايَ ٱرْتَعَشَتَا مِنَ ٱلصَّوْمِ، وَلَحْمِي هُزِلَ عَنْ سِمَنٍ. ٢٥ وَأَنَا صِرْتُ عَاراً عِنْدَهُمْ. يَنْظُرُونَ إِلَيَّ وَيُنْغِضُونَ رُؤُوسَهُمْ».
(١٩ - ٢٠) وفي العدد التاسع عشر يراجع الفكرة نفسها بأنه تكون اللعنة لابسة له ويتعطف بها فلا تفارقه ولا يفارقها أبداً ولا تتحول عنه مهما سعى. بل لتكن له كمنطقة تشد على وسطه ولا تتركه ما دام نهار. وحينما ينتقل للعدد العشرين ينهي هذا الموضوع بما يستنتجه من أن هذا الويل هو ما يصيب مبغضي الرب الذين يستحقون مثل هذه الأجرة. فمن العمل تكون ثمرته أيضاً ولا حق لهم بالتذمر أو الاعتراض.
(٢١ - ٢٥) هنا يلتفت إلى الرب ليس للعنة هذه المرة لأنه يلمس جزاء على تقواه ولكنه يفعل ذلك بتواضع حقيقي لأنه يلتمسه باسم إلهه وليس باسمه ولأن هذا الإله حنان رحوم وهو لا يستحق. وهذه الرحمة طيبة لأنها كريمة وفي موضعها فإن صاحبها يقدرها قدرها. وهو يتناوله بالضعة والشعور أنه فقير مسكين وأن قلبه مجروح في داخله من جراء الآلام والمتاعب التي تحملها ولا سيما بسبب ذلك الإنسان الظالم الذي أضر به وآذاه إلى أبعد الدرجات. يصف نفسه بأنه كالخيال من الضعف وفي حقارته كالجرادة التي تداس بالقدم. هوذا ركبتاه ترتعشان وهو ضعيف هزيل بسبب طول الصيام وهو قد فعل ذلك عن تقوى حقيقية وخلوص قلبي لله. حتى أنه قد حُسب عاراً بين الأشرار ينظرون إليه شزراً ويهربون منه احتقاراً وازدراء وإذا نظروا إليه هزوا رؤوسهم دليل التحقير والامتهان. ولكن هذه المظاهر كانت سبباً لانتشاله من حالته السيئة بينما كبرياء الخاطئ كانت سبب هلاكه.
«٢٦ أَعِنِّي يَا رَبُّ إِلٰهِي. خَلِّصْنِي حَسَبَ رَحْمَتِكَ. ٢٧ وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ هٰذِهِ هِيَ يَدُكَ. أَنْتَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ هٰذَا. ٢٨ أَمَّا هُمْ فَيَلْعَنُونَ، وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارِكُ. قَامُوا وَخَزُوا، أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ. ٢٩ لِيَلْبِسْ خُصَمَائِي خَجَلاً وَلْيَتَعَطَّفُوا بِخِزْيِهِمْ كَٱلرِّدَاءِ. ٣٠ أَحْمَدُ ٱلرَّبَّ جِدّاً بِفَمِي، وَفِي وَسَطِ كَثِيرِينَ أُسَبِّحُهُ. ٣١ لأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ ٱلْمِسْكِينِ، لِيُخَلِّصَهُ مِنَ ٱلْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ».
(٢٦ - ٣١) وفي هذه الأعداد صرخة الاستنجاد وطلب المعونة هو يطلب الخلاص مما هو فيه. نجد أن هذا المزمور ينتهي على شكل قريب جداً من (المزمورين ٩٩ و٢٢). ونجد هنا فرحاً وسروراً في نهاية حياة المؤمن بالعكس عن نهاية الأشرار البعيدين عن الله. يهتم المرنم أن يرينا أن هذه هي يد الله القديرة وإن هذه الأمور مسيّرة بمشيئته السرمدية. سيرى الأشرار أن الله يتداخل في شؤون عبده لإنصافه فلا يترك الحبل على الغارب بل سيكون وقت الجزاء وحينئذ يقف كل مذنب عند حده فلا يتعداه. أولئك الذين لعنوه من قبل ولكن الله قد باركه. أولئك الذين قاموا من قبل وأما الآن فقد خزوا وهوذا عبده يفرح وينتصر متهللاً. وفي العدد ٢٩ يعود فيصور لنا هؤلاء الخصماء الذين يلبسون الخجل كالرداء ويتعطفون بالعار والشنار. لقد ساء فألهم ورجعوا عن قصدهم السيء مندحرين (راجع مزمور ٢٢: ٢٥ و٦٩: ٣٤) وهكذا فإنه يحمد الرب بفمه مهللاً لأن قلبه مبتهج سعيد وحيئنذ فإنه يسبح الرب وسط الجماعة العظيمة ولا يخجل بذلك بل يفتخر ولا يتراجع عن إيمانه بل يتشدد ويتقدم. ذلك التسبيح الذي يتطلب رخامة الصوت وعذوبة الإيمان ووطيد الثقة برحمة الله التي لا تترك المؤمنين. والكنيسة المسيحية تستعمل هذه المزامير الثلاثة أي (٢٢ و٦٩ و١٠٨) لأجل إنشادها في الجمعة الحزينة لأن داود المرنم يصور آلام المسيح من أجل خلاصنا أكمل تصوير وأعظمه. هو إلهنا الحي القدير الذي لا يترك المسكين قط بل يقوم عن يمينه لينجيه بل يقف في وقف الذين يقضون عليه بالهلاك فيمنحه كمال النجاة والخلاص (راجع ١تيموثاوس ٣: ١٦).


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْعَاشِرُ


لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ


«١ قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. ٢ يُرْسِلُ ٱلرَّبُّ قَضِيبَ عِزِّكَ مِنْ صِهْيَوْنَ. تَسَلَّطْ فِي وَسَطِ أَعْدَائِكَ. ٣ شَعْبُكَ مُنْتَدَبٌ فِي يَوْمِ قُوَّتِكَ، فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ مِنْ رَحِمِ ٱلْفَجْرِ. لَكَ طَلُّ حَدَاثَتِكَ».
لا شك أن هذا المزمور هو من أكثر المزامير علاقة بالعهد الجديد فقد اقتبس منه الإنجيليون (كتبة الأناجيل) وغيرهم بصورة واسعة (انظر متّى ٢٢: ٤١ - ٤٦ ومرقس ١٢: ٣٥ - ٣٧ ولوقا ٢٠: ٤١ - ٤٤). وقد اتخذوه نبؤة عن انتصار المسيح النهائي على أعدائه حينما يجلس أخيراً عن يمين العرش في الأعالي (انظر أعمال ٢: ٣٤ وما بعده أيضاً ١كورنثوس ١٥: ٢٥ وعبرانيين ١: ١٣ و١٠: ١٣) بل نجد كاتب الرسالة للعبرانيين يدعم نبؤته بذهاب الكهنوت اللاوي وقيام الكهنوت المسيحي على ما ورد بقوله على رتبة ملكي صادق (راجع عبرانيين ٥: ٦ و٧: ١٧ و٢١). ينسب هذا المزمور لداود وأنه نظمه على أثر انتصاره على العمونيين ولكن الأرجح أنه نظم في عصر يهوذا المكابي إذ يتكلم عن شخص هو كاهن ملك أو برتبة ملكية ولم يكن هذا في تاريخ إسرائيل إلا بعد عصر المكابيين لا قبلهم.
(١ - ٢) هذه لغة الشعب يخاطبون بها مليكهم ويمكن ترجمتها قال الرب لسيدي أي لسيدي الملك (راجع ١صموئيل ٢٢: ١٢ وأيضاً راجع المزمورين ٢٠ و٢١). والجلوس عن اليمين هو للتكريم كما أن السيد الديان سيجلس عن يمين عرش الآب في الأعالي. والجلوس عن يمين الملك هو أعظم مظاهر التمجيد والتكريم (راجع ١ملوك ٢: ١٩) والأعداء عند موطئ القدمين دليل الخضوع التام (١ملوك ٥: ١٧). إن صهيون مركز صولجان هذا الملك (راجع إرميا ٤٨: ١٧ وحزقيال ١٩: ١١ - ١٤). فهو متسلط على الشعب وكذلك متسلط في وسط الأعداء (ميخا ٥: ٣ و٤).
(٣) وشعب هذا الملك مندفع من نفسه في سبيل خدمته. أي حينما يدعوهم ليظهر قوته يتجندون حالاً يأتون مزينين كأنهم مولودون من الفجر ويشبهون الطل المتساقط أي الندى على وجه الأرض. يأتي الأحداث لهذه الخدمة لأنهم عز الملك بهم يتغلب على الأعداء لأنهم ذوو عزيمة وإقدام ولا يبخلون بأية تضحيات مهما عظمت.
«٤ أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ: أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ. ٥ ٱلرَّبُّ عَنْ يَمِينِكَ يُحَطِّمُ فِي يَوْمِ رِجْزِهِ مُلُوكاً. ٦ يَدِينُ بَيْنَ ٱلأُمَمِ. مَلأَ جُثَثاً أَرْضاً وَاسِعَةً. سَحَقَ رُؤُوسَهَا. ٧ مِنَ ٱلنَّهْرِ يَشْرَبُ فِي ٱلطَّرِيقِ، لِذٰلِكَ يَرْفَعُ ٱلرَّأْسَ».
(٤) يلتفت مرة أخرى إلى هذا الملك الكاهن. فتتحد الملكية بالكهنوت وهذا يفعله الله بعد أن يقسم ولن يتراجع في ما يفعله قط. هو شيء أبدي ثابت فما يفعله إنما هو للبقاء. وهكذا فإن معاركه هي ملكية وفي الوقت ذاته هي جليلة ومقدسة لأنه بحسب إرادة الله وترتيب قصده.
(٥ - ٧) مرة أخرى يذكر الرب أنه عن اليمين ولكنه الآن يضع الترتيب بشكل آخر إذ الملك يجلس والرب عن يمينه بينما من قبل فإن الرب يجلس والملك عن يمينه وفي كلتا الحالتين إن الشيء المهم هو أن يؤكد لنفسه وللناس أن الله معه وسينصره على الأعداء بل سيجعل هؤلاء محطمين لا سيما وهو يغضب عليهم غضباً شديداً. وهكذا فإن الأرض كلها قد امتلأت بجثث القتلى وتناثرت الهامات إلى كل جانب. ولكن هذا الملك العظيم لا يعبأ بشيء بل يستمر في معاركه حتى أنه لا يتأخر من أي الأسباب وهكذا يستخدم النهر ليشرب منه فلا يعوقه عن التقدم والمسير إلى غايته والنيل من أعدائه. ويرفع رأسه أخيراً علامة الظفر العظيم والنصرة الكاملة. وإذا مر ليشرب من جانب النهر فإنما يفعل ذلك لكي يستريح ويأخذ وقتاً للترويح عن نفسه بعد أن يكون قد تغلب على كل الأعداء ومن جهة روحية فهذا ينطبق على ما سيحدث للمسيا الموعود (انظر فيلبي ٢: ٨ وما بعده وأيضاً عبرانيين ١٢: ٢ ورؤيا ٥: ٩ وما يليه).


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْحَادِي عَشَرَ


«١ هَلِّلُويَا. أَحْمَدُ ٱلرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي فِي مَجْلِسِ ٱلْمُسْتَقِيمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ. ٢ عَظِيمَةٌ هِيَ أَعْمَالُ ٱلرَّبِّ. مَطْلُوبَةٌ لِكُلِّ ٱلْمَسْرُورِينَ بِهَا. ٣ جَلاَلٌ وَبَهَاءٌ عَمَلُهُ، وَعَدْلُهُ قَائِمٌ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٤ صَنَعَ ذِكْراً لِعَجَائِبِهِ. حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ هُوَ ٱلرَّبُّ».
يبدأ هذا المزمور مثلثاً من مزامير هللويا فهو مع لاحقيه المزمورين المئة والثاني عشر والمئة والثالث عشر تحمد مجد الله وقدرته ورأفته. وذلك بين جماعة المستقيمين الذين يخافون اسم الرب. وبنوع خاص فإن هذا المزمور رفيق للمزمور الذي يتلوه فإن الاثنين يتشابهان في الموضوع وإنهما كلاهما يحتويان معاني كثيرة مأخوذة من مزامير سابقة وأناشيد ومقاطع مختلفة. وكلاهما أيضاً مرتبان على طريقة لفظية أي يبدأ كل سطر بحروف من حروف الهجاء العبرانية المؤلفة من اثنين وعشرين حرفاً. وهما سلسلة من سطور متشابهة ولا تحتوي أي ترتيب بحسب الأوزان الشعرية وتقاسيمها.
(١ - ٤) يحمد اسم الرب مهللاً مع تلك الجماعة التي تلتذ بالتعبد وترى أن تقوم بشعائر الدين وتتمم فرائضه على أكمل وجه. وفي مجلس المستقيمين أي يأخذون وقتاً لذلك ولا يفعلونه كيفما اتفق. لهم مجلس خاص يضمهم كجماعة يلتذون بعضهم مع بعض بأفضل ما يفعله إنسان وهو التسبيح لاسم الرب العلي. وقد أخذ الرسول بولس هذه الفكرة عينها حينما قال «مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ» (أفسس ٥: ١٩). وأما موضوع هذا التسبيح فيذكر أولاً أعمال الرب كم هي عظيمة ولا يستغني عنها البشر. وهذه الأعمال مكللة بالبهاء والجلال. وحكمه بالعدل والإنصاف. وأما العجائب التي يصنعها فهي باقية خالدة لا تزيدها الأيام إلا ثباتاً ورسوخاً وهي مع القدرة التي ترافقها مملوءة بالحنو والرحمة. إذا ليس غاية الله أن يظهر إن هذا السلطان هو في سبيل أشرف وأعظم الغايات. هي لخدمة الإنسان كما هي لتمجيد الله.
«٥ أَعْطَى خَائِفِيهِ طَعَاماً. يَذْكُرُ إِلَى ٱلأَبَدِ عَهْدَهُ. ٦ أَخْبَرَ شَعْبَهُ بِقُوَّةِ أَعْمَالِهِ لِيُعْطِيَهُمْ مِيرَاثَ ٱلأُمَمِ. ٧ أَعْمَالُ يَدَيْهِ أَمَانَةٌ وَحَقٌّ. كُلُّ وَصَايَاهُ أَمِينَةٌ، ٨ ثَابِتَةٌ مَدَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ، مَصْنُوعَةٌ بِٱلْحَقِّ وَٱلٱسْتِقَامَةِ. ٩ أَرْسَلَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ. أَقَامَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَهْدَهُ. قُدُّوسٌ وَمَهُوبٌ ٱسْمُهُ. ١٠ رَأْسُ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ. فِطْنَةٌ جَيِّدَةٌ لِكُلِّ عَامِلِيهَا. تَسْبِيحُهُ قَائِمٌ إِلَى ٱلأَبَدِ».
(٥ - ١٠) في العدد الخامس يعود بالذكرى إلى أيام التيه في البرية حينما خرج الشعب من أرض العبودية (خروج ١٢: ١٤). وهناك قد أعطاهم عهده أن يكونوا شعبه. كما وعد إبراهيم من قبل. وأرسل بعد ذلك الأنبياء لكي يؤكد لهم هذه المواعيد. وإذا تلك الأرض المملوءة بالخيرات تصبح ميراثاً. وقد ذكر لوثيروس أن هذا العدد الخامس كإنما وضع لأجل عيد الفصح ويناسب أن يربط بالعشاء الرباني إذ يصبح المسيح ذاته هو الطعام الحي لقوت نفوسنا. وقد أخذت الكنيسة المسيحية هذا المزمور لكي يرتل أثناء خدمة العشاء الرباني.
يذكر مرة أخرى أعمال الرب أنها أمانة وحق كما أن وصاياه لا تتغير ولا تتبدل فهي أمينة بمواعيدها إذا قام بها الإنسان وتممها. بل إن هذه الوصايا ثابتة لأنها شبيهة بأعمال الله فتلك أمانة وحق وهذه حق واستقامة.
وقد اقتنى شعبه لنفسه محافظاً على عهوده معهم إلى الأبد وهكذا تمجد اسمه وعظم وازدادت مهابته على جميع البشر. ويستخلص كلامه بالآية الحكيمة الشهيرة «رأس الحكمة مخافة الرب» بل أن خوف الرب هو الفطنة والتعقل ولا سيما لأولئك العاملين وهكذا فإن هذا التدين هو عملي يجب أن يجريه الإنسان وليس فقط أن يمارسه تعبدياً وطقسياً. ذلك لأن هذا الإله مستحق التسبيح وسيتمم هذا إلى الأبد طالما يوجد قوم مؤمنون يعبدون الله ويطيعون شرائعه ونواميسه.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّانِي عَشَرَ


«١ هَلِّلُويَا. طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلْمُتَّقِي ٱلرَّبَّ، ٱلْمَسْرُورِ جِدّاً بِوَصَايَاهُ. ٢ نَسْلُهُ يَكُونُ قَوِيّاً فِي ٱلأَرْضِ. جِيلُ ٱلْمُسْتَقِيمِينَ يُبَارَكُ. ٣ رَغْدٌ وَغِنىً فِي بَيْتِهِ، وَبِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٤ نُورٌ أَشْرَقَ فِي ٱلظُّلْمَةِ لِلْمُسْتَقِيمِينَ. هُوَ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ وَصِدِّيقٌ».
لقد رأينا في المزمور السابق حمداً للحكم الذي يجريه الرب على العالم وأما هذا المزمور فمع أنه يشابهه في شكله ولكنه يختلف عنه بأنه يمدح الإنسان الذي يتمشى بحسب شريعة الله. وهو أيضاً مرتب بحسب أحرف الهجاء وكما أن المزمور السابق يبحث عن بر الله فهذا المزمور يبحث عن بر الإنسان الذي يخاف الله.
(١ - ٤) نجد في العدد الأول الموضوع الذي يبحثه المزمور من أوله إلى آخره. يرينا المتقي الرب المطوب وهو السعيد بوصايا إلهه يتمشى عليها لا عن اضطرار بل عن اختيار لأنه يجد فيها مبعث الطمأنينة والسلام وهذه الحالة تتعدى هؤلاء الناس إلى أولادهم من بعدهم فيكون نسلهم قوياً لأنه جيل من الناس قد باركه الرب. يكون له غنى وبحبوحة وتوفيق في كل ما يفعله وهذا لا يكون إلى وقت محدود ثم ينقضي بل يبقى على الدوام حتى يعتبر به الآخرون ويقتدوا. فكما أن الله إله بر واستقامة كذلك ينتظر من الأبرار أن يمشوا في السيرة الصالحة على الدوام. وهكذا يرون الآخرين أن برهم هو ليس شيئاً وقتياً يظهر قليلاً ثم يضمحل بل هو مؤسس على مبادئ قويمة متينة لا تزيدها مر السنين سوى قوة ومضاء. والعدد الرابع يشبه كثيراً ما ورد في (إشعياء ٦٠: ٢).
ذهب أحد المفسرين إلى ترجمة العدد الرابع هكذا «نور قد أشرق للمستقيم الذي هو حنان ورحيم وصديق» ولكن هذه الترجمة غير ممكنة بالنسبة للنسق الشعري والأفضل أن هذه النعوت هي لله سبحانه وليس للإنسان (راجع خروج ٣٤: ٦ وقابله مع مزمور ١٤٥: ٨ و١١٦: ٥). إن الله نفسه هو النور المشرق في الظلمة لأنه حنان ورحيم (راجع ملاخي ٣: ٢٠ وأيضاً راجع إشعياء ٣: ١٠ وإرميا ٤٤: ١٧).
«٥ سَعِيدٌ هُوَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي يَتَرَأَّفُ وَيُقْرِضُ. يُدَبِّرُ أُمُورَهُ بِٱلْحَقِّ. ٦ لأَنَّهُ لاَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٱلصِّدِّيقُ يَكُونُ لِذِكْرٍ أَبَدِيٍّ. ٧ لاَ يَخْشَى مِنْ خَبَرِ سُوءٍ. قَلْبُهُ ثَابِتٌ مُتَّكِلاً عَلَى ٱلرَّبِّ. ٨ قَلْبُهُ مُمَكَّنٌ فَلاَ يَخَافُ حَتَّى يَرَى بِمُضَايِقِيهِ. ٩ فَرَّقَ أَعْطَى ٱلْمَسَاكِينَ. بِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى ٱلأَبَدِ. قَرْنُهُ يَنْتَصِبُ بِٱلْمَجْدِ. ١٠ ٱلشِّرِّيرُ يَرَى فَيَغْضَبُ. يُحَرِّقُ أَسْنَانَهُ وَيَذُوبُ. شَهْوَةُ ٱلشِّرِّيرِ تَبِيدُ».
(٥ - ٦) هو إنسان سعيد ذاك الذي يتعمد إسعاد الآخرين فهو يرأف بأحوالهم ولا يتأخر عن أن يقرضهم مالاً إذا كانوا في حالة مادية سيئة. ومن جهة أخرى فهو حسن التدبير لا يرمي المال جزافاً بل يتصرف بحسن تدبير. فيعرف أن يخبئ درهمه الأبيض ليومه الأسود ولكنه يجد أن أحسن سبيل للتدبير هو أن يرى جاره بخير أيضاً فلا يكتفي بالخير لنفسه. وهكذا يثبت مركزه فلا يتزعزع بل يبقى ذكره للأبد. لقد كان حكيماً فيما هو للخير الحقيقي لنفسه وللآخرين أيضاً.
(٧ - ٨) لأنه قلبه مملوء ثابت بالرب فهو لا يخاف الشرور ولأن ضميره مرتاح فهو قرير العين ناعم البال. وهو يعزو فضيلته ليس إلى نفسه بل إلى الله الذي يتكل عليه ويثبت فيه. هو كالشجرة التي تثمر ثمراً جيداً لأن أصولها تتغذى بالتربة الجيدة. وهذا البار يعمل الصلاح ويسعد به لأنه مؤمن بالله وبار في شرائعه ووصاياه. وهو لا يخاف شيئاً (راجع إشعياء ٢٦: ٣) وهو يرى بمضايقيه أي أنه يكون في حالة يحسده عليها المضايقون.
(٩ - ١٠) هو محسن جواد لا يبخل بماله من أجل الإحسان وهو يفعله عن عقيدة قيامه بالواجب لأنه بار ثابت ولذلك فإن الله يكافئه بالكرامة والمجد. ويأخذ الرسول بولس هذه العبارة ويستعملها لحث المؤمنين المسيحيين (راجع ٢كورنثوس ٩: ٩) وإن يكن أن العهد الجديد لا يأخذ براً لذات الإنسان من أي عمل يفعله. ولكن الشرير من جهة ثانية يرى هذا البار فيغضب متميزاً من الحسد حتى تكاد شهوة الانتقام تقتله ويحول ذله تجاه هذه الأعمال المبرورة إلى خجل ممض وتكون النتيجة أن شهوته للشر هي التي تميته. فيكون هذا حياة لبار وإبادة للشرير الحسود.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّالِثُ عَشَرَ


«١ هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا يَا عَبِيدَ ٱلرَّبِّ. سَبِّحُوا ٱسْمَ ٱلرَّبِّ. ٢ لِيَكُنِ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ مُبَارَكاً مِنَ ٱلآنَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ. ٣ مِنْ مَشْرِقِ ٱلشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ٱسْمُ ٱلرَّبِّ مُسَبَّحٌ. ٤ ٱلرَّبُّ عَالٍ فَوْقَ كُلِّ ٱلأُمَمِ. فَوْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ مَجْدُهُ».
كان هذا المزمور كما يدل عليه مطلعه للتسبيح وكان يرنم في الأعياد الكبيرة الثلاثة وهي أولاً عيد التكريس ثم في رأس كل شهر جديد ما عدا رأس السنة الجديدة وعيد الغفران لأن في هذين العيدين لم يكن يناسب التهليل وإظهار الفرح والابتهاج بالنسبة لأنها خشوعية أكثر مما هي مفرحة. ثم في عيد الفصح فكانوا يرنمون (المزمورين ١١٥ و١١٨). بل كانوا يسمون المزامير من (١١٣ - ١١٨) ولا سيما المزامير (١١٥ - ١١٨) مزامير التهليل. بينما كان المزمور ١٣٦ يسمى مزمور التهليل العظيم بالنسبة لتكرار هذه العبارة ستاً وعشرين مرة في مزمور واحد. من بين الأمور التي تدعو إلى تسبيح الله هو تنازله الإلهي العجيب نحو المتواضعين فهو يريد أن يرفعهم إليه من حالتهم المحزنة السيئة. ولذلك نجد العذراء المباركة تقتبس من هذا المزمور ومن ترنيمة حنة (انظر ١صموئيل ٢) حينما رنمت ترنيمتها (راجع لوقا ١: ٤٦ - ٥٥).
(١ - ٣) يدعو عبيد الرب للتسبيح لكي يمجدوا اسمه ويذيعوا شكره ويحدثوا برحمته. وقد شاع استعمال هذا التعبير عبد الرب أو عبيد الرب خصوصاً بواسطة القسم الثاني من سفر إشعياء وهذه الدعوة لكي يظهر الإنسان المؤمن ما تنطوي عليه علاقته مع إلهه. فيجب أن يعترف بأن اسمه مبارك إلى الأبد وهو كذلك مكرم في كل مكان إن في الشرق أو في الغرب أو في أي الأمكنة وبين جميع الشعوب.
(٤) ولأنه يستحق التسبيح هكذا فهو مرتفع على جميع الأمم. ومجده فوق السموات. فإن كان ممجداً هكذا عند الأمم فكم بالأحرى يجب أن يكون ممجداً عند شعبه. هذا الإله الصانع العظائم وحده الذي له ملك الأرض والسموات وكل ما فيهما تذيع شكره وحمده الآن وإلى الأبد. والعلو معناه الشمول أيضاً فهو إله يشمل برحمته كل البشر ولم يعد إله شعب واحد بل هو لكل الشعوب لذلك يرتفع عليهم جميعاً.
«٥ مَنْ مِثْلُ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا ٱلسَّاكِنِ فِي ٱلأَعَالِي، ٦ ٱلنَّاظِرِ ٱلأَسَافِلَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ، ٧ ٱلْمُقِيمِ ٱلْمِسْكِينَ مِنَ ٱلتُّرَابِ، ٱلرَّافِعِ ٱلْبَائِسَ مِنَ ٱلْمَزْبَلَةِ ٨ لِيُجْلِسَهُ مَعَ أَشْرَافٍ، مَعَ أَشْرَافِ شَعْبِهِ. ٩ ٱلْمُسْكِنِ ٱلْعَاقِرَ فِي بَيْتٍ، أُمَّ أَوْلاَدٍ فَرْحَانَةً! هَلِّلُويَا».
(٥ - ٦) نعم إن مجموعة الأمم والشعوب هي كبيرة وعظيمة ولكن الله أعظم منها جميعاً. والسموات هي مرتفعة وعالية ولكن الله الذي خلقها هو أعلى منها وأرفع. ولكنه مع شدة ارتفاعه غير المتناهي فهو يتنازل بصورة عجيبة حتى يصل تنازله إلى أسفل الأمكنة وأحقر العالمين. فهو منزه عن مخلوقاته وهو في الوقت ذاته يعمل فيها ومن أجلها فإن عنايته عظيمة وشاملة ولا تقف عند أي الحدود. لا شيء يعادل الله ولا شيء يقاس به. فإن جميع مخلوقاته هي صنع يديه وهي خاضعة لمشيئته ولا تستطيع أن تعصى أوامره ولذلك فهو يسترها دائماً لما به الخير الحقيقي ولمصلحة المجموع. إذن فلا شيء مهما كان خفياً بعيداً هو أبعد من أن يشمله بعنايته ولا شيء مهما كان صغيراً وحقيراً هو أقل من أن يتغافل عن ملاحظته وتسيير أموره.
(٧ - ٩) هو يلتفت للمتسول الفقير الذي يقف على قارعة الطريق يستندي الأكف للمساعدة فيضطر أن يجلس على الطريق ويرتمي على المزبلة المملوءة بالنفاية والرماد فقد يكون فيها شيء من الحرارة والدفء مما يعينه على أن يقضي ليلته في العراء دون أن يحتاج إلى مأوى. وهكذا فالذي قد رفضه إخوانه بنو البشر قد رفعه الله وأقامه من حالته السيئة هذه. لأن الله لا يلتفت إلى المتكبرين المتغطرسين بل يرحم المساكين المتواضعين الذين لا معين لهم (راجع ١ملوك ١٦: ٢ وقابله مع ١ملوك ١٤: ٧). ولا شك أن المرنم يضع ترنيمة حنة في باله حينما يرى أن هذا البائس يرتفع ولا يبقى في حالته الوضيعة. وكما رفع حنة من ذلها وباركها في عقمها بأن أعطاها ولداً أصبح صموئيل النبي كذلك فإن الله اليوم أيضاً يعطي لخائفي اسمه أن يرتفعوا ويجلسوا مع الأشراف. ومما يؤكد لنا هذا الاقتباس أن المرنم يذكر المرأة العاقر التي لا تبقى عاقراً بل تصبح ذات أولاد فخورة فرحانة. وينتهي كما افتتح بالتسبيح هللويا لهذا الإله المحب الشفوق المعتني بالجميع.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلرَّابِعُ عَشَرَ


«١ عِنْدَ خُرُوجِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ وَبَيْتِ يَعْقُوبَ مِنْ شَعْبٍ أَعْجَمَ، ٢ كَانَ يَهُوذَا مَقْدِسَهُ وَإِسْرَائِيلُ مَحَلَّ سُلْطَانِهِ. ٣ ٱلْبَحْرُ رَآهُ فَهَرَبَ. ٱلأُرْدُنُّ رَجَعَ إِلَى خَلْفٍ».
رأساً بعد المزمور السابق الذي يحوي التهليل والتسبيح لاسم الرب نجد هذا المزمور التاريخي الذي يتخذ من حوادث ماضية ما يدعم به موقفه لأجل تكريم اسم الرب وتمجيده لأجل كل عظائمه التي فعلها. هو مزمور اليوم الثامن في عيد الفصح اليهودي وهو أعظم الأيام بحسب الطقوس التعبدية. ويحاول المرنم أن يعيد للذاكرة تلك الأحداث التي جرت في فاتحة تاريخ بني إسرائيل وكان لها أعظم الأثر في تكوين الأمة وإعلاء شأنها. وهو يذكرها بصورة موجزة رائعة تأخذ بمجامع القلوب لما فيها من جليل العبرة والذكرى. وينقسم المزمور إلى ثمانية أعداد مختصرة ولكنها سريعة السرد والحركة كما انها تعطي المطالع صورة كالبرق الخاطف.
(١ - ٣) لقد خرج إسرائيل من بين أقوام عجم لأن الناس في مصر كانوا يتكلمون لغة تختلف عن لغتهم فلم يستطيعوا فهمها. فكانت لهم إذن تمتمة غير مفهومة. وكانت يهوذا مقدسة لأن في أرض يهوذا قد بني الهيكل العظيم (خروج ١٥: ١٧). وفيه كان يقوم الكهنة بتقديم العبادة للرب بالتناوب. وأما إسرائيل أي القسم الشمالي من البلاد فكان في غنى وعز وكرامة حتى ظهر أن تلك البلاد هي مكان السؤدد لشعب الله. ولا شك أن البلاد الشمالية من أرض إسرائيل كانت أغنى أقسام البلاد وعاش الناس في بحبوحة ورخاء ولولا أنهم انغمسوا في عبادات الأمم المجاورة لكانوا حافظوا على التراث الديني والأدبي أكثر كثيراً من القسم الجنوبي في البلاد. ويذكرنا حالاً بتلك الحادثة التاريخية التي لم يفتر الشعب يذكرها على مدى الأجيال وهي عبور بحر سوف (الأحمر). بل وبعد ذلك أيضاً عبور نهر الأردن. فكما ابتدأ امتلاك الأرض بعبورهم البحر الأحمر كذلك فقد كان الختام لتجوالهم حينما عبروا نهر الأردن وأصبحوا على الضفة الأخرى من البلاد. لقد دخلوا أرض الموعد بعد أن خرجوا من مصر بلاد العبودية ليصبحوا أمة تعبد الله وتتمم وصاياه.
«٤ ٱلْجِبَالُ قَفَزَتْ مِثْلَ ٱلْكِبَاشِ، وَٱلآكَامُ مِثْلَ حُمْلاَنِ ٱلْغَنَمِ. ٥ مَا لَكَ أَيُّهَا ٱلْبَحْرُ قَدْ هَرَبْتَ، وَمَا لَكَ أَيُّهَا ٱلأُرْدُنُّ قَدْ رَجَعْتَ إِلَى خَلْفٍ، ٦ وَمَا لَكُنَّ أَيَّتُهَا ٱلْجِبَالُ قَدْ قَفَزْتُنَّ مِثْلَ ٱلْكِبَاشِ، وَأَيَّتُهَا ٱلتِّلاَلُ مِثْلَ حُمْلاَنِ ٱلْغَنَمِ؟ ٧ أَيَّتُهَا ٱلأَرْضُ تَزَلْزَلِي مِنْ قُدَّامِ ٱلرَّبِّ، مِنْ قُدَّامِ إِلٰهِ يَعْقُوبَ! ٨ ٱلْمُحَوِّلِ ٱلصَّخْرَةَ إِلَى غُدْرَانِ مِيَاهٍ، ٱلصَّوَّانَ إِلَى يَنَابِيعِ مِيَاهٍ».
(٤) يصور لنا في هذا العدد وقت إعطاء الشريعة فقوله أن الجبال قفزت كما فعلت الآكام أيضاً فهو يشير إلى اهتزاز جبل سيناء كأنه مضطرم بالنار (خروج ١٩: ١٨). ونعجب لهذه الصورة أن تصبح الجبال كأنها تقفز من مكانها. لا شك أن المرنم قد رأى شيئاً من الزلازل وفعل البراكين وشاهد بأم عينه تلك النيران ذات اللهب تنقذف من فوهة البركان ترمي حممها إلى الأماكن المجاورة لها وتملأها بالرماد المتطاير إلى مسافات بعيدة وتجعل السكان في رعب وهلع.
(٥ - ٦) يعود المرنم مرة أخرى للفكرة الأولى التي تقدّم بها لدى عبور الشعب في البحر الأحمر أو عبورهم بعد ذلك في نهر الأردن وبهذه الواسطة يزيد الكلام توكيداً. ويجعل البحر والنهر كليهما في حالة خوف من الرب. كما أنه يكرر تعجبه من حالة الجبال والتلال فهي أشبه بالكباش القافزة إلى كل جانب بينما الحملان تتراكض إلى الأمكنة المعشوشبة لترعى وتقتات.
(٧ - ٨) هذه الأرض كلها تتزلزل قدام الرب الذي صنعها وهو إله يعقوب المعروف لدى شعبه المسبّح له والممجد من كل الذين يعترفون باسمه ويذيعون شكره وإحسانه إلى كل الناس. وينتقل بعد ذلك إلى العدد الأخير فنجده يعيد لذاكرتنا تلك الحوادث التي أجرى عجيبته فيها حينما أخرج الماء من الصخرة (انظر العدد ٢٠: ١١). ويتسائل الإنسان الماذا اختار المرنم هذه الأشياء لكي تظهر عظمة الرب وقدرته. فنجيب لأن الصخرة الصوانية التي منها خرج الماء تحول القفر كله إلى أمكنة قد تصبح عامرة خصبة. لذلك فعلى الإنسان أن يعترف بجميل الله. ذاك الذي أوجد كل الخيرات للإنسان وعليه أن يطيعه كما تطيعه كل مخلوقاته من الجماد مهما كبرت وعظمت.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْخَامِسُ عَشَرَ


«١ لَيْسَ لَنَا يَا رَبُّ لَيْسَ لَنَا، لٰكِنْ لٱسْمِكَ أَعْطِ مَجْداً، مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ مِنْ أَجْلِ أَمَانَتِكَ. ٢ لِمَاذَا يَقُولُ ٱلأُمَمُ: أَيْنَ هُوَ إِلٰهُهُمْ؟ ٣ إِنَّ إِلٰهَنَا فِي ٱلسَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ. ٤ أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي ٱلنَّاسِ».
موضوع هذا المزمور هو دعوة لله إله إسرائيل لكي ينجي اسمه ويحافظ عليه من أن يصيبه الناس بأي سوء. ويكاد هذا المزمور أن لا يكون له أية علاقة بالمزمور السابق سوى قوله «بيت إسرائيل» ويقسم هذا إلى فروع عديدة كما نلاحظ من العدد الثاني عشر وما يليه. هو كناية عن صلاة يقدمها إسرائيل لله وذلك لدى هجوم بعض الأعداء للحرب مع الشعب. فيطلب بنو إسرائيل من الله أن ينجدهم على أعدائهم من الأمم الوثنية. وهو يصوّر هذه الأصنام تصويراً يجعل الناس أن يبتعدوا عنها ويرذلوها لأنها لا تنفع شيئاً. وهكذا فإن الله القادر على كل شيء سينصر شعبه ويقتادهم إلى ملء الراحة والطمأنينة بينما أولئك الأعداء لا معين لهم ولا مسعف ولا مجير.
(١ - ٢) ليس المجد ولا الكرامة لإسرائيل لأنه لا يستحق شيئاً من ذلك (راجع مزمور ٣٤: ٢٢ وما بعده). وهذا توبيخ صارخ للشعب حتى يتوبوا ويرجعوا إلى إلههم ولكن المجد والكرامة هما للإله القدوس الذي عرفه الشعب ومجّده منذ قديم الزمان وإلى الآن. يريد الله أن يعرف اسمه من كل إنسان وأن يتمجد لأنه إله رحيم رؤوف بعباده أمين في عهوده نحو الذين يدعون باسمه بنية مخلصة وإيمان وطيد. وأما الفكرة في العدد الثاني فقد تكون مأخوذة من (المزمور ٧٩: ١٠ أو من يوئيل ٢: ١٧ قابل ذلك مع مزمور ٤٢: ٤ وميخا ٧: ١٠) وقولهم أين إلههم؟ يقصد به التحقير أي لا إله لهم ولا يستطيع تنجيتهم.
(٣ - ٤) ولكن المرنم يسرع حالاً بالجواب ويخبر هؤلاء الناس عن هذا الإله العظيم المتعالي فوق السموات. ذاك الذي خلق كل الأشياء وأبدعها من العدم بمطلق مشيئته غير المتناهية. ويقابل حينئذ بين هذا الإله وبين آلهة الشعوب الأخرى التي تحاول تعيير إله إسرائيل بينما هم أولى بالتعيير. يرينا بأجلى بيان الفرق بين الإله الحقيقي وبين الإله الذي يدعيه الناس وهو مخلوقهم لا خالقهم.
«٥ لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. ٦ لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ. ٧ لَهَا أَيْدٍ وَلاَ تَلْمِسُ. لَهَا أَرْجُلٌ وَلاَ تَمْشِي، وَلاَ تَنْطِقُ بِحَنَاجِرِهَا. ٨ مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا. ٩ يَا إِسْرَائِيلُ ٱتَّكِلْ عَلَى ٱلرَّبِّ. هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ. ١٠ يَا بَيْتَ هَارُونَ ٱتَّكِلُوا عَلَى ٱلرَّبِّ. هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ. ١١ يَا مُتَّقِي ٱلرَّبِّ ٱتَّكِلُوا عَلَى ٱلرَّبِّ. هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ».
(٥ - ٨) هو إله متعال قدير يتمم مشيئته بمطلق حريته حتى لا يقدر أن يقول له أحد ماذا تفعل ولا شيء يقيده سوى ما يراه الأنسب وفي الوقت الأنسب. ويبدأ بهذا العدد أن يصوّر لنا هذه الآلهة الصنمية المضحكة التي لا تقنع سوى أصحابها. هي ميتة فكيف تستطيع أن تعطي حياة. قد يكون لها أفواه وأعين وآذان وأيد وأرجل ولكنها للتشبيه ليس إلا فهي لا تستطيع أن تستعمل هذه الأعضاء لما به حاجتها الشخصية فهل بإمكانها أن تساعد وأخيراً ينفي ذاتيتها بتاتاً حينما يقول أنها لا تنطق بحناجرها بينما الإنسان ذاته هو حيوان ناطق فإذن هي أقل من الإنسان لأنها لا تنطق أيضاً. قد يدعي عبدة الأصنام أن هذه للتمثيل فقط وإنهم يعبدون الروح التي وراءها ولكن المرنم يدحض زعمهم ويسخر بهم كما فعل الأنبياء في كل العصور. وهكذا ينزل بهؤلاء العابدين أعظم الهزء والتحقير حينما يقول عنهم أنه مثل أصنامهم لا يرون ولا يسمعون ولا يشمون وبالتالي لا يفعلون شيئاً.
(٩ - ١١) يلتفت بعد ذلك إلى شعب الله وينبههم ويكرر التنبيه على نسبة تكرار المخاطبين فيذكر إسرائيل إجمالاً وبعد ذلك بيت هارون أي الكهنة الذين منهم ينتظر أن يقوم رجال الله الأفاضل الذين يقومون بخدمته بواسطة خدمة شعبه الروحية. بل يخصص في كلامه أتقياء الله أي تلك الجماعة الصالحة التي هي فوق أي رتبة لأنها قد تكون من آية فئة من الناس وربما كانوا من الدخلاء ولكنهم آمنوا بالله وسمعوا وصاياه وقاموا بالشعائر الدينية على أتم وجه. وقول معينهم ومجنهم لكي يقوي وجه المقابلة بصورة معاكسة عن تلك الأصنام التي لا تستطيع شيئاً إذا بهذا الإله القدير يستطيع كل شيء ينجي ويعين إلى التمام.
«١٢ ٱلرَّبُّ قَدْ ذَكَرَنَا فَيُبَارِكُ. يُبَارِكُ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ. يُبَارِكُ بَيْتَ هَارُونَ. ١٣ يُبَارِكُ مُتَّقِي ٱلرَّبِّ ٱلصِّغَارَ مَعَ ٱلْكِبَارِ. ١٤ لِيَزِدِ ٱلرَّبُّ عَلَيْكُمْ. عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَبْنَائِكُمْ. ١٥ أَنْتُمْ مُبَارَكُونَ لِلرَّبِّ ٱلصَّانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ. ١٦ ٱلسَّمَاوَاتُ سَمَاوَاتٌ لِلرَّبِّ، أَمَّا ٱلأَرْضُ فَأَعْطَاهَا لِبَنِي آدَمَ. ١٧ لَيْسَ ٱلأَمْوَاتُ يُسَبِّحُونَ ٱلرَّبَّ، وَلاَ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى أَرْضِ ٱلسُّكُوتِ. ١٨ أَمَّا نَحْنُ فَنُبَارِكُ ٱلرَّبَّ مِنَ ٱلآنَ وَإِلَى ٱلدَّهْرِ. هَلِّلُويَا».
(١٢ - ١٤) هذا الإله الذي يذكر الأشياء القديمة ويحافظ على العهود المقطوعة. ويرجح أن هذه العبارة كانت تقال لدى تقديم الذبيحة. وحينئذ كان الكاهن يطلب البركة. ونجد المرنم يكرر هذه الأسماء الثلاثة بحسب الترتيب السابق. يبارك بيت إسرائيل ثم بيت هارون ثم متقي الرب جميعهم صغاراً وكباراً حتى لا ينسى منهم أحداً بل يشملهم الله برحمته ويرعاهم بعنايته. وبعد ذلك نلاحظ العدد الرابع عشر أنه يحوي بركة خاصة (راجع تثنية ١: ١١ وايضاً ٢صموئيل ١٤: ٣). فهو يطلب لهم النمو والمزيد حتى أنه رغم اضطهاد الأعداء وتنكيلهم ورغم الموت والتشريد وكل أنواع العذاب فهم سيزدادون عدداً كما سيزدادون نعمة وقوة.
(١٥ - ١٨) وفي العدد الخامس عشر أيضاً نرى بركة مكررة إذ نجد هذا الشعب ينال رضا ربه ذلك الإله العظيم الذي يستطيع كل شيء لأنه صنع كل شيء مما في السماء وما على الأرض. لقد حسب الإنسان القديم أنه يوجد فارق بين السماء والأرض ولا سيما في التاريخ الذي عقب الطوفان ولكن العهد الجديد يزيل هذا الفارق وتصبح السماء والأرض كلتاهما للرب ونجد الرب يسوع يقول «لا تحلف بالسماء لأنها كرسي الله. ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه». ونجد فرقاً آخر من جهة الأموات فهم ذهبوا حسب زعمه ولا يرجعون. فلا يقدرون على التسبيح طالما انحدروا إلى أرض السكوت. ويلتفت أخيراً إلى الأحياء ويطلب منهم وحدهم أن يباركوا اسم الرب ويحمدوه على الدوام ومن الآن إلى الدهر. هللوا إذن يا شعبه وعظموه لأنه وحده يسمع الدعاء طالما الوقت يواتيكم وأنتم أحياء قبل الموت إذ بعدئذ لا تستطيعون أي تسبيح.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّادِسُ عَشَرَ


«١ أَحْبَبْتُ لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَسْمَعُ صَوْتِي، تَضَرُّعَاتِي. ٢ لأَنَّهُ أَمَالَ أُذُنَهُ إِلَيَّ فَأَدْعُوهُ مُدَّةَ حَيَاتِي. ٣ ٱكْتَنَفَتْنِي حِبَالُ ٱلْمَوْتِ. أَصَابَتْنِي شَدَائِدُ ٱلْهَاوِيَةِ. كَابَدْتُ ضِيقاً وَحُزْناً. ٤ وَبِٱسْمِ ٱلرَّبِّ دَعَوْتُ: آهِ يَا رَبُّ، نَجِّ نَفْسِي».
هنا مزمور مجهول اسم مؤلفه ولكنه ينتهي بكلمة هللويا. والقصد منه هو تقديم الشكر لله من أجل تنجيته من خطر فظيع مميت وهو من هذا القبيل يشبه السابق بأنه للحمد والشكر ولكنه يختلف عنه بأن المتكلم هنا باسم الفرد بينما المزمور السابق فهو باسم جماعة المؤمنين فهو شكر عام شامل بينما هذا فهو شكر شخصي على إحسان شخصي كان له تأثير عظيم على حياة المرنم ذاته. فهو قد اختبر حنو الله العجيب عليه وعطفه الذي لا يستقصى. لقد قسمت التوراة السبعينية هذا المزمور إلى قسمين متمايزين هما أولاً من العدد ١ - ٩ وثانيا من العدد ١٠ إلى الآخر وجعلت منهما مزمورين للتسبيح. كما أنها قد ضمت المزمورين ١١٤ و١١٥ معاً وجعلت منهما مزموراً واحداً. وهذا المزمور المئة والسادس عشر هو من المزامير الحديثة الوضع أولاً بالنسبة لإدخاله عدداً كبيراً من الكلمات الآرامية وثانياً بالنسبة لما يقتبسه هذا المزمور من مزامير سابقة أي قبل السبي ولا سيما المزمور الثامن عشر.
(١ - ٤) قوله «أحببت» قد حذف المفعول به الذي قدره بعدها وهو يقصد أحببت الرب. وإذا اكتفى بالفعل وحده فكإنما يعني أنني محب أي أنني سعيد جداً في محبتي لهذا الإله المحسن الجواد الذي يسمع الدعاء ويستجيب الصلاة. وهو يأخذ العددين ٣ و٤ من المزمور الثامن عشر. هو الذي أمال أذنه وأصغى إليّ لذلك فالمؤمن يدعو الله على مدى الحياة (راجع إشعياء ٣٩: ٨). وفي العدد الثالث يغيّر اقتباسه من المزمور ١٨ قليلاً ولكنه اختبار شخصي فقد كاد يموت لأنه أصيب بشدائد الهاوية التي كانت تشد به إلى أسفل وإذا حياته كلها مريرة متعبة مملوءة بالضيق والأحزان ولكنه حينما يستنجد بالله يفعل ذلك ويعترف بحقائق عامة عالقة في ذهنه بوضوح لأن الله قد استجاب له كما استجاب من قبل للمؤمنين الحقيقيين.
«٥ ٱلرَّبُّ حَنَّانٌ وَصِدِّيقٌ وَإِلٰهُنَا رَحِيمٌ. ٦ ٱلرَّبُّ حَافِظُ ٱلْبُسَطَاءِ. تَذَلَّلْتُ فَخَلَّصَنِي. ٧ ٱرْجِعِي يَا نَفْسِي إِلَى رَاحَتِكِ لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكِ. ٨ لأَنَّكَ أَنْقَذْتَ نَفْسِي مِنَ ٱلْمَوْتِ، وَعَيْنِي مِنَ ٱلدَّمْعَةِ، وَرِجْلَيَّ مِنَ ٱلزَّلَقِ. ٩ أَسْلُكُ قُدَّامَ ٱلرَّبِّ فِي أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ. ١٠ آمَنْتُ لِذٰلِكَ تَكَلَّمْتُ. أَنَا تَذَلَّلْتُ جِدّاً. ١١ أَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: كُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبٌ».
(٥ - ٩) يذكر هاتين الصفتين لله أنه حنان وصديق أي رحيم وبار (راجع مزمور ١٢: ٤١). هاتان صفتان متلازمتان إلى حد كبير. فبرّ الرب قد أكده لشعبه منذ قديم الزمان (راجع خروج ٣٤: ٦ وما بعده). ومحبة الرب تظهر بجلاء للودعاء الطاهرين في قلوبهم كما ورد في (متّى ١١: ٢٥). وتأثير كلام المرنم راجع بالنسبة لأن هذه الظاهرة الروحية قد تمت له فاختبر حنو الرب ولا سيما بعد ما تذلل ووصل إلى تلك الحالة السيئة فمد له الرب يد العون والإسعاف. في العدد ٧ يخاطب المرنم نفسه وقد رأينا مثل ذلك في (المزامير ٤٢ و٤٣ و١٠٣). يريد أن يتطمأن بعد أن تكررت عليه الآلام والنكبات فها أن الرب قد أظهر إحسانه وأنقذه من موت محتوم كما أنه قد مسح دموعه فلم يعد بينٍ الحزانى الباكين وقد ثبت رجليه لئلا يصبح بين الساقطين. ولذلك فهو الآن قد امتلك زمام نفسه فيعيش في أرض الأحياء وليس في أرض ظلال الموت فلم تقدر حبال الهاوية أن تصل إليه. يمشي الآن سالكاً طريق الكرامة ولكنه يفعل ذلك قدام الرب أي بكل تواضع وخضوع لا اعتداداً بالذات ولا تكبراً كإنما هو قد خلّص نفسه.
(١٠ - ١١) لقد كان له الإيمان الوطيد بهذا الخلاص العتيد (راجع أيوب ٢٤: ٢٢ و٢٩: ٢٤) فبعد أن أظهر هذا الإيمان القوي تذلل أمام الرب فأظهر له الرب عندئذ طريقاً واضحاً للنجدة والخلاص. وفي الوقت ذاته لا يكتم المرنم تألمه من الإنسان فقد اختبر الكذب والاحتيال وهو في حالة الحيرة والارتباك فلم يكن منجد سوى الله.
«١٢ مَاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي؟ ١٣ كَأْسَ ٱلْخَلاَصِ أَتَنَاوَلُ، وَبِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أَدْعُو. ١٤ أُوفِي نُذُورِي لِلرَّبِّ مُقَابِلَ كُلِّ شَعْبِهِ. ١٥ عَزِيزٌ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ مَوْتُ أَتْقِيَائِهِ. ١٦ آهِ يَا رَبُّ. لأَنِّي عَبْدُكَ. أَنَا عَبْدُكَ ٱبْنُ أَمَتِكَ. حَلَلْتَ قُيُودِي. ١٧ فَلَكَ أَذْبَحُ ذَبِيحَةَ حَمْدٍ، وَبِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أَدْعُو. ١٨ أُوفِي نُذُورِي لِلرَّبِّ مُقَابِلَ شَعْبِهِ، ١٩ فِي دِيَارِ بَيْتِ ٱلرَّبِّ، فِي وَسَطِكِ يَا أُورُشَلِيمُ. هَلِّلُويَا».
(١٢ - ١٤) يتساءل المرنم بعد هذه الاختبارات الجليلة كلها كيف يستطيع أن يقدم الشكر للرب وماذا يستطيع أن يفي من هذا الدين الكبير المتراكم على عنقه. هذا الإله الجواد الذي كرر إحساناته من قبل ولا يزال يكررها عن غير استحقاق. وقوله «ماذا» نستطيع ترجمتها «بماذا» أي بماذا نرد للرب؟ وما هي تلك الأشياء التي نستطيع أن نظهرها للتعبير عن شكرنا العميق واعترافنا بالجميل (راجع تكوين ٤٤: ١٦). فيجيب نفسه بأن أخذ صورة من الفصح وهو أن يأخذ الكأس بيده شاكراً وداعياً باسم الرب (راجع متّى ٢٦: ٢٧). وبعبارة ثانية في لغة اليوم هو يريد أن يشرب نخب الرب بالنسبة لإحساناته العميمة. بل هو يوفي النذور التي عاهد نفسه عليها من قبل ويفعل ذلك جهاراً أمام كل الشعب فيكون بذلك قدوة للآخرين ويريح ضميره على الأقل أنه قام بواجب العبادة.
(١٥ - ١٩) لقد كان الشهداء المسيحيون يرنمون أقساماً من هذا المزمور في اضطهادات الأمبراطور ديشيوس فيمتلئون بالرجاء المطوب أن الرب يهب الحياة ولا يريد الموت لأحد لذلك فهو عزيز عليه أن يموت أحد الأتقياء. ويلتفت المرنم بمنتهى الحنو ويلتمس أن يظل الرب بعلاقته الوطيدة معه طالما هو الذي نجاه وحل قيوده. ويذكرنا هنا بأنه ابن أمة الرب مما يدل على أن والدة هذا المرنم كانت تقية فاضلة يذكرها بالخير ويظهر أن أمثال حنة النبية كان كثيراً عندئذ (راجع لوقا ١: ٣٦). وهنا يوضح بأجلى بيان لماذا قدم إلى أورشليم وقد يكون حاجاً من أطراف البلاد. فهو يقدم ذبيحة الحمد ويوفي النذور ويشهد أمام جميع الناس بما فعله الله نحوه من خير معروف. ويشعر باللذة العظمى أن ينزل حمل هذا الواجب التقوي عن ظهره ولا سيما حينما يختم كلامه هللويا.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّابِعُ عَشَرَ


«١ سَبِّحُوا ٱلرَّبَّ يَا كُلَّ ٱلأُمَمِ. حَمِّدُوهُ يَا كُلَّ ٱلشُّعُوبِ. ٢ لأَنَّ رَحْمَتَهُ قَدْ قَوِيَتْ عَلَيْنَا، وَأَمَانَةُ ٱلرَّبِّ إِلَى ٱلدَّهْرِ. هَلِّلُويَا».
هذا المزمور هو دعوة لكل الشعوب والأمم أن يأتوا إلى الرب ويدخلوا في رعيته المباركة. هو أقصر المزامير كلها وقد جاء بعد المزمور المئة والسادس عشر المملوء بالحمد والتسبيح لكي يدعو الناس جميعاً لمثل ذلك. فكما أن الواجب على بني إسرائيل بل على ذلك المرنم نفسه بالنسبة للاختبارات الشخصية أن يكونوا شكورين إلى التمام. كذلك من واجب الأمم جميعاً أن يعترفوا بهذا الجميل الإلهي ويدخلوا في الجماعة المباركة. وهو على اختصاره العظيم يرينا دعوة كريمة صالحة لجميع الشعوب كي يفهموا رسالة الوحي أكثر ويأتوا إلى إخوة عامة شاملة وإلى علاقة شريفة صالحة بعضهم مع بعض.
(١ - ٢) نجد في كلمة «الأمم» العبرانية تقارباً نحو اللغة الآرامية والعربية غير شكل عن قوله «جوييم» فإن رحمة الرب عظيمة بهذا المقدار حتى أنها تتجاوز كل الحدود العرقية والجغرافية وتصل إلى الناس كلهم دون تمييز. ويضع المرنم أمامنا مكرراً هاتين الكلمتين «الرحمة والأمانة». فإن الله بواسطة هاتين الصفتين يستطيع أن يغمر الناس جميعاً (راجع رومية ٥: ٢٠ و١تيموثاوس ١: ١٤). وهكذا نجد أن هذا الإيمان لن يقف عند حدود اليهودية الضيقة بل سيتوسع إلى أن يصل إلى العالم أجمع. ويكون الجميع أخيراً رعية واحدة للراعي الواحد ربنا يسوع المسيح.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّامِنُ عَشَرَ


«١ اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢ لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: «إِنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ». ٣ لِيَقُلْ بَيْتُ هَارُونَ: «إِنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ». ٤ لِيَقُلْ مُتَّقُو ٱلرَّبِّ: إِنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ» .
يرجّح أن نظم هذا المزمور كان عند إعادة تدشين الهيكل الجديد فهو مزمور حمد وتسبيح أيضاً ويكرر هذه العبارة التي صقلتها الأيام «لأن إلى الأبد رحمته» بما تحويه من المعاني العميقة والأفكار الروحية السامية. ولدى الشروع بالمهرجان نرى هذه الأعداد الأربعة الأولى. فالأول حمد عام ثم دعوة لإسرائيل ثم يخصص بيت هارون أي كهنة الرب ثم يدعو المتقين منهم أو من غيرهم زيادة في التخصيص وإلفات النظر حتى يحمدوا اسم الرب لأن رحمته دائمة للأبد. ثم نلاحظ في الأعداد ٥ - ١٨ دعاء وهم على الطريق قادمون ثم العدد ١٩ وهم داخلون إلى الهيكل ومن الأعداد ٢٠ - ٢٧ يقولها الذين يستقبلون المهرجان في الهيكل. والعدد ٢٨ جواب الذين في المهرجان. والعدد الأخير هو اشتراك الجميع في الحمد والتسبيح.
من المعروف عن المصلح لوثيروس أنه أحب هذا المزمور حباً جماً واحتمى به لدى متاعبه والاضطهادات التي احتملها ووجد فيه تعزية وسلاماً. وقد حسب المفسرون أن زمان كتابته هو أحد هذه:

  • السنة الأولى بعد الرجوع من السبي في عيد المظال في الشهر السابع.
  • عند وضع حجر الأساس في ترميم الهيكل في أيام عزرا (عزرا ٣: ٨).
  • تكريس الهيكل بعد إكمال البناء كله (عزرا ٦: ١٥).


(١ - ٤) هو افتتاح جميل للغاية يتدرج به المرنم من التعميم إلى التخصيص ويرى الواجب يدعوه بالنسبة لهذه الرحمة الإلهية الظاهرة للجميع والتي علينا أن نعترف بها جهاراً حتى يكون لنا عيش موفق سعيد وتصبح هذه البركات ذات قيمة معنوية عميقة في نفوسنا. والسبب الجوهري في نظره لمثل هذا الحمد هو أن الرب صالح وأمانته ظاهرة حقيقية لا يجوز أن ينكرها أي إنسان. ثم يكرر «ليقل» أي لا يجوز السكوت فقط على حد قول الشاعر:
وإن وجدت لساناً قائلاً فقل.
«٥ مِنَ ٱلضِّيقِ دَعَوْتُ ٱلرَّبَّ فَأَجَابَنِي مِنَ ٱلرُّحْبِ. ٦ ٱلرَّبُّ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي ٱلإِنْسَانُ؟ ٧ ٱلرَّبُّ لِي بَيْنَ مُعِينِيَّ، وَأَنَا سَأَرَى بِأَعْدَائِي. ٨ ٱلٱحْتِمَاءُ بِٱلرَّبِّ خَيْرٌ مِنَ ٱلتَّوَكُّلِ عَلَى إِنْسَانٍ. ٩ ٱلٱحْتِمَاءُ بِٱلرَّبِّ خَيْرٌ مِنَ ٱلتَّوَكُّلِ عَلَى ٱلرُّؤَسَاءِ. ١٠ كُلُّ ٱلأُمَمِ أَحَاطُوا بِي. بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أُبِيدُهُمْ. ١١ أَحَاطُوا بِي وَٱكْتَنَفُونِي. بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أُبِيدُهُمْ».
(٥ - ٧) يشعر المرنم أنه في ضيق فيدعو الرب وإذا به تعالى يحوّل ضيقه إلى رحب (راجع مزمور ٢٢: ٢٢ و٢٨: ١ و٧٤: ٧ و٢صموئيل ١٨: ١٩ وعزرا ٢: ٦٢ و٢أخبار ٣٢: ١) وكيف يجوز الخوف طالما الرب لنا وإن يكن البشر ضدنا يكفينا أن الرب يلتفت إلينا ويعيننا (راجع مزمور ٥٤: ٦). وقوله إن الرب بين معينيّ أي أن عونه هو أكبر عون ويرجح على كل عون آخر مهما عظم قدره أو سما مصدره. ويتحول الضيق عني إلى أعدائي فما كان يراه الأعداء فيّ من سوء الحال يتحول إليهم هم فأراه أنا فيهم.
(٨ - ١١) يرى المرنم أن الاحتماء بالرب هو الشيء الأكيد وحده وذلك بناء على الاختبارات المرة التي صادفها الشعب في تاريخه. نعم لقد وعدهم كورش بالسماح في العودة ولكنهم صادفوا بعد ذلك شيئاً كثيراً من التقلبات في الملوك الذين تعاقبوا ولم يصبحوا أحراراً إلا في أيام داريوس. ولذلك فلا عجب إذا رأوا أن من الحكمة أن لا يتكلوا على أي إنسان فكيف لهم أن يحتموا به أو بأي الرؤساء مهما عظموا. بل أن هؤلاء الأمم بدلاً من العون كانوا معاكسين فكأنهم قد أحاطوا من كل جانب يحاولون مضايقتهم والنيل منهم بكل الوسائل الممكنة وذلك ليس بقوة من الشعب نفسه بل بواسطة الرب الذي عاهد شعبه بالخلاص ولن يتركه الآن بل سيخلصه ويفسح له مجال العمل المثمر والحرية الكاملة. والكلام في العددين العاشر والحادي عشر ليس من قبيل الحقيقة بل بالأحرى من قبيل المجاز ليس إلا ويريدنا أن نفهم أن الأعداء كانوا كثيرين وأذاهم قد أتى من كل جانب ولكن الرب سيعيننا فننجو من كل ضيم.
«١٢ أَحَاطُوا بِي مِثْلَ ٱلنَّحْلِ. ٱنْطَفَأُوا كَنَارِ ٱلشَّوْكِ. بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أُبِيدُهُمْ. ١٣ دَحَرْتَنِي دُحُوراً لأَسْقُطَ. أَمَّا ٱلرَّبُّ فَعَضَدَنِي. ١٤ قُوَّتِي وَتَرَنُّمِي ٱلرَّبُّ، وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصاً. ١٥ صَوْتُ تَرَنُّمٍ وَخَلاَصٍ فِي خِيَامِ ٱلصِّدِّيقِينَ. يَمِينُ ٱلرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ. ١٦ يَمِينُ ٱلرَّبِّ مُرْتَفِعَةٌ. يَمِينُ ٱلرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ. ١٧ لاَ أَمُوتُ بَلْ أَحْيَا وَأُحَدِّثُ بِأَعْمَالِ ٱلرَّبِّ. ١٨ تَأْدِيباً أَدَّبَنِي ٱلرَّبُّ وَإِلَى ٱلْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي».
(١٢) في هذا العدد يكرر قوله «أحاطوا» ويعطينا فوق ذلك صورة النحل وهو يهاجم خارجاً بكثرة من قفيره (راجع تثنية ١: ٤٤) ولكنهم يذهبون سريعاً مثل هجومهم. ربما كانت لذعاتهم مثل النار ولكنها نار الهشيم تنطفئ بسرعة شبيهة باشتعالها. مرة ثانية يكرر قوله باسم الرب يبيدهم لا بقوة من نفسه.
(١٣ و١٤) إن الناس قد حاولوا خذلانه ودحره وشاءوا سقوطه ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث لأن الرب قد عضد وهو قد قواه وشدده وإذا بتلك القوة الإلهية تصبح سبباً للبهجة والترنم ويتم الخلاص ولا شيء من الخطر بعد ذلك (راجع إشعياء ١٢: ٢ وكذلك راجع خروج ١٥: ٢).
«١٩ اِفْتَحُوا لِي أَبْوَابَ ٱلْبِرِّ. أَدْخُلْ فِيهَا وَأَحْمَدِ ٱلرَّبَّ. ٢٠ هٰذَا ٱلْبَابُ لِلرَّبِّ. ٱلصِّدِّيقُونَ يَدْخُلُونَ فِيهِ. ٢١ أَحْمَدُكَ لأَنَّكَ ٱسْتَجَبْتَ لِي وَصِرْتَ لِي خَلاَصاً. ٢٢ ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ. ٢٣ مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ كَانَ هٰذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا. ٢٤ هٰذَا هُوَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي صَنَعَهُ ٱلرَّبُّ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ. ٢٥ آهِ يَا رَبُّ خَلِّصْ! آهِ يَا رَبُّ أَنْقِذْ!».
(١٩ - ٢٥) والآن وقد انتهى القادمون المحتفلون إلى أبواب الهيكل فما عليها الآن إلا أن تنفتح لاستقبالهم والترحيب بهم. هي أبواب البر لأن منها يدخل إلى أمكنة البر حيثما ينصرف الإنسان إلى عبادة الإله العظيم خالق السموات والأرض. فيبدأ أولاً بصورة الجمع إذ يوجد أبواب كثيرة ولكن أخيراً يوجد باب واحد هو باب للرب أي الذي يدخله الصديقون لكي يقدموا عبادتهم الخاصة بواسطته. لقد كان لهم مصاعب عظيمة قبل أن وصلوا إلى الأبواب ليدخلوا فيها وقد كابدوا مشقات هائلة قبل أن تُمم العمل وأعيد بناء الهيكل في أورشليم. والآن يليق فيه الحمد والتسبيح فقد أعطى الله خلاصه ولم يمنعه عن المؤمنين الذين ثابروا إلى أن نجحوا أخيراً. لقد كانت أمامهم جبال من المصاعب وهم قبضة من الرجال وقد اكتنفهم الأعداء وأحاطوا بهم ولكن الله كان فيما بينهم ووفق أمورهم. وعندئذ إذا بالحجر المرفوض في أسمى وأعظم مركز فلا عجب إذا تهلل الشعب وفرح (راجع زكريا ٤: ٧). إن الشيء المهم ليس كيف ابتدأنا بل كيف انتهينا. لقد ابتدأ الشعب بشيء حقير زهيد ولكنه انتهى بشيء عظيم للغاية (راجع عزرا ٣: ١٠). ولكن المرنم يسرع حالاً بأن يعزو النجاح للرب و ليس لأحد من الناس. هو أمر عجيب في أعين البشر ولكنه ليس كذلك في عيني الله. فما يحسب عند الناس نجاحاً قد يحسب عند الله خلاف ذلك على خط مستقيم. ونذكر أن المخلص في العهد الجديد قد اتخذ هذا العدد ٢٢ شاهداً على ما فعله الآب مع ابنه المخلص الوحيد (انظر متّى ٢١: ٤٢ - ٤٤ وأيضاً مرقس ١٢: ١٠ وما بعده وأيضاً أعمال ٤: ١١ و١بطرس ٢: ٦ ورومية ٩: ٣٣). وهذا يوم خلاص عظيم فليكن يوم فرح وبهجة على نسبة ذلك.
«٢٦ مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ. بَارَكْنَاكُمْ مِنْ بَيْتِ ٱلرَّبِّ. ٢٧ ٱلرَّبُّ هُوَ ٱللّٰهُ وَقَدْ أَنَارَ لَنَا. أَوْثِقُوا ٱلذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ ٱلْمَذْبَحِ. ٢٨ إِلٰهِي أَنْتَ فَأَحْمَدُكَ. إِلٰهِي فَأَرْفَعُكَ. ٢٩ ٱحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ».
(٢٦ - ٢٩) هذه العبارة يستعملها سكان أورشليم حينما يستقبلون الحجاج وبعد ذلك يستقبلهم اللاويون والكهنة بقولهم «باركناكم من بيت الرب». وحينما يأتي الحجاج يكون معهم حيوانات كثيرة للذبائح ونرى كثرتها في (عزرا ٦: ١٧). ذلك لأن الرب قد أظهر نفسه أنه هو الله الذي أعطاهم النجاة والخلاص والحرية. وقد ذهب بعض المفسرين إلى القول بأن القصد هو تزيين المذبح أكثر مما هو تقديم الذبائح عليه ولكن على ما يظهر أن قصد المرنم هو أن يؤكد لنا وجوب تقديم الشكر لله على خلاصه بواسطة الذبائح فكل ثمين يجب أن يبذل في سبيل هذا الإله المحب الجواد. وهكذا يختم كلامه بالحمد والثناء كما افتتح ذلك لأن الرب صالح ولأن رحمته شاملة وستبقى على الدوام.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلتَّاسِعُ عَشَرَ


- أ -


«١ طُوبَى لِلْكَامِلِينَ طَرِيقاً، ٱلسَّالِكِينَ فِي شَرِيعَةِ ٱلرَّبِّ. ٢ طُوبَى لِحَافِظِي شَهَادَاتِهِ. مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ. ٣ أَيْضاً لاَ يَرْتَكِبُونَ إِثْماً. فِي طُرُقِهِ يَسْلُكُونَ».
هذا المزمور هو أكثر المزامير صناعة لفظية فهو مرتب حسب أحرف الهجاء العبرانية أي أبجد هوز الخ وكل حرف من هذه الحروف يحوي ثمانية أدوار فيكون المجموع مئة وستة وسبعين دوراً أو عدداً. وقد أطلقت التوراة الجرمانية عليه اسم «مزمور الألفباء» للمؤمن الذي يستعمل الكتاب المقدس للحمد ونيل القوة والنجدة. وهو لا يخلو من التكرار الممل حى ذهب أحد المفسرين إلى القول أنه مزمور صلاة طويلة لمعلم شيخ مختبر. ولكن يتضح لنا من العدد التاسع أن الناظم هو شاب ويصف حالته في العددين ٩٩ و١٠٠ فنجده منكوباً مضطهداً ولا سيما من الذين يحتقرون كلمة الله ولا يعيرونها انتباههم. ويجد ارتداد الناس عن الله في كل ما يحيط به لا سيما يوجد حكومة معادية لروح الدين الحقيقي (راجع الأعداد ٢٣ و٤٦ و١٦١) والمزمور كله صلاة لكي يمنح الله نعمة الثبات وسط جيل شرير وهكذا يرجو خلاص الرب فينتظر ويكرر القول المأثور يا رب حتى متى؟ وإذا أخذنا هذه الفكرة عن المزمور بعين الاعتبار فلن يطول بنا الوقت حتى نفهمه ونتابع ناظمه في انتقاله من فكر إلى آخر. يبدأ المرنم بحرف الألف ونلاحظ أن كل جملة من هذا المقطع تبدأ بهذا الحرف أيضاً وهكذا في بقية الحروف على التوالي. ولا شك أن هذه صناعة لفظية من الطبقة الأولى ويجب أن يكون الناظم من العارفين بأساليب الكلام والمقتدرين في اللغة فإذا حسبنا أنه شاب فيجب أن يكون متعلماً متهذباً كما أنه يفهم أصول الديانة حق الفهم. بحرف الألف يمجد الأمانة لكلمة الله وبالباء ينصح بها للشاب وبالجيم يطلب نوراً علوياً وبالدال قوة وبالهاء حفظاً وبالواو اعترافاً كما أنه يجبد في الزاي أن يتمسك بها وبالحاء يتمسك بحافظيها وبالطاء يتواضع وبالياء يعرب عن حاجته للتعزية وبالكاف يقول حتى متى؟ ولولا كلمة الله القديرة الأكيدة لفقد الرجاء هذا ما يقوله باللام ويراها حكمة في الميم ويقسم بالأمانة لها في النون وبالسين يكره ويحتقر المرتدين عن الإيمان وبالعين يعترف باضطهاده ولكنه لن يذل لهم وهذا يتابع الفكرة في الفاء وفي الصاد يرى أن غير المؤمنين يضمحلون. وفي القاف يصرخ لله طالباً أن يرحمه في الراء وينجيه من الظالمين في الشين وأن يرعاه بصلاح في التاء.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا المزمور قد كتب في العصر المكابي بينما جرى الاضطهاد على المتمسكين بالتوراة وشريعة الله من اليهود أنفسهم الذين جاروا الحكومة اليوناينة التي احتلت البلاد في عهد الدولة السلوقية وعادوا إخوانهم من أبناء البلاد. وقد ذهب هتزج إلى القول أن الناظم هو إسرائيلي شهيد قضى مدة من الزمن في السجن مضطهداً مظلوماً. ولما أطلق سراحه أطلق لنفسه عنان التفكير الروحي العميق وصوّر حالة المظالم التي عاناها هو نفسه ويعانيها الناس الأتقياء في ذاك الحين. أو أنه كتب هذا المزمور وهو في السجن لذلك اتخذ هذه الصناعة اللفظية سبيلاً للتسلية ولا شك أن من يطالع هذا المزمور من أوله إلى آخره يجد فيه تصريحات من قلب معترف بالله رغم جميع الاضطهادات فكان له بذلك تعزية قدسية قوته لكي يتابع جهاده الشريف المشكور في سبيل الإيمان.
(١ - ٣) في هذه الأعداد كما في بقية هذه القطعة «ألف» يطوب المرنم جميع الذين يسلكون بموجب شريعة الرب ويرجو أن يكون هو نفسه واحداً منهم. وهو يبدأ بتطويبة تكاد تكون مزدوجة إذ تتكرر في العدد الثاني. يطوب الكاملين في طريقهم لأنهم يسلكون بموجب شريعة الرب هم الذين يحفطون شهادات الرب أي يخبرون جهراً عما فعله الرب معهم من العظائم. هم لا يستحقون قط من أن يزكوا شهاداتهم بالواقع وما جريات الأحوال. وأقوالهم تنطبق على ما في قلوبهم لأنهم قوم مؤمنون حقيقيون مخلصون في عقائدهم ويعتزون في إتمام شعائر دينهم بغير مواربة ولا رياء. بل هم عمليون يبتعدون عن الإثم فلا يقولون شيئاً لا يتممونه في حياتهم اليومية.
«٤ أَنْتَ أَوْصَيْتَ بِوَصَايَاكَ أَنْ تُحْفَظَ تَمَاماً. ٥ لَيْتَ طُرُقِي تُثَبَّتُ فِي حِفْظِ فَرَائِضِكَ. ٦ حِينَئِذٍ لاَ أَخْزَى إِذَا نَظَرْتُ إِلَى كُلِّ وَصَايَاكَ. ٧ أَحْمَدُكَ بِٱسْتِقَامَةِ قَلْبٍ عِنْدَ تَعَلُّمِي أَحْكَامَ عَدْلِكَ. ٨ وَصَايَاكَ أَحْفَظُ. لاَ تَتْرُكْنِي إِلَى ٱلْغَايَةِ».

- ب -


«٩ بِمَ يُزَكِّي ٱلشَّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ. ١٠ بِكُلِّ قَلْبِي طَلَبْتُكَ. لاَ تُضِلَّنِي عَنْ وَصَايَاكَ».
(٤ - ٨) في هذا العدد الرابع يخبرنا لماذا يجب على الإنسان المؤمن أن يتصرف هكذا فيقول لأن الرب قد أوصى بها لذلك يجب على الإنسان أن يحفظها. بل يتمنى بعد ذلك أن جميع طرقه تكون غير متزعزعة ولا متقلقلة لأن من يحفظ فرائض الرب تحفظه هذه بدورها. وعلى الإنسان الحكيم أن يرى الهدف أمامه واضحاً فإن هذا الحفظ هو لخير الإنسان وفلاحه. ويتأكد المرنم من حقيقة ماثلة أمام عينيه بأن انتصاره لا شك محقق لأنه ينظر إلى وصايا الرب ويحفظها. وهكذا يحمد الرب بقلب طاهر شريف ويرى في كل ما يجريه الرب أحكاماً عادلة ويرجو أخيراً في العدد الثامن أن يحفظ الوصايا وهكذا يعضده الرب ولا يتركه أبداً.

ب


(٩ - ١٠) يبدأ الآن الآيات التي تبتدئ بحرف الباء يصور لنا شاباً يريد أن يسلك باستقامة وأمانة وهكذا يسأل هذا السؤال الخطير الذي يضعه أمام كل شاب فيطلب التزكية والتطهير في حياته وسلوكه. وفي الوقت ذاته يضع السؤال بصورة مختصرة مؤثرة وهكذا يجيب بالطريقة ذاتها وبالسرعة ذاتها ويرى أن لباب الأمر هو أن يمشي بحسب كلام الله. ولأنه قد طلب الله بكل قلبه لذلك يرجو أن يهتدي إلى هذا الحق ولا يضل عن الوصايا يأمل مساعدة النعمة الإلهية على إتمام هذا الأمر ولا يشك قط أنه ينالها.
«١١ خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ. ١٢ مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا رَبُّ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. ١٣ بِشَفَتَيَّ حَسَبْتُ كُلَّ أَحْكَامِ فَمِكَ. ١٤ بِطَرِيقِ شَهَادَاتِكَ فَرِحْتُ كَمَا عَلَى كُلِّ ٱلْغِنَى. ١٥ بِوَصَايَاكَ أَلْهَجُ وَأُلاَحِظُ سُبُلَكَ. ١٦ بِفَرَائِضِكَ أَتَلَذَّذُ. لاَ أَنْسَى كَلاَمَكَ».
(١١ - ١٦) ويراجع نفسه في ما هي الوسيلة لهذه التزكية (راجع مزمور ٧٣: ١٣ وأمثال ٢٠: ٩) فيراها بأن يخبئ كلام الله في قلبه ويخزنه كشيء ثمين في حياته. ويرى في كلام الله قوة باطنة فعالة لا شيء خارجياً يظهر تأثيره قليلاً ثم يضمحل بل هو الدافع على تجنب الشر والمقوي لعمل الخير وإذ لم يكن كذلك فهو مظهر من مظاهر حب الذات والمباهاة وليس من التدين الحقيقي في شيء. ويردد قوله كلامك وفرائضك مرات كثيرة وهو يجتاز من التعبد إلى السؤال.
وفي العدد ١٣ يقول «حسبت» ولا يقصد بها أنه أخذ يعدد هذه الأحكام بمقدار أنه يذيعها وينشرها على الناس (راجع تثنية ٦: ٧). وهي أحكام من فم الرب لكي يزيدها قوة وتأثيراً. وهو يحسب أن شهادات الرب هي طريق يتوجب عليه سلوكها ولكنه واجب الفرح والسرور هو حمل ولكنه خفيف وهو واجب ولكنه يندفع من تلقاء ذاته في سبيل إتمامه. ويراه أنه مفضل على كل غنى الأرض لأنه سماوي روحي. بينما الأمور الأخرى هي مادية علوية. وهكذا فإنه يلهج بهذه الوصايا الإلهية ويهذبها في الأسحار ويحاول أن يتبين طريق الرب لكي يسير فيها بل يجد في تلك الفرائض لذة وغبطة ويحاول أن يذكرها فلا تغرب عن باله كما لا تفوت نظره. كثير الأحيان ما نضل الطريق لأننا لم نلاحظ كيف ندخل فيها وكيف نخرج منها. وعلى الذين يضعون أمامهم الذهاب أن يحسبوا حساب الإياب أيضاً لئلا يضيعوا في طريقهم ويكونوا بين القوم الخاسرين.

- ج -


«١٧ أَحْسِنْ إِلَى عَبْدِكَ فَأَحْيَا وَأَحْفَظَ أَمْرَكَ. ١٨ ٱكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ. ١٩ غَرِيبٌ أَنَا فِي ٱلأَرْضِ. لاَ تُخْفِ عَنِّي وَصَايَاكَ. ٢٠ ٱنْسَحَقَتْ نَفْسِي شَوْقاً إِلَى أَحْكَامِكَ فِي كُلِّ حِينٍ. ٢١ ٱنْتَهَرْتَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ٱلْمَلاَعِينَ ٱلضَّالِّينَ عَنْ وَصَايَاكَ. ٢٢ دَحْرِجْ عَنِّي ٱلْعَارَ وَٱلإِهَانَةَ لأَنِّي حَفِظْتُ شَهَادَاتِكَ. ٢٣ جَلَسَ أَيْضاً رُؤَسَاءُ تَقَاوَلُوا عَلَيَّ. أَمَّا عَبْدُكَ فَيُنَاجِي بِفَرَائِضِكَ. ٢٤ أَيْضاً شَهَادَاتُكَ هِيَ لَذَّتِي، أَهْلُ مَشُورَتِي».
(١٧ - ٢٢) في كل هذه الأعداد أيضاً نجد أنها تبدأ بحرف الجيم. وأما الموضوع الذي تدور حوله فهو غاية الحياة فهو يريد أن يحيا الحياة الطاهرة المقدسة ويبتعد عن طرق المرتدين الذين فقدوا إيمانهم ويطلب أول كل شيء أن يعطي البصر حتى يرى عجائب الله. قد يكون أنه احتمل الاضطهاد وحاول بعض الناس أن يجعله يضع غشاء على عينيه حتى لا يرى حقائق الأمور. ومما زاد في بليته أنه يرى ذاته وحيداً فريداً كأنه غريب بين أهله ولم تعد الأرض تخصه وفي الحالة السيئة هذه يريد أن يرفع الله وصاياه أمامه حتى لا تختفي عن عينيه فيما بعد. وقد ظهر أمام عينيه قط أن أحكام الله قد توارت من الأرض وساد الأشرار والمضطهدون ولذلك يجد نفسه منسحقاً ولكنه يعود فيرجو الله أن ينتهر المتكبرين الذين أساءوا إليه وأهانوه ورذلوه. مع أنهم هم الذين قد ضلوا عن وصايا الله وجزاؤهم أن يرذلوا تماماً. وكانت النتيجة المعكوسة عليه أن أصبح عاراً عند الناس لا سيما وسبب هذا العار هو أنه حفظ الشهادات وأداها إلى النهاية. وقوله «دحرج» كإنما صخرة يجب أن تزول.
(٢٣ - ٢٤) ومما يزيد في آلامه أن هذه المعاملة السيئة لم تصدر من قوم بسطاء غير فاهمين ولا هم من عامة الشعب غير المسؤولين بل هم الذين قد قادوا الشعب وتسلطوا عليه. هؤلاء هم الذين أظهروا عداوتهم ولكن كان تأثيرهم عليه معكوساً إذ ازداد في مناجاته بفرائض الله. وهام ملتذاً بتلك الشهادات التي أداها علناً وكإنما أصبحت له سبب مشورة صالحة يهتدي بها في أعماله القادمة.

- د -


«٢٥ لَصِقَتْ بِٱلتُّرَابِ نَفْسِي، فَأَحْيِنِي حَسَبَ كَلِمَتِكَ. ٢٦ قَدْ صَرَّحْتُ بِطُرُقِي فَٱسْتَجَبْتَ لِي. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. ٢٧ طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ. ٢٨ قَطَرَتْ نَفْسِي مِنَ ٱلْحُزْنِ. أَقِمْنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ. ٢٩ طَرِيقَ ٱلْكَذِبِ أَبْعِدْ عَنِّي، وَبِشَرِيعَتِكَ ٱرْحَمْنِي. ٣٠ ٱخْتَرْتُ طَرِيقَ ٱلْحَقِّ. جَعَلْتُ أَحْكَامَكَ قُدَّامِي. ٣١ لَصِقْتُ بِشَهَادَاتِكَ. يَا رَبُّ لاَ تُخْزِنِي. ٣٢ فِي طَرِيقِ وَصَايَاكَ أَجْرِي لأَنَّكَ تُرَحِّبُ قَلْبِي».
(٢٥ - ٢٨) يبدأ الآن بحرف الدال وهنا أيضاً ثمانية أعداد كسابقاتها. هو الآن في ضيقة عظيمة حتى لم يستطع النهوض فهو مرتم في التراب ولا يرى له رجاء إلا بكلام الله ذلك المعزي المطيّب للخواطر الذي يمنح حياة (راجع مزمور ٤٤: ٢٦) ولكن رجاءه قوي متين (راجع مزمور ٧١: ٢٠ و٨٥: ٧) وقوله «صرّحت بطرقي» أي أنه أخبر الرب بكل مكنونات قلبه فهو لا يخفي شيئاً عنه. وهو إله يستجيب الدعاء ويعلّم الإنسان ماذا يجب عليه أن يفعل. ولأنه كان وطيد الإيمان فإن الله قد استجاب له وتكلم معه وأفهمه السبيل الذي يجب أن يمشي فيه. هو يطلب فهماً فإن بعض الأمور قد مرّت وهو لم يكن ينتظرها هكذا ولكنه بعد أن يفهم عليه أن يحدث بما فعله الله نحوه. وحينئذ حتى الحزن العميق الذي أصابه سينهض منه ويقف على رجليه قوياً نشيطاً بعد.
(٢٩ - ٣٢) يؤلمه أن يرى طرق الكذب والخداع تسود بين الناس ولكنه يعود إلى الله كما في (العدد ٢٥) طالباً النهوض والحياة الكريمة. ولا يجد سبيلاً لذلك إلا بشريعة الرب واتباع وصاياه. ويعتز بأن يجاهر بأنه يحب الحق ويريد أن يسلك طريقه لذلك قد وضع أحكام الرب التي هي حق كلها نصب عينيه لئلا يضل في أي الأشياء. ويعاهد نفسه بأن يلتصق بشريعة الرب وبشهاداته بدلاً من أن يلصق بالتراب فهي وحدها التي يستطيع أن يثبت حياته عليها ويظل سعيداً كريماً. وحينئذ فهو يسرع جرياً ولا يسلك سلوكاً فقط باتباع الوصايا ويرى أن قلبه قد أصبح كبيراً واسعاً على نسبة هذه الأفكار النبيلة المقدسة.

- هـ -


«٣٣ عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَ فَرَائِضِكَ فَأَحْفَظَهَا إِلَى ٱلنِّهَايَةِ. ٣٤ فَهِّمْنِي فَأُلاَحِظَ شَرِيعَتَكَ وَأَحْفَظَهَا بِكُلِّ قَلْبِي. ٣٥ دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ لأَنِّي بِهِ سُرِرْتُ. ٣٦ أَمِلْ قَلْبِي إِلَى شَهَادَاتِكَ لاَ إِلَى ٱلْمَكْسَبِ. ٣٧ حَوِّلْ عَيْنَيَّ عَنِ ٱلنَّظَرِ إِلَى ٱلْبَاطِلِ. فِي طَرِيقِكَ أَحْيِنِي. ٣٨ أَقِمْ لِعَبْدِكَ قَوْلَكَ ٱلَّذِي لِمُتَّقِيكَ. ٣٩ أَزِلْ عَارِي ٱلَّذِي حَذِرْتُ مِنْهُ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ طَيِّبَةٌ. ٤٠ هَئَنَذَا قَدِ ٱشْتَهَيْتُ وَصَايَاكَ. بِعَدْلِكَ أَحْيِنِي».
(٣٣ - ٣٧) نأتي الآن إلى حرف الهاء وهو يتابع صلاته لكي يمنحه الله قوة ونعمة حتى لا ينخدع بمظاهر الغرور الذاتي ولا يتحول عن طريقه في منعطفات أخرى تشرد به بعيداً. يطلب أن يتعلم طريق الفرائض وأن يفهم ويلاحظ الشريعة وأن يتدرب في إتمام الوصايا وهكذا يميل قلبه بجملته إلى الشهادة باسم الرب وتتحول عينه عن أي باطل ولا يرى أمامه سوى الحق. كلها مطالب شريفة يحدوها شوق للأفضل الذي اختبره في الماضي ولا يريد أن ينساه الآن. من مميزات هذا الناظم أنه يسرع في استنتاجه فلا يقول عبارة مختصرة حتى يخبرنا ما هي نتائجها له أولاً ولحياة الآخرين أيضاً.
(٣٨ - ٤٠) يذكر الآن أن للرب مواعيد معه بالنسبة لأنه يحسب نفسه أنه يتقي الرب لذلك يطالب بأن تتمم معه كما كانت تتمم مع أولئك الأقدمين. يحسب أنه كان في عار ويتمنى أن يزول. أو أنه يخشى أن يكون في عار نكران الله بدلاً من الاعتراف به وإذاعة حمده وشكره. ويمكن ترجمة العدد ٣٩ أزل عاري الذي حذرت منه بقولنا أزل عاري الذي اختشيه أو أخافه. ويرى أن أحكام الرب طيبة صالحة لا ظلم فيها البتة لذلك يأمل أن يذهب عنه خطر السقوط في الارتداد الذي يسبب له أعظم العار والمذلة. لا يكتم نفسه أنه قد اشتهى وصايا الرب لأن بها تنجيته وسلامه. ولا يرى حياة إلا بأن يجري الله عدله بين الناس حينئذ سيعلم الظالمين أنهم سينالون جزاء ما اقترفته أيديهم.

- و -


«٤١ لِتَأْتِنِي رَحْمَتُكَ يَا رَبُّ، خَلاَصُكَ حَسَبَ قَوْلِكَ، ٤٢ فَأُجَاوِبَ مُعَيِّرِي كَلِمَةً، لأَنِّي ٱتَّكَلْتُ عَلَى كَلاَمِكَ. ٤٣ وَلاَ تَنْزِعْ مِنْ فَمِي كَلاَمَ ٱلْحَقِّ كُلَّ ٱلنَّزْعِ، لأَنِّي ٱنْتَظَرْتُ أَحْكَامَكَ. ٤٤ فَأَحْفَظَ شَرِيعَتَكَ دَائِماً إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ، ٤٥ وَأَتَمَشَّى فِي رُحْبٍ لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ، ٤٦ وَأَتَكَلَّمُ بِشَهَادَاتِكَ قُدَّامَ مُلُوكٍ وَلاَ أَخْزَى، ٤٧ وَأَتَلَذَّذُ بِوَصَايَاكَ ٱلَّتِي أَحْبَبْتُ، ٤٨ وَأَرْفَعُ يَدَيَّ إِلَى وَصَايَاكَ ٱلَّتِي وَدِدْتُ وَأُنَاجِي بِفَرَائِضِكَ».
(٤١ - ٤٨) هوذا أمامنا الآن حرف الواو وهذه القطعة أيضاً هي ذات ثمانية أعداد كالمعتاد. يتابع صلاته أيضاً لكي يمنحه الله أن يعترف بالحق غير هيّاب ولا وجل. يطلب من الرب رحمته حتى يستطيع أن يجيب من يعيّره ويحقره. هو اتكل على الرب ولذلك فلن يخزى ولن يسكت أمام هؤلاء الأعداء الذين يسيئون فهم سكوته. وهو يرجو أن يتكلم الكلام فلا يسكت. يريد أن يحفظ الشريعة لئلا ينسى. إذا لم يتكلم فإنه يخشى أن يحسبه الأعداء عيباً عن الكلام وهكذا يزدادون في تحقيره وامتهانه وبالتالي يتمادون في غوايتهم وشرهم أكثر كثيراً من الماضي. يتمنى أن يتمشى في رحب أي في سعة وبحبوحة من أمره فلا يبقى محبوساً عن الكلام إما بالضغظ أو بالإكراه. يريد فقط الحرية لكي يعبر عن محبته لله ويشهد أمام الناس جميعاً بما فعله الله نحوه من العظائم. يريد أن يشهد بالأخص أمام أولئك العظماء المستبدين وقدام الملوك الذين لم يثبتوا على الإيمان ويرجو أن لا يخزى بشهاداته بل يثبت على الدوام. بل يطلب أكثر من ذلك أن يلتذوا بها مثله ويتمشوا بموجبها. واتخذ مؤتمر اغسبرج الإنجيلي شعاره هذا العدد ٤٦ «وَأَتَكَلَّمُ بِشَهَادَاتِكَ قُدَّامَ مُلُوكٍ وَلاَ أَخْزَى». وأما العدد ٤٨ فقوله «ارفع يديّ» فيفيد التعبير عن اشتهاء شديد ملح يتملك عواطفه القلبية ويتغلب على مشاعره. فهو يريد أن يتذكر الوصايا الغالية ولا ينسى الفرائض بل يناجي نفسه بها على مدى الحياة.

- ز -


«٤٩ اُذْكُرْ لِعَبْدِكَ ٱلْقَوْلَ ٱلَّذِي جَعَلْتَنِي أَنْتَظِرُهُ. ٥٠ هٰذِهِ هِيَ تَعْزِيَتِي فِي مَذَلَّتِي، لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي. ٥١ ٱلْمُتَكَبِّرُونَ ٱسْتَهْزَأُوا بِي إِلَى ٱلْغَايَةِ. عَنْ شَرِيعَتِكَ لَمْ أَمِلْ. ٥٢ تَذَكَّرْتُ أَحْكَامَكَ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ يَا رَبُّ فَتَعَزَّيْتُ. ٥٣ ٱلْحَمِيَّةُ أَخَذَتْنِي بِسَبَبِ ٱلأَشْرَارِ تَارِكِي شَرِيعَتِكَ. ٥٤ تَرْنِيمَاتٍ صَارَتْ لِي فَرَائِضُكَ فِي بَيْتِ غُرْبَتِي. ٥٥ ذَكَرْتُ فِي ٱللَّيْلِ ٱسْمَكَ يَا رَبُّ وَحَفِظْتُ شَرِيعَتَكَ. ٥٦ هٰذَا صَارَ لِي لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ».
(٤٩ - ٥٢) يأتي الآن إلى مقطع الزاي المثمن ويذكر أولاً أن كلمة الله هي رجاؤه وتعزيته في وسط متاعبه وآلامه الكثيرة لأن أولئك المرتدين لم يتركوه وشأنه بل عذبوه ومرروا حياته والآن يتمنى أن يتحقق وعد الله معه إلى التمام ذاك الذي انتظره طويلاً. وما هذا القول الذي قاله له الرب يا ترى؟ (راجع مزمور ٩٨: ٣ و١٠٦: ٤٥). هو ينتظر هذا القول مهما كان شأنه (راجع تكوين ٤١: ٥١). لقد كان له مجال للنهضة والانتعاش فإن أولئك الناس كانوا مستهزئين يتكبرون عليه ويسخرون به إلى أبعد الحدود ولكنه ثبت في شريعة الرب وتذكر الأحكام فتعزى.
(٥٣ - ٥٦) هو لا يخفي حمو غضبه على أولئك الأشرار الذين تركوا شريعة الرب وأهملوها ظهرياً. هو غيور للرب ولا يستطيع أن يكون حيادياً ولا أن يتساهل معهم فيما يحسبه جوهرياً في الحياة الروحية. ولكنه يعود إلى نفسه فيعتز بفرائض الرب ويحسبها ترنيمات مفرحة يترنم بها لكي ينسى همومه وأحزانه ويفرح بالرب. وأما «بيت غربته» فإنما هي هذه الحياة الدنيا التي يراها تمضي سريعاً حتى يحسب نفسه غريباً في الأرض (راجع مزمور ١١٥: ١٦). وأيضاً قابله مع (١أخبار ٢٩: ١٥) وهنا يجد فرقاً عن بيته الأبدي (راجع جامعة ٢: ٥) وكان اسم الرب له في الليل كما كان في النهار فهو يلتذ بأن يذكره على الدوام. هذا الذي صار معه ويقابله مع الآخرين الذين لم يصر معهم شيء من ذلك. فقد حفظ الوصايا وجعلها أمامه ليذكرها دائماً ويحيا بموجبها وتكون له سبب نعمة بدل اللعنة وسبب حياة حقيقية بدلاً من الموت الأبدي.

- ح -


«٥٧ نَصِيبِي ٱلرَّبُّ قُلْتُ، لِحِفْظِ كَلاَمِكَ. ٥٨ تَرَضَّيْتُ وَجْهَكَ بِكُلِّ قَلْبِي. ٱرْحَمْنِي حَسَبَ قَوْلِكَ. ٥٩ تَفَكَّرْتُ فِي طُرُقِي وَرَدَدْتُ قَدَمَيَّ إِلَى شَهَادَاتِكَ. ٦٠ أَسْرَعْتُ وَلَمْ أَتَوَانَ لِحِفْظِ وَصَايَاكَ. ٦١ حِبَالُ ٱلأَشْرَارِ ٱلْتَفَّتْ عَلَيَّ. أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. ٦٢ فِي مُنْتَصَفِ ٱللَّيْلِ أَقُومُ لأَحْمَدَكَ عَلَى أَحْكَامِ بِرِّكَ. ٦٣ رَفِيقٌ أَنَا لِكُلِّ ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَكَ وَلِحَافِظِي وَصَايَاكَ. ٦٤ رَحْمَتُكَ يَا رَبُّ قَدْ مَلأَتِ ٱلأَرْضَ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ».
(٥٧ - ٦٤) يبدأ الآن بحرف آخر ويرى أن أعظم الغنى هو بأن يفهم كلمة الله ويطبقها على حياته اليومية ويجعل منها واسطة وسبيلاً لاسترضاء الله تعالى. بل يرى في كلمة الله أعظم نعمة وأشرف بركة للإنسان المؤمن. إن الرب نصيب المؤمن أي حصته وعونه ولكن على شرط أن يحفظ كلامه. بل هو يرى أن يهتدي إلى الطريق المستقيم ولا سبيل إلى ذلك إلا بتلك الاختبارات القيمة والشهادات الحسية من ماجريات الأحوال المنطبقة على كلام الله. لم يكن مبطئاً في انصرافه هذا بل أسرع لحفظ الوصايا لأنها تحفظه من الزلل والسقوط. وهو يرى أيضاً أن الأشرار في غوايتهم للناس كإنما لديهم حبال يريدون أن يعوقوا الآخرين فيها ولا شيء يحفظ هؤلاء سوى التمشي حسب الشريعة الإلهية كما قال السيد المسيح «تعرفون الحق والحق يحرركم».
ولأنه شكور لله بهذا المقدار فلا يفوته أن ينهض أحياناً ولو في نصف الليل لكي يتفكر ببر الرب ويحمده عليه. فهو لا يريد أن ينسى الإحسانات المتعددة وتذكره هذا يجعله أن يضعها أمامه في الليالي. ثم حينما ينهض ولا ينسى أن يرافق أولئك الأفاضل الذين يتقون الرب لأنه يفرح بمعاشرتهم ويلتذ بمخاطبتهم فيفيدهم ويستفيد منهم (راجع أمثال ٣٨: ٢٤). ثم هو بالاشتراك مع أولئك المتقين يرى آثار الرحمة الإلهية مالئة الأرض. وبكل تواضع يلتمس كأنه تلميذ جديد - أن يتعلم فرائض الرب لكي يتمم الوصايا بحذافيرها.

- ط -


«٦٥ خَيْراً صَنَعْتَ مَعَ عَبْدِكَ يَا رَبُّ حَسَبَ كَلاَمِكَ. ٦٦ ذَوْقاً صَالِحاً وَمَعْرِفَةً عَلِّمْنِي لأَنِّي بِوَصَايَاكَ آمَنْتُ. ٦٧ قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا ٱلآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ. ٦٨ صَالِحٌ أَنْتَ وَمُحْسِنٌ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. ٦٩ ٱلْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ لَفَّقُوا عَلَيَّ كَذِباً، أَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ قَلْبِي أَحْفَظُ وَصَايَاكَ. ٧٠ سَمِنَ مِثْلَ ٱلشَّحْمِ قَلْبُهُمْ، أَمَّا أَنَا فَبِشَرِيعَتِكَ أَتَلَذَّذُ. ٧١ خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ. ٧٢ شَرِيعَةُ فَمِكَ خَيْرٌ لِي مِنْ أُلُوفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ».
(٦٥ - ٧٢) ينتقل الآن إلى حرف الطاء ويرى المرنم أن كلمة الله الصالحة هي أصل لكل صلاح. فقد صنع الخير لأنه تعلمه من الله ذاته الذي هو أصل لكل خير. ويستعمل كلمة «عبدك» للدلالة على تلك العلاقة بين الله ومتقيه (راجع مزمور ٣٥: ١٩ و٤٨: ١١ وأمثال ٣٠: ٢١). وفوق ذلك يريد أن يكون له الذوق الصالح الذي يجعله يحس بالفضل ويكرم الفضلاء ويميز بين غث الأمور وسمينها. وهو لا يكتم حالته من قبل فهو يعترف أنه قد ضل السبيل ولكنه قد تذلل الآن أمام الرب تائباً طالباً العفو والغفران وقد وجد العون ونال الإسعاف حينما تأكد أن الله صالح محسن. ثم يلتفت إلى الماضي ولا يسعه إلا أن يذكر بمرارة ما اختبره من الكذب والاحتيال ولكنها أشياء مضت فيعود للحاضر بالشكر والحمد ولا يرى أفضل من حفظ الوصايا أما أولئك الأشرار فيظهرون أمام الناس بخير وتوفيق مع أن لذتهم هي في أمور الدنيا وأوهامها بينما هو لا يلتذ إلا بالشريعة يتفكر بها ويهذّ بها في الأسحار. ويحمد الله مرة أخرى لما تذلّله في الماضي فقد تعلم بواسطة ذلك وتقدم وترقى وحينما يقابل نفسه بأولئك الذين ذكرهم يرى أن أولئك لهم المال من ألوف الذهب والفضة في مال الدنيا ولكنه غني بما هو للروح. فهو يعترف أن المصائب كانت مدرسته وإن المتاعب كانت دروسه التي تعلمها ولكنه فرحان بما حصل عليه ويشكر الله أنه ليس مثل القوم الجاهلين المعتمدين على غناهم.

- ي -


«٧٣ يَدَاكَ صَنَعَتَانِي وَأَنْشَأَتَانِي. فَهِّمْنِي فَأَتَعَلَّمَ وَصَايَاكَ. ٧٤ مُتَّقُوكَ يَرَوْنَنِي فَيَفْرَحُونَ لأَنِّي ٱنْتَظَرْتُ كَلاَمَكَ. ٧٥ قَدْ عَلِمْتُ يَا رَبُّ أَنَّ أَحْكَامَكَ عَدْلٌ، وَبِالْحَقِّ أَذْلَلْتَنِي. ٧٦ فَلْتَصِرْ رَحْمَتُكَ لِتَعْزِيَتِي حَسَبَ قَوْلِكَ لِعَبْدِكَ. ٧٧ لِتَأْتِنِي مَرَاحِمُكَ فَأَحْيَا لأَنَّ شَرِيعَتَكَ هِيَ لَذَّتِي. ٧٨ لِيَخْزَ ٱلْمُتَكَبِّرُونَ لأَنَّهُمْ زُوراً ٱفْتَرُوا عَلَيَّ. أَمَّا أَنَا فَأُنَاجِي بِوَصَايَاكَ. ٧٩ لِيَرْجِعْ إِلَيَّ مُتَّقُوكَ وَعَارِفُو شَهَادَاتِكَ. ٨٠ لِيَكُنْ قَلْبِي كَامِلاً فِي فَرَائِضِكَ لِكَيْ لاَ أَخْزَى».
نأتي الآن إلى مجموعة حرف الياء وهي من الأعداد (٧٣ - ٨٠) ويرى المرنم أن الله يذل ولكنه يعود فيرفع بحسب كلمته الإلهية. ذلك لأن الله هو الذي صنعه من العدم هو الذي علمه وخلصه من الجهل وهكذا سيجعله مثالاً للمتقين يرون ما حل به فيفرحون كما أن الأعداء الأشرار يرون فيرتبكون. وليس من المعقول قط أن الله يترك الإنسان الذي صنعه بيديه ولا يجعله سعيداً مكتفياً. والمرنم يتأكد أن ما أصابه في الماضي كان يستحقه يقيناً وجميع تلك الأحكام كانت صادقة وعادلة ولا يجوز له أن يطلب أي إنصاف أكثر. ولكنه يلتفت إلى رحمة الرب (في العدد ٧٦) ويطلب النجدة بها. ويرى أيضاً في العدد بعده أن هذه المراحم هي سبب حياته وبدونها فهو مقضى عليه بالموت. بل هو يرى أكثر من ذلك فيجد لذة عظيمة في هذه الشريعة والسبب لأنه يتكل على مواعيد الرب ويثق بأن جميع أقواله هي صادقة أمينة.
ويلتفت (في العدد ٧٨) إلى أولئك المتكبرين الذين هزأوا به من قبل واتهموه بأمور كثيرة زوراً وبهتاناً بل افتروا عليه افتراء وحاولوا النيل منه بكل الوسائل الممكنة وهو لم يهتم بهم ولم يصغ لأقوالهم بل يناجي بوصايا الرب. وإذا كان يأسف فأسفه لأولئك الأتقياء الذين تركوه في محنته ولم يعضدوه وهو الآن يرجو أن يعودوا وينصروه لأنهم يعرفون الشيء الكثير من الاختبارات القيمة. ثم يرجو في العدد ٨٠ أن يكون قلبه كاملاً في أي حال من الأحوال وبقطع النظر عما يصادفه من الصعاب حتى لا يخزى في شيء بل يظل بين الفائزين.

- ك -


«٨١ تَاقَتْ نَفْسِي إِلَى خَلاَصِكَ. كَلاَمَكَ ٱنْتَظَرْتُ. ٨٢ كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنَ ٱلنَّظَرِ إِلَى قَوْلِكَ، فَأَقُولُ: مَتَى تُعَزِّينِي؟ ٨٣ لأَنِّي قَدْ صِرْتُ كَزِقٍّ فِي ٱلدُّخَانِ. أَمَّا فَرَائِضُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. ٨٤ كَمْ هِيَ أَيَّامُ عَبْدِكَ؟ مَتَى تُجْرِي حُكْماً عَلَى مُضْطَهِدِيَّ؟ ٨٥ ٱلْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ كَرُوا لِي حَفَائِرَ. ذٰلِكَ لَيْسَ حَسَبَ شَرِيعَتِكَ. ٨٦ كُلُّ وَصَايَاكَ أَمَانَةٌ. زُوراً يَضْطَهِدُونَنِي. أَعِنِّي. ٨٧ لَوْلاَ قَلِيلٌ لأَفْنُونِي مِنَ ٱلأَرْضِ. أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَتْرُكْ وَصَايَاكَ. ٨٨ حَسَبَ رَحْمَتِكَ أَحْيِنِي فَأَحْفَظَ شَهَادَاتِ فَمِكَ».
أما مجموعة الكاف وهي (الأعداد ٨١ - ٨٨) فتعرب عن تعلق قلبه بوصايا الرب التي بواسطتها له الخلاص. ويصور شدة شوقه بأن عينيه قد كلتا من النظر إلى كلام الرب ومطالعة أقواله وكذلك فإن نفسه قد تعبت من مصادفة أمور لم تتوقعها (انظر مزمور ٦٩: ٤ و٨٤: ٣ وقابلها مع أيوب ١٩: ٢٩). أما قوله في (العدد ٨٣) «كزق في الدخان» أي أنه مملوء بالكمد والسواد من شدة ما أصابه. وقد اعتاد الإنسان من قديم الأزمنة أن يستعجل اختمار عصير العنب بأن يضعه قرب النار. فيقول ومع أن حالتي سيئة على هذه الصورة ولكن الفرائض المتوجبة عليه فيتممها بحذافيرها بقطع النظر عما يصيبه من ويلات ونكبات. وقوله في (العدد ٨٤) كم هي أيام عبدك؟ تفيد التعجب أي ما أقل أيام عبدك لذلك هو يلتمس أن يجري الله حكمه على أولئك المضطهدين قبل موته وفوات الآوان فلا يرى بمضطهديه. أولئك المتكبرون الذين ظهرت نواياهم السيئة بأن حاولوا أن يحفروا له حفائر مما لا ينطبق على شريعة الرب. ولكن شتان بين ما يفعله هو وما يفعلونه هم. فهو لأنه يتمشى بحسب شريعة الرب التي تفرض الأمانة فهم يعيشون بالزور وعدم الأمانة. لقد حاول هؤلاء من قبل أن يقضوا عليه قضاء تاماً ولكنه لم يتحول عن قصده الذي وضعه أمامه. وهكذا يلتمس رحمة من الرب بعد لكي تكون له حياة ولا يجد سبيلاً أضمن لإتيان هذه الرحمة عليه سوى حفظ الشهادات الخارجة من فم الرب.

- ل -


«٨٩ إِلَى ٱلأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. ٩٠ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ أَمَانَتُكَ. أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ فَثَبَتَتْ. ٩١ عَلَى أَحْكَامِكَ ثَبَتَتِ ٱلْيَوْمَ لأَنَّ ٱلْكُلَّ عَبِيدُكَ. ٩٢ لَوْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُكَ لَذَّتِي لَهَلَكْتُ حِينَئِذٍ فِي مَذَلَّتِي. ٩٣ إِلَى ٱلدَّهْرِ لاَ أَنْسَى وَصَايَاكَ لأَنَّكَ بِهَا أَحْيَيْتَنِي. ٩٤ لَكَ أَنَا فَخَلِّصْنِي لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ. ٩٥ إِيَّايَ ٱنْتَظَرَ ٱلأَشْرَارُ لِيُهْلِكُونِي. بِشَهَادَاتِكَ أَفْطَنُ. ٩٦ لِكُلِّ كَمَالٍ رَأَيْتُ حَدّاً، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدّاً».
ننتقل الآن إلى مجموعة أخرى من هذه المجموعات القيمة وهي من (الاعداد ٨٩ - ٩٦). فيمجّد الآن كلمة الرب بصورة جذابة ويراها ثابتة منذ الأبد هي هي لأنها في السموات هكذا ولأنها هكذا فالمؤمن يلتصق بها ويتعزى بواسطتها عن النكبات التي صادفها جميعها. ولأنها شرائع سماوية فهي تحوي صفات السماء ولا سيما الثبوت وعدم التغير. هوذا الشمس والقمر والنجوم تبقى راسخة في أماكنها. وقوله في العدد ٩١ «الكل عبيدك» أي كل هذه المخلوقات التي تخضع لأمر الرب وتتمم خدمته (راجع العدد ٣٥: ١٢ ويشوع ٢٠: ٦ وحزقيال ٤٤: ٢٤). وحينما يراجع المرنم تلك الأوقات العصيبة التي مرت به يجد أن هذه الشريعة الإلهية التي حفظها عن لذة وسار بموجبها بخضوع وتسليم ولولاها لهلك ذلاً ومسكنة. وهو الآن لا ينسى هذه الوصايا لأنها كانت سبب حياته. ويخصص نفسه لله لأنه يسمع الوصايا ويحفظها بل يتمشى بموجبها ويتبعها. أما أولئك الأشرار الذين قصدوا هلاكه والقضاء عليه نهائياً فلم يقدروا عليه لأن حجته في الحق كانت أقوى من حجتهم في الباطل وكان يفطن بشهادات الرب فيجيب بالصواب. على كل افتراءاتهم. لقد انتظره الأشرار أي كمنوا له في الطريق محاولين أن يفتكروا به ولكنهم خسئوا جميعاً لأن قوة الله أعظم من قوتهم ولأن شهادات الله هي أسمى من كل محاولاتهم لذلك فهم سيبؤون بالفشل والخذلان. ويختم هذ المجموعة بأن يمجد مرة أخرى هذه الكلمة الإلهية ويراها أعظم من أن تحد بينما كل كمال بشري قد يبلغه الإنسان أي هذا من كمال كلمة الله.

- م -


«٩٧ كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي. ٩٨ وَصِيَّتُكَ جَعَلَتْنِي أَحْكَمَ مِنْ أَعْدَائِي لأَنَّهَا إِلَى ٱلدَّهْرِ هِيَ لِي. ٩٩ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ، لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي. ١٠٠ أَكْثَرَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ فَطِنْتُ لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ. ١٠١ مِنْ كُلِّ طَرِيقِ شَرٍّ مَنَعْتُ رِجْلَيَّ لِكَيْ أَحْفَظَ كَلاَمَكَ. ١٠٢ عَنْ أَحْكَامِكَ لَمْ أَمِلْ لأَنَّكَ أَنْتَ عَلَّمْتَنِي. ١٠٣ مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ ٱلْعَسَلِ لِفَمِي. ١٠٤ مِنْ وَصَايَاكَ أَتَفَطَّنُ، لِذٰلِكَ أَبْغَضْتُ كُلَّ طَرِيقِ كَذِبٍ».
(٩٧ - ١٠٤) هذه مجموعة الميم وفيها يظهر المرنم قيمة الحكمة العملية التي تجعلها كلمة الرب وشريعته. فهو لأنه أحب الشريعة ولهج بها وعرف الوصايا وتممها لذلك يجد نفسه حكيماً بل أحكم من أولئك الأعداء الذين لا يعرفون سوى الخبث والمكر. هم حكماء فيما للعالم ولكنها هي الجهالة في عيني الرب وشتان بين حكمة الله وحكمة العالم. ويرى المرنم أنه يفوق حتى معلميه الذين درسوا الناموس على أيديهم لأنه ثابر على الدرس وطبق الوصايا وثابر على اللهج بالشهادات الإلهية حتى بلغ حد الكمال (راجع تثنية ٤: ٦ كذلك راجع ايوب ١٢: ٢٠). ويظهر أنه كان في ذاك الحين بعض مدعي المعرفة ولقبوا أنفسهم بالحكماء ولكن المرنم يرى أن لا حكمة إلا تلك المقترنة بشريعة الله والمنطبقة على وصاياه. فقد رأى في أولئك المعلمين فتوراً في الأمور الدينية والآداب مما جعله ينفر منهم حتى الشيوخ أنفسهم قد فاتهم أمور كثيرة ولم يفطنوا لأسمى الأشياء وهو معرفة الحق الإلهي والتمييز بين الخير والشر (راجع يوئيل ١: ٢٠ وكذلك إشعياء ٥٩: ١٢). وهو يرى أن أحكام الرب هي التي تحفظه وتقيه وعليه أن لا يميل عنها يمنة ولا يسرة ويجد الرب ذاته هو معلمه الأول والأخير. وهكذا يجد كلام الرب حلواً في الحنك ولذيذاً في الفم لأنه به يتعزى ويعزي وبواسطته يتقوى ويقوّي الآخرين. بل به يجد الموعظة ويحفظ الذكرى لئلا ينسى. وهكذا يضع الوصايا أمامه ولأنها صادقة وأمينة لذلك قد رأى من الحكمة أن يبغض كل طريق كذب ويبعد عنه بعداً تاماً.

- ن -


«١٠٥ سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي. ١٠٦ حَلَفْتُ فَأَبِرُّهُ أَنْ أَحْفَظَ أَحْكَامَ بِرِّكَ. ١٠٧ تَذَلَّلْتُ إِلَى ٱلْغَايَةِ. يَا رَبُّ أَحْيِنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ. ١٠٨ ٱرْتَضِ بِمَنْدُوبَاتِ فَمِي يَا رَبُّ، وَأَحْكَامَكَ عَلِّمْنِي. ١٠٩ نَفْسِي دَائِماً فِي كَفِّي، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. ١١٠ ٱلأَشْرَارُ وَضَعُوا لِي فَخّاً، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَضِلَّ عَنْهَا. ١١١ وَرَثْتُ شَهَادَاتِكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ لأَنَّهَا هِيَ بَهْجَةُ قَلْبِي. ١١٢ عَطَفْتُ قَلْبِي لأَصْنَعَ فَرَائِضَكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ إِلَى ٱلنِّهَايَةِ».
هذه مجموعة النون المثمنة أيضاً في الأعداد (١٠٥ - ١١٢). ولأنه عرف أن سبيل الوصايا هو وحده الذي يوصل للخير ويبعده عن الشر حتى يبغض الكذب وجميع أساليبه. لذلك هو الآن يرى في كلام الرب سراجاً ونوراً فلا تزلق الرجل ولا تعثر بل تمشي في طريق مستقيم آمنة مطمئنة. لقد رأى من قبل طريق المنافقين إنها مظلمة تقود للتهلكة والدمار وهكذا قد حلف لنفسه من قبل وما عليه الآن إلا أن يكون باراً مخلصاً في عهوده السابقة. لقد كفاه ما مر به في الماضي وما ناله من ذل وهو الآن يطلب حياة ولا يجدها إلا بكلام الرب المعزي المحيي. في العدد ١٠٨ يذكر «مندوبات» فمه أي تلك الكلمات الخارجة من فمه دون كلفة أو تصنع. فهو يتكلم بكلام الله عفواً ومن كل قلبه فلا يقول شيئاً لا يعنيه لأنه يطلب أن يتعلم أحكام الرب. وفي العدد ١٠٩ يجد نفسه في كفه أي أنه في حالة الخطر المستمر وهو يعرف ذلك أما الشريعة الإلهية فلا يمكن أن ينساها. لقد كان له اختبارات مرة مع أولئك الأشرار الذين وضعوا الفخاخ في طريقه ليسقطوه فيها. ربما تعثر في سبيله بعض الأحيان ولكنه لم يتعثر في الوصايا ولم يضل السبيل (راجع قضاة ١٢: ٣ و١صموئيل ١٩: ٥ و٢٨: ٢١ وأيوب ١٣: ١٤). هو يظهر استعداده للمخاطرة من أجل كلمة الله تلك التي ورثها عن الآباء والأجداد غالية على قلبه فلا يمكنه أن يستخف بها قط. لا سيما وقد كان له اختبارات شخصية ولذة روحية وهكذا تحرك قلبه لصنع الفرائض فهو يفعل ذلك عن يقين وليس لمجرد مرضاة الناس وهو يفعله باستمرار لا حسب الأهواء والنزعات فهو ثابت العقيدة إلى الدهر.

- س -


«١١٣ ٱلْمُتَقَلِّبِينَ أَبْغَضْتُ، وَشَرِيعَتَكَ أَحْبَبْتُ. ١١٤ سِتْرِي وَمِجَنِّي أَنْتَ. كَلاَمَكَ ٱنْتَظَرْتُ. ١١٥ ٱنْصَرِفُوا عَنِّي أَيُّهَا ٱلأَشْرَارُ فَأَحْفَظَ وَصَايَا إِلٰهِي. ١١٦ ٱعْضُدْنِي حَسَبَ قَوْلِكَ فَأَحْيَا، وَلاَ تُخْزِنِي مِنْ رَجَائِي. ١١٧ أَسْنِدْنِي فَأَخْلُصَ وَأُرَاعِيَ فَرَائِضَكَ دَائِماً. ١١٨ ٱحْتَقَرْتَ كُلَّ ٱلضَّالِّينَ عَنْ فَرَائِضِكَ لأَنَّ مَكْرَهُمْ بَاطِلٌ. ١١٩ كَزَغَلٍ عَزَلْتَ كُلَّ أَشْرَارِ ٱلأَرْضِ، لِذٰلِكَ أَحْبَبْتُ شَهَادَاتِكَ. ١٢٠ قَدِ ٱقْشَعَرَّ لَحْمِي مِنْ رُعْبِكَ، وَمِنْ أَحْكَامِكَ جَزِعْتُ».
يأتي الآن إلى مجموعة السين (١١٣ - ١٢٠) فهو لا يكتفي أن يرى نفسه ثابتاً راسخاً بل يدعو الآخرين أن يفعلوا مثله وينحي باللوم على أولئك المتقلبين ذوي الرأيين واللسانين فلا يكادون يثبتون على أي شيء. ذلك لأنه يرى لا رجاء له سوى اتكاله على كلمة الرب. فهي وحدها التي تعطيه القوة والثبات فقوته هي من الله لا من نفسه. ذلك الإله الذي كان له ستراً ومجناً يتقي به سهام الأعداء ولم يعبأ بكل مكايدهم. ويظهر في العدد ١١٥ كأنه يدافع عن نفسه من تملقاتهم فقد أرادوا أن يصرفوه عن الوصايا ولكنه ثبت في وجههم غير مبال بكل ترهاتهم. ولكنه يشعر في قرارة نفسه بالحاجة إلى النعمة الإلهية (راجع إشعياء ٤١: ٢٣). فهو يحتاج لمن يسنده في كفاحه الشديد هذا ولولا ذلك لما استطاع الخلاص ويطلب أن يراعي الفرائض ويتمشى بموجبها دواماً. فقد احتقر الضالين ووجد أن مكرهم باطل لا يمكن أن يردوه عن طريقه التي اتبعها وهكذا كان تأثيرهم عليه معاكساً لما أرادوه فانتصر عليهم بالتالي انتصاراً عظيماً. وهكذا فقد تجنب أولئك الأشرار على حد قول الشاعر:
واحذر مصاحبة اللئيم فإنه يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب



بل قد حسبهم مثل الزغل الذي يُرمى جانباً لكي يبقى ما هو ذو نفع وقيمة. وهو ينظر بصورة عامة إلى الأشرار جميعهم فيرى أن يعتزل مصاحبتهم لأنه يحب شريعة الرب وشهاداته وأولئك لا يحبونها فكيف يستطيع مسايرتهم بعد. ويختم هذا المثمن بأن يظهر لنا خوفه من كلام الرب إذا كان لا يتممه فينال اللعنة بدلاً من البركة (راجع لاويين ٢٦ وتثنية ٢٨) ذلك الإله الذي يستطيع أن يجري أحكامه بكل شدة وصرامة (راجع خروج ٣٤: ٧).

- ع -


«١٢١ أَجْرَيْتُ حُكْماً وَعَدْلاً. لاَ تُسْلِمْنِي إِلَى ظَالِمِيَّ. ١٢٢ كُنْ ضَامِنَ عَبْدِكَ لِلْخَيْرِ لِكَيْ لاَ يَظْلِمَنِي ٱلْمُسْتَكْبِرُونَ. ١٢٣ كَلَّتْ عَيْنَايَ ٱشْتِيَاقاً إِلَى خَلاَصِكَ وَإِلَى كَلِمَةِ بِرِّكَ. ١٢٤ ٱصْنَعْ مَعَ عَبْدِكَ حَسَبَ رَحْمَتِكَ، وَفَرَائِضَكَ عَلِّمْنِي. ١٢٥ عَبْدُكَ أَنَا. فَهِّمْنِي فَأَعْرِفَ شَهَادَاتِكَ. ١٢٦ إِنَّهُ وَقْتُ عَمَلٍ لِلرَّبِّ. قَدْ نَقَضُوا شَرِيعَتَكَ. ١٢٧ لأَجْلِ ذٰلِكَ أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلإِبْرِيزِ. ١٢٨ لأَجْلِ ذٰلِكَ حَسِبْتُ كُلَّ وَصَايَاكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَقِيمَةً. كُلَّ طَرِيقِ كَذِبٍ أَبْغَضْتُ».
ينتقل الآن إلى مثمن العين في (الأعداد ١٢١ - ١٢٨) ففي وقت الارتداد بسبب الاضطهاد يرى المرنم أن يتمسك بكلام الله بأكثر إخلاص وقوة ويلتمس منه تعالى ألا يسلمه إلى أولئك الظالمين الذين استهانوا بكلمته ونقضوا عهده. يطلب أن يكون في حماية الله لكي يستطيع أن يثبت إلى المنتهى وهكذا يسلم من ظلم المتكبرين الذين لا يراعون حرمة ولا يحفظون عهداً. وهو ينتظر وقد طال انتظاره فيريد أن يتحقق صدق مواعيد الرب فيشتاق للخلاص كما يتمنى أن تتحقق تلك النبوآت التي يجدها في كلمة الله. ولا يمكنه إلا أن يتفاخر بانتمائه إلى الرب لذلك يطلب أن يفهم هذه الشريعة بعد حتى يعرفها حق المعرفة. ولا يكتفي بهذه المعرفة بل ينتقل إلى دور العمل (راجع تكوين ٣٠: ٣٠ وإشعياء ٦٤: ٣ و٤ وحزقيال ٢٩: ٢٠) ولكن هذا العمل لأجل الرب حتى يكون مجدياً يجب أن يعتمد على الشريعة ولا ينسى الوصايا قط تلك الوصايا التي هي بحد ذاتها ثمينة تفوق الذهب الإبريز. والمرنم لا يستطيع أن يتساهل مع أولئك المستهترين الذين أحبوا الباطل وأبغضوا الحق وساروا وراء الكذب والخداع ولم يهتموا بما هي لخير نفوسهم الحقيقي. وهو يرى في أولئك اليهود الذين سايروا أكثر من اللازم في أمر دينهم أعظم خطر على الأمة وليس على ذواتهم فقط. لذلك فإن الوصايا وحدها هي المستقيمة ولا يركن إلى أي شيء ما عداها وهكذا قد أبغض الكذب وكل التفسيرات التي لا تنطبق على روح الشريعة لأنها مضلة وغير صحيحة من أساسها.

- ف -


«١٢٩ عَجِيبَةٌ هِيَ شَهَادَاتُكَ لِذٰلِكَ حَفِظَتْهَا نَفْسِي. ١٣٠ فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ يُعَقِّلُ ٱلْجُهَّالَ. ١٣١ فَغَرْتُ فَمِي وَلَهَثْتُ لأَنِّي إِلَى وَصَايَاكَ ٱشْتَقْتُ. ١٣٢ ٱلْتَفِتْ إِلَيَّ وَٱرْحَمْنِي كَحَقِّ مُحِبِّي ٱسْمِكَ. ١٣٣ ثَبِّتْ خُطُوَاتِي فِي كَلِمَتِكَ وَلاَ يَتَسَلَّطْ عَلَيَّ إِثْمٌ. ١٣٤ ٱفْدِنِي مِنْ ظُلْمِ ٱلإِنْسَانِ فَأَحْفَظَ وَصَايَاكَ. ١٣٥ أَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ وَعَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. ١٣٦ جَدَاوِلُ مِيَاهٍ جَرَتْ مِنْ عَيْنَيَّ لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا شَرِيعَتَكَ».
ينتقل الآن إلى مثمنة الفاء في (الأعداد ١٢٩ - ١٣٦) وهو لا يكتم تألمه ومرارة نفسه من أولئك الذين لا يعيرون اهتمامهم إلى كلام الله ولا يحفظون شرائعه ولا يمشون بموجب وصاياه وكلما تألم من أجل هؤلاء كلما رأيناه يزيد تمسكاً بتعاليم الله ويرى في شهاداته عجباً ويسرع في حفظها حتى تقيه من كل المخاطر. وقوله «حفظتها نفسي» ليس بالنسبة للحفظ غيباً وعن ظهر القلب بل لكي يزداد تمسكاً وفيها تأملاً حتى تصبح جزءاً من حياته الروحية لا يمكن أن يتجزأ وقوله في العدد ١٣٠ «فتح كلامك» أي بدء كلامك أي منذ الشروع فيه يتحول نوراً لامعاً ويعطي معرفة وحكمة (راجع أمثال ٢٢: ٣). يفغر فاه ويلهث من شدة لهجه بهذا الكلام (راجع أيوب ٢٩: ٢٣ وقابله مزمور ٨١: ١١). ثم يلتفت إلى إلهه ويرجوه الرحمة وهذه يطلبها كحق له لأن الذين يحبون الله ينتظرون رحمته أيضاً. ولا يعني إلا أن هذه الرحمة تصبح شيئاً طبيعياً تأتي من نفسها ولا يفرضها شرطاً لمحب الله أي أنه لا يبطل محبته إذا كان الله لا يرحمه بل هو واثق ومسلم لله بالتمام. وهكذا فإن كل ما يرجوه هو أن يبقى ثابت الخطى باراً في أعماله ولا يكون للإثم أي تأثير حقيقي في حياته بل لا يكون لظلم الإنسان مهما عظم وتقوى أي دافع له يدفعه عن طريق الحق والواجب الذي رآه أمامه من قبل. إن محبة الله تعطيه الفداء أي تفك أساره وتنير طريقه وتثبت خطواته فلا يتزعزع فيما بعد. وأخيراً يختم كلمته في هذا المثمن بإظهار تأسفه على حالة أولئك الأشرار فيبكي من أجلهم بكاء مراً حتى يشبه دموعه بجداول المياه الجارية تأسفاً على عدم حفظهم للوصايا والشرائع.

- ص -


«١٣٧ بَارٌّ أَنْتَ يَا رَبُّ وَأَحْكَامُكَ مُسْتَقِيمَةٌ. ١٣٨ عَدْلاً أَمَرْتَ بِشَهَادَاتِكَ وَحَقّاً إِلَى ٱلْغَايَةِ. ١٣٩ أَهْلَكَتْنِي غَيْرَتِي لأَنَّ أَعْدَائِي نَسَوْا كَلاَمَكَ. ١٤٠ كَلِمَتُكَ مُمَحَّصَةٌ جِدّاً وَعَبْدُكَ أَحَبَّهَا. ١٤١ صَغِيرٌ أَنَا وَحَقِيرٌ، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. ١٤٢ عَدْلُكَ عَدْلٌ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَشَرِيعَتُكَ حَقٌّ. ١٤٣ ضِيقٌ وَشِدَّةٌ أَصَابَانِي، أَمَّا وَصَايَاكَ فَهِيَ لَذَّاتِي. ١٤٤ عَادِلَةٌ شَهَادَاتُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ. فَهِّمْنِي فَأَحْيَا».
هوذا الآن حرف الصاد وآياتها الثماني تظهر أن الله يجري أحكامه بالبر والأمانة لا شيء من الاعوجاج فيها بل كلها عدالة وإنصاف وحق. فما يقوله الله وما يفعله هو منطبق الواحد على الآخر لا شيء من التغير فيه البتة. والمرنم يرى هذا يقيناً ويعرفه قلبياً ولكنه يرى أن الآخرين يهملون هذه الحقيقة ولا يتمسكون بها كما يجب لذلك يجد نفسه غيوراً للرب كما فعل إيليا قديماً (راجع ١ملوك ١٩: ١٠ وما بعده). وهو لا يستطيع أن يرى سوى أعداء الله هم أعداؤه الحقيقيون لا يمكنه أن يتساهل معهم ولا أن يرضى عن أعمالهم فهو كالنار يحترق من أجلهم ولو أنهم عقلوا لحفظوا كلمة الرب ورأوا مثله أنها وحدها هي التي تفحص دخائل الإنسان. وعلى العاقل عندئذ أن يحبها من كل قلبه. وهو يفعل ذلك بكل تواضع ويعترف بحقارته وصغارته ولكنه في الوقت ذاته لا ينسى الوصايا بل يتمسك بها لأنها طريق الحياة والكرامة. ويجد في عدل الرب شيئاً ثابتاً أبدياً لا يتبدل بحسب الأشخاص ولا بحسب الظروف والأهواء وأن الشريعة حق يبقى لأنها من الله وهو لا ينكر أن ما أصابه من الضيق والشدة كان بسبب هذا الموقف الشريف الذي وقفه ولكن هذا لا يتعادل مع اللذة التي شعر بها بل تلك اللذات المتكررة التي ملأت قلبه وهو يراجع الوصايا والأحكام والشهادات. بل هو يرى أيضاً أن يقتنع كل الناس مثله بهذه العدالة الإلهية وهكذا يمجدون الله القدير الذي أوجدها ويجريها على جميع بني البشر. ويختم كلمته بطلب الفهم لكي تكون له هذه الحياة البارة التي تخترق إلى داخل الأشياء.

- ق -


«١٤٥ صَرَخْتُ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. ٱسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ. فَرَائِضَكَ أَحْفَظُ. ١٤٦ دَعَوْتُكَ. خَلِّصْنِي فَأَحْفَظَ شَهَادَاتِكَ. ١٤٧ تَقَدَّمْتُ فِي ٱلصُّبْحِ وَصَرَخْتُ. كَلاَمَكَ ٱنْتَظَرْتُ. ١٤٨ تَقَدَّمَتْ عَيْنَايَ ٱلْهُزُعَ لِكَيْ أَلْهَجَ بِأَقْوَالِكَ. ١٤٩ صَوْتِيَ ٱسْتَمِعْ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. يَا رَبُّ، حَسَبَ أَحْكَامِكَ أَحْيِنِي. ١٥٠ ٱقْتَرَبَ ٱلتَّابِعُونَ ٱلرَّذِيلَةَ. عَنْ شَرِيعَتِكَ بَعُدُوا. ١٥١ قَرِيبٌ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَكُلُّ وَصَايَاكَ حَقٌّ. ١٥٢ مُنْذُ زَمَانٍ عَرَفْتُ مِنْ شَهَادَاتِكَ أَنَّكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ أَسَّسْتَهَا».
أمامنا الآن مثمن آخر هو من الأعداد ١٤٥ - ١٥٢ وهو يرى أن الأمانة في العبادة والتمسك بكلام الله هما من أفعل الوسائل لنيل خلاص الرب. وصلاته هي أشبه بالصراخ ويفعل ذلك من كل قلبه ويدعم طلبته هذه بحفظه فرائض الرب ولذلك ينتظر أن يسمع استجابة لطلبته. وهو إذا طلب الخلاص فإنما لكي يحفظ الشهادات ولا يتأخر قط بل إنه في الغداة والصبح الباكر ينهض لأجل تتميم فروض العبادة. وقد يكون المعنى أنه قبل أن يكون الصبح فهو في هزع الليل لا يزال يلهج بأقوال الله ويلتمس منه بحرارة لكي ينجيه (راجع المراثي ٢: ١٩). والمرنم يرجو الله لكي يسمع له ليس بنسبة ما يستحق بل بالنسبة للرحمة العظيمة التي يشمله بها. ومرة أخرى يكرر أن الرب يحييه فقط برحمته المنطبقة على أحكامه الإلهية فهو لا يريد موت الخاطئ بل رجوعه وتوبته. وفي العدد ١٥٠ يذكر أن هؤلاء الأشرار قد اقتربوا إليه يريدون مهاجمته والقضاء عليه إن استطاعوا وهم يفعلون ذلك على قدر بعدهم عن الشريعة الإلهية. يكادون أن ينقضوا عليه لابتلاعه فجميع مقاصدهم شريرة من أصلها (راجع مزمور ٦٩: ١٩ وإشعياء ٥٨: ٢) ولكنه يلتفت إلى الله فيجده قريباً إليه لكي يسرع إلى معونته ونجدته. هذه الوصايا وهذه الشهادات التي اختبرها منذ زمان طويل هي لتبقى إلى الأبد ولا تندثر قط. لذلك فما اكتفى به المرتدون عن إيمانهم إنما هو زائل وقتي ومتى عادوا إلى رشدهم سوف يندمون ولكن لات ساعة مندم.

- ر -


«١٥٣ اُنْظُرْ إِلَى ذُلِّي وَأَنْقِذْنِي لأَنِّي لَمْ أَنْسَ شَرِيعَتَكَ. ١٥٤ أَحْسِنْ دَعْوَايَ وَفُكَّنِي. حَسَبَ كَلِمَتِكَ أَحْيِنِي. ١٥٥ ٱلْخَلاَصُ بَعِيدٌ عَنِ ٱلأَشْرَارِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَمِسُوا فَرَائِضَكَ. ١٥٦ كَثِيرَةٌ هِيَ مَرَاحِمُكَ يَا رَبُّ. حَسَبَ أَحْكَامِكَ أَحْيِنِي. ١٥٧ كَثِيرُونَ مُضْطَهِدِيَّ وَمُضَايِقِيَّ. أَمَّا شَهَادَاتُكَ فَلَمْ أَمِلْ عَنْهَا. ١٥٨ رَأَيْتُ ٱلْغَادِرِينَ وَمَقَتُّ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا كَلِمَتَكَ. ١٥٩ ٱنْظُرْ أَنِّي أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ. يَا رَبُّ حَسَبَ رَحْمَتِكَ أَحْيِنِي. ١٦٠ رَأْسُ كَلاَمِكَ حَقٌّ، وَإِلَى ٱلدَّهْرِ كُلُّ أَحْكَامِ عَدْلِكَ».
(١٥٣ - ١٦٠) هذا مثمن الراء وفيه يبين لنا المرنم أن الله يبالي بأتقيائه كل المبالاة فهو لا يريدهم أن يندحروا تجاه المصاعب مهما عظمت ولذلك فإن الله سيسمع لابتهالاته ويساعده ضد مضطهديه. لقد كان المرنم في ذل وهوان بل في قيد وسجن ويرجو أن يسمع الله دعواه ويفكه من اعتقاله. يقصد أنه في دعوى ضد الأشرار المرتدين ومرة أخرى يطلب أن كلمة الله تحييه. وهؤلاء الأشرار لا خلاص لهم لأنهم لم يسلكوا طريقه ولم يطلبوه من الرب الذي يمنح هذا الخلاص وحده. ولا شك أن هذه المراحم التي أظهرها الرب قديماً سيظهرها الآن ويصدر حكمه بالبراءة ثم بالحياة. وهل يستطيع أن ينسى أن هؤلاء المضطهدين هم كثيرون وإن هؤلاء المضايقين هم أنفسهم بعيدون عن الله ويريدون أن يبعدوه أيضاً ولكنه يفتخر بأن شهادات الرب قد حفظها بالتمام ولا يميل عنها أبداً. وفي العدد ١٥٨ يذكر الغادرين بالمقت أولئك الذين نسوا كلام الله ولم يهتموا به. فهم ممقوتون عنده لأنهم أعداء الله ولذلك فهم أعداؤه أيضاً. ويلتفت إلى نفسه ويرى أنه بالعكس عن أولئك قد أحب الوصايا على قدر ما مقت الذين لا يحبونها. وللمرة الثالثة يلتمس رحمة من الرب لكي يحيا. وقوله في العدد ١٦٠ رأس كلامك أي خلاصة كلامك وزبدته هو حق. هذا الحق الذي يسيطر على كل شيء يفعله الله فيظهر حكمه بالعدل وأعماله بالرحمة والإنصاف.

- ش -


«١٦١ رُؤَسَاءُ ٱضْطَهَدُونِي بِلاَ سَبَبٍ، وَمِنْ كَلاَمِكَ جَزِعَ قَلْبِي. ١٦٢ أَبْتَهِجُ أَنَا بِكَلاَمِكَ كَمَنْ وَجَدَ غَنِيمَةً وَافِرَةً. ١٦٣ أَبْغَضْتُ ٱلْكَذِبَ وَكَرِهْتُهُ، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَأَحْبَبْتُهَا. ١٦٤ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلنَّهَارِ سَبَّحْتُكَ عَلَى أَحْكَامِ عَدْلِكَ. ١٦٥ سَلاَمَةٌ جَزِيلَةٌ لِمُحِبِّي شَرِيعَتِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَعْثَرَةٌ. ١٦٦ رَجَوْتُ خَلاَصَكَ يَا رَبُّ وَوَصَايَاكَ عَمِلْتُ. ١٦٧ حَفِظَتْ نَفْسِي شَهَادَاتِكَ وَأُحِبُّهَا جِدّاً. ١٦٨ حَفِظْتُ وَصَايَاكَ وَشَهَادَاتِكَ لأَنَّ كُلَّ طُرُقِي أَمَامَكَ».
في هذه المثمنة أيضاً يوجد تكرار كثير وهو يحوي حرف الشين في (الأعداد ١٦١ - ١٦٨) ولكن يلاحظ المطالع أن المعاني تزداد قوة ولمعاناً كلما قارب هذا المزمور نحو النهاية. لا يتأخر عن أن يذكر الاضطهاد الذي لحقه عن يد الرؤساء أولئك الذين كان ينتظر منهم العطف والحماية إذا بهم يضطهدون بلا سبب مبرر ولكنه لا يخافهم بل يخاف كلام الله أكثر منهم بما لا يقاس. لذلك لا يحزن بل يبتهج ويحسب ابتهاجه على قدر من يجد غنيمة (راجع قضاة ٥: ٣٠ وإشعياء ٩: ٢ و٣) لقد أبغض الكذب كما أحب الشريعة وهو ينصرف للصلاة والتسبيح ليس فقط في الصباح والمساء بل يفعل ذلك سبع مرات في اليوم لكي يذيع عدل الله ولا يرى في اضطهادات المضطهدين أي ظلم لأن الله هو إله العدل والإنسان الحكيم هو من يسبح الرب على أحكامه العادلة كلها. وقوله «سبع مرات» يشير إلى عدد مقدس يتمم فروضه بموجبه مما يدل على أن المرنم قد يكون من طبقة الكهنة. وفي العدد ١٦٥ يطلب سلامة جزيلة وعدم معثرة. وهو يفاخر أنه حفظ الشهادات وأحبها من كل قلبه ونفسه. وقد فعل ذلك ليس حباً بالتظاهر والمباهاة طالما أن كل طرقه هي أمام الرب مكشوفة لديه ولا يمكنه أن يخبئها. فديانته إذن هي ديانة القلب والضمير هي ديانة الباطن والسريرة ولذلك نجده يضع المثل الأعلى أمام عينيه ويحاول أن يتبعه بكل ما أوتي من قوة وإخلاص. وبهذه الوسيلة وحدها يؤكد لنفسه أن له النجاة والخلاص.

- ت -


«١٦٩ لِيَبْلُغْ صُرَاخِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ. حَسَبَ كَلاَمِكَ فَهِّمْنِي. ١٧٠ لِتَدْخُلْ طِلْبَتِي إِلَى حَضْرَتِكَ. كَكَلِمَتِكَ نَجِّنِي. ١٧١ تُنَبِّعُ شَفَتَايَ تَسْبِيحاً إِذَا عَلَّمْتَنِي فَرَائِضَكَ. ١٧٢ يُغَنِّي لِسَانِي بِأَقْوَالِكَ لأَنَّ كُلَّ وَصَايَاكَ عَدْلٌ. ١٧٣ لِتَكُنْ يَدُكَ لِمَعُونَتِي لأَنَّنِي ٱخْتَرْتُ وَصَايَاكَ. ١٧٤ ٱشْتَقْتُ إِلَى خَلاَصِكَ يَا رَبُّ، وَشَرِيعَتُكَ هِيَ لَذَّتِي. ١٧٥ لِتَحْيَ نَفْسِي وَتُسَبِّحَكَ، وَأَحْكَامُكَ لِتُعِنِّي. ١٧٦ ضَلَلْتُ كَشَاةٍ ضَالَّةٍ. ٱطْلُبْ عَبْدَكَ لأَنِّي لَمْ أَنْسَ وَصَايَاكَ».
نصل الآن بحرف التاء إلى آخر هذه المثمنات وهي الأعداد ١٦٩ - ١٧٦ فيصل إلى نهاية كلامه ولذلك نجده يلخص بعض ما ورد من الأفكار العظيمة في المثمنات السابقة. فهو يسبح الله بدون ملل أو فتور بل هي صرخات الاستنجاد وطلب المعونة ولا يريد قط أن يخرج عن كلام الله. فهو يريد أن يفهم ويتعظ ويوصل كلامه إلى حضرة الله لكي يكون له نجاة وهكذا فإن شفتيه تنبعان بالتسبيح فهو لا يسبح لوقت معين بل هو مملوء بالتسبيح يفيض به قلبه كما يفيض الينبوع بالمياه. وإنما يشترك في ذلك أن يكون الله نفسه هو المعلم والمرشد فهو يفعل ذلك ليس لغايات بشرية بل اتباعاً لقصد إلهي. وحيئنذ فإن لسانه أيضاً يمتلئ بالأغاني والأناشيد ويتحقق أخيراً أن كل ما مر به كان عدلاً بلا جدال وكل الأحكام كانت منصفة بلا محاباة. بل هو يغبط نفسه لهذا الشوق المستمر في داخله إلى خلاص الرب لأن الشريعة ذاتها هي لذته. هو يعتنق الوصايا ويعرف قيمتها جيداً بالنسبة للاختبارات الروحية التي مر بها فهو مؤمن حقيقي لأنه قد مر في هذه الصعوبات وتغلب عليها جميعها. وهو يفعل ذلك معترفاً بأنه كان شاة ضالة فاهتدت وكانت هدايتها لأن الله طلبها أولاً وما هو سوى رجع الصدى لذلك الصوت الإلهي الذي ناداه. لذلك فهو إن طلب الحياة فإنما طلبها لكي يسبح الرب وهكذا فإن أحكامه الإلهية تعين المؤمن إلى التمام وتجعل حياته سعيدة موفورة الكرامة وحافلة بجميع ضروب المسرات المقدسة والأفراح (انظر إشعياء ٢٧: ١٣).


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْعِشْرُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ضِيقِي صَرَخْتُ فَٱسْتَجَابَ لِي. ٢ يَا رَبُّ نَجِّ نَفْسِي مِنْ شِفَاهِ ٱلْكَذِبِ، مِنْ لِسَانِ غِشٍّ».
هذا هو المزمور الأول من مزامير المصاعد أو ترانيم المصاعد. وقد رأينا كيف أن كاتب المزمور المئة والتاسع عشر ينهي كلامه بأن يشبه نفسه بخروف أو شاة يجب أن يطلبها الراعي قبل أن تضل في البراري وتهلك. كذلك فإن كاتب هذا المزمور يشبه نفسه بالشاة بين الذئاب. فإن هؤلاء الناس الذين يعيش بينهم هم قوم لا يخافون الله ولا يسيرون في طرقه المستقيمة ويصف العصر الذي يعيش فيه بعدم الاستقرار والثبات. ولا يميز بين أولئك الأجانب القاطنين البلاد الذين يذيقون الناس من العذاب أشكالاً وألواناً بتسلطهم عليهم - وهذا يناسب عصر الدولة اليونانية أي السلوقية - أو هم أهل البلاد أنفسهم يذيقون إخوانهم أشد أنواع النكال والدمار. وقد ذهب «تيلنغ» بأن هذه المزامير «ترانيم المصاعد» قد كتبت في وقت اضطهاد السامريين وغيرهم من الأمم المجاورة لأولئك اليهود الذين جاءوا من الخارج (راجع نحميا ٢: ١٠ و١٩ و٤: ١ و٧ و٦: ١).
وعدد هذه المزامير كما سنرى هو خمسة عشر ولا يعرف بالضبط ماذا يقصد بالمصاعد وقد ذهب بعضهم إلى أنها كانت ترنم حينما كان الناس يصعدون إلى أورشليم لتقديم فروض العبادة في المواسم ويدخلون الهيكل فرحين مترنمين. كما أنه لا نستطيع القول أن كاتبها هو واحد كما أنها لم تكتب في عصر واحد معروف. ونجد اسم داود على أربعة منها وواحد لسليمان. كما أننا نجد مواضيعها مختلفة فبعضها يتناول العائلة وبعضها الاجتماعات العامة وغير ذلك. ويمكننا أن نلاحظ الأمور الآتية في هذه المزامير:

  • كلها قصيرة مختصرة.
  • نلاحظ علاقة بعض الكلمات بين المزمور الواحد وما يتبعه.
  • إنها مزامير فائقة الجمال وتمس القلب والمدارك حالاً.


(١ - ٢) يتأكد المرنم أن الرب يستجيب له بناء على اختبارات روحية سابقة. والذي يؤلمه أكثر الكل إنما هو الكذب والغش وقد أصابه من أصحابهما شرور كثيرة ونلاحظ مرارة التألم ظاهرة في كل مقطع من كلماته. وهو يلتفت إلى الله لكي ينجيه (راجع يونان ٢: ١٠ وهوشع ٨: ٧).
«٣ مَاذَا يُعْطِيكَ وَمَاذَا يَزِيدُ لَكَ لِسَانُ ٱلْغِشِّ؟ ٤ سِهَامَ جَبَّارٍ مَسْنُونَةً مَعَ جَمْرِ ٱلرَّتَمِ. ٥ وَيْلِي لِغُرْبَتِي فِي مَاشِكَ، لِسَكَنِي فِي خِيَامِ قِيدَارَ! ٦ طَالَ عَلَى نَفْسِي سَكَنُهَا مَعَ مُبْغِضِ ٱلسَّلاَمِ. ٧ أَنَا سَلاَمٌ، وَحِينَمَا أَتَكَلَّمُ فَهُمْ لِلْحَرْبِ».
(٣ - ٤) ويتساءل مستنكراً عن لسان الغش هذا وماذا يعطي صاحبه يا ترى سوى المتاعب والهموم؟ وماذا يزيدنا سوى العار والنقيصة؟ وإن صاحبه الذي يرمي كلامه هذا على الآخرين ويسبب لهم الإزعاج والكدر هو أشبه شيء برامي السهام المسنونة تصيب الآخرين فتؤذيهم. ونلاحظ وجه الشبه في هذه الاستعارة بين السهم واللسان فكلاهما بشكل دقيق الرأس ويمكن دفعه إلى الأمام بخروجه قليلاً من الحلق وبعد ذلك يمكن إعادته إلى الحلق كما كان. وقد قال الشاعر العربي:
جراحات اللسان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان



والعدد ٤ يرينا جواباً للسؤال في العدد الثالث ويبين لنا أن مثل هذا اللسان يؤذي في الدرجة الأولى صاحبه. فهو يشعر بالوخز كما لو كان سهماً مسنوناً ترسله يد جبار وعلاوة على ذلك فهو ملتهب كأنه جمر رتم (راجع إرميا ٩: ٧ و٨ وأيضاً يعقوب ٣: ٦). والرتم شجر يوجد منه بكثرة في البلقاء.
(٥ - ٧) يظن أن ماشك هي ماجوج (راجع حزقيال ٣٨: ٢) كما أن أهل قيدار قد اشتهروا منذ الزمان القديم بحبهم للاستملاك (راجع تكوين ١٦: ١٢). والذي يؤلم المرنم كثيراً هو أن حالته هذه قد طالت لا سيما مع أولئك الذين دأبهم الخصام والمنازعة. وهو يرى نفسه داعية للسلام (راجع ميخا ٥: ٤ و٥ وقابل مع مزمور ١٠٩: ٤ و١١٠: ٣). ومع أنه يدعو للسلام ولكن أولئك الأعداء لا ينتظرون أن يسمعوا كلامه فإذا بهم يشرعون في الحرب.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْحَادِي وَٱلْعِشْرُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ أَرْفَعُ عَيْنَيَّ إِلَى ٱلْجِبَالِ مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي. ٢ مَعُونَتِي مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ، صَانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ. ٣ لاَ يَدَعُ رِجْلَكَ تَزِلُّ. لاَ يَنْعَسُ حَافِظُكَ. ٤ إِنَّهُ لاَ يَنْعَسُ وَلاَ يَنَامُ حَافِظُ إِسْرَائِيلَ. ٥ ٱلرَّبُّ حَافِظُكَ. ٱلرَّبُّ ظِلٌّ لَكَ عَنْ يَدِكَ ٱلْيُمْنَى. ٦ لاَ تَضْرِبُكَ ٱلشَّمْسُ فِي ٱلنَّهَارِ، وَلاَ ٱلْقَمَرُ فِي ٱللَّيْلِ. ٧ ٱلرَّبُّ يَحْفَظُكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ. يَحْفَظُ نَفْسَكَ. ٨ ٱلرَّبُّ يَحْفَظُ خُرُوجَكَ وَدُخُولَكَ مِنَ ٱلآنَ وَإِلَى ٱلدَّهْرِ».
إن عنوان هذا المزمور والحق يقال فهو ترنيمة للمصاعد وليس ترنيمة المصاعد. وقد ذهب بعضهم إلى القول بأن كلمة المصاعد مأخوذة بالأحرى من هذا المزمور وهكذا فإن الله يرفع الإنسان البار إلى الأعالي وهذا الارتفاع هو تدريجياً كصاعد درجات السلم.
(١ - ٤) وأي الجبال يعني المرنم. أليست هي جبال اليهودية التي يتجه نحوها المسبي المغترب فيما بين النهرين ويحن إليها كما يحن المسلمون إلى القبلة في مكة. والعون الذي يأتينا هو ليس من الجبال نفسها بل من الرب ذاته الذي صنع السموات والأرض والذي يذكر أتقياءه أينما كانوا ولا يتخلى عنهم مهما بعدت الدار وشط المزار. ذلك الإله المحب الساهر على شعبه فلا يدع الرجل تزلق بل يسند الإنسان عند السقوط لأنه إله لا تخفى عليه خافية.
(٥ - ٨) هو إله حافظ مرافق كأنه ظل الإنسان وهو يعضد كأنه دائماً عن اليد اليمنى وهكذا فهو علاوة على قوته هو قريب النجدة وبارعها كما تفعل اليد اليمنى (راجع تكوين ٢٨: ١٥ وقضاة ٢٠: ١٦ و٢صموئيل ٢٠: ٩) وهو ظل أيضاً من حرارة الشمس المحرقة فلا يسمح للشمس أن تؤذي حتى ولا القمر يصيبنا بأي ضرر (٢ملوك ٤: ١٩) يعرف أن أشعة القمر تؤذي في جهات خط الاستواء كما وأن العرب قالوا عن الثلج أنه يحرق وقد ثبت علمياً أن شدة البرودة كشدة الحرارة تؤذي ظاهر الجلد. وعلى كل فإن الفكرة التي يقولها المرنم إن الله يحفظ من أنواع الشر كبيرها وصغيرها ومن كل درجاتها عظيمها وحقيرها. بل هو الذي يحفظ الإنسان في حال الخروج أو الدخول كما أنه يفعل ذلك الآن وإلى الأبد.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّانِي وَٱلْعِشْرُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ


«١ فَرِحْتُ بِٱلْقَائِلِينَ لِي: إِلَى بَيْتِ ٱلرَّبِّ نَذْهَبُ. ٢ تَقِفُ أَرْجُلُنَا فِي أَبْوَابِكِ يَا أُورُشَلِيمُ. ٣ أُورُشَلِيمُ ٱلْمَبْنِيَّةُ كَمَدِينَةٍ مُتَّصِلَةٍ كُلِّهَا، ٤ حَيْثُ صَعِدَتِ ٱلأَسْبَاطُ، أَسْبَاطُ ٱلرَّبِّ، شَهَادَةً لإِسْرَائِيلَ، لِيَحْمَدُوا ٱسْمَ ٱلرَّبِّ. ٥ لأَنَّهُ هُنَاكَ ٱسْتَوَتِ ٱلْكَرَاسِيُّ لِلْقَضَاءِ، كَرَاسِيُّ بَيْتِ دَاوُدَ. ٦ ٱسْأَلُوا سَلاَمَةَ أُورُشَلِيمَ. لِيَسْتَرِحْ مُحِبُّوكِ. ٧ لِيَكُنْ سَلاَمٌ فِي أَبْرَاجِكِ، رَاحَةٌ فِي قُصُورِكِ. ٨ مِنْ أَجْلِ إِخْوَتِي وَأَصْحَابِي لأَقُولَنَّ: سَلاَمٌ بِكِ. ٩ مِنْ أَجْلِ بَيْتِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا أَلْتَمِسُ لَكِ خَيْراً».
نجد في هذا المزمور لفتة تحية وسلام إلى الحجاج الذين يزورون أورشليم وبالأخص إلى بيت الله. ونلاحظ العنوان أنه لداود ولكن هذا غير مذكور في الترجمة السبعينية. ومع ذلك فلا يغرب عن بالنا أن الزيارات الدينية كانت معروفة ودارجة منذ أيام داود وسليمان ولا ننس ما فعله يربعام بن ناباط لكي يمنع إسرائيل من الذهاب إلى أورشليم فأقام العجل الذهبي لكي يلفت نظرهم للبقاء في بلادهم.
(١ - ٣) نشعر حالاً بشدة الشوق والاعتبار نحو أورشليم ونحو بيت الرب فيها ويا لها من غبطة حينما يقف في أبواب المدينة العظيمة ويعتز بالذكريات المجيدة لأنها عاصمة الملك ولأنها تحمل في طياتها تاريخ ملوك وأنبياء وشهداء هذه المدينة العامرة في بنيانها حتى تظهر كأنها بناية واحدة لا تنفصم.
(٤ - ٥) هوذا جماعات المؤمنين يدخلون إليها متعبدين لكي يشهدوا بما فعله الله معهم من عظائم. وإن اختلفوا في أسباطهم فهم جميعاً واحد هم أسباط الرب. ثم يأتون إلى أورشليم لكي يتقاضوا فيها فهي مركز الحكومة لجميع الشعب وعلى رأس هؤلاء بيت داود. هم النسل الملكي المعترف به منذ القديم (إشعياء ٢٨: ٦). هذه الكراسي هي ليست في الهيكل كما ذهب بعض المفسرين بل هي كراسي الحكم المدني المستمد من الله ذاته (راجع ١ملوك ٧: ٧ وأيضاً ٢صموئيل ١٥: ٢ و١ملوك ٣: ١٦). لقد كان الملك هو القاضي الأعلى ويساعده أولاده وأعوانه في الحكم على الشعب.
(٦ - ٩) اسألوا عن حالتها وليكن الجواب أن يستريح المحبون لأنها بكل خير ونعمة. هوذا السلام في الأبراج لأنها قوية وهوذا الطمأنينة في القصور دليل الأمن المستتب في كل مكان. هذه أورشليم بمن فيها من الإخوة والأصحاب الأعزاء ولكن فوق ذلك جميعاً من أجل بيت الرب الذي هو أعز شيء لليهودي ومفخرته في جميع الأجيال.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّالِثُ وَٱلْعِشْرُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ إِلَيْكَ رَفَعْتُ عَيْنَيَّ يَا سَاكِناً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. ٢ هُوَذَا كَمَا أَنَّ عُيُونَ ٱلْعَبِيدِ نَحْوَ أَيْدِي سَادَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ عَيْنَيِ ٱلْجَارِيَةِ نَحْوَ يَدِ سَيِّدَتِهَا، هٰكَذَا عُيُونُنَا نَحْوَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا حَتَّى يَتَرَأَّفَ عَلَيْنَا. ٣ ٱرْحَمْنَا يَا رَبُّ ٱرْحَمْنَا، لأَنَّنَا كَثِيراً مَا ٱمْتَلأْنَا هَوَاناً. ٤ كَثِيراً مَا شَبِعَتْ أَنْفُسُنَا مِنْ هُزْءِ ٱلْمُسْتَرِيحِينَ وَإِهَانَةِ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ».
يظهر أن المرنم كان في حالة ضيق ومهانة فينظر إلى العلاء إلى الرب الذي ينجي سكان الأسافل إذا كانوا ينظرون إلى ساكن السماء ويلتمسون منه العون والإسعاف. للأعالي يمكن أن ينظر الإنسان فيرى الملك العظيم الذي يحكم العالمين ويصغي لقضاء القاضي العادل الذي يفصل في كل الأمور. يرفع المرنم نظره لله كما يرفع العبد نظره إلى سيده فهو يطيعه عند الإشارة وهكذا تفعل الأَمة مع سيدتها.
(١ - ٤) لا يستطيع المرنم أن يرى أوسع من هذه العلاقة فإن الشعب الذي يطيع مليكه عليه بالأحرى أن يطيع إلهه لأنه هو الملك الحقيقي. ومن هي هذه الأَمة أو الجارية؟ أليست الأمة اليهودية ذاتها إذ تعترف علناً بطاعتها لهذا الإله العظيم ولا سيما في وقت محنتها وضيقتها. وليكن هذا الالتفات بانتظار واصطبار إذ لا يعتني بنا دفعة واحدة وعلينا أن نبقى منتظرين إلى أن يترأف الرب ويرحم. يكرر كلمة عين وعيون في العدد الثاني ومن يستطيع أن ينكر ما للعيون من توسل واستعطاف فهي أفصح كلاماً في كثير من الأحيان من الألفاظ التي نتفوه بها. لأن العين لا تخطئ في تعبيرها عن أعظم مكنونات الصدر. هذا هو الرب إلهنا العظيم القدير ولكنه الحنان الرحيم أيضاً (راجع تكوين ١٩: ٢ و١٨ وإرميا ٢٧: ٤).
ويبدأ العدد الثالث بقوله كيرياليسون يا رب ارحم أو ارحمنا يا رب ويكررها أيضاً دليلاً على شدة الحاجة إليها إذ بدونها لا حياة فينا ولا قوة. ويذكر هنا في الأخير لماذا يطلب مثل هذه الرحمة فهو قد شبع من الهزء ومن الإهانة. وهذا الشبع هو من قبيل السخرية لأن الهزء والإهانة لا يشبعان أحداً بل يجيعان كل إنسان فيه شيء من الكرامة وعزة النفس. هوذا الناس حولهم في حالة هانئة مريحة لذلك يهزؤون بمن هم دونهم ويستكبرون عليهم في كل معاملاتهم. ولكن هؤلاء لايقاسون بشيء مع الإله الذي هو السيد الحقيقي ونحن عبيده وإليه نرفع نفوسنا.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلرَّابِعُ وَٱلْعِشْرُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ


«١ لَوْلاَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي كَانَ لَنَا. لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: ٢ لَوْلاَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي كَانَ لَنَا عِنْدَ مَا قَامَ ٱلنَّاسُ عَلَيْنَا، ٣ إِذاً لاَبْتَلَعُونَا أَحْيَاءً عِنْدَ ٱحْتِمَاءِ غَضَبِهِمْ عَلَيْنَا، ٤ إِذاً لَجَرَفَتْنَا ٱلْمِيَاهُ، لَعَبَرَ ٱلسَّيْلُ عَلَى أَنْفُسِنَا. ٥ إِذاً لَعَبَرَتْ عَلَى أَنْفُسِنَا ٱلْمِيَاهُ ٱلطَّامِيَةُ. ٦ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي لَمْ يُسْلِمْنَا فَرِيسَةً لأَسْنَانِهِمْ. ٧ ٱنْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ ٱلْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ ٱلصَّيَّادِينَ. ٱلْفَخُّ ٱنْكَسَرَ وَنَحْنُ ٱنْفَلَتْنَا. ٨ عَوْنُنَا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ ٱلصَّانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ».
في هذا المزمور نرى الإله يخلص من السيل الجارف وينقذ من أحابيل الأشرار الذين يريدون الهلاك للمؤمنين. وهو منسوب أيضاً لداود بينما لا تذكر الترجمة السبعينية مثل هذا العنوان ولكن مزمور موضوع على نسق داود ليس إلا. ويظهر أن هذا المزمور حديث بسبب استعماله عدداً من الكلمات الآرامية.
(١ - ٥) في تكراره لولا مرتين في العددين الأول والثاني نجد قوة فهو يحث إسرائيل على التحدث بهذا الخلاص بعد أن قام الناس الآخرون عليهم يريدون الفتك والتدمير. لا سيما هؤلاء الناس لا رحمة عندهم ولا هوادة في التنكيل بهم. هم أشبه بالحية البواء التي تبتلع فريستها حية زيادة في الرهبة والتهويل. هم أناس غضوبون لا شيء من الرحمة في قلوبهم لا سيما متى حمي غضبهم فهم يعمون عن أي شيء سوى الفرائس التي أمامهم. هكذا تفعل الهاوية حينما ينزل إليها جثث الموتى (راجع مزمور ٥٥: ١٦ وأمثال ١: ١٢). بل هؤلاء الأعداء يجرفون كل شيء في طريقهم كما يفعل السيل الطامي فلا يبقى شيئاً أمامه بل يغمر كل شيء ولا يبقى سوى الماء فوق الجميع.
(٦ - ٨) ولكن الرب وحده هو المخلّص فهو لا يسمح أن يكون هؤلاء المؤمنون فريسة بين الأسنان. ونجد في العدد السابع صرخة الفرح والابتهاج. بل هو هتاف الانتصار فقد انفلتت النفس ونجت وإذا الآلهة التي قصدوا أن تكون وسيلة الهلاك تتكسر وتتحطم وذلك العصفور المحكوم عليه بالموت يصبح حراً طليقاً فقد انكسر الفخ وأفلت العصفور لكي يطير بعيداً. ولكنه لا ينسب هذه الحرية للذات بل للرب الذي أعطاها هو ذلك الإله العظيم الذي خلق السموات والأرض ولا يريد سوى الخير والعدل والحرية لجميع خلائقه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْخَامِسُ وَٱلْعِشْرُونَ


تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ


«١ اَلْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى ٱلرَّبِّ مِثْلُ جَبَلِ صِهْيَوْنَ ٱلَّذِي لاَ يَتَزَعْزَعُ بَلْ يَسْكُنُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٢ أُورُشَلِيمُ ٱلْجِبَالُ حَوْلَهَا، وَٱلرَّبُّ حَوْلَ شَعْبِهِ مِنَ ٱلآنَ وَإِلَى ٱلدَّهْرِ. ٣ لأَنَّهُ لاَ تَسْتَقِرُّ عَصَا ٱلأَشْرَارِ عَلَى نَصِيبِ ٱلصِّدِّيقِينَ، لِكَيْ لاَ يَمُدَّ ٱلصِّدِّيقُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى ٱلإِثْمِ. ٤ أَحْسِنْ يَا رَبُّ إِلَى ٱلصَّالِحِينَ وَإِلَى ٱلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ. ٥ أَمَّا ٱلْعَادِلُونَ إِلَى طُرُقٍ مُعَوَّجَةٍ فَيُذْهِبُهُمُ ٱلرَّبُّ مَعَ فَعَلَةِ ٱلإِثْمِ. سَلاَمٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ».
في هذا المزمور كما في المزمور السابق نجد الأمة اليهودية في الأرجح تحت الحكم الأجنبي. ويرى المرنم نفسه متألماً من أولئك المرتدين الذين ينكرون ديانتهم في سبيل دنياهم. هم وراء المصلحة الشخصية ويضحون في سبيلها بالرخيص والغالي.
(١ - ٢) لقد هدم الهيكل مرتين في المرة الأولى أيام الكلدانيين وفي المرة الثانية في أيام تيطس ولكن الجبل نفسه الذي أقيم عليه الهيكل فهو ثابت إلى الأبد. ويرى المرنم بناء على ذلك أن الذين توكلوا على الرب هم قد توكلوا على الجبل وليس على الهيكل لأن هذا الأخير يزول ولكن الجبل يبقى. ثم يصف أورشليم بما فيها من تلال مختلفة تحيط بها من كل جانب فهذا مدعى أمنهم وسلامهم لأنه ثابت ولأنه في كل مكان.
(٣ - ٥) قد تمتد عصا الأشرار وقد تستقر بضرباتها على الصديقين المؤمنين الأتقياء ولكن ذلك إلى حين. هي سحابة صيف تأتي ولكنها تنقشع سريعاً. وحينما تزول عصا الأشرار تزول معها المخاطر لئلا يقع الصديقون في الإثم بسبب الضغط الشديد عليهم والاضطهاد. لئلا تمتد أيديهم إلى عمل الشر بدلاً من الخير (راجع أيوب ٢٨: ٩).
ثم يلتفت في العدد الرابع إلى وجه الإيجاب ولا يكتفي أن لا يمدوا أيديهم إلى الإثم بل أن يشتدوا في عمل الخير. أولئك هم الصالحون في قلوبهم وسرائرهم ويلتمس من الله أن يحسن إليهم لئلا يفشلوا في مساعيهم المشكورة هذه. لا سيما وإن أولئك الذين يظهرون الآن ناجحين وقد اتبعوا الطرق العوجاء فلسوف يندمون لأنهم فعلة إثم ولا يرضى الرب عنهم (راجع قضاة ٥: ٦ وعاموس ٢: ٧ وأمثال ١٧: ٢٣). إنهم لا شك المرتدون الذين قد تركوا إلههم جانباً ولكنه يختم كلامه «سلام على إسرائيل» لأن شعب الله الأتقياء هم وحدهم الرابحون أخيراً.